الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173066 / تحميل: 9116
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

قوله تعالى: ( أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ) ، يدلّ على مضىّ الواقعة وإنقضائها لمكان قوله، كان، فينطبق على كفّار قريش وفعالهم بمكّة كما ورد به النقل أنّ المانعين كفّار مكّة، كانوا يمنعون المسلمين عن الصلاة في المسجد الحرام والمساجد الّتي اتّخذوها بفناء الكعبة.

قوله تعالى: ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) ، المشرق والمغرب وكلّ جهة من الجهات حيث كانت فهي لله بحقيقة الملك الّتي لا تقبل التبدّل والانتقال، لا كالملك الّذي بيننا معاشر أهل الاجتماع، وحيث أنّ ملكه تعالى مستقرّ على ذات الشئ محيط بنفسه وأثره، لا كملكنا المستقرّ على أثر الأشياء ومنافعها، لا على ذاتها، والملك لا يقوم من جهة أنّه ملك إلّا بمالكه فالله سبحانه قائم على هذه الجهات محيط بها وهو معها، فالمتوجّه إلى شئ من الجهات متوجّه إليه تعالى.

ولمّا كان المشرق والمغرب جهتين إضافيّتين شملتا ساير الجهات تقريباً إذ لا يبقى خارجاً منهما إلّا نقطتا الجنوب والشمال الحقيقيّتان ولذلك لم يقيّد إطلاق قوله :( فَأَيْنَمَا ) ، بهما بأن يقال: أينما تولّوا منهما فكأنّ الإنسان أينما ولّى وجهه فهناك إمّا مشرق أو مغرب، فقوله: ولله المشرق والمغرب بمنزلة قولنا: ولله الجهات جميعاً وإنّما أخذ بهما لأنّ الجهات الّتي يقصدها الإنسان بوجهه إنّما تتعيّن بشروق الشمس وغروبها وسائر الأجرام العلويّة المنيرة.

قوله تعالى: ( فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) ، فيه وضع علّة الحكم في الجزاء موضع الجزاء، والتقدير - والله أعلم - فأينما تولّوا جاز لكم ذلك فإنّ وجه الله هناك ويدلّ على هذا التقدير تعليل الحكم بقوله تعالى:( إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ، أي إنّ الله واسع الملك والإحاطة عليم بقصودكم أينما توجّهت، لا كالواحد من الإنسان أو سائر الخلق الجسمانيّ لا يتوجّه إليه إلّا إذا كان في جهة خاصّة، ولا أنّه يعلم توجّه القاصد إليه إلّا من جهة خاصّة كقدّامه فقط، فالتّوجّه إلى كلّ جهة توجّه إلى الله، معلومٌ له سبحانه.

واعلم أنّ هذا توسعة في القبلة من حيث الجهة لا من حيث المكان، والدّليل عليه قوله: ولله المشرق والمغرب.

٢٦١

( بحث روائي)

في التهذيب عن محمّد بن الحصين قال: كتب إلى عبد صالح الرّجل يصلّي في يوم غيم في فلات من الأرض ولا يعرف القبلة فيصلّى حتّى فرغ من صلاته بدت له الشمس فإذا هو صلّى لغير القبلة يعتدّ بصلاته أم يعيدها ؟ فكتب يعيد ما لم يفت الوقت، أو لم يعلم أنّ الله يقول: - وقوله الحقّ - فأينما تولّوا فثمّ وجه الله.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الباقرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ) إلخ، قالعليه‌السلام : أنزل الله هذه الآية في التطوّع خاصّة فأينما تولّوا فثمّ وجه الله إنّ الله واسع عليم، وصلّى رسول الله إيماءً على راحلته أينما توجّهت به حين خرج إلى خيبر، وحين رجع من مكّة، وجعل الكعبة خلف ظهره.

أقول: وروى العيّاشيّ أيضاً قريباً من ذلك عن زرارة عن الصادقعليه‌السلام ، وكذا القمّىّ والشيخ عن أبي الحسنعليه‌السلام ، وكذا الصدوق عن الصادقعليه‌السلام .

وأعلم إنّك إذا تصفّحت أخبار أئمّة أهل البيت حقّ التصفّح، في موارد العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد من القرآن وجدتها كثيراً ما تستفيد من العامّ حكماً، ومن الخاصّ أعني: العامّ مع المخصّص حكماً آخر، فمن العامّ مثلاً الاستحباب كما هو الغالب ومن الخاصّ الوجوب، وكذلك الحال في الكراهة والحرمة، وعلى هذا القياس. وهذا أحد اُصول مفاتيح التفسير في الأخبار المنقولة عنهم، وعليه مدار جمّ غفير من أحاديثهم. ومن هنا يمكنك أن تستخرج منها في المعارف القرآنيّة قاعدتين:

أحداهما: أنّ كلّ جملة وحدها، وهي مع كلّ قيد من قيودها تحكي عن حقيقة ثابتة من الحقائق أو حكم ثابت من الأحكام كقوله تعالى:( قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) الانعام - ٩١، ففيه معان أربع: الأوّل: قل الله، والثاني: قل الله ثمّ ذرهم، والثالث: قل الله ثمّ ذرهم في خوضهم، والرابع: قل الله ثمّ ذرهم في خوضهم يلعبون. واعتبر نظير ذلك في كلّ ما يمكن.

والثانية: أنّ القصّتين أو المعنيين إذا اشتركا في جملة أو نحوها، فهما راجعان إلى مرجع واحد. وهذان سرّان تحتهما أسرار والله الهادي.

٢٦٢

( سورة البقرة الآيات ١١٦ - ١١٧)

وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا  سُبْحَانَهُ  بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ( ١١٦ ) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( ١١٧ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا ) يعطي السياق، أنّ المراد بالقائلين بهذه المقالة هم اليهود والنصارى: إذ قالت اليهود: عزيز ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، فإنّ وجه الكلام مع أهل الكتاب، وإنّما قال أهل الكتاب هذه الكلمة أعني قولهم: اتّخذ الله ولداً أوّل ما قالوها تشريفاً لأنبيائهم كما قالوا: نحن أبناء الله وأحبّاؤه ثمّ تلبّست بلباس الجدّ والحقيقة فردّ الله سبحانه عليهم في هاتين الآيتين فأضرب عن قولهم بقوله:( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ) إلخ، ويشتمل على برهانين ينفي كلّ منهما الولادة وتحقّق الولد منه سبحانه، فإنّ اتّخاذ الولد هو أن يجزّئ موجود طبيعيّ بعض أجزاء وجوده، ويفصّله عن نفسه فيصيّره بتربية تدريجيّة فرداً من نوعه مماثلاً لنفسه، وهو سبحانه منزّه عن المثل، بل كلّ شئ ممّا في السماوات والأرض مملوك له، قائم الذات به، قانت ذليل عند ذلّة وجوديّة، فكيف يكون شئ من الأشياء ولداً له مماثلاً نوعيّاً بالنسبه إليه ؟ وهو سبحانه بديع السماوات والأرض، إنّما يخلق ما يخلق على غير مثال سابق، فلا يشبه شئ من خلقه خلقاً سابقاً، ولا يشبه فعله فعل غيره في التقليد والتشبيه ولا في التدريج، والتوصّل بالأسباب إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون من غير مثال سابق ولا تدريج، فكيف يمكن أن ينسب إليه اتّخاذ الولد ؟ وتحقّقه يحتاج إلى تربية وتدريج، فقوله:( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) برهان تامّ، وقوله:( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) برهان آخر تامّ، هذا. ويستفاد من الآيتين:

٢٦٣

أوّلاً: شمول حكم العبادة لجميع المخلوقات ممّا في السماوات والأرض.

وثانياً: أنّ فعله تعالى غير تدريجيّ، ويستدرج من هنا، أنّ كلّ موجود تدريجيّ فله وجه غير تدريجيّ، به يصدر عنه تعالى كما قال تعالى:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) يس - ٨٢، وقال تعالى:( وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) القمر - ٥٠، وتفصيل القول في هذه الحقيقة القرآنيّة، سيأتي إنشاء الله في ذيل قوله:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا ) يس - ٨٢، فانتظر.

قوله تعالى: ( سُبْحَانَهُ ) مصدر بمعنى التسبيح وهو لا يستعمل إلّا مضافاً وهو مفعول مطلق لفعل محذوف أي سبّحته تسبيحاً، فحذف الفعل وأضيف المصدر إلى الضمير المفعول وأقيم مقامه. وفي الكلمة تأديب إلهيّ بالتنزيه فيما يذكر فيه ما لا يليق بساحة قدسة تعالى و تقدّس.

قوله تعالى: ( كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) ، القنوت العبادة والتذلّل.

قوله تعالى: ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ ) ، بداعة الشئ كونه لا يماثل غيره ممّا يعرف ويؤنس به.

قوله تعالى: ( فَيَكُونُ ) ، تفريع على قول كن وليس في مورد الجزاء حتّى يجزم.

( بحث روائي)

في الكافي والبصائر، عن سدير الصيرفيّ، قال: سمعت عمران بن أعين يسأل أباجعفرعليه‌السلام عن قول الله تعالى:( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) ، فقال أبوجعفرعليه‌السلام : إنّ الله عزّوجلّ ابتدع الأشياء كلّها بعلمه على غير مثال كان قبله، فابتدع السماوات والأرضين ولم يكن قبلهنّ سماوات ولا أرضون أما تسمع لقوله: وكان عرشه على الماء ؟.

أقول: وفي الرواية إستفادة اُخرى لطيفة، وهي أنّ المراد بالماء في قوله تعالى: وكان عرشه على الماء غير المصداق الّذي عندنا من الماء بدليل أنّ الخلقة مستوية على البداعة وكانت السلطنة الإلهيّة قبل خلق هذه السماوات والأرض مستقرّة مستوية على الماء فهو غير الماء وسيجئ تتمّة الكلام في قوله تعالى:( وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ) هود - ٧.

