الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173047 / تحميل: 9112
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

قوله تعالى: ( أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ) ، يدلّ على مضىّ الواقعة وإنقضائها لمكان قوله، كان، فينطبق على كفّار قريش وفعالهم بمكّة كما ورد به النقل أنّ المانعين كفّار مكّة، كانوا يمنعون المسلمين عن الصلاة في المسجد الحرام والمساجد الّتي اتّخذوها بفناء الكعبة.

قوله تعالى: ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) ، المشرق والمغرب وكلّ جهة من الجهات حيث كانت فهي لله بحقيقة الملك الّتي لا تقبل التبدّل والانتقال، لا كالملك الّذي بيننا معاشر أهل الاجتماع، وحيث أنّ ملكه تعالى مستقرّ على ذات الشئ محيط بنفسه وأثره، لا كملكنا المستقرّ على أثر الأشياء ومنافعها، لا على ذاتها، والملك لا يقوم من جهة أنّه ملك إلّا بمالكه فالله سبحانه قائم على هذه الجهات محيط بها وهو معها، فالمتوجّه إلى شئ من الجهات متوجّه إليه تعالى.

ولمّا كان المشرق والمغرب جهتين إضافيّتين شملتا ساير الجهات تقريباً إذ لا يبقى خارجاً منهما إلّا نقطتا الجنوب والشمال الحقيقيّتان ولذلك لم يقيّد إطلاق قوله :( فَأَيْنَمَا ) ، بهما بأن يقال: أينما تولّوا منهما فكأنّ الإنسان أينما ولّى وجهه فهناك إمّا مشرق أو مغرب، فقوله: ولله المشرق والمغرب بمنزلة قولنا: ولله الجهات جميعاً وإنّما أخذ بهما لأنّ الجهات الّتي يقصدها الإنسان بوجهه إنّما تتعيّن بشروق الشمس وغروبها وسائر الأجرام العلويّة المنيرة.

قوله تعالى: ( فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) ، فيه وضع علّة الحكم في الجزاء موضع الجزاء، والتقدير - والله أعلم - فأينما تولّوا جاز لكم ذلك فإنّ وجه الله هناك ويدلّ على هذا التقدير تعليل الحكم بقوله تعالى:( إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ، أي إنّ الله واسع الملك والإحاطة عليم بقصودكم أينما توجّهت، لا كالواحد من الإنسان أو سائر الخلق الجسمانيّ لا يتوجّه إليه إلّا إذا كان في جهة خاصّة، ولا أنّه يعلم توجّه القاصد إليه إلّا من جهة خاصّة كقدّامه فقط، فالتّوجّه إلى كلّ جهة توجّه إلى الله، معلومٌ له سبحانه.

واعلم أنّ هذا توسعة في القبلة من حيث الجهة لا من حيث المكان، والدّليل عليه قوله: ولله المشرق والمغرب.

٢٦١

( بحث روائي)

في التهذيب عن محمّد بن الحصين قال: كتب إلى عبد صالح الرّجل يصلّي في يوم غيم في فلات من الأرض ولا يعرف القبلة فيصلّى حتّى فرغ من صلاته بدت له الشمس فإذا هو صلّى لغير القبلة يعتدّ بصلاته أم يعيدها ؟ فكتب يعيد ما لم يفت الوقت، أو لم يعلم أنّ الله يقول: - وقوله الحقّ - فأينما تولّوا فثمّ وجه الله.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الباقرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ) إلخ، قالعليه‌السلام : أنزل الله هذه الآية في التطوّع خاصّة فأينما تولّوا فثمّ وجه الله إنّ الله واسع عليم، وصلّى رسول الله إيماءً على راحلته أينما توجّهت به حين خرج إلى خيبر، وحين رجع من مكّة، وجعل الكعبة خلف ظهره.

أقول: وروى العيّاشيّ أيضاً قريباً من ذلك عن زرارة عن الصادقعليه‌السلام ، وكذا القمّىّ والشيخ عن أبي الحسنعليه‌السلام ، وكذا الصدوق عن الصادقعليه‌السلام .

وأعلم إنّك إذا تصفّحت أخبار أئمّة أهل البيت حقّ التصفّح، في موارد العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد من القرآن وجدتها كثيراً ما تستفيد من العامّ حكماً، ومن الخاصّ أعني: العامّ مع المخصّص حكماً آخر، فمن العامّ مثلاً الاستحباب كما هو الغالب ومن الخاصّ الوجوب، وكذلك الحال في الكراهة والحرمة، وعلى هذا القياس. وهذا أحد اُصول مفاتيح التفسير في الأخبار المنقولة عنهم، وعليه مدار جمّ غفير من أحاديثهم. ومن هنا يمكنك أن تستخرج منها في المعارف القرآنيّة قاعدتين:

أحداهما: أنّ كلّ جملة وحدها، وهي مع كلّ قيد من قيودها تحكي عن حقيقة ثابتة من الحقائق أو حكم ثابت من الأحكام كقوله تعالى:( قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) الانعام - ٩١، ففيه معان أربع: الأوّل: قل الله، والثاني: قل الله ثمّ ذرهم، والثالث: قل الله ثمّ ذرهم في خوضهم، والرابع: قل الله ثمّ ذرهم في خوضهم يلعبون. واعتبر نظير ذلك في كلّ ما يمكن.

والثانية: أنّ القصّتين أو المعنيين إذا اشتركا في جملة أو نحوها، فهما راجعان إلى مرجع واحد. وهذان سرّان تحتهما أسرار والله الهادي.

٢٦٢

( سورة البقرة الآيات ١١٦ - ١١٧)

وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا  سُبْحَانَهُ  بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ( ١١٦ ) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( ١١٧ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا ) يعطي السياق، أنّ المراد بالقائلين بهذه المقالة هم اليهود والنصارى: إذ قالت اليهود: عزيز ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، فإنّ وجه الكلام مع أهل الكتاب، وإنّما قال أهل الكتاب هذه الكلمة أعني قولهم: اتّخذ الله ولداً أوّل ما قالوها تشريفاً لأنبيائهم كما قالوا: نحن أبناء الله وأحبّاؤه ثمّ تلبّست بلباس الجدّ والحقيقة فردّ الله سبحانه عليهم في هاتين الآيتين فأضرب عن قولهم بقوله:( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ) إلخ، ويشتمل على برهانين ينفي كلّ منهما الولادة وتحقّق الولد منه سبحانه، فإنّ اتّخاذ الولد هو أن يجزّئ موجود طبيعيّ بعض أجزاء وجوده، ويفصّله عن نفسه فيصيّره بتربية تدريجيّة فرداً من نوعه مماثلاً لنفسه، وهو سبحانه منزّه عن المثل، بل كلّ شئ ممّا في السماوات والأرض مملوك له، قائم الذات به، قانت ذليل عند ذلّة وجوديّة، فكيف يكون شئ من الأشياء ولداً له مماثلاً نوعيّاً بالنسبه إليه ؟ وهو سبحانه بديع السماوات والأرض، إنّما يخلق ما يخلق على غير مثال سابق، فلا يشبه شئ من خلقه خلقاً سابقاً، ولا يشبه فعله فعل غيره في التقليد والتشبيه ولا في التدريج، والتوصّل بالأسباب إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون من غير مثال سابق ولا تدريج، فكيف يمكن أن ينسب إليه اتّخاذ الولد ؟ وتحقّقه يحتاج إلى تربية وتدريج، فقوله:( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) برهان تامّ، وقوله:( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) برهان آخر تامّ، هذا. ويستفاد من الآيتين:

٢٦٣

أوّلاً: شمول حكم العبادة لجميع المخلوقات ممّا في السماوات والأرض.

وثانياً: أنّ فعله تعالى غير تدريجيّ، ويستدرج من هنا، أنّ كلّ موجود تدريجيّ فله وجه غير تدريجيّ، به يصدر عنه تعالى كما قال تعالى:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) يس - ٨٢، وقال تعالى:( وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) القمر - ٥٠، وتفصيل القول في هذه الحقيقة القرآنيّة، سيأتي إنشاء الله في ذيل قوله:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا ) يس - ٨٢، فانتظر.

قوله تعالى: ( سُبْحَانَهُ ) مصدر بمعنى التسبيح وهو لا يستعمل إلّا مضافاً وهو مفعول مطلق لفعل محذوف أي سبّحته تسبيحاً، فحذف الفعل وأضيف المصدر إلى الضمير المفعول وأقيم مقامه. وفي الكلمة تأديب إلهيّ بالتنزيه فيما يذكر فيه ما لا يليق بساحة قدسة تعالى و تقدّس.

قوله تعالى: ( كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) ، القنوت العبادة والتذلّل.

قوله تعالى: ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ ) ، بداعة الشئ كونه لا يماثل غيره ممّا يعرف ويؤنس به.

قوله تعالى: ( فَيَكُونُ ) ، تفريع على قول كن وليس في مورد الجزاء حتّى يجزم.

( بحث روائي)

في الكافي والبصائر، عن سدير الصيرفيّ، قال: سمعت عمران بن أعين يسأل أباجعفرعليه‌السلام عن قول الله تعالى:( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) ، فقال أبوجعفرعليه‌السلام : إنّ الله عزّوجلّ ابتدع الأشياء كلّها بعلمه على غير مثال كان قبله، فابتدع السماوات والأرضين ولم يكن قبلهنّ سماوات ولا أرضون أما تسمع لقوله: وكان عرشه على الماء ؟.

أقول: وفي الرواية إستفادة اُخرى لطيفة، وهي أنّ المراد بالماء في قوله تعالى: وكان عرشه على الماء غير المصداق الّذي عندنا من الماء بدليل أنّ الخلقة مستوية على البداعة وكانت السلطنة الإلهيّة قبل خلق هذه السماوات والأرض مستقرّة مستوية على الماء فهو غير الماء وسيجئ تتمّة الكلام في قوله تعالى:( وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ) هود - ٧.

٢٦٤

( بحث علمي وفلسفي)

دلّ التجارب على افتراق كلّ موجودين في الشخصيّات وإن كانت متّحدة في الكلّيّات حتّى الموجودان اللّذان لا يميّز الحسّ جهة الفرقة بينهما فالحسّ المسلّح يدرك ذلك منهما، والبرهان الفلسفيّ أيضاً يوجب ذلك، فإنّ المفروضين من الموجودين لو لم يتميّز أحدهما من الآخر بشئ خارج عن ذاته، كان سبب الكثرة المفروضة غير خارج من ذاتهما فيكون الذات صرفة غير مخلوطة، وصرف الشئ لا يتثنّى ولا يتكرّر، فكان ما هو المفروض كثيراً واحداً غير كثير هف. فكلّ موجود مغاير الذات لموجود آخر، فكلّ موجود فهو بديع الوجود على غير مثال سابق ولا معهود، والله سبحانه هو المبتدع بديع السماوات والأرض.

٢٦٥

( سورة البقرة الآيات ١١٨ - ١١٩)

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ  كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ  تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ  قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( ١١٨ ) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا  وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ( ١١٩ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) هم المشركون غير أهل الكتاب ويدلّ عليه المقابلة السابقة في قوله تعالى: وقالت اليهود ليست النصارى على شئ، وقالت النصارى ليست اليهود على شئ، وهم يتلون الكتاب كذلك، قال الّذين لا يعلمون مثل قولهم الآية. ففي تلك الآية ألحق أهل الكتاب في قولهم بالمشركين والكفّار من العرب، وفي هذه الآية ألحق المشركين والكفّار بهم، فقال:( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم ) - وهم أهل الكتاب واليهود من بينهم - حيث اقترحوا بمثل هذه الأقاويل على نبيّ الله موسىعليه‌السلام ، فهم والكفّار متشابهون في أفكارهم وآرائهم، يقول هؤلاء ما قاله أولئك وبالعكس، تشابهت قلوبهم.

