الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173059 / تحميل: 9114
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ان علق الامر بزوال علة النهى... إلى غير ذلك (والتحقيق) أنه لا مجال للتشبث بموارد الاستعمال فانه قل مورد منها يكون خاليا عن قرينة على الوجوب أو الاباحة أو التبعية، ومع فرض التجريد عنها لم يظهر بعد كون عقيب الحظر موجبا لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه غاية الامر يكون موجبا لاجمالها غير ظاهرة في واحد منها الا بقرينة أخرى كما أشرنا (المبحث الثامن) الحق أن صيغة الامر مطلقا لا دلالة لها على المرة ولا التكرار، فان المنصرف عنها ليس الا طلب إيجاد الطبيعة المأمور بها فلا دلالة لها على أحدهما لا بهيئتها ولا بمادتها، والاكتفاء بالمرة فانما هو

______________________________

(قوله: إن علق النهي بزوال) كما في قوله تعالى: فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين، وقوله تعالى: فإذا تطهرن فأتوهن، وقوله تعالى: وإذا حللتم فاصطادوا (قوله: لا مجال للتشبث) اشارة إلى إبطال استدلال بعضهم على مدعاه ببعض موارد الاستعمال كالايات المتقدمة (وحاصله) أن الكلام في المقام في أن وقوع الامر عقيب الحظر هل هو من القرائن العامة التي لا يجوز العدول عن مقتضاها إلا بدليل الموجبة لظهور الصيغة في الاباحة مطلقا أو الوجوب أو رجوع الحكم السابق على النهي أو غير ذلك ؟ والاستعمال لا يدل على شئ من ذلك لامكان استناد الظهور فيه إلى قرينة خاصة غير الوقوع عقيب الحظر فلا يصح الاستناد إليه في اثبات الدعوى (قوله: ومع فرض) يعني لو فرض التجريد عن القرائن الخاصة لم يظهر أن الوقوع عقيب الحظر من القرائن الموجبة لظهور الصيغة في غير الوجوب الذي تكون ظاهرة فيه لولا الوقوع عقيب الحظر (قوله: لاجمالها) وعليه فلا تحمل على الوجوب بناء على وضعها له الا بناء على كون حجية أصالة عدم القرينة من باب التعبد لا من باب حجية الظهور

المرة والتكرار

(قوله: مطلقا) يعنى حيث لا يقيد بمرة أو تكرار (قوله: على المرة والتكرار) سيأتي منه شرحهما (قوله: لا بهيئتها ولا بمادتها) إذ

١٨١

لحصول الامتثال بها في الامر بالطبيعة كما لا يخفى (ثم) لا يذهب عليك أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا يدل الا على الماهية - على ما حكاه السكاكي - لا يوجب كون النزاع ههنا في الهيئة - كما في الفصول - فانه غفلة وذهول عن أن كون المصدر كذلك لا يوجب الاتفاق على أن مادة الصيغة لا تدل إلا على الماهية، ضرورة أن المصدر ليس مادة لسائر المشتقات بل هو صيغة مثلها

______________________________

الهيئة موضوعة وضع الحروف للنسبة الخاصة والمادة موضوعة لصرف الماهية لا بشرط، وكل من المرة والتكرار خارج عن مدلولهما (قوله: لحصول الامتثال) إذ الامتثال يحصل بوجود المأمور به فإذا كان المأمور به صرف الطبيعة وكان يتحقق بالمرة كانت امتثالا للامر، ومنه يظهر بطلان استدلال القائل بالمرة بصدق الامتثال بها (قوله: لا يذهب عليك) قال في الفصول: الحق أن هيئة الامر لا دلالة لها على مرة ولا على تكرار... إلى أن قال: وانما حررنا النزاع في الهيئة لنص جماعة عليه، ولان الاكثر حرروا النزاع في الصيغة وهي ظاهرة بل صريحة فيها، ولانه لا كلام في أن المادة وهي المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا تدل الا على الماهية من حيث هي على ما حكى السكاكي وفاقهم عليه... الخ فأشكل عليه المصنف (ره) بان الاتفاق على عدم دلالة المصدر المجرد الا على الماهية لا يدل على كون النزاع في المقام في الهيئة لا في المادة إذ المصدر ليس مادة للمشتقات التي منها صيغة الامر بل هو مشتق مثلها، والمادة هي الامر المشترك بينه وبينها حسبما حققه (أقول): ما في الفصول يرجع إلى أمرين أحدهما أن المصدر مادة للمشتقات وثانيهما ان الاتفاق على عدم دلالته على المرة والتكرار يقتضي الاتفاق على عدم دلالة مادة (افعل) عليه ويكون النزاع في مدلول الهيئة أما الاول فيمكن أن يكون جاريا على المشهور، وأما الثاني فلا غبار عليه لان المصدر إذا لم يدل على المرة والتكرار دل ذلك عدم دلالة مادته عليهما فيصح الاستدلال به على عدم دلالة مادة (افعل) عليهما فيلزم الاتفاق على الاول الاتفاق على الاخير (قوله: غفلة وذهول) قد عرفت أنه في محله (قوله: ضرورة أن)

١٨٢

كيف وقد عرفت في باب المشتق مباينة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنى ؟ فكيف بمعناه يكون مادة لها ؟ فعليه يمكن دعوى اعتبار المرة أو التكرار في مادتها كما لا يخفى (إن قلت): فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلا في الكلام (قلت): - مع أنه محل الخلاف - معناه أن الذى وضع اولا بالوضع الشخصي ثم بملاحظته وضع نوعيا أو شخصيا ساير الصيغ التى تناسبه مما جمعه معه مادة لفظ متصورة في كل منها ومنه بصورة ومعنى كذلك، هو المصدر أو الفعل فافهم (ثم) المراد بالمرة والتكرار هل هو الدفعة والدفعات أو الفرد والافراد ؟ والتحقيق أن يقعا بكلا المعنيين محل النزاع

______________________________

هذا لا يثبت الاشكال على الفصول إلا من جهة ظهور كلامه في كون المصدر مادة للمشتقات، وقد عرفت إمكان حمله على الاصطلاح المشهوري (قوله: فعليه يمكن) قد عرفت أنه لا يمكن (قوله: مع أنه محل) هذا لا دخل له في دفع السؤال إذ قول الكوفيين: ان الفعل هو الاصل في الاشتقاق أءكد في توجه الاشكال فتأمل (قوله: معناه أن) إذا كان هذا معنى كلامهم فليكن هو معنى كلام الفصول (قوله: جمعه معه) الضمير الاول راجع إلى (ما) التي هي عبارة عن سائر الصيغ والثاني راجع إلى (الذي) ويمكن العكس (قوله: ومعنى) معطوف على قوله: لفظ، يعني ومادة معنى متصورة في كل منها ومنه (قوله: هو المصدر) خبر أن (قوله: أو الفعل فافهم) لعله اشارة إلى وجوب حمل كلامهم على ما ذكر بقرينة دعوى الكوفيين ان الفعل هو الاصل إذ لا يراد منه أن الفعل مادة للمشتقات بالمعنى الحقيقي " ثم " ان الموجود في بعض النسخ الضرب على لفظة: وهو أولى (قوله: الدفعة والدفعات) الفرق بين الدفعة والفرد أن الدفعة تصدق على الافراد المتعددة الموجودة في وقت واحد ولا يصدق عليها أنها فرد واحد، وأن الفرد الموجود تدريجا مثل الكلام الممتد المتصل فرد واحد وليس دفعة فبينهما عموم من وجه كما بين الافراد والدفعات ايضا (قوله: والتحقيق أن يقعا) الذي استظهره في الفصول أن النزاع

١٨٣

وان كان لفظهما ظاهرا في المعنى الاول (وتوهم) أنه لو أريد بالمرة الفرد لكان الانسب بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمة للمبحث الآتي من أن الامر هل يتعلق بالطبيعة أو بالفرد ؟ فيقال عند ذلك: وعلى تقدير تعلقه بالفرد هل يقتضي التعلق بالفرد الواحد أو المتعدد أو لا يقتضي شيئا منهما ؟ ولم يحتج إلى إفراد كل منهما بالبحث - كما فعلوه - وأما لو أريد بها الدفعة فلا علقة بين المسألتين كما لا يخفى (فاسد) لعدم العلقة بينهما لو أريد بها الفرد أيضا فان الطلب - على القول بالطبيعة - إنما يتعلق بها باعتبار وجودها في الخارج ضرورة أن الطبيعة من حيث هي

______________________________

*

فيهما بالمعنى الاول، ونسب إلى القوانين كونه فيهما بالمعنى الثاني، والظاهر ان مراد المصنف (ره) امكان كون النزاع فيهما بالمعنيين لا تحقق النزاع فيهما بهما معا إذ ليس له وجه ظاهر (قوله: وان كان لفظهما) هذا من القرائن التي اعتمد عليها في الفصول لاثبات ما استظهره (قوله: وتوهم انه لو أريد) هذا التوهم للفصول والباعث له عليه ظهور لفظ الفرد المذكور في المسألتين بمعنى واحد وهو ما يقابل الطبيعة (قوله: فاسد لعدم العلقة) حاصله أن المراد بالفرد هنا غير المراد به في تلك المسألة إذ المراد به في تلك المسألة ما يتقوم بالخصوصية المميزة له عن بقية الافراد والمراد به هنا الوجود الواحد للمأمور به فان كان المأمور به هو الطبيعة يقع النزاع في أن صيغة الامر تدل على وجوب وجود واحد للطبيعة أو وجود متعدد لها أو مطلق وجودها فيتأتى النزاع على القول بتعلق الامر بالطبيعة بعين ما يتأتى به على القول بتعلقه بالفرد، والقرينة على إرادة هذا المعنى من الفرد جعله في قبال الدفعة (قوله: باعتبار وجودها) هذا ذكره المصنف (رحمه الله) تمهيدا لتأتي النزاع على القولين لا ردا على الفصول إذ لم يتوهم خلافه في الفصول كما يشهد به دعواه تأتي النزاع على القولين بناء على كون المراد الدفعة إذ لا يخفى أن القائل بالطبيعة لو كان مراده الطبيعة من حيث هي لا معنى لتأتى النزاع في المقام بكل معنى (قوله: ضرورة ان الطبيعة من) قد يقال: الماهية

١٨٤

ليست الا هي لا مطلوبة ولا غير مطلوبة، وبهذا الاعتبار كانت مرددة بين المرة والتكرار بكلا المعنيين فيصح النزاع في دلالة الصيغة على المرة والتكرار بالمعنيين وعدمها، أما بالمعنى الاول فواضح، وأما بالمعنى الثاني فلوضوح أن المراد من الفرد أو الافراد وجود واحد أو وجودات، وإنما عبر بالفرد لان وجود الطبيعة في الخارج هو الفرد غاية الامر خصوصيته وتشخصه - على القول بتعلق الامر بالطبايع - يلازم المطلوب وخارج عنه بخلاف القول بتعلقه بالافراد فانه مما يقومه (تنبيه) لا إشكال - بناء على القول بالمرة - في الامتثال وأنه لا مجال للاتيان بالمأمور به ثانيا على أن يكون أيضا به الامتثال فانه من الامتثال بعد الامتثال (وأما) على المختار من دلالته على طلب الطبيعة من دون دلالة على المرة ولا على التكرار فلا يخلو الحال إما أن لا يكون هناك إطلاق الصيغة في مقام البيان بل في مقام الاهمال أو الاجمال