٢٦٤

( بحث علمي وفلسفي)

دلّ التجارب على افتراق كلّ موجودين في الشخصيّات وإن كانت متّحدة في الكلّيّات حتّى الموجودان اللّذان لا يميّز الحسّ جهة الفرقة بينهما فالحسّ المسلّح يدرك ذلك منهما، والبرهان الفلسفيّ أيضاً يوجب ذلك، فإنّ المفروضين من الموجودين لو لم يتميّز أحدهما من الآخر بشئ خارج عن ذاته، كان سبب الكثرة المفروضة غير خارج من ذاتهما فيكون الذات صرفة غير مخلوطة، وصرف الشئ لا يتثنّى ولا يتكرّر، فكان ما هو المفروض كثيراً واحداً غير كثير هف. فكلّ موجود مغاير الذات لموجود آخر، فكلّ موجود فهو بديع الوجود على غير مثال سابق ولا معهود، والله سبحانه هو المبتدع بديع السماوات والأرض.

٢٦٥

( سورة البقرة الآيات ١١٨ - ١١٩)

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ  كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ  تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ  قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( ١١٨ ) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا  وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ( ١١٩ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) هم المشركون غير أهل الكتاب ويدلّ عليه المقابلة السابقة في قوله تعالى: وقالت اليهود ليست النصارى على شئ، وقالت النصارى ليست اليهود على شئ، وهم يتلون الكتاب كذلك، قال الّذين لا يعلمون مثل قولهم الآية. ففي تلك الآية ألحق أهل الكتاب في قولهم بالمشركين والكفّار من العرب، وفي هذه الآية ألحق المشركين والكفّار بهم، فقال:( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم ) - وهم أهل الكتاب واليهود من بينهم - حيث اقترحوا بمثل هذه الأقاويل على نبيّ الله موسىعليه‌السلام ، فهم والكفّار متشابهون في أفكارهم وآرائهم، يقول هؤلاء ما قاله أولئك وبالعكس، تشابهت قلوبهم.

قوله تعالى: ( قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) جواب عن قول الّذين لا يعلمون إلخ، والمراد أنّ الآيات الّتي يطالبون بها مأتيّة مبينّة، ولكن لا ينتفع بها إلّا قوم يوقنون بآيات الله، وأمّا هؤلاء الّذين لا يعلمون، فقلوبهم محجوبة بحجاب الجهل، مؤفة بآفات العصبيّة والعناد، وما تغني الآيات عن قوم لا يعلمون. ومن هنا يظهر وجه توصيفهم بعدم العلم، ثمّ أيّد ذلك بتوجيه الخطاب إلى رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) والإشعار بأنّه مرسل من عند الله بالحقّ بشيراً ونذيراً، فلتطب به نفسه، وليعلم أنّ هؤلاء أصحاب الجحيم، مكتوب عليهم ذلك، لا مطمع في هدايتهم ونجاتهم.

قوله تعالى: ( وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ) ، يجري مجرى قوله:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) البقرة - ٦.

٢٦٦

( سورة البقرة الآيات ١٢٠ - ١٢٣)

وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ  قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَىٰ  وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ  مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ( ١٢٠ ) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ  وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( ١٢١ ) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ١٢٢ ) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ( ١٢٣ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ ) ، رجوع إلى الطائفتين بعد الالتفات إلى غيرهم، وهو بمنزلة جمع أطراف الكلام على تفرّقها وتشتّتها، فكأنّه بعد هذه الخطابات والتوبيخات هم يرجع إلى رسوله ويقول له: هؤلاء ليسوا براضين عنك، حتّى تتّبع ملّتهم الّتي ابتدعوها بأهوائهم ونظموها بآرائهم، ثمّ أمره بالردّ عليهم بقوله:( قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَىٰ ) أي إنّ الاتّباع إنّما هو لغرض الهدى ولا هدى إلّا هدى الله والحقّ الّذي يجب أن يتّبع وغيره - وهو ملّتكم - ليس بالهدى، فهي أهواؤكم ألبستموها لباس الدين وسمّيتموها بإسم الملّة، ففي قوله: قل إنّ هدى الله إلخ، جعل الهدى كناية عن القرآن النازل، ثمّ أضيف إلى الله فأفاد صحّة الحصر في قوله:( إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَىٰ ) على طريق قصرالقلب، وأفاد ذلك خلوّ ملّتهم عن الهدى، وأفاد ذلك كونها أهوائاً لهم، واستلزم ذلك كون ما عند النبيّ علماً، وكون ما عندهم

٢٦٧

جهلاً، واتّسع المكان لتعقيب الكلام بقوله: ولئن اتّبعت أهوائهم بعد الّذي جائك من العلم، ما لك من الله من وليّ ولا نصير، فانظر إلى ما في هذا الكلام من أصول البرهان العريقة، ووجوه البلاغة على إيجازه، وسلاسة البيان وصفائه.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ) يمكن أن تكون الجملة بقرينة الحصر المفهوم من قوله: أولئك يؤمنون به جواباً للسؤال المقدّر الّذي يسوق الذهن إليه قوله تعالى:( وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ ) إلخ، وهو أنّهم إذا لم يكن مطمع في إيمانهم، فمن ذا الّذي يؤمن منهم ؟ وهل توجيه الدعوة إليهم باطل لغو ؟ فأجيب بأنّ الّذين آتيناهم الكتاب والحال أنّهم يتلونه حقّ تلاوته، اُؤلئك يؤمنون بكتابهم فيؤمنون بك، أو أنّ اُؤلئك يؤمنون بالكتاب، كتاب الله المنزل أيّاما كان، أو أنّ اُؤلئك يؤمنون بالكتاب الّذي هو القرآن. و عليهذا: فالقصر في قوله: اُؤلئك يؤمنون به قصر أفراد والضمير في قوله: به على بعض التقادير لا يخلو عن استخدام. والمراد بالّذين اوتوا الكتاب قوم من اليهود والنصارى ليسوا متّبعين للهوى من أهل الحقّ منهم، وبالكتاب التوراة والإنجيل، وإن كان المراد بهم المؤمنين برسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وبالكتاب القرآن، فالمعنى: إنّ الّذين آتيناهم القرآن، وهم يتلونه حقّ تلاوته اُؤلئك يؤمنون بالقرآن، لا هؤلاء المتّبعون لأهوائهم، فالقصر حينئذ قصر قلب.

قوله تعالى: ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا ) ، إلى آخر الآيتين إرجاع ختم الكلام إلى بدئه، وآخره إلى أوّله، وعنده يختتم شطر من خطابات بني إسرائيل.

٢٦٨

( بحث روائي)

في إرشاد الديلميّ عن الصادقعليه‌السلام : في قوله:( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ) ، قال: يرتّلون آياته ويتفقّهون به ويعملون بأحكامه، ويرجون وعده ويخافون وعيده، ويعتبرون بقصصه، ويأتمرون بأوامره، وينتهون بنواهيه، ما هو والله حفظ آياته، ودرس حروفه، وتلاوة سوره، ودرس أعشاره وأخماسه، حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده، وإنّما هو تدبّر آياته والعمل بأحكامه، قال الله تعالى: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبّروا آياته.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ: يتلونه حقّ تلاوته قالعليه‌السلام الوقوف عند الجنّة والنار.

أقول: والمراد به التدبّر.

وفي الكافي عنهعليه‌السلام : في الآية قالعليه‌السلام هم الأئمّة.

أقول: وهو من باب الجرى والانطباق على المصداق الكامل.

٢٦٩

( سورة البقرة الآية ١٢٤)

وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ  قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا  قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي  قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( ١٢٤ )

( بيان)

شروع بجمل من قصص إبراهيمعليه‌السلام وهو كالمقدّمة والتوطئة لآيات تغيير القبلة وآيات أحكام الحجّ، وما معها من بيان حقيقة الدين الحنيف الإسلاميّ بمراتبها: من أصول المعارف، والأخلاق، والأحكام الفرعيّة الفقهيّة جملاً، والآيات مشتملة على قصّة اختصاصه تعالى إيّاه بالإمامة وبنائه الكعبة ودعوته بالبعثة.

فقوله تعالى: ( وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ ) إلخ، إشارة إلى قصّة إعطائه الإمامة وحبائه بها، والقصّة إنّما وقعت في أواخر عهد إبراهيمعليه‌السلام بعد كبره وتولّد إسماعيل، وإسحق له وإسكانه إسماعيل وأمّه بمكّة، كما تنبّه به بعضهم أيضاً، والدليل على ذلك قولهعليه‌السلام على ما حكاه الله سبحانه بعد قوله تعالى له: إنّي جاعلك للناس إماماً، قال:( وَمِن ذُرِّيَّتِي ) ، فإنّهعليه‌السلام قبل مجئ الملائكة ببشارة إسماعيل وإسحق، ما كان يعلم ولا يظنّ أن سيكون له ذرّيّة من بعده حتّى أنّه بعد ما بشرّته الملائكة بالأولاد خاطبهم بما ظاهره اليأس والقنوط كما قال تعالى:( وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ ) ، الحجر - ٥٥، وكذلك زوجته على ما حكاه الله تعالى في قصّة بشارته أيضاً إذ قال تعالى:( وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) هود - ٧٣، وكلامهما كما ترى يلوح منه. آثار اليأس والقنوط ولذلك قابلته الملائكة بنوع كلام فيه تسليتهما وتطييب أنفسهما فما كان هو ولا

٢٧٠

أهله يعلم أن سيرزق ذرّيّة، وقولهعليه‌السلام :( وَمِن ذُرِّيَّتِي ) ، بعد قوله تعالى:( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ، قول من يعتقد لنفسه ذرّيّة، وكيف يسع من له أدنى دربة بأدب الكلام وخاصّة مثل إبراهيم الخليل في خطاب يخاطب به ربّه الجليل أن يتفوّه بما لا علم له به ؟ ولو كان ذلك لكان من الواجب أن يقول: ومن ذرّيّتي إن رزقتني ذرّيّة أو ما يؤدّى هذا المعنى فالقصّة واقعة كما ذكرنا في أواخر عهد إبراهيم بعد البشارة.

