الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 165938
تحميل: 8430


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 165938 / تحميل: 8430
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قوله تعالى: ( أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ) ، يدلّ على مضىّ الواقعة وإنقضائها لمكان قوله، كان، فينطبق على كفّار قريش وفعالهم بمكّة كما ورد به النقل أنّ المانعين كفّار مكّة، كانوا يمنعون المسلمين عن الصلاة في المسجد الحرام والمساجد الّتي اتّخذوها بفناء الكعبة.

قوله تعالى: ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) ، المشرق والمغرب وكلّ جهة من الجهات حيث كانت فهي لله بحقيقة الملك الّتي لا تقبل التبدّل والانتقال، لا كالملك الّذي بيننا معاشر أهل الاجتماع، وحيث أنّ ملكه تعالى مستقرّ على ذات الشئ محيط بنفسه وأثره، لا كملكنا المستقرّ على أثر الأشياء ومنافعها، لا على ذاتها، والملك لا يقوم من جهة أنّه ملك إلّا بمالكه فالله سبحانه قائم على هذه الجهات محيط بها وهو معها، فالمتوجّه إلى شئ من الجهات متوجّه إليه تعالى.

ولمّا كان المشرق والمغرب جهتين إضافيّتين شملتا ساير الجهات تقريباً إذ لا يبقى خارجاً منهما إلّا نقطتا الجنوب والشمال الحقيقيّتان ولذلك لم يقيّد إطلاق قوله :( فَأَيْنَمَا ) ، بهما بأن يقال: أينما تولّوا منهما فكأنّ الإنسان أينما ولّى وجهه فهناك إمّا مشرق أو مغرب، فقوله: ولله المشرق والمغرب بمنزلة قولنا: ولله الجهات جميعاً وإنّما أخذ بهما لأنّ الجهات الّتي يقصدها الإنسان بوجهه إنّما تتعيّن بشروق الشمس وغروبها وسائر الأجرام العلويّة المنيرة.

قوله تعالى: ( فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) ، فيه وضع علّة الحكم في الجزاء موضع الجزاء، والتقدير - والله أعلم - فأينما تولّوا جاز لكم ذلك فإنّ وجه الله هناك ويدلّ على هذا التقدير تعليل الحكم بقوله تعالى:( إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ، أي إنّ الله واسع الملك والإحاطة عليم بقصودكم أينما توجّهت، لا كالواحد من الإنسان أو سائر الخلق الجسمانيّ لا يتوجّه إليه إلّا إذا كان في جهة خاصّة، ولا أنّه يعلم توجّه القاصد إليه إلّا من جهة خاصّة كقدّامه فقط، فالتّوجّه إلى كلّ جهة توجّه إلى الله، معلومٌ له سبحانه.

واعلم أنّ هذا توسعة في القبلة من حيث الجهة لا من حيث المكان، والدّليل عليه قوله: ولله المشرق والمغرب.

٢٦١

( بحث روائي)

في التهذيب عن محمّد بن الحصين قال: كتب إلى عبد صالح الرّجل يصلّي في يوم غيم في فلات من الأرض ولا يعرف القبلة فيصلّى حتّى فرغ من صلاته بدت له الشمس فإذا هو صلّى لغير القبلة يعتدّ بصلاته أم يعيدها ؟ فكتب يعيد ما لم يفت الوقت، أو لم يعلم أنّ الله يقول: - وقوله الحقّ - فأينما تولّوا فثمّ وجه الله.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الباقرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ) إلخ، قالعليه‌السلام : أنزل الله هذه الآية في التطوّع خاصّة فأينما تولّوا فثمّ وجه الله إنّ الله واسع عليم، وصلّى رسول الله إيماءً على راحلته أينما توجّهت به حين خرج إلى خيبر، وحين رجع من مكّة، وجعل الكعبة خلف ظهره.

أقول: وروى العيّاشيّ أيضاً قريباً من ذلك عن زرارة عن الصادقعليه‌السلام ، وكذا القمّىّ والشيخ عن أبي الحسنعليه‌السلام ، وكذا الصدوق عن الصادقعليه‌السلام .

وأعلم إنّك إذا تصفّحت أخبار أئمّة أهل البيت حقّ التصفّح، في موارد العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد من القرآن وجدتها كثيراً ما تستفيد من العامّ حكماً، ومن الخاصّ أعني: العامّ مع المخصّص حكماً آخر، فمن العامّ مثلاً الاستحباب كما هو الغالب ومن الخاصّ الوجوب، وكذلك الحال في الكراهة والحرمة، وعلى هذا القياس. وهذا أحد اُصول مفاتيح التفسير في الأخبار المنقولة عنهم، وعليه مدار جمّ غفير من أحاديثهم. ومن هنا يمكنك أن تستخرج منها في المعارف القرآنيّة قاعدتين:

أحداهما: أنّ كلّ جملة وحدها، وهي مع كلّ قيد من قيودها تحكي عن حقيقة ثابتة من الحقائق أو حكم ثابت من الأحكام كقوله تعالى:( قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) الانعام - ٩١، ففيه معان أربع: الأوّل: قل الله، والثاني: قل الله ثمّ ذرهم، والثالث: قل الله ثمّ ذرهم في خوضهم، والرابع: قل الله ثمّ ذرهم في خوضهم يلعبون. واعتبر نظير ذلك في كلّ ما يمكن.

والثانية: أنّ القصّتين أو المعنيين إذا اشتركا في جملة أو نحوها، فهما راجعان إلى مرجع واحد. وهذان سرّان تحتهما أسرار والله الهادي.