قوله تعالى: ( قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) جواب عن قول الّذين لا يعلمون إلخ، والمراد أنّ الآيات الّتي يطالبون بها مأتيّة مبينّة، ولكن لا ينتفع بها إلّا قوم يوقنون بآيات الله، وأمّا هؤلاء الّذين لا يعلمون، فقلوبهم محجوبة بحجاب الجهل، مؤفة بآفات العصبيّة والعناد، وما تغني الآيات عن قوم لا يعلمون. ومن هنا يظهر وجه توصيفهم بعدم العلم، ثمّ أيّد ذلك بتوجيه الخطاب إلى رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) والإشعار بأنّه مرسل من عند الله بالحقّ بشيراً ونذيراً، فلتطب به نفسه، وليعلم أنّ هؤلاء أصحاب الجحيم، مكتوب عليهم ذلك، لا مطمع في هدايتهم ونجاتهم.

قوله تعالى: ( وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ) ، يجري مجرى قوله:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) البقرة - ٦.

٢٦٦

( سورة البقرة الآيات ١٢٠ - ١٢٣)

وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ  قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَىٰ  وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ  مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ( ١٢٠ ) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ  وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( ١٢١ ) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ١٢٢ ) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ( ١٢٣ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ ) ، رجوع إلى الطائفتين بعد الالتفات إلى غيرهم، وهو بمنزلة جمع أطراف الكلام على تفرّقها وتشتّتها، فكأنّه بعد هذه الخطابات والتوبيخات هم يرجع إلى رسوله ويقول له: هؤلاء ليسوا براضين عنك، حتّى تتّبع ملّتهم الّتي ابتدعوها بأهوائهم ونظموها بآرائهم، ثمّ أمره بالردّ عليهم بقوله:( قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَىٰ ) أي إنّ الاتّباع إنّما هو لغرض الهدى ولا هدى إلّا هدى الله والحقّ الّذي يجب أن يتّبع وغيره - وهو ملّتكم - ليس بالهدى، فهي أهواؤكم ألبستموها لباس الدين وسمّيتموها بإسم الملّة، ففي قوله: قل إنّ هدى الله إلخ، جعل الهدى كناية عن القرآن النازل، ثمّ أضيف إلى الله فأفاد صحّة الحصر في قوله:( إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَىٰ ) على طريق قصرالقلب، وأفاد ذلك خلوّ ملّتهم عن الهدى، وأفاد ذلك كونها أهوائاً لهم، واستلزم ذلك كون ما عند النبيّ علماً، وكون ما عندهم

٢٦٧

جهلاً، واتّسع المكان لتعقيب الكلام بقوله: ولئن اتّبعت أهوائهم بعد الّذي جائك من العلم، ما لك من الله من وليّ ولا نصير، فانظر إلى ما في هذا الكلام من أصول البرهان العريقة، ووجوه البلاغة على إيجازه، وسلاسة البيان وصفائه.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ) يمكن أن تكون الجملة بقرينة الحصر المفهوم من قوله: أولئك يؤمنون به جواباً للسؤال المقدّر الّذي يسوق الذهن إليه قوله تعالى:( وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ ) إلخ، وهو أنّهم إذا لم يكن مطمع في إيمانهم، فمن ذا الّذي يؤمن منهم ؟ وهل توجيه الدعوة إليهم باطل لغو ؟ فأجيب بأنّ الّذين آتيناهم الكتاب والحال أنّهم يتلونه حقّ تلاوته، اُؤلئك يؤمنون بكتابهم فيؤمنون بك، أو أنّ اُؤلئك يؤمنون بالكتاب، كتاب الله المنزل أيّاما كان، أو أنّ اُؤلئك يؤمنون بالكتاب الّذي هو القرآن. و عليهذا: فالقصر في قوله: اُؤلئك يؤمنون به قصر أفراد والضمير في قوله: به على بعض التقادير لا يخلو عن استخدام. والمراد بالّذين اوتوا الكتاب قوم من اليهود والنصارى ليسوا متّبعين للهوى من أهل الحقّ منهم، وبالكتاب التوراة والإنجيل، وإن كان المراد بهم المؤمنين برسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وبالكتاب القرآن، فالمعنى: إنّ الّذين آتيناهم القرآن، وهم يتلونه حقّ تلاوته اُؤلئك يؤمنون بالقرآن، لا هؤلاء المتّبعون لأهوائهم، فالقصر حينئذ قصر قلب.

قوله تعالى: ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا ) ، إلى آخر الآيتين إرجاع ختم الكلام إلى بدئه، وآخره إلى أوّله، وعنده يختتم شطر من خطابات بني إسرائيل.

٢٦٨

( بحث روائي)

في إرشاد الديلميّ عن الصادقعليه‌السلام : في قوله:( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ) ، قال: يرتّلون آياته ويتفقّهون به ويعملون بأحكامه، ويرجون وعده ويخافون وعيده، ويعتبرون بقصصه، ويأتمرون بأوامره، وينتهون بنواهيه، ما هو والله حفظ آياته، ودرس حروفه، وتلاوة سوره، ودرس أعشاره وأخماسه، حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده، وإنّما هو تدبّر آياته والعمل بأحكامه، قال الله تعالى: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبّروا آياته.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ: يتلونه حقّ تلاوته قالعليه‌السلام الوقوف عند الجنّة والنار.

أقول: والمراد به التدبّر.

وفي الكافي عنهعليه‌السلام : في الآية قالعليه‌السلام هم الأئمّة.

أقول: وهو من باب الجرى والانطباق على المصداق الكامل.

٢٦٩

( سورة البقرة الآية ١٢٤)

وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ  قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا  قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي  قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( ١٢٤ )

( بيان)

شروع بجمل من قصص إبراهيمعليه‌السلام وهو كالمقدّمة والتوطئة لآيات تغيير القبلة وآيات أحكام الحجّ، وما معها من بيان حقيقة الدين الحنيف الإسلاميّ بمراتبها: من أصول المعارف، والأخلاق، والأحكام الفرعيّة الفقهيّة جملاً، والآيات مشتملة على قصّة اختصاصه تعالى إيّاه بالإمامة وبنائه الكعبة ودعوته بالبعثة.

فقوله تعالى: ( وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ ) إلخ، إشارة إلى قصّة إعطائه الإمامة وحبائه بها، والقصّة إنّما وقعت في أواخر عهد إبراهيمعليه‌السلام بعد كبره وتولّد إسماعيل، وإسحق له وإسكانه إسماعيل وأمّه بمكّة، كما تنبّه به بعضهم أيضاً، والدليل على ذلك قولهعليه‌السلام على ما حكاه الله سبحانه بعد قوله تعالى له: إنّي جاعلك للناس إماماً، قال:( وَمِن ذُرِّيَّتِي ) ، فإنّهعليه‌السلام قبل مجئ الملائكة ببشارة إسماعيل وإسحق، ما كان يعلم ولا يظنّ أن سيكون له ذرّيّة من بعده حتّى أنّه بعد ما بشرّته الملائكة بالأولاد خاطبهم بما ظاهره اليأس والقنوط كما قال تعالى:( وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ ) ، الحجر - ٥٥، وكذلك زوجته على ما حكاه الله تعالى في قصّة بشارته أيضاً إذ قال تعالى:( وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) هود - ٧٣، وكلامهما كما ترى يلوح منه. آثار اليأس والقنوط ولذلك قابلته الملائكة بنوع كلام فيه تسليتهما وتطييب أنفسهما فما كان هو ولا

٢٧٠

أهله يعلم أن سيرزق ذرّيّة، وقولهعليه‌السلام :( وَمِن ذُرِّيَّتِي ) ، بعد قوله تعالى:( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ، قول من يعتقد لنفسه ذرّيّة، وكيف يسع من له أدنى دربة بأدب الكلام وخاصّة مثل إبراهيم الخليل في خطاب يخاطب به ربّه الجليل أن يتفوّه بما لا علم له به ؟ ولو كان ذلك لكان من الواجب أن يقول: ومن ذرّيّتي إن رزقتني ذرّيّة أو ما يؤدّى هذا المعنى فالقصّة واقعة كما ذكرنا في أواخر عهد إبراهيم بعد البشارة.

على أنّ قوله تعالى:( وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) قال:( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ، يدلّ على أن هذه الإمامة الموهوبة إنّما كانت بعد ابتلائه بما ابتلاه الله به من الامتحانات وليست هذه إلّا أنواع البلاء الّتي ابتلىعليه‌السلام بها في حياته، وقد نصّ القرآن على أنّ من أوضحها بلاء قضيّة ذبح إسمعيل. قال تعالى:( قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ - إلى ان قال -إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ) الصافات - ١٠٦.

والقضيّة إنّما وقعت في كبر إبراهيم، كما حكى الله تعالى عنه من قوله:( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ) إبراهيم - ٣٩.

ولنرجع إلى ألفاظ الآية فقوله:( وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ ) ، الابتلاء والبلاء بمعنى واحد تقول: ابتليته وبلوته بكذا أي امتحنته واختبرته، إذا قدّمت إليه أمراً أو أوقعته في حدث فاختبرته بذلك واستظهرت ما عنده من الصفات النفسانيّة الكامنة عنده كالإطاعة والشجاعة والسخاء والعفّة والعلم والوفاء أو مقابلاتها، ولذلك لا يكون الابتلاء إلّا بعمل فإنّ الفعل هو الذى يظهر به الصفات الكامنة من الإنسان دون القول الّذي يحتمل الصدق والكذب. قال تعالى:( إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ) ن - ١٧، وقال تعالى:( إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ ) البقرة - ٢٤٩.

فتعلّق الابتلاء، في الآية بالكلمات إن كان المراد بها الأقوال إنّما هو من جهة تعلّقها با لعمل وحكايتها عن العهود والأوامر المتعلّقة بالفعل كقوله تعالى:( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ) البقرة - ٨٣، أي عاشروهم معاشرة جميلة وقوله :( بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) ، الكلمات وهي جمع كلمة وإن أطلقت في القرآن على العين الخارجيّ دون اللفظ والقول، كقوله تعالى:( بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) آل عمران - ٤٥، إلّا أنّ ذلك بعناية إطلاق

٢٧١

القول كما قال تعالى:( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) آل عمران - ٥٩.

وجميع ما نسب إليه تعالى من الكلمة في القرآن أريد بها القول كقوله تعالى:( وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ) الأنعام - ٣٤، وقوله:( لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ) يونس - ٦٤، وقوله:( يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ) الانفال - ٧، وقوله:( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ) يونس - ٩٦، وقوله:( وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ ) الزمر - ٧١، وقوله:( وَكَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ) المؤمن - ٦، وقوله:( وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) الشورى - ١٤، وقوله:( وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا ) التوبة - ٤١، وقوله:( قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ) ص - ٨٤، وقوله:( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) النحل - ٤٠، فهذه ونظائرها اُريد بها القول بعناية أنّ القول توجيه ما يريد المتكلّم إعلامه المخاطب ما عنده كما في الأخبار أو لغرض تحميله عليه كما في الإنشاء ولذلك ربّما تتّصف في كلامه تعالى بالتمام كقوله تعالى:( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) الأنعام - ١١٥، وقوله تعالى:( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) الأعراف - ١٣٧ كأنّ الكلمة إذا صدرت عن قائلها فهي ناقصة بعد، لم تتمّ، حتّى تلبس لباس العمل وتعود صدقاً.