على أنّ قوله تعالى:( وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) قال:( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ، يدلّ على أن هذه الإمامة الموهوبة إنّما كانت بعد ابتلائه بما ابتلاه الله به من الامتحانات وليست هذه إلّا أنواع البلاء الّتي ابتلىعليه‌السلام بها في حياته، وقد نصّ القرآن على أنّ من أوضحها بلاء قضيّة ذبح إسمعيل. قال تعالى:( قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ - إلى ان قال -إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ) الصافات - ١٠٦.

والقضيّة إنّما وقعت في كبر إبراهيم، كما حكى الله تعالى عنه من قوله:( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ) إبراهيم - ٣٩.

ولنرجع إلى ألفاظ الآية فقوله:( وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ ) ، الابتلاء والبلاء بمعنى واحد تقول: ابتليته وبلوته بكذا أي امتحنته واختبرته، إذا قدّمت إليه أمراً أو أوقعته في حدث فاختبرته بذلك واستظهرت ما عنده من الصفات النفسانيّة الكامنة عنده كالإطاعة والشجاعة والسخاء والعفّة والعلم والوفاء أو مقابلاتها، ولذلك لا يكون الابتلاء إلّا بعمل فإنّ الفعل هو الذى يظهر به الصفات الكامنة من الإنسان دون القول الّذي يحتمل الصدق والكذب. قال تعالى:( إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ) ن - ١٧، وقال تعالى:( إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ ) البقرة - ٢٤٩.

فتعلّق الابتلاء، في الآية بالكلمات إن كان المراد بها الأقوال إنّما هو من جهة تعلّقها با لعمل وحكايتها عن العهود والأوامر المتعلّقة بالفعل كقوله تعالى:( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ) البقرة - ٨٣، أي عاشروهم معاشرة جميلة وقوله :( بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) ، الكلمات وهي جمع كلمة وإن أطلقت في القرآن على العين الخارجيّ دون اللفظ والقول، كقوله تعالى:( بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) آل عمران - ٤٥، إلّا أنّ ذلك بعناية إطلاق

٢٧١

القول كما قال تعالى:( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) آل عمران - ٥٩.

وجميع ما نسب إليه تعالى من الكلمة في القرآن أريد بها القول كقوله تعالى:( وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ) الأنعام - ٣٤، وقوله:( لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ) يونس - ٦٤، وقوله:( يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ) الانفال - ٧، وقوله:( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ) يونس - ٩٦، وقوله:( وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ ) الزمر - ٧١، وقوله:( وَكَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ) المؤمن - ٦، وقوله:( وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) الشورى - ١٤، وقوله:( وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا ) التوبة - ٤١، وقوله:( قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ) ص - ٨٤، وقوله:( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) النحل - ٤٠، فهذه ونظائرها اُريد بها القول بعناية أنّ القول توجيه ما يريد المتكلّم إعلامه المخاطب ما عنده كما في الأخبار أو لغرض تحميله عليه كما في الإنشاء ولذلك ربّما تتّصف في كلامه تعالى بالتمام كقوله تعالى:( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) الأنعام - ١١٥، وقوله تعالى:( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) الأعراف - ١٣٧ كأنّ الكلمة إذا صدرت عن قائلها فهي ناقصة بعد، لم تتمّ، حتّى تلبس لباس العمل وتعود صدقاً.

وهذا لا ينافي كون قوله تعالى فعله، فإنّ الحقائق الواقعيّة لها حكم، وللعنايات الكلاميّة اللفظيّة حكم آخر، فما يريد الله سبحانه إظهاره لواحد من أنبيائه، أو غيرهم بعد خفائه، أو يريد تحميله على أحد قول وكلام له لاشتماله على غرض القول والكلام وتضمّنه غاية الخبر والنبأ، والأمر والنهي، وإطلاق القول والكلمة على مثل ذلك شائع في الاستعمال إذا اشتمل على ما يؤدّيه القول والكلمة. تقول: لأفعلنّ كذا وكذا، لقول قلته وكلمة قدّمتها، ولم تقل قولاً، ولا قدّمت كلمة، وإنّما عزمت عزيمة لا تنقضها شفاعة شفيع أو وهن إرادة، ومنه قول عنترة:

وقولي كلّما جشأت وجاشت

مكانك تحمدى أو تستريحي

٢٧٢

يريد بالقول توطين نفسه على الثبات والعزم، على لزومها مكانها لتفوز بالحمد إن قتل، وبالاستراحة إن غلب.

إذا عرفت ذلك ظهر لك أنّ المراد بقوله تعالى:( بِكَلِمَاتٍ ) ، قضايا ابتلى بها وعهود إلهيّة أريدت منه، كابتلائه بالكواكب والأصنام، والنار والهجرة وتضحيته بابنه وغير ذلك ولم يبيّن في الكلام ما هي الكلمات لأنّ الغرض غير متعلّق بذلك. نعم قوله:( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ، من حيث ترتّبه على الكلمات تدلّ على أنّها كانت أموراً تثبت بها لياقته، عليه السلام لمقام الإمامة.

فهذه هي الكلمات وأمّا إتمامهنّ فإن كان الضمير في قوله تعالى: أتمّهنّ راجعاً إلى إبراهيم كان معنى إتمامهنّ إتيانه عليه السلام ما أريد منه، وامتثاله لما أمر به، وإن كان الضمير راجعاً إليه تعالى كما هو الظاهر كان المراد توفيقه لما أريد منه، ومساعدته على ذلك، وأمّا ما ذكره بعضهم: أنّ المراد بالكلمات قوله تعالى:( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ، إلى آخر الآيات فمعنى لا ينبغي الركون إليه إذ لم يعهد في القرآن إطلاق الكلمات على جمل الكلام.

قوله تعالى: ( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ، أي مقتدى يقتدى بك الناس، ويتّبعونك في أقوالك وأفعالك، فلإمام هو الّذي يقتدي ويأتمّ به الناس، ولذلك ذكر عدّة من المفسّرين أنّ المراد به النبوّة، لأنّ النبيّ يقتدي به اُمّته في دينهم، قال تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ ) النساء - ٦٤، لكنّه في غاية السقوط.

أمّاأولا: فلأنّ قوله: إماماً، مفعول ثان لعامله الّذي هو قوله: جاعلك واسم الفاعل لا يعمل إذا كان بمعنى الماضي، وإنّما يعمل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال فقوله،( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ، وعدلهعليه‌السلام بالإمامة في ما سيأتي، مع أنّه وحي لا يكون إلّا مع نبوّة، فقد كان (ع) نبيّاً قبل تقلّده الإمامة فليست الإمامة في الآية بمعنى النبوّة (ذكره بعض المفسّرين).

وأمّاثانياً: فلأنّا بيّنا في صدر الكلام: أنّ قصّة الإمامة، إنّما كانت في أواخر عهد إبراهيمعليه‌السلام بعد مجئ البشارة له بإسحق وإسماعيل، وإنّما جائت الملائكة

٢٧٣

بالبشارة في مسيرهم إلى قوم لوط وإهلاكهم، وقد كان إبراهيم حينئذ نبيّاً مرسلاً، فقد كان نبيّاً قبل أن يكون إماماً، فإمامته غير نبوّته.

ومنشأ هذا التفسير وما يشابهه الابتذال الطاري على معاني الألفاظ الواقعة في القرآن الشريف في أنظار الناس من تكرّر الاستعمال بمرور الزمن ومن جملة تلك الألفاظ لفظ الإمامة، ففسرّه قوم: بالنبوّة والتقدّم والمطاعيّة مطلقاً، وفسّره آخرون بمعنى الخلافة أو الوصاية، أو الرئاسة في اُمور الدين والدنيا - وكلّ ذلك لم يكن - فإنّ النبوّة معناها: تحمّل النبأ من جانب الله، والرسالة معناها تحمّل التبليغ. والمطاعيّة والإطاعة قبول الإنسان ما يراه أو يأمره غيره وهو من لوازم النبوّة والرسالة، والخلافة نحو من النيابة، وكذلك والوصاية، والرئاسة نحو من المطاعيّة وهو مصدريّة الحكم في الاجتماع وكلّ هذه المعاني غير معنى الإمامة الّتي هي كون الإنسان بحيث يقتدى به غيره بأن يطّبق أفعاله وأقواله على أفعاله وأقواله بنحو التبعيّة. ولا معنى لأن يقال لنبيّ من الأنبياء مفترض الطاعة إنّي جاعلك للناس نبيّاً، أو مطاعاً فيما تبلّغه بنبوّتك، أو رئيساً تأمر وتنهى في الدين، أو وصيّاً، أو خليفة في الأرض تقضي بين الناس في مرافعاتهم بحكم الله.

وليست الإمامة تخالف الكلمات السابقة وتختصّ بموردها بمجرّد العناية اللّفظيّة فقط، إذ لا يصحّ أن يقال لنبيّ - من لوازم نبوّته كونه مطاعاً بعد نبوّته - إنّي جاعلك مطاعاً للناس بعد ما جعلتك كذلك، ولا يصحّ أن يقال له ما يؤل إليه معناه وإن اختلف بمجرّد عناية لفظيّة، فإنّ المحذور هو المحذور، وهذه المواهب الإلهيّة ليست مقصورة على مجرّد المفاهيم اللفظيّة، بل دونها حقائق من المعارف الحقيقيّة، فلمعنى الإمامة حقيقة وراء هذه الحقائق.