٢٦٢

( سورة البقرة الآيات ١١٦ - ١١٧)

وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا  سُبْحَانَهُ  بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ( ١١٦ ) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( ١١٧ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا ) يعطي السياق، أنّ المراد بالقائلين بهذه المقالة هم اليهود والنصارى: إذ قالت اليهود: عزيز ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، فإنّ وجه الكلام مع أهل الكتاب، وإنّما قال أهل الكتاب هذه الكلمة أعني قولهم: اتّخذ الله ولداً أوّل ما قالوها تشريفاً لأنبيائهم كما قالوا: نحن أبناء الله وأحبّاؤه ثمّ تلبّست بلباس الجدّ والحقيقة فردّ الله سبحانه عليهم في هاتين الآيتين فأضرب عن قولهم بقوله:( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ) إلخ، ويشتمل على برهانين ينفي كلّ منهما الولادة وتحقّق الولد منه سبحانه، فإنّ اتّخاذ الولد هو أن يجزّئ موجود طبيعيّ بعض أجزاء وجوده، ويفصّله عن نفسه فيصيّره بتربية تدريجيّة فرداً من نوعه مماثلاً لنفسه، وهو سبحانه منزّه عن المثل، بل كلّ شئ ممّا في السماوات والأرض مملوك له، قائم الذات به، قانت ذليل عند ذلّة وجوديّة، فكيف يكون شئ من الأشياء ولداً له مماثلاً نوعيّاً بالنسبه إليه ؟ وهو سبحانه بديع السماوات والأرض، إنّما يخلق ما يخلق على غير مثال سابق، فلا يشبه شئ من خلقه خلقاً سابقاً، ولا يشبه فعله فعل غيره في التقليد والتشبيه ولا في التدريج، والتوصّل بالأسباب إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون من غير مثال سابق ولا تدريج، فكيف يمكن أن ينسب إليه اتّخاذ الولد ؟ وتحقّقه يحتاج إلى تربية وتدريج، فقوله:( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) برهان تامّ، وقوله:( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) برهان آخر تامّ، هذا. ويستفاد من الآيتين:

٢٦٣

أوّلاً: شمول حكم العبادة لجميع المخلوقات ممّا في السماوات والأرض.

وثانياً: أنّ فعله تعالى غير تدريجيّ، ويستدرج من هنا، أنّ كلّ موجود تدريجيّ فله وجه غير تدريجيّ، به يصدر عنه تعالى كما قال تعالى:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) يس - ٨٢، وقال تعالى:( وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) القمر - ٥٠، وتفصيل القول في هذه الحقيقة القرآنيّة، سيأتي إنشاء الله في ذيل قوله:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا ) يس - ٨٢، فانتظر.

قوله تعالى: ( سُبْحَانَهُ ) مصدر بمعنى التسبيح وهو لا يستعمل إلّا مضافاً وهو مفعول مطلق لفعل محذوف أي سبّحته تسبيحاً، فحذف الفعل وأضيف المصدر إلى الضمير المفعول وأقيم مقامه. وفي الكلمة تأديب إلهيّ بالتنزيه فيما يذكر فيه ما لا يليق بساحة قدسة تعالى و تقدّس.

قوله تعالى: ( كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) ، القنوت العبادة والتذلّل.

قوله تعالى: ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ ) ، بداعة الشئ كونه لا يماثل غيره ممّا يعرف ويؤنس به.

قوله تعالى: ( فَيَكُونُ ) ، تفريع على قول كن وليس في مورد الجزاء حتّى يجزم.

( بحث روائي)

في الكافي والبصائر، عن سدير الصيرفيّ، قال: سمعت عمران بن أعين يسأل أباجعفرعليه‌السلام عن قول الله تعالى:( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) ، فقال أبوجعفرعليه‌السلام : إنّ الله عزّوجلّ ابتدع الأشياء كلّها بعلمه على غير مثال كان قبله، فابتدع السماوات والأرضين ولم يكن قبلهنّ سماوات ولا أرضون أما تسمع لقوله: وكان عرشه على الماء ؟.

أقول: وفي الرواية إستفادة اُخرى لطيفة، وهي أنّ المراد بالماء في قوله تعالى: وكان عرشه على الماء غير المصداق الّذي عندنا من الماء بدليل أنّ الخلقة مستوية على البداعة وكانت السلطنة الإلهيّة قبل خلق هذه السماوات والأرض مستقرّة مستوية على الماء فهو غير الماء وسيجئ تتمّة الكلام في قوله تعالى:( وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ) هود - ٧.

٢٦٤

( بحث علمي وفلسفي)

دلّ التجارب على افتراق كلّ موجودين في الشخصيّات وإن كانت متّحدة في الكلّيّات حتّى الموجودان اللّذان لا يميّز الحسّ جهة الفرقة بينهما فالحسّ المسلّح يدرك ذلك منهما، والبرهان الفلسفيّ أيضاً يوجب ذلك، فإنّ المفروضين من الموجودين لو لم يتميّز أحدهما من الآخر بشئ خارج عن ذاته، كان سبب الكثرة المفروضة غير خارج من ذاتهما فيكون الذات صرفة غير مخلوطة، وصرف الشئ لا يتثنّى ولا يتكرّر، فكان ما هو المفروض كثيراً واحداً غير كثير هف. فكلّ موجود مغاير الذات لموجود آخر، فكلّ موجود فهو بديع الوجود على غير مثال سابق ولا معهود، والله سبحانه هو المبتدع بديع السماوات والأرض.