وهذا لا ينافي كون قوله تعالى فعله، فإنّ الحقائق الواقعيّة لها حكم، وللعنايات الكلاميّة اللفظيّة حكم آخر، فما يريد الله سبحانه إظهاره لواحد من أنبيائه، أو غيرهم بعد خفائه، أو يريد تحميله على أحد قول وكلام له لاشتماله على غرض القول والكلام وتضمّنه غاية الخبر والنبأ، والأمر والنهي، وإطلاق القول والكلمة على مثل ذلك شائع في الاستعمال إذا اشتمل على ما يؤدّيه القول والكلمة. تقول: لأفعلنّ كذا وكذا، لقول قلته وكلمة قدّمتها، ولم تقل قولاً، ولا قدّمت كلمة، وإنّما عزمت عزيمة لا تنقضها شفاعة شفيع أو وهن إرادة، ومنه قول عنترة:

وقولي كلّما جشأت وجاشت

مكانك تحمدى أو تستريحي

٢٧٢

يريد بالقول توطين نفسه على الثبات والعزم، على لزومها مكانها لتفوز بالحمد إن قتل، وبالاستراحة إن غلب.

إذا عرفت ذلك ظهر لك أنّ المراد بقوله تعالى:( بِكَلِمَاتٍ ) ، قضايا ابتلى بها وعهود إلهيّة أريدت منه، كابتلائه بالكواكب والأصنام، والنار والهجرة وتضحيته بابنه وغير ذلك ولم يبيّن في الكلام ما هي الكلمات لأنّ الغرض غير متعلّق بذلك. نعم قوله:( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ، من حيث ترتّبه على الكلمات تدلّ على أنّها كانت أموراً تثبت بها لياقته، عليه السلام لمقام الإمامة.

فهذه هي الكلمات وأمّا إتمامهنّ فإن كان الضمير في قوله تعالى: أتمّهنّ راجعاً إلى إبراهيم كان معنى إتمامهنّ إتيانه عليه السلام ما أريد منه، وامتثاله لما أمر به، وإن كان الضمير راجعاً إليه تعالى كما هو الظاهر كان المراد توفيقه لما أريد منه، ومساعدته على ذلك، وأمّا ما ذكره بعضهم: أنّ المراد بالكلمات قوله تعالى:( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ، إلى آخر الآيات فمعنى لا ينبغي الركون إليه إذ لم يعهد في القرآن إطلاق الكلمات على جمل الكلام.

قوله تعالى: ( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ، أي مقتدى يقتدى بك الناس، ويتّبعونك في أقوالك وأفعالك، فلإمام هو الّذي يقتدي ويأتمّ به الناس، ولذلك ذكر عدّة من المفسّرين أنّ المراد به النبوّة، لأنّ النبيّ يقتدي به اُمّته في دينهم، قال تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ ) النساء - ٦٤، لكنّه في غاية السقوط.

أمّاأولا: فلأنّ قوله: إماماً، مفعول ثان لعامله الّذي هو قوله: جاعلك واسم الفاعل لا يعمل إذا كان بمعنى الماضي، وإنّما يعمل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال فقوله،( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ، وعدلهعليه‌السلام بالإمامة في ما سيأتي، مع أنّه وحي لا يكون إلّا مع نبوّة، فقد كان (ع) نبيّاً قبل تقلّده الإمامة فليست الإمامة في الآية بمعنى النبوّة (ذكره بعض المفسّرين).

وأمّاثانياً: فلأنّا بيّنا في صدر الكلام: أنّ قصّة الإمامة، إنّما كانت في أواخر عهد إبراهيمعليه‌السلام بعد مجئ البشارة له بإسحق وإسماعيل، وإنّما جائت الملائكة

٢٧٣

بالبشارة في مسيرهم إلى قوم لوط وإهلاكهم، وقد كان إبراهيم حينئذ نبيّاً مرسلاً، فقد كان نبيّاً قبل أن يكون إماماً، فإمامته غير نبوّته.

ومنشأ هذا التفسير وما يشابهه الابتذال الطاري على معاني الألفاظ الواقعة في القرآن الشريف في أنظار الناس من تكرّر الاستعمال بمرور الزمن ومن جملة تلك الألفاظ لفظ الإمامة، ففسرّه قوم: بالنبوّة والتقدّم والمطاعيّة مطلقاً، وفسّره آخرون بمعنى الخلافة أو الوصاية، أو الرئاسة في اُمور الدين والدنيا - وكلّ ذلك لم يكن - فإنّ النبوّة معناها: تحمّل النبأ من جانب الله، والرسالة معناها تحمّل التبليغ. والمطاعيّة والإطاعة قبول الإنسان ما يراه أو يأمره غيره وهو من لوازم النبوّة والرسالة، والخلافة نحو من النيابة، وكذلك والوصاية، والرئاسة نحو من المطاعيّة وهو مصدريّة الحكم في الاجتماع وكلّ هذه المعاني غير معنى الإمامة الّتي هي كون الإنسان بحيث يقتدى به غيره بأن يطّبق أفعاله وأقواله على أفعاله وأقواله بنحو التبعيّة. ولا معنى لأن يقال لنبيّ من الأنبياء مفترض الطاعة إنّي جاعلك للناس نبيّاً، أو مطاعاً فيما تبلّغه بنبوّتك، أو رئيساً تأمر وتنهى في الدين، أو وصيّاً، أو خليفة في الأرض تقضي بين الناس في مرافعاتهم بحكم الله.

وليست الإمامة تخالف الكلمات السابقة وتختصّ بموردها بمجرّد العناية اللّفظيّة فقط، إذ لا يصحّ أن يقال لنبيّ - من لوازم نبوّته كونه مطاعاً بعد نبوّته - إنّي جاعلك مطاعاً للناس بعد ما جعلتك كذلك، ولا يصحّ أن يقال له ما يؤل إليه معناه وإن اختلف بمجرّد عناية لفظيّة، فإنّ المحذور هو المحذور، وهذه المواهب الإلهيّة ليست مقصورة على مجرّد المفاهيم اللفظيّة، بل دونها حقائق من المعارف الحقيقيّة، فلمعنى الإمامة حقيقة وراء هذه الحقائق.

والّذي نجده في كلامه تعالى: أنّه كلّما تعرّض لمعنى الإمامة تعرّض معها للهداية تعرّض التفسير. قال تعالى في قصص إبراهيمعليه‌السلام :( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) الأنبياء - ٧٣، وقال سبحانه:( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) السجدة - ٢٤، فوصفها بالهداية وصف تعريف، ثمّ قيدها بالأمر، فبيّن أنّ الإمامة ليست مطلق

٢٧٤

الهداية، بل هي الهداية الّتي تقع بأمر الله، وهذا الأمر هو الّذي بيّن حقيقته في قوله:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ) يس - ٨٣، وقوله:( وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) القمر - ٥٠، وسنبيّن في الآيتين أنّ الأمر الإلهيّ وهو الّذي تسمّيه الآية المذكورة بالملكوت وجهٌ آخر للخلق، يواجهون به الله سبحانه، طاهرٌ مطهّر من قيود الزمان والمكان، خال من التغيّر والتبدّل وهو المراد بكلمة - كن - الّذي ليس إلّا وجود الشئ العينيّ، وهو قبال الخلق الّذي هو وجهٌ آخر من وجهي الأشياء فيه التغيّر والتدريج والانطباق على قوانين الحركة والزمان، وليكن هذا عندك على إجماله حتّى يأتيك تفصيله إنشاء الله العزيز.

وبالجملة فلإمام هاد يهدي بأمرٍ ملكوتيّ يصاحبه، فلإمامة بحسب الباطن نحو ولاية للناس في أعمالهم، وهدايتها إيصالها إيّاهم إلى المطلوب بأمر الله دون مجرّد إرائة الطريق الّذي هو شأن النبيّ والرسول وكلّ مؤمن يهدي إلى الله سبحانه بالنصح والموعظة الحسنة، قال تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ) إبراهيم - ٤، وقال تعالى: في مؤمن آل فرعون( وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ) مؤمن - ٣٨، وقال تعالى:( فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) التوبة - ١٢٢، وسيتّضح لك هذا المعنى مزيد إتضاح.

ثمّ إنّه تعالى بيّن سبب موهبة الإمامة بقوله:( لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) الآية فبيّن أنّ الملاك في ذلك صبرهم في جنب الله - وقد أطلق الصبر - فهو في كلّ ما يبتلي ويمتحن به عبدٌ في عبوديّته، وكونهم قبل ذلك موقنين، وقد ذكر في جملة قصص إبراهيمعليه‌السلام قوله:( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الانعام - ٧٥، والآية كما ترى تعطي بظاهرها: أنّ إرائة الملكوت لإبراهيم كانت مقدّمة لإفاضة اليقين عليه، ويتبيّن به أنّ اليقين لا ينفكّ عن مشاهدة الملكوت كما هو ظاهر قوله تعالى:( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) التكاثر - ٦ وقوله تعالى:( كَلَّا بَل رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ

٢٧٥

- إلى أن قال -كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) المطفّفين - ٢١، وهذه الآيات تدلّ على أنّ المقرّبين هم الّذين لا يحجبون عن ربّهم بحجاب قلبيّ وهو المعصية والجهل والريب والشكّ، فهم أهل اليقين بالله، وهم يشهدون علّيّين كما يشهدون الجحيم.

وبالجملة فلإمام يجب أن يكون إنساناً ذايقين مكشوفاً له عالم الملكوت - متحقّقاً بكلمات من الله سبحانه - وقد مرّ أنّ الملكوت هو الأمر الّذي هو الوجه الباطن من وجهي هذا العالم، فقوله تعالى:( يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ، يدلّ دلالة واضحة على أنّ كلّ ما يتعلّق به أمر الهداية - وهو القلوب والأعمال - فللإمام باطنه وحقيقتة، ووجهه الأمري حاضر عنده غير غائب عنه، ومن المعلوم أنّ القلوب والأعمال كسائر الأشياء في كونها ذات وجهين، فلإمام يحضر عنده ويلحق به أعمال العباد، خيرها وشرّها، وهو المهيمن على السبيلين جميعاً، سبيل السعادة وسبيل الشقاوة. وقال تعالى أيضاً:( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) الاسراء - ٧١، وسيجئ تفسيره بالإمام الحقّ دون كتاب الأعمال، على ما يظنّ من ظاهرها، فلإمام هو الّذي يسوق الناس إلى الله سبحانه يوم تبلى السرائر، كما أنّه يسوقهم إليه في ظاهر هذه الحياة الدنيا وباطنها، والآية مع ذلك تفيد أنّ الإمام لا يخلو عنه زمانٌ من الأزمنة، وعصر من الأعصار، لمكان قوله تعالى :( كُلَّ أُنَاسٍ ) ، على ما سيجئ في تفسير الآية من تقريبه.

ثمّ إنّ هذا المعنى أعني الإمامة، على شرافته وعظمته، لا يقوم إلّا بمن كان سعيد الذات بنفسه، إذ الّذي ربّما تلبّس ذاته بالظلم والشقاء، فإنّما سعادته بهداية من غيره، وقد قال الله تعالى:( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ ) يونس - ٣٥. وقد قوبل في الآية بين الهادي إلى الحقّ وبين غير المهتدي إلّا بغيره، أعني المهتدي بغيره، وهذه المقابلة تقتضي أن يكون الهادي إلى الحقّ مهتدياً بنفسه، وأنّ المهتدي بغيره لا يكون هادياً إلى الحقّ البتّة.