______________________________

من حيث هي ليست الا هي، ويراد منه معنى أن كل ما هو خارج عنها فليس هو هي لا عينها ولا جزؤها، وبهذا المعنى يقال: الماهية من حيث هي لا موجودة ولا معدومة ولا واحد ولا كثير ولا غيرها، وقد يقال ذلك بمعنى أن الخارج عنها ليس عارضا لها بما هي هي بل بشرط الوجود، ويختص النفي بعوارض الوجود كالكتابة والحركة وبهذا المعنى يقال: الماهية من حيث هي لا كاتبة ولا متحركة ولا لا كاتبة ولا لا متحركة، فان الكتابة لما كانت في الرتبة اللاحقة للوجود كان نقيضها هو العدم في الرتبة اللاحقة له أيضا لوحدة رتبة النقيضين فجاز ارتفاع النقيضين في غير تلك الرتبة وحيث أن الطلب ليس من عوارض الماهية من حيث هي بل بشرط الوجود صح أن يقال: الماهية من حيث هي لا مطلوبة ولا لا مطلوبة فتأمل (قوله: وبهذا الاعتبار) أي اعتبار الوجود (قوله: في الامتثال) يعني يتحقق بالمرة (قوله: من الامتثال بعد الامتثال) يعني وهو ممتنع لان الامتثال فعل المأمور به وبالامتثال الاول يسقط الامر فلا يكون فعله ثانيا امتثالا وسيجئ له

١٨٥

فالمرجع هو الاصل، وإما أن يكون اطلاقها في ذاك المقام فلا اشكال في الاكتفاء بالمرة في الامتثال، وإنما الاشكال في جواز ان لا يقتصر عليها فان لازم اطلاق الطبيعة المأمور بها هو الاتيان بها مرة أو مرارا لا لزوم الاقتصار على المرة كما لا يخفى (والتحقيق) أن قضية الاطلاق انما هو جواز الاتيان بها مرة في ضمن فرد أو افراد فيكون ايجادها في ضمنها نحوا من الامتثال كايجادها في ضمن الواحد لا جواز الاتيان بها مرة ومرات فانه مع الاتيان بها مرة لا محالة يحصل الامتثال ويسقط به الامر فيما إذا كان امتثال الامر علة تامة لحصول الغرض الاقصى بحيث يحصل بمجرده فلا يبقى معه مجال لاتيانه ثانيا بداعي امتثال آخر أو بداعي أن يكون الاتيانان امتثالا واحدا لما عرفت من حصول الموافقة باتيانها وسقوط الغرض معها وسقوط الامر بسقوطه فلا يبقى مجال لامتثاله أصلا، وأما إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض

______________________________

تتمة (قوله: فالمرجع هو الاصل) يعني الاصل العملي فلو تردد الامر بين الطبيعة والتكرار فالاصل البراءة عن وجوب الزائد على المرة مع تعدد الوجود أما مع اتصاله - بناء على تحقق التكرار به - فاستصحاب الوجوب هو المرجع، ولو تردد بين الطبيعة والمرة فلا أثر للشك، ولو تردد بين المرة والتكرار والطبيعة فالحكم كما لو تردد بين الطبيعة والتكرار، وكذا لو تردد بين المرة والتكرار، وربما يختلف الاصل باختلاف تفسير المرة من حيث كونها لا بشرط أو بشرط لا فلاحظ (قوله: في ذاك المقام) أي في مقام البيان (قوله: في الاكتفاء بالمرة) لصدق الطبيعة على المرة (قوله: في جواز ان لا يقتصر) يعني في جواز الاتيان ثانيا بقصد امتثال الامر لا مجرد الاتيان ثانيا بلا قصد الامر فانه لا ريب في جوازه (قوله: أو مرارا) فيجوز الاتيان ثانيا وثالثا بقصد الامتثال (قوله: فرد أو أفراد) يعني افرادا دفعية (قوله: فانه مع الاتيان بها) هذا تعليل لعدم كون مقتضى الاطلاق جواز الاتيان زائدا على المرة، ومرجعه إلى ابداء المانع العقلي عن ثبوت

١٨٦

كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضأ فأتى به ولم يشرب أو لم يتوضأ فعلا فلا يبعد صحة تبديل الامتثال باتيان فرد آخر أحسن منه بل مطلقا كما كان له ذلك قبله على ما يأتي بيانه في الاجزاء (المبحث التاسع) الحق انه لا دلالة للصيغة

______________________________

اطلاق المذكور لان الوجود الاول إذا كان علة تامة لسقوط الغرض كان علة تامة لسقوط الامر ايضا فيمتنع كون الوجود اللاحق موضوعا للامر كي يجوز الاتيان به بقصد امتثال الامر، وإذا امتنع كون الاتيان الثاني موضوعا للامر امتنع ان يكون اطلاق الصيغة شاملا للمرة والمرات " أقول ": يمكن منع الاطلاق المذكور مع قطع النظر عن المانع العقلي وذلك لان اطلاق المادة يقتضي أن يكون المراد بها صرف الوجود الصادق على القليل والكثير وهو لا ينطبق على الوجود اللاحق فانه وجود بعد وجود لا صرف الوجود الذي هو بمعنى خرق العدم فتأمل، وأما المانع الذي ذكره فهو يتوقف على امتناع التخيير بين الاقل والاكثر بكل وجه، وسيأتي الكلام فيه (قوله: كما إذا امر بالماء ليشرب) الغرض من الامر باحضار الماء: تارة يكون مجرد تمكن الآمر من شربه ولا ريب في حصوله بمجرد احضاره، واخرى يكون هو الشرب الفعلي فيشكل الامتثال ثانيا من جهة امتناع بقاء الامر مع حصول موضوعه الذي هو صرف الاحضار، فلا بد اما من الالتزام بأن موضوع الامر ليس مطلق الاحضار بل الاحضار المترتب عليه الشرب، والباعث على هذا الالتزام لزوم المساواة عقلا بين الغرض وموضوع الامر سعة وضيقا لامتناع التفكيك بينهما، وعليه فلا يتعين الاحضار الحاصل لان يكون مأمورا به الا بعد ترتب الغرض عليه، ولازمه ان المكلف في مقام الامتثال انما يأتي بالاحضار الاول رجاء كونه مأمورا به لا بقصد ذلك، وحينئذ فللمكلف الاتيان ثانيا وثالثا بهذا القصد بعينه ولا يكون فرق بين الوجود الاول وبقية الوجودات اللاحقة في كيفية الامتثال لكن لازم ذلك القول بالمقدمة الموصلة، واما من الالتزام بأن الغرض كما يبعث إلى الامر اولا بالاحضار يبعث ثانيا إلى صرف الاحضار المنطبق على بقاء الفرد الاول واحضار فرد آخر إذ لا يتعين للدخل في

١٨٧

لا على الفور ولا على التراخي (نعم) قضية إطلاقها جواز التراخي والدليل عليه تبادر طلب ايجاد الطبيعة منها بلا دلالة على تقيدها باحدهما فلا بد في التقييد من دلالة أخرى كما ادعي دلالة غير واحد من الآيات على الفورية، وفيه منع الضرورة أن سياق آية: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) وكذا آية: (واستبقوا الخيرات) انما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة والاستباق إلى الخير من دون استتباع تركهما للغضب والشر ضرورة أن تركهما لو كان مستتبعا للغضب والشر كان البعث بالتحذير عنهما أنسب كما لا يخفى " فافهم " مع لزوم كثرة تخصيصه في المستحبات وكثير من الواجبات بل أكثرها فلا بد من حمل الصيغة فيهما على خصوص الندب أو مطلق الطلب ولا يبعد دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق وكان ما ورد من الآيات والروايات في مقام البعث نحوه ارشادا إلى ذلك كالآيات والروايات الواردة في البعث على اصل الاطاعة فيكون الامر فيها لما يترتب على المادة بنفسها ولو لم يكن

______________________________

الغرض الفرد الاول بخصوصه بمجرد وجوده بل كما لم يتعين أولا قبل وجوده لم يتعين بعد وجوده، ولازم ذلك الالتزام باوامر طولية بحسب الزمان مادام الغرض باقيا ويكون المراد من بقاء الامر هذا المعنى لا بقاء الامر الشخصي بحدوده لامتناع بقائه بحصول موضوعه فتأمل جيدا.

الفور والتراخى

(قوله: لا على الفور ولا على) كما هو المشهور وعن الشيخ (ره) وجماعة القول بالفور، وعن السيد (ره) الاشتراك بين الفور والتراخي، وعن آخرين التوقف، والتحقيق الاول ويظهر ذلك بملاحظة ما تقدم في المرة والتكرار (قوله: قضية اطلاقها) يعني اطلاق المادة بالاضافة إلى الزمان (قوله: تبادر طلب) يعني ولو كان الوجه في التبادر مقدمات الاطلاق (قوله: ضرورة ان تركهما) يعني أن ظاهر تعليق المسارعة والاستباق بالمغفرة والخير كون تركهما

١٨٨

هناك أمر بها كما هو الشأن في الاوامر الارشادية " فافهم " (تتمة) بناء على القول بالفور فهل قضية الامر الاتيان فورا ففورا بحيث لو عصى لوجب عليه الاتيان به فورا ايضا في الزمان الثاني أولا ؟ وجهان مبنيان على أن مفاد الصيغة - على هذا القول - هو وحدة المطلوب

______________________________

لا ينافي تحقق المغفرة والخير كما هو الحال في كل فعل متعلق بمفعوله، ولازم ذلك عدم وجوب المسارعة والاستباق والا كان تركهما موجبا للغضب والشر كما هو شأن ترك الواجب وهو خلف، بل كان الانسب حينئذ أن يقال: احذروا من الغضب والشر بالمسارعة والاستباق، لا التعبير بما في الآية، إلا أن يقال: ان الغضب الحاصل بترك المسارعة لا يضاد المغفرة التي هي موضوع المسارعة فوجوب المسارعة لا ينافي كون تركها لا يؤدي إلى الغضب بل إلى المغفرة، وكذا الحال في الآية الاخرى، ولكن هذا لو سلم لا ينافي ظهور السياق فيما ذكره المصنف (ره) فتأمل جيدا (والاولى) أن يقال: المغفرة في الآية الاولى يراد منها سببها وهو الاطاعة وكما يمتنع اخذ الاطاعة قيدا للواجب الشرعي يمتنع أخذ المسارعة إليها كذلك وكما أن الامر بالاطاعة ارشادي كذلك الامر بالمسارعة فيها، مع أن الآية على تقدير دلالتها على وجوب المسارعة لا تدل على تقييد الواجب بالفورية بل هي على خلاف ذلك أدل لان مادة المسارعة إلى الشئ إنما تكون فيما هو موسع كما لا يخفى، وكذا الحال في الآية الاخرى على تقدير كون المراد من الخيرات الخيرات الاخروية كما هو الظاهر، ولعله إلى بعض ما ذكرنا اشار بقوله: فافهم (قوله: الارشادية فافهم) لعله اشارة إلى لزوم الالتزام به لما عرفت، (قوله: فهل قضية الامر) ينبغي ان يجعل الاحتمال ثلاثي الاطراف فيقال: هل ظاهر الامر الاتيان به فورا فلو تركه عصى وسقط الامر أو الاتيان به فورا على نحو لو تركه في الزمان الاول عصى في ترك الفورية وبقي الامر بصرف الطبيعة أو الاتيان به فورا ففورا فلو تركه في الزمان الاول عصى ووجب الاتيان به بعد ذلك

١٨٩

أو تعدده ولا يخفى أنه لو قيل بدلالتها على الفورية لما كان لها دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدده فتدبر جيدا

الفصل الثالث

الاتيان بالمأمور به على وجهه يقتضى الاجزاء في الجملة بلا شبهة، وقبل الخوض في تفصيل المقام وبيان النقض والابرام ينبغي تقديم أمور (أحدها) الظاهر ان المراد من (وجهه) في العنوان هو النهج الذى ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعا

______________________________

فورا أيضا... وهكذا، ومبنى الاحتمال الاول ان الفورية في الزمان الاول مقومة لاصل المصلحة فتفوت بفوتها وهذا هو المراد من وحدة المطلوب، ومبنى الثاني ان يكون مصلحتان احداهما قائمة بذات الفعل مطلقا والاخرى قائمة بالفورية في الزمان الاول لا غير، ومبنى الثالث كذلك الا ان مصلحة الفورية ذات مراتب مختلفة يكون ترك الفورية في كل زمان مفوتا لمرتبة من مصلحتها لا لاصلها كما هو مبنى الثاني (قوله: أو تعدده) قد عرفت ان تعدده على نحوين يكونان مبنيين لاحتمالين (قوله: لو قيل بدلالتها على) اما لو كان الدليل على الفورية غير الصيغة فيختلف باختلاف تلك الادلة، وفي المعالم بنى القول بالسقوط على الاستناد لغير الآيتين والقول بعدمه على الاستناد اليهما، ولا يخلو من تأمل ليس هذا محل ذكره والله سبحانه اعلم، ثم انه حيث كان اطلاق يعتمد عليه في نفي الفور والتراخي فلا اشكال واما إذا لم يكن اطلاق كذلك فالمرجع الاصل فلو كان التردد بين الفور والتراخي فالواجب الجمع بين الوظيفتين للعلم الاجمالي بالتكليف باحدهما، ولو كان بين الفور والطبيعة فالمرجع اصل البراءة لو كان وجوب الفورية على نحو تعدد المطلوب ولو كان بنحو وحدة المطلوب فالحكم هو الحكم مع الشك بين الاقل والاكثر، وكذا الحكم لو كان التردد بين الطبيعة والتراخي والله سبحانه أعلم

١٩٠

وعقلا مثل أن يؤتى به بقصد التقرب في العبادة، لا خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا فانه عليه يكون (على وجهه) قيدا - توضيحيا - وهو بعيد - مع أنه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع بناء على المختار كما تقدم من ان قصد القربة من كيفيات الاطاعة عقلا لا من قيود المأمور به شرعا، ولا الوجه المعتبر عند بعض الاصحاب فانه - مع عدم اعتباره عند المعظم، وعدم اعتباره عند من اعتبره إلا في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات، لا وجه لاختصاصه به بالذكر على تقدير الاعتبار فلا بد من ارادة ما يندرج فيه من المعنى وهو ما ذكرناه كما لا يخفى

______________________________

الكلام في الاجزاء

(قوله: مثل ان يؤتى به) بيان للنهج اللازم عقلا بناء على خروج قصد التقرب عن موضوع الامر (قوله: لا خصوص) معطوف على النهج وفيه تعريض بما قد يظهر من عبارة التقريرات فتأملها (قوله: قيدا توضيحيا) لان ذكر المأمور به يغني عنه ثم إن كون القيد توضيحيا لازم للقائلين بأن قصد التقرب داخل في المأمور به (قوله: مع انه يلزم خروج) إذ لا إشكال في عدم الاجزاء لو كان المأمور به في العبادات فاقدا لقصد التقرب وان كان واجدا لجميع ما يعتبر فيه شرعا (قوله: بناء على المختار) أما على القول بكون قصد التقرب قيدا للمأمور به فهي داخلة في محل النزاع لدخولها في العنوان ويكون عدم الاجزاء مع فقد التقرب لعدم الاتيان بالمأمور به شرعا (قوله: ولا الوجه المعتبر) يعني الوجوب والندب (قوله: عند المعظم) فلا وجه لذكره في العنوان في كلام المعظم إلا أن يكون المقصود من ذكره الاحتياط في ذكر القيود لكنه بعيد (قوله: لا مطلق الواجبات) فلا وجه لاخذه قيدا في دعوى الاجزاء مطلقا (قوله: لاختصاصه) يعني من دون سائر القيود المعتبرة في الاطاعة مثل التقرب والتمييز إلا أن يدعى الاكتفاء به عنهما على بعض

١٩١

(ثانيها) الظاهر ان المراد من الاقتضاء ههنا الاقتضاء بنحو العلية والتأثير لا بنحو الكشف والدلالة، ولذا نسب إلى الاتيان لا إلى الصيغة (ان قلت): هذا إنما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره وأما بالنسبة إلى أمر آخر كالاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري أو الظاهرى بالنسبة إلى الامر الواقعي فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره بنحو يفيد الاجزاء أو بنحو آخر لا يفيده (قلت): نعم لكنه لا ينافى كون النزاع فيها كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدم غايته ان العمدة في سبب الاختلاف فيهما انما هو الخلاف في دلالة دليلهما هل انه على نحو يستقل العقل بان الاتيان به موجب للاجزاء ويؤثر فيه وعدم دلالته، ويكون النزاع فيه صغرويا أيضا بخلافه في الاجزاء بالاضافة إلى أمره فانه لا يكون الا كبرويا لو كان هناك نزاع

______________________________

التقادير فتأمل (قوله: المراد من الاقتضاء ههنا) الواقع في القوانين والفصول وغيرهما في تحرير العنوان قولهم: الامر بالشئ هل يقتضي الاجزاء أولا ؟، وحيث أن ظاهر الاقتضاء فيه الكشف والدلالة كما في قولهم: الامر يقتضي الوجوب، والنهي يقتضي التحريم، نبه المصنف (ره) على ان الاقتضاء في العنوان المذكور في المتن ليس بمعنى الكشف والدلالة بل بمعنى العلية والتأثير كما في قولهم: الامر بالشئ يقتضي النهي عن ضده، والوجه في ذلك نسبة الاقتضاء في عنوان المتن إلى الاتيان وفي عنوان غيره إلى الامر وحيث أنه لا معنى لتأثير الامر في الاجزاء وجب حمله على الدلالة يعني يدل الامر على أن موضوعه واف بتمام المصلحة بخلاف الاتيان فان تأثيره في الاجزاء ظاهر إذ لولا كونه علة لحصول الغرض لما كان مامورا به (قوله: هذا إنما يكون) يعني أن حمل الاقتضاء على العلية إنما يصح بالاضافة إلى نفس الامر المتعلق بالماتي فان إجزاءه يلازم سقوط امره لا بالنسبة إلى الامر المتعلق بغيره إذ النزاع في الحقيقة يكون في دلالة الدليل فالاقتضاء فيه بمعنى الدلالة (قوله: نعم) يعني كما ذكرت من أن النزاع في دلالة الدليل (قوله: صغرويا) صورة القياس في المقام هكذا: المأمور به

١٩٢

كما نقل عن بعض (فافهم) (ثالثها) الظاهر ان الاجزاء ههنا بمعناه لغة وهو الكفاية وان كان يختلف ما يكفى عنه فان الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي يكفى فيسقط به التعبد به ثانيا، وبالامر الاضطراري أو الظاهرى الجعلي فيسقط به القضاء لا انه يكون ههنا اصطلاحا بمعنى اسقاط التعبد أو القضاء فانه بعيد جدا

______________________________

*

بالامر الاضطراري مأمور به بالامر الواقعي - ولو تنزيلا - والمامور به بالامر الواقعي يقتضي الاجزاء، ينتج: المأمور به بالامر الاضطراري يقتضي الاجزاء. والنزاع في هذه المسألة بالنسبة إلى الامر الواقعي في الكبرى وبالنسبة إلى الامر الاضطراري في الصغرى بالنسبة إلى الامر الواقعي، وفي الكبرى بالنسبة إلى أمر نفسه والمحكم في الكبرى مطلقا العقل والمحكم في الصغرى الدليل الشرعي فإذا كان الاقتضاء في الكبرى بمعنى العلية كان في النتيجة كذلك، ومنه يظهر أن إثبات الاجزاء في الفعل الاضطراري والظاهري بالنسبة إلى الامر الواقعي يتوقف على إثبات الصغرى والكبرى معا، وفي الفعل الواقعي على اثبات نفس الكبرى لانه عينها (قوله: فافهم) يمكن ان يكون اشارة إلى ان النزاع في مثل هذه الصغرى ليس نزاعا في المسألة الاصولية لان شأن المسائل الاصولية تنقيح الكبريات وأما الصغريات فوضيفة الفقيه، ولذا لم يتعرض في هذا المبحث لصغريات الافعال الاضطرارية والظاهرية تفصيلا فلاحظ (قوله: الظاهر ان الاجزاء) قد تضمنت جملة من العبارات كون الاجزاء له معنيان (احدهما) إسقاط التعبد بالفعل ثانيا (وثانيهما) إسقاط القضاء، وأن المراد هنا أي المعنيين ؟ وقد دفع المصنف (ره) ذلك - تبعا للتقريرات - بان لفظ الاجزاء لم يستعمل في المقام إلا بمعناه اللغوي وهو الكفاية غاية الامر أن ما يكفي عند الماتي به تارة يكون هو التعبد به ثانيا فيكون مسقطا للتعبد به واخرى الامر به قضاء فيكون مسقطا للقضاء لا أن له معنى اصطلاحيا ليتردد في أنه إسقاط التعبد أو إسقاط القضاء (قوله: يكفي فيسقط) يعنى يكفي في حصول الغرض فلا يحتاج إلى التعبد به ثانيا لتحصيله (قوله: فيسقط به) يعنى يكفي أيضا في حصول

١٩٣

(رابعها) الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار لا يكاد يخفى، فان البحث ههنا في ان الاتيان بما هو المأمور به يجزئ عقلا بخلافه في تلك المسألة فانه في تعيين ما هو المأمور به شرعا بحسب دلالة الصيغة بنفسها أو بدلالة اخرى (نعم) كان التكرار عملا موافقا لعدم الاجزاء لكنه لا بملاكه، وهكذا الفرق بينها وبين مسألة تبعية القضاء للاداء فان البحث في تلك المسألة في دلالة الصيغة على التبعية وعدمها بخلاف هذه المسألة فانه كما عرفت في ان الاتيان بالمأمور يجزئ عقلا عن اتيانه ثانيا اداء أو

______________________________

*

الغرض فلا يثبت الامر بالقضاء ثم إن إجزاء المأمور به الواقعي لما كان بلحاظ الامر به ناسب التعبير باسقاط التعبد به ثانيا وإجزاء المأمور به بالامر الاضطراري والظاهري لما كان بلحاظ الامر به قضاء ناسب التعبير باسقاط القضاء (قوله: الفرق بين هذه) قد يتوهم أن القول بالمرة قول بالاجزاء والقول بالتكرار قول بعدم الاجزاء (قوله: بما هو المأمور به) يعني بعد الفراغ عن تعيين تمام المأمور به (قوله: فانه في تعيين) وحينئذ فيكون النزاع في الاجزاء مترتبا على النزاع في المرة والتكرار لا أن النزاع فيهما نزاع في الموضوع والنزاع فيه نزاع في الحكم (قوله: بحسب دلالة) يعني فيكون النزاع في أمر لفظي (قوله: عملا) متعلق بقوله: موافقا، يعني هما من حيث العمل سواء لكنه موقوف على أن المراد بالتكرار فعل كل فرد ممكن بعد آخر أما لو كان المراد ما يشمل تكرار الصلاة اليومية وصوم رمضان كما يقتضيه استدلال بعضهم فلا ملازمة بينهما عملا ثم إن هذا بالنسبة إلى أمره أما بالنسبة إلى أمر غيره فلا مجال للتوهم ولا للموافقة عملا (قوله: لا بملاكه) إذ ملاك عدم الاجزاء عدم وفاء المأمور به بالغرض المقصود منه وملاك التكرار عدم حصول تمام المأمور به (قوله: وهكذا الفرق) يعني قد يتوهم أن القول بعدم الاجزاء عين القول بتبعية القضاء للاداء، والقول بالاجزاء قول بعدم تبعية القضاء للاداء (قوله: فان البحث حينئذ) يعني أن البحث في تبعية القضاء للاداء بحث في ان الامر بشئ في وقت

١٩٤

قضاء أولا يجزئ فلا علقة بين المسألة والمسئلتين اصلا (إذا) عرفت هذه الامور فتحقيق المقام يستدعي البحث والكلام في موضعين (الاول) أن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي بل بالامر الاضطراري أو الظاهري أيضا يجزئ عن التعبد به ثانيا، لاستقلال العقل بانه لا مجال مع موافقة الامر باتيان المأمور به على وجهه لاقتضائه التعبد به ثانيا. نعم لا يبعد ان يقال بأنه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبد به ثانيا بدلا عن التعبد به أولا لا منضما إليه كما اشرنا إليه في المسألة السابقة، وذلك فيما علم ان مجرد امتثاله لا يكون علة تامة لحصول الغرض وان كان وافيا به لو اكتفى