٢٦٥

( سورة البقرة الآيات ١١٨ - ١١٩)

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ  كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ  تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ  قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( ١١٨ ) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا  وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ( ١١٩ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) هم المشركون غير أهل الكتاب ويدلّ عليه المقابلة السابقة في قوله تعالى: وقالت اليهود ليست النصارى على شئ، وقالت النصارى ليست اليهود على شئ، وهم يتلون الكتاب كذلك، قال الّذين لا يعلمون مثل قولهم الآية. ففي تلك الآية ألحق أهل الكتاب في قولهم بالمشركين والكفّار من العرب، وفي هذه الآية ألحق المشركين والكفّار بهم، فقال:( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم ) - وهم أهل الكتاب واليهود من بينهم - حيث اقترحوا بمثل هذه الأقاويل على نبيّ الله موسىعليه‌السلام ، فهم والكفّار متشابهون في أفكارهم وآرائهم، يقول هؤلاء ما قاله أولئك وبالعكس، تشابهت قلوبهم.

قوله تعالى: ( قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) جواب عن قول الّذين لا يعلمون إلخ، والمراد أنّ الآيات الّتي يطالبون بها مأتيّة مبينّة، ولكن لا ينتفع بها إلّا قوم يوقنون بآيات الله، وأمّا هؤلاء الّذين لا يعلمون، فقلوبهم محجوبة بحجاب الجهل، مؤفة بآفات العصبيّة والعناد، وما تغني الآيات عن قوم لا يعلمون. ومن هنا يظهر وجه توصيفهم بعدم العلم، ثمّ أيّد ذلك بتوجيه الخطاب إلى رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) والإشعار بأنّه مرسل من عند الله بالحقّ بشيراً ونذيراً، فلتطب به نفسه، وليعلم أنّ هؤلاء أصحاب الجحيم، مكتوب عليهم ذلك، لا مطمع في هدايتهم ونجاتهم.

قوله تعالى: ( وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ) ، يجري مجرى قوله:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) البقرة - ٦.

٢٦٦

( سورة البقرة الآيات ١٢٠ - ١٢٣)

وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ  قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَىٰ  وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ  مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ( ١٢٠ ) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ  وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( ١٢١ ) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ١٢٢ ) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ( ١٢٣ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ ) ، رجوع إلى الطائفتين بعد الالتفات إلى غيرهم، وهو بمنزلة جمع أطراف الكلام على تفرّقها وتشتّتها، فكأنّه بعد هذه الخطابات والتوبيخات هم يرجع إلى رسوله ويقول له: هؤلاء ليسوا براضين عنك، حتّى تتّبع ملّتهم الّتي ابتدعوها بأهوائهم ونظموها بآرائهم، ثمّ أمره بالردّ عليهم بقوله:( قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَىٰ ) أي إنّ الاتّباع إنّما هو لغرض الهدى ولا هدى إلّا هدى الله والحقّ الّذي يجب أن يتّبع وغيره - وهو ملّتكم - ليس بالهدى، فهي أهواؤكم ألبستموها لباس الدين وسمّيتموها بإسم الملّة، ففي قوله: قل إنّ هدى الله إلخ، جعل الهدى كناية عن القرآن النازل، ثمّ أضيف إلى الله فأفاد صحّة الحصر في قوله:( إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَىٰ ) على طريق قصرالقلب، وأفاد ذلك خلوّ ملّتهم عن الهدى، وأفاد ذلك كونها أهوائاً لهم، واستلزم ذلك كون ما عند النبيّ علماً، وكون ما عندهم

٢٦٧

جهلاً، واتّسع المكان لتعقيب الكلام بقوله: ولئن اتّبعت أهوائهم بعد الّذي جائك من العلم، ما لك من الله من وليّ ولا نصير، فانظر إلى ما في هذا الكلام من أصول البرهان العريقة، ووجوه البلاغة على إيجازه، وسلاسة البيان وصفائه.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ) يمكن أن تكون الجملة بقرينة الحصر المفهوم من قوله: أولئك يؤمنون به جواباً للسؤال المقدّر الّذي يسوق الذهن إليه قوله تعالى:( وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ ) إلخ، وهو أنّهم إذا لم يكن مطمع في إيمانهم، فمن ذا الّذي يؤمن منهم ؟ وهل توجيه الدعوة إليهم باطل لغو ؟ فأجيب بأنّ الّذين آتيناهم الكتاب والحال أنّهم يتلونه حقّ تلاوته، اُؤلئك يؤمنون بكتابهم فيؤمنون بك، أو أنّ اُؤلئك يؤمنون بالكتاب، كتاب الله المنزل أيّاما كان، أو أنّ اُؤلئك يؤمنون بالكتاب الّذي هو القرآن. و عليهذا: فالقصر في قوله: اُؤلئك يؤمنون به قصر أفراد والضمير في قوله: به على بعض التقادير لا يخلو عن استخدام. والمراد بالّذين اوتوا الكتاب قوم من اليهود والنصارى ليسوا متّبعين للهوى من أهل الحقّ منهم، وبالكتاب التوراة والإنجيل، وإن كان المراد بهم المؤمنين برسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وبالكتاب القرآن، فالمعنى: إنّ الّذين آتيناهم القرآن، وهم يتلونه حقّ تلاوته اُؤلئك يؤمنون بالقرآن، لا هؤلاء المتّبعون لأهوائهم، فالقصر حينئذ قصر قلب.

قوله تعالى: ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا ) ، إلى آخر الآيتين إرجاع ختم الكلام إلى بدئه، وآخره إلى أوّله، وعنده يختتم شطر من خطابات بني إسرائيل.