ويستنتج من هنا أمران:أحدهما: أنّ الإمام يجب أن يكون معصوماً عن الضلال و المعصية، وإلّا كان غير مهتد بنفسه، كما مرّ كما، يدلّ عليه أيضاً قوله تعالى:

٢٧٦

( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) الأنبياء - ٧٣ فأفعال الأمام خيرات يهتدى إليها لا بهداية من غيره بل باهتداء من نفسه بتأييد إلهيّ، وتسديد ربّانيّ. والدليل عليه قوله تعالى:( فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) بناءً على أنّ المصدر المضاف يدلّ على الوقوع، ففرقٌ بين مثل قولنا: وأوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات فلا يدلّ على التحقّق والوقوع، بخلاف قوله:( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) فهو يدلّ على أن ما فعلوه من الخيرات إنّما هو بوحى باطنيّ وتأييد سماويّ.الثاني: عكس الأمر الأوّل وهو أنّ من ليس بمعصوم فلا يكون إمامً هاديً إلى الحقّ البتّة.

وبهذا البيان يظهر: أنّ المراد بالظالمين في قوله تعالى:( قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) مطلق من صدر عنه ظلمٌ ما، من شرك أو معصية، وإن كان منه في برهة من عمره، ثمّ تاب وصلح.

وقد سئل بعض أساتيدنا رحمة الله عليه: عن تقريب دلالة الآية على عصمة الأمام.

فأجاب: أنّ الناس بحسب القسمة العقليّة على أربعة أقسام: من كان ظالمً في جميع عمره، ومن لم يكن ظالمً في جميع عمره، ومن هو ظالمٌ في أوّل عمره دون آخره، ومن هو بالعكس هذا. وإبراهيمعليه‌السلام أجلّ شأنً من أن يسأل الأمامة للقسم الأوّل والرابع من ذرّيّته، فبقي قسمان وقد نفى الله أحدهما، وهو الّذي يكون ظالمً في أوّل عمره دون آخره، فبقي الآخر، وهو الّذي يكون غير ظالم في جميع عمره إنتهى وقد ظهر ممّا تقدّم من البيان أمور.

الأوّل: أنّ الأمامة لمجعولة.

الثاني: أنّ الأمام يجب أن يكون معصومً بعصمة إلهيّة.

الثالث: أنّ الأرض وفيه الناس، لا تخلو عن إمام حقّ.

الرابع: أنّ الأمام يجب أن يكون مؤيّدً من عند الله تعالى.

الخامس: أنّ أعمال العباد غير محجوبة عن علم الأمام.

السادس: أنّه يجب أن يكون عالمً بجميع ما يحتاج إليه الناس في امور

٢٧٧

معاشهم ومعادهم.

السابع: أنّه يستحيل أن يوجد فيهم من يفوقه في فضائل النفس.

فهذه سبعة مسائل هي أمّهات مسائل الأمامة، تعطيها الآية الشريفة بما ينضمّ إليها من الآيات والله الهادي.

فإن قلت: لو كانت الأمامة هي الهداية بأمر الله تعالى، وهي الهداية إلى الحقّ الملازم مع الاهتداء بالذات كما استفيد من قوله تعالى:( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ ) الآية كان جميع الأنبياء أئمّة قطعاً، لوضوح أنّ نبوّة النبيّ لا يتمّ إلّا باهتداء من جانب الله تعالى بالوحى، من غير أن يكون مكتسبً من الغير، بتعليم أو إرشاد ونحوهما، حينئذٍ فموهبة النبوّة تستلزم موهبة الأمامة، وعاد الإشكال إلى أنفسكم.

قلت: الّذي يتحصّل من البيان السابق المستفاد من الآية أنّ الهداية بالحقّ وهي الأمامة تستلزم الاهتداء بالحقّ، وأمّا العكس وهو أن يكون كلّ من اهتدى بالحقّ هاديً لغيره بالحقّ، حتّى يكون كلّ نبيّ لاهتدائه بالذات إمامً، فلم يتبيّن بعد، وقد ذكر سبحانه هذا الاهتداء بالحقّ، من غير أن يقرنه بهداية الغير بالحقّ في قوله تعالى:( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ذَٰلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) الانعام - ٩٠، وسياق الآيات كما ترى يعطي أنّ هذه الهداية أمرٌ ليس من شأنه أن يتغيّر ويتخلّف، وأنّ هذه الهداية لن ترتفع بعد رسول الله عن أمّته، بل عن ذرّيّة إبراهيم منهم خاصّة، كما يدلّ عليه قوله تعالى:( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي

٢٧٨

بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) الزخرف - ٢٨، فأعلم قومه ببرائته في الحال وأخبرهم بهدايته في المستقبل، وهي الهداية بأمر الله حقً، لا الهداية الّتي يعطيها النظر والاعتبار، فإنّها كانت حاصلة مدلولً عليها بقوله:( إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي ) ، ثمّ أخبر الله: أنّه جعل هذه الهداية كلمة بأقية في عقب إبراهيم، وهذا أحد الموارد الّتي أطلق القرآن الكلمة فيها على الأمر الخارجيّ دون القول، كقوله تعالى:( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا ) الفتح - ٢٦.

وقد تبيّن بما ذكر: أنّ الأمامة في ولد إبراهيم بعده، وفي قوله تعالى:( قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) إشارة إلى ذلك، فإن إبراهيمعليه‌السلام إنّما كان سأل الأمامة لبعض ذرّيّته لا لجميعهم، فأجيب: بنفيها عن الظالمين من ولده، وليس جميع ولده ظالمين بالضرورة حتّى يكون نفيها عن الظالمين نفيً لها عن الجميع، ففيه إجابةٌ لما سأله مع بيان أنّها عهد، وعهده تعالى لا ينال الظالمين.

قوله تعالى: ( لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ، في التعبير إشارة إلى غاية بعد الظالمين عن ساحة العهد الألهيّ، فهي من الاستعارة بالكناية.

( بحث روائي)

في الكافي عن الصادقعليه‌السلام : إنّ الله عزّوجلّ اتّخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتّخذه نبيّاً، وإنّ الله اتّخذه نبيّاً قبل أن يتّخذه رسولاً، وإنّ الله اتّخذه رسولاً قبل أن يتّخذه خليلاً، وأنّ الله اتّخذه خليلاً قبل أن يتّخذه إماماً، فلمّا جمع له الأشياء قال:( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) قالعليه‌السلام : فمن عظمها في عين إبراهيم قال: ومن ذرّيّتي قال لا ينال عهدي الظالمين قال: لا يكون السفيه إمام التقيّ.

أقول: وروي هذا المعنى أيضاً عنه بطريق آخر وعن الباقرعليه‌السلام بطريق آخر، ورواه المفيد عن الصادقعليه‌السلام .

قوله: إنّ الله اتّخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتّخذه نبيّاً، يستفاد ذلك من قوله

٢٧٩

تعالى:( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ - إلى قوله -مِّنَ الشَّاهِدِينَ ) الأنبياء - ٥٦، وهو اتّخاذٌ بالعبوديّة في أوّل أمر إبراهيم.

واعلم أنّ اتّخاذه تعالى أحداً من الناس عبداً غير كونه في نفسه عبداً، فإنّ العبديّة من الوازم الايجاد والخلقة، لا ينفكّ عن مخلوق ذي فهم وشعور، ولا يقبل الجعل والاتّخاذ وهو كون الإنسان مثلاً مملوك الوجود لربّه، مخلوقاً مصنوعاً له، سواء جرى في حياته على ما يستدعيه مملوكيّته الذاتيّة، واستسلم لربوبيّة ربّه العزيز، أو لم يجر على ذلك، قال تعالى:( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ) مريم - ٩٤، وإن كان إذا لم يجر على رسوم العبوديّة وسنن الرقيّة استكباراً في الأرض وعتوّاً كان من الحرّي أن لا يسمّى عبداً بالنظر إلى الغايات، فإنّ العبد هو الّذي أسلم وجه لربّه، وأعطاه تدبير نفسه، فينبغي أن لا يسمّى بالعبد إلّا من كان عبداً في نفسه وعبداً في عمله، فهو العبد حقيقة، قال تعالى:( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ) الفرقان - ٦٣. وعلي هذا فاتّخاذه تعالى إنساناً عبداً - وهو قبول كونه عبداً والإقبال عليه بالربوبيّة - هو الولاية وهو تولّي أمره كما يتولّى الربّ أمر عبده، والعبوديّة مفتاح للولاية، كما يدلّ عليه قوله تعالى:( إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) الأعراف - ١٩٦، أي اللائقين للولاية، فإنّه تعالى سمّى النبيّ في آيات من كتابه بالعبد. قال تعالى:( الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ ) الكهف - ١، وقال تعالى:( يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) الحديد - ٩، وقال تعالى:( قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ ) الجن - ١٩، فقد ظهر أنّ الإتّخاذ للعبوديّة هو الولاية.

وقولهعليه‌السلام :( وإنّ الله اتّخذه نبيّاً قبل أن يتّخذه رسولاً ) ، الفرق بين النبيّ الرسول على ما يظهر من الروايات المرويّة عن أئمّة أهل البيت: أنّ النبيّ هو الّذي يرى في المنام ما يوحي به إليه، والرسول هو الّذي يشاهد الملك فيكلمّه، والّذي يظهر من قصص إبراهيم هو هذا الترتيب، قال تعالى:( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا ) مريم - ٤٢، فظاهر الآية أنّهعليه‌السلام كان صدّيقاً نبيّاً حين يخاطب أباه بذلك، فيكون

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

كانت ربّما استفيد الندب إليها من مثل قوله تعالى:( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الّذين من قبلهم ) المؤمن: ٨٢، وقوله:( فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ) الآية ١٢٢ من السورة إلّا أنّ إرادتها من قوله:( السائحون ) تبطل جودة الترتيب بين الصفات المنضودة.

وثالثاً: أنّ هذه الصفات الشريفة هي الّتى يتمّ بها إيمان المؤمن المستوجب للوعد القطعيّ بالجنّـة المستتبع للبشارة الإلهيّـة والنبويّـة وهى الملازمة للقيام بحقّ الله المستلزمة لقيام الله سبحانه بما جعله من الحقّ على نفسه.

قوله تعالى: ( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اُولى قربى ) إلى آخر الآيتين، معنى الآية ظاهر غير أنّه تعالى لمّا ذكر في الآية الثانية الّتى تبيّن سبب استغفار ابراهيم لأبيه مع كونه كافراً أنّه تبرّأ منه بعد ذلك لمّا تبيّن له أنّه عدوّ لله، فدلّ ذلك على أنّ تبيّن كون المشركين أصحاب الجحيم إنّما يرشد إلى عدم جواز الاستغفار لكونه ملازماً لكونهم أعداء لله فإذا تبيّن للنبىّ والّذين آمنوا أنّ المشركين أعداء لله كشف ذلك لهم عن حكم ضروريّ وهو عدم جواز الاستغفار لكونه لغواً لا يترتّب عليه أثر وخضوع الإيمان مانع أن يلغو العبد مع ساحة الكبرياء.

