الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173060 / تحميل: 9114
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ان علق الامر بزوال علة النهى... إلى غير ذلك (والتحقيق) أنه لا مجال للتشبث بموارد الاستعمال فانه قل مورد منها يكون خاليا عن قرينة على الوجوب أو الاباحة أو التبعية، ومع فرض التجريد عنها لم يظهر بعد كون عقيب الحظر موجبا لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه غاية الامر يكون موجبا لاجمالها غير ظاهرة في واحد منها الا بقرينة أخرى كما أشرنا (المبحث الثامن) الحق أن صيغة الامر مطلقا لا دلالة لها على المرة ولا التكرار، فان المنصرف عنها ليس الا طلب إيجاد الطبيعة المأمور بها فلا دلالة لها على أحدهما لا بهيئتها ولا بمادتها، والاكتفاء بالمرة فانما هو

______________________________

(قوله: إن علق النهي بزوال) كما في قوله تعالى: فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين، وقوله تعالى: فإذا تطهرن فأتوهن، وقوله تعالى: وإذا حللتم فاصطادوا (قوله: لا مجال للتشبث) اشارة إلى إبطال استدلال بعضهم على مدعاه ببعض موارد الاستعمال كالايات المتقدمة (وحاصله) أن الكلام في المقام في أن وقوع الامر عقيب الحظر هل هو من القرائن العامة التي لا يجوز العدول عن مقتضاها إلا بدليل الموجبة لظهور الصيغة في الاباحة مطلقا أو الوجوب أو رجوع الحكم السابق على النهي أو غير ذلك ؟ والاستعمال لا يدل على شئ من ذلك لامكان استناد الظهور فيه إلى قرينة خاصة غير الوقوع عقيب الحظر فلا يصح الاستناد إليه في اثبات الدعوى (قوله: ومع فرض) يعني لو فرض التجريد عن القرائن الخاصة لم يظهر أن الوقوع عقيب الحظر من القرائن الموجبة لظهور الصيغة في غير الوجوب الذي تكون ظاهرة فيه لولا الوقوع عقيب الحظر (قوله: لاجمالها) وعليه فلا تحمل على الوجوب بناء على وضعها له الا بناء على كون حجية أصالة عدم القرينة من باب التعبد لا من باب حجية الظهور

المرة والتكرار

(قوله: مطلقا) يعنى حيث لا يقيد بمرة أو تكرار (قوله: على المرة والتكرار) سيأتي منه شرحهما (قوله: لا بهيئتها ولا بمادتها) إذ

١٨١

لحصول الامتثال بها في الامر بالطبيعة كما لا يخفى (ثم) لا يذهب عليك أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا يدل الا على الماهية - على ما حكاه السكاكي - لا يوجب كون النزاع ههنا في الهيئة - كما في الفصول - فانه غفلة وذهول عن أن كون المصدر كذلك لا يوجب الاتفاق على أن مادة الصيغة لا تدل إلا على الماهية، ضرورة أن المصدر ليس مادة لسائر المشتقات بل هو صيغة مثلها

______________________________

الهيئة موضوعة وضع الحروف للنسبة الخاصة والمادة موضوعة لصرف الماهية لا بشرط، وكل من المرة والتكرار خارج عن مدلولهما (قوله: لحصول الامتثال) إذ الامتثال يحصل بوجود المأمور به فإذا كان المأمور به صرف الطبيعة وكان يتحقق بالمرة كانت امتثالا للامر، ومنه يظهر بطلان استدلال القائل بالمرة بصدق الامتثال بها (قوله: لا يذهب عليك) قال في الفصول: الحق أن هيئة الامر لا دلالة لها على مرة ولا على تكرار... إلى أن قال: وانما حررنا النزاع في الهيئة لنص جماعة عليه، ولان الاكثر حرروا النزاع في الصيغة وهي ظاهرة بل صريحة فيها، ولانه لا كلام في أن المادة وهي المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا تدل الا على الماهية من حيث هي على ما حكى السكاكي وفاقهم عليه... الخ فأشكل عليه المصنف (ره) بان الاتفاق على عدم دلالة المصدر المجرد الا على الماهية لا يدل على كون النزاع في المقام في الهيئة لا في المادة إذ المصدر ليس مادة للمشتقات التي منها صيغة الامر بل هو مشتق مثلها، والمادة هي الامر المشترك بينه وبينها حسبما حققه (أقول): ما في الفصول يرجع إلى أمرين أحدهما أن المصدر مادة للمشتقات وثانيهما ان الاتفاق على عدم دلالته على المرة والتكرار يقتضي الاتفاق على عدم دلالة مادة (افعل) عليه ويكون النزاع في مدلول الهيئة أما الاول فيمكن أن يكون جاريا على المشهور، وأما الثاني فلا غبار عليه لان المصدر إذا لم يدل على المرة والتكرار دل ذلك عدم دلالة مادته عليهما فيصح الاستدلال به على عدم دلالة مادة (افعل) عليهما فيلزم الاتفاق على الاول الاتفاق على الاخير (قوله: غفلة وذهول) قد عرفت أنه في محله (قوله: ضرورة أن)

١٨٢

كيف وقد عرفت في باب المشتق مباينة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنى ؟ فكيف بمعناه يكون مادة لها ؟ فعليه يمكن دعوى اعتبار المرة أو التكرار في مادتها كما لا يخفى (إن قلت): فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلا في الكلام (قلت): - مع أنه محل الخلاف - معناه أن الذى وضع اولا بالوضع الشخصي ثم بملاحظته وضع نوعيا أو شخصيا ساير الصيغ التى تناسبه مما جمعه معه مادة لفظ متصورة في كل منها ومنه بصورة ومعنى كذلك، هو المصدر أو الفعل فافهم (ثم) المراد بالمرة والتكرار هل هو الدفعة والدفعات أو الفرد والافراد ؟ والتحقيق أن يقعا بكلا المعنيين محل النزاع

______________________________

هذا لا يثبت الاشكال على الفصول إلا من جهة ظهور كلامه في كون المصدر مادة للمشتقات، وقد عرفت إمكان حمله على الاصطلاح المشهوري (قوله: فعليه يمكن) قد عرفت أنه لا يمكن (قوله: مع أنه محل) هذا لا دخل له في دفع السؤال إذ قول الكوفيين: ان الفعل هو الاصل في الاشتقاق أءكد في توجه الاشكال فتأمل (قوله: معناه أن) إذا كان هذا معنى كلامهم فليكن هو معنى كلام الفصول (قوله: جمعه معه) الضمير الاول راجع إلى (ما) التي هي عبارة عن سائر الصيغ والثاني راجع إلى (الذي) ويمكن العكس (قوله: ومعنى) معطوف على قوله: لفظ، يعني ومادة معنى متصورة في كل منها ومنه (قوله: هو المصدر) خبر أن (قوله: أو الفعل فافهم) لعله اشارة إلى وجوب حمل كلامهم على ما ذكر بقرينة دعوى الكوفيين ان الفعل هو الاصل إذ لا يراد منه أن الفعل مادة للمشتقات بالمعنى الحقيقي " ثم " ان الموجود في بعض النسخ الضرب على لفظة: وهو أولى (قوله: الدفعة والدفعات) الفرق بين الدفعة والفرد أن الدفعة تصدق على الافراد المتعددة الموجودة في وقت واحد ولا يصدق عليها أنها فرد واحد، وأن الفرد الموجود تدريجا مثل الكلام الممتد المتصل فرد واحد وليس دفعة فبينهما عموم من وجه كما بين الافراد والدفعات ايضا (قوله: والتحقيق أن يقعا) الذي استظهره في الفصول أن النزاع

١٨٣

وان كان لفظهما ظاهرا في المعنى الاول (وتوهم) أنه لو أريد بالمرة الفرد لكان الانسب بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمة للمبحث الآتي من أن الامر هل يتعلق بالطبيعة أو بالفرد ؟ فيقال عند ذلك: وعلى تقدير تعلقه بالفرد هل يقتضي التعلق بالفرد الواحد أو المتعدد أو لا يقتضي شيئا منهما ؟ ولم يحتج إلى إفراد كل منهما بالبحث - كما فعلوه - وأما لو أريد بها الدفعة فلا علقة بين المسألتين كما لا يخفى (فاسد) لعدم العلقة بينهما لو أريد بها الفرد أيضا فان الطلب - على القول بالطبيعة - إنما يتعلق بها باعتبار وجودها في الخارج ضرورة أن الطبيعة من حيث هي

______________________________

*

فيهما بالمعنى الاول، ونسب إلى القوانين كونه فيهما بالمعنى الثاني، والظاهر ان مراد المصنف (ره) امكان كون النزاع فيهما بالمعنيين لا تحقق النزاع فيهما بهما معا إذ ليس له وجه ظاهر (قوله: وان كان لفظهما) هذا من القرائن التي اعتمد عليها في الفصول لاثبات ما استظهره (قوله: وتوهم انه لو أريد) هذا التوهم للفصول والباعث له عليه ظهور لفظ الفرد المذكور في المسألتين بمعنى واحد وهو ما يقابل الطبيعة (قوله: فاسد لعدم العلقة) حاصله أن المراد بالفرد هنا غير المراد به في تلك المسألة إذ المراد به في تلك المسألة ما يتقوم بالخصوصية المميزة له عن بقية الافراد والمراد به هنا الوجود الواحد للمأمور به فان كان المأمور به هو الطبيعة يقع النزاع في أن صيغة الامر تدل على وجوب وجود واحد للطبيعة أو وجود متعدد لها أو مطلق وجودها فيتأتى النزاع على القول بتعلق الامر بالطبيعة بعين ما يتأتى به على القول بتعلقه بالفرد، والقرينة على إرادة هذا المعنى من الفرد جعله في قبال الدفعة (قوله: باعتبار وجودها) هذا ذكره المصنف (رحمه الله) تمهيدا لتأتي النزاع على القولين لا ردا على الفصول إذ لم يتوهم خلافه في الفصول كما يشهد به دعواه تأتي النزاع على القولين بناء على كون المراد الدفعة إذ لا يخفى أن القائل بالطبيعة لو كان مراده الطبيعة من حيث هي لا معنى لتأتى النزاع في المقام بكل معنى (قوله: ضرورة ان الطبيعة من) قد يقال: الماهية

١٨٤

ليست الا هي لا مطلوبة ولا غير مطلوبة، وبهذا الاعتبار كانت مرددة بين المرة والتكرار بكلا المعنيين فيصح النزاع في دلالة الصيغة على المرة والتكرار بالمعنيين وعدمها، أما بالمعنى الاول فواضح، وأما بالمعنى الثاني فلوضوح أن المراد من الفرد أو الافراد وجود واحد أو وجودات، وإنما عبر بالفرد لان وجود الطبيعة في الخارج هو الفرد غاية الامر خصوصيته وتشخصه - على القول بتعلق الامر بالطبايع - يلازم المطلوب وخارج عنه بخلاف القول بتعلقه بالافراد فانه مما يقومه (تنبيه) لا إشكال - بناء على القول بالمرة - في الامتثال وأنه لا مجال للاتيان بالمأمور به ثانيا على أن يكون أيضا به الامتثال فانه من الامتثال بعد الامتثال (وأما) على المختار من دلالته على طلب الطبيعة من دون دلالة على المرة ولا على التكرار فلا يخلو الحال إما أن لا يكون هناك إطلاق الصيغة في مقام البيان بل في مقام الاهمال أو الاجمال