٢٦٨

( بحث روائي)

في إرشاد الديلميّ عن الصادقعليه‌السلام : في قوله:( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ) ، قال: يرتّلون آياته ويتفقّهون به ويعملون بأحكامه، ويرجون وعده ويخافون وعيده، ويعتبرون بقصصه، ويأتمرون بأوامره، وينتهون بنواهيه، ما هو والله حفظ آياته، ودرس حروفه، وتلاوة سوره، ودرس أعشاره وأخماسه، حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده، وإنّما هو تدبّر آياته والعمل بأحكامه، قال الله تعالى: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبّروا آياته.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ: يتلونه حقّ تلاوته قالعليه‌السلام الوقوف عند الجنّة والنار.

أقول: والمراد به التدبّر.

وفي الكافي عنهعليه‌السلام : في الآية قالعليه‌السلام هم الأئمّة.

أقول: وهو من باب الجرى والانطباق على المصداق الكامل.

٢٦٩

( سورة البقرة الآية ١٢٤)

وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ  قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا  قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي  قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( ١٢٤ )

( بيان)

شروع بجمل من قصص إبراهيمعليه‌السلام وهو كالمقدّمة والتوطئة لآيات تغيير القبلة وآيات أحكام الحجّ، وما معها من بيان حقيقة الدين الحنيف الإسلاميّ بمراتبها: من أصول المعارف، والأخلاق، والأحكام الفرعيّة الفقهيّة جملاً، والآيات مشتملة على قصّة اختصاصه تعالى إيّاه بالإمامة وبنائه الكعبة ودعوته بالبعثة.

فقوله تعالى: ( وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ ) إلخ، إشارة إلى قصّة إعطائه الإمامة وحبائه بها، والقصّة إنّما وقعت في أواخر عهد إبراهيمعليه‌السلام بعد كبره وتولّد إسماعيل، وإسحق له وإسكانه إسماعيل وأمّه بمكّة، كما تنبّه به بعضهم أيضاً، والدليل على ذلك قولهعليه‌السلام على ما حكاه الله سبحانه بعد قوله تعالى له: إنّي جاعلك للناس إماماً، قال:( وَمِن ذُرِّيَّتِي ) ، فإنّهعليه‌السلام قبل مجئ الملائكة ببشارة إسماعيل وإسحق، ما كان يعلم ولا يظنّ أن سيكون له ذرّيّة من بعده حتّى أنّه بعد ما بشرّته الملائكة بالأولاد خاطبهم بما ظاهره اليأس والقنوط كما قال تعالى:( وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ ) ، الحجر - ٥٥، وكذلك زوجته على ما حكاه الله تعالى في قصّة بشارته أيضاً إذ قال تعالى:( وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) هود - ٧٣، وكلامهما كما ترى يلوح منه. آثار اليأس والقنوط ولذلك قابلته الملائكة بنوع كلام فيه تسليتهما وتطييب أنفسهما فما كان هو ولا

٢٧٠

أهله يعلم أن سيرزق ذرّيّة، وقولهعليه‌السلام :( وَمِن ذُرِّيَّتِي ) ، بعد قوله تعالى:( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ، قول من يعتقد لنفسه ذرّيّة، وكيف يسع من له أدنى دربة بأدب الكلام وخاصّة مثل إبراهيم الخليل في خطاب يخاطب به ربّه الجليل أن يتفوّه بما لا علم له به ؟ ولو كان ذلك لكان من الواجب أن يقول: ومن ذرّيّتي إن رزقتني ذرّيّة أو ما يؤدّى هذا المعنى فالقصّة واقعة كما ذكرنا في أواخر عهد إبراهيم بعد البشارة.

على أنّ قوله تعالى:( وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) قال:( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ، يدلّ على أن هذه الإمامة الموهوبة إنّما كانت بعد ابتلائه بما ابتلاه الله به من الامتحانات وليست هذه إلّا أنواع البلاء الّتي ابتلىعليه‌السلام بها في حياته، وقد نصّ القرآن على أنّ من أوضحها بلاء قضيّة ذبح إسمعيل. قال تعالى:( قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ - إلى ان قال -إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ) الصافات - ١٠٦.

والقضيّة إنّما وقعت في كبر إبراهيم، كما حكى الله تعالى عنه من قوله:( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ) إبراهيم - ٣٩.

ولنرجع إلى ألفاظ الآية فقوله:( وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ ) ، الابتلاء والبلاء بمعنى واحد تقول: ابتليته وبلوته بكذا أي امتحنته واختبرته، إذا قدّمت إليه أمراً أو أوقعته في حدث فاختبرته بذلك واستظهرت ما عنده من الصفات النفسانيّة الكامنة عنده كالإطاعة والشجاعة والسخاء والعفّة والعلم والوفاء أو مقابلاتها، ولذلك لا يكون الابتلاء إلّا بعمل فإنّ الفعل هو الذى يظهر به الصفات الكامنة من الإنسان دون القول الّذي يحتمل الصدق والكذب. قال تعالى:( إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ) ن - ١٧، وقال تعالى:( إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ ) البقرة - ٢٤٩.

فتعلّق الابتلاء، في الآية بالكلمات إن كان المراد بها الأقوال إنّما هو من جهة تعلّقها با لعمل وحكايتها عن العهود والأوامر المتعلّقة بالفعل كقوله تعالى:( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ) البقرة - ٨٣، أي عاشروهم معاشرة جميلة وقوله :( بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) ، الكلمات وهي جمع كلمة وإن أطلقت في القرآن على العين الخارجيّ دون اللفظ والقول، كقوله تعالى:( بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) آل عمران - ٤٥، إلّا أنّ ذلك بعناية إطلاق

٢٧١

القول كما قال تعالى:( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) آل عمران - ٥٩.