والّذي نجده في كلامه تعالى: أنّه كلّما تعرّض لمعنى الإمامة تعرّض معها للهداية تعرّض التفسير. قال تعالى في قصص إبراهيمعليه‌السلام :( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) الأنبياء - ٧٣، وقال سبحانه:( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) السجدة - ٢٤، فوصفها بالهداية وصف تعريف، ثمّ قيدها بالأمر، فبيّن أنّ الإمامة ليست مطلق

٢٧٤

الهداية، بل هي الهداية الّتي تقع بأمر الله، وهذا الأمر هو الّذي بيّن حقيقته في قوله:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ) يس - ٨٣، وقوله:( وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) القمر - ٥٠، وسنبيّن في الآيتين أنّ الأمر الإلهيّ وهو الّذي تسمّيه الآية المذكورة بالملكوت وجهٌ آخر للخلق، يواجهون به الله سبحانه، طاهرٌ مطهّر من قيود الزمان والمكان، خال من التغيّر والتبدّل وهو المراد بكلمة - كن - الّذي ليس إلّا وجود الشئ العينيّ، وهو قبال الخلق الّذي هو وجهٌ آخر من وجهي الأشياء فيه التغيّر والتدريج والانطباق على قوانين الحركة والزمان، وليكن هذا عندك على إجماله حتّى يأتيك تفصيله إنشاء الله العزيز.

وبالجملة فلإمام هاد يهدي بأمرٍ ملكوتيّ يصاحبه، فلإمامة بحسب الباطن نحو ولاية للناس في أعمالهم، وهدايتها إيصالها إيّاهم إلى المطلوب بأمر الله دون مجرّد إرائة الطريق الّذي هو شأن النبيّ والرسول وكلّ مؤمن يهدي إلى الله سبحانه بالنصح والموعظة الحسنة، قال تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ) إبراهيم - ٤، وقال تعالى: في مؤمن آل فرعون( وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ) مؤمن - ٣٨، وقال تعالى:( فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) التوبة - ١٢٢، وسيتّضح لك هذا المعنى مزيد إتضاح.

ثمّ إنّه تعالى بيّن سبب موهبة الإمامة بقوله:( لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) الآية فبيّن أنّ الملاك في ذلك صبرهم في جنب الله - وقد أطلق الصبر - فهو في كلّ ما يبتلي ويمتحن به عبدٌ في عبوديّته، وكونهم قبل ذلك موقنين، وقد ذكر في جملة قصص إبراهيمعليه‌السلام قوله:( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الانعام - ٧٥، والآية كما ترى تعطي بظاهرها: أنّ إرائة الملكوت لإبراهيم كانت مقدّمة لإفاضة اليقين عليه، ويتبيّن به أنّ اليقين لا ينفكّ عن مشاهدة الملكوت كما هو ظاهر قوله تعالى:( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) التكاثر - ٦ وقوله تعالى:( كَلَّا بَل رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ

٢٧٥

- إلى أن قال -كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) المطفّفين - ٢١، وهذه الآيات تدلّ على أنّ المقرّبين هم الّذين لا يحجبون عن ربّهم بحجاب قلبيّ وهو المعصية والجهل والريب والشكّ، فهم أهل اليقين بالله، وهم يشهدون علّيّين كما يشهدون الجحيم.

وبالجملة فلإمام يجب أن يكون إنساناً ذايقين مكشوفاً له عالم الملكوت - متحقّقاً بكلمات من الله سبحانه - وقد مرّ أنّ الملكوت هو الأمر الّذي هو الوجه الباطن من وجهي هذا العالم، فقوله تعالى:( يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ، يدلّ دلالة واضحة على أنّ كلّ ما يتعلّق به أمر الهداية - وهو القلوب والأعمال - فللإمام باطنه وحقيقتة، ووجهه الأمري حاضر عنده غير غائب عنه، ومن المعلوم أنّ القلوب والأعمال كسائر الأشياء في كونها ذات وجهين، فلإمام يحضر عنده ويلحق به أعمال العباد، خيرها وشرّها، وهو المهيمن على السبيلين جميعاً، سبيل السعادة وسبيل الشقاوة. وقال تعالى أيضاً:( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) الاسراء - ٧١، وسيجئ تفسيره بالإمام الحقّ دون كتاب الأعمال، على ما يظنّ من ظاهرها، فلإمام هو الّذي يسوق الناس إلى الله سبحانه يوم تبلى السرائر، كما أنّه يسوقهم إليه في ظاهر هذه الحياة الدنيا وباطنها، والآية مع ذلك تفيد أنّ الإمام لا يخلو عنه زمانٌ من الأزمنة، وعصر من الأعصار، لمكان قوله تعالى :( كُلَّ أُنَاسٍ ) ، على ما سيجئ في تفسير الآية من تقريبه.

ثمّ إنّ هذا المعنى أعني الإمامة، على شرافته وعظمته، لا يقوم إلّا بمن كان سعيد الذات بنفسه، إذ الّذي ربّما تلبّس ذاته بالظلم والشقاء، فإنّما سعادته بهداية من غيره، وقد قال الله تعالى:( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ ) يونس - ٣٥. وقد قوبل في الآية بين الهادي إلى الحقّ وبين غير المهتدي إلّا بغيره، أعني المهتدي بغيره، وهذه المقابلة تقتضي أن يكون الهادي إلى الحقّ مهتدياً بنفسه، وأنّ المهتدي بغيره لا يكون هادياً إلى الحقّ البتّة.

ويستنتج من هنا أمران:أحدهما: أنّ الإمام يجب أن يكون معصوماً عن الضلال و المعصية، وإلّا كان غير مهتد بنفسه، كما مرّ كما، يدلّ عليه أيضاً قوله تعالى:

٢٧٦

( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) الأنبياء - ٧٣ فأفعال الأمام خيرات يهتدى إليها لا بهداية من غيره بل باهتداء من نفسه بتأييد إلهيّ، وتسديد ربّانيّ. والدليل عليه قوله تعالى:( فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) بناءً على أنّ المصدر المضاف يدلّ على الوقوع، ففرقٌ بين مثل قولنا: وأوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات فلا يدلّ على التحقّق والوقوع، بخلاف قوله:( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) فهو يدلّ على أن ما فعلوه من الخيرات إنّما هو بوحى باطنيّ وتأييد سماويّ.الثاني: عكس الأمر الأوّل وهو أنّ من ليس بمعصوم فلا يكون إمامً هاديً إلى الحقّ البتّة.

وبهذا البيان يظهر: أنّ المراد بالظالمين في قوله تعالى:( قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) مطلق من صدر عنه ظلمٌ ما، من شرك أو معصية، وإن كان منه في برهة من عمره، ثمّ تاب وصلح.

وقد سئل بعض أساتيدنا رحمة الله عليه: عن تقريب دلالة الآية على عصمة الأمام.

فأجاب: أنّ الناس بحسب القسمة العقليّة على أربعة أقسام: من كان ظالمً في جميع عمره، ومن لم يكن ظالمً في جميع عمره، ومن هو ظالمٌ في أوّل عمره دون آخره، ومن هو بالعكس هذا. وإبراهيمعليه‌السلام أجلّ شأنً من أن يسأل الأمامة للقسم الأوّل والرابع من ذرّيّته، فبقي قسمان وقد نفى الله أحدهما، وهو الّذي يكون ظالمً في أوّل عمره دون آخره، فبقي الآخر، وهو الّذي يكون غير ظالم في جميع عمره إنتهى وقد ظهر ممّا تقدّم من البيان أمور.

الأوّل: أنّ الأمامة لمجعولة.

الثاني: أنّ الأمام يجب أن يكون معصومً بعصمة إلهيّة.

الثالث: أنّ الأرض وفيه الناس، لا تخلو عن إمام حقّ.

الرابع: أنّ الأمام يجب أن يكون مؤيّدً من عند الله تعالى.

الخامس: أنّ أعمال العباد غير محجوبة عن علم الأمام.

السادس: أنّه يجب أن يكون عالمً بجميع ما يحتاج إليه الناس في امور

٢٧٧

معاشهم ومعادهم.

السابع: أنّه يستحيل أن يوجد فيهم من يفوقه في فضائل النفس.

فهذه سبعة مسائل هي أمّهات مسائل الأمامة، تعطيها الآية الشريفة بما ينضمّ إليها من الآيات والله الهادي.

فإن قلت: لو كانت الأمامة هي الهداية بأمر الله تعالى، وهي الهداية إلى الحقّ الملازم مع الاهتداء بالذات كما استفيد من قوله تعالى:( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ ) الآية كان جميع الأنبياء أئمّة قطعاً، لوضوح أنّ نبوّة النبيّ لا يتمّ إلّا باهتداء من جانب الله تعالى بالوحى، من غير أن يكون مكتسبً من الغير، بتعليم أو إرشاد ونحوهما، حينئذٍ فموهبة النبوّة تستلزم موهبة الأمامة، وعاد الإشكال إلى أنفسكم.

قلت: الّذي يتحصّل من البيان السابق المستفاد من الآية أنّ الهداية بالحقّ وهي الأمامة تستلزم الاهتداء بالحقّ، وأمّا العكس وهو أن يكون كلّ من اهتدى بالحقّ هاديً لغيره بالحقّ، حتّى يكون كلّ نبيّ لاهتدائه بالذات إمامً، فلم يتبيّن بعد، وقد ذكر سبحانه هذا الاهتداء بالحقّ، من غير أن يقرنه بهداية الغير بالحقّ في قوله تعالى:( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ذَٰلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) الانعام - ٩٠، وسياق الآيات كما ترى يعطي أنّ هذه الهداية أمرٌ ليس من شأنه أن يتغيّر ويتخلّف، وأنّ هذه الهداية لن ترتفع بعد رسول الله عن أمّته، بل عن ذرّيّة إبراهيم منهم خاصّة، كما يدلّ عليه قوله تعالى:( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي

٢٧٨

بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) الزخرف - ٢٨، فأعلم قومه ببرائته في الحال وأخبرهم بهدايته في المستقبل، وهي الهداية بأمر الله حقً، لا الهداية الّتي يعطيها النظر والاعتبار، فإنّها كانت حاصلة مدلولً عليها بقوله:( إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي ) ، ثمّ أخبر الله: أنّه جعل هذه الهداية كلمة بأقية في عقب إبراهيم، وهذا أحد الموارد الّتي أطلق القرآن الكلمة فيها على الأمر الخارجيّ دون القول، كقوله تعالى:( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا ) الفتح - ٢٦.