وذلك أنّه تارة يفرض الله تعالى عدوّاً للعبد مبغضاً له لتقصير من ناحيته وسوء من عمله فمن الجائز بالنظر إلى سعة رحمة الله أن يستغفر له ويسترحم إذا كان العبد متذلّلاً غير مستكبر، وتارة يفرض العبد عدوّاً لله محارباً له مستكبراً مستعلياً كأرباب الجحود والعناد من المشركين، والعقل الصريح حاكم بأنّه لا ينفعه حينئذ شفاعة بمسألة أو استغفار إلّا أن يتوب ويرجع إلى الله وينسلخ عن الاستكبار والعناد ويتلبّس بلباس الذلّة والمسكنة فلا معنى لسؤال الرحمة والمغفرة لمن يأبى عن القبول، ولا للاستعطاء لمن لا يخضع للأخذ والتناول إلّا الهزؤ بمقام الربوبيّـة واللعب بمقام العبوديّـة وهو غير جائز بضرورة من حكم الفطرة.

وفي الآية نفى الجواز بنفى الحقّ بدليل قوله:( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا ) أي ما كانوا يملكون الاستغفار بعد ما تبيّن لهم كذا وكذا، وقد تقدّم في ذيل قوله

٤٢١

تعالى:( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ) الآية ١٧ من السورة أنّ حكم الجواز مسبوق في الشرع بجعل الحقّ.

والمعنى أنّ النبيّ والّذين آمنوا بعد ما ظهر وتبيّن بتبيين الله لهم أنّ المشركين أعداء لله مخلّدون في النار لم يكن لهم حقّ يملكون به أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اُولى قربى منهم، وأمّا استغفار إبراهيم لأبيه المشرك فإنّه ظنّ أنّه ليس بعدوّ معاند لله وإن كان مشركاً فاستعطفه بوعد وعدها إيّاه فاستغفر له فلمّا تبيّن له أنّه عدوّ لله معاند على شركه وضلاله تبرّء منه.

وقوله:( إنّ إبراهيم لأوّاه حليم ) تعليل لوعد إبراهيم واستغفاره لأبيه بأنّه تحمّل جفوة أبيه ووعده وعداً حسناً لكونه حليماً واستغفر له لكونه أوّاهاً، والأوّاه هو الكثير التأوّه خوفاً من ربّه وطمعاً فيه.

قوله تعالى: ( وما كان الله ليضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتّى يبيّن لهم ما يتّقون ) إلى آخر الآيتين الآيتان متّصلتان بالآيتين قبلهما المسوقتين للنهى عن الاستغفار للمشركين.

أمّا الآية الاُولى أعني قوله:( وما كان الله ليضلّ ) الخ ففيه تهديد للمؤمنين بالإضلال بعد الهداية إن لم يتّقوا ما بيّن الله لهم أن يتّقوه ويجتنبوا منه، وهو بحسب ما ينطبق على المورد أنّ المشركين أعداء لله لا يجوز الاستغفار لهم والتودّد إليهم فعلى المؤمنين أن يتّقوا ذلك وإلّا فهو الضلال بعد الهدى، وعليك أن تذكر ما قدّمناه في تفسير قوله تعالى:( اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشوني ) المائدة: ٣ في الجزء الخامس من الكتاب وفي تفسير آيات ولاية المشركين وأهل الكتاب الواقعة في السور المتقدّمة.

والآية بوجه في معنى قوله تعالى:( ذلك بأنّ الله لم يك مغيّراً نعمة أنعمها على قوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم ) الأنفال: ٥٣ وما في معناه من الآيات، وهى جميعاً تهتف بأنّ من السنّة الإلهيّـة أن تستمرّ على العبد نعمته وهدايته حتّى يغيّر هو ما عنده بالكفران والتعدّى فيسلب الله منه النعمة والهداية.

٤٢٢

وأمّا الآية الثانية أعنى قوله:( إنّ الله له ملك السماوات والأرض يحيى ويميت وما لكم من دون الله من ولىّ ولا نصير ) فذيلها بيان لعلّة الحكم السابق المدلول عليه بالآية السابقة وهو النهى عن تولّى أعداء الله أو وجوب التبرّى منهم إذ لا ولىّ ولا نصير حقيقة إلّا الله سبحانه وقد بيّنه للمؤمنين فعليهم بدلالة من إيمانهم أن يقصروا التولّى عليه تعالى أو من أذن في تولّيهم له من أوليائه وليس لهم أن يتعدّوا ذلك إلى تولّى أعدائه كائنين من كانوا.

وصدر الآية بيان لسبب هذا السبب وهو أنّ الله سبحانه هو الّذى يملك كلّ شئ وبيده الموت والحياة فإليه تدبير كلّ أمر فهو الولىّ لا ولىّ غيره.

وقد ظهر من عموم البيان والعلّة في الآيات الأربع أنّ الحكم عامّ وهو وجوب التبرّى أو حرمة التولّى لأعداء الله سواء كان التولّى بالاستغفار أو بغير ذلك وسواء كان العدوّ مشركاً أو كافراً أو منافقاً أو غيرهم من أهل البدع الكافرين بايات الله أو المصرّين على بعض الكبائر كالمرابى المحارب لله ورسوله.

قوله تعالى: ( لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار الّذين ) إلى آخر الآيتين، الساعة مقدار من الزمان فساعة العسرة الزمان الّذى تعسر فيه الحياة لابتلاء الإنسان بما تشقّ معه العيشة عليه كعطش أو جوع أو حرّ شديد أو غير ذلك، والزيغ هو الخروج من الطريق والميل عن الحقّ، وإضافة الزيغ إلى القلوب وذكر ساعة العسرة وسائر ما يلوح من سياق الكلام دليل على أنّ المراد بالزيغ الاستنكاف عن امتثال أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والخروج عن طاعته بالتثاقل عن الخروج إلى الجهاد أو الرجوع إلى الأوطان بقطع السير تحرّجاً من العسرة والمشقّة الّتى واجهتهم في مسيرهم.

والتخليف - على ما في المجمع - تأخير الشئ عمّن مضى فأمّا تأخير الشئ عنك في المكان فليس بتخليف، وهو من الخلف الّذى هو مقابل لجهة الوجه يقال، خلّفه أي جعله خلفه فهو مخلّف. انتهى والرحب هو السعة الّتى تقابل الضيق، وبما رحبت أي برحبها فما مصدريّة.

و الآيتان وإن كانت كلّ واحدة منهما ناظرة إلى جهة دون جهة الاُخرى

٤٢٣

فالاُولى تبيّن التوبة على النبيّ والمهاجرين والأنصار والثانية تبيّن توبة الثلاثة المخلّفين مضافاً إلى أنّ نوع التوبة على أهل الآيتين مختلف فأهل الآية الاُولى أو بعضهم تاب الله عليهم من غير معصية منهم، وأهل الآية الثانية تيب عليهم وهم عاصون مذنبون.

وبالجملة الآيتان مختلفتان غرضاً ومدلولاً غير أنّ السياق يدلّ على أنّهما مسوقتان لغرض واحد ومتّصلتان كلاماً واحداً تبيّن فيه توبته تعالى للنبىّ والمهاجرين والأنصار والثلاثة الّذين خلّفوا، ومن الدليل عليه قوله:( لقد تاب الله على النبيّ - إلى أن قال -وعلى الثلاثة ) الخ فالآية الثانية غير مستقلّة عن الاُولى بحسب اللفظ وإن استقلّت عنها في المعنى، وذلك يستدعى نزولهما معاً وتعلّق غرض خاصّ بهذا الاتّصال والامتزاج.

ولعلّ الغرض الأصلىّ بيان توبة الله سبحانه لاُولئك الثلاثة المخلّفين وقد ضمّ إليها ذكر توبته تعالى للمهاجرين والأنصار حتّى للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتطيب قلوبهم بخلطهم بغيرهم وزوال تميّزهم من سائر الناس وعفو أثر ذلك عنهم حتّى يعود الجميع على نعت واحد وهو أنّ الله تاب عليهم برحمته فهم فيه سواء من غير أن يرتفع بعضهم عن بعض أو ينخفض بعضهم عن بعض.

وبهذا تظهر النكتة في تكرار ذكر التوبة في الآيتين فإنّ الله سبحانه يبدء بذكر توبته على النبيّ والمهاجرين والأنصار ثمّ يقول:( ثمّ تاب عليهم ) وعلى الثلاثة الّذين خلّفوا ثمّ يقول:( ثمّ تاب عليهم ليتوبوا ) فليس إلّا أنّ الكلام مسوق على منهج الإجمال والتفصيل ذكر فيه توبته تعالى على الجميع إجمالاً ثمّ اُشير إلى حال كلّ من الفريقين على حدته فذُكرت عند ذلك توبته الخاصّـة به.

ولو كانت كلّ واحدة من الآيتين ذات غرض مستقلّ من غير أن يجمعها غرض جامع لكان ذلك تكراراً من غير نكتة ظاهرة.

على أنّ في الآية الاُولى دلالة واضحة على أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن له في ذلك ذنب

٤٢٤

ولا زيغ ولا كاد أن يزيغ قلبه فإنّ في الكلام مدحاً للمهاجرين والأنصار باتّباع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يزغ قلبه ولا كاد أن يزيغ حتّى صار متّبعاً يقتدى به ولو لا ما ذكرناه من الغرض لم يكن لذكرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع سائر المذكورين وجه ظاهر.

فيؤول معنى الآية إلى أنّ الله - اُقسم لذلك - تاب ورجع برحمته رجوعاً إلى النبيّ والمهاجرين والأنصار والثلاثة الّذين خلّفوا فأمّا توبته ورجوعه بالرحمة على المهاجرين والأنصار فإنّهم اتّبعوا النبيّ في ساعة العسرة وزمانها - وهو أيّـام مسيرهم إلى تبوك - اتّبعوه من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ويميل عن الحقّ بترك الخروج أو ترك السير فبعد ما اتّبعوه تاب الله عليهم إنّه بهم لرؤوف رحيم.

وأمّا الثلاثة الّذين خلّفوا فإنّهم آل أمرهم إلى أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ووسعت - وكان ذلك بسبب أنّ الناس لم يعاشروهم ولا كلّموهم حتّى أهلهم فلم يجدوا أنيساً يأنسون به - وضاقت عليهم أنفسهم - من دوام الغمّ عليهم - و أيقنوا أن لا ملجأ من الله إلّا إليه بالتوبة والإنابة فلمّا كان ذلك كلّه تاب الله عليهم وانعطف ورجع برحمته إليهم ليتوبوا إليه فيقبل توبتهم إنّه هو التوّاب - كثير الرجوع إلى عباده يرجع إليهم بالهداية والتوفيق للتوبة إليه ثمّ بقبول تلك التوبة - والرحيم بالمؤمنين.

وقد تبيّن بذلك كلّه أوّلاً: أنّ المراد بالتوبة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محض الرجوع إليه بالرحمة، ومن الرجوع إليه بالرحمة، الرجوع إلى اُمّته بالرحمة فالتوبة عليهم توبة عليه فهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الواسطة في نزول الخيرات والبركات إلى اُمّته.

وأيضاً فإنّ من فضله تعالى على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن: كلّما ذكر اُمّته أو الّذين معه بخير أفرده من بينهم وصدر الكلام بذكره تشريفاً له كما في قوله:( آمن الرسول بما اُنزل إليه من ربّه والمؤمنون ) البقرة: ٢٨٥ وقوله:( ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) التوبة ٢٦، وقوله:( لكن الرسول والّذين آمنوا معه جاهدوا ) التوبة ٨٨ إلى غير ذلك من الموارد.

وثانياً: أنّ المراد بما ذكر ثانياً وثالثاً من التوبه بقوله:( ثمّ تاب عليهم ) في

٤٢٥

الموضعين هو تفصيل ما ذكره إجمالاً بقوله:( لقد تاب الله ) .