وجميع ما نسب إليه تعالى من الكلمة في القرآن أريد بها القول كقوله تعالى:( وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ) الأنعام - ٣٤، وقوله:( لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ) يونس - ٦٤، وقوله:( يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ) الانفال - ٧، وقوله:( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ) يونس - ٩٦، وقوله:( وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ ) الزمر - ٧١، وقوله:( وَكَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ) المؤمن - ٦، وقوله:( وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) الشورى - ١٤، وقوله:( وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا ) التوبة - ٤١، وقوله:( قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ) ص - ٨٤، وقوله:( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) النحل - ٤٠، فهذه ونظائرها اُريد بها القول بعناية أنّ القول توجيه ما يريد المتكلّم إعلامه المخاطب ما عنده كما في الأخبار أو لغرض تحميله عليه كما في الإنشاء ولذلك ربّما تتّصف في كلامه تعالى بالتمام كقوله تعالى:( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) الأنعام - ١١٥، وقوله تعالى:( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) الأعراف - ١٣٧ كأنّ الكلمة إذا صدرت عن قائلها فهي ناقصة بعد، لم تتمّ، حتّى تلبس لباس العمل وتعود صدقاً.

وهذا لا ينافي كون قوله تعالى فعله، فإنّ الحقائق الواقعيّة لها حكم، وللعنايات الكلاميّة اللفظيّة حكم آخر، فما يريد الله سبحانه إظهاره لواحد من أنبيائه، أو غيرهم بعد خفائه، أو يريد تحميله على أحد قول وكلام له لاشتماله على غرض القول والكلام وتضمّنه غاية الخبر والنبأ، والأمر والنهي، وإطلاق القول والكلمة على مثل ذلك شائع في الاستعمال إذا اشتمل على ما يؤدّيه القول والكلمة. تقول: لأفعلنّ كذا وكذا، لقول قلته وكلمة قدّمتها، ولم تقل قولاً، ولا قدّمت كلمة، وإنّما عزمت عزيمة لا تنقضها شفاعة شفيع أو وهن إرادة، ومنه قول عنترة:

وقولي كلّما جشأت وجاشت

مكانك تحمدى أو تستريحي

٢٧٢

يريد بالقول توطين نفسه على الثبات والعزم، على لزومها مكانها لتفوز بالحمد إن قتل، وبالاستراحة إن غلب.

إذا عرفت ذلك ظهر لك أنّ المراد بقوله تعالى:( بِكَلِمَاتٍ ) ، قضايا ابتلى بها وعهود إلهيّة أريدت منه، كابتلائه بالكواكب والأصنام، والنار والهجرة وتضحيته بابنه وغير ذلك ولم يبيّن في الكلام ما هي الكلمات لأنّ الغرض غير متعلّق بذلك. نعم قوله:( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ، من حيث ترتّبه على الكلمات تدلّ على أنّها كانت أموراً تثبت بها لياقته، عليه السلام لمقام الإمامة.

فهذه هي الكلمات وأمّا إتمامهنّ فإن كان الضمير في قوله تعالى: أتمّهنّ راجعاً إلى إبراهيم كان معنى إتمامهنّ إتيانه عليه السلام ما أريد منه، وامتثاله لما أمر به، وإن كان الضمير راجعاً إليه تعالى كما هو الظاهر كان المراد توفيقه لما أريد منه، ومساعدته على ذلك، وأمّا ما ذكره بعضهم: أنّ المراد بالكلمات قوله تعالى:( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ، إلى آخر الآيات فمعنى لا ينبغي الركون إليه إذ لم يعهد في القرآن إطلاق الكلمات على جمل الكلام.

قوله تعالى: ( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ، أي مقتدى يقتدى بك الناس، ويتّبعونك في أقوالك وأفعالك، فلإمام هو الّذي يقتدي ويأتمّ به الناس، ولذلك ذكر عدّة من المفسّرين أنّ المراد به النبوّة، لأنّ النبيّ يقتدي به اُمّته في دينهم، قال تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ ) النساء - ٦٤، لكنّه في غاية السقوط.

أمّاأولا: فلأنّ قوله: إماماً، مفعول ثان لعامله الّذي هو قوله: جاعلك واسم الفاعل لا يعمل إذا كان بمعنى الماضي، وإنّما يعمل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال فقوله،( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ، وعدلهعليه‌السلام بالإمامة في ما سيأتي، مع أنّه وحي لا يكون إلّا مع نبوّة، فقد كان (ع) نبيّاً قبل تقلّده الإمامة فليست الإمامة في الآية بمعنى النبوّة (ذكره بعض المفسّرين).

وأمّاثانياً: فلأنّا بيّنا في صدر الكلام: أنّ قصّة الإمامة، إنّما كانت في أواخر عهد إبراهيمعليه‌السلام بعد مجئ البشارة له بإسحق وإسماعيل، وإنّما جائت الملائكة

٢٧٣

بالبشارة في مسيرهم إلى قوم لوط وإهلاكهم، وقد كان إبراهيم حينئذ نبيّاً مرسلاً، فقد كان نبيّاً قبل أن يكون إماماً، فإمامته غير نبوّته.