وقد تبيّن بما ذكر: أنّ الأمامة في ولد إبراهيم بعده، وفي قوله تعالى:( قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) إشارة إلى ذلك، فإن إبراهيمعليه‌السلام إنّما كان سأل الأمامة لبعض ذرّيّته لا لجميعهم، فأجيب: بنفيها عن الظالمين من ولده، وليس جميع ولده ظالمين بالضرورة حتّى يكون نفيها عن الظالمين نفيً لها عن الجميع، ففيه إجابةٌ لما سأله مع بيان أنّها عهد، وعهده تعالى لا ينال الظالمين.

قوله تعالى: ( لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ، في التعبير إشارة إلى غاية بعد الظالمين عن ساحة العهد الألهيّ، فهي من الاستعارة بالكناية.

( بحث روائي)

في الكافي عن الصادقعليه‌السلام : إنّ الله عزّوجلّ اتّخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتّخذه نبيّاً، وإنّ الله اتّخذه نبيّاً قبل أن يتّخذه رسولاً، وإنّ الله اتّخذه رسولاً قبل أن يتّخذه خليلاً، وأنّ الله اتّخذه خليلاً قبل أن يتّخذه إماماً، فلمّا جمع له الأشياء قال:( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) قالعليه‌السلام : فمن عظمها في عين إبراهيم قال: ومن ذرّيّتي قال لا ينال عهدي الظالمين قال: لا يكون السفيه إمام التقيّ.

أقول: وروي هذا المعنى أيضاً عنه بطريق آخر وعن الباقرعليه‌السلام بطريق آخر، ورواه المفيد عن الصادقعليه‌السلام .

قوله: إنّ الله اتّخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتّخذه نبيّاً، يستفاد ذلك من قوله

٢٧٩

تعالى:( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ - إلى قوله -مِّنَ الشَّاهِدِينَ ) الأنبياء - ٥٦، وهو اتّخاذٌ بالعبوديّة في أوّل أمر إبراهيم.

واعلم أنّ اتّخاذه تعالى أحداً من الناس عبداً غير كونه في نفسه عبداً، فإنّ العبديّة من الوازم الايجاد والخلقة، لا ينفكّ عن مخلوق ذي فهم وشعور، ولا يقبل الجعل والاتّخاذ وهو كون الإنسان مثلاً مملوك الوجود لربّه، مخلوقاً مصنوعاً له، سواء جرى في حياته على ما يستدعيه مملوكيّته الذاتيّة، واستسلم لربوبيّة ربّه العزيز، أو لم يجر على ذلك، قال تعالى:( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ) مريم - ٩٤، وإن كان إذا لم يجر على رسوم العبوديّة وسنن الرقيّة استكباراً في الأرض وعتوّاً كان من الحرّي أن لا يسمّى عبداً بالنظر إلى الغايات، فإنّ العبد هو الّذي أسلم وجه لربّه، وأعطاه تدبير نفسه، فينبغي أن لا يسمّى بالعبد إلّا من كان عبداً في نفسه وعبداً في عمله، فهو العبد حقيقة، قال تعالى:( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ) الفرقان - ٦٣. وعلي هذا فاتّخاذه تعالى إنساناً عبداً - وهو قبول كونه عبداً والإقبال عليه بالربوبيّة - هو الولاية وهو تولّي أمره كما يتولّى الربّ أمر عبده، والعبوديّة مفتاح للولاية، كما يدلّ عليه قوله تعالى:( إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) الأعراف - ١٩٦، أي اللائقين للولاية، فإنّه تعالى سمّى النبيّ في آيات من كتابه بالعبد. قال تعالى:( الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ ) الكهف - ١، وقال تعالى:( يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) الحديد - ٩، وقال تعالى:( قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ ) الجن - ١٩، فقد ظهر أنّ الإتّخاذ للعبوديّة هو الولاية.

وقولهعليه‌السلام :( وإنّ الله اتّخذه نبيّاً قبل أن يتّخذه رسولاً ) ، الفرق بين النبيّ الرسول على ما يظهر من الروايات المرويّة عن أئمّة أهل البيت: أنّ النبيّ هو الّذي يرى في المنام ما يوحي به إليه، والرسول هو الّذي يشاهد الملك فيكلمّه، والّذي يظهر من قصص إبراهيم هو هذا الترتيب، قال تعالى:( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا ) مريم - ٤٢، فظاهر الآية أنّهعليه‌السلام كان صدّيقاً نبيّاً حين يخاطب أباه بذلك، فيكون

٢٨٠

ولعلّ هذه الجملة إشارة إلى القيامة الوارد ذكرها آنفا ، أو أنّها إشارة إلى القرآن ، لأنّه ورد التعبير عنه بـ «الحديث» في بعض الآيات كما في الآية ٣٤ من سورة الطور ، أو أنّ المراد من «الحديث» هو ما جاء من القصص عن هلاك الأمم السابقة أو جميع هذه المعاني.

ثمّ يقول مخاطبا :( وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سامِدُونَ ) أي في غفلة مستمرّة ولهو وتكالب على الدنيا ، مع أنّه لا مجال للضحك هنا ولا الغفلة والجهل ، بل ينبغي أن يبكى على الفرص الفائتة والطاعات المتروكة ، والمعاصي المرتكبة ، وأخيرا فلا بدّ من التوبة والرجوع إلى ظلّ الله ورحمته!

وكلمة سامدون مشتقّة من سمود على وزن جمود ـ ومعناه اللهو والانشغال ورفع الرأس للأعلى تكبّرا وغرورا ، وهي في أصل استعمالها تطلق على البعير حين يرفل في سيره ويرفع رأسه غير مكترث بمن حوله.

فهؤلاء المتكبّرون المغرورون كالحيوانات همّهم الأكل والنوم ، وهم غارقون باللذائذ جاهلون عمّا يحدق بهم من الخطر والعواقب الوخيمة والجزاء الشديد الذي سينالهم.

ويقول القرآن في آخر آية من الآيات محلّ البحث ـ وهي آخر آية من سورة النجم أيضا ـ بعد أن بيّن أبحاثا متعدّدة حول إثبات التوحيد ونفي الشرك :( فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ) .

فإذا أردتم أن تسيروا في الصراط المستقيم والسبيل الحقّ فاسجدوا لذاته المقدّسة فحسب ، إذ لله وحده تنتهي الخطوط في عالم الوجود ، وإذا أردتم النجاة من العواقب الوخيمة التي أصابت الأمم السالفة لشركهم وكفرهم فوقعوا في قبضة عذاب الله ، فاعبدوا الله وحده.

الذي يجلب النظر ـ كما جاء في روايات متعدّدة ـ أنّ النّبي عند ما تلا هذه الآية وسمعها المؤمنون والكافرون سجدوا لها جميعا.

٢٨١

ووفقا لبعض الرّوايات أن الوحيد الذي لم يسجد لهذه الآية عند سماعها هو «الوليد بن المغيرة» [لعلّه لم يستطع أن ينحني للسجود] فأخذ قبضة من التراب ووضعها على جبهته فكان سجوده بهذه الصورة.

ولا مكان للتعجّب أن يسجد لهذه الآية حتى المشركون وعبدة الأصنام ، لأنّ لحن الآيات البليغ من جهة ، ومحتواها المؤثّر من جهة اخرى وما فيها من تهديد للمشركين من جهة ثالثة ، وتلاوة هذه الآيات على لسان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المرحلة الاولى من نزول الآيات عن لسان الوحي من جهة رابعة كلّ هذه الأمور كان لها دور في التأثير والنفوذ إلى القلوب حتّى أنّه لم يبق أيّ قلب إلّا اهتزّ لجلال آيات الله وألقى عنه. ستار الضلال وحجب العناد ـ ولو مؤقتا ـ ودخله نور التوحيد المشعّ!.

وإذا تلونا الآية ـ بأنفسنا ـ وأنعمنا النظر فيها بكلّ دقّة وتأمّل وحضور قلب وتصوّرنا أنفسنا أمام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي جوّ نزول الآيات وبقطع النظر ـ عن اعتقادنا الإسلامي ـ نجد أنفسنا ملزمين على السجود عند تلاوتنا لهذه الآية وأنّ نحني رؤوسنا إجلالا لربّ الجلال!

وليست هذه هي المرّة الاولى التي يترك القرآن بها أثره في قلوب المنكرين ويجذبهم إليه دون اختيارهم ، إذ ورد في قصّة «الوليد بن المغيرة» أنّه لمّا سمع آيات فصّلت وبلغ النّبي (في قوله) إلى الآية :( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ) قام من مجلسه واهتزّ لها وجاء إلى البيت فظنّ جماعة من المشركين أنّه صبا إلى دين محمّد.

فبناء على هذا ، لا حاجة أن نقول بأنّ جماعة من الشياطين أو جماعة من المشركين الخبثاء حضروا عند النّبي ولمّا سمعوا النّبي يتلو الآية :( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) بسطوا ألسنتهم وقالوا : تلك الغرانيق العلى!! ولذلك انجذب المشركون لهذه الآيات فسجدوا أيضا عند تلاوة النّبي آية السجدة!

٢٨٢

لأنّنا كما أشرنا آنفا في تفسير هذه الآيات. انّ الآيات التي تلت هذه الآيات عنّفت المشركين ولم تدع مجالا للشكّ والتردّد والخطأ لأي أحد (في مفهوم الآية) [لمزيد الإيضاح يراجع تفسير الآيتين ١٩ و٢٠ من هذه السورة].

وينبغي الالتفات أيضا إلى أنّ الآية الآنفة يجب السجود عند تلاوتها ، ولحن الآية التي جاءت مبتدئة بصيغة الأمر ـ والأمر دالّ على الوجوب ـ شاهد على هذا المعنى.