______________________________

*

هل يدل على لزوم فعله في خارج الوقت على تقدير عدم الاتيان به في الوقت بحيث يرجع إلى الامر به مطلقا لكونه في الوقت أولا يدل ؟ فيكون النزاع في تعيين المأمور به من حيث دلالة الامر، وأين هو من النزاع في المسألة ؟ (قوله: فلا علقة بين) أولا من جهة أن إحداهما متضمنة لتعيين نفس المأمور به والاخرى متضمنة لتعيين مقتضاه (وثانيا) من جهة أن النزاع في إحداهما لفظي وفى الاخرى عقلي " وثالثا " من جهة ان القول بعدم الاجزاء انما في ظرف الاتيان بالمأمور به والقول بالتبعية انما هو في ظرف عدم الاتيان به (قوله: بالامر الاضطراري) يعني بالاضافة إلى أمره (قوله: أو الظاهري) يعني بالاضافة إلى أمره (قوله: لاستقلال العقل بأنه) قد عرفت أن الامر الحقيقي لابد ان يكون حاكيا عن الارادة وأن الارادة حدوثا وبقاء تتوقف على العلم بالمصلحة المعبر عنها بالداعي تارة وبالغرض أخرى فالماتي به في الخارج إما أن لا يترتب عليه الغرض فلا يكون مامورا به فهو خلف أو يترتب عليه الغرض فبقاء الامر حينئذ إن كان بلا غرض فهو مستحيل كما عرفت وان كان عن غرض آخر غير الغرض الحاصل من الماتي به أولا فيلزمه أن يكون المأمور به فردين في الخارج يترتب على كل منهما غرض خاص فيكون الامر منحلا إلى أمرين يسقط كل منهما بالاتيان بمتعلقه وهو عين الاجزاء المدعى غاية الامر أنه لا يكون فعل أحدهما مسقطا لامر الآخر ومجزئا عنه ولكنه غير محل الكلام إذ الكلام - كما عرفت - في أن فعل المأمور به مجزئ عن الامر به ثانيا (قوله: لا منضما إليه)

١٩٥

به كما إذا اتى بماء امر به مولاه ليشربه فلم يشربه بعد فان الامر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد ولذا لو اهرق الماء واطلع عليه العبد وجب عليه اتيانه ثانيا كما لم يأت به أولا ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه والا لما اوجب حدوثه فحينئذ يكون له الاتيان بماء آخر موافق للامر كما كان له قبل اتيانه الاول بدلا عنه. نعم فيما كان الاتيان علة تامة لحصول الغرض فلا يبقى موقع التبديل كما إذا أمر باهراق الماء في فمه لرفع عطشه فاهرقه، بل لو لم يعلم أنه من أي القبيل فله التبديل باحتمال ان لا يكون علة فله إليه السبيل، ويؤيد ذلك بل يدل عليه ما ورد من الروايات في باب اعادة من صلى فرادى جماعة وان الله تعالى يختار احبهما إليه (الموضع الثاني) وفيه مقامان (المقام الاول) في ان الاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري هل يجزئ عن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي ثانيا بعد رفع الاضطرار في الوقت اعادة وفى خارجه قضاء أولا يجزئ ؟ تحقيق الكلام فيه يستدعي التكلم فيه (تارة) في بيان ما يمكن ان يقع عليه الامر الاضطراري من الانحاء وبيان ما هو قضية كل منها من الاجزاء وعدمه (وأخرى) في تعيين ما وقع عليه فاعلم انه يمكن

______________________________

*

قد يمكن أن يكون منضما إليه كما في الافراد الدفعية التى تكون امتثالا واحدا لعدم المرجح. فتأمل (قوله: وجب عليه) يعني بعين وجوبه أولا كما تقدم الكلام فيه (قوله: بدلا عنه) قد عرفت أنه يمكن أن يكون منضما إليه (قوله: فلا يبقى موقع) إذ الثاني مما يعلم بعدم ترتب الاثر عليه (قوله: ما ورد من الروايات) كرواية أبي بصير قلت لابي عبد الله (عليه السلام): أصلي ثم أدخل المسجد فتقام الصلاة وقد صليت فقال (عليه السلام): صل معهم يختار الله أحبهما إليه، ورواية هشام عنه (عليه السلام): في الرجل يصلي الصلاة وحده ثم يجد جماعة قال (عليه السلام): يصلي معهم ويجعلها الفريضة انشاء الله، ونحوها رواية حفص، وفي مرسلة الصدوق: يحسب له أفضلهما وأتمهما

١٩٦

ان يكون التكليف الاضطراري في حال الاضطرار كالتكليف الاختياري في حال الاختيار وافيا بتمام المصلحة وكافيا فيما هو المهم والغرض ويمكن ان لا يكون وافيا به كذلك بل يبقى منه شئ امكن استيفاؤه أو لا يمكن، وما أمكن كان بمقدار يجب تداركه أو يكون بمقدار يستحب، ولا يخفى انه ان كان وافيا به فيجزئ فلا يبقى مجال اصلا للتدارك لا قضاء ولا اعادة، وكذا لو لم يكن وافيا ولكن لا يمكن تداركه ولا يكاد يسوغ له البدار في هذه الصورة الا لمصلحة كانت فيه لما فيه من نقض الغرض وتفويت مقدار من المصلحة لولا مراعاة ما هو فيه من الاهم فافهم

______________________________

الامر الاضطراري

(قوله: ان يكون التكليف) يعني موضوعه (قوله: كالتكليف الاختياري) يعني كموضوعه (قوله: وما أمكن كان) يعني أن المقدار الباقي من المصلحة الذي يمكن استيفاؤه قسمان فانه تارة يكون واجب التدارك وأخرى يكون مستحب التدارك (أقول): ما لا يمكن استيفاؤه ايضا قسمان تارة يكون محرم التفويت وأخرى لا يكون كذلك فالاقسام خمسة وإنما لم يتعرض للقسمين المذكورين لعدم اختلافهما في الاجزاء وإن كانا يختلفان في جواز البدار وعدمه (قوله: ولا يخفى) شروع في حكم الاقسام من حيث الاجزاء (قوله: اصلا للتدارك) لان التدارك إنما يكون في ظرف الفوت والمفروض عدمه (قوله: ولا يكاد يسوغ) يعني حيث يكون الفائت مما يحرم تفويته أما إذا لم يكن فلا تحريم للبدار كما أن نسبة التحريم إلى البدار لا تخلو من مسامحة إذ المحرم هو تفويت ذلك المقدار والبدار ليس تفويتا ولا مقدمة له وإنما هو ملازم له فلا ينسب إليه التحريم إلا بالعرض والمجاز ولذا لم تفسد العبادة، ولعله إلى هذا اشار بقوله: فافهم (قوله: إلا لمصلحة) يعني إذا كانت مصلحة في البدار تصلح لمزاحمة المقدار الفائت لم يحرم التفويت الملازم للبدار حينئذ (قوله: لما فيه من)

١٩٧

(لا يقال): عليه فلا مجال لتشريعه ولو بشرط الانتظار لامكان استيفاء الغرض بالقضاء (فانه يقال): هذا كذلك لولا المزاحمة بمصلحة الوقت، وأما تسويغ البدار أو ايجاب الانتظار في الصورة الاولى فيدور مدار كون العمل بمجرد الاضطرار مطلقا أو بشرط الانتظار أو مع اليأس عن طرؤ الاختيار ذا مصلحة ووافيا بالغرض، وان لم يكن وافيا وقد امكن تدارك الباقي في الوقت أو مطلقا ولو بالقضاء خارج

______________________________

تعليل لعدم جواز البدار لكن عرفت أن البدار لا تفويت فيه لغرض المولى وإنما هو يلازم التفويت (قوله: فلا مجال لتشريعه) يعني إذا كان البدل الاضطراري غير واف بمصلحة المبدل الاختياري كيف جاز تشريعه ولو في آخر الوقت ؟ لان في تشريعه تفويتا للمصلحة (قوله: هذا كذلك) (أقول): تشريع الاضطراري إنما جاز لاشتماله على المصلحة مع عدم كونه مقدمة للتفويت فالمنع عن تشريعه غير ظاهر الوجه الا ان يكون المراد من تشريعه الامر بفعله في الوقت أو الاذن كذلك الملازمين للاذن في التفويت (قوله: لولا المزاحمة) يعنى انما يكون تفويت التشريع ممنوعا عنه حيث يؤدي إلى تفويت المصلحة مع عدم مزاحمتها بمصلحة أخرى وإلا فلو فرض كون خصوصية الفعل في الوقت مشتملة على مصلحة تزاحم المقدار الفائت لم يكن مانع عن تشريعه كما تقدم مثل ذلك في جواز البدار ثم إنه حيث كان في خصوصية الوقت مصلحة يتدارك بها ما يفوت جاز البدار أول الوقت إذا علم الاضطرار في تمام الوقت ولا موجب للانتظار فتأمل (قوله: في الصورة الاولى) وهي ما كان الاضطراري فيها وافيا بتمام المصلحة (قوله: الاضطرار مطلقا) وعليه يجوز البدار مطلقا (قوله: أو بشرط الانتظار) وعليه فلا يجوز البدار (قوله: أو مع اليأس) فلا يجوز البدار الا مع اليأس ثم إن هذه الاقسام لا تختص بالصورة الاولى بل تجري في الثانية أيضا إذ قد تكون خصوصية الوقت مطلقا ذات مصلحة تزاحم المقدار الفائت. وقد تكون بشرط الانتظار، وقد تكون بشرط اليأس وقد يكون بغير ذلك فيتبع كلا حكمه (قوله: وان لم يكن وافيا)

١٩٨

الوقت فان كان الباقي مما يجب تداركه فلا يجزئ فلا بد من ايجاب الاعادة أو القضاء وإلا فاستحبابه ولا مانع عن البدار في الصورتين غاية الامر يتخير في الصورة الاولى بين البدار والاتيان بعملين العمل الاضطراري في هذا الحال والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار أو الانتظار والاقتصار باتيان ما هو تكليف المختار، وفي الصورة الثانية يتعين عليه استحباب البدار واعادته بعد طروء الاختيار. هذا كله فيما يمكن أن يقع عليه الاضطراري من الانحاء، وأما ما وقع عليه فظاهر إطلاق دليله مثل قوله تعالى: (فان لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) وقوله (عليه السلام): (التراب أحد الطهورين ويكفيك عشر سنين) هو الاجزاء وعدم وجوب الاعادة أو القضاء ولا بد في ايجاب الاتيان به ثانيا من دلالة دليل بالخصوص (وبالجملة):

______________________________

*

معطوف على قوله: إن كان وافيا (قوله: فلا بد من ايجاب) لاجل تدارك الباقي (قوله: والا فاستحبابه) الظاهر أن أصل العبارة: والا فيجزئ، بمعنى عدم وجوب الاعادة والقضاء وان كان يستحب (قوله: ولا مانع عن) إذ لا تفويت فيهما (قوله: في الصورة الاولى) وهي ما يكون الباقي فيها مما يجب تداركه (قوله: وفى الصورة الثانية) وهي ما كان الباقي فيها مما يستحب تداركه (قوله: استحباب البدار) هذا الاستحباب بنحو الكلية غير ظاهر الوجه إلا أن يستند فيه إلى مثل آيتي المسارعة والاستباق فتأمل (قوله: وأما ما وقع عليه) التعرض لذلك ينبغي أن يكون في الفقه لا هنا إذ ليس لدليله ضابطة كلية فقد يختلف الدليل باختلاف قرينة الحال أو المقال من حيث الدلالة على الوفاء وعدمه وكأن مقصود المصنف (ره) الاشارة إلى ما يكون كالانموذج لادلة البدل الاضطراري (قوله: هو الاجزاء) أما اقصاء ما كان بلسان البدلية مثل: أحد الطهورين، ونحوه فظاهر، فان اطلاق البدلية يقتضي قيام البدل مقام المبدل منه بلحاظ جميع الآثار والخواص فلا بد من أن يفى بما يفي به المبدل من المصلحة بمرتبتها ويترتب عليه الاجزاء " فان قوله ": هذا الاطلاق