وثالثاً: أنّ المراد بالتوبة في قوله:( ثمّ تاب عليهم ) في الموضعين رجوعه تعالى إليهم بالهداية إلى الخير والتوفيق فقد ذكرنا مراراً في الأبحاث السابقة أنّ توبة العبد محفوفة بتوبتين من الربّ تعالى، وأنّه يرجع إليه بالتوفيق وإفاضة رحمة الهداية وهو التوبة الاُولى منه فيهتدى العبد إلى الاستغفار وهو توبته فيرجع تعالى إليه بقبول توبته وغفران ذنوبه وهو التوبة الثانية منه تعالى.

والدليل على أنّ المراد بها في الموضعين ذلك أمّا في الآية الاُولى فلأنّه لم يذكر منهم فيها ذنباً يستغفرون له حتّى تكون توبته عليهم توبة قبول، وإنّما ذكر أنّه كان من المتوقّع زيغ قلوب بعضهم وهو يناسب التوبة الاُولى منه تعالى دون الثانية، وأمّا في الآية الثانية فلأنّه ذكر بعدها قوله:( ليتوبوا ) وهو الاستغفار، اُخذ غاية لتوبته تعالى فتوبته تعالى قبل توبتهم ليست إلّا التوبة الاُولى منه.

وربّما أيّد ذلك قوله تعالى في مقام تعليل توبته عليهم:( إنّه بهم رؤوف رحيم ) حيث لم يذكر من أسمائه ما يدلّ بلفظه على قبول توبتهم كما لم يذكر منهم توبة بمعنى الاستغفار.

ورابعاً: أنّ المراد بقوله في الآية الثانية:( ليتوبوا ) توبة الثلاثة الّذين خلّفوا المترتّب على توبته تعالى الاُولى عليهم، فالمعنى ثمّ تاب الله على الثلاثة ليتوب الثلاثة فيتوب عليهم ويغفر لهم إنّه هو التوّاب الرحيم.

فان قلت: فالآية لم تدلّ على قبول توبتهم وهذا مخالف للضرورة الثابتة من جهة النقل أنّ الآية نزلت في توبتهم.

قلت: القصّة ثابتة نقلاً غير أنّها لا توجد دلالة في لفظ الآية إلّا أنّ الآية تدلّ بسياقها على ذلك فقد قال تعالى قى مقام الإجمال:( لقد تاب الله ) وهو أعمّ بإطلاقه من التوبة بمعنى التوفيق وبمعنى القبول، وكذا قوله بعد:( إنّ الله هو التوّاب الرحيم ) وخاصّـة بالنظر إلى ما في الجملة من سياق الحصر الناظر إلى قوله:( وظنّوا أن لا ملجأ من الله إلّا إليه ) فإذا كانوا أقدموا على التوبة ليأخذوا ملجاً من الله يأمنون فيه وقد هداهم

٤٢٦

الله إليه بالتوبة فتابوا فمن المحال أن يردّهم الله من بابه خائبين وهو التوّاب الرحيم، وكيف يستقيم ذلك؟ وهو القائل عزّ من قائل:( إنّما التوبة على الله للّذين يعملون السوء بجهالة ثمّ يتوبون من قريب فاُولئك يتوب الله عليهم ) النساء: ١٧.

وربّما قيل: إنّ معنى( ثمّ تاب عليهم ليتوبوا ) ثمّ سهّل الله عليهم التوبة ليتوبوا. وهو سخيف. وأسخف منه قول من قال: إنّ المراد بالتوبة في( ليتوبوا ) الرجوع إلى حالتهم الاُولى قبل المعصية. وأسخف منه قول آخرين: إنّ الضمير في( ليتوبوا ) راجع إلى المؤمنين والمعنى ثمّ تاب على الثلاثة وأنزل توبتهم على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتوب المؤمنون من ذنوبهم لعلمهم بأنّ الله قابل التوب.

وخامساً: أنّ الظنّ يفيد في الآية مفاد العلم لا لدلالة لفظيّـة بل لخصوص المورد.

قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله وكونوا مع الصادقين ) الصدق بحسب الأصل مطابقة القول والخبر للخارج، ويوصف به الإنسان إذا طابق خبره الخارج ثمّ لمّا عدّ كلّ من الاعتقاد والعزم - الإرادة - قولاً توسّع في معنى الصدق فعدّ الإنسان صادقاً إذا طابق خبره الخارج وصادقاً إذا عمل بما اعتقده وصادقاً إذا أتى بما يريده ويعزم عليه على الجدّ.

وما في الآية من إطلاق الأمر بالتقوى واطلاق الصادقين وإطلاق الأمر بالكون معهم - والمعيّة هي المصاحبة في العمل وهو الاتّباع - يدلّ على أنّ المراد بالصدق هو معناه آلوسيع العامّ دون الخاصّ.

فالآية تأمر المؤمنين بالتقوى واتّباع الصادقين في أقوالهم وأفعالهم وهو غير الأمر بالاتّصاف بصفتهم فإنّه الكون منهم لا الكون معهم وهو ظاهر.

قوله تعالى: ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ) إلى آخر الآيتين الرغبة ميل خاصّ نفسانيّ والرغبة في الشئ الميل إليه لطلب منفعة فيه، والرغبة عن الشئ الميل عنه بتركه والباء للسببيّـة فقوله:( ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ) معناه وليس لهم أن يشتغلوا بأنفسهم عن نفسه فيتركوه عند مخاطر المغازى وفي تعب الأسفار ودعثائها ويقعدوا

٤٢٧

للتمتّع من لذائذ الحياة، والظمأ العطش، والنصب التعب والمخمصة المجاعة، والغيظ أشدّ الغضب، والموطئ الأرض الّتى توطأ بالأقدام.

والآية تسلب حقّ التخلّف عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل المدينة والأعراب الّذين حولها ثمّ تذكر أنّ الله قابل هذا السلب منهم بأنّه يكتب لهم في كلّ مصيبة تصيبهم في الجهاد من جوع وعطش وتعب وفي كلّ أرض يطئونها فيغيطون به الكفّـار أو نيل نالوه منهم عملاً صالحاً فإنّهم محسنون والله لا يضيع أجر المحسنين، وهذا معنى قوله:( ذلك بأنّهم لا يصيبهم ظمأ ) الخ.

ثمّ ذكر أنّ نفقاتهم صغيرة يسيرة كانت أو كبيرة خطيرة وكذا كلّ واد قطعوه فإنّه مكتوب لهم محفوظ لأجلهم ليجزوا به أحسن الجزاء.

وقوله:( ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ) غاية متعلّقة بقوله:( كتب لهم ) أي غاية هذه الكتابة هي أن يجزيهم بأحسن أعمالهم، وإنّما خصّ جزاء أحسن الأعمال بالذكر لأنّ رغبة العامل عاكفة عليه، أو لأنّ الجزاء بأحسنها يستلزم الجزاء بغيره، أو لأنّ المراد بأحسن الأعمال الجهاد في سبيل الله لكونه أشقّها وقيام الدعوة الدينيّـة به.

وههنا معنى آخر وهو أنّ جزاء العمل في الحقيقة إنّما هو نفس العمل عائداً إلى الله فأحسن الجزاء هو أحسن العمل فالجزاء بأحسن الأعمال في معنى الجزاء بأحسن الجزاء ومعنى آخر وهو أن يغفر الله سبحانه سيّئاتهم المشوبة بأعمالهم الحسنة ويستر جهات نقصها فيكون العمل أحسن بعد ما كان حسناً ثمّ يجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون فافهم ذلك وربّما رجع المعنيان إلى معنى واحد.

قوله تعالى: ( وما كان المؤمنون لينفروا كافّة فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ) السياق يدلّ على أنّ المراد بقوله:( لينفروا كافّة ) لينفروا وليخرجوا إلى الجهاد جميعاً، وقوله:( فرقة منهم ) الضمير للمؤمنين الّذين ليس لهم أن ينفروا كافّة، ولازمه أن يكون النفر إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم.

فالآية تنهى مؤمنى سائر البلاد غير مدينة الرسول أن ينفروا إلى الجهاد كافّة

٤٢٨

بل يحضّضهم أن ينف طائفة منهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتفقّه في الدين، وينفر إلى الجهاد غيرهم.

والأنسب بهذا المعنى أن يكون الضمير في قوله( رجعوا ) للطائفة المتفقّهين، وفي قوله:( إليهم ) لقومهم والمراد إذا رجع هؤلاء المتفقّهون إلى قومهم، ويمكن العكس بأن يكون المعنى: إذا رجع قومهم من الجهاد إلى هؤلاء الطائفة بعد تفقّههم ورجوعهم إلى اوطانهم.

ومعنى الآية لا يجوز لمؤمنى البلاد أن يخرجوا إلى الجهاد جميعاً فهلّا نفر وخرج إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طائفة من كلّ فرقة من فرق المؤمنين ليتحقّقوا الفقه والفهم في الدين فيعملوا به لأنفسهم ولينذروا بنشر معارف الدين وذكر آثار المخالفة لاُصوله وفروعه قومهم إذا رجعت هذه الطائفة إليهم لعلّهم يحذرون ويتّقون.

ومن هنا يظهر أوّلاً: أنّ المراد بالتفقّه تفهّم جميع المعارف الدينيّـة من اُصول وفروع لا خصوص الأحكام العمليّـة وهو الفقه المصطلح عليه عند المتشرّعة، والدليل عليه قوله:( لينذروا قومهم ) فإنّ ذلك أمر إنّما يتمّ بالتفقّه في جميع الدين وهو ظاهر.

وثانياً: أنّ النفر إلى الجهاد موضوع عن طلبة العلم الدينىّ بدلالة من الآية.

وثالثاً: أنّ سائر المعاني المحتملة الّتى ذكروها في الآية بعيده عن السياق كقول بعضهم: إنّ المراد بقوله:( لينفروا كافّة ) نفرهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتفقّه، وقول بعضهم في( فلو لا نفر ) : أي إلى الجهاد، والمراد بقوله:( ليتفقهوا ) أي الباقون المتخلّفون فينذروا قومهم النافرين إلى الجهاد إذا رجعوا إلى اُولئك المتخلّفين. فهذه ونظائرها معان بعيدة لا جدوى في التعرّض لها والإطناب في البحث عنها.

قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا قاتلوا الّذين يلونكم من الكفّـار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أنّ الله مع المتّقين ) أمر بالجهاد العامّ الّذى فيه توسّع الإسلام حتّى يشيع في الدنيا فإنّ قتال كلّ طائفة من المؤمنين من يليهم من الكفّـار لا ينتهى إلّا باتّساع الإسلام اتّساعاً باستقرار سلطنته على الدنيا وإحاطته بالناس جميعاً.

والمراد بقوله:( وليجدوا فيكم غلظة ) أي الشدّة في ذات الله وليس يعنى بها

٤٢٩

الخشونة والفظاظة وسوء الخلق والقساوة والجفاء فجميع الاُصول الدينيّـة تذمّ ذلك وتستقبحه، ولحن آيات الجهاد ينهى عن كلّ تعدّ واعتداء وجفاء كما مرّ في سورة البقرة.