وهكذا فإنّ هذه السورة ثالثة السور الوارد فيها سجود واجب ، أي هي بعد سورة الم السجدة ، وحم السجدة وإن كان بعضهم يرى بأنّ أوّل سورة فيها سجود واجب نزلت على النّبي من الناحية التاريخية ـ هي هذه السورة.

اللهمّ أنر قلوبنا بأنوار معرفتك لئلّا نعبد سواك شيئا ولا نسجد إلّا لك.

اللهمّ إنّ مفاتيح الرحمة والخير كلّها بيد قدرتك ، فارزقنا من خير مواهبك وعطاياك ، أي رضاك يا ربّ العالمين.

اللهمّ ارزقنا بصيرة في العبر ـ لنعتبر بالأمم السالفة وعاقبة ظلمها وأن نحذر الاقتفاء على آثارهم

آمين يا ربّ العالمين.

* * *

انتهت سورة النجّم

٢٨٣
٢٨٤

سورة

القمر

مكّية

وعدد آياتها خمس وخمسون آية

٢٨٥
٢٨٦

«سورة القمر»

محتوى السورة :

تحوي هذه السّورة خصوصيات السور المكيّة التي تتناول الأبحاث الأساسيّة حول المبدأ والمعاد ، وخصوصا العقوبات التي نزلت بالأمم السالفة ، وذلك نتيجة عنادهم ولجاجتهم في طريق الكفر والظلم والفساد ممّا أدّى بها الواحدة تلو الاخرى إلى الابتلاء بالعذاب الإلهي الشديد ، وسبّب لهم الدمار العظيم.

ونلاحظ في هذه السورة تكرار قوله تعالى :( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) وذلك بعد كلّ مشهد من مشاهد العذاب الذي يحلّ بالأمم لكي يكون درسا وعظة للمسلمين والكفّار.

ويمكن تلخيص أبحاث هذه السورة في عدّة أقسام هي :

١ ـ تبدأ السورة بالحديث عن قرب وقوع يوم القيامة ، وموضوع شقّ القمر ، وإصرار وعناد المخالفين في إنكار الآيات الإلهيّة.

٢ ـ والقسم الثاني يبحث بتركيز واختصار عن أوّل قوم تمرّدوا على الأوامر الإلهيّة ، وهم قوم نوح ، وكيفيّة نزول البلاء عليهم.

٣ ـ أمّا القسم الثالث فإنّه يتعرّض إلى قصّة قوم «عاد» وأليم العذاب الذي حلّ بهم.

٤ ـ وفي القسم الرابع تتحدّث الآيات عن قوم «ثمود» ومعارضتهم لنبيّهم صالحعليه‌السلام وبيان معجزة الناقة ، وأخيرا ابتلاؤهم بالصيحة السماوية.

٥ ـ تتطرّق الآيات بعد ذلك إلى الحديث عن قوم «لوط» ضمن بيان واف

٢٨٧

لانحرافهم الأخلاقي ثمّ عن السخط الإلهي عليهم وابتلائهم بالعقاب الرّباني.

٦ ـ وفي القسم السادس تركّز الآيات الكريمة ـ بصورة موجزة ـ الحديث عن آل فرعون ، وما نزل بهم من العذاب الأليم جزاء كفرهم وضلالهم.

٧ ـ وفي القسم الأخير تعرض مقارنة بين هذه الأمم ومشركي مكّة ومخالفي الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمستقبل الخطير الذي ينتظر مشركي مكّة فيما إذا استمرّوا على عنادهم وإصرارهم في رفض الدعوة الإلهيّة.

وتنتهي السورة ببيان صور ومشاهد من معاقبة المشركين ، وجزاء وأجر المؤمنين والمتّقين.

وسورة القمر تتميّز آياتها بالقصر والقوّة والحركية.

وقد سمّيت هذه السورة بـ (سورة القمر) لأنّ الآية الاولى منها تتحدّث عن شقّ القمر.

فضيلة تلاوة سورة القمر :

ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :

«من قرأ سورة اقتربت الساعة في كلّ غبّ بعث يوم القيامة ووجهه على صورة القمر ليلة البدر ، ومن قرأها كلّ ليلة كان أفضل وجاء يوم القيامة ووجهه مسفر على وجوه الخلائق»(١) .

ومن الطبيعي أن تكون النورانية التي تتّسم بها هذه الوجوه تعبيرا عن الحالة الإيمانية الراسخة في قلوبهم نتيجة التأمّل والتفكّر في آيات هذه السورة المباركة والعمل بها بعيدا عن التلاوة السطحية الفارغة من التدبّر في آيات الله.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ (بداية سورة القمر).

٢٨٨

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) )

التّفسير

شقّ القمر!!

يتناول الحديث في الآية الاولى حادثتين مهمّتين :

أحدهما : قرب وقوع يوم القيامة ، والذي يقترن بأعظم تغيير في عالم الخلق ، وبداية لحياة جديدة في عالم آخر ، ذلك العالم الذي يقصر فكرنا عن إدراكه نتيجة محدودية علمنا واستيعابنا للمعرفة الكونية.

والحادثة الثانية التي تتحدّث الآية الكريمة عنها هي معجزة انشقاق القمر العظيمة التي تدلّل على قدرة البارئعزوجل المطلقة ، وكذلك تدلّ ـ أيضا ـ على صدق دعوة الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال تعالى :( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) .

٢٨٩

وجدير بالذكر أنّ سورة النجم التي أنهت آياتها المباركة بالحديث عن يوم القيامة( أَزِفَتِ الْآزِفَةُ ) تستقبل آيات سورة القمر بهذا المعنى أيضا ، ممّا يؤكّد قرب وقوع اليوم الموعود رغم أنّه عند ما يقاس بالمقياس الدنيوي فقد يستغرق آلاف السنين ويتوضّح هذا المفهوم ، حينما نتصوّر مجموع عمر عالمنا هذا من جهة ، ومن جهة اخرى عند ما نقارن جميع عمر الدنيا في مقابل عمر الآخرة فانّها لا تكون سوى لحظة واحدة.

إنّ اقتران ذكر هاتين الحادثتين في الآية الكريمة : «انشقاق القمر واقتراب الساعة» دليل على قرب وقوع يوم القيامة ، كما ذكر ذلك قسم من المفسّرين حيث أنّ ظهور الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو آخر الأنبياء ـ قرينة على قرب وقوع اليوم المشهود قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين»(١) مشيرا إلى إصبعيه الكريمين.

ومن جهة اخرى ، فإنّ انشقاق القمر دليل على إمكانية اضطراب النظام الكوني ، ونموذج مصغّر للحوادث العظيمة التي تسبق وقوع يوم القيامة في هذا العالم ، حيث اندثار الكواكب والنجوم والأرض يعني حدوث عالم جديد ، استنادا إلى الرّوايات المشهورة التي ادّعى البعض تواترها.

قال ابن عبّاس : اجتمع المشركون إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : إن كنت صادقا فشقّ لنا القمر فلقتين ، فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن فعلت تؤمنون؟» قالوا : نعم ، وكانت ليلة بدر فسأل رسول الله ربّه أن يعطيه ما قالوا ، فانشقّ القمر فلقتين ورسول الله ينادي : «يا فلان يا فلان ، اشهدوا»(٢) .

ولعلّ التساؤل يثار هنا عن كيفية حصول هذه الظاهرة الكونية : (انشقاق هذا الجرم السماوي العظيم) وعن مدى تأثيره على الكرة الأرضية والمنظومة

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٩.

(٢) ذكر في مجمع البيان وكتب تفسير اخرى في هامش تفسير الآية مورد البحث.

٢٩٠

الشمسية ، وكذلك عن طبيعة القوّة الجاذبة التي أعادت فلقتي القمر إلى وضعهما السابق ، وعن كيفيّة حصول مثل هذا الحدث؟ ولماذا لم يتطرّق التاريخ إلى ذكر شيء عنه؟ بالإضافة إلى مجموعة تساؤلات اخرى حول هذا الموضوع والتي سنجيب عليها بصورة تفصيليّة في هذا البحث إن شاء الله.

والنقطة الجديرة بالذكر هنا أنّ بعض المفسّرين الذين تأثّروا بوجهات نظر غير سليمة ، وأنكروا كلّ معجزة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدا القرآن الكريم ، عند ما التفتوا إلى وضوح الآية الكريمة محلّ البحث والرّوايات الكثيرة التي وردت في كتب علماء الإسلام في هذا المجال ، واجهوا عناءا في توجيه هذه المعجزة الربّانية ، وحاولوا نفي الظاهرة الإعجازية لهذا الحادث

والحقيقة أنّ مسألة «انشقاق القمر» كانت معجزة ، والآيات اللاحقة تحمل الدلائل الواضحة على صحّة هذا الأمر كما سنرى ذلك إن شاء الله.

لقد كان جديرا بهؤلاء أن يصحّحوا وجهات نظرهم تلك ، ليعلموا أنّ للرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معجزات عديدة أيضا.

وإذا أريد الاستفادة من الآيات القرآنية لنفي المعجزات فإنّها تنفي المعجزات المقترحة من قبل المشركين المعاندين الذين لم يقصدوا قبول دعوة الحقّ من أوّل الأمر ولم يستجيبوا للرسول الأكرم بعد إنجاز المعجز ، لكن المعجزات التي تطلب من الرّسول من أجل الاطمئنان إلى الحقّ والإيمان به كانت تنجز من قبله ، ولدينا دلائل عديدة على هذا الأمر في تأريخ حياة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

يقول سبحانه :( وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) .

والمراد من قوله تعالى «مستمر» أنّهم شاهدوا من الرّسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معجزات عديدة ، وشقّ القمر هو استمرار لهذه المعاجز ، وأنّهم كانوا يبرّرون إعراضهم عن الإيمان وعدم الاستسلام لدعوة الحقّ وذلك بقولهم : إنّ هذه المعاجز كانت «سحر مستمر».