١٩٩

وان كان ثابتا الا انه معارض باطلاق دليل المبدل منه فانه يقتضي تعينه في جميع الاحوال ولازمه وجوب حفظ القدرة عليه الكاشف عن عدم وفاء البدل بمصلحته والا جاز تفويت القدرة عليه، وكما يمكن الجمع بينهما برفع اليد عن اطلاق دليل المبدل فيحمل على تعينه في ظرف القدرة عليه جاز رفع اليد عن اطلاق دليل البدل فيحمل على وفائه ببعض مراتب المصلحة التي يفي بها المبدل واذ لا مرجح يرجع إلى الاصل ويسقط الاطلاق عن المرجعية " قلت ": نسبة دليل البدل إلى دليل المبدل منه نسبة الحاكم إلى المحكوم لانه ناظر إليه موسع لموضوعه فيجب تقديمه عليه وجوب تقديم الحاكم على المحكوم. هذا كله بالنظر إلى طبع الكلام نفسه أما بملاحظة كون البدلية في حال الاضطرار فلا يبعد كون مقتضى الجمع العرفي كون البدل من قبيل الميسور للتام ولاجل ذلك نقول: لا يجوز تعجيز النفس اختيارا لانه تفويت للتام، فتأمل جيدا. وأما ما كان بلسان الامر فقد يشكل اطلاقه المقتضي للاجزاء إذ الامر انما يدل على وفاء موضوعه بمصلحة مصححة للامر به أما أنها عين مصلحة المبدل أو بعضها فلا يدل عليه الامر ولا يصلح لنفي وجوب الاعادة أو القضاء. نعم لو كان المتكلم في مقام بيان تمام ما له دخل في حصول الغرض المترتب على الاختياري مع عدم الامر بالاعادة أو القضاء أمكن الحكم بالاجزاء حينئذ اعتمادا على هذا الاطلاق المقامي المقدم على اطلاق دليل المبدل للحكومة، أو كون الامر واردا مورد جعل البدل فيجري فيه ما تقدم، اللهم إلا أن يقال: دليل المبدل ظاهر في التعيين في حال التمكن وعدمه ودليل البدل ظاهر في تعينه في حال عدم التمكن من المبدل وهما متنافيان للعلم بعدم تعينهما معا فيدور الامر (بين) رفع اليد عن ظهور دليل البدل في التعيين ودليل المبدل فيه بالاضافة إلى بعض مراتب المصلحة ولازمه الحكم بتعين المبدل في تحصيل تمام مرتبة الغرض والتخيير بينه وبين البدل في تحصيل بعضها ويترتب عليه عدم الاجزاء (وبين) رفع اليد عن اطلاق دليل المبدل بالاضافة إلى حالتي التمكن وعدمه وحيث أن الثاني أقرب يكون هو المتعين ولازم ذلك اشتراط وجوب المبدل بحال التمكن فيترتب

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

الكلام فيها الخطاب ثمّ لما تبدّل الخطاب بالغيبة بعد قصّة البقرة لنكتة داعية إليها كما مرّ حتّى انتهت إلى هذه الآية، فبدئت أيضاً بالغيبة لكنّ الميثاق حيث كان بالقول وبنى على حكايته حكي بالخطاب فقيل:( لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ ) إلخ، وهو نهى في صورة الخبر. وإنّما فعل ذلك دلالة على شدّة الاهتمام به، كأنّ الناهي لا يشكّ في عدم تحقّق ما نهى عنه في الخارج، ولا يرتاب في أنّ المكلّف المأخوذ عليه الميثاق سوف لا ينتهي عن نهيه، فلا يوقع الفعل قطعاً وكذا قوله:( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ ) ، كلّ ذلك أمر في صورة الخبر.

ثمّ إنّ الانتقال إلى الخطاب من قبل الحكاية أعطى فرصة للانتقال إلى أصل الكلام، وهو خطاب بني إسرائيل لمكان الاتصال في قوله:( وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ ) الخ وانتظم بذلك السياق.

قوله تعالى: ( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) . أمر أو خبر بمعنى الأمر والتقدير: وأحسنوا بالوالدين إحساناً، وذي القربى واليتامى والمساكين، أو التقدير: وتحسنون بالوالدين إحساناً الخ، وقد رتّب موارد الإحسان أخذاً من الأهمّ والأقرب إلى المهمّ والأبعد فقرابة الإنسان أقرب إليه من غيرهم، والوالدان وهما الأصل الّذي تتّكي عليه وتقوم به شجرة وجوده أقرب من غيرهما من الأرحام وفي غير القرابة أيضاً اليتامى أحقّ بالإحسان لصغرهم وفقدهم من يقوم بأمرهم من المساكين. هذا وقوله:( وَالْيَتَامَىٰ ) ، اليتيم من مات أبوه ولا يقال لمن ماتت اُمّه يتيم. وقيل اليتيم في الإنسان إنّما تكون من جهة الأب وفي غير الإنسان من سائر الحيوان من جهة الاُمّ وقوله تعالى:( وَالْمَسَاكِينِ ) ، جمع مسكين وهو الفقير العادم الذليل. وقوله تعالى:( حُسْنًا ) مصدر بمعنى الصفة جئ به للمبالغة. وفي بعض القراءآت حسناً، بفتح الحاء والسين صفة مشبّهة. والمعنى قولوا للناس قولاً حسناً، وهو كناية عن حسن المعاشرة مع الناس، كافرهم، ومؤمنهم ولا ينافي حكم القتال حتّى تكون آية القتال ناسخة له لأنّ مورد القتال غير مورد المعاشرة فلا ينافي الأمر بحسن المعاشرة كما أنّ القول الخشن في مقام التأديب لا ينافي حسن المعاشرة.

٢٢١

قوله تعالى: ( لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ ) ، خبر في معنى الإنشاء نظير ما مرّ في قوله:( لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ ) ، والسفك الصبّ.

قوله تعالى: ( تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم ) ، المظاهرة هي المعاونة، والظهير العون مأخوذ من الظهر لأنّ العون يلي ظهر الإنسان.

قوله تعالى: ( وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ) ، الضمير للشأن والقصّة كقوله تعالى:( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) .

قوله تعالى : ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ ) ، أي ما هو الفرق بين الاخراج والفدية حيث أخذتم بحكم الفدية وتركتم حكم الاخراج وهما جميعاً في الكتاب، أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟

قوله تعالى: ( وَقَفَّيْنَا ) ، التقفية الإتباع وإتيان الواحد قفأ الواحد.

قوله تعالى: ( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ ) ، سيأتي الكلام فيه في سورة آل عمران.

قوله تعالى: ( وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ ) جمع أغلف من الغلاف أي قلوبنا محفوظة تحت لفائف وأستار وحجب، فهو نظير قوله تعالى:( وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ) حم سجدة - ٥، وهو كناية عن عدم امكان استماع ما يدعون إليه.

( بحث روائي)

في الكافي عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ) الآية. قولوا للناس أحسن ما تحبّون أن يقال فيكم.

وفي الكافي أيضاً عن الصادقعليه‌السلام قال: قولوا للناس ولا تقولوا إلّا خيراً حتّى تعلموا ما هو.

وفي المعاني عن الباقرعليه‌السلام قال: قولوا للناس أحسن ما تحبّون أن يقال لكم، فإنّ الله عزّوجلّ يبغض السبّاب اللعّان الطعّان على المؤمنين الفاحش المفحش السّائل ويحبّ الحيّي الحليم العفيف المتعفّف.

أقول: وروي مثل الحديث في الكافي بطريق آخر عن الصادقعليه‌السلام وكذا العيّاشيّ عنهعليه‌السلام ومثل الحديث الثّاني في الكافي عنه. ومثل الحديث الثالث العيّاشيّ عن الباقرعليه‌السلام

٢٢٢

وكأنّ هذه المعاني اُستفيدت من إطلاق الحسن عند القائل وإطلاقه من حيث المورد.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام قال: إنّ الله بعث محمّداً (صلّي الله عليه و آله و سلّم) بخمسة أسياف فسيف على أهل الذمّة. قال الله: وقولوا للناس حسناً، نزلت في أهل الذمّة ثمّ نسختها اُخرى قوله:( قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ) الحديث.

أقول: وهو منهعليه‌السلام أخذ بإطلاق آخر للقول وهو شموله للكلام ولمطلق التعرّض. يقال لا تقل له إلّا حسناً وخيراً أي لا تتعرّض له إلّا بالخير والحسن، ولا تمسسه إلّا بالخير والحسن. هذا إن كان النسخ في قولهعليه‌السلام هو النسخ بالمعنى الأخصّ وهو المصطلح ويمكن أن يكون المراد هو النسخ بالمعنى الأعمّ، على ما سيجئ في قوله تعالى:( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ) البقرة - ١٠٦، وهو الكثير في كلامهم عليهم السلام فتكون هذه الآية وآية القتال غير متّحدتين مورداً.

٢٢٣

( سورة البقرة الآيات ٨٩ - ٩٣)

وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ  فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ( ٨٩ ) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ  فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ  وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ( ٩٠ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ  قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٩١ ) وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ( ٩٢ ) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا  قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ  قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٩٣ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَهُمْ ) الخ. السياق يدلّ على أنّ هذا الكتاب هو القرآن.وقوله: ( وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ) ، على وقوع تعرّض لهم من كفّار العرب، وأنّهم كانوا يستفتحون أي يطلبون الفتح عليهم ببعثة النبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم) وهجرته وأنّ ذلك الاستفتاح قد استمرّ منهم قبل الهجرة، بحيث كان الكفّار من العرب أيضاً يعرفون ذلك منهم لمكان قوله:( كَانُوا ) ، وقوله:( فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا ) ، أي عرفوا أنّه هو بإنطباق ما كان عندهم من الأوصاف عليه كفروا.

قوله تعالى: ( بِئْسَمَا اشْتَرَوْا ) بيان لسبب كفرهم بعد العلم وأنّ السبب الوحيد في ذلك هوالبغي والحسد، فقوله:( بَغْيًا ) ، مفعول مطلق نوعيّ. وقوله:( أَن يُنَزِّلَ اللهُ ) ، متعلّق به، وقوله تعالى:( فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ) ، أي رجعوا بمصاحبته أو بتلبّس غضب بسبب كفرهم بالقرآن على غضب بسبب كفرهم بالتوراة من قبل، والمعنى أنّهم كانوا قبل البعثة والهجرة ظهيراً للنبي (صلّي الله عليه و آله و سلّم) ومستفتحاً به وبالكتاب النازل عليه، ثمّ لما نزل

٢٢٤

بهم النبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم) ونزل عليه القرآن وعرفوا أنّه هو الّذي كانوا يستفتحون به وينتظرون قدومه هاج بهم الحسد، وأخذهم الاستكبار، فكفروا وأنكروا ما كانوا يذكرونه كما كانوا يكفرون بالتوراة من قبل، فكان ذلك منهم كفراً على كفر.

قوله تعالى: ( وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ ) ، أي يظهرون الكفر بما ورائه، وإلّا فهم بالّذي اُنزل إليهم وهو التوراة أيضاً كافرون.

قوله تعالى: ( قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ ) ، الفاء للتفريع. والسؤال متفرّع على قولهم:( نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا ) ، أي لو كان قولكم: نؤمن بما أنزل علينا حقّاً وصدقاً فلِم تقتلون أنبياء الله، ولِمَ كفرتم بموسى باتّخاذ العجل، ولِمَ قلتم عند أخذ الميثاق ورفع الطور:( سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ) .

قوله تعالى: ( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ) ، الإشراب هو السقى، والمراد بالعجل حبّ العجل، وضع موضعه للمبالغة كأنّهم قد اُشربوا نفس العجل وبه يتعلّق قوله:( فِي قُلُوبِهِمُ ) ، ففي الكلام استعارتان أو استعارة ومجاز.