وفي قوله:( واعلموا أنّ الله مع المتّقين ) وعد إلهى بالنصر بشرط التقوى، ويؤول معناه إلى إرشادهم إلى أن يكونوا دائماً مراقبين لأنفسهم ذاكرين مقام ربّهم منهم، وهو أنّه معهم ومولاهم فهم الأعلون إن كانوا يتّقون.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور أخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبدالله قال: نزلت هذه الآية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في المسجد:( إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ) الآية فكبّر الناس في المسجد فأقبل رجل من الأنصار ثانياً طرفي ردائه على عاتقه فقال: يا رسول الله أنزلت هذه الآية؟ قال: نعم. فقال الأنصاريّ: بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل.

وفي الكافي بإسناده عن سماعة عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: لقى عبّاد البصريّ علىّ بن الحسينعليه‌السلام في طريق مكّة فقال له: يا علىّ بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحجّ ولينته إنّ الله يقول:( إنّ الله اشترى ) الخ، فقال علىّ بن الحسينعليه‌السلام إذا رأينا هؤلاء الّذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحجّ.

أقول: يريدعليه‌السلام ما في الآية الثانية:( التائبون العابدون ) الآية من الأوصاف.

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: سياحة اُمّتى في المساجد.

أقول: وروى عن أبى هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ السائحين هم الصائمون، وعن أبى اُمامة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ سياحة اُمّتى الجهاد في سبيل الله، وقد تقدّم الكلام فيه.

وفي المجمع:( التائبين العابدين ) إلى آخرها بالياء عن أبى جعفر وأبى عبداللهعليهما‌السلام .

٤٣٠

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى:( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) أخرج ابن أبى شيبة وأحمد والبخاريّ ومسلم والنسائيّ وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبوالشيخ وابن مردويه والبيهقيّ في الدلائل عن سعيد بن المسيّب عن أبيه قال: لمّا حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنده أبوجهل وعبدالله بن أبى أميّة فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أى عمّ قل لا إله إلّا الله اُحاجّ لك بها عند الله فقال أبوجهل وعبدالله بن أبى اُميّة: يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبدالمطّلب؟ وجعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرضها عليه وأبوجهل وعبدالله يعانوانه(١) بتلك المقالة فقال أبو طالب آخر ما كلّمهم هو: على ملّة عبدالمطّلب، وأبى أن يقول: لا إله إلّا الله.

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فنزلت:( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) الآية، وأنزل الله في أبى طالب فقال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء ) .

اقول: وفي معناه روايات اُخرى من طرق أهل السنّة، وفى بعضها أنّ المسلمين لمّا رأوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستغفر لعمّه وهو مشرك استغفروا لآبائهم المشركين فنزلت الآية، وقد اتّفقت الرواية عن أئمّـة أهل البيتعليهم‌السلام أنّه كان مسلماً غير متظاهر بإسلامه ليتمكّن بذلك من حماية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفيما روى بالنقل الصحيح من أشعاره شئ كثير يدلّ على توحيده وتصديقه النبوّة، وقد قدّمنا نبذة منها.

وفي الكافي بإسناده عن زرارة عن أبى جعفر قال: الأوّاه الدّعاء.

وفي المجمع في قوله تعالى:( وما كان الله ليضلّ قوماً ) الآية قيل: مات قوم من المسلمين على الإسلام قبل أن تنزل الفرائض فقال المسلمون: يا رسول الله إخواننا المسلمون ماتوا قبل الفرائض ما منزلتهم؟ فنزل:( وما كان الله ليضلّ قوماً ) الآية عن الحسن.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن عبّـاس في الآية قال: نزلت حين أخذوا الفداء من المشركين يوم الاُسارى(٢) قال: لم يكن لكم أن تأخذوه حتّى يؤذن لكم

____________________

(١) أي يفسرانه.

(٢) يعنى يوم بدر.

٤٣١

ولكن ما كان الله ليعذّب قوماً بذنب أذنبوه حتّى يبيّن لهم ما يتّقون. قال: حتّى ينهاهم قبل ذلك.

أقول: ظاهر الروايتين أنّهما من التطبيق دون النزول بمعناه المصطلح عليه، واتّصال الآية بالآيتين قبلها ودخولها في سياقهما ظاهر، وقد تقدّم توضيحه.

وفي الكافي بإسناده عن حمزة بن محمّـد الطيّار عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( وما كان الله ليضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتّى يبيّن لهم ما يتّقون ) قال: يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه. الحديث.

أقول: ورواه أيضاً عن عبد الأعلى عنهعليه‌السلام ، ورواه البرقىّ أيضاً في المحاسن.

وفى تفسير القمّىّ:( لقد تاب الله بالنبيّ على المهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة ) قال الصادقعليه‌السلام : هكذا نزلت وهم أبوذرّ وأبو خيثمة وعمير بن وهب الّذين تخلّفوا ثمّ لحقوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: وقد استخرجناه من حديث طويل أورده القمّىّ في تفسيره في قوله تعالى:( ولو أرادوا الخروج لأعدوّا له عدّة ) الآية: ٤٦ من السورة، وروى قراءة( بالنبيّ ) في المجمع عنه وعن الرضاعليهما‌السلام .

وفي المجمع في قوله:( وعلى الثلاثة الّذين خلّفوا ) وقرء علىّ بن الحسين زين العابدين ومحمّـد بن علىّ الباقرو جعفر بن محمّـد الصادقعليهم‌السلام وأبو عبد الرحمن السلمىّ. خالفوا.

وفيه في قوله:( لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار ) الآية نزلت في غزاة تبوك وما لحق المسلمين فيها من العسرة حتّى همّ قوم بالرجوع ثمّ تداركهم لطف الله سبحانه قال الحسن: كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم يركب الرجل ساعة ثمّ ينزل فيركب صاحبه كذلك، وكان زادهم الشعير المسوّس والتمر المدوّد والإهالة السنخة وكان النفر منهم يخرجون ما معهم من التميرات بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتّى يجد طعمها ثمّ يعطيها صاحبه فيمصّها ثمّ يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتّى يأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلّا النواة.

وفيه في قوله:( وعلى الثلاثة الّذين خلّفوا ) الآية نزلت في شأن كعب بن مالك

٤٣٢

ومرارة بن الربيع وهلال بن اُميّة، وذلك أنّهم تخلّفوا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يخرجوا معه لا عن نفاق ولكن عن توان ثمّ ندموا فلمّا قدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة جاؤوا إليه واعتذروا فلم يكلّمهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقدّم إلى المسلمين بأن لا يكلّمهم أحد منهم فهجرهم الناس حتّى الصبيان، وجاءت نساؤهم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلن له: يا رسول الله نعتزلهم؟ فقال: ولكن لا يقربوكنّ.

فضاقت عليهم المدينة فخرجوا إلى رؤوس الجبال، وكان أهاليهم يجيؤون لهم بالطعام ولا يكلّمونهم فقال بعضهم لبعض: قد هجرنا الناس ولا يكلّمنا أحد منهم فهلّا نتهاجر نحن أيضاً فتفرّقوا ولم يجتمع منهم اثنان، وبقوا على ذلك خمسين يوماً يتضرّعون إلى الله تعالى ويتوبون إليه، فقبل الله تعالى توبتهم وأنزل فيهم هذه الآية.

أقول: وقد تقدّمت القصّة في حديث طويل نقلناه من تفسير القمّىّ في الآية ٤٦ من السورة، ورويت القصّة بطرق كثيرة.

وفي تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب من تفسير أبى يوسف بن يعقوب بن سفيان حدّثنا مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال:( يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله ) قال: أمر الله الصحابة أن يخافوا الله. ثمّ قال:( وكونوا مع الصادقين ) يعنى مع محمّـد وأهل بيتهعليهم‌السلام .

أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة عن أئمّـة أهل البيتعليهم‌السلام وقد روى في الدرّ المنثورعن ابن مردويه عن ابن عبّـاس، وأيضاً عن ابن عساكر عن أبى جعفر في قوله:( وكونوا مع الصادقين ) قالا: مع علىّ بن أبى طالب.

وفي الكافي بإسناده عن يعقوب بن شعيب قال: قلت لأبي عبدالله (عيه السلام) إذا حدث على الإمام حدث كيف يصنع الناس؟ قال: أين قول الله عزّوجلّ:( فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون ) قال: هم في عذر ما داموا في الطلب، وهؤلاء الّذين ينتظرونهم في عذر حتّى يرجع إليهم أصحابهم.

٤٣٣

أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة عن الأئمّةعليهم‌السلام ، وهو ممّا يدلّ على أن المراد بالتفقّه في الآية أعمّ من تعلّم الفقه بالمعنى المصطلح عليه اليوم.

واعلم أنّ هناك أقوالاً اُخرى في أسباب نزول بعض الآيات السابقة تركناها لظهور ضعفها ووهنها.

٤٣٤

( سورة التوبة آيه ١٢٤ - ١٢٩)  

وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَن يَقُولُ أَيّكُمْ زَادَتْهُ هذِهِ إِيمَاناً فَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( ١٢٤ ) وَأَمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى‏ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ( ١٢٥ ) أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلّ عَامٍ مَرّةً أَوْ مَرّتَيْنِ ثُمّ لاَيَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذّكّرُونَ ( ١٢٦ ) وَإِذا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى‏ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِنْ أَحَدٍ ثُمّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاَيَفْقَهُونَ ( ١٢٧ ) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ( ١٢٨ ) فَإِن تَوَلّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لاَإِلهَ إِلّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَهُوَ رَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ١٢٩ )

( بيان)

هي آيات تختتم بها آيات براءة وهى تذكر حال المؤمنين والمنافقين عند مشاهدة نزول السور القرآنيّـة، يتحصّل بذلك أيضاً أمارة من أمارات النفاق يعرف بها المنافق من المؤمن، وهو قولهم عند نزول القرآن: أيّكم زادته هذه إيماناً ؟ ونظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد؟

وفيها وصفه تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصفاً يحنّ به إليه قلوب المؤمنين، وأمره بالتوكّل عليه إن أعرضوا عنه.

قوله تعالى: ( وإذا ما اُنزلت سورة فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيماناً ) إلى آخر الآيتين. نحو السؤال في قولهم: هل يراكم من أحد؟ يدلّ على أنّ سائله لا يخلو من شئ في قلبه فإنّ هذا السؤال بالطبع سؤال من لا يجد في قلبه أثراً من

٤٣٥

نزول القرآن وكأنّه يذعن أنّ قلوب غيره كقلبه فيما يتلقّاه فيتفحّص عمّن أثّر في قلبه نزول القرآن كأنّه يرى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدّعى أنّ القرآن يصلح كلّ قلب سواء كان مستعدّاً مهيّئاً للصلاح أم لا وهو لا يذعن بذلك وكلّما تليت عليه سورة جديدة ولم يجد في قلبه خشوعاً لله ولا ميلاً وحناناً إلى الحقّ زاد شكّاً فبعثه ذلك إلى أن يسأل سائر من حضر عند النزول عن ذلك حتّى يستقرّ في شكّه ويزيد ثباتاً في نفاقه.

وبالجملة السؤال سؤال من لا يخلو قلبه من نفاق.

وقد فصل الله سبحانه أمر القلوب وفرّق بين قلوب المؤمنين والّذين في قلوبهم مرض فقال:( فأمّا الّذين آمنوا ) وهم الّذين قلوبهم خالية عن النفاق بريئة من المرض وهم على يقين من دينهم بقرينة المقابلة( فزادتهم ) السورة النازلة( إيماناً ) فإنّها بإنارتها أرض القلب بنور هدايتها توجب اشتداد نور الإيمان فيه، وهذه زيادة في الكيف، وباشتمالها على معارف وحقائق جديدة من المعارف القرآنيّـة والحقائق الإلهيّـة، وبسطها على القلب نور الإيمان بها توجب زيادة إيمان جديد على سابق الإيمان وهذه زيادة في الكمّيّة ونسبة زيادة الإيمان إلى السورة من قبيل النسبة إلى الأسباب الظاهرة وكيف كان فالسورة تزيد المؤمنين إيماناً فتنشرح بذلك صدورهم وتتهلّل وجوههم فرحاً( وهم يستبشرون ) .