٢٩١

وهنالك بعض المفسّرين من فسّر «مستمر» بمعنى «قوي» كما قالوا : (حبل مرير) أي : محكم ، والبعض فسّرها بمعنى : الطارئ وغير الثابت ، ولكن التّفسير الأنسب هو التّفسير الأوّل.

أمّا قوله تعالى :( وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ) فإنّه يشير إلى سبب مخالفتهم وعنادهم وسوء العاقبة التي تنتظرهم نتيجة لهذا الإصرار.

إنّ مصدر خلاف هؤلاء وتكذيبهم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو تكذيب معاجزه ودلائله ، وكذلك تكذيب يوم القيامة ، هو اتّباع هوى النفس.

إنّ حالة التعصّب والعناد وحبّ الذات لم تسمح لهم بالاستسلام للحقّ ، ومن جهة اخرى فإنّ المشركين ركنوا للملذّات الرخيصة بعيدا عن ضوابط المسؤولية ، وذلك إشباعا لرغباتهم وشهواتهم ، وكذلك فإنّ تلوّث نفوسهم بالآثام حال دون استجابتهم لدعوة الحقّ ، لأنّ قبول هذه الدعوة يفرض عليهم التزامات ومسئوليات الإيمان والاستجابة للتكاليف

نعم إنّ هوى النفس كان وسيبقى السبب الرئيسي في إبعاد الناس عن مسير الحقّ

وبالنسبة لقوله تعالى :( وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ) ، يعني أنّ كلّ إنسان يجازى بعمله وفعله ، فالصالحون سيكون مستقرّهم صالحا ، والأشرار سيكون مستقرّهم الشرّ.

ويحتمل أن يكون المراد في هذا التعبير هو أنّ كلّ شيء في هذا العالم لا يفنى ولا يزول ، فالأعمال الصالحة أو السيّئة تبقى مع الإنسان حتّى يرى جزاء ما فعل.

ويحتمل أن يكون تفسير الآية السابقة أنّ الأكاذيب والاتّهامات لا تقوى على الاستمرار الأبدي في إطفاء نور الحقّ والتكتّم عليه ، حيث إنّ كلّ شيء (خير أو شرّ) يسير بالاتّجاه الذي يصبّ في المكان الملائم له ، حيث إنّ الحقّ سيظهر وجهه الناصح مهما حاول المغرضون إطفاءه ، كما أنّ وجه الباطل القبيح سيظهر قبحه كذلك ، وهذه سنّة إلهيّة في عالم الوجود.

٢٩٢

وهذه التفاسير لا تتنافى فيما بينها ، حيث يمكن جمعها في مفهوم هذه الآية الكريمة.

* * *

بحوث

١ ـ شقّ القمر معجزة كبيرة للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومع ذلك فإنّ بعض الأشخاص السطحيين يصرّون على إخراج هذا الحادث من حالة الإعجاز ، حيث قالوا : إنّ الآية الكريمة تحدّثنا فقط عن المستقبل وعن أشراط الساعة ، وهي الحوادث التي تسبق وقوع يوم القيامة

لقد غاب عن هؤلاء أنّ الأدلّة العديدة الموجودة في الآية تؤكّد على حدوث هذه المعجزة ، ومن ضمنها ذكر الفعل (انشقّ) بصيغة الماضي ، وهذا يعني أنّ (أشقّ القمر) شيء قد حدث كما أنّ قرب وقوع يوم القيامة قد تحقّق ، وذلك بظهور آخر الأنبياء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

بالإضافة إلى ذلك ، إن لم تكن الآية قد تحدّثت عن وقوع معجزة ، فلا يوجد أي تناسب أو انسجام بينها وبين ما ورد في الآية اللاحقة حول افترائهم على الرّسول بأنّه (ساحر) وكذلك قوله :( وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ) والتي تخبر الآية هنا عن تكذيبهم للرسالة والرّسول ومعاجزه.

إضافة إلى ذلك فإنّ الرّوايات العديدة المذكورة في الكتب الإسلامية ، والتي بلغت حدّ التواتر نقلت وقوع هذه المعجزة ، وبذلك أصبحت غير قابلة للإنكار.

ونشير هنا إلى روايتين منها :

الاولى : أوردها الفخر الرازي أحد المفسّرين السنّة ، والاخرى للعلّامة الطبرسي أحد المفسّرين الشيعة.

يقول الفخر الرازي : «والمفسّرون بأسرهم على أنّ المراد أنّ القمر انشقّ

٢٩٣

وحصل فيه الإنشقاق ، ودلّت الأخبار على حديث الإنشقاق ، وفي الصحيح خبر مشهور رواه جمع من الصحابة والقرآن أدلّ دليل وأقوى مثبت له وإمكانه لا يشكّ فيه ، وقد أخبر عنه الصادق فيجب إعتقاد وقوعه»(١) .

أمّا عن نظرية بطليموس والقائلة بأنّ (الأفلاك السماوية ليس بإمكانها أن تنفصل أو تلتئم) فإنّها باطلة وليس لها أي أساس أو سند علمي ، حيث إنّه ثبت من خلال الأدلّة العقليّة أنّ انفصال الكواكب في السماء أمر ممكن.

ويقول العلّامة الطبرسي في (مجمع البيان) : لقد أجمع المفسّرون والمحدّثون سوى عطاء والحسين والبلخي الذين ذكرهم ذكرا عابرا ، أنّ معجزة شقّ القمر كانت في زمن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ونقل أنّ حذيفة ـ وهو أحد الصحابة المعروفين ـ ذكر قصّة شقّ القمر في جمع غفير في مسجد المدائن ولم يعترض عليه أحد من الحاضرين ، مع العلم أنّ كثيرا منهم قد عاصر زمن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ونقل هذا الحديث في هامش الآية المذكورة في الدرّ المنثور والقرطبي).

وممّا تقدّم يتّضح جيّدا أنّ مسألة شقّ القمر أمر غير قابل للإنكار ، سواء من الآية نفسها والقرائن الموجودة فيها ، أو من خلال الأحاديث والرّوايات ، أو أقوال المفسّرين ، ومن الطبيعي أن تطرح أسئلة اخرى حول الموضوع سنجيب عنها إن شاء الله فيما بعد.

٢ ـ مسألة شقّ القمر والعلم الحديث :

السؤال المهمّ المطروح في هذا البحث هو : هل أنّ الأجرام السماوية يمكنها أن تنفصل وتنشقّ؟ وما موقف العلم الحديث من ذلك؟

__________________

(١) التّفسير الكبير ، الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٨ ، أوّل سورة القمر.

٢٩٤

وللإجابة على هذا السؤال وبناء على النتائج التي توصّل إليها العلماء الفلكيون ، فإنّ مثل هذا الأمر في نظرهم ليس بدرجة من التعقيد بحيث يستحيل تصوّره إنّ الاكتشافات العلمية التي توصّل إليها الباحثون تؤكّد أنّ مثل هذه الحوادث مضافا إلى أنّها ليست مستحيلة فقد لوحظت نماذج عديدة من هذا القبيل ولعدّة مرّات مع اختلاف العوامل المؤثّرة في كلّ حالة.

وبعبارة اخرى : فقد لوحظ أنّ مجموعة انفجارات وانشقاقات قد وقعت في المنظومة الشمسية ، بل في سائر الأجرام السماوية.

ويمكن ذكر بعض النماذج كشواهد على هذه الظواهر

أ ـ ظهور المنظومة الشمسية :

إنّ هذه النظرية المقبولة لدى جميع العلماء تقول : إنّ جميع كرات المنظومة الشمسية كانت في الأصل جزءا من الشمس ثمّ انفصلت عنها ، حيث أصبحت كلّ واحدة منها تدور في مدارها الخاصّ بها غاية الأمر هناك كلام في السبب لهذا الانفصال

يعتقد (لا پلاس) أنّ العامل المسبّب لانفصال القطع الصغيرة من الشمس هي : (القوّة الطاردة) التي توجد في المنطقة الإستوائية لها ، حيث أنّ الشمس كانت تعتبر ولحدّ الآن كتلة ملتهبة ، وضمن دورانها حول نفسها فإنّ السرعة الموجودة في المنطقة الإستوائية لها تسبّب تناثر بعض القطع منها في الفضاء ممّا يجعل هذه القطع تدور حول مركزها الأصلي (الشمس).

ولكن العلماء الذين جاءوا بعد (لا پلاس) توصّلوا من خلال تحقيقاتهم إلى فرضية اخرى تقول : إنّ السبب الأساس لحدوث الانفصال في الأجرام السماوية عن الشمس هو حالة المدّ والجزر الشديدين التي حدثت على سطح الشمس نتيجة عبور نجمة عظيمة بالقرب منها.

٢٩٥

الأشخاص المؤيّدون لهذه النظرية الذين يرون أنّ الحركة الوضعية للشمس في ذلك الوقت لا تستطيع أن تعطي الجواب الشافعي لأسباب هذا الانفصال ، قالوا : إنّ حالة المدّ والجزر الحاصلة في الشمس أحدثت أمواجا عظيمة على سطحها. كما في سقوط حجر كبير في مياه المحيط ، وبسبب ذلك تناثرت قطع من الشمس الواحدة تلو الاخرى إلى الخارج ، ودارت ضمن مدار الكرة الامّ (الشمس).

وعلى كلّ حال فإنّ العامل المسبّب لهذا الانفصال أيّا كان لا يمنعنا من الإعتقاد أنّ ظهور المنظومة الشمسية كان عن طريق الإنشقاق والانفصال.

ب ـ (الأستروئيدات):

الأستروئيدات : هي قطع من الصخور السماوية العظيمة تدور حول المنظومة الشمسية ، ويطلق عليها في بعض الأحيان بـ (الكرات الصغيرة) و (شبه الكواكب السيارة) يبلغ قطر كبراها (٢٥) كم ، لكن الغالبية منها أصغر من ذلك.