قوله تعالى: ( قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ ) ، بمنزلة أخذ النتيجة ممّا أورد عليهم من قتل الأنبياء والكفر بموسى، والاستكبار بإعلام المعصية، وفيه معنى الاستهزاء بهم.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ ) الآية قالعليه‌السلام : كانت اليهود تجد في كتبهم أنّ مهاجر محمّد رسول الله (صلّي الله عليه و آله و سلّم) ما بين عير واُحد فخرجوا يطلبون الموضع، فمرّوا بجبل يقال له حّداد فقالوا حّداد وأحد سواء، فتفرّقوا عنده، فنزل بعضهم بتيما، وبعضهم بفدك، وبعضهم بخيبر، فاشتاق الّذين بتيما إلى بعض إخوانهم، فمرّ بهم أعرابيّ من قيس فتكاروا منه، وقال لهم أمرّ بكم ما بين عير وأحد، فقالوا له إذا مررت بهما فآذنّا لهما، فلمّا توسّط بهم أرض المدينة، قال: ذلك عير وهذا اُحد فنزلوا عن ظهر إبله وقالوا له: قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك فاذهب حيث شئت وكتبوا إلى إخوانهم الّذين بفدك وخيبر أنّا قد أصبنا

٢٢٥

الموضع فهلمّوا إلينا فكتبوا إليهم إنّا قد إستقرّت بنا الدار وأتّخذنا بها الأموال وما أقربنا منكم فإذا كان ذلك أسرعنا إليكم، واتّخذوا بأرض المدينة، أموالاً فلمّا كثرت أموالهم بلغ ذلك تبّع فغزاهم فتحصّنوا منه فحاصرهم ثمّ آمنهم فنزلوا عليه فقال لهم إنّي قد إستطبت بلادكم ولا أراني إلّا مقيماً فيكم، فقالوا: ليس ذلك لك إنّها مهاجر نبيّ، وليس ذلك لأحدٍ حتّى يكون ذلك، فقال لهم فإنّي مخلّف فيكم من اُسرتي من إذا كان ذلك ساعده ونصره فخلّف حيّين تراهم: الأوس والخزرج، فلمّا كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود، فكانت اليهود تقول لهم أما لو بعث محمّد (صلّي الله عليه و آله و سلّم) لنخرجنّكم من ديارنا وأموالنا فلمّا بعث الله محمّداً آمنت به الأنصار وكفرت به اليهود وهو قوله تعالى:( وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ) إلى آخر الآية.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن إسحاق وإبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتم وأبو نعيم في الدلائل عن إبن عبّاس أنّ اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله قبل مبعثه، فلمّا بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن أبي البراء وداود بن سلمة يا معشر اليهود إتّقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمّد ونحن أهل شرك وتخبرونا بأنّه مبعوث وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير ما جاءنا بشئ نعرفه وما هو بالّذي كنّا نذكر لكم فأنزل الله:( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ ) الآية.

وفي الدرّ المنثور أيضاً أخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء والضحّاك عن إبن عبّاس قال كانت يهود بني قريظة والنضير من قبل أن يبعث محمّد (صلى الله عليه و آله و سلّم) يستفتحون الله، يدعون على الّذين كفروا ويقولون: اللّهمّ إنّا نستنصرك بحقّ النبيّ الاُمّيّ إلّا نصرتنا عليهم فينصرون فلمّا جائهم ما عرفوا يريد محمّداً (صلّي الله عليه و آله و سلّم) ولم يشكوا فيه كفروا به.

أقول: وروي قريباً من هذين المعنيين بطرق اُخرى أيضاً. قال بعض المفسّرين بعد الإشارة إلى الرواية الأخيرة ونظائرها: إنّها على ضعف رواتها ومخالفتها للروايات المنقولة شاذّة المعنى بجعل الاستفتاح دعاءً بشخص النبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم) وفي بعض الروايات بحقّه وهذا غير مشروع ولا حقّ لأحدٍ على الله فيدعى به إنتهى.

٢٢٦

وهذا ناشٍ من عدم التأمّل في معنى الحقّ وفي معنى القِسَم. بيانه: أنّ القسَم هو تقييد الخبر أو الإنشاء بشئ ذي شرافة وكرامة من حيث أنّه شريف أو كريم فتبطل شرافته أو كرامته ببطلان النسبة الكلاميّة، فإن كان خبراً فببطلان صدقه وإن كان إنشاءً أمراً أو نهياً فبعدم إمتثال التكليف. فإذا قلت: لعمري إنّ زيداً قائم فقد قيّدت صدق كلامك بشرافة عمرك وحياتك وعلّقتها عليه بحيث لو كان حديثك كاذباً كان عمرك فاقداً للشرافة، وكذا إذا قلت افعل كذا وحياتي أو قلت أقسمك بحياتي أن تفعل كذا فقد قيّدت أمرك بشرف حياتك بحيث لو لَم يأتمر مخاطبك لذهب بشرف حياتك وقيمة عمرك.

ومن هنا يظهرأوّلاً: أنّ القسم أعلى مراتب التأكيد في الكلام كما ذكره أهل الأدب.

وثانياً: أنّ المقسم به يجب أن يكون أشرف من متعلّقه فلا معنى لتأكيد الكلام بما هو دونه في الشرف والكرامة. وقد أقسم الله تعالى في كتابه باسم نفسه ووصفه كقوله:( وَاللهِ رَبِّنَا ) وكقوله:( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ ) وقوله:( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ ) وأقسم بنبيّه وملائكته وكتبه وأقسم بمخلوقاته كالسماء والأرض والشمس والقمر والنجوم والليل والنهار واليوم والجبال والبحار والبلاد والإنسان والشجر والتين والزيتون. وليس إلّا أنّ لها شرافة حقّة بتشريف الله وكرامة على الله من حيث أنّ كلّاً منها إمّا ذو صفة من أوصافه المقدّسة الكريمة بكرامة ذاته المتعالية أو فعل منسوب إلى منبع البهاء والقدس - والكلّ شريف بشرف ذاته الشريفة - فما المانع للدّاعي منّا إذا سأل الله شيئاً أن يسأله بشئ منها من حيث إنّ الله سبحانه شرّفه وأقسم به ؟ وما الّذي هوّن الأمر في خصوص رسول الله (صلّي الله عليه و آله و سلّم) حتّى أخرجه من هذه الكلّيّة وإستثناء من هذه الجملة ؟.

ولعمري ليس رسول الله محمّد (صلّي الله عليه و آله و سلّم) بأهون عند الله من تينه عراقيّة، أو زيتونة شاميّة، وقد أقسم الله بشخصه الكريم فقال:( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) الحجر - ٧٢.

ثمّ إنّ الحقّ - ويقابله الباطل - هو الثابت الواقع في الخارج من حيث إنّه كذلك كالأرض والإنسان وكلّ أمر ثابت في حدّ نفسه ومنه الحقّ الماليّ وسائر الحقوق الاجتماعيّة حيث أنّها ثابتة بنظر الاجتماع وقد أبطل القرآن كلّ ما يدعي حقّاً إلّا ما حقّقه الله وأثبته سواء في الايجاد أو في التشريع فالحقّ في عالم التشريع وظرف

٢٢٧

الاجتماع الدينيّ هو ما جعله الله حقّاً كالحقوق الماليّة وحقوق الإخوان والوالدين على الولد وليس هو سبحانه محكوماً بحكم أحد فيجعل عليه تعالى ما يلزم به كما ربّما يظهر من بعض الاستدلالات الاعتزاليّه غير أنّه من الممكن أن يجعل على نفسه حقّاً، جعلا بحسب لسان التشريع - فيكون حقّاً لغيره عليه تعالى كما قال تعالى:( كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ ) يونس - ١٠٣، وقال تعالى:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) الصافّات - ١٧١ و ١٧٢ و ١٧٣.

والنصر كما ترى مطلق، غير مقيّد بشئ فالإنجاء حقّ للمؤمنين على الله، والنصر حقّ للمرسل على الله تعالى وقد شرّفه الله تعالى حيث جعله له فكان فعلاً منه منسوباً إليه مشرّفاً به فلا من القسم به عليه تعالى وهو الجاعل المشرّف للحقّ والمقسم بكلّ أمر شريف.

إذا عرفت ما ذكرناه علمت أن لا مانع من إقسام الله تعالى بنبيّه (صلّي الله عليه و آله و سلّم) أو بحقّ نبيّه وكذا إقسامه بأوليائه الطاهرين أو بحقّهم وقد جعل لهم على نفسه حقّاً أن ينصرهم في صراط السعادة بكلّ نصر مرتبط بها كما عرفت.

وأمّا قول القائل: ليس لأحد على الله حقّ فكلام واه.

نعم ليس على الله حقّ يثبته عليه غيره فيكون محكوماً بحكم غيره مقهوراً بقهر سواه. ولا كلام لأحد في ذلك ولا أنّ الداعي يدعوه بحقّ ألزمه به غيره بل بما جعله هو تعالى بوعده الّذي لا يخلف. هذا.

٢٢٨

( سورة البقرة الآيات ٩٤ - ٩٩)

قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ اللهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٩٤ ) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ  وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( ٩٥ ) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا  يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ  وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ( ٩٦ ) قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ( ٩٧ ) مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ( ٩٨ ) وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ  وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ( ٩٩ )

( بيان)

قوله تعالى: ( قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ) إلخ، لما كان قولهم:( لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ) ، و قولهم: نؤمن بما أنزل علينا في جواب ما قيل لهم:( آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللهُ ) يدلّان بالالتزام على دعواهم أنهم ناجون في الآخرة دون غيرهم وأنّ نجاتهم وسعادتهم فيها غير مشوبة بهلاك وشقاء لأنّهم ليسوا بزعمهم بمعذّبين إلّا أيّاماً معدودة وهي أيّام عبادتهم للعجل، قابلهم الله تعالى خطاباً بما يظهر به كذبهم في دعواهم وأنّهم يعلمون ذلك من غير تردّد وإرتياب فقال تعالى لنبيّه:( قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ ) أي سعادة تلك الدار فإنّ من ملك داراً فإنّما يتصرّف فيها بما يستحسنه ويحبّه ويحلّ منها بأجمل ما يمكن وأسعده وقوله تعالى:( عِندَ اللهِ ) أي مستقرّاً عنده تعالى وبحكمه وإذنه، فهو كقوله تعالى:( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الْإِسْلَامُ ) آل عمران - ١٩ وقوله تعالى:( خَالِصَةً ) أي غير مشوبة بما تكرهونه من عذاب أو هوان لزعمكم أنّكم لا تعذّبون فيها إلّا أيّاماً معدودة،

٢٢٩

قوله تعالى: ( مِّن دُونِ النَّاسِ ) وذلك لزعمكم بطلان كلّ دين إلّا دينكم، وقوله تعالى:( فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) وهذا كقوله تعالى:( قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) الجمعة - ٦، وهذه مؤاخذه بلازم فطريّ بيّن الأثر في الخارج بحيث لا يقع فيه أدنى الشكّ وهو أنّ الإنسان بل كلّ موجود ذي شعور إذا خيّر بين الراحة والتعب إختار الراحة من غير تردّد وتذبذب وإذا خيّر بين حياة وعيشة مكدّرة مشوبة واُخرى خالصة صافية إختار الخالصة الهنيئة قطعاً ولو فرض إبتلاؤه بما كان يميل عنه إلى غيره من حياة شقيّة رديّة أو عيشة منغصّة لم يزل يتمنّى الاُخرى الطيّبة الهنيئة فلا ينفكّ عن التحسّر له في قلبه وعن ذكره في لسانه وعن السعي إليه في عمله.

فلو كانوا صادقين في دعواهم أنّ السعادة الخالصة الاُخرويّة لهم دون غيرهم من الناس وجب أن يتمنّوه جناناً ولساناً أركاناً ولن يتمنّوه أبداً بما قدّمت أيديهم من قتل الأنبياء والكفر بموسى ونقض المواثيق والله عليم بالظالمين.

قوله تعالى: ( بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ) كناية عن العمل فإنّ معظم العمل عند الحسّ يقع بواسطة اليد فيقدّم بعد ذلك إلى من ينتفع به أو يطلبه ففيه عنايتان نسبة التقديم إلى الأيدي دون أصحاب الأيدي وعدّ كلّ عملاً للأيدي.

وبالجملة أعمال الإنسان وخاصّة ما يستمرّ صدوره منه أحسن دليل على ما طوى عليه ضميره وارتكز في باطنه والأعمال الطالحة والأفعال الخبيثه لا يكشف إلّا عن طويّة خبيثة تأبى أن تميل إلى القاء الله والحلول في دار أوليائه.