ومنشأ هذا التفسير وما يشابهه الابتذال الطاري على معاني الألفاظ الواقعة في القرآن الشريف في أنظار الناس من تكرّر الاستعمال بمرور الزمن ومن جملة تلك الألفاظ لفظ الإمامة، ففسرّه قوم: بالنبوّة والتقدّم والمطاعيّة مطلقاً، وفسّره آخرون بمعنى الخلافة أو الوصاية، أو الرئاسة في اُمور الدين والدنيا - وكلّ ذلك لم يكن - فإنّ النبوّة معناها: تحمّل النبأ من جانب الله، والرسالة معناها تحمّل التبليغ. والمطاعيّة والإطاعة قبول الإنسان ما يراه أو يأمره غيره وهو من لوازم النبوّة والرسالة، والخلافة نحو من النيابة، وكذلك والوصاية، والرئاسة نحو من المطاعيّة وهو مصدريّة الحكم في الاجتماع وكلّ هذه المعاني غير معنى الإمامة الّتي هي كون الإنسان بحيث يقتدى به غيره بأن يطّبق أفعاله وأقواله على أفعاله وأقواله بنحو التبعيّة. ولا معنى لأن يقال لنبيّ من الأنبياء مفترض الطاعة إنّي جاعلك للناس نبيّاً، أو مطاعاً فيما تبلّغه بنبوّتك، أو رئيساً تأمر وتنهى في الدين، أو وصيّاً، أو خليفة في الأرض تقضي بين الناس في مرافعاتهم بحكم الله.

وليست الإمامة تخالف الكلمات السابقة وتختصّ بموردها بمجرّد العناية اللّفظيّة فقط، إذ لا يصحّ أن يقال لنبيّ - من لوازم نبوّته كونه مطاعاً بعد نبوّته - إنّي جاعلك مطاعاً للناس بعد ما جعلتك كذلك، ولا يصحّ أن يقال له ما يؤل إليه معناه وإن اختلف بمجرّد عناية لفظيّة، فإنّ المحذور هو المحذور، وهذه المواهب الإلهيّة ليست مقصورة على مجرّد المفاهيم اللفظيّة، بل دونها حقائق من المعارف الحقيقيّة، فلمعنى الإمامة حقيقة وراء هذه الحقائق.

والّذي نجده في كلامه تعالى: أنّه كلّما تعرّض لمعنى الإمامة تعرّض معها للهداية تعرّض التفسير. قال تعالى في قصص إبراهيمعليه‌السلام :( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) الأنبياء - ٧٣، وقال سبحانه:( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) السجدة - ٢٤، فوصفها بالهداية وصف تعريف، ثمّ قيدها بالأمر، فبيّن أنّ الإمامة ليست مطلق

٢٧٤

الهداية، بل هي الهداية الّتي تقع بأمر الله، وهذا الأمر هو الّذي بيّن حقيقته في قوله:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ) يس - ٨٣، وقوله:( وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) القمر - ٥٠، وسنبيّن في الآيتين أنّ الأمر الإلهيّ وهو الّذي تسمّيه الآية المذكورة بالملكوت وجهٌ آخر للخلق، يواجهون به الله سبحانه، طاهرٌ مطهّر من قيود الزمان والمكان، خال من التغيّر والتبدّل وهو المراد بكلمة - كن - الّذي ليس إلّا وجود الشئ العينيّ، وهو قبال الخلق الّذي هو وجهٌ آخر من وجهي الأشياء فيه التغيّر والتدريج والانطباق على قوانين الحركة والزمان، وليكن هذا عندك على إجماله حتّى يأتيك تفصيله إنشاء الله العزيز.

وبالجملة فلإمام هاد يهدي بأمرٍ ملكوتيّ يصاحبه، فلإمامة بحسب الباطن نحو ولاية للناس في أعمالهم، وهدايتها إيصالها إيّاهم إلى المطلوب بأمر الله دون مجرّد إرائة الطريق الّذي هو شأن النبيّ والرسول وكلّ مؤمن يهدي إلى الله سبحانه بالنصح والموعظة الحسنة، قال تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ) إبراهيم - ٤، وقال تعالى: في مؤمن آل فرعون( وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ) مؤمن - ٣٨، وقال تعالى:( فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) التوبة - ١٢٢، وسيتّضح لك هذا المعنى مزيد إتضاح.

ثمّ إنّه تعالى بيّن سبب موهبة الإمامة بقوله:( لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) الآية فبيّن أنّ الملاك في ذلك صبرهم في جنب الله - وقد أطلق الصبر - فهو في كلّ ما يبتلي ويمتحن به عبدٌ في عبوديّته، وكونهم قبل ذلك موقنين، وقد ذكر في جملة قصص إبراهيمعليه‌السلام قوله:( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الانعام - ٧٥، والآية كما ترى تعطي بظاهرها: أنّ إرائة الملكوت لإبراهيم كانت مقدّمة لإفاضة اليقين عليه، ويتبيّن به أنّ اليقين لا ينفكّ عن مشاهدة الملكوت كما هو ظاهر قوله تعالى:( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) التكاثر - ٦ وقوله تعالى:( كَلَّا بَل رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ

٢٧٥

- إلى أن قال -كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) المطفّفين - ٢١، وهذه الآيات تدلّ على أنّ المقرّبين هم الّذين لا يحجبون عن ربّهم بحجاب قلبيّ وهو المعصية والجهل والريب والشكّ، فهم أهل اليقين بالله، وهم يشهدون علّيّين كما يشهدون الجحيم.