ويعتقد العلماء أنّ «الأستروئيدات» هي بقايا كوكب عظيم كان يدور في مدار بين مداري المريخ والمشتري تعرّض إلى عوامل غير واضحة ممّا أدّى إلى انفجاره وتناثره.

لقد ثمّ اكتشاف ومشاهدة أكثر من خمسة آلاف من (الأستروئيدات) لحدّ الآن ، وقد تمّ تسمية عدد كثير من هذه القطع الكبيرة ، وتمّ حساب حجمها ومقدار ومدّة حركتها حول الشمس ، ويعلّق علماء الفضاء أهميّة بالغه على الأستروئيدات ، حيث يعتقدون أنّ بالإمكان الاستفادة منها في بعض الأحيان كمحطّات للسفر إلى المناطق الفضائية النائية.

كان هذا نموذج آخر لانشقاق الأجرام السماوية.

٢٩٦

ج ـ الشهب :

الشهب : أحجار سماوية صغيرة جدّا ، حتّى أنّ البعض منها لا يتجاوز حجم (البندقة) ، وهي تسير بسرعة فائقة في مدار خاصّ حول الشمس وقد يتقاطع مسيرها مع مدار الأرض أحيانا فتنجذب إلى الأرض ، ونظرا لسرعتها الخاطفة التي تتميّز بها ـ تصطدم بشدّة مع الهواء المحيط بالأرض ، فترتفع درجة حرارتها بشدّة فتشتعل وتتبيّن لنا كخطّ مضيء وهّاج بين طبقات الجوّ ويسمّى بالشهاب.

وأحيانا نتصوّر أنّ كلّ واحدة منها تمثّل نجمة نائية في حالة سقوط ، إلّا أنّها في الحقيقة عبارة عن شهاب صغير مشتعل على مسافة قريبة يتحوّل فيما بعد إلى رماد.

ويلتقي مداري الشهب والكرة الأرضية في نقطتين هما نقطتا تقاطع المدارين وذلك في شهري (آب وكانون الثاني) حيث يصبح بالإمكان رؤية الشهب بصورة أكثر في هذين الشهرين.

ويقول العلماء : إنّ الشهب هي بقايا نجمة مذنّبة انفجرت وتناثرت أجزاؤها بسبب جملة عوامل غير واضحة وهذا نموذج آخر من الإنشقاق في الأجرام السماوية.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الإنفجار والإنشقاق في الكرات السماوية ليس بالأمر الجديد ، وليس بالأمر المستحيل من الناحية العلمية ، ومن هنا فلا معنى حينئذ للقول بأنّ الإعجاز لا يمكن أن يتعلّق بالحال.

هذا كلّه عن مسألة الإنشقاق.

أمّا موضوع رجوع القطعتين المنفصلتين إلى وضعهما الطبيعي السابق تحت تأثير قوى الجاذبية التي تربط القطعتين فهو الآخر أمر ممكن.

ورغم أنّ الإعتقاد السائد قديما في علم الهيئة القديم طبق نظرية (بطليموس) واعتقاده بالأفلاك التسعة التي هي بمثابة قشور البصل في تركيبها ـ الواحدة على

٢٩٧

الاخرى ـ فأيّ جسم لا يستطيع أن يخترقها صعودا أو نزولا ، ولذلك فانّ أتباع هذه النظرية ينكرون المعراج الجسماني واختراقه للأفلاك التسعد ، كما أنّه لا يمكن وفقا لهذه النظريات انشقاق القمر ، ومن ثمّ التئامه ، ولذلك أنكروا مسألة شقّ القمر ، ولكن اليوم أصبحت فرضية (بطليموس) أقرب للخيال والأساطير منها للواقع ، ولم يبق أثر للأفلاك التسعة ، وأصبحت الأجواء لا تساعد لتقبّل مثل هذه الآراء.

وغني عن القول أنّ ظاهرة شقّ القمر كانت معجزة ، ولذا فإنّها لم تتأثّر بعامل طبيعي اعتيادي ، والشيء الذي يراد توضيحه هنا هو بيان إمكانية هذه الحادثة ، لأنّ المعجزة لا تتعلّق بالأمر المحال.

٣ ـ شقّ القمر تاريخيّا :

لقد طرح البعض من غير المطّلعين إشكالا آخر على مسألة شقّ القمر ، حيث ذكروا أنّ مسألة شقّ القمر لها أهميّة بالغة ، فإذا كانت حقيقيّة فلما ذا لم تذكر في كتب التأريخ؟

ومن أجل أن تتوضّح أهميّة هذا الإشكال لا بدّ من الإلمام والدراسة الدقيقة لمختلف جوانب هذا الموضوع ، وهو كما يلي :

أ ـ يجب الالتفات إلى أنّ القمر يرى في نصف الكرة الأرضية فقط ، وليس في جميعها ، ولذا فلا بدّ من إسقاط نصف مجموع سكّان الكرة الأرضية من إمكانية رؤية حادثة شقّ القمر وقت حصولها.

ب ـ وفي نصف الكرة الأرضية التي يرى فيها القمر فإنّ أكثر الناس في حالة سبات وذلك لحدوث هذه الظاهرة بعد منتصف الليل.

ج ـ ليس هنالك ما يمنع من أن تكون الغيوم قد حجبت قسما كبيرا من السماء ، وبذلك يتعذّر رؤية القمر لسكّان تلك المناطق.

٢٩٨

د ـ إنّ الحوادث السماوية التي تلفت انتباه الناس تكون غالبا مصحوبة بصوت أو عتمة كما في الصاعقة التي تقترن بصوت شديد أو الخسوف والكسوف الكليين الذي يقترن كلّ منها بانعدام الضوء تقريبا ولمدّة طويلة.

لذلك فإنّ الحالات التي يكون فيها الخسوف جزئيا أو خفيفا نلاحظ أنّ الغالبية من الناس لم تحط به علما ، اللهمّ إلّا عن طريق التنبيه المسبق عنه من قبل المنجّمين ، بل يحدث أحيانا خسوف كلّي وقسم كبير من الناس لا يعلمون به.

لذا فإنّ علماء الفلك الذين يقومون بر صد الكواكب أو الأشخاص الذين يتّفق وقوع نظرهم في السماء وقت الحادث هم الذين يطّلعون على هذا الأمر ويخبرون الآخرين به.

وبناء على هذا ونظرا لقصر مدّة المعجزة (شقّ القمر) فلن يكون بالمقدور أن تلفت الأنظار إليها على الصعيد العالمي ، خصوصا وأنّ غالبية الناس في ذلك الوقت لم تكن مهتّمة بمتابعة الأجرام السماوية.

ه ـ وبالإضافة إلى ذلك فإنّ الوسائل المستخدمة في تثبيت نشر الحوادث التأريخية في ذلك الوقت ، ومحدودية الطبقة المتعلّمة ، وكذلك طبيعة الكتب الخطيّة التي لم تكن بصورة كافية كما هو الحال في هذا العصر حيث تنشر الحوادث المهمّة بسرعة فائقة بمختلف الوسائل الإعلامية في كلّ أنحاء العالم عن طريق الإذاعة والتلفزيون والصحف كلّ هذه الأمور لا بدّ من أخذها بنظر الإعتبار في محدودية الاطلاع على حادثة (شقّ القمر).

ومع ملاحظة هذا الأمر والأمور الاخرى السابقة فلا عجب أبدا من عدم تثبيت هذه الحادثة في التواريخ غير الإسلامية ، ولا يمكن اعتبار ذلك دليلا على نفيها.

٢٩٩

٤ ـ تأريخ وقوع هذه المعجزة :

من الواضح أنّه لا خلاف بين المفسّرين ورواة الحديث حول حدوث ظاهرة شقّ القمر في مكّة وقبل هجرة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكن الذي يستفاد من بعض الرّوايات هو أنّ حدوث هذا الأمر كان في بداية بعثة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) . في حين يستفاد من البعض الآخر أنّ حدوث هذا الأمر قد وقع قرب هجرة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي آخر عهده بمكّة ، وكان استجابة لطلب جماعة قدموا من المدينة لمعرفة الحقّ وأتباعه ، إذ أنّهم بعد رؤيتهم لهذه المعجزة آمنوا وبايعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العقبة(٢) .

ونقرأ في بعض الرّوايات أيضا أنّ سبب اقتراح شقّ القمر كان من أجل المزيد من الاطمئنان بمعاجز الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّها لم تكن سحرا لأنّ السحر عادة يكون في الأمور الأرضية(٣) . ومع ذلك فإنّ قسما من المتعصّبين والمعاندين لم يؤمنوا برغم مشاهدتهم لهذا الإعجاز ، وتتعلّلوا بأنّهم ينتظرون قوافل الشام واليمن ، فإنّ أيّدوا هذا الحادث ورؤيتهم له آمنوا ومع إخبار المسافرين لهم بذلك ، إلّا أنّهم بقوا مصرّين على الكفر رافضين للإيمان(٤) .

والنقطة الأخيرة الجديرة بالذكر أنّ هذه المعجزة العظيمة والكثير من المعاجز الاخرى ذكرت في التواريخ والرّوايات الضعيفة مقترنة ببعض الخرافات والأساطير ، ممّا أدّى إلى حصول تشويش في أذهان العلماء بشأنها ، كما في نزول قطعة من القمر إلى الأرض. لذا فإنّ من الضروري فصل هذه الخرافات وعزلها بدقّة وغربلة الصحيح من غيره ، حتّى تبقى الحقائق بعيدة عن التشويش ومحتفظة بمقوّماتها الموضوعية.

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ١٧ ، ص ٣٥٤ حديث (٨).

(٢) بحار الأنوار ، ج ١٧ ، ص ٣٥٢ حديث (١).

(٣) بحار الأنوار ، ج ١٧ ، ص ٣٥٥ حديث (١٠).

(٤) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٢٣.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459