قوله تعالى: ( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ ) ، كالدليل المبيّن لقوله تعالى:( وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ) أي ويشهد على أنّهم لن يتمنّوا الموت، أنّهم أحرص الناس على هذه الحياة الدّنيا الّتي لا حاجب ولا مانع عن تمنّي الدار الآخرة إلّا الحرص عليها والإخلاد إليها، والتنكير في قوله تعالى: على حياة للتحقير كما قال تعالى:( وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) . العنكبوت - ٦٤.

٢٣٠

قوله تعالى: ( وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ) الظاهر أنّه عطف على الناس والمعنى ولتجدنّهم أحرص من الّذين أشركوا.

قوله تعالى: ( وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ) ، الظاهر أنّ ما نافية وضمير هو إمّا للشأن والقصّة وأن يعمّر مبتدأ خبره قوله: بمزحزحه أي بمبّعده، وإمّا راجع إلى ما يدلّ عليه قوله:( يَوَدُّ أَحَدُهُمْ ) ، أي وما الّذي يودّه بمزحزحه من العذاب، وقوله تعالى: أن يعمّر بيان له ومعنى الآية ولن يتمنّوا الموت وأقسم لتجدنّهم أحرص الناس على هذه الحياة الحقيرة الرديّة الصارفة عن تلك الحياة السعيدة الطيّبة بل تجدهم أحرص على الحياة من الّذين أشركوا الّذين لا يرون بعثاً ولا نشوراً يودّ أحدهم لو يعمّر أطول العمر وليس أطول العمر بمبعّده من العذاب لأنّ العمر وهو عمر بالاخرة محدود منتهٍ إلى أمد وأجل.

قوله تعالى: ( يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ) ، أي أطول العمر وأكثره، فالألف كناية عن الكثرة وهو آخر مراتب العدد بحسب الوضع الإفراديّ عند العرب والزائد عليه يعبّر عنه بالتكرير والتركيب كعشرة آلاف ومائة الف وألف ألف.

قوله تعالى: ( وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) ، البصير من أسمائه الحسنى ومعناه العلم بالمبصرات فهو من شعب إسم العليم.

قوله تعالى: ( قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ ) الخ. السياق يدلّ على أنّ الآية نزلت جواباً عمّا قالته اليهود وأنّهم تأبّوا واستنكفوا عن الإيمان بما أنزل على رسول الله (صلّي الله عليه و آله و سلّم)، وعلّلوه بأنّهم عدوّ لجبريل النازل بالوحي إليه. والشاهد على ذلك أنّ الله سبحانه يجيبهم في القرآن وفي جبريل معاً في الآيتين وما ورد من شأن النزول يؤيّد ذلك فأجاب عن قولهم: إنّا لا نؤمن بالقرآن لعداوتنا لجبريل النازل بهأوّلاً: أن جبريل إنّما نزل به على قلبك بإذن الله لا من عند نفسه فعداوتهم لجبريل لا ينبغي أن يوجب إعراضهم عن كلام نازل بإذن الله،وثانياً: أنّ القرآن مصدّق لما في أيديهم من الكتاب الحقّ ولا معنى للإيمان بأمر والكفر بما يصدّقه.وثالثاً: أنّ القرآن هدىً للمؤمنين به،ورابعاً: أنّه بشرى وكيف يصحّ لعاقل أن ينحرف عن الهداية ويغمض

٢٣١

عن البشرى ولو كان الآتي بذلك عدوّاً له.

وأجاب عن قولهم: إنّا عدوّ جبريل أنّ جبريل ملك من الملائكة لا شأن له إلّا إمتثال ما أمره به الله سبحانه كميكال وسائر الملائكة وهم عباد مكرمون لا يعصون الله فيما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وكذلك رسل الله لا شأن لهم إلّا بالله ومن الله سبحانه فبغضهم وإستعداؤهم بغض وإستعداء لله ومن كان عدوّاً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإنّ الله عدوّ لهم، وإلى هذين الجوابين تشير الآيتان.

قوله تعالى: ( فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ ) ، فيه إلتفات من التكلّم إلى الخطاب وكان الظاهر أن يقال على قلبي ، لكن بدّل من الخطاب للدلالة على أنّ القرآن كما لا شأن في إنزاله لجبريل وإنّما هو مأمور مطيع كذلك لا شأن في تلّقيه وتبليغه لرسول الله (صلّي الله عليه و آله و سلّم) إلّا أنّ قلبه وعاء للوحي لا يملك منه شيئاً وهو مأمور بالتبليغ.

واعلم أنّ هذه الآيات في أواخرها، أنواع الالتفات وإن كان الاساس فيها الخطاب لبني إسرائيل، غير أنّ الخطاب إذا كان خطاب لوم وتوبيخ وطال الكلام صار المقام مقام إستملال للحديث مع المخاطب وإستحقار. لشأنه فكان من الحريّ للمتكلّم البليغ الإعراض عن المخاطبة تارة بعد اُخرى بالالتفات بعد الالتفات للدلالة على أنّه لا يرضى بخطابهم لردائة سمعهم وخسّة نفوسهم ولا يرضى بترك خطابهم إظهاراً لحقّ القضاء عليهم.

قوله تعالى: ( عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ) ، فيه وضع الظاهر موضع المضمر والنكتة فيه الدلالة على علّة الحكم كأنّه قيل: فإنّ الله عدوّ لهم لأنّهم كافرون والله عدوّ للكافرين.

قوله تعالى: ( وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ) ، فيه دلالة على علّة الكفر وأنّه الفسق فهم لكفرهم فاسقون ولا يبعد أن يكون اللام في قولة : الفاسقون للعهد الذكريّ، ويكون ذلك إشارة إلى ما مرّ في أوائل السورة من قوله تعالى:( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) الآية.

وأمّا الكلام في جبريل وكيفيّة تنزيله القرآن على قلب رسول الله (صلّي الله عليه و آله و سلّم) وكذا الكلام في ميكال والملائكة فسيأتي فيما يناسبه من المحلّ إن شاء الله.

٢٣٢

( بحث روائي)

في المجمع في قوله تعالى: قل من كان عدوا لجبريل الآيتان، قال إبن عبّاس كان سبب نزول الآية ما روي أنّ ابن صوريا وجماعة من يهود أهل فدك لما قدم النبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم) المدينة سألوه فقالوا: يا محمّد كيف نومك ؟ فقد أخبرنا عن نوم النبيّ الّذي يأتي في آخر الزمان.

فقال تنام عيناي وقلبي يقظان. قالوا: صدقت يا محمّد فأخبرنا عن الولد يكون من الرجل أو المرأة ؟ فقال أمّا العظام والعصب والعروق فمن الرجل وأمّا اللحم والدم والظفر والشعر فمن المرأة. قالوا: صدقت يا محمّد فما بال الولد يشبه أعمامه وليس له من شبه أخواله شئ ؟ أو يشبه أخواله وليس فيه من شبه أعمامه شئ ؟ فقال أيّهما علا مائه كان الشبه له قالوا صدقت يا محمّد فأخبرنا عن ربّك ما هو ؟ فأنزل الله سبحانه:( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) إلى آخر السورة. فقال له إبن صوريا خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك واتّبعتك. أيّ ملك يأتيك بما ينزّل الله عليك ؟ قال: فقال جبرئيل. قال: ذاك عدوّنا ينزّل بالقتال والشدّة والحرب وميكائيل ينزل باليسر والرخاء فلو كان ميكائيل هو الّذي يأتيك لآمنّا بك.

أقول: قوله: تنام عيناى وقلبي يقظان، قد استفاض الحديث من العامّة والخاصّة أنّه كان رسول الله (صلّي الله عليه و آله و سلّم) تنام عينه ولا ينام قلبه ومعناه أنّه كان لا يغفل بالنوم عن نفسه فكان وهو في النوم يعلم أنّه نائم وأنّ ما يراه رؤياً يراها ليس باليقظة، وهذا أمر ربّما يتّفق للصّالحين أحياناً عند طهارة نفوسهم وإشتغالها بذكر مقام ربّهم وذلك أنّ إشراف النفس على مقام ربّها لا يدعها غافلة عمّا لها من طور الحياة الدنيويّة ونحو تعلّقها بربّها. وهذا نحو مشاهدة يبيّن للإنسان أنّه في عالم الحياة الدنيا على حال النوم سواء معه النوم الّذي يراه الناس نوماً فقطّ وكذا اليقظة الّتي يراها الناس يقظة وأنّ الناس وهم معتكفون على باب الحسّ مخلدون إلى أرض الطبيعة، رقود وان عدوّا أنفسهم أيقاظاً. فعن عليّعليه‌السلام : الناس نيام فإذا ماتوا إنتبهوا الحديث. وسيأتي زيادة استيفاء لهذا البحث وكذا الكلام في سائر فقرات هذا الحديث في مواضع مناسبة من هذا الكتاب إنشاء الله.

٢٣٣

( سورة البقرة الآيات ١٠٠ - ١٠١)

أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم  بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ( ١٠٠ ) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ( ١٠١ )

( بيان)

قوله تعالى: ( نَّبَذَهُ ) ، النبذ الطرح.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ ) ، المراد به رسول الله (صلّي الله عليه و آله و سلّم) لا كلّ رسول كان يأتيهم مصدّقاً لما معهم، لعدم دلالة قوله: ولمّا جائهم على الاستمرار بل إنّما يدلّ على الدفعة، والآية تشير إلى مخالفتهم للحقّ من حيث كتمانهم بشارة التوراة وعدم إيمانهم بمن يصدّق ما معهم.

٢٣٤

( سورة البقرة الآيات ١٠٢ - ١٠٣)

وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ  وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ  وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ  فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ  وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ  وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ  وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ  وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ  لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( ١٠٢ ) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللهِ خَيْرٌ  لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( ١٠٣ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ ) ، الخ، قد اختلف المفسّرون في تفسير الآية إختلافاً عجيباً لا يكاد يوجد نظيره في آية من آيات القرآن المجيد، فاختلفوا في مرجع ضمير قوله:( اتَّبَعُوا ) ، أهم اليهود الّذين كانوا في عهد سليمان، أو الّذين في عهد رسول الله (صلّي الله عليه و آله و سلّم) أو الجميع ؟ واختلفوا في قوله:( تَتْلُو ) ، هل هو بمعنى تتّبع الشياطين وتعمل به أو بمعنى تقرأ، أو بمعنى تكذب ؟ واختلفوا في قوله:( الشَّيَاطِينُ ) ، فقيل هم شياطين الجنّ وقيل شياطين الإنس وقيل هما معاً. واختلفوا في قوله:( عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) ، فقيل معناه في ملك سليمان، وقيل معناه في عهد ملك سليمان، وقيل معناه على ملك سليمان بحفظ ظاهر الاستعلاء في معنى على، وقيل معناه على عهد ملك سليمان، واختلفوا في قوله:( وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ) ، فقيل إنّهم كفروا بما إستخرجوه من السحر إلى الناس وقيل إنّهم كفروا بما نسبوه إلى سليمان من السحر، وقيل إنّهم سحروا فعبّر عن السحر بالكفر. واختلفوا في قوله:( يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) ، فقيل إنّهم ألقوا السحر

٢٣٥

إليهم فتعلّموه، وقيل إنّهم دلّوا الناس على إستخراج السحر وكان مدفوناً تحت كرسيّ سليمان فاستخرجوه وتعلّموه، واختلفوا في قوله:( وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) فقيل ما موصولة والعطف على قوله:( مَا تَتْلُو ) ، وقيل ما موصولة والعطف على قوله: السحر أي يعلمونهم ما أنزل على الملكين، وقيل ما نافية والواو إستينافيّة أي ولم ينزل على الملكين سحر كما يدّعيه اليهود. واختلفوا في معنى الإنزال فقيل إنزال من السماء وقيل بل من نجود الأرض وأعاليها. واختلفوا في قوله:( الْمَلَكَيْنِ ) ، فقيل كانا من ملائكة السماء، وقيل بل كانا إنسانين ملكين بكسر اللّام إن قرأناه، بكسر اللّام كما قرئ كذلك في الشواذّ، أو ملكين بفتح اللّام أي صالحين، أو متظاهرين بالصلاح. إن قرأناه على ما قرأ به المشهور. وإختلفوا في قوله:( بِبَابِلَ ) ، فقيل هي بابل العراق وقيل بابل دماوند، وقيل، من نصيبين إلى رأس العين، وإختلفوا في قوله:( وَمَا يُعَلِّمَانِ ) ، فقيل علّم بمعناه الظاهر، وقيل علّم بمعنى أعلم، واختلفوا في قوله:( فَلَا تَكْفُر ) ، فقيل لا تكفر بالعمل بالسحر، وقيل لا تكفر بتعلّمه، وقيل بهما معاً، و اختلفوا في قوله:( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا ) ، فقيل أي من هاروت وماروت، وقيل أي من السحر والكفر، وقيل بدلاً ممّا علّماه الملكان بالنهي إلى فعله. واختلفوا في قوله:( مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) ، فقيل أي يوجدون به حبّاً وبغضاً بينهما، وقيل إنّهم يغرّون أحد الزوجين ويحملونه على الكفر والشرك فيفرّق بينهما إختلاف الملّة والنحلة وقيل إنّهم يسعون بينهما بالنميمة والوشاية فيؤل إلى الفرقة، فهذه نبذة من الإختلاف في تفسير كلمات ما يشتمل على القصّة من الآية وجملة، وهناك إختلافات اُخر في الخارج من القصّة في ذيل الآية وفي نفس القصّة. وهل هي قصّة واقعة أو بيان على سبيل التمثيل ؟ أو غير ذلك ؟ وإذا ضربت بعض الأرقام الّتي ذكرناها من الاحتمالات في البعض الآخر، إرتقى الاحتمالات إلى كمّيّة عجيبة وهي ما يقرب من ألف ألف ومأتين وستّين ألف إحتمال ( ٤ + ٣ + ٢ )!.