وبالجملة فلإمام يجب أن يكون إنساناً ذايقين مكشوفاً له عالم الملكوت - متحقّقاً بكلمات من الله سبحانه - وقد مرّ أنّ الملكوت هو الأمر الّذي هو الوجه الباطن من وجهي هذا العالم، فقوله تعالى:( يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ، يدلّ دلالة واضحة على أنّ كلّ ما يتعلّق به أمر الهداية - وهو القلوب والأعمال - فللإمام باطنه وحقيقتة، ووجهه الأمري حاضر عنده غير غائب عنه، ومن المعلوم أنّ القلوب والأعمال كسائر الأشياء في كونها ذات وجهين، فلإمام يحضر عنده ويلحق به أعمال العباد، خيرها وشرّها، وهو المهيمن على السبيلين جميعاً، سبيل السعادة وسبيل الشقاوة. وقال تعالى أيضاً:( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) الاسراء - ٧١، وسيجئ تفسيره بالإمام الحقّ دون كتاب الأعمال، على ما يظنّ من ظاهرها، فلإمام هو الّذي يسوق الناس إلى الله سبحانه يوم تبلى السرائر، كما أنّه يسوقهم إليه في ظاهر هذه الحياة الدنيا وباطنها، والآية مع ذلك تفيد أنّ الإمام لا يخلو عنه زمانٌ من الأزمنة، وعصر من الأعصار، لمكان قوله تعالى :( كُلَّ أُنَاسٍ ) ، على ما سيجئ في تفسير الآية من تقريبه.

ثمّ إنّ هذا المعنى أعني الإمامة، على شرافته وعظمته، لا يقوم إلّا بمن كان سعيد الذات بنفسه، إذ الّذي ربّما تلبّس ذاته بالظلم والشقاء، فإنّما سعادته بهداية من غيره، وقد قال الله تعالى:( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ ) يونس - ٣٥. وقد قوبل في الآية بين الهادي إلى الحقّ وبين غير المهتدي إلّا بغيره، أعني المهتدي بغيره، وهذه المقابلة تقتضي أن يكون الهادي إلى الحقّ مهتدياً بنفسه، وأنّ المهتدي بغيره لا يكون هادياً إلى الحقّ البتّة.

ويستنتج من هنا أمران:أحدهما: أنّ الإمام يجب أن يكون معصوماً عن الضلال و المعصية، وإلّا كان غير مهتد بنفسه، كما مرّ كما، يدلّ عليه أيضاً قوله تعالى:

٢٧٦

( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) الأنبياء - ٧٣ فأفعال الأمام خيرات يهتدى إليها لا بهداية من غيره بل باهتداء من نفسه بتأييد إلهيّ، وتسديد ربّانيّ. والدليل عليه قوله تعالى:( فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) بناءً على أنّ المصدر المضاف يدلّ على الوقوع، ففرقٌ بين مثل قولنا: وأوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات فلا يدلّ على التحقّق والوقوع، بخلاف قوله:( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) فهو يدلّ على أن ما فعلوه من الخيرات إنّما هو بوحى باطنيّ وتأييد سماويّ.الثاني: عكس الأمر الأوّل وهو أنّ من ليس بمعصوم فلا يكون إمامً هاديً إلى الحقّ البتّة.

وبهذا البيان يظهر: أنّ المراد بالظالمين في قوله تعالى:( قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) مطلق من صدر عنه ظلمٌ ما، من شرك أو معصية، وإن كان منه في برهة من عمره، ثمّ تاب وصلح.

وقد سئل بعض أساتيدنا رحمة الله عليه: عن تقريب دلالة الآية على عصمة الأمام.

فأجاب: أنّ الناس بحسب القسمة العقليّة على أربعة أقسام: من كان ظالمً في جميع عمره، ومن لم يكن ظالمً في جميع عمره، ومن هو ظالمٌ في أوّل عمره دون آخره، ومن هو بالعكس هذا. وإبراهيمعليه‌السلام أجلّ شأنً من أن يسأل الأمامة للقسم الأوّل والرابع من ذرّيّته، فبقي قسمان وقد نفى الله أحدهما، وهو الّذي يكون ظالمً في أوّل عمره دون آخره، فبقي الآخر، وهو الّذي يكون غير ظالم في جميع عمره إنتهى وقد ظهر ممّا تقدّم من البيان أمور.

الأوّل: أنّ الأمامة لمجعولة.

الثاني: أنّ الأمام يجب أن يكون معصومً بعصمة إلهيّة.

الثالث: أنّ الأرض وفيه الناس، لا تخلو عن إمام حقّ.

الرابع: أنّ الأمام يجب أن يكون مؤيّدً من عند الله تعالى.

الخامس: أنّ أعمال العباد غير محجوبة عن علم الأمام.

السادس: أنّه يجب أن يكون عالمً بجميع ما يحتاج إليه الناس في امور

٢٧٧

معاشهم ومعادهم.

السابع: أنّه يستحيل أن يوجد فيهم من يفوقه في فضائل النفس.

فهذه سبعة مسائل هي أمّهات مسائل الأمامة، تعطيها الآية الشريفة بما ينضمّ إليها من الآيات والله الهادي.

فإن قلت: لو كانت الأمامة هي الهداية بأمر الله تعالى، وهي الهداية إلى الحقّ الملازم مع الاهتداء بالذات كما استفيد من قوله تعالى:( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ ) الآية كان جميع الأنبياء أئمّة قطعاً، لوضوح أنّ نبوّة النبيّ لا يتمّ إلّا باهتداء من جانب الله تعالى بالوحى، من غير أن يكون مكتسبً من الغير، بتعليم أو إرشاد ونحوهما، حينئذٍ فموهبة النبوّة تستلزم موهبة الأمامة، وعاد الإشكال إلى أنفسكم.