______________________________

من حيث هي ليست الا هي، ويراد منه معنى أن كل ما هو خارج عنها فليس هو هي لا عينها ولا جزؤها، وبهذا المعنى يقال: الماهية من حيث هي لا موجودة ولا معدومة ولا واحد ولا كثير ولا غيرها، وقد يقال ذلك بمعنى أن الخارج عنها ليس عارضا لها بما هي هي بل بشرط الوجود، ويختص النفي بعوارض الوجود كالكتابة والحركة وبهذا المعنى يقال: الماهية من حيث هي لا كاتبة ولا متحركة ولا لا كاتبة ولا لا متحركة، فان الكتابة لما كانت في الرتبة اللاحقة للوجود كان نقيضها هو العدم في الرتبة اللاحقة له أيضا لوحدة رتبة النقيضين فجاز ارتفاع النقيضين في غير تلك الرتبة وحيث أن الطلب ليس من عوارض الماهية من حيث هي بل بشرط الوجود صح أن يقال: الماهية من حيث هي لا مطلوبة ولا لا مطلوبة فتأمل (قوله: وبهذا الاعتبار) أي اعتبار الوجود (قوله: في الامتثال) يعني يتحقق بالمرة (قوله: من الامتثال بعد الامتثال) يعني وهو ممتنع لان الامتثال فعل المأمور به وبالامتثال الاول يسقط الامر فلا يكون فعله ثانيا امتثالا وسيجئ له

١٨٥

فالمرجع هو الاصل، وإما أن يكون اطلاقها في ذاك المقام فلا اشكال في الاكتفاء بالمرة في الامتثال، وإنما الاشكال في جواز ان لا يقتصر عليها فان لازم اطلاق الطبيعة المأمور بها هو الاتيان بها مرة أو مرارا لا لزوم الاقتصار على المرة كما لا يخفى (والتحقيق) أن قضية الاطلاق انما هو جواز الاتيان بها مرة في ضمن فرد أو افراد فيكون ايجادها في ضمنها نحوا من الامتثال كايجادها في ضمن الواحد لا جواز الاتيان بها مرة ومرات فانه مع الاتيان بها مرة لا محالة يحصل الامتثال ويسقط به الامر فيما إذا كان امتثال الامر علة تامة لحصول الغرض الاقصى بحيث يحصل بمجرده فلا يبقى معه مجال لاتيانه ثانيا بداعي امتثال آخر أو بداعي أن يكون الاتيانان امتثالا واحدا لما عرفت من حصول الموافقة باتيانها وسقوط الغرض معها وسقوط الامر بسقوطه فلا يبقى مجال لامتثاله أصلا، وأما إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض

______________________________

تتمة (قوله: فالمرجع هو الاصل) يعني الاصل العملي فلو تردد الامر بين الطبيعة والتكرار فالاصل البراءة عن وجوب الزائد على المرة مع تعدد الوجود أما مع اتصاله - بناء على تحقق التكرار به - فاستصحاب الوجوب هو المرجع، ولو تردد بين الطبيعة والمرة فلا أثر للشك، ولو تردد بين المرة والتكرار والطبيعة فالحكم كما لو تردد بين الطبيعة والتكرار، وكذا لو تردد بين المرة والتكرار، وربما يختلف الاصل باختلاف تفسير المرة من حيث كونها لا بشرط أو بشرط لا فلاحظ (قوله: في ذاك المقام) أي في مقام البيان (قوله: في الاكتفاء بالمرة) لصدق الطبيعة على المرة (قوله: في جواز ان لا يقتصر) يعني في جواز الاتيان ثانيا بقصد امتثال الامر لا مجرد الاتيان ثانيا بلا قصد الامر فانه لا ريب في جوازه (قوله: أو مرارا) فيجوز الاتيان ثانيا وثالثا بقصد الامتثال (قوله: فرد أو أفراد) يعني افرادا دفعية (قوله: فانه مع الاتيان بها) هذا تعليل لعدم كون مقتضى الاطلاق جواز الاتيان زائدا على المرة، ومرجعه إلى ابداء المانع العقلي عن ثبوت

١٨٦

كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضأ فأتى به ولم يشرب أو لم يتوضأ فعلا فلا يبعد صحة تبديل الامتثال باتيان فرد آخر أحسن منه بل مطلقا كما كان له ذلك قبله على ما يأتي بيانه في الاجزاء (المبحث التاسع) الحق انه لا دلالة للصيغة

______________________________

اطلاق المذكور لان الوجود الاول إذا كان علة تامة لسقوط الغرض كان علة تامة لسقوط الامر ايضا فيمتنع كون الوجود اللاحق موضوعا للامر كي يجوز الاتيان به بقصد امتثال الامر، وإذا امتنع كون الاتيان الثاني موضوعا للامر امتنع ان يكون اطلاق الصيغة شاملا للمرة والمرات " أقول ": يمكن منع الاطلاق المذكور مع قطع النظر عن المانع العقلي وذلك لان اطلاق المادة يقتضي أن يكون المراد بها صرف الوجود الصادق على القليل والكثير وهو لا ينطبق على الوجود اللاحق فانه وجود بعد وجود لا صرف الوجود الذي هو بمعنى خرق العدم فتأمل، وأما المانع الذي ذكره فهو يتوقف على امتناع التخيير بين الاقل والاكثر بكل وجه، وسيأتي الكلام فيه (قوله: كما إذا امر بالماء ليشرب) الغرض من الامر باحضار الماء: تارة يكون مجرد تمكن الآمر من شربه ولا ريب في حصوله بمجرد احضاره، واخرى يكون هو الشرب الفعلي فيشكل الامتثال ثانيا من جهة امتناع بقاء الامر مع حصول موضوعه الذي هو صرف الاحضار، فلا بد اما من الالتزام بأن موضوع الامر ليس مطلق الاحضار بل الاحضار المترتب عليه الشرب، والباعث على هذا الالتزام لزوم المساواة عقلا بين الغرض وموضوع الامر سعة وضيقا لامتناع التفكيك بينهما، وعليه فلا يتعين الاحضار الحاصل لان يكون مأمورا به الا بعد ترتب الغرض عليه، ولازمه ان المكلف في مقام الامتثال انما يأتي بالاحضار الاول رجاء كونه مأمورا به لا بقصد ذلك، وحينئذ فللمكلف الاتيان ثانيا وثالثا بهذا القصد بعينه ولا يكون فرق بين الوجود الاول وبقية الوجودات اللاحقة في كيفية الامتثال لكن لازم ذلك القول بالمقدمة الموصلة، واما من الالتزام بأن الغرض كما يبعث إلى الامر اولا بالاحضار يبعث ثانيا إلى صرف الاحضار المنطبق على بقاء الفرد الاول واحضار فرد آخر إذ لا يتعين للدخل في

١٨٧

لا على الفور ولا على التراخي (نعم) قضية إطلاقها جواز التراخي والدليل عليه تبادر طلب ايجاد الطبيعة منها بلا دلالة على تقيدها باحدهما فلا بد في التقييد من دلالة أخرى كما ادعي دلالة غير واحد من الآيات على الفورية، وفيه منع الضرورة أن سياق آية: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) وكذا آية: (واستبقوا الخيرات) انما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة والاستباق إلى الخير من دون استتباع تركهما للغضب والشر ضرورة أن تركهما لو كان مستتبعا للغضب والشر كان البعث بالتحذير عنهما أنسب كما لا يخفى " فافهم " مع لزوم كثرة تخصيصه في المستحبات وكثير من الواجبات بل أكثرها فلا بد من حمل الصيغة فيهما على خصوص الندب أو مطلق الطلب ولا يبعد دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق وكان ما ورد من الآيات والروايات في مقام البعث نحوه ارشادا إلى ذلك كالآيات والروايات الواردة في البعث على اصل الاطاعة فيكون الامر فيها لما يترتب على المادة بنفسها ولو لم يكن

______________________________

الغرض الفرد الاول بخصوصه بمجرد وجوده بل كما لم يتعين أولا قبل وجوده لم يتعين بعد وجوده، ولازم ذلك الالتزام باوامر طولية بحسب الزمان مادام الغرض باقيا ويكون المراد من بقاء الامر هذا المعنى لا بقاء الامر الشخصي بحدوده لامتناع بقائه بحصول موضوعه فتأمل جيدا.

الفور والتراخى

(قوله: لا على الفور ولا على) كما هو المشهور وعن الشيخ (ره) وجماعة القول بالفور، وعن السيد (ره) الاشتراك بين الفور والتراخي، وعن آخرين التوقف، والتحقيق الاول ويظهر ذلك بملاحظة ما تقدم في المرة والتكرار (قوله: قضية اطلاقها) يعني اطلاق المادة بالاضافة إلى الزمان (قوله: تبادر طلب) يعني ولو كان الوجه في التبادر مقدمات الاطلاق (قوله: ضرورة ان تركهما) يعني أن ظاهر تعليق المسارعة والاستباق بالمغفرة والخير كون تركهما

١٨٨

هناك أمر بها كما هو الشأن في الاوامر الارشادية " فافهم " (تتمة) بناء على القول بالفور فهل قضية الامر الاتيان فورا ففورا بحيث لو عصى لوجب عليه الاتيان به فورا ايضا في الزمان الثاني أولا ؟ وجهان مبنيان على أن مفاد الصيغة - على هذا القول - هو وحدة المطلوب

______________________________

لا ينافي تحقق المغفرة والخير كما هو الحال في كل فعل متعلق بمفعوله، ولازم ذلك عدم وجوب المسارعة والاستباق والا كان تركهما موجبا للغضب والشر كما هو شأن ترك الواجب وهو خلف، بل كان الانسب حينئذ أن يقال: احذروا من الغضب والشر بالمسارعة والاستباق، لا التعبير بما في الآية، إلا أن يقال: ان الغضب الحاصل بترك المسارعة لا يضاد المغفرة التي هي موضوع المسارعة فوجوب المسارعة لا ينافي كون تركها لا يؤدي إلى الغضب بل إلى المغفرة، وكذا الحال في الآية الاخرى، ولكن هذا لو سلم لا ينافي ظهور السياق فيما ذكره المصنف (ره) فتأمل جيدا (والاولى) أن يقال: المغفرة في الآية الاولى يراد منها سببها وهو الاطاعة وكما يمتنع اخذ الاطاعة قيدا للواجب الشرعي يمتنع أخذ المسارعة إليها كذلك وكما أن الامر بالاطاعة ارشادي كذلك الامر بالمسارعة فيها، مع أن الآية على تقدير دلالتها على وجوب المسارعة لا تدل على تقييد الواجب بالفورية بل هي على خلاف ذلك أدل لان مادة المسارعة إلى الشئ إنما تكون فيما هو موسع كما لا يخفى، وكذا الحال في الآية الاخرى على تقدير كون المراد من الخيرات الخيرات الاخروية كما هو الظاهر، ولعله إلى بعض ما ذكرنا اشار بقوله: فافهم (قوله: الارشادية فافهم) لعله اشارة إلى لزوم الالتزام به لما عرفت، (قوله: فهل قضية الامر) ينبغي ان يجعل الاحتمال ثلاثي الاطراف فيقال: هل ظاهر الامر الاتيان به فورا فلو تركه عصى وسقط الامر أو الاتيان به فورا على نحو لو تركه في الزمان الاول عصى في ترك الفورية وبقي الامر بصرف الطبيعة أو الاتيان به فورا ففورا فلو تركه في الزمان الاول عصى ووجب الاتيان به بعد ذلك

١٨٩

أو تعدده ولا يخفى أنه لو قيل بدلالتها على الفورية لما كان لها دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدده فتدبر جيدا

الفصل الثالث

الاتيان بالمأمور به على وجهه يقتضى الاجزاء في الجملة بلا شبهة، وقبل الخوض في تفصيل المقام وبيان النقض والابرام ينبغي تقديم أمور (أحدها) الظاهر ان المراد من (وجهه) في العنوان هو النهج الذى ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعا

______________________________

فورا أيضا... وهكذا، ومبنى الاحتمال الاول ان الفورية في الزمان الاول مقومة لاصل المصلحة فتفوت بفوتها وهذا هو المراد من وحدة المطلوب، ومبنى الثاني ان يكون مصلحتان احداهما قائمة بذات الفعل مطلقا والاخرى قائمة بالفورية في الزمان الاول لا غير، ومبنى الثالث كذلك الا ان مصلحة الفورية ذات مراتب مختلفة يكون ترك الفورية في كل زمان مفوتا لمرتبة من مصلحتها لا لاصلها كما هو مبنى الثاني (قوله: أو تعدده) قد عرفت ان تعدده على نحوين يكونان مبنيين لاحتمالين (قوله: لو قيل بدلالتها على) اما لو كان الدليل على الفورية غير الصيغة فيختلف باختلاف تلك الادلة، وفي المعالم بنى القول بالسقوط على الاستناد لغير الآيتين والقول بعدمه على الاستناد اليهما، ولا يخلو من تأمل ليس هذا محل ذكره والله سبحانه اعلم، ثم انه حيث كان اطلاق يعتمد عليه في نفي الفور والتراخي فلا اشكال واما إذا لم يكن اطلاق كذلك فالمرجع الاصل فلو كان التردد بين الفور والتراخي فالواجب الجمع بين الوظيفتين للعلم الاجمالي بالتكليف باحدهما، ولو كان بين الفور والطبيعة فالمرجع اصل البراءة لو كان وجوب الفورية على نحو تعدد المطلوب ولو كان بنحو وحدة المطلوب فالحكم هو الحكم مع الشك بين الاقل والاكثر، وكذا الحكم لو كان التردد بين الطبيعة والتراخي والله سبحانه أعلم

١٩٠

وعقلا مثل أن يؤتى به بقصد التقرب في العبادة، لا خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا فانه عليه يكون (على وجهه) قيدا - توضيحيا - وهو بعيد - مع أنه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع بناء على المختار كما تقدم من ان قصد القربة من كيفيات الاطاعة عقلا لا من قيود المأمور به شرعا، ولا الوجه المعتبر عند بعض الاصحاب فانه - مع عدم اعتباره عند المعظم، وعدم اعتباره عند من اعتبره إلا في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات، لا وجه لاختصاصه به بالذكر على تقدير الاعتبار فلا بد من ارادة ما يندرج فيه من المعنى وهو ما ذكرناه كما لا يخفى

______________________________

الكلام في الاجزاء

(قوله: مثل ان يؤتى به) بيان للنهج اللازم عقلا بناء على خروج قصد التقرب عن موضوع الامر (قوله: لا خصوص) معطوف على النهج وفيه تعريض بما قد يظهر من عبارة التقريرات فتأملها (قوله: قيدا توضيحيا) لان ذكر المأمور به يغني عنه ثم إن كون القيد توضيحيا لازم للقائلين بأن قصد التقرب داخل في المأمور به (قوله: مع انه يلزم خروج) إذ لا إشكال في عدم الاجزاء لو كان المأمور به في العبادات فاقدا لقصد التقرب وان كان واجدا لجميع ما يعتبر فيه شرعا (قوله: بناء على المختار) أما على القول بكون قصد التقرب قيدا للمأمور به فهي داخلة في محل النزاع لدخولها في العنوان ويكون عدم الاجزاء مع فقد التقرب لعدم الاتيان بالمأمور به شرعا (قوله: ولا الوجه المعتبر) يعني الوجوب والندب (قوله: عند المعظم) فلا وجه لذكره في العنوان في كلام المعظم إلا أن يكون المقصود من ذكره الاحتياط في ذكر القيود لكنه بعيد (قوله: لا مطلق الواجبات) فلا وجه لاخذه قيدا في دعوى الاجزاء مطلقا (قوله: لاختصاصه) يعني من دون سائر القيود المعتبرة في الاطاعة مثل التقرب والتمييز إلا أن يدعى الاكتفاء به عنهما على بعض

١٩١

(ثانيها) الظاهر ان المراد من الاقتضاء ههنا الاقتضاء بنحو العلية والتأثير لا بنحو الكشف والدلالة، ولذا نسب إلى الاتيان لا إلى الصيغة (ان قلت): هذا إنما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره وأما بالنسبة إلى أمر آخر كالاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري أو الظاهرى بالنسبة إلى الامر الواقعي فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره بنحو يفيد الاجزاء أو بنحو آخر لا يفيده (قلت): نعم لكنه لا ينافى كون النزاع فيها كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدم غايته ان العمدة في سبب الاختلاف فيهما انما هو الخلاف في دلالة دليلهما هل انه على نحو يستقل العقل بان الاتيان به موجب للاجزاء ويؤثر فيه وعدم دلالته، ويكون النزاع فيه صغرويا أيضا بخلافه في الاجزاء بالاضافة إلى أمره فانه لا يكون الا كبرويا لو كان هناك نزاع

______________________________

التقادير فتأمل (قوله: المراد من الاقتضاء ههنا) الواقع في القوانين والفصول وغيرهما في تحرير العنوان قولهم: الامر بالشئ هل يقتضي الاجزاء أولا ؟، وحيث أن ظاهر الاقتضاء فيه الكشف والدلالة كما في قولهم: الامر يقتضي الوجوب، والنهي يقتضي التحريم، نبه المصنف (ره) على ان الاقتضاء في العنوان المذكور في المتن ليس بمعنى الكشف والدلالة بل بمعنى العلية والتأثير كما في قولهم: الامر بالشئ يقتضي النهي عن ضده، والوجه في ذلك نسبة الاقتضاء في عنوان المتن إلى الاتيان وفي عنوان غيره إلى الامر وحيث أنه لا معنى لتأثير الامر في الاجزاء وجب حمله على الدلالة يعني يدل الامر على أن موضوعه واف بتمام المصلحة بخلاف الاتيان فان تأثيره في الاجزاء ظاهر إذ لولا كونه علة لحصول الغرض لما كان مامورا به (قوله: هذا إنما يكون) يعني أن حمل الاقتضاء على العلية إنما يصح بالاضافة إلى نفس الامر المتعلق بالماتي فان إجزاءه يلازم سقوط امره لا بالنسبة إلى الامر المتعلق بغيره إذ النزاع في الحقيقة يكون في دلالة الدليل فالاقتضاء فيه بمعنى الدلالة (قوله: نعم) يعني كما ذكرت من أن النزاع في دلالة الدليل (قوله: صغرويا) صورة القياس في المقام هكذا: المأمور به

١٩٢

كما نقل عن بعض (فافهم) (ثالثها) الظاهر ان الاجزاء ههنا بمعناه لغة وهو الكفاية وان كان يختلف ما يكفى عنه فان الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي يكفى فيسقط به التعبد به ثانيا، وبالامر الاضطراري أو الظاهرى الجعلي فيسقط به القضاء لا انه يكون ههنا اصطلاحا بمعنى اسقاط التعبد أو القضاء فانه بعيد جدا

______________________________

*

بالامر الاضطراري مأمور به بالامر الواقعي - ولو تنزيلا - والمامور به بالامر الواقعي يقتضي الاجزاء، ينتج: المأمور به بالامر الاضطراري يقتضي الاجزاء. والنزاع في هذه المسألة بالنسبة إلى الامر الواقعي في الكبرى وبالنسبة إلى الامر الاضطراري في الصغرى بالنسبة إلى الامر الواقعي، وفي الكبرى بالنسبة إلى أمر نفسه والمحكم في الكبرى مطلقا العقل والمحكم في الصغرى الدليل الشرعي فإذا كان الاقتضاء في الكبرى بمعنى العلية كان في النتيجة كذلك، ومنه يظهر أن إثبات الاجزاء في الفعل الاضطراري والظاهري بالنسبة إلى الامر الواقعي يتوقف على إثبات الصغرى والكبرى معا، وفي الفعل الواقعي على اثبات نفس الكبرى لانه عينها (قوله: فافهم) يمكن ان يكون اشارة إلى ان النزاع في مثل هذه الصغرى ليس نزاعا في المسألة الاصولية لان شأن المسائل الاصولية تنقيح الكبريات وأما الصغريات فوضيفة الفقيه، ولذا لم يتعرض في هذا المبحث لصغريات الافعال الاضطرارية والظاهرية تفصيلا فلاحظ (قوله: الظاهر ان الاجزاء) قد تضمنت جملة من العبارات كون الاجزاء له معنيان (احدهما) إسقاط التعبد بالفعل ثانيا (وثانيهما) إسقاط القضاء، وأن المراد هنا أي المعنيين ؟ وقد دفع المصنف (ره) ذلك - تبعا للتقريرات - بان لفظ الاجزاء لم يستعمل في المقام إلا بمعناه اللغوي وهو الكفاية غاية الامر أن ما يكفي عند الماتي به تارة يكون هو التعبد به ثانيا فيكون مسقطا للتعبد به واخرى الامر به قضاء فيكون مسقطا للقضاء لا أن له معنى اصطلاحيا ليتردد في أنه إسقاط التعبد أو إسقاط القضاء (قوله: يكفي فيسقط) يعنى يكفي في حصول الغرض فلا يحتاج إلى التعبد به ثانيا لتحصيله (قوله: فيسقط به) يعنى يكفي أيضا في حصول

١٩٣

(رابعها) الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار لا يكاد يخفى، فان البحث ههنا في ان الاتيان بما هو المأمور به يجزئ عقلا بخلافه في تلك المسألة فانه في تعيين ما هو المأمور به شرعا بحسب دلالة الصيغة بنفسها أو بدلالة اخرى (نعم) كان التكرار عملا موافقا لعدم الاجزاء لكنه لا بملاكه، وهكذا الفرق بينها وبين مسألة تبعية القضاء للاداء فان البحث في تلك المسألة في دلالة الصيغة على التبعية وعدمها بخلاف هذه المسألة فانه كما عرفت في ان الاتيان بالمأمور يجزئ عقلا عن اتيانه ثانيا اداء أو

______________________________

*

الغرض فلا يثبت الامر بالقضاء ثم إن إجزاء المأمور به الواقعي لما كان بلحاظ الامر به ناسب التعبير باسقاط التعبد به ثانيا وإجزاء المأمور به بالامر الاضطراري والظاهري لما كان بلحاظ الامر به قضاء ناسب التعبير باسقاط القضاء (قوله: الفرق بين هذه) قد يتوهم أن القول بالمرة قول بالاجزاء والقول بالتكرار قول بعدم الاجزاء (قوله: بما هو المأمور به) يعني بعد الفراغ عن تعيين تمام المأمور به (قوله: فانه في تعيين) وحينئذ فيكون النزاع في الاجزاء مترتبا على النزاع في المرة والتكرار لا أن النزاع فيهما نزاع في الموضوع والنزاع فيه نزاع في الحكم (قوله: بحسب دلالة) يعني فيكون النزاع في أمر لفظي (قوله: عملا) متعلق بقوله: موافقا، يعني هما من حيث العمل سواء لكنه موقوف على أن المراد بالتكرار فعل كل فرد ممكن بعد آخر أما لو كان المراد ما يشمل تكرار الصلاة اليومية وصوم رمضان كما يقتضيه استدلال بعضهم فلا ملازمة بينهما عملا ثم إن هذا بالنسبة إلى أمره أما بالنسبة إلى أمر غيره فلا مجال للتوهم ولا للموافقة عملا (قوله: لا بملاكه) إذ ملاك عدم الاجزاء عدم وفاء المأمور به بالغرض المقصود منه وملاك التكرار عدم حصول تمام المأمور به (قوله: وهكذا الفرق) يعني قد يتوهم أن القول بعدم الاجزاء عين القول بتبعية القضاء للاداء، والقول بالاجزاء قول بعدم تبعية القضاء للاداء (قوله: فان البحث حينئذ) يعني أن البحث في تبعية القضاء للاداء بحث في ان الامر بشئ في وقت

١٩٤

قضاء أولا يجزئ فلا علقة بين المسألة والمسئلتين اصلا (إذا) عرفت هذه الامور فتحقيق المقام يستدعي البحث والكلام في موضعين (الاول) أن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي بل بالامر الاضطراري أو الظاهري أيضا يجزئ عن التعبد به ثانيا، لاستقلال العقل بانه لا مجال مع موافقة الامر باتيان المأمور به على وجهه لاقتضائه التعبد به ثانيا. نعم لا يبعد ان يقال بأنه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبد به ثانيا بدلا عن التعبد به أولا لا منضما إليه كما اشرنا إليه في المسألة السابقة، وذلك فيما علم ان مجرد امتثاله لا يكون علة تامة لحصول الغرض وان كان وافيا به لو اكتفى