( وأما الّذين في قلوبهم مرض ) وهم أهل الشكّ والنفاق( فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) أي ضلالاً جديداً إلى ضلالهم القديم وقد سمّى الله سبحانه الضلال رجساً في قوله:( ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً كأنّما يصّعّد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الّذين لا يؤمنون ) الانعام: ١٢٥ والمقابلة الواقعة بين( الّذين آمنوا ) و( الّذين في قلوبهم مرض ) يفيد أنّ هؤلاء ليس في قلوبهم إيمان صحيح وإنّما هو الشكّ أو الجحد وكيف كان فهو الكفر ولذلك قال( وماتوا وهم كافرون ) .

والآية تدلّ على أنّ السورة من القرآن لا تخلو عن تأثير في قلب من استمعه فإن كان قلباً سليماً زادته إيماناً واستبشاراً وسروراً، وإن كان قلباً مريضاً زادته رجساً وضلالاً نظير ما يفيده قوله:( وننزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلّا

٤٣٦

خساراً ) أسرى: ٨٢.

قوله تعالى: ( أو لا يرون أنّهم يفتنون في كلّ عام مرّة أو مرّتين ) الآية الاستفهام للتقرير أي ما لهم لا يتفكّرون ولا يعتبرون وهم يرون أنّهم يبتلون ويمتحنون كلّ عام مرّة أو مرّتين فيعصون الله ولا يخرجون من عهدة المحنة الإلهيّـة وهم لا يتوبون ولا يتذكّرون ولو تفكّروا في ذلك انتبهوا لواجب أمرهم وأيقنوا أنّ الاستمرار على هذا الشأن ينتهى بهم إلى تراكم الرجس على الرجس والهلاك الدائم والخسران المؤبّد.

قوله تعالى: ( وإذا ما اُنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ) الآية وهذه خصيصة اُخرى من خصائصهم وهى أنّهم عند نزول سورة قرآنيّـة - ولا محالة هم حاضرون - ينظر بعضهم إلى بعض نظر من يقول: هل يراكم من أحد، وهذا قول من يسمع حديثاً لا يطيقه ويضيق بذلك صدره فيتغيّر لونه ويظهر القلق والاضطراب في وجهه فيخاف أن يلتفت إليه ويظهر السرّ الّذى طواه في قلبه فينظر إلى بعض من كان قد أودعه سرّه وأوقفه على باطن أمره كأنّه يستفسره هل يطّلع على ما بنا من القلق والاضطراب أحد؟

فقوله:( نظر بعضهم إلى بعض ) أي بعض المنافقين، وهذا من الدليل على أنّ الضمير في قوله في الآية السابقة:( فمنهم من يقول ) أيضاً للمنافقين، وقوله:( نظر بعضهم إلى بعض ) أي نظر قلق مضطرب يحذر ظهور أمره وانهتاك ستره، وقوله:( هل يراكم من أحد ) في مقام التفسير للنظر أي نظر بعضهم إلى بعض نظر من يقول: هل يراكم من أحد؟ ومن للتأكيد وأحد فاعل يراكم.

وقوله:( ثمّ انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنّهم قوم لا يفقهون ) ظاهر السياق أنّ المعنى ثمّ انصرفوا من عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حال صرف الله قلوبهم عن وعى الآيات الإلهيّـة والإيمان بها بسبب أنّهم قوم لا يفقهون الكلام الحقّ فالجملة حاليّة على ما يجوّزه بعضهممن خلوّا الجملة الحاليّة المصدّرة بالفعل الماضي عن قد.

وربّما احتمل كون قوله:( صرف الله قلوبهم ) دعاءً منه تعالى على المنافقين، وله

٤٣٧

نظائر في القرآن، والدعاء منه تعالى على أحد إيعاد له بالشرّ.

قوله تعالى: ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) العنت هو الضرر والهلاك، وما في قوله:( ما عنتّم ) مصدريّة التأويل عنتكم، والمراد بالرسول على ما يشهد سياق الآيتين محمّـدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد وصفه بأنّه من أنفسهم والظاهر أنّ المراد به أنّه بشر مثلكم ومن نوعكم إذ لا دليل يدلّ على تخصيص الخطاب بالعرب أو بقريش خاصّـة، وخاصّـة بالنظر إلى وجود رجال من الروم وفارس والحبشة بين المسلمين في حال الخطاب.

والمعنى لقد جاءكم أيّها الناس رسول من أنفسكم، من أوصافه أنّه يشقّ عليه ضرّكم أو هلاككم وأنّه حريص عليكم جميعاً من مؤمن أو غير مؤمن، وأنّه رؤوف رحيم بالمؤمنين منكم خاصّـة فيحقّ عليكم أن تطيعوا أمره لأنّه رسول لا يصدع إلّا عن أمر الله، وطاعته طاعة الله، وأن تأنسوا به وتحنّوا إليه لأنّه من أنفسكم، وأن تجيبوا دعوته وتصغوا إليه كما ينصح لكم.

ومن هنا يظهر أنّ القيود المأخوذة في الكلام من الأوصاف أعني قوله( رسول ) و( من أنفسكم ) و( عزيز عليه ما عنتّم ) الخ، جميعها مسوقة لتأكيد الندب إلى إجابته وقبول دعوته، ويدلّ عليه قوله في الآية التالية:( فإن تولّوا فقل حسبى الله ) .

قوله تعالى: ( فإن تولّوا فقل حسبى الله لا إله إلّا هو عليه توكّلت وهو ربّ العرش العظيم ) أي وإن تولّوا عنك وأعرضوا عن قبول دعوتك فقل حسبى الله لا إله إلّا هو أي هو كافىّ لا إله إلّا هو.

فقوله:( لا إله إلّا هو ) في مقام التعليل لانقطاعه من الأسباب واعتصامه بربّه فهو كاف لا كافى سواه لأنّه الله لا إله غيره، ومن المحتمل أن تكون كلمة التوحيد جيئ بها للتعظيم نظير قوله:( وقالوا اتّخذ الله ولداً سبحانه ) البقرة: ١١٦.

وقوله:( عليه توكّلت ) وفيه معنى الحصر تفسير يفسّر به قوله:( حسبى الله ) الدالّ على معنى التوكّل بالالتزام، وقد تقدّم في بعض الأبحاث السابقة أنّ معنى التوكّل هو اتّخاذ العبد ربّه وكيلاً يحلّ محلّ نفسه ويتولّى تدبير اُموره أي انصرافه عن

٤٣٨

التسبب بذيل ما يعرفه من الأسباب، ولا محالة هو بعض الأسباب الّذى هو علّة ناقصة والاعتصام بالسبب الحقيقيّ الّذي إليه ينتهي جميع الأسباب.

ومن هنا يظهر وجه تذييل الكلام بقوله:( وهو ربّ العرش العظيم ) أي الملك والسلطان الّذي يحكم به على كلّ شئ ويدبّر به كلّ أمر.

وإنّما قال تعالى:( فقل حسبي الله ) الآية ولم يقل: فتوكّل على الله لإرشاده إلى أن يتوكّل على ربّه وهو ذاكر هذه الحقائق الّتي تنوّر حقيقة معنى التوكّل، وأنّ انظر المصيب هو أن لا يثق الإنسان بما يدر كه من الأسباب الظاهرة الّتي هي لا محالة بعض الأسباب بل يأخذ بما يعلمه منها على ما طبعه الله عليه ويثق بربّه ويتوكّل عليه في حصول بغيته وغرضه.

وفي الآية من الدلالة على عجيب اهتمامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باهتداء الناس ما ليس يخفى فإنّه تعالى يأمره بالتوكّل على ربّه فيما يهتمّ به من الأمر وهو ما تبيّنه الآية السابقة من شدّة رغبته وحرصه في اهتداء الناس وفوزهم بالسعادة فافهم ذلك.

( بحث روائي)

في الكافي بإسناده عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام - في حديث طويل يذكر فيه تمام الإيمان ونقصه، قال: قلت: قد فهمت نقصان الإيمان وتمامه فمن أين جاءت زيادته؟ فقال: قول الله عزّوجلّ:( وإذا ما اُنزلت سورة فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيماناً فأمّا الّذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأمّا الّذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) وقال:( نحن نقصّ عليك نبأهم بالحقّ إنّهم فتية آمنوا بربّهم وزدناهم هدى ) .

ولو كان كلّه واحداً لا زيادة فيه ولا نقصان لم يكن لأحد منهم فضل على الآخر، ولاستوت النعم فيه، ولاستوى الناس وبطل التفضيل، ولكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنّـة وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله، وبالنقصان دخل المفرّطون النار.

٤٣٩

وفي تفسير العيّـاشيّ عن زرارة بن أعين عن أبى جعفرعليه‌السلام ( وأمّا الّذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) يقول شكّاً إلى شكّهم.

وفي الدرّ المنثور في قوله:( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) أخرج أبونعيم في الدلائل عن ابن عبّـاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لم يلتق أبواي قطّ على سفاح: لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيّـبة إلى الأرحام الطاهرة مصفّى مهذّباً لا تنشعب شعبتان إلّا كنت في خيرهما.

أقول: وقد أورد فيه روايات كثيرة في هذا المعنى عن رجال من الصحابة وغيرهم كالعبّـاس وأنس وأبى هريرة وربيعة بن الحارث بن عبدالمطّلب وابن عمر وابن عبّـاس وعلى ومحمّـد بن علىّ الباقر وجعفر بن محمّـد الصادقعليه‌السلام وغيرهم عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفيه أخرج ابن الضريس في فضائل القرآن وابن الأنباريّ في المصاحف وابن مردويه عن الحسن أنّ اُبىّ بن كعب كان يقول: إنّ أحدث القرآن عهداً بالله - وفي لفظ بالسماء - هاتان الآيتان:( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) إلى آخر الآية.

أقول: و الرواية مرويّـة من طريق آخر عن اُبىّ بن كعب، وهى لا تخلو عن تعارض مع ما سيأتي من الرواية وكذا مع ما تقدّم من الروايات في قوله تعالى:( واتّقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ) الآية البقرة: ٢٨١ أنّها آخر آية نزلت من القرآن.

على أنّ لفظ الآيتين لا يلائم كونهما آخر ما نزلت من القرآن إلّا أن يكون إشارة إلى بعض الحوادث الواقعة في مرض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كحديث الدواة والقرطاس.

وفيه أخرج ابن إسحاق وأحمد بن حنبل وابن أبى داود عن عباد بن عبدالله بن الزبير قال: أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر براءة:( لقد جاءكم رسول من أنفسكم - إلى قوله -وهو ربّ العرش العظيم ) إلى عمر فقال: من معك على هذا؟ فقال: لا أدرى والله إلّا أنّى أشهد لسمعتها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووعيتها وحفظتها فقال عمر: وأنا أشهد لسمعتها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا سورة من القرآن فألحقوها فاُلحقت في آخر براءة.

أقول: وفي رواية أخرى أنّ عمر قال للحارث: لا أسألك عليها بيّنه أبداً كذلك

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459