قلت: الّذي يتحصّل من البيان السابق المستفاد من الآية أنّ الهداية بالحقّ وهي الأمامة تستلزم الاهتداء بالحقّ، وأمّا العكس وهو أن يكون كلّ من اهتدى بالحقّ هاديً لغيره بالحقّ، حتّى يكون كلّ نبيّ لاهتدائه بالذات إمامً، فلم يتبيّن بعد، وقد ذكر سبحانه هذا الاهتداء بالحقّ، من غير أن يقرنه بهداية الغير بالحقّ في قوله تعالى:( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ذَٰلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) الانعام - ٩٠، وسياق الآيات كما ترى يعطي أنّ هذه الهداية أمرٌ ليس من شأنه أن يتغيّر ويتخلّف، وأنّ هذه الهداية لن ترتفع بعد رسول الله عن أمّته، بل عن ذرّيّة إبراهيم منهم خاصّة، كما يدلّ عليه قوله تعالى:( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي

٢٧٨

بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) الزخرف - ٢٨، فأعلم قومه ببرائته في الحال وأخبرهم بهدايته في المستقبل، وهي الهداية بأمر الله حقً، لا الهداية الّتي يعطيها النظر والاعتبار، فإنّها كانت حاصلة مدلولً عليها بقوله:( إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي ) ، ثمّ أخبر الله: أنّه جعل هذه الهداية كلمة بأقية في عقب إبراهيم، وهذا أحد الموارد الّتي أطلق القرآن الكلمة فيها على الأمر الخارجيّ دون القول، كقوله تعالى:( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا ) الفتح - ٢٦.

وقد تبيّن بما ذكر: أنّ الأمامة في ولد إبراهيم بعده، وفي قوله تعالى:( قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) إشارة إلى ذلك، فإن إبراهيمعليه‌السلام إنّما كان سأل الأمامة لبعض ذرّيّته لا لجميعهم، فأجيب: بنفيها عن الظالمين من ولده، وليس جميع ولده ظالمين بالضرورة حتّى يكون نفيها عن الظالمين نفيً لها عن الجميع، ففيه إجابةٌ لما سأله مع بيان أنّها عهد، وعهده تعالى لا ينال الظالمين.

قوله تعالى: ( لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ، في التعبير إشارة إلى غاية بعد الظالمين عن ساحة العهد الألهيّ، فهي من الاستعارة بالكناية.

( بحث روائي)

في الكافي عن الصادقعليه‌السلام : إنّ الله عزّوجلّ اتّخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتّخذه نبيّاً، وإنّ الله اتّخذه نبيّاً قبل أن يتّخذه رسولاً، وإنّ الله اتّخذه رسولاً قبل أن يتّخذه خليلاً، وأنّ الله اتّخذه خليلاً قبل أن يتّخذه إماماً، فلمّا جمع له الأشياء قال:( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) قالعليه‌السلام : فمن عظمها في عين إبراهيم قال: ومن ذرّيّتي قال لا ينال عهدي الظالمين قال: لا يكون السفيه إمام التقيّ.

أقول: وروي هذا المعنى أيضاً عنه بطريق آخر وعن الباقرعليه‌السلام بطريق آخر، ورواه المفيد عن الصادقعليه‌السلام .

قوله: إنّ الله اتّخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتّخذه نبيّاً، يستفاد ذلك من قوله

٢٧٩

تعالى:( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ - إلى قوله -مِّنَ الشَّاهِدِينَ ) الأنبياء - ٥٦، وهو اتّخاذٌ بالعبوديّة في أوّل أمر إبراهيم.

واعلم أنّ اتّخاذه تعالى أحداً من الناس عبداً غير كونه في نفسه عبداً، فإنّ العبديّة من الوازم الايجاد والخلقة، لا ينفكّ عن مخلوق ذي فهم وشعور، ولا يقبل الجعل والاتّخاذ وهو كون الإنسان مثلاً مملوك الوجود لربّه، مخلوقاً مصنوعاً له، سواء جرى في حياته على ما يستدعيه مملوكيّته الذاتيّة، واستسلم لربوبيّة ربّه العزيز، أو لم يجر على ذلك، قال تعالى:( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ) مريم - ٩٤، وإن كان إذا لم يجر على رسوم العبوديّة وسنن الرقيّة استكباراً في الأرض وعتوّاً كان من الحرّي أن لا يسمّى عبداً بالنظر إلى الغايات، فإنّ العبد هو الّذي أسلم وجه لربّه، وأعطاه تدبير نفسه، فينبغي أن لا يسمّى بالعبد إلّا من كان عبداً في نفسه وعبداً في عمله، فهو العبد حقيقة، قال تعالى:( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ) الفرقان - ٦٣. وعلي هذا فاتّخاذه تعالى إنساناً عبداً - وهو قبول كونه عبداً والإقبال عليه بالربوبيّة - هو الولاية وهو تولّي أمره كما يتولّى الربّ أمر عبده، والعبوديّة مفتاح للولاية، كما يدلّ عليه قوله تعالى:( إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) الأعراف - ١٩٦، أي اللائقين للولاية، فإنّه تعالى سمّى النبيّ في آيات من كتابه بالعبد. قال تعالى:( الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ ) الكهف - ١، وقال تعالى:( يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) الحديد - ٩، وقال تعالى:( قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ ) الجن - ١٩، فقد ظهر أنّ الإتّخاذ للعبوديّة هو الولاية.

وقولهعليه‌السلام :( وإنّ الله اتّخذه نبيّاً قبل أن يتّخذه رسولاً ) ، الفرق بين النبيّ الرسول على ما يظهر من الروايات المرويّة عن أئمّة أهل البيت: أنّ النبيّ هو الّذي يرى في المنام ما يوحي به إليه، والرسول هو الّذي يشاهد الملك فيكلمّه، والّذي يظهر من قصص إبراهيم هو هذا الترتيب، قال تعالى:( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا ) مريم - ٤٢، فظاهر الآية أنّهعليه‌السلام كان صدّيقاً نبيّاً حين يخاطب أباه بذلك، فيكون

٢٨٠