______________________________

*

هل يدل على لزوم فعله في خارج الوقت على تقدير عدم الاتيان به في الوقت بحيث يرجع إلى الامر به مطلقا لكونه في الوقت أولا يدل ؟ فيكون النزاع في تعيين المأمور به من حيث دلالة الامر، وأين هو من النزاع في المسألة ؟ (قوله: فلا علقة بين) أولا من جهة أن إحداهما متضمنة لتعيين نفس المأمور به والاخرى متضمنة لتعيين مقتضاه (وثانيا) من جهة أن النزاع في إحداهما لفظي وفى الاخرى عقلي " وثالثا " من جهة ان القول بعدم الاجزاء انما في ظرف الاتيان بالمأمور به والقول بالتبعية انما هو في ظرف عدم الاتيان به (قوله: بالامر الاضطراري) يعني بالاضافة إلى أمره (قوله: أو الظاهري) يعني بالاضافة إلى أمره (قوله: لاستقلال العقل بأنه) قد عرفت أن الامر الحقيقي لابد ان يكون حاكيا عن الارادة وأن الارادة حدوثا وبقاء تتوقف على العلم بالمصلحة المعبر عنها بالداعي تارة وبالغرض أخرى فالماتي به في الخارج إما أن لا يترتب عليه الغرض فلا يكون مامورا به فهو خلف أو يترتب عليه الغرض فبقاء الامر حينئذ إن كان بلا غرض فهو مستحيل كما عرفت وان كان عن غرض آخر غير الغرض الحاصل من الماتي به أولا فيلزمه أن يكون المأمور به فردين في الخارج يترتب على كل منهما غرض خاص فيكون الامر منحلا إلى أمرين يسقط كل منهما بالاتيان بمتعلقه وهو عين الاجزاء المدعى غاية الامر أنه لا يكون فعل أحدهما مسقطا لامر الآخر ومجزئا عنه ولكنه غير محل الكلام إذ الكلام - كما عرفت - في أن فعل المأمور به مجزئ عن الامر به ثانيا (قوله: لا منضما إليه)

١٩٥

به كما إذا اتى بماء امر به مولاه ليشربه فلم يشربه بعد فان الامر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد ولذا لو اهرق الماء واطلع عليه العبد وجب عليه اتيانه ثانيا كما لم يأت به أولا ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه والا لما اوجب حدوثه فحينئذ يكون له الاتيان بماء آخر موافق للامر كما كان له قبل اتيانه الاول بدلا عنه. نعم فيما كان الاتيان علة تامة لحصول الغرض فلا يبقى موقع التبديل كما إذا أمر باهراق الماء في فمه لرفع عطشه فاهرقه، بل لو لم يعلم أنه من أي القبيل فله التبديل باحتمال ان لا يكون علة فله إليه السبيل، ويؤيد ذلك بل يدل عليه ما ورد من الروايات في باب اعادة من صلى فرادى جماعة وان الله تعالى يختار احبهما إليه (الموضع الثاني) وفيه مقامان (المقام الاول) في ان الاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري هل يجزئ عن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي ثانيا بعد رفع الاضطرار في الوقت اعادة وفى خارجه قضاء أولا يجزئ ؟ تحقيق الكلام فيه يستدعي التكلم فيه (تارة) في بيان ما يمكن ان يقع عليه الامر الاضطراري من الانحاء وبيان ما هو قضية كل منها من الاجزاء وعدمه (وأخرى) في تعيين ما وقع عليه فاعلم انه يمكن

______________________________

*

قد يمكن أن يكون منضما إليه كما في الافراد الدفعية التى تكون امتثالا واحدا لعدم المرجح. فتأمل (قوله: وجب عليه) يعني بعين وجوبه أولا كما تقدم الكلام فيه (قوله: بدلا عنه) قد عرفت أنه يمكن أن يكون منضما إليه (قوله: فلا يبقى موقع) إذ الثاني مما يعلم بعدم ترتب الاثر عليه (قوله: ما ورد من الروايات) كرواية أبي بصير قلت لابي عبد الله (عليه السلام): أصلي ثم أدخل المسجد فتقام الصلاة وقد صليت فقال (عليه السلام): صل معهم يختار الله أحبهما إليه، ورواية هشام عنه (عليه السلام): في الرجل يصلي الصلاة وحده ثم يجد جماعة قال (عليه السلام): يصلي معهم ويجعلها الفريضة انشاء الله، ونحوها رواية حفص، وفي مرسلة الصدوق: يحسب له أفضلهما وأتمهما

١٩٦

ان يكون التكليف الاضطراري في حال الاضطرار كالتكليف الاختياري في حال الاختيار وافيا بتمام المصلحة وكافيا فيما هو المهم والغرض ويمكن ان لا يكون وافيا به كذلك بل يبقى منه شئ امكن استيفاؤه أو لا يمكن، وما أمكن كان بمقدار يجب تداركه أو يكون بمقدار يستحب، ولا يخفى انه ان كان وافيا به فيجزئ فلا يبقى مجال اصلا للتدارك لا قضاء ولا اعادة، وكذا لو لم يكن وافيا ولكن لا يمكن تداركه ولا يكاد يسوغ له البدار في هذه الصورة الا لمصلحة كانت فيه لما فيه من نقض الغرض وتفويت مقدار من المصلحة لولا مراعاة ما هو فيه من الاهم فافهم

______________________________

الامر الاضطراري

(قوله: ان يكون التكليف) يعني موضوعه (قوله: كالتكليف الاختياري) يعني كموضوعه (قوله: وما أمكن كان) يعني أن المقدار الباقي من المصلحة الذي يمكن استيفاؤه قسمان فانه تارة يكون واجب التدارك وأخرى يكون مستحب التدارك (أقول): ما لا يمكن استيفاؤه ايضا قسمان تارة يكون محرم التفويت وأخرى لا يكون كذلك فالاقسام خمسة وإنما لم يتعرض للقسمين المذكورين لعدم اختلافهما في الاجزاء وإن كانا يختلفان في جواز البدار وعدمه (قوله: ولا يخفى) شروع في حكم الاقسام من حيث الاجزاء (قوله: اصلا للتدارك) لان التدارك إنما يكون في ظرف الفوت والمفروض عدمه (قوله: ولا يكاد يسوغ) يعني حيث يكون الفائت مما يحرم تفويته أما إذا لم يكن فلا تحريم للبدار كما أن نسبة التحريم إلى البدار لا تخلو من مسامحة إذ المحرم هو تفويت ذلك المقدار والبدار ليس تفويتا ولا مقدمة له وإنما هو ملازم له فلا ينسب إليه التحريم إلا بالعرض والمجاز ولذا لم تفسد العبادة، ولعله إلى هذا اشار بقوله: فافهم (قوله: إلا لمصلحة) يعني إذا كانت مصلحة في البدار تصلح لمزاحمة المقدار الفائت لم يحرم التفويت الملازم للبدار حينئذ (قوله: لما فيه من)

١٩٧

(لا يقال): عليه فلا مجال لتشريعه ولو بشرط الانتظار لامكان استيفاء الغرض بالقضاء (فانه يقال): هذا كذلك لولا المزاحمة بمصلحة الوقت، وأما تسويغ البدار أو ايجاب الانتظار في الصورة الاولى فيدور مدار كون العمل بمجرد الاضطرار مطلقا أو بشرط الانتظار أو مع اليأس عن طرؤ الاختيار ذا مصلحة ووافيا بالغرض، وان لم يكن وافيا وقد امكن تدارك الباقي في الوقت أو مطلقا ولو بالقضاء خارج

______________________________

تعليل لعدم جواز البدار لكن عرفت أن البدار لا تفويت فيه لغرض المولى وإنما هو يلازم التفويت (قوله: فلا مجال لتشريعه) يعني إذا كان البدل الاضطراري غير واف بمصلحة المبدل الاختياري كيف جاز تشريعه ولو في آخر الوقت ؟ لان في تشريعه تفويتا للمصلحة (قوله: هذا كذلك) (أقول): تشريع الاضطراري إنما جاز لاشتماله على المصلحة مع عدم كونه مقدمة للتفويت فالمنع عن تشريعه غير ظاهر الوجه الا ان يكون المراد من تشريعه الامر بفعله في الوقت أو الاذن كذلك الملازمين للاذن في التفويت (قوله: لولا المزاحمة) يعنى انما يكون تفويت التشريع ممنوعا عنه حيث يؤدي إلى تفويت المصلحة مع عدم مزاحمتها بمصلحة أخرى وإلا فلو فرض كون خصوصية الفعل في الوقت مشتملة على مصلحة تزاحم المقدار الفائت لم يكن مانع عن تشريعه كما تقدم مثل ذلك في جواز البدار ثم إنه حيث كان في خصوصية الوقت مصلحة يتدارك بها ما يفوت جاز البدار أول الوقت إذا علم الاضطرار في تمام الوقت ولا موجب للانتظار فتأمل (قوله: في الصورة الاولى) وهي ما كان الاضطراري فيها وافيا بتمام المصلحة (قوله: الاضطرار مطلقا) وعليه يجوز البدار مطلقا (قوله: أو بشرط الانتظار) وعليه فلا يجوز البدار (قوله: أو مع اليأس) فلا يجوز البدار الا مع اليأس ثم إن هذه الاقسام لا تختص بالصورة الاولى بل تجري في الثانية أيضا إذ قد تكون خصوصية الوقت مطلقا ذات مصلحة تزاحم المقدار الفائت. وقد تكون بشرط الانتظار، وقد تكون بشرط اليأس وقد يكون بغير ذلك فيتبع كلا حكمه (قوله: وان لم يكن وافيا)

١٩٨

الوقت فان كان الباقي مما يجب تداركه فلا يجزئ فلا بد من ايجاب الاعادة أو القضاء وإلا فاستحبابه ولا مانع عن البدار في الصورتين غاية الامر يتخير في الصورة الاولى بين البدار والاتيان بعملين العمل الاضطراري في هذا الحال والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار أو الانتظار والاقتصار باتيان ما هو تكليف المختار، وفي الصورة الثانية يتعين عليه استحباب البدار واعادته بعد طروء الاختيار. هذا كله فيما يمكن أن يقع عليه الاضطراري من الانحاء، وأما ما وقع عليه فظاهر إطلاق دليله مثل قوله تعالى: (فان لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) وقوله (عليه السلام): (التراب أحد الطهورين ويكفيك عشر سنين) هو الاجزاء وعدم وجوب الاعادة أو القضاء ولا بد في ايجاب الاتيان به ثانيا من دلالة دليل بالخصوص (وبالجملة):

______________________________

*

معطوف على قوله: إن كان وافيا (قوله: فلا بد من ايجاب) لاجل تدارك الباقي (قوله: والا فاستحبابه) الظاهر أن أصل العبارة: والا فيجزئ، بمعنى عدم وجوب الاعادة والقضاء وان كان يستحب (قوله: ولا مانع عن) إذ لا تفويت فيهما (قوله: في الصورة الاولى) وهي ما يكون الباقي فيها مما يجب تداركه (قوله: وفى الصورة الثانية) وهي ما كان الباقي فيها مما يستحب تداركه (قوله: استحباب البدار) هذا الاستحباب بنحو الكلية غير ظاهر الوجه إلا أن يستند فيه إلى مثل آيتي المسارعة والاستباق فتأمل (قوله: وأما ما وقع عليه) التعرض لذلك ينبغي أن يكون في الفقه لا هنا إذ ليس لدليله ضابطة كلية فقد يختلف الدليل باختلاف قرينة الحال أو المقال من حيث الدلالة على الوفاء وعدمه وكأن مقصود المصنف (ره) الاشارة إلى ما يكون كالانموذج لادلة البدل الاضطراري (قوله: هو الاجزاء) أما اقصاء ما كان بلسان البدلية مثل: أحد الطهورين، ونحوه فظاهر، فان اطلاق البدلية يقتضي قيام البدل مقام المبدل منه بلحاظ جميع الآثار والخواص فلا بد من أن يفى بما يفي به المبدل من المصلحة بمرتبتها ويترتب عليه الاجزاء " فان قوله ": هذا الاطلاق

١٩٩

وان كان ثابتا الا انه معارض باطلاق دليل المبدل منه فانه يقتضي تعينه في جميع الاحوال ولازمه وجوب حفظ القدرة عليه الكاشف عن عدم وفاء البدل بمصلحته والا جاز تفويت القدرة عليه، وكما يمكن الجمع بينهما برفع اليد عن اطلاق دليل المبدل فيحمل على تعينه في ظرف القدرة عليه جاز رفع اليد عن اطلاق دليل البدل فيحمل على وفائه ببعض مراتب المصلحة التي يفي بها المبدل واذ لا مرجح يرجع إلى الاصل ويسقط الاطلاق عن المرجعية " قلت ": نسبة دليل البدل إلى دليل المبدل منه نسبة الحاكم إلى المحكوم لانه ناظر إليه موسع لموضوعه فيجب تقديمه عليه وجوب تقديم الحاكم على المحكوم. هذا كله بالنظر إلى طبع الكلام نفسه أما بملاحظة كون البدلية في حال الاضطرار فلا يبعد كون مقتضى الجمع العرفي كون البدل من قبيل الميسور للتام ولاجل ذلك نقول: لا يجوز تعجيز النفس اختيارا لانه تفويت للتام، فتأمل جيدا. وأما ما كان بلسان الامر فقد يشكل اطلاقه المقتضي للاجزاء إذ الامر انما يدل على وفاء موضوعه بمصلحة مصححة للامر به أما أنها عين مصلحة المبدل أو بعضها فلا يدل عليه الامر ولا يصلح لنفي وجوب الاعادة أو القضاء. نعم لو كان المتكلم في مقام بيان تمام ما له دخل في حصول الغرض المترتب على الاختياري مع عدم الامر بالاعادة أو القضاء أمكن الحكم بالاجزاء حينئذ اعتمادا على هذا الاطلاق المقامي المقدم على اطلاق دليل المبدل للحكومة، أو كون الامر واردا مورد جعل البدل فيجري فيه ما تقدم، اللهم إلا أن يقال: دليل المبدل ظاهر في التعيين في حال التمكن وعدمه ودليل البدل ظاهر في تعينه في حال عدم التمكن من المبدل وهما متنافيان للعلم بعدم تعينهما معا فيدور الامر (بين) رفع اليد عن ظهور دليل البدل في التعيين ودليل المبدل فيه بالاضافة إلى بعض مراتب المصلحة ولازمه الحكم بتعين المبدل في تحصيل تمام مرتبة الغرض والتخيير بينه وبين البدل في تحصيل بعضها ويترتب عليه عدم الاجزاء (وبين) رفع اليد عن اطلاق دليل المبدل بالاضافة إلى حالتي التمكن وعدمه وحيث أن الثاني أقرب يكون هو المتعين ولازم ذلك اشتراط وجوب المبدل بحال التمكن فيترتب

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

والمقام مقام الدعاء بالبيان الّذي تقدّم - لا يراد به إلّا عدّة معدودة ممّن آمن بالنبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وكذا قوله: كنتم خير اُمّة خرجت للناس وهو في مقام الامتنان وتعظيم القدر وترفيع الشأن لا يشمل جميع الاُمّة، وكيف يشمل فراعنة هذه الاُمّة دجاجلتها الّذين لم يجدوا للّدين أثراً إلّا عفوه ومحوه، ولا لأوليائه عظماً إلّا كسروه وسيجئ تمام البيان في الآية إنشاء الله فهو من قبيل قوله تعالى لبني إسرائيل :( وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) البقرة - ٤٧، فإنّ منهم قارون ولا يشمله الآية قطعاً، كما أنّ قوله تعالى:( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) الفرقان - ٣٠، لا يعمّ جميع هذه الاُمّة وفيهم أولياء القرآن ورجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله تعالى.

وأمّا قوله تعالى:( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) البقرة - ١٣٤، فالخطاب فيه متوجّة إلى جميع الاُمّة ممّن آمن بالنبيّ، أو من بعث إليه.

( بحث علمي)

إذا رجعنا إلى قصّة إبراهيمعليه‌السلام وسيره بولده وحرمته إلى أرض مكّة، وإسكانهما هناك، وما جرى عليهما من الأمر، حتّى آل الأمر، إلى ذبح إسماعيل وفدائه من جانب الله وبنائهما البيت، وجدنا القصّة دورة كاملة من السير العبودي الّذي يسير به العبد من موطن نفسه إلى قرب ربّه، ومن أرض البعد إلى حظيرة القرب بالإعراض عن زخارف الدنيا، وملاذّها، وأمانيّها من جاه، ومال، ونساء وأولاد، والانقلاع والتخلّص عن وساوس الشياطين، وتكديرهم صفو الإخلاص والإقبال والتوجّه إلى مقام الربّ ودار الكبرياء.

فها هي وقائع متفرّقة مترتّبة تسلسلت وتألّفت قصّة تاريخيّة تحكي عن سير عبوديّ من العبد إلى الله سبحانه وتشمل من أدب السير والطلب والحضور ورسوم الحبّ والوله والإخلاص على ما كلّما زدت في تدبّره إمعاناً زادك استنارة ولمعانا.

٣٠١

ثمّ: إنّ الله سبحانه أمر خليله إبراهيم: أن يشرع للناس عمل الحجّ، كما قال:( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) إلى آخر الآيات الحجّ - ٢٧، وما شرعهعليه‌السلام وإن لم يكن معلوما لنا بجميع خصوصيّاته، لكنّه كان شعاراً دينيّاً عند العرب في الجاهليّة إلى أن بعث الله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشرع فيه ما شرع ولم يخالف فيه ما شرعه إبراهيم إلّا بالتكميل كما يدلّ عليه قوله تعالى:( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) الانعام - ١٦١، وقوله تعالى:( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ) الشورى - ١٣.

وكيف كان فما شرعه النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) من نسك الحجّ المشتمل على الإحرام والوقوف بعرفات ومبيت المشعر والتضحية ورمى الجمرات والسعى بين الصفا والمروة والطواف والصلاة بالمقام تحكي قصّة إبراهيم، وتمثل مواقفه ومواقف أهله ومشاهدهم ويا لها من مواقف طاهرة إلهيّة القائد إليها جذبة الربوبيّة والسائق نحوها ذلّة العبوديّة.

والعبادات المشروعة - على مشرّعيها أفضل السلام - صور لمواقف الكمّلين من الأنبياء من ربّهم، وتماثيل تحكي عن مواردهم ومصادرهم في مسيرهم إلى مقام القرب والزلفى، كما قال تعالى:( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) الاحزاب - ٢١، وهذا أصل.

وفي الأخبار المبيّنة لحكم العبادات وأسرار جعلها وتشريعها شواهد كثيرة على هذا المعنى، يعثر عليها المتتبّع البصير.

٣٠٢

( سورة البقرة الآيات ١٣٠ - ١٣٤)

وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ  وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا  وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ( ١٣٠ ) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ  قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٣١ ) وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ( ١٣٢ ) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( ١٣٣ ) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ  لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ  وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٣٤ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ) ، الرغبة، إذا عدّيت بعن أفادت: معنى الإعراض والنفرة، وإذا عدّيت بفي أفادت: معنى الشوق والميل، وسفه يأتي متعدّيا ولازماً، ولذلك ذكر بعضهم أنّ قوله: نفسه مفعول لقوله: سفه، وذكر آخرون أنّه تمييز لا مفعول، والمعنى على أيّ حال: أنّ الإعراض عن ملّة إبراهيم من حماقة النفس، وعدم تمييزها ما ينفعها ممّا يضرّها ومن هذه الآية يستفاد معنى ما ورد في الحديث: أنّ العقل ما عبد به الرحمن.

قوله تعالى: ( وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ) ، الاصطفاء أخذ صفوة الشئ وتمييزه عن غيره إذا اختلطا، وينطبق هذا المعنى بالنظر إلى مقامات الولاية على خلوص العبوديّة وهو أن يجري العبد في جميع شؤونه على ما يقتضيه مملوكيّته وعبوديّته من التسليم الصرف لربّه، وهو التحقّق بالدين في جميع الشؤون فإنّ الدين لا يشتمل إلّا على مواد العبوديّة في اُمور الدنيا والآخرة وتسليم ما يرضاه الله لعبده في جميع اُموره كما قال

٣٠٣

الله تعالى:( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الْإِسْلَامُ ) آل عمران - ١٩، فظهر: أنّ مقام الاصطفاء هو مقام الإسلام بعينه ويشهد بذلك قوله تعالى:( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) الآية فإنّ الظاهر أن الظرف متعلّق بقوله: اصطفيناه، فيكون المعنى أنّ إصطفائه إنّما كان حين قال له ربّه: أسلم، فأسلم لله ربّ العالمين فقوله تعالى:( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، بمنزله التفسير لقوله: اصطفيناه.

وفي الكلام التفات من التكلّم إلى الغيبة في قوله: إذ قال له ربّه أسلم، ولم يقل إذ قلنا له أسلم، والتفات آخر من الخطاب إلى الغيبة في المحكيّ من قول إبراهيم: قال أسلمت لربّ العالمين، ولم يقل: قال أسلمت لك امّاالأوّل ، فالنكتة فيه: الإشارة إلى أنّه كان سرّا استسرّ به ربّه إذ أسرّه إليه فيما خلى به معه فإنّ للسامع المخاطب اتّصالاً بالمتكلّم فإذا غاب المتكلّم عن صفة حضوره انقطع المخاطب عن مقامه وكان بينه وبين ما للمتكلّم من الشأن والقصّة ستر مضروب، فأفاد: أنّ القصّة من مسامرات الأنس وخصائص الخلوة.

وأمّاالثاني: فلأنّ قوله تعالى:( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ ) ، يفيد معنى الاختصاص باللطف والاسترسال في المسارّة لكن أدب الحضور كان يقتضى من إبراهيم وهو عبد عليه طابع الذلّة والتواضع أن لا يسترسل، ولا يعدّ نفسه مختصّا بكرامة القرب متشرّفا بحظيرة الأنس، بل يراها واحداً من العبيد الأذلّاء المربوبين، فيسلم لربّ يستكين إليه جميع العالمين فيقول: أسلمت لربّ العالمين.

الإسلام والتسليم والاستسلام بمعنى واحد، من السلّم، وأحد الشيئين إذا كان بالنسبة إلى الآخر بحال لا يعصيه ولا يدفعه فقد أسلم وسلّم واستسلم له، قال تعالى:( بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ) البقرة - ١١٢، وقال تعالى:( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ) الانعام - ٧٩، ووجه الشئ ما يواجهك به، وهو بالنسبة إليه تعالى تمام وجود الشئ فإسلام الإنسان له تعالى هو وصف الانقياد والقبول منه لما يرد عليه من الله سبحانه من حكم تكوينيّ، من قدر وقضاء، أو تشريعيّ من أمر أو نهى أو غير ذلك، ومن هنا كان له مراتب بحسب ترتّب الواردات بمراتبها.

الاولى: من مراتب الإسلام، القبول لظواهر الأوامر والنواهي بتلقّي

٣٠٤

الشهادتين لساناً، سواء وافقه القلب، أو خالفه، قال تعالى:( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) الحجرات - ١٤، ويتّعقب الإسلام بهذا المعنى أوّل مراتب الإيمان وهو الإذعان القلبّي بمضمون الشهادتين إجمالاً ويلزمه العمل في غالب الفروع.

الثانيه: مايلي الإيمان بالمرتبة الاُولى، وهو التسليم والانقياد القلبّي لجلّ الاعتقادات الحقّة التفصيليّة وما يتبعها من الأعمال الصالحة وإن أمكن التخطّي في بعض الموارد. قال الله تعالى في وصف المتّقين:( الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ) الزخرف - ٦٩، وقال أيضاً:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ) البقرة - ٢٠٨، فمن الإسلام ما يتأخّر عن الإيمان محقّقاً فهو غير المرتبة الاُولى من الإسلام ويتعقّب هذا الإسلام المرتبة الثانية من الإيمان وهو الاعتقاد التفصيليّ بالحقائق الدينيّة. قال تعالى:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) الحجرات - ١٥، وقال أيضاً:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ) الصّف - ١١، وفيه إرشاد المؤمنين إلى الإيمان، فالإيمان غير الإيمان.

الثالثه: مايلي الإيمان بالمرتبة الثانية فإنّ النفس إذا أنست بالإيمان المذكور وتخلّقت بأخلاقه تمكّنت منها وانقادت لها سائر القوى البهيميّة والسُبعيّة، وبالجملة القوى المائلة إلى هوسات الدنيا وزخارفها الفانية الداثرة، وصار الإنسان يعبدالله كأنّه يراه فإن لم يكن يراه فإنّ الله يراه، ولم يجد في باطنه وسرّه ما لا ينقاد إلى أمره ونهيه أو يسخط من قضائه وقدره، قال الله سبحانه:( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) النساء - ٦٥، ويتعقّب هذه المرتبة من الإسلام المرتبة الثالثة من الإيمان، قال الله تعالى:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) إلى أن قال:( وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) المؤمنون - ٣، ومنه قوله تعالى:( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) إلى غير ذلك، وربّما عدّت المرتبتان

٣٠٥

الثانية والثالثة مرتبة واحدة.

والأخلاق الفاضلة من الرضاء والتسليم، والحسبة والصّبر في الله، وتمام الزهد والورع، والحبّ والبغض في الله من لوازم هذه مرتبة.

الرابعة مايلي، المرتبة الثالثة من الإيمان فإنّ حال الإنسان وهو في المرتبة السابقة مع ربّه حال العبد المملوك مع مولاه، إذ كان قائماً بوظيفة عبوديّته حقّ القيام، وهو التسليم الصرف لما يريده المولى أو يحبّه ويرتضيه، والأمر في ملك ربّ العالمين لخلقة أعظم من ذلك وأعظم وإنّه حقيقة الملك الّذي لا استقلال دونه لشئ من الأشياء لا ذاتاً ولا صفة، ولا فعلاً على ما يليق بكبريائه جلّت كبريائه.

فالإنسان - وهو في المرتبة السابقة من التسليم - ربّما أخذته العناية الربّانيّة فأشهدت له أنّ الملك لله وحده لا يملك شئ سواه لنفسه شيئاً إلّا به لا ربّ سواه، وهذا معنى وهبيّ، وإفاضة إلهيّة لا تأثير لإرادة الإنسان فيه، ولعلّ قوله تعالى: ربّنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذرّيّتنا اُمّة مسلمة لك، وأرنا مناسكنا، الآية، إشارة إلى هذه المرتبة من الإسلام فإنّ قوله تعالى: إذ قال له ربّه أسلم، قال أسلمت لربّ العالمين الآية ظاهره أنّه أمر تشريعي لا تكوينيّ، فإبراهيم كان مسلماً باختياره، إجابة لدعوة ربّه وامتثالا لأمره، وقد كان هذا من الأوامر المتوجّهة إليهعليه‌السلام في مبادئ حاله: فسؤاله في أواخر عمره مع ابنه إسماعيل الإسلام وإرائة المناسك سؤال لأمر ليس زمامه بيده أو سؤال لثبات على أمر ليس بيده فالإسلام المسئول في الآية هو هذه المرتبة من الإسلام ويتعقّب الإسلام بهذا المعنى المرتبة الرابعة من الإيمان وهو استيعاب هذا الحال لجميع الأحوال والأفعال، قال تعالى:( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ) يونس - ٦٢، فإنّ هؤلاء المؤمنين المذكورين في الآية يجب أن يكونوا على يقين من أن لا استقلال لشئ دون الله، ولا تأثير لسبب إلّا بإذن الله حتّى لا يحزنوا من مكروه واقع، ولا يخافوا محذورا محتملا، وإلّا فلا معنى لكونهم بحيث، لا يخوّفهم شئ ولا يحزنهم أمر، فهذا النوع من الإيمان بعد الإسلام المذكور فافهم.

قوله تعالى: ( وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) ، الصلاح، وهو اللّياقة بوجه

٣٠٦

ربّما نسب في كلامه إلى عمل الإنسان وربّما نسب إلى نفسه وذاته، قال تعالى:( فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ) الكهف - ١١٠، وقال تعالى:( وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ) النّور - ٣٢.

وصلاح العمل وإن لم يرد به تفسير بيّن من كلامه تعالى غير أنّه نسب إليه من الآثار ما يتّضح به معناه.

فمنها: أنّه صالح لوجه الله. قال تعالى:( صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ) الرعد - ٢٢، وقال تعالى:( وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ ) البقرة - ٢٧٢.

ومنها: أنّه صالح لأن يثاب عليه. قال تعالى:( ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ) القصص - ٨٠.

ومنها: أنّه يرفع الكلم الطيّب الصاعد إلى الله سبحانه قال تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) فاطر - ١٠، فيستفاد من هذه الآثار المنسوبة إليه: أنّ صلاح العمل معنى تهيّؤه ولياقته لأن يلبس لباس الكرامة ويكون عوناً وممدّاً لصعود الكلام الطيّب إليه تعالى. قال تعالى:( وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ) الحج - ٣٧، وقال تعالى:( كُلًّا نُّمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ) الاسراء - ٢٠، فعطاؤه تعالى بمنزلة الصورة، وصلاح العمل بمنزله المادّة.

وأمّا صلاح النفس والذات فقد قال تعالى:( وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) النّساء - ٦٩، وقال تعالى:( وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ ) الأنبياء - ٨٦، وقال تعالى حكاية عن سليمان:( وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ) النمل - ١٩، وقال تعالى:( وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا - إلى قوله- وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) الأنبياء - ٧٥، وليس المراد الصلاح لمطلق الرحمة العامّة الإلهيّة الواسعة لكلّ شئ ولا الخاصّة بالمؤمنين على ما يفيده قوله تعالى:( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) الأعراف - ١٥٦، إذ هؤلاء القوم وهم الصالحون، طائفة خاصّة من المؤمنين المتّقين، ومن الرحمة ما يختصّ ببعض دون بعض، قال تعالى

٣٠٧

( يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ) البقرة - ١٠٥، وليس المراد أيضاً مطلق كرامة الولاية، وهو تولّي الحقّ سبحانه أمر عبده، فإنّ الصالحين وإن شرّفوا بذلك وكانوا من الأولياء المكرّمين على ما بيّناه سابقاً في قوله تعالى:( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) فاتحة الكتاب - ٦ وسيجئ في تفسير الآية لكنّ هذه أعني الولاية صفة مشتركة بينهم وبين النبيّين، والصدّيقين، والشهداء فلا يستقيم إذن عدّهم طائفة خاصّة في قبالهم.

نعم الأثر الخاصّ بالصلاح هو الإدخال في الرحمة، وهو الأمن العامّ من العذاب كما ورد المعنيان معاً في الجنّة، قال تعالى:( فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ) الجاثية - ٣٠، أي في الجنّة، وقال تعالى:( يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ) الدخان - ٥٥، أي في الجنّة.

وأنت إذا تدبّرت قوله تعالى:( وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا ) الأنبياء - ٧٥، وقوله:( وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ ) الأنبياء - ٧٢ - حيث نسب الفعل إلى نفسه تعالى لا إلى العبد - ثمّ تأمّلت أنّه تعالى قصّر الأجر والشكر على ما بحذاء العمل والسعي قضيت بأنّ الصلاح الذّاتيّ كرامة ليست بحذاء العمل والإرادة وربّما تبيّن به معنى قوله تعالى:( لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا ) - وهو ما بالعمل - وقوله:( وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) - وهو أمر غير ما بالعمل على ما سيجئ بيانه إنشاء الله في تفسير قوله تعالى:( لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا ) ق - ٣٥-.

ثمّ إنك إذا تأمّلت حال إبراهيم ومكانته في أنّه كان نبيّاً مرسلاً وأحد اُولي العزم من الأنبياء، وأنّه إمام، وأنّه مقتدى عدّة ممّن بعده من الأنبياء والمرسلين وأنّه من الصالحين بنصّ قوله تعالى:( وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ ) الأنبياء - ٧٢، الظاهر في الصلاح المعجل على أنّ من هو دونه في الفضل من الأنبياء أكرم بهذا الصلاح المعجّل وهوعليه‌السلام مع ذلك كلّه يسأل اللّحوق بالصالحين الظاهر في أنّ هناك قوماً من الصالحين سبقوه وهو يسأل اللّحوق بهم فيما سبقوه إليه، واُجيب بذلك في الآخرة كما يحكيه الله تعالى في ثلاثة مواضع من كلامه حيث قال تعالى:( وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) البقره - ١٣٠، وقال تعالى:( وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) العنكبوت - ٢٧، وقال تعالى:( وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ

٣٠٨

الصَّالِحِينَ ) النّحل - ١٢٢، فإذا تأمّلت ذلك حقّ التأمّل قضيت بأنّ الصلاح ذو مراتب بعضها فوق بعض ولم تستبعد لو قرع سمعك أنّ إبراهيمعليه‌السلام سأل اللّحوق بمحمّد (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وآله الطاهرينعليه‌السلام فاُجيب إلى ذلك في الآخرة لا في الدنيا فإنّهعليه‌السلام يسأل اللّحوق بالصالحين ومحمّد (صلّي الله عليه وآله وسلّم) يدعيه لنفسه. قال تعالى:( إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) الأعراف - ١٩٦ فإنّ ظاهر الآية أنّ رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) يدّعي لنفسه الولاية فالظاهر منه أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المتحقّق بالصلاح الّذي يدّعيه بموجب الآية لنفسه وإبراهيم كان يسأل الله اللّحوق بعدّة من الصالحين يسبقونه في الصّلاح فهو هو.

قوله تعالى: ( وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ ) ، إي وصّى بالملّة.

قوله تعالى: ( فَلَا تَمُوتُنَّ ) ، النّهي عن الموت وهو أمر غير اختياريّ للإنسان، والتكليف إنّما يتعلّق بأمر اختياريّ إنّما هو لرجوعه إلى أمر يتعلّق بالاختيار، والتّقدير احذروا أن يغتالكم الموت في غير حال الإسلام، أي داوموا وألزموا الإسلام لئلّا يقع موتكم إلّا في هذا الحال، وفي الآية إشارة إلى أنّ الدين هو الإسلام كما قال تعالى:( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الْإِسْلَامُ ) آل عمران - ١٩.

قوله تعالى: ( وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ) ، في الكلام إطلاق لفظ الأب على الجدّ والعمّ والوالد من غير مصحّح للتغليب، وحجّة فيما سيأتي إنشاء الله تعالى في خطاب إبراهيم لآزر بالأب.

قوله تعالى: ( إِلَهًا وَاحِدًا ) ، في هذا الإيجاز بعد الإطناب بقوله: إلهك وإله آبائك إلخ دفع لإمكان إيهام اللّفظ أن يكون إلهه غير إله آبائه على نحو ما يتّخذه الوثنيّون من الآلهة الكثيرة.

قوله تعالى: ( وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) ، بيان للعبادة وأنّها ليست عبادة كيفما اتّفقت بل عبادة على نهج الإسلام وفي الكلام جملة أنّ دين إبراهيم هو الإسلام والموروث منه في بني إبراهيم كإسحق ويعقوب وإسماعيل، وفي بني إسرائيل، وفي بني إسماعيل من آل إبراهيم جميعاً هو الإسلام لا غير، وهو الّذي أتى به إبراهيم من ربّه فلا حجّة لأحد في تركه والدّعوة إلى غيره.

٣٠٩

( بحث روائي)

في الكافي عن سماعة عن الصادقعليه‌السلام الإيمان من الإسلام بمنزلة الكعبة الحرام من الحرم قد يكون في الحرم ولا يكون في الكعبة ولا يكون في الكعبة حتّى يكون في الحرم.

وفيه عن سماعة أيضاً عن الصادقعليه‌السلام قال: الإسلام شهادة أن لا إله إلّا الله والتصديق برسول الله، به حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث وعلى ظاهره جماعة الناس، والإيمان الهدى وما يثبت في القلوب من صفة الإسلام.

أقول: وفي هذا المضمون روايات اُخر وهي تدلّ على ما مرّ بيانه من المرتبة الاُولى من الإسلام والإيمان.

وفيه عن البرقيّ عن عليّعليه‌السلام : قال الإسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين.

وفيه عن كاهل عن الصادق لو أنّ قوماً عبدوا الله - وحده لا شريك له - وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وحجّوا البيت، وصاموا شهر رمضان ثمّ قالوا لشئ صنعه الله أو صنعه رسول الله ألّا صنع بخلاف الّذي صنع أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين الحديث.

أقول: والحديثان يشيران إلى المرتبة الثالثة من الإسلام والإيمان.

وفي البحار عن إرشاد الديلميّ - وذكر سندين لهذا الحديث، وهو من أحاديث المعراج - وفيه: قال الله سبحانه: يا أحمد هل تدري أيّ عيش أهني وأيّ حياة أبقي ؟ قال: اللّهمّ لا، قال: أمّا العيش الهنئ فهو الّذي لا يفتر صاحبه عن ذكري ولا ينسى نعمتي، ولا يجهل حقّي، يطلب رضائي في ليله ونهاره، وأمّا الحياة الباقية، فهي الّتى يعمل لنفسه حتّى تهون عليه الدنيا، وتصغر في عينه، وتعظم الآخرة عنده، ويؤثر هواي على هواه ويبتغي مرضاتي، ويعظّم حقّ نعمتي، ويذكر عملي به، ويراقبني باللّيل والنهار عند كلّ سيّئة أو معصية، وينقّي قلبه عن كلّ ما أكره، ويبغض الشيطان ووساوسه، ولا يجعل لإبليس على قلبه سلطاناً وسبيلاً، فإذا فعل ذلك أسكنت قلبه حبّاً حتّى أجعل قلبه وفراغه واشتغاله وهمّه وحديثه من النعمة الّتي أنعمت بها على أهل محبّتي من خلقي وأفتح عين قلبه وسمعه، حتّى يسمع بقلبه وينظر بقلبه إلى جلالي وعظمتي، و

٣١٠

أضيّق عليه الدنيا، واُبغّض إليه ما فيها من اللّذات، واُحذّره من الدنيا وما فيها كما يحذّر الراعى على غنمه مراتع الهلكة، فإذا كان هكذا يفرّ من الناس فرارا، وينقل من دار الفناء إلى دار البقاء، ومن دار الشيطان إلى دار الرحمن، يا أحمد ولاُزيّننّه بالهيبة والعظمة فهذا هو العيش الهنئ والحياة الباقية، وهذا مقام الراضين فمن عمل برضاي ألزمة ثلاث خصال أعرّفه شكراً لا يخالطه الجهل، وذكراً لا يخالطه النسيان، ومحبّة لا يؤثر على محبّتي محبّة المخلوقين، فإذا أحبّني أحببته وأفتح عين قلبه إلى جلالي، ولا اُخفى عليه خاصّة خلقي واُناجيه في ظُلَم اللّيل ونور النهار، حتّى ينقطع حديثه مع المخلوقين، ومجالسته معهم، واُسمعه كلامي وكلام ملائكتي وأعرّفه السرّ الّذي سترته عن خلقي، واُلبسه الحياء، حتّى يستحيي منه الخلق كلّهم، ويمشي على الأرض مغفوراً له، واجعل قلبه واعياً وبصيراً ولا اُخفي عليه شيئاً من جنّة ولا نار، واُعرّفه ما يمرّ على الناس في القيامة من الهول والشدّة وما اُحاسب به الأغنياء والفقراء والجهّال والعلماء، واُنوّمه في قبره، واُنزل عليه منكراً ونكيراً حتّى يسألاه، ولا يرى غمّ الموت، وظلمة القبر واللّحد، وهول المطّلع، ثمّ أنصب له ميزانه، وأنشر ديوانه، ثمّ أضع كتابه في يمينه فيقرؤه منشوراً، ثمّ لا أجعل بيني وبينه وترجماناً فهذه صفات المحبّين، يا أحمد اجعل همّك همّا واحداً واجعل لسانك لساناً واحداً واجعل بدنك حيّاً لا يغفل أبداً من يغفل عنّي لم اُبال في أيّ واد هلك.

وفي البحار عن الكافي و المعاني ونوادر الرّاوندي بأسانيد مختلفة عن الصادق والكاظمعليه‌السلام - و اللّفظ المنقول هيهنا للكافي - قال: استقبل رسول الله: حارثة بن مالك بن النعمان الانصاريّ فقال له: كيف أنت يا حارثة بن مالك النعمانيّ ؟ فقال: يا رسول الله مؤمن حقّاً، فقال له رسول الله: لكلّ شئ حقيقة فما حقيقة قولك ؟ فقال يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي، وأظمأت هواجرى، وكأنّي أنظر إلى عرش ربّي وقد وضع للحساب، وكأنّي أنظر إلى اهل الجنّة يتزاورون في الجنّة وكأنّي أسمع عواء أهل النار في النار، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عبد نوّر الله قلبه أبصرت فاثبت.

أقول: والروايتان تحومان حوم المرتبة الرابعة من الإسلام والإيمان

٣١١

المذكورتين وفي خصوصيّات معناهما روايات كثيرة متفرّقة سنورد جملة منها في تضاعيف الكتاب إنشاء الله تعالى والآيات تؤيّدها على ما سيجئ بيانها، واعلم أنّ لكلّ مرتبة من مراتب الإسلام والإيمان معنى من الكفر والشرك يقابله. ومن المعلوم أيضاً أنّ الإسلام والإيمان كلّما دقّ معناهما ولطف مسلكهما، صعب التخلّص ممّا يقابلهما من معنى الكفر أو الشرك. ومن المعلوم أيضاً أنّ كلّ مرتبة من مراتب الإسلام والإيمان الدانية، لا ينافي الكفر أو الشرك من المرتبة العالية، وظهور آثارهما فيها. وهذان أصلان.

ويتفرّع عليهما: أن للآيات القرآنيّة بواطن تنطبق على موارد لا تنطبق عليها ظواهرها وليكن هذا عندك على إجماله حتّى يأتيك تفصيله.

وفي تفسير القمّيّ في قوله تعالى: ولدينا مزيد. قالعليه‌السلام النظر إلى رحمة الله.

وفي المجمع عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم): يقول الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا اُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

أقول: والروايتان قد اتّضح معناهما عند بيان معنى الصلاح، والله الهادي.

وفي تفسير العيّاشيّ في قوله تعالى: أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت الآية، عن الباقرعليه‌السلام أنّها جرت في القائم.

أقول: قال في الصافي: لعلّ مراده أنّها في قائم آل محمّد فكلّ قائم منهم يقول: ذلك حين موته لبنيه، ويجيبونه بما أجابوا به.

٣١٢

( سورة البقرة الآيات ١٣٥ - ١٤١)

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا  قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا  وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ١٣٥ ) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( ١٣٦ ) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا  وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ  فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ  وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ١٣٧ ) صِبْغَةَ اللهِ  وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً  وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ( ١٣٨ ) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ( ١٣٩ ) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ  قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ  وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللهِ  وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( ١٤٠ ) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ  لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ  وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٤١ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ) ، لما بيّن تعالى أنّ الدين الحقّ الّذي كان عليه أولاد إبراهيم من إسماعيل وإسحاق ويعقوب وأولاده كان هو الإسلام الّذي كان عليه إبراهيم حنيفا، استنتج من ذلك أنّ الإختلافات والانشعابات الّتي يدعو إليها فرق المنتحلين من اليهود والنصارى، أمور إخترعتها هوساتهم، ولعبت بها أيديهم لكونهم في شقاق، فتقطّعوا بذلك طوائف وأحزاباً دينيّة، وصبغوا دين الله سبحانه وهو دين التوحيد ودين الوحدة، بصبغة الأهواء والأغراض والمطامع، مع أنّ الدّين

٣١٣

واحد كما أنّ الإله المعبود بالدين واحد وهو دين إبراهيم. وبه فليتمسّك المسلمون وليتركوا شقاق أهل الكتاب.

فإنّ من طبيعة هذه الحياة الأرضيّة الدنيويّة التغيّر والتحوّل في عين الجرى والاستمرار كنفس الطبيعة الّتي هي كالمادّة لها ويوجب ذلك أن تتغيّر الرسوم والآداب والشعائر القوميّة بين طوائف الملل وشعباتها، وربّما يوجب ذلك تغييراً وانحرافاً في المراسم الدينيّة، وربّما يوجب دخول ما ليس من الدين في الدين، أو خروج ما هو منه والأغراض والغايات الدنيويّة ربّما تحلّ محلّ الأغراض الدينيّة الإلهيّة (وهي بليّة الدين)، وعند ذلك ينصبغ الدين بصبغة القوميّة فيدعو إلى هدف دون هدفه الأصليّ ويؤدّب الناس غير أدبه الحقيقيّ، فلا يلبث حتّى يعود المنكر (وهو ما ليس من الدين) معروفاً يتعصّب له الناس لموافقته هوساتهم وشهواتهم والمعروف منكراً ليس له حامٍ يحميه ولا واقٍ يقيه ويؤل الأمر إلى ما نشاهده اليوم من...

وبالجملة فقوله تعالى:( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ) ، إجمال تفصيل معناه وقالت اليهود كونوا هوداً تهتد، وقالت النصارى كونوا نصارى تهتدوا، كلّ ذلك لتشعّبهم وشقاقهم.

قوله تعالى: ( قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ، جواب عن قولهم أي قل، بل نتّبع ملّة إبراهيم حنيفاً فإنّها الملّة الواحدة الّتي كان عليها جميع أنبيائكم، إبراهيم، فمن دونه، وما كان صاحب هذه الملّة وهو إبراهيم من المشركين ولو كان في ملّته هذه الانشعابات، وهي الضمائم الّتي ضمّها إليها المبتدعون، من الإختلافات لكان مشركاً بذلك، فإنّ ما ليس من دين الله لا يدعو إلى الله سبحانه، بل إلى غيره وهو الشرك، فهذا دين التوحيد الّذي لا يشتمل على ما ليس من عند الله تعالى.

قوله تعالى: ( قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا ) ، لما حكى ما يأمره به اليهود والنصارى من اتّباع مذهبهم، ذكر ما هو عنده من الحقّ (والحقّ يقول) وهو الشهادة على الإيمان بالله والإيمان بما عند الأنبياء، من غير فرق بينهم، وهو الإسلام وخصّ

٣١٤

الإيمان بالله بالذكر وقدّمه وأخرجه من بين ما أنزل على الأنبياء لأنّ الإيمان الله فطريّ، لا يحتاج إلى بيّنة النبوّة، ودليل الرسالة.

ثمّ ذكر سبحانه ما أنزل إلينا وهو القرآن أو المعارف القرآنيّة وما اُنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، ثمّ ذكر ما أوتي موسى وعيسى وخصّهما بالذكر لأنّ المخاطبة مع اليهود والنصارى وهم يدعون إليهما فقط ثمّ ذكر ما أوتي النبيّون من ربّهم، ليشمل الشهادة جميع الأنبياء فيستقيم قوله بعد ذلك: لا نفرّق بين أحد منهم.

وإختلاف التعبير في الكلام، حيث عبّر عمّا عندنا وعند إبراهيم وإسحاق ويعقوب بالإنزال وعمّا عند موسى وعيسى والنبيّين بالإيتاء وهو الإعطاء، لعلّ الوجه فيه أنّ الأصل في التعبير هو الإيتاء، كما قال تعالى بعد ذكر إبراهيم، ومن بعده ومن قبله من الأنبياء في سورة الأنعام:( أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ) الانعام - ٨٩، لكن لفظ الإيتاء ليس بصريح في الوحي والإنزال كما قال تعالى:( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ) لقمان - ١٢، وقال:( وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ) الجاثية - ١٦، ولما كان كلّ من اليهود والنصارى يعدّون إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط من أهل ملّتهم، فاليهود من اليهود، والنصاري من النصارى، واعتقادهم أن الملّة الحقّ من النصرانيّة، أو اليهوديّة، هي ما أوتيه موسى وعيسى، فلو كان قيل: وما اُوتي إبراهيم وإسماعيل لم يكن بصريح في كونهم بأشخاصهم صاحب ملّة بالوحي والإنزال وإحتمل أن يكون ما أوتوه، هو الّذي أوتيه موسى وعيسىعليهم‌السلام نسب إليهم بحكم التبعيّة كما نسب إيتاؤه إلى بني إسرائيل، فلذلك خصّ إبراهيم ومن عطف عليه باستعمال لفظ الإنزال وأما النبيّون قبل إبراهيم فليس لهم فيهم كلام حتّى يوهم قوله: وما أوتي النبيّون شيئاً يجب دفعه.

قوله تعالى: ( وَالْأَسْبَاطِ ) ، الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل والسبط كالقبيلة الجماعة يجتمعون على أب واحد، وقد كانوا اثنتي عشرة أسباطاً اُمماً وكلّ واحدة منهم تنتهي إلى واحد من أولاد يعقوب وكانوا اثنى عشر، فخلف كلّ واحد منهم اُمّة من الناس.

٣١٥

فإن كان المراد بالأسباط الاُمم والأقوام فنسبة الإنزال إليهم لاشتمالهم على أنبياء من سبطهم، وإن كان المراد بالأسباط الأشخاص كانوا أنبياء أنزل إليهم الوحي وليسوا بإخوة يوسف لعدم كونهم أنبياء، ونظير الآية قوله تعالى:( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ ) النساء - ١٦٣.

قوله تعالى: ( فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا ) ، الإتيان بلفظ المثل مع كون أصل المعنى، فإن آمنوا بما آمنتم به، لقطع عرق الخصام والجدال، فإنّه لو قيل لهم أن آمنوا بما آمنّا به أمكن أن يقولوا كما قالوا، بل نؤمن بما اُنزل علينا ونكفر بما ورائه، لكن لو قيل لهم، إنّا آمنّا بما لا يشتمل إلّا على الحقّ فآمنوا أنتم بما يشتمل على الحقّ مثله، لم يجدوا طريقاً للمراء والمكابرة، فإنّ الّذي بيدهم لا يشتمل على صفوة الحقّ.

قوله تعالى: ( فِي شِقَاقٍ ) ، الشقاق النفاق والمنازعة والمشاجرة والافتراق.

قوله تعالى: ( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ ) ، وعدٌ لرسول الله بالنصرة عليهم، وقد أنجز وعده وسيتمّ هذه النعمة للاُمّة الإسلاميّة إذا شاء، واعلم: أنّ الآية معترضة بين الآيتين السابقة واللاحقة.

قوله تعالى: ( صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً ) ، الصبغة بناء نوع من الصبغ أي هذا الإيمان المذكور صبغة إلهيّة لنا، وهي أحسن الصبغ لا صبغة اليهوديّة والنصرانيّة بالتفرّق في الدين، وعدم إقامته.

قوله تعالى: ( وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ) ، في موضع الحال، وهو كبيان العلّة لقوله: صبغة الله ومن أحسن.

قوله تعالى: ( قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللهِ ) ، إنكار، لمحاجّة أهل الكتاب، المسلمين في الله سبحانه وقد بيّن وجه الإنكار، وكون محاجّتهم لغواً وباطلاً، بقوله وهو ربّنا وربّكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون، وبيانه: أنّ محاجّة كلّ تابعين في متبوعهما ومخاصمتهما فيه إنّما تكون لأحد أمور ثلاث: إمّا لاختصاص كلّ من التابعين بمتبوع دون متبوع الآخر، فيريدان بالمحاجّة كلّ تفضيل متبوعه وربّه على

٣١٦

الآخر، كالمحاجّة بين وثنيّ ومسلم، وإمّا لكون كلّ واحد منهما أو أحدهما يريد مزيد الاختصاص به، وإبطال نسبة رفيقه، أو قربه أو ما يشبه ذلك، بعد كون المتبوع واحداً، وإمّا لكون أحدهما ذا خصائص وخصال لا ينبغي أن ينتسب إلى هذا المتبوع وفعاله ذاك الفعال، وخصاله تلك الخصال لكونه موجباً، لهتكه أو سقوطه أو غير ذلك، فهذه علل المحاجّة والمخاصمة بين كلّ تابعين، والمسلمون وأهل الكتاب إنّما يعبدون إلهاً واحداً، وأعمال كلّ من الطائفتين لا تزاحم الاُخرى شيئاً والمسلمون مخلصون في دينهم لله، فلا سبب يمكن أن يتشبّث به أهل الكتاب في محاجّتهم، ولذلك أنكر عليهم محاجّتهم أوّلاً ثمّ نفى واحداً واحداً من أسبابها الثلاثة، ثانياً.

قوله تعالى: ( أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ) ، وهو قولّ كل من الفريقين، إنّ إبراهيم ومن ذكر بعده منهم، ولازم ذلك كونهم هوداً أو نصارى أو قولهم صريحاً إنّهم كانوا هوداً أو نصارى، كما يفيده ظاهر قوله تعالى:( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) آل عمران - ٦٥.

قوله تعالى: ( قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ ) ، فإنّ الله أخبرنا وأخبركم في الكتاب أنّ موسى وعيسى وكتابيهما بعد إبراهيم ومن ذكر معه.

قوله تعالى: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللهِ ) ، أي كتم ما تحمّل شهادة أنّ الله أخبر بكون تشريع اليهوديّة أو النصرانيّة بعد إبراهيم ومن ذكر معه، فالشهادة المذكورة في الآية شهادة تحمّل، أو المعنى كتم شهادة الله على كون هؤلاء قبل التوراة والإنجيل، فالشهادة شهادة أداء، المتعيّن هو المعنى الأوّل.

قوله تعالى: ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ) ، أي إنّ الغور في الأشخاص وأنّهم ممّن كانوا لا ينفع حالكم، ولا يضرّكم السكوت عن المحاجّة والمجادلة فيهم، والواجب عليكم الاشتغال بما تسألون غداً عنه، وتكرار الآية مرّتين لكونهم يفرطون في هذه المحاجّة الّتى لا تنفع لحالهم شيئاً، وخصوصاً مع علمهم بأنّ إبراهيم كان قبل اليهوديّة والنصرانيّة، وإلّا فالبحث عن حال الأنبياء، والرسل بما ينفع البحث فيه كمزايا رسالاتهم وفضائل نفوسهم الشريفة ممّا ندب إليه القرآن حيث يقصّ قصصهم ويأمر بالتدبّر فيها.

٣١٧

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ في قوله تعالى قل: بل ملّة إبراهيم حنيفاً الآية، عن الصادقعليه‌السلام قال إنّ الحنيفيّة في الإسلام.

وعن الباقرعليه‌السلام ما أبقت الحنيفيّة شيئاً، حتّى أنّ منها قصّ الشارب وقلم الأظفار والختان.

وفي تفسير القمّيّ، أنزل الله على إبراهيم الحنيفيّة، وهي الطهارة، وهي عشرة: خمسة في الرأس وخمسة في البدن، فأمّا الّتي في الرأس فأخذ الشارب وإعفاء اللحى وطمّ الشعر والسواك والخلال، وأمّا الّتي في البدن فأخذ الشعر من البدن والختان وقلم الأظفار والغسل من الجنابة، والطهور بالماء وهي الحنيفيّة الطاهرة الّتي جاء بها إبراهيم فلم تنسخ ولا تنسخ إلى يوم القيامة.

أقول: طمّ الشعر، جزّه، وتوفيره وفي معنى الرواية أو ما يقرب منه أحاديث كثيرة جدّاً روتها الفريقان في كتبهم.

وفي الكافي وتفسير العيّاشيّ عن الباقرعليه‌السلام في قوله تعالى: قولوا آمنّا بالله الآية، قال إنّما عنى بها عليّاً وفاطمة والحسن والحسين وجرت بعدهم في الأئمّة الحديث.

أقول: ويستفاد ذلك من وقوع الخطاب في ذيل دعوة إبراهيم ومن ذرّيّتنا أمّة مسلمة لك الآية ولا ينافي ذلك توجيه الخطاب إلى عامّة المسلمين وكونهم مكلّفين بذلك، فإنّ لهذه الخطابات عموماً وخصوصاً بحسب مراتب معناها على ما مرّ في الكلام على الإسلام والإيمان ومراتبهما.

وفي تفسير القمّيّ عن أحدهما، وفي المعاني عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى: صبغة الله الآية، قال الصبغة هي الإسلام.

أقول: وهو الظاهر من سياق الآيات.

وفي الكافي والمعاني عن الصادقعليه‌السلام قال صبغ المؤمنين بالولاية في الميثاق.

أقول: وهو من باطن الآية على ما سنبيّن معناه ونبيّن أيضاً معنى الولاية ومعنى الميثاق إن شاء الله العزيز.

٣١٨

( سورة البقرة الآيات ١٤٢ - ١٥١)

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا  قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ  يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ١٤٢ ) وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا  وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ  وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ  وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ  إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ( ١٤٣ ) قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ  فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا  فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ  وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ  وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ  وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ( ١٤٤ ) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ  وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ  وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ  وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ  إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ( ١٤٥ ) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ  وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( ١٤٦ ) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ  فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( ١٤٧ ) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا  فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ  أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا  إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ١٤٨ ) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ  وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ  وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( ١٤٩ ) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ  وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ

٣١٩

عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ( ١٥٠) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ( ١٥١)

( بيان)

الآيات مترتّبة متّسقة منتظمةٌ في سياقها على ما يعطيه التدبّر فيها وهي تنبئي عن جعل الكعبة قبلة للمسلمين فلا يصغى إلى قول من يقول إنّ فيها تقدّماً وتأخّراً أو أنّ فيها ناسخاً ومنسوخاً، وربّما رووا فيها شيئاً من الروايات، ولا يعبأ بشئ منها بعد مخالفتها لظاهر الآيات.

قوله تعالى: ( سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ) ، هذا تمهيد ثانياً لما سيأمر تعالى به من اتّخاذ الكعبة قبلة وتعليم للجواب عمّا سيعترض به السفهاء من الناس وهم اليهود تعصّباً لقبلتهم الّتي هي بيت المقدّس ومشركوا العرب الراصدون لكلّ أمرٍ جديد يحتمل الجدال والخصام، وقد مهّد لذلك أوّلاً بما ذكره الله تعالى من قصص إبراهيم وأنواع كرامته على الله سبحانه وكرامة ابنه إسماعيل ودعوتهما للكعبة ومكّة وللنبيّ والاُمّة المسلمة وبنائهما البيت والأمر بتطهيره للعبادة، ومن المعلوم أنّ تحويل القبلة من بيت المقدّس إلى الكعبة من اعظم الحوادث الدينيّة وأهمّ التشريعات الّتي قوبل به الناس بعد هجرة النبيّ إلى المدينة وأخذ الإسلام في تحقيق اُصوله ونشر معارفه وبثّ حقائقه، فما كانت اليهود وغيرهم تسكت وتستريح في مقابل هذا التشريع، لأنّهم كانوا يرون أنّه يبطل واحداً من اعظم مفاخرهم الدينيّة وهو القبلة واتّباع غيرهم لهم فيها وتقدّمهم على من دونهم في هذا الشعار الدينيّ، على أنّ ذلك تقدّم باهر في دين المسلمين، لجمعه وجوههم في عباداتهم ومناسكهم الدينيّة إلى نقطة واحدة يخلّصهم من تفرّق الوجوه في الظاهر وشتات الكلمة في الباطن واستقبال الكعبة أشدّ تأثيراً وأقوى من أمثال الطهارة والدعاء وغيرهما في نفوس المسلمين، عند

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459