وهذا لعمر الله من عجائب نظم القرآن تتردّد الآية بين مذاهب وإحتمالات تدهش العقول وتحيّر الألباب، والكلام بعد مُتّكٍ على أريكة حسنه متجمّل في أجمل جماله متحلّ بحليّ بلاغته وفصاحته وستمزّ بك نظيرة هذه الآية وهي قوله تعالى:( أَفَمَن

٢٣٦

كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً ) هود - ١٧.

والّذي ينبغي أن يقال: أنّ الآية بسياقها تتعرّض لشأن آخر من شئون اليهود وهو تداول السحر بينهم، وأنّهم كانوا يستندون في أصله إلى قصّة معروفة أو قصّتين معروفتين عندهم فيها ذكر من أمر سليمان النبيّ والملكين ببابل هاروت وماروت. فالكلام معطوف على ما عندهم من القصّة الّتي يزعمونها إلّا أنّ اليهود كما يذكره عنهم القرآن أهل تحريف وتغيير في المعارف والحقائق فلا يؤمنون ولا يؤمن من أمرهم أن يأتوا بالقصص التأريخيّة محرّفة مغيّرة على ما هو دأبهم في المعارف يميلون كلّ حين إلى ما يناسبه من منافعهم في القول والفعل وفيما يلوح من مطاوي جمل الآية كفاية. وكيف كان فيلوح من الآية أنّ اليهود كانوا يتناولون بينهم السحر ينسبونه إلى سليمان زعماً منهم أنّ سليمانعليه‌السلام إنّما ملك الملك وسخّر الجنّ والإنس والوحش والطير، وأتى بغرائب الاُمور وخوارقها بالسحر الّذي هو بعض ما في أيديهم، وينسبون بعضه الآخر إلى الملكين ببابل هاروت وماروت فردّ عليهم القرآن بأنّ سليمانعليه‌السلام لم يكن يعمل بالسحر، كيف والسحر كفر بالله وتصرّف في الكون على خلاف ما وضع الله العادة عليه وأظهره على خيال الموجودات الحيّة وحواسّها ؟ ولم يكفر سليمانعليه‌السلام وهو نبيّ معصوم، وهو قوله تعالى:( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) وقوله تعالى:( وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ) فسليمانعليه‌السلام أعلى كعباً وأقدس ساحة من أن ينسب إليه السحر والكفر وقد استعظم الله قدره في مواضع من كلامه في عدّة من السور المكّية النازلة قبل هذه السورة كسورة الأنعام والأنبياء والنمل وسورة ص وفيها أنّه كان عبداً صالحاً ونبيّاً مرسلاً آتاه الله العلم والحكمة ووهب له من الملك ما لا ينبغي لأحد من بعده فلم يكن بساحر بل هو من القصص الخرافيّة والأساطير الّتي وضعتها الشياطين وتلوها وقرأوها على أوليائهم من الإنس وكفروا بإضلالهم الناس بتعليم السحر. وردّ عليهم القرآن في الملكين ببابل هاروت وماروت بأنّه وإن أنزل عليهما ذلك ولا ضير في ذلك لأنّه فتنة وامتحان إلهيّ كما ألهم قلوب

٢٣٧

بني آدم وجوه الشرّ والفساد فتنة وامتحاناً وهو من القدر، فهما وإن أنزل عليهما السحر إلّا أنّهما ما كانا يعلّمان من أحد إلّا ويقولان له إنّما نحن فتنة فلا تكفر باستعمال ما تتعلّمه من السحر في غير مورده كإبطال السحر والكشف عن بغي أهله وهم مع ذلك يتعلّمون منهما ما يفسدون به أصلح ما وضعه الله في الطبيعة والعادة، فيفرّقون به بين المرء وزوجه إبتغاءاً للشرّ والفساد ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم. فقوله تعالى: واتبعوا أي اتّبعت اليهود الّذين بعد عهد سليمان بتوارث الخلف عن السلف ما تتلوا، أي تضع وتكذب الشياطين من الجنّ على ملك سليمان والدليل على أنّ تتلوا بمعنى تكذب تعديه بعلى وعلى أنّ الشياطين هم الجنّ كون هؤلاء تحت تسخير سليمان ومعذّبين بعذابه، وبذلك كانعليه‌السلام يحبسهم عن الإفساد، قال تعالى:( وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَٰلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ) الأنبياء - ٨٢، وقال تعالى:( فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ) السبأ - ١٤

قوله تعالى: ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ) ، أي والحال أنّ سليمان لم يسحر حتّى يكفر ولكنّ الشياطين كفروا، والحال أنّهم يضلّون الناس ويعلّمونهم السحر.

قوله تعالى: ( وَمَا أُنزِلَ ) ، أي واتّبعت اليهود ما أنزل بالإخطار والإلهام على الملكين ببابل هاروت وماروت، والحال أنّهما ما يعلمان السحر من أحد حتّى يحذّراه العمل به ويقولا إنّما نحن فتنة لكم وامتحان تمتحنون بنا بما نعلّمكم فلا تكفر باستعماله.

قوله تعالى: ( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا ) أي من الملكين وهما هاروت وماروت، ما يفرّقون به أي سحراً يفرّقون بعمله وتأثيره بين المرء وزوجه.

قوله تعالى: ( وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) ، دفع لما يسبق إلى الوهم أنّهم بذلك يفسدون أمر الصنع والتكوين ويسبقون تقدير الله ويبطلون أمره فدفعه بأنّ السحر نفسه من القدر لا يؤثّر إلّا بإذن الله فما هم بمعجزين، وإنّما قدّم هذه الجملة على قوله:( وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ) ، لأنّ هذه الجملة أعني:( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا

٢٣٨

مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) ، وحدها مشتملة على ذكر التأثير فأردفت بأنّ هذا التأثير بإذن الله.

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ) ، علموا ذلك بعقولهم لأنّ العقل لا يرتاب في أنّ السحر أشأم منابع الفساد في الاجتماع الإنسانيّ وعلموا ذلك أيضاً من قول موسى فإنّه القائل:( وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ ) طه - ٦٩.

قوله تعالى: ( وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) ، اي إنّهم مع كونهم عالمين بكونه شرّاً لهم مفسداً لآخرتهم غير عالمين بذلك حيث لم يعملوا بما علموا فإنّ العلم إذا لم يهد حامله إلى مستقيم الصراط كان ضلالاً وجهلاً لا علماً. قال تعالى:( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَىٰ عِلْمٍ ) الجاثية - ٢٣.

فهؤلاء مع علمهم بالأمر ينبغي أن يتمنّى المتمنّي لهم العلم والهداية.

قوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا ) ، الخ أي اتّبعوا الإيمان والتقوى، بدّل اتّباع أساطير الشياطين، والكفر بالسحر، وفيه دليل على أنّ الكفر بالسحر كفر في مرتبة العمل كترك الزكاة، لا كفر في مرتبة الاعتقاد، ولو كان السحر كفراً في الاعتقاد لقال تعالى:( وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ ) ، الخ، وإقتصر على الإيمان ولم يذكر التقوى فاليهود آمنوا ولكن لما لم يتقّوا ولم يرعوا محارم الله، لم يعبأ بإيمانهم فكانوا كافرين.

قوله تعالى: ( لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) ، أي من المثوبات والمنافع الّتي يرومونها بالسحر ويقتنونها بالكفر هذا.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ والقمّيّ في قوله تعالى:( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) عن الباقرعليه‌السلام في حديث: فلمّا هلك سليمان وضع إبليس السحر وكتبه في كتاب ثمّ طواه وكتب على ظهره، هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم من أراد كذا وكذا فليعمل كذا وكذا ثمّ دفنه تحت سريره ثمّ استتاره

٢٣٩

لهم فقرأه فقال الكافرون: ما كان يغلبنا سليمان إلّا بهذا، وقال المؤمنون: بل هو عبدالله ونبيّه، فقال الله جلّ ذكره: وإتّبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان.

أقول: إسناد الوضع والكتابة والقرائة إلى إبليس لا ينافي استنادها إلى سائر الشياطين من الجنّ والإنس لانتهاء الشرّ كلّه إليه وإنتشاره منه لعنه الله، إلى أوليائه بالوحي والوسوسة وذلك شائع في لسان الأخبار. وظاهر الحديث أنّ كلمة تتلوه من التلاوة بمعنى القرائة وهذا لا ينافي ما استظهرناه في البيان السابق: أنّ تتلو بمعنى تكذب لأنّ إفادة معنى الكذب من جهة التضمين أو ما يشبهه، وتقدير قوله: تتلوا الشياطين على ملك سليمان يقرؤنه كاذبين على ملك سليمان والأصل في معنى تلا يتلو رجوعه إلى معنى ولى يلى ولاية وهو أن يملك الشئ من حيث الترتيب ووقوع جزءٍ منه عقيب جزء آخر. وسيأتي الكلام فيه في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى:( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ ) المائدة - ٥٥.

وفي العيون: في حديث الرّضاعليه‌السلام مع المأمون وأمّا هاروت وماروت فكانا ملكين علّما الناس السحر ليتحرّزوا به عن سحر السحرة ويبطلوا كيدهم وما علّما أحداً من ذلك شيئاً إلّا قالا له إنّما نحن فتنة فلا تكفر فكفر قوم باستعمالهم لما اُمروا بالاحتراز عنه وجعلوا يفرّقون بما يعملونه بين المرء وزوجه، قال الله تعالى: وما هم بضارّين به من أحد إلّا بإذن الله.

وفي الدرّ المنثور أخرج إبن جرير عن إبن عبّاس، قال: كان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئاً من شأنه أعطى الجرادة وهي إمرأته خاتمه فلمّا أراد الله أن يبتلى سليمان بالّذي ابتلاه به أعطى الجرادة ذلك اليوم خاتمه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي فاخذه ولبسه فلمّا لبسه دانت له شياطين الجنّ والإنس فجائها سليمان فقال: هاتي خاتمي فقالت كذبت لست سليمان فعرف أنّه بلاء اُبتلى به فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيّام كتباً فيها سحر وكفر ثمّ دفنوها تحت كرسيّ سليمان ثمّ أخرجوها فقرأوها على الناس فقالوا إنّما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب فبرء الناس من سليمان وأكفروه حتّى بعث الله محمّداً وأنزل عليه: وما كفر سليمان ولكنّ الشياطين كفروا.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459