الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173032 / تحميل: 9109
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

س: ما هي التغيّرات الإيجابية التي لمستها في حياتك منذ اعتناقك الإِسلام؟

ج: لقد وجدتُ السلام الداخلي.. لقد عشتُ السلام في قلبي وروحي وفي علاقاتي بالآخرين، حتى باتت حياتي مستقرة، وانعكس ذلك على حياة ابنتيّ أيضاً، واندفعت إلى الحياة بقوة وإرادة أكبر، فعدت لمتابعة دراستي في الجامعة.

س: يعني أنك تشعرين الآن براحة أكبر من ذي قبل؟

ج: طبعاً، والحمد لله، أشعر بلذة كبرى أثناء الصلاة وصوم شهر رمضان المبارك، وأعلم أن عليّ أن أتعلم الكثير الكثير عن الإِسلام، فكلما وقعت على معرفة معينة تبيّن لي أن الذي أعرفه لا يوازي ذرة في كتاب هذا الوجود، فعليّ البحث أكثر، علماً أن حياة الفرد قصيرة، قياساً بما يجب أن يتعلّمه الإنسان في هذه الحياة.

س: على ضوء تجربتك، هل تقترحين أساليب معينة لدعوة غير المسلمين للإِسلام؟

ج: أتمنى أن تطابق أقوالنا أفعالنا، فنمارس قولاً وعملاً ما تدعو إليه العقيدة الإِسلامية، وأن نستحضر الله تعالى في كل ما نقوم به، ونسير على هدي النبي محمد (ص) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، وأن نحدّث الناس عن الإِسلام باللين والكلمة الحسنى، وألا تزعزع الأزمات والمصاعب إيماننا بالله تعالى.

س: ما هو الدور الذي تقومين به أو تنوين القيام به لخدمة الدعوة الإِسلامية؟

ج: أبذل قصارى جهدي لأتمتع بصفات المرأة المسلمة المتديّنة، وهذا بحد ذاته دعوة إلى الله من خلال أفعالي وسلوكي، وأسأل الله أن أكون عند حسن ظنه تعالى.

س: ما مدى إمكانية الدعوة إلى الدين الحنيف في بلادك؟

ج: يحتاج الإِسلام في بلادي إلى القدوة الحسنة، فبقدر ما يلتزم المسلمون بتعاليم الإِسلام هنا، يسهل تغلغل الإِسلام إلى القلوب والعقول، فالإِسلام يحمل بداخله مقومات قادرة على إنقاذ الناس من التيه والضياع ولجوئهم إلى المخدرات، وبإمكان هذا الدين إنقاذنا من الغرائز المنحطة التي سجن الإنسان نفسه خلف قضبانها.

لقد وضع الإِسلام في أيدينا المفتاح إلى الجنة، وكل ما علينا هو إدارة هذا المفتاح للولوج إلى عالم الآخرة، ولا يكون ذلك إلا باتباع أوامر الله تعالى وسُنَّة نبيه (ص) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) برضىً وطمأنينة.

١٤١

س: كيف ترين أوضاع المسلمين الحالية؟

ج: في الواقع أجد الكثيرين منهم منغمسين في أمور دنياهم دون الالتفات إلى أمر الآخرة، وهؤلاء كسالى عن الدعوة إلى الله، وعن تطبيق الإِسلام في حياتهم الفردية والاجتماعية، همّهم الاستمتاع بهذه الدنيا الفانية التي تعمي بصائرهم عن سعادة الإيمان والتقوى والعمل بما أنزله الله تعالى.

س: كيف ترين أوضاع المرأة المسلمة؟

ج: أعلّم ابنتيّ أنهما غاليتان، وعليهما ألا تفرطا بنفسيهما بثمن بخس، فالفتاة أم المستقبل وعلى الجميع من حولها احترامها. وعلى جميع الرجال المسلمين حماية النساء، وعلى هؤلاء أيضاً حماية أنفسهن.

لقد وُهبنا والحمد لله هذا الإيمان، ولكن هذا الإيمان يجب أن يتسع ويقوى، ويتغلب على جميع الشرور التي تتجه إلى تشويه دور المرأة كواهبة للحياة، ومنارة للحب والراحة والسرور.

١٤٢

الأخت المسلمة السويدية

الدكتورة سمية «بارنيللا» تقول لـ «نور الإِسلام»

· العناية الإلهية شملتني بألطافها ووضعتني على طريق الهداية إلى دين الله تعالى.

· الإِسلام دين المنطق والعدل، يقبل النقاش العقلي الحر. ويضفي التوازن على كل جوانب الحياة الإنسانية.

· أدعو المرأة المسلمة وخاصة في البلاد الإِسلامية. لتعتبر أن حصنها هو حجابها، وأن التزامها بدينها هو طريق تقدّمها ومستقبلها. لا تقليد الحضارة الغربية الزائفة.

السويد كغيرها من الدول الغربية التي نجح الإِسلام، بما يمتلكه من قوة الإقناع، أن يستقطب إلى صفوفه أعداداً متزايدة من أبنائها الذين أتيح لهم أن يطلعوا على أفكاره ونظمه.. فلا أسوار التعصب والجهل التاريخية، ولا حواجز الحضارة المادية بكل بهارجها ومغرياتها، ولا الدعايات المضادة للإِسلام بكل لؤمها وخبثها.. ليس كل هذا بقادر على أن يمنع أنوار الهداية الإلهية، من أن تضيء العقول والنفوس التي تهفو إلى الحق وتبحث عن الحقيقة.

هذه الحقيقة تؤكدّها وتبيّنها بوضوح حكاية الأخت المسلمة السويدية الدكتورة سمية - بارنيللا سابقاً - مع الإِسلام الذي شدّها إليه وضوح عقيدته وعقلانيته وشمولية رسالته، فاستنقذها كما تقول مما كانت تعانيه من فراغ عقائدي وروحي، ومنحها الطمأنينة والدافع لكي تنخرط في نشاطات فكرية واجتماعية عديدة من أجل رعاية المسلمين في منطقتها، وحمل مهمة تبليغ الإِسلام في أنحاء دولة السويد كافة.

في منزلها الزوجي في بلدة «شاملينغ» التابعة لمدينة لوند السويدية، التقتها «نور الإِسلام» بحضور زوجها الأخ جميل الجزائري الجنسية، وأطفالها الأربعة، ومنهم ابنتها التي ذكرت لنا أنها الوحيدة المحجبة في صفها، وهي معتزة بذلك.. وبعد الترحيب كان السؤال الأول:

س: كيف تصفين لنا رحلتك نحو اعتناق الإِسلام؟

ج: في الحقيقة أنا أعتبر أن العناية الإلهية هي التي شملتني بألطافها ووضعتني على طريق الهداية لدين الله تعالى، الذي اختاره وارتضاه ليقود خطى البشرية نحو شاطىء الأمان، وهو الدين الصالح لكل زمان ومكان.

١٤٣

وكانت رحلتي نحو الإِسلام قد بدأت منذ أوائل الثمانينيات، وهي لم تكن سهلة أو سريعة، حيث أخذتُ متسعاً من الوقت للاطلاع والتأمل، قبل أن أتخذ القرار السعيد باعتناق الإِسلام والالتزام بتعاليمه والجهر بذلك، بعدما حصل لديّ الاقتناع واليقين بصحة هذه الخطوة المصيرية بالنسبة إليّ.. وإذا شئتم ذكر بعض التفاصيل حول الكيفية التي تعرّفت فيها إلى الإِسلام والتي قادتني إليه، فإن الفضل في ذلك بعد التوفيق الإلهي يعود إلى أختي مريم، التي نشأتُ معها في قريتنا «سفل - Siffle »، وكانت قد اختارت الدراسة الجامعية في إحدى الجامعات الصينية، وهناك رغبت في الاطلاع على البوذية بحكم الفراغ العقائدي الذي كانت تعيشه، ولكن بحمد الله، فإن الطريق بدلاً من أن يقودها إلى البوذية أوصلها إلى الإِسلام، حيث تعرّفت هناك إلى مجموعة من الطلاب المسلمين الذين كانوا يدرسون في الجامعة نفسها، وبواسطتهم اطلعت على الإِسلام فاقتنعت به وأعلنت إسلامها، وتزوّجت من أحد الطلبة المصريين. وعندما عادت إلى السويد جرى بيني وبينها نقاشات مطوّلة حول الإِسلام، جعلت صدري ينشرح لهذا الدين، وأعادتني إلى التفكير بالحياة الدينية والروحية بعد أن كنت غير مبالية، وهذا ما دفعني إلى مزيد من الاطلاع على الإِسلام، فكان لي لقاءات مع بعض الطلبة المسلمين المثقفين الذين أجلوا لي بعض الغوامض وزودوني بالعديد من الكتب التي استفدت منها كثيراً، حيث بدأتُ أحصل على أجوبة مقنعة على الأسئلة التي كان تحيّرني وتبعث في نفسي الشك، وهكذا وجدت الإِسلام دين العقل والمنطق والعدل، ووجدته يؤمّن التوازن بين العقل والعاطفة، وفي كل جوانب الحياة الإنسانية، ويضع للإنسان منهجاً يؤمّن له السعادة في الحياتين.. الدنيا والآخرة، كما يطرح حلولاً متميزة لكل المشاكل التي تعترض حياة الإنسان، وهذا ما دفعني للتحول نحوه.

س: كيف كان صدى التزامك بالإِسلام بين أهلك وفي محيطك؟

ج: قبل ارتدائي الحجاب والالتزام باللباس الشرعي، اقتصر رد فعل أهلي وأصدقائي على بعض التعجّب والتساؤل عمّا إذا كنت سأثبت على قناعاتي الجديدة، وعمّا إذا كنت سأتعدّى مجرد القناعة إلى الالتزام الظاهري، ولكن بعد زواجي ذهبتُ مع زوجي جميل إلى الجزائر، وهناك التزمتُ بالحجاب واللباس الشرعي، وبعد عودتي إلى السويد واجهتُ الكثير من الاستغراب والأسئلة المعترضة على وضعي الجديد سواءً من الأهل أو الأصدقاء حيث لم يكن أحد يتصوّر أنني سألتزم إلى هذا الحد، وقد عرفوني سابقاً غير مبالية بالدين، ولم يدر في خلدهم أن الإِسلام أمر مختلف وأنه ليس مجرد ديانة تعنى بباطن الفرد فقط، بل هو أسلوب للحياة والتعامل.

١٤٤

وبارتدائي الحجاب في ذلك الوقت، أصبحت في نظرهم أنتمي إلى الأقليات المسلمة التي يتجنبها الإنسان السويدي، الذي هو بطبيعته يعيش العزلة والخوف من الجديد والمختلف، غير أن هذا لم يمنعني من أن أشق طريقي بكل ثقة وصبر، وأن أفرض احترامي واحترام ما التزمت به على الكثيرين ممن تبرموا في البداية.

س: كيف ترين أهمية الحجاب بالنسبة إلى المرأة المسلمة وخصوصاً في الغرب؟

ج: الحجاب بنظري هو حصن تعيش المرأة في داخله بكل طمأنينة، واثقة بالنفس، وهو يفسح المجال أمام المرأة للتفكير بما هو أهم من الملابس والزينة، ويعطيها الفرصة لتصبّ جهودها أكثر على ما يدفعها ويدفع محيطها للتقدّم، لأنها تحرّر نفسها من الاستغلال الرخيص لأنوثتها فتتحرّر من سطوة جشع تجار الأزياء وتفاهاتهم، ومن عبث وفساد وسائل الإعلام والإعلان التي تسيّر النساء الفارغات في عالمنا المعاصر.

س: هل يمكن أن تعطينا صورة عن المستوى العلمي الذي توصّلت إليه وعن مجال عملك؟

ج: لقد تابعتُ دراستي بعد إسلامي حتى نلتُ شهادة الدكتوراه من جامعة لوند، وذلك في قسم البيئة البشرية، وكان موضوع أطروحتي هو «المسلمون في الشرق الأوسط»، الذي هو محل اهتمامي الشخصي، وهذا ما اقتضي مني زيارة عدة دول إسلامية في الشرق الأوسط لاستكمال المعلومات حول هذا الموضوع، وأنا الآن أعمل باحثة في جامعة لوند نفسها.

س: علمنا أن لديك نشاطات إسلامية متعددة، فما هي؟

ج: لقد انتخبتُ عضواً في الأكاديمية الإِسلامية، وهي جمعية تضم الجامعيين المسلمين في جميع أنحاء السويد، وتهتم بالتعريف بالإِسلام، وإجلاء صورته في المجتمع السويدي، والدعوة إليه عن طريق المحاضرات والندوات والكتب والمنشورات، وأنا أساهم قدر طاقتي في نشاطات هذه الجمعية.

١٤٥

أمّا نشاطي الإِسلامي الأساسي فيتم من خلال النادي النسائي في مدينة لوند وجمعية الإرشاد الإِسلامية الخاصة بالنساء المسلمات السويديات والمهاجرات، وتهتم الجمعية بالتوعية الثقافية الإِسلامية عن طريق تدريس التربية الدينية والعلوم الإِسلامية واللغة العربية. وتقيم الجمعية الندوات واللقاءات العامة، كما تنظم زيارات للمدارس والجامعات بهدف التبليغ الإِسلامي. إلى جانب ذلك، لدينا اهتمام خاص بالأطفال لتنشئتهم نشأة إسلامية سليمة، وإبعادهم عن المحيط المنحرف.

س: ما رأيك بمستقبل النشء المسلم الجديد في السويد والمجتمعات الغربية؟

ج: برأيي أن الأطفال المسلمين سيواجهون صعوبة أقل لدى انخراطهم بالمجتمعات الغربية، لأنه من الأسهل عليهم فهم تركيبة المجتمع الذي نشأوا فيه والتكيّف معه بمرونة أكثر من كبار السن المهاجرين، سواء في السويد أم في غيرها.

س: ما هي المشكلات التي يعاني منها المسلمون في السويد؟

ج: يعاني المسلمون في السويد من مشاكل عدة، تنعكس سلباً على تحسين أوضاعهم، منها:

- انخفاض المستوى التعليمي، حيث أن الأكثرية منهم جاءوا إلى السويد للاستفادة من الرفاهية المادية الموجودة هنا، وهذا ما يعيقهم عن الحصول على وظائف عالية.

- المشاكل القائمة بين المجموعات المسلمة ذاتها، حيث يختلف بعضهم على المرجعية التي تبتّ في القضايا المهمة التي تهم جميع المسلمين.

س: كيف ينظر السويديون والغربيون عامة إلى المسلمين الموجودين بينهم؟

ج: يصنّف المسلمون في الغرب عادة إلى قسمين: قسم يسمّونهم متطرفين، وهم الذين يتمسّكون بدينهم ويطبقون شعائره ولا يجاملون في ذلك. وقسم آخر يسمّونهم معتدلين، وهم عادة الذين لا يبالون بأمور الدين ويهملون واجباتهم الشرعية، لأنهم متأثرين بالحياة الغربية المادية. ولكن على العموم فإن نظرة الغربيين إلى الإِسلام والمسلمين هي عموماً سلبية، وهي ناشئة عن رؤيتهم الحضارية والدينية المختلفة والاحتكاكات التاريخية، كما أن الإعلام المعادي الموجّه يغذي هذه النظرة السلبية، ويعمل على تضخيم وهم الخطر الإِسلامي على الغرب. كما لا ننسى هنا أخطاء المهاجرين المسلمين وأفعال الكثيرين منهم التي تعطي صورة سيئة عنهم، وعمّا يمثلون.

١٤٦

ولا يعني هذا أن ليس هناك تفهّم للإِسلام وتعاطف مع المسلمين وقضاياهم لدى جهات وأشخاص كثيرين في الغرب، وهنا تأتي مسؤولية المسلمين لكي يبذلوا الجهود المضاعفة كي تتسع هذه النظرة الإيجابية للإِسلام في الغرب.

س: هل من كلمة أخيرة؟

ج: أريد أن أوجّه عبر مجلتكم الموقرة نداءً مختصراً إلى المرأة المسلمة عموماً وإلى النساء في البلاد الإِسلامية بشكل مباشر لأدعوهن إلى مزيد من الوعي والتعقل والتمسك بالإِسلام، هذه الرسالة العظيمة، كي يساهمن بشكل أفضل في تماسك وتطوير وسلامة مجتمعاتهن لإبعادها عن الموبقات والمفاسد التي تعصف بالمجتمعات الغربية، والتي تحطّ من قدر الإنسان، وألا ينخدعن بمظاهر الحياة الغربية ومغرياتها وحرياتها الزائفة، التي تزيّنها لهن وسائل الإعلام المفسدة، فهذه لا تؤدي إلّا إلى سقوطهن وتدمير كل مقومات القوة التي يوفرها لهن الإِسلام في أنفسهن ومجتمعاتهن، وأني آمل من كل اللواتي انبهرن بهذه القشور وتخلين عن مزايا شخصيتهن الإِسلامية الكريمة أن يراجعن أنفسهن ويواجهن الحقيقة بإرادة وصدق.

١٤٧

الأخ المسلم البريطاني جان هانز (محمد علي)

يقول:

· السلوك النظيف والقويم لبعض العمّال المسلمين الملتزمين جعلني أُكبِر الإِسلام وأرغب في اعتناقه.

· في الغرب نحلم بالسعادة ولا نجدها، بل نعيش الحسرة والأسف عند انقضاء كل متعة ننالها.

· تفرّغت لطلب العلوم الدينية الإِسلامية من أجل خلاص نفسي وهداية أهلي ومجتمعي.

· النبي الأعظم (ص) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) هم معلمو البشر وقادتهم، ويجب أن نتخذهم قدوة لنا.

في الوقت الذي تنتشر فيه الفلسفات المادية والتيارات الإلحادية وهي تغزو وسائل الإعلام في كل قطر وبلد، مدعومة بأحدث وسائل الاتصال والنشر. تجد ثلّة من الناس طريقها الواضح المستقيم، وسط الغبار والزحام المتراكم من الأيديولوجيات والأفكار، مهتدية بنور الإِسلام الذي يجذب إلى ساحته كثيراً ممن أنعم الله عليهم بنعمة الدين الحنيف، ومن قلب الغرب الذي أدار ظهره للدين منذ أن أعرض عن النهج الإلهي، في مطلع النهضة العلمية التي حققت له رفاهية مادية ولكنها فشلت في أن توصله إلى رحاب الطمأنينة وواحة السعادة في هذه الدنيا فضلاً عن الآخرة. من بين هؤلاء النخبة المهتدية، نبدأ حديثنا عن إسلام الشاب البريطاني جان هانز «محمد علي» بهذه اللمحة الدالة التي توجز حوار مجلة «نور الإِسلام» مع هذا الشاب المهتدي.

التقيناه في رحاب المقام الشريف للسيدة زينب (عليها السلام) في ضاحية دمشق الشام، هناك ذات مساء، بعد أداء شعائر الزيارة المباركة، وبعد الفراغ من الصلاة، من بين تلك الوجوه الطيبة التي أمّت المقام الشريف، طالعنا بوجهه المشرق وثغره المبتسم، والطريف في هذا الأمر، أن هذا الشاب كان يرتدي الزي الخاص بطلاب العلم الديني، وكان مظهره يحمل أكثر من دلالة.. بعد أن رحبنا به دار بيننا الحوار التالي:

١٤٨

س: هل لك أن تعطينا لمحة عن نشأتك؟

ج: نعم بكل ترحيب، وُلدت في بريطانيا، وعشتُ طفولتي كأي فرد مسيحي، يذهب مع عائلته إلى الكنيسة أيام الآحاد والأعياد، ولم أكن أشعر بأن شيئاً يمكن أن يطرأ على حياتي فيبدلها، ولكني كنت أشعر كأكثر الناس بأن الحياة تمضي بنا حثيثية دون أن تحمل إلينا معنى أو هدفاً نبيلاً، فالناس تعيش دون مُثُل أو قيم، مكتفية بالاستغراق في الحياة المادية العابثة التي تجعل منّا أناساً أشبه بالأنعام التي تعيش ليومها ولا تفكر بغد.

كانت حياتنا رتيبة، نحلم بالسعادة ولا نجدها، فتشنا عنها كثيراً فلم نجدها في حدود متع الدنيا ولذاتها، بل كنا نصاب بالحسرة والأسف عند انقضاء كل متعة ننال منها نصيباً، لهذا كنا نعيش حياة ينتهي وجودنا بانتهائها؛ ولهذا كان الكثير من الشباب يفكرون بالتخلص من هذه الحياة الفارغة، إما بالهروب إلى المخدرات، هروباً آنياً وإمّا بالانتحار. وقد حصل أن أقدم شبان كثر على قتل أنفسهم عندما قرأوا كتاب «آلام فرتر» للكاتب الألماني «غوته» في الحقبة الماضية. في تلك الفترة لم أكن أختلف بشيءٍ عن أقراني، لقد درستُ وتعلمتُ في إنكلترا وتخرجت من الجامعة مهندساً، ثم سافرت للعمل في الخارج.

س: هل لك أن تحدثنا عن تجربتك الجديدة في ظل الإِسلام؟

ج: كانت بداية التحوّل في حياتي الشخصية حينما سافرت إلى الباكستان للعمل هناك، وبعد انقضاء فترة على وجودي في تلك البلاد، كنت خلالها أراقب العمّال البسطاء الذين كانوا يشتغلون تحت إشرافي. وقد لفت نظري إخلاصهم في العمل فضلاً عن صدقهم في المعاملة، وتفانيهم في أداء ما يُطلب منهم بكل أدب واحترام، ولاحظتُ أن السبب في ذلك يعود إلى روح النظام وجو الطهارة الذي اكتسبوه من عادة حسنة، فقد كانوا يقفون بانتظام صفاً للصلاة بضع مرات في اليوم، بعد أن يقوموا بتنظيف أجسامهم في أحواض الماء، ويغسلون بعض أعضائهم أو يمسحونها، وهي دلالة ظاهرة على طهارة الأبدان، ودلالة باطنة على نظافة الروح وتطهير النفس، وقد تعلمت منهم قول الرسول (ص) :

١٤٩

«أفضل الطيب الماء» .. أما عندنا فما نفع العطور التي يضعها الإنسان على جسم تتنازعه الأقذار والنجاسات، من الخمرة إلى الميتة ولحم الخنزير وما أشبه ذلك. ثم تعلمتُ من هؤلاء العمّال، كيف أملأ وقتي بما يفيد، وكيف أنظِّم ساعات يومي، بعد أن أقف مثلهم لحظات بخشوع وأتلفظ بالكلمات ذاتها، التي تشيع الأمن والطمأنينة في نفسي.

وعرفتُ من هنا أن الفرد المسلم يمثّل الطهارة المادية المتجسّدة في نظافة جسمه من الأدران ونظافة روحه من الآثام.

س: هل من سبب آخر دفعك إلى اعتناق الإِسلام؟

ج: لقد كان في حياتنا نحن الغربيين، كما أشرتُ إليك، فراغ هائل، نابع من انتفاء القِيم في واقع الإنسان الغربي، وهذا ما يبعث على القلق المؤدي إلى عذاب الروح، فعندنا كلمة شائعة يتداولها الناس تدلّ على اللامبالاة وعدم الاكتراث مثل «لا يهمني» أو أن يقول قائلنا لكل أمر جديد أو مدهش «حسناً».

والجدة عندنا معيار وقيمة توزن بها الأشياء، فكل شيء إذا مضى عليه وقت يفقد قيمته ويتطلع الإنسان إلى الجديد الذي يبهر ثم سرعان ما يفقد هذا الجديد سحره وتأثيره، وهكذا يظل الإنسان يلهث وراء كل جديد، حتى يتبلد إحساسه فلا يشعر بقيمة الأشياء، فتفقد الأشياء معناها وجوهرها، فيصبح الإنسان عديم الإحساس، من هنا يفكر في الخلاص بأي طريق كان.

بينما يعطي الإِسلام منهجاً وسطاً في المنع والعطاء، في التمنع والحرمان، هذا المنهج الوسط يبقي للأشياء معناها، لأن الحرية المطلقة التي تبلغ الإباحية والإسراف، تستهلك جوهر الأشياء وتبطل معناها، وهنا تكمن الكارثة في الحياة الغربية القائمة على البراغماتية والمتعة الآنيّة.

لقد وهبني الإِسلام منهجاً في الحياة قرّت به عيني واطمأنت إليه نفسي، بعد سنوات من الضياع والقلق الذي يغرق فيه مجتمعنا المتردي في دوامة الانحلال على الصعيدين المادي والروحي.

ولم أصدق أن هناك عقيدة تحمل إلى الإنسان السكينة والاستقرار إلّا بعد أن رأت عيناي وسمعت أذناي ولمستُ الحقيقة التي لا ريب فيها أن الإِسلام بصفاته وسماحته هو المنتجع الآمن والواحة التي تستظل بها النفوس التواقة إلى رحاب السعادة. كان ذلك التحوّل الكبير في حياتي حين تعرفت إلى خاتم الديانات وجوهر الرسالات، الإِسلام الحنيف، وكان ذلك بفضل العناية الإلهية.

١٥٠

س: ما هي الأسباب التي دفعتك لتكون طالباً في مدرسة العلوم الدينية؟

ج: عندما اهتديتُ إلى الإِسلام، فكرت بأهلي ومجتمعي، وعرفت أني سأواجه اعتراضاتهم، لذلك شئت أن أتسلح بالحجة والبرهان، وسبيلها العلم والمعرفة، لذا عقدتُ العزم على تلقي العلوم والمعارف الإِسلامية.

س: ألا يسبب لك حرجاً ارتداؤك الزي الخاص برجال الدين؟

ج: في الأساس لم أفكر في خلاص نفسي فحسب، بل فكرت في خلاص الآخرين من أهل وطني، لهذا وطّنت النفس على تجاوز الصعاب، إنني فخور بارتداء العمامة والزي الديني، وهذا يمنحني الحرية في الحركة، بهذه الثياب الفضفاضة، كي يحررني من الزي الغربي الملاصق للجسد، فذاك يضغط عليّ ويرهقني، وهذا يتيح لي التحرك بسهولة، وهو رمز للتجرد عن زيف الحضارة في الزينة والتجمل.

ثم إن المجتمع الغربي يدّعي الحرية والديمقراطية، فأنا من هذا المنطلق يحق لي أن أرتدي ما أشاء.

س: ماذا تنوي أن تفعل عندما تعود إلى وطنك؟

ج: انطلاقاً من قول الإمام علي (ع) : «أحب لغيرك ما تحب لنفسك»، لهذا فإنني أبغي الخير لإخواني في الإنسانية من أبناء وطني كما قال الإمام (ع) : «واعلم أن الناس إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق». فسوف أقوم بواجبي في التبليغ الإِسلامي، وإنني آمل منهم أن يستجيبوا.

س: ما هو مدى اطلاعك على الثقافة الإِسلامية؟

ج: إني سعيت للاطلاع على المعارف والعلوم الإِسلامية بشغف ومحبة، وإنني ملم بحياة النبي (ص) والأئمة (عليهم السلام) ، ومطّلع على الكثير مما قالوه وفعلوه، وإنني أؤمن بعصمتهم وأنهم معلمو البشر وقادتهم، وأتخذهم قدوة وأجعل من أقوالهم شعاراً ومن أفعالهم أمثولة في الحياة.

١٥١

س: هل من كلمة أخيرة تتوجه بها إلى القرّاء؟

ج: إنني أؤكد إنني وجدتُ للحياة قيمة بعد اعتناقي الإِسلام، فنحن لم نخلق عبثاً، بل لغاية سامية، والجدة التي هي معيار كاذب وزائف لم تعد تعني لي شيئاً.

وإنني أردد ما قاله المرجع الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء «بلّغوا الإِسلام إلى الغرب، فإذا نجحتم في رسالتكم هناك، حققتم أهدافكم في التبليغ هنا»، لأن الشرق مولع بتقليد الغرب، وهو مرض العصر، ولقد كان الغرب الإسباني في عصر الإِسلام، يتوجه بأنظاره قِبَل المشرق، وإنني أدعو جميع الناس إلى قراءة الإِسلام ومعرفته عن كثب ليتسنى لهم الاهتداء ثم هداية الآخرين، لأن الناس أعداء ما جهلوا، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

١٥٢

الأخت الروسية المهتدية، يلينا كوشيليوفا

تقول «لنور الإِسلام»:

- على الرغم من الدعاية الإلحادية التي كان يفرضها النظام التعليمي الشيوعي السابق، كان ينتابني إحساس بوجود إله واحد.

- من خلال كتاب «حياة محمد» لأحد الكتّاب الروس، أعجبت بشخصية الرسول (ص) ثم صرت أبحث عن الكتب الإِسلامية.

- الأسف يعتصر قلبي، كيف لم تهتدِ النسوة السافرات إلى نعمة الحجاب، وما يمثّله من قيم النقاء والطهر.

- إنني أنصح أختي المسلمة أن لا تسير بخطى عشواء على طريق المدنية القادمة من الغرب.

يلينا يورينيفا كوشيليوفا

لم تكن تدري يلينا وهي الفتاة الروسية التي تعيش في مجتمع شيوعي يؤمن بالقيم الماركسية، أنها على موعد مثير، مع صدفة رائعة حملها إليها عيد الأضحى، حينما التقت بمن هيَّأته العناية الإلهية لينقلها من الظلمات إلى النور، ومن الشرك إلى الدين الحنيف، لقد وُلدت من جديد، كما تقول يلينا، وكنت أشعر بإرهاصات تنبئ عن استعداد وتوجه في عمق وجداني. كالظافر بالماء وسط الصحراء، لأجد الحوض الطاهر النقي، الذي ألقيت بنفسي في لجته، لأتطهر من أدران هذا العالم الذي أضاع قيم الروح والإنسانية.

تجربتي مع الإِسلام مثيرة وغنية بالعبر إذا ولجتم إلى أعماقي ستجدون أنني جد سعيدة بهذه المصادفة الرائعة. وكأن القطار الذي كان ينقلني من إحدى المدارس في ضواحي «لاتيا» كان يحملني إلى شاطئ السعادة والأمان وواحة الهداية واليقين.

في مسكنها الزوجي في بيروت وبين عائلتها السعيدة التقت نور الإِسلام السيدة يلينا وكان لنا معها هذه المقابلة:

١٥٣

س: هل لك أن تعطينا لمحة موجزة عن نشأتك وتربيتك الأولى:

ج: وُلدت سنة 1973 في طاجكستان التي كانت واحدة من جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً، من أصل روسي، وكان والدي ضابطاً برتبة كولونيل، إلى جانب كونه محامياً، وكانت أمي طبيبة، وقد تعرضت عائلتي للتنقل إلى أكثر من بلد، إذ هاجر أهلي إلى سيبيريا، إلا أنني بقيتُ أعيش مع جدتي في طاجكستان حيث دخلت إلى المدرسة، وعندما سافر أهلي إلى جمهورية لاتيا اصطحبوني معهم إلى مدينة ريفا ثم استقرت بنا السكنى أخيراً في أوكرانيا.

لقد فرضت علينا ظروف عمل والديَّ أن نتنقل بين بلدان الاتحاد السوفياتي سابقاً، مما أتاح لي فرص التعرف إلى هذه البلدان المختلفة، والخروج إلى العالم الأوسع؛ ما أكسبني مرونة في التصرف، ومزيداً من الوعي، وهذا ما أدى إلى أن لا تترسخ في نفسي عادات بلد معين، بل كنت أبحث دائماً عن الأفضل في العادات والسلوك. لقد ترعرعت وسط عائلة مثقفة. فالبيئة التي عرفتها في لاتيا تشبه البيئة الأوروبية من حيث توفر الحرية والمناخ الثقافي والفكري، قياساً على بقية البلدان الروسية.

كانت طفولتي موزعة بين البيت والمدرسة، فلم أكن أهتم بما يوليه أترابي من اهتمام.

ولست أعلم بالتأكيد لماذا كان ينتابني إحساس بوجود إله واحد مع أن التعاليم الإلحادية التي يفرضها النظام التعليمي، كانت لا تعترف بذلك، وربما كان لجدتي أثر في هذا الاستعداد لديَّ.

وكان والدي يشتري لي كتباً علمية حول نشوء العالم، حسب ما يقرره الإنجيل، وكنت أميل كثيراً إلى التأمل. وعندما بلغت السادسة أو السابعة عشرة جربتُ أن أصوم على الطريقة الأرثوذكسية، حيث كنت أمتنع عن تناول اللحوم والمشتقات الحيوانية لمدة أربعين يوماً.

١٥٤

س: هل لك أن توضحي لنا الأسباب التي حملتك على اعتناق الإِسلام:

ج: أجل. حينما كنت في الرابعة عشرة من عمري، كنت أتعلم في مدرسة تضم أولاداً من الطاجيك الذين يعتنقون الإِسلام، ولاحظتُ كيف أن العائلة المسلمة تضم عدداً كبيراً من الأولاد، وفي أثناء ذلك كان يسترعي انتباهي منظر الأولاد المؤثر، وهم يصومون طوال النهار عن الطعام والشراب، وكان بعضهم يصاب بالإعياء آخر النهار، حيث كان شهر حزيران القائظ بنهاره الطويل. وكان ذلك يحملني على التساؤل، لماذا يتحمل هؤلاء هذا العناء كله ومن أجل أي شيء يضحون بالتمتع بما يشتهون من الطعام. كان ذلك بداية التجربة مع الإِسلام بالنسبة إليّ.

وعندما بلغتُ الثامنة عشرة، كنت أدرس الكيمياء في إحدى الكليات، التي تبعد عن منزلنا ثلاثة أرباع الساعة تقريباً، وكان عليّ أن أتنقل بالقطار، وهنا حدثت الصدفة الرائعة، حيث تعرّفت إلى زوجي المهندس اللبناني فهد سويدان، وتجدَّد اللقاء وعرّفني أنه مسلم ملتزم وكان آنذاك لا يحسن اللغة تماماً.

وشاءت الصدف أن ننتقل جميعاً إلى كييف في أوكرانيا للدراسة، فتوثقت علاقتنا، من ذلك الحين بدأ اهتمامي بالإِسلام يتزايد وأخذتُ أتردد على المكتبة، وكان أن اطلّعتُ على كتاب «حياة محمد» وهو لأحد الكتّاب الروس المستشرقين فأعجبتُ بشخصية الرسول (ص) ، ثم صرتُ أبحث عن الكتب الإِسلامية لأطالعها، وتلقيتُ كثيراً من العون. وفي الوسط الطلابي في كييف لمست أن هناك إسلاماً حقيقياً حيث الصفاء الروحي والصدق الذي يتحلى به الطلاب المسلمون القادمون من بلدان المختلفة.

س: ما هو موقف أُسرتك وأصحابك من هذا التحول:

ج: بالنسبة إلى والدتي لم يشكل هذا التحول حرجاً، وأما والدي فقال لي: إنك ستبقين مسيحية، ولو حاولت أن تكوني غير ذلك، أما أنا فقد أصبحتُ مسلمة، في الواقع، ولكنني لن أتنكر للقيم الصحيحة في المسيحية.

والذي سهَّل عليّ هذا التحول هو ما كانت تشهده بلادنا من تحول كبير في بنية النظام في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق. فكل شيء كان من حولنا يتغير ويتبدل.

١٥٥

س: ما هي التغيرات الإيجابية التي تمَّت بعد اعتناقك الإِسلام؟

ج: شعرتُ بأنني بلغتُ هدفي، وأنني أدركتُ ما كنت أصبو إليه، من يقين وطمأنينة! فقد كنت متعطشة للوصول إلى الحقيقة، التي كانت ترد بشكل تساؤلات حول العقيدة والسلوك في الحياة، تبحث عن جواب شافٍ.

وما يجدر ذكره أنني لم أجرِّب المحرمات قبل زواجي واعتناقي الإِسلام. إذ كان كلٌّ من روحي وجسدي طاهرين، وبقيا طاهرين، وبكلمة أقول: «كأنني وقعْت في حوض الماء الذي كنت أتوق للسباحة فيه»، كرمز للطهارة التي يمنحها الإِسلام لأتباعه. ولقد استفدتُ في لبنان كثيراً من إحدى المدرِّسات، وأنا مدينة لها بتعلم بعض العربية وقراءة القرآن الكريم وتفسير بعض الأدعية.

س: كيف تنظرين إلى ظاهرة السفور المنتشرة في المجتمع الإِسلامي؛ كونك فتاة روسية قادمة من خارج البلاد الإِسلامية؟

ج: إن هؤلاء النسوة يعانين من ضياع، وإنني لأشعر بالأسف يعتصر قلبي كيف لم يهتدين إلى نعمة الحجاب وما يمثِّله من قيم النقاء والطهر. ولكن المرأة المسلمة، وهي ترتدي الحجاب لا بدّ لها من أن تراعي مستلزمات هذا الحجاب، في حديثها وتصرفاتها ومعاملاتها.

وإني أنظر إلى ظاهرة السفور في مجتمعاتنا الحديثة، كظاهرة غير طبيعية، طرأت على المجتمع الإِسلامي والمسيحيي في الشرق والغرب، وكان من أهم الدواعي إليها، نزول المرأة إلى ميدان العمل وما أحدثته الثورة الصناعية من تبدل في القيم الاجتماعية والخلقية.

إذ العودة إلى الحجاب، هي بنظري رجوع إلى الفطرة والأصل.

س: ما هي رؤيتك لواقع المرأة المسلمة اليوم؟

ج: على المرأة المسلمة المحجبة أن تثبت للآخرين أنها ليست متقوقعة في حياتها ومنعزلة عن المجتمع، بل إنها تختزن طاقة يمكن أن تستثمرها في هداية الفتيات الأخريات، مع المحافظة على واجباتها البيتية التي هي أهم من أي نشاط اجتماعي خارج المنزل، وطبعاً مع المحافظة على طبيعتها الأنثوية.

١٥٦

س: ماذا تقترحين لهداية الجيل المعاصر:

ج: في نظري إن الجيل من الأحداث والشباب منجذب بشكلٍ ملفتٍ للنظر، إلى مشاهدة وسائل الإعلام المضرة وخاصة التلفاز، وهذا ما يشكل ظاهرة ذات آثار سلبية كبيرة بالنسبة إلى الأطفال بشكل خاص، فعلى الآباء أن ينتبهوا لتربية أولادهم، فلا يتركوهم فريسة للمسلسلات العبثية الفارغة.

س: هل من كلمة أخيرة توجهينها إلى القرّاء؟

ج: إني أنصح أختي المسلمة أن لا تسير بخطى عشواء على خطى المدنية القادمة من الشرق والغرب، بل تعود إلى أصالتها وأن لا تستورد إلا ما هو الأحسن والأفضل،، ولتستفد من تجربة الغرب الذي نظر في حضارتنا فأخذ بأحسنها، بينما نرى العكس في بلاد المسلمين، حيث ينبهرون بالأمور الخدّاعة والبرَّاقة التي تعبر عن أسوأ ما عند مجتمعات الغرب من خلاعة وسفور وابتعاد عن الدين والفضيلة.

١٥٧

الأخت المهتدية كارمن سركسيان «هدى»

هكذا تعرفت إلى الإِسلام وهكذا اهتديت

تلك الفتاة الأرمنية التي اهتدت إلى نور الإِسلام واعتنقت الدين الضيف بعد رحلة مثيرة، وتجربة غنية في البحث والاستكشاف، هذه الهداية التي كان مفتاحها التعرف على شريك لها في الحياة، ولكن الرحلة الإيمانية لم تقف عند حد، بل إن الفتاة المهتدية سارت يحفِّزها حب المعرفة، إلى أن تنهل من معين الثقافة الإِسلامية لتغترف من المكتبات ما جعلها جديرة بأن تكتب تجربتها في كتاب يمتع القارئ ويفيد في آنٍ معاً، بعنوان «قصة إسلامي» وإليك أيها القارئ مقتطفات مما أوردته في هذا الكتاب.

عن ولادتها ونشأتها تقول:

وُلدت في الكويت عام 1965، نشأتُ وترعرعتُ وقضيتُ أجمل أيام عمري في رحابها، ولا أزال أحلم بالعودة لأعيش على أرضها الطيبة مرة أخرى، حيث ولادتي ونشأتي ودراستي وعملي وزواجي وإنجابي طفلي علي، والأهم من ذلك كله، أن الله هداني للإِسلام على أرضها، فكيف أنساها، إنها نبضة في القلب، وبدون نبضات القلب لا يحيا الإنسان.

كيف تعرفت إلى الإِسلام؟

في صيف «سبتمبر/أيلول» 1985، كنت أعمل كموظفة في شركة كويتية للمشاريع الهندسية، وكنت أنظم الملفات وأقوم بأعمال أمانة السر لذلك الإنسان الذي أصبح زوجي فيما بعد. ومع أنني وافقت على الزواج منه، إلّا أن تلك الموافقة كانت مصحوبة بشيء من الخوف لأنني مسيحية وأرمنية وهو مسلم.

ولا بدّ أن أوضح معنى كلمة أرمنية، إن الكثير من الناس حين يسمع كلمة أرمني أو أرمنية، تتبادر إلى أذهانهم كلمة مرادفة هي مسيحي، وفي الحقيقة هذا خطأ، فكلمة أرمني تعني أن جذور الشخص تعود إلى أرمينيا، إحدى جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً، وهي الآن جمهورية مستقلة، ثم إن أرمينيا فيها عدد كبير من المسلمين الأرمن، لذا إن كلمة أرمني هي مثل سوري ولبناني ومصري.

١٥٨

أما سبب مخاوفي فهو أني أعرف بعض المسيحيات اللواتي اقترنَّ بمسلمين، وكان الفشل حليف هذا الزواج فطُلِّقن فيما بعد، أما أنا فكنت واثقة من نجاح زواجنا، فقد تيقنت من صدق زوجي، كما أنه استطاع أن يجذبني إلى اعتناق الإِسلام، إذ كان يمثل لي القدوة الصالحة والأسوة الحسنة في سلوكه وتصرفه معي. وبعد أن أصبحت مسلمة، اخترت لنفسي اسم هدى بدلاً من اسمي السابق «كارمن».

كيف كان تأثير إسلامها وزواجها من مسلم على أقربائها؟

كان زواجنا في البداية غير مُعْلَن، تحاشياً لردود الفعل من قِبَل الأهل والأصحاب، ولكن فوجئت بأن أختي تتصل بي عبر الهاتف وتخبرني بمعرفتها بهذا الزواج وكان ذلك مفاجأة لي، وتذكرت الآية الكريمة﴿یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا یَحِلُّ لَکُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ کَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَیْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ یَأْتِینَ بِفَاحِشَةٍ مُبَیِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ کَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَکْرَهُوا شَیْئًا وَیَجْعَلَ اللَّهُ فِیهِ خَیْرًا کَثِیرًا ﴿19﴾ ﴾ [النساء: 19]، فأخبرتها الحقيقة، وكان أهلي يسكنون في المدينة نفسها، فطلبوا من زوجي الحضور لمناقشة الموضوع.

وتمَّ الاتفاق أن أغادر منزل أهلي لأعيش مع زوجي بعد أن يئس الأهل من التأثير عليّ، وكانت دموع والدتي تنطق بأبلغ الكلام. قاطعني أهلي مدة أسبوعين فقط، بعدها قاموا بزيارتي دون أن يسمحوا لي بأن أزورهم.

ولم تعلم والدة زوجي بأمر زواجنا إلّا حين أُدخل زوجي إلى المستشفى لإجراء عملية جراحية، وكان قد أخبر أهله حفاظاً عليّ وعلى حصتي في الميراث، إذا حصل القضاء. وقد اصطحبتني والدة زوجي إلى منزلهم للمرة الأولى، فإذا بي أرى مكتبة كبيرة تضم كتباً في مختلف العلوم والآداب والتاريخ الإِسلامي، ومع أننا تأخرنا في السهر ليلاً فقد استيقظ الجميع في ساعة مبكرة من الصباح لأداء صلاة الصبح.

١٥٩

ولكن كيف اعتنقت الإِسلام؟

كانت لقاءاتي بأهله تثير عندي تساؤلات عن الصلاة، وعن الحجاب، وعن الفصل بين مجلس الرجال ومجلس النساء، وهنا بدأت رحلة المعرفة، والاستكشاف حين بدأت بالانصراف إلى مطالعة الكتب، وكانت والدته تدفعني إلى ذلك. قبل ذلك كنت أعيش في صراع، والآن بدأت رحلتي السعيدة مع الدين الحنيف. لم يكن زوجي يحدِّثني كثيراً عن الإِسلام، لأنه لا يريد أن يرغمني على اعتناقه، كما هو الشرط بيننا سابقاً، فكان يجيب باختصار على كل سؤال أطرحه عليه، ويصمت إذا لم أوجه إليه سؤالاً، كان يتألم لكوني غير مسلمة، لا أصلي، ولا أرتدي الحجاب.

كنت غير راغبة في ذلك، كنت أعلم مدى الحرج الذي أسببه لزوجي، بالرغم من ذلك كان له الدور غير المباشر في تقريبي إلى الإِسلام، ومن أجل ذلك كان يكثر من الاستماع إلى برامج القرآن الكريم، والإذاعات التي تبث برامج ثقافية حول الدين الحنيف.

انطباعاتها وشهادتها على أسلوب الحوار

إنني أعترف وأشهد بأن الطريقة التي كان يتم فيها النقاش لم تكن تؤذي مشاعري حول المسيحية - ديني السابق - فلم أتذكر أن المسلمين الذين تحاورت معهم أساءوا إلى المسيح (ع) وأمه أبدأ، بل إنهم يكنون من المحبة والتقديس لهما ما يثير الإعجاب ويؤمنون برسالته، وعندهم أن مَن لا يؤمن برسالة عيسى (ع) فليس بمسلم، وإن آمن برسالة محمد (ص) ، والغريب أنهم يستشهدون لعظمة النبي محمد (ص) بآراء كتّاب ومفكرين مسيحيين أمثال برنارد شو وغوته وكارلايل ولامارتين وجرداق وجبران ونعيمة، وحتى من غير أهل الكتاب أمثال نهرو، كنت ألتزم الصمت خلال مناقشاتهم، لأنهم يعرفون عن المسيحية أكثر مما أعرف.

كيف تم التزامها بالدين الحنيف فكرةً وسلوكاً؟

ولما كنت أتابع القراءة والمطالعة كان زوجي يقوم بشرح ما يصعب عليّ فهمه، واستمر الحال هكذا حتى أواخر عام 1987، وكنت أستمع إلى إحدى الإذاعات التي تنشر رسائل دكتوراه وماجستير يتقدم بها طلاب يرغبون بالتخصص في العلوم الإِسلامية، وقد كانت مناقشات تلك الرسائل ذات فائدة عظيمة بالنسبة إليّ.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

اليهود ومشركي العرب وخاصّة عند اليهود كما يشهد به قصصهم المقتصّة في القرآن، فقد كانوا اُمّة لا يرون لغير المحسوس من عالم الطبيعة أصالة ولا لغير الحسّ وقعاً، إذا جائهم حكم من أحكام الله معنويّ قبلوه من غير تكلّم عليه وإذا جاءهم أمر من ربّهم صوريّ متعلّق بالمحسوس من الطبيعة كالقتال والهجرة والسجدة وخضوع القول وغيرها قابلوه بالإنكار وقاوموا عليه ودونه أشدّ المقاومة.

وبالجملة فقد أخبر الله سبحانه عمّا سيعترضون به على تحويل القبلة وعلّم رسوله ما ينبغي أن يجابوا ويقطع به قولهم.

أمّا اعتراضهم: فهو أنّ التحوّل عن قبلة شرعها الله سبحانه للماضين من أنبيائه إلى بيت، ما كان به شئ من هذا الشرف الذاتيّ ما وجهه ؟ فإن كان بأمر من الله فإنّ الله هو الّذي جعل بيت المقدّس قبلة فكيف ينقض حكمه وينسخ مشرعه، واليهود ما كانت تعتقد النسخ (كما تقدّم في آية النسخ) وإن كان بغير أمر الله ففيه الانحراف عن مستقيم الصراط والخروج من الهداية إلى الضلال وهو تعالى وإن لم يذكر في كلامه هذا الاعتراض، إلّا أنّ ما أجاب به يلوّح ذلك.

وأمّا الجواب: فهو أنّ جعل بيت من البيوت كالكعبة، أو بناء من الأبنية أو الأجسام كبيت المقدّس، أو الحجر الواقع فيه قبلةً ليس لاقتضاء ذاتيّ منه يستحيل التعدّي عنه أو عدم إجابة اقتضائه حتّى يكون البيت المقدّس في كونه قبلةً لا يتغيّر حكمه ولا يجوز إلغاؤه، بل جميع الأجسام والأبنية وجميع الجهات الّتي يمكن أن يتوجّه إليه الإنسان في أنّها لا تقتضي حكماً ولا يستوجب تشريعاً على السواء وكلّها لله يحكم فيها ما يشاء وكيف يشاء ومتى يشاء، وما حكم به من حكم فهو لهداية الناس على حسب ما يريد من صلاحهم وكمالهم الفرديّ والنوعيّ، فلا يحكم إلّا ليهدى به ولا يهدي إلّا إلى ما هو صراط مستقيم إلى كمال القوم وصلاحهم.

قوله تعالى: ( سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ ) ، أراد بهم اليهود والمشركين من العرب ولذلك عبّر عنهم بالناس وإنّما سفّههم لعدم استقامة فطرتهم وثقوب رأيهم في أمر التشريع. والسفاهة عدم استقامة العقل وتزلزل الرأي.

٣٢١

قوله تعالى: ( مَا وَلَّاهُمْ ) ، تولية الشئ أو المكان جعله قدّام الوجه وأمامه كالاستقبال. قال تعالى فلنولّينّك قبلة ترضيها الآية، والتولية عن الشئ صرف الوجه عنه كالاستدبار ونحوه، والمعنى ما الّذي صرفهم أو صرف وجههم عن القبلة الّتي كانوا عليها وهو بيت المقدّس الّذي كان يصلّي إليه النبيّ والمسلمون أيّام إقامته بمكّة وعدّة شهور بعد هجرته إلى المدينة وإنّما نسبوا القبلة إلى المسلمين مع أنّ اليهود أقدم في الصلاة إليها ليكون أوقع في إيجاد التعجّب وأوجب للاعتراض، وإنّما قيل ما ولّيهم عن قبلتهم ولم يقل ما ولّى النبيّ والمسلمين لما ذكرنا من الوجه، فلو قيل ما ولّى النبيّ والمسلمين عن قبلة اليهود لم يكن التعجّب واقعاً موقعه وكان الجواب عنه ظاهراً لكلّ سامع بأدنى تنبّه.

قوله تعالى: ( قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ) ، اقتصر من بين الجهات بهاتين لكونهما هما المعنيّتين لسائر الجهات الأصليّه والفرعيّة كالشمال والجنوب وما بين كلّ جهتين من الجهات الأربعة الأصليّه، والمشرق والمغرب جهتان إضافيّتان تتعيّنان بشروق الشمس أو النجوم وغروبهما، يعمّان جميع نقاط الأرض غير نقطتين موهومتين هُما نقطتا الشمال والجنوب الحقيقيّتان، ولعلّ هذا هو الوجه في وضع المشرق والمغرب موضع الجهات.

قوله تعالى: ( يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ، تنكير الصراط لأنّ الصراط يختلف بإختلاف الاُمم في استعداداتها للهداية إلى الكمال والسعادة.

قوله تعالى: ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) ، الظاهر أنّ المراد كما سنحوّل القبلة لكم لنهديكم إلى صراط مستقيم كذلك جعلناكم اُمّة وسطاً (هو كما ترى)، وأمّا المراد بكونهم اُمّة وسطاً شهداء على الناس فالوسط هو المتخلّل بين الطرفين لا إلى هذا الطرف ولا إلى ذاك الطرف، وهذ الاُمّة بالنسبة إلى الناس - وهم أهل الكتاب والمشركون - على هذا الوصف فإنّ بعضهم - وهم المشركون والوثنيّون - إلى تقوية جانب الجسم محضاً لا يريدون إلّا الحياة الدنيا والاستكمال بملاذّها وزخارفها وزينتها، لا يرجون بعثاً ولا نشوراً، ولا يعباؤن بشئٍ من الفضائل المعنويّة والروحيّة، وبعضهم كالنصارى إلى تقوية جانب الروح لا يدعون

٣٢٢

إلّا إلى الرهبانيّة ورفض الكمالات الجسميّة الّتي أظهرها الله تعالى في مظاهر هذه النشأة المادّيّة لتكون ذريعة كاملة إلى نيل ما خلق لأجله الإنسان، فهؤلاء أصحاب الروح أبطلوا النتيجة بإبطال سببها واُؤلئك أصحاب الجسم أبطلوا النّتيجة بالوقوف على سببها والجمود عليها، لكنّ الله سبحانه جعل هذه الاُمّة وسطاً بأن جعل لهم ديناً يهدي منتحليه إلى سواء الطريق وسط الطرفين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء بل يقوّي كلّاً من الجانبين - جانب الجسم وجانب الروح - على ما يليق به ويندب إلى جمع الفضيلتين فإنّ الإنسان مجموع الروح والجسم لا روح محضاً ولا جسم محضاً، ومحتاج في حياته السعيدة إلى جمع كلا الكمالين والسعادتين المادّيّة والمعنويّة، فهذه الاُمّة هي الوسط العدل الّذي به يقاس ويوزن كلّ من طرفي الإفراط والتفريط فهي الشهيدة على سائر الناس الواقعة في الأطراف والنبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وهو المثال الأكمل من هذه الاُمّة - هو شهيد على نفس الاُمّة فهو (صلّي الله عليه وآله وسلّم) ميزان يوزن به حال الآحاد من الاُمّة، والاُمّة ميزان يوزن به حال الناس ومرجع يرجع إليه طرفا الإفراط والتفريط، هذا ما قرّره بعض المفسرين في معنى الآية وهو في نفسه معنى صحيح لا يخلو عن دقّة إلّا أنّه غير منطبق على لفظ الآية فإنّ كون الاُمّة وسطاً إنّما يصحّح كونها مرجعاً يرجع إليه الطرفان، وميزاناً يوزن به الجانبان لا كونها شاهدة تشهد على الطرفين، أو يشاهد الطرفين، فلا تناسب بين الوسطيّة بذاك المعنى والشهادة وهو ظاهر، على أنّه لا وجه حينئذ للتعرّض بكون رسول الله شهيداً على الاُمّة إذ لا يترتّب شهادة الرسول على الاُمّة على جعل الاُمّة وسطاً، كما يترتّب الغاية على المغيّى والغرض على ذيه.

على أنّ هذه الشهادة المذكورة في الآية، حقيقة من الحقائق القرآنيّة تكرّر ذكرها في كلامه سبحانه، واللائح من موارد ذكرها معنى غير هذا المعنى، قال تعالى:( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ) النساء - ٤١، وقال تعالى:( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) النحل - ٨٤، وقال تعالى:( وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ ) الزمر - ٦٩، والشهادة فيها مطلقة وظاهر الجميع على إطلاقها هو الشهادة على اعمال الاُمم، وعلى تبليغ الرسل أيضاً، كما

٣٢٣

يومي إليه قوله تعالى:( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) الأعراف - ٦، وهذه الشهادة وإن كانت في الآخرة يوم القيامة لكن تحمّلها في الدنيا على ما يعطيه قوله تعالى - حكاية عن عيسىعليه‌السلام -( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) المائدة - ١١٧، وقوله تعالى:( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ) النساء - ١٥٩. ومن الواضح أن هذه الحواسّ العاديّة الّتي فينا، والقوى المتعلّقة بها منّا لا تتحمّل إلّا صور الأفعال والأعمال فقط، وذلك التحمّل أيضاً، إنّما يكون في شئ يكون موجوداً حاضراً عند الحسّ لا معدوماً ولا غائباً عنه وأمّا حقائق الأعمال والمعاني النفسانيّة من الكفر والإيمان والفوز والخسران، وبالجملة كلّ خفيّ عن الحسّ ومستبطن عند الإنسان - وهي الّتي تكسب القلوب، وعليه يدور حساب ربّ العالمين يوم تبلى السرائر كما قال تعالى:( وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) البقرة - ٢٢٥ - فهي ممّا ليس في وسع الإنسان إحصاؤها والإحاطة بها وتشخيصها من الحاضرين فضلاً عن الغائبين إلّا رجل يتولّى الله أمره ويكشف ذلك له بيده. ويمكن أن يستفاد ذلك من قوله تعالى:( وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف - ٨٦، فإنّ عيسى داخل في المستثنى في هذه الآية قطعاً - وقد شهد الله تعالى في حقّه بأنّه من الشهداء - كما مرّ في الآيتين السابقتين، فهو شهيد بالحقّ وعالم بالحقيقة.

والحاصل أنّ هذه الشهادة ليست هي كون الاُمّة على دين جامع للكمال الجسمانيّ والروحانيّ فإنّ ذلك على أنّه ليس معنى الشهادة خلاف ظاهر الآيات الشريفة.

بل هي تحمّل حقائق أعمال الناس في الدنيا من سعادة أو شقاء، وردّ وقبول، وانقياد وتمرّد، وأداء ذلك في الآخرة يوم يستشهد الله من كلّ شئ، حتّى من أعضاء الإنسان، يوم يقول الرسول يا ربّ إنّ قومي اتّخذوا هذا القرآن مهجوراً.

ومن المعلوم أنّ هذه الكرامة ليست ينالها جميع الاُمّة، إذ ليست إلّا كرامة خاصّة للأولياء الطاهرين منهم، وأمّا من دونهم من المتوسّطين في السعادة، والعدول من أهل

٣٢٤

الإيمان فليس لهم ذلك، فضلاً عن الأجلاف الجافية، والفراعنة، الطاغية من الاُمّة، وستعرف في قوله تعالى:( وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) النساء - ٦٩، أنّ أقلّ ما يتّصف به الشهداء - وهم شهداء الأعمال - أنّهم تحت ولاية الله ونعمته وأصحاب الصراط المستقيم، وقد مرّ إجمالاً في قوله تعالى:( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) فاتحة الكتاب - ٧.

فالمراد بكون الاُمّة شهيدة أنّ هذه الشهادة فيهم، كما أنّ المراد بكون بني إسرائيل فضلّوا على العالمين، أنّ هذه الفضيلة فيهم من غير أن يتّصف به كلّ واحدٍ منهم، بل نسب وصف البعض إلى الكلّ لكون البعض فيه ومنه، فكون الاُمّة شهيدة هو أنّ فيهم من يشهد على الناس ويشهد الرسول عليهم.

فإن قلت: قوله تعالى:( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ ) الحديد - ١٩، يدلّ على كون عامّة المؤمنين شهداء.

قلت: قوله( عِندَ رَبِّهِمْ ِمْ ِمْ ِمْ ) ، يدلّ على أنّه تعالى سيلحقهم بالشهداء يوم القيامة، ولم ينالوه في الدنيا، نظير ذلك قوله تعالى:( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) الطور - ٢١، على أنّ الآية مطلقة تدلّ على كون جميع المؤمنين من جميع الاُمم شهداء عند الله من غير اختصاص بهذه الاُمّة فلا ينفع المستدلّ شيئاً(١) .

فإن قلت: جعل هذه الاُمّة اُمّة وسطاً بهذا المعنى لا يستتبع كونهم أو كون بعضهم شهداء على الأعمال ولا كون الرسول شهيداً على هؤلاء الشهداء فالإشكال وارد على هذا التقريب كما كان واردا على التقريب السابق.

قلت: معنى الشهادة غاية متفرّعة في الآية على جعل الاُمّة وسطاً فلا محالة تكون الوسطيّة معنى يستتبع الشهادة والشهداء، وقد قال الله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا

____________________

(١) ولو كان المراد بالّذين آمنوا السابقون الأوّلون من المؤمنين لم ينفع في كون جميع الاُمة شهداء أيضاً منه

٣٢٥

بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) الحجّ - ٧٨، جعل تعالى كون الرسول شهيداً عليهم وكونهم شهداء على الناس غاية متفرّعة على الاجتباء ونفي الحرج عنهم في الدين ثمّ عرّف الدين بأنّه هو الملّة الّتي كانت لأبيكم إبراهيم الّذي هو سمّيكم المسلمين من قبل، وذلك حين دعا لكم ربّه وقال:( وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ) فاستجاب الله دعوته وجعلكم مسلمين، تسلمون له الحكم والأمر من غير عصيان واستنكاف، ولذلك ارتفع الحرج عنكم في الدين، فلا يشقّ عليكم شئ منه ولا يحرج، فأنتم المجتبون المهديّون إلى الصراط، المسلمون لربّهم الحكم والأمر، وقد جعلناكم كذلك ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس، أي تتوسّطوا بين الرسول وبين الناس فتّتصلوا من جهة إليهم، وعند ذلك يتحقّق مصداق دعائهعليه‌السلام فيكم وفي الرسول حيث قال:( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ) البقرة - ١٢٩، فتكونون أمّة مسلمة أودع الرسول في قلوبكم علم الكتاب والحكمة، ومزكّين بتزكيته، والتزكية التطهير من قذرات القلوب، وتخليصها للعبوديّة، وهو معنى الإسلام كما مرّ بيانه، فتكونون مسلمين خالصين في عبوديّتكم، وللرسول في ذلك القدم الأوّل والهداية والتربية، فله التقدّم على الجميع، ولكم التوسّط باللحوق به، والناس في جانب وفي أوّل الآية وآخرها قرائن تدلّ على المعنى الّذي استفدناه منها غير خفيّة على المتدبّر فيها سنبيّنها في محلّه إنشاء الله.

فقد تبيّن بما قدّمناه:أوّلا: أنّ كون الاُمّة وسطاً مستتبع للغايتين جميعاً، وأنّ قوله تعالى: لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيداً الآية جميعاً لازم كونهم وسطاً.

وثانياً: أنّ كون الاُمّة وسطاً إنّما هو بتخلّلها بين الرسول وبين الناس، لا بتخلّلها بين طرفي الإفراط والتفريط، وجانبي تقوية الروح وتقوية الجسم في الناس.

وثالثاً: أنّ الآية بحسب المعنى مرتبطة بآيات دعوة إبراهيمعليه‌السلام وأنّ الشهادة من شئون الاُمّة المسلمة.

واعلم: أنّ الشهادة على الأعمال على ما يفيده كلامه تعالى لا يختصّ بالشهداء

٣٢٦

من الناس، بل كلّ ما له تعلّق ما بالعمل كالملائكة والزمان والمكان والدين والكتاب والجوارح والحواسّ والقلب فله فيه شهادة.

ويستفاد منها أنّ الّذي يحضر منها يوم القيامة هو الّذي في هذه النشأة الدنيويّة وأنّ لها نحواً من الحياة الشاعرة بها، تتحمّل بها خصوصيّات الأعمال، وترتسم هي فيها، وليس من اللّازم أن تكون الحياة الّتي في كلّ شئ، سنخاً واحداً كحياة جنس الحيوان، ذات خواصّ وآثار كخواصّها وآثارها، حتّى تدفعه الضرورة فلا دليل على انحصار أنحاء الحياة في نحو واحد. هذا إجمال القول في هذا المقام وأمّا تفصيل القول في كلّ واحد واحد منها فموكول إلى محلّه اللّائق به.

قوله تعالى: ( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ) ، المراد بقوله لنعلم: إمّا علم الرسل والأنبياء مثلاً، لأنّ العظماء يتكلّمون عنهم وعن أتباعهم، كقول الأمير، قتلنا فلاناً وسجنّا فلاناً، وإنّما قتله وسجنه أتباعه لانفسه، وإمّا العلم العينيّ الفعليّ منه تعالى الحاصل مع الخلقة والإيجاد، دون العلم قبل الإيجاد.

والانقلاب على العقبين كناية عن الإعراض، فإنّ الإنسان - وهو منتصب على عقبيه - إذا انقلب من جهة إلى جهة، انقلب على عقبيه، فجعل كناية عن الإعراض نظير قوله:( وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ) الأنفال - ١٦، وظاهر الآية أنّه دفع لما يختلج في صدور المؤمنين: من تغيير القبلة ونسخها، ومن جهة الصلوات الّتي صلّوها إلى القبلة، ما شأنها ؟

ويظهر من ذلك أنّ المراد بالقبلة الّتي كان رسول الله عليها، هو بيت المقدّس دون الكعبة، فلا دليل على جعل بيت المقدّس قبلة مرّتين، وجعل الكعبة قبلة مرّتين، إذ لو كان المراد من القبلة في الآية الكعبة كان لازم ذلك ما ذكر.

وبالجملة كان من المترقّب أن يختلج في صدور المؤمنين:أولا: أنّه لما كان من المقدّر أن يستقرّ القبلة بالآخرة على الكعبة فما هو السبب، أوّلاً: في جعل بيت المقدّس قبلة ؟ فبيّن سبحانه أنّ هذه الأحكام والتشريعات ليست إلّا لأجل مصالح تعود إلى

٣٢٧

تربية الناس وتكميلهم، وتمحيص المؤمنين من غيرهم، وتمييز المطيعين من العاصين، والمنقادين من المتمردين، والسبب الداعي إلى جعل القبلة السابقة في حقّكم أيضاً هذا السّبب بعينه، فالمراد بقوله إلّا لنعلم من يتّبع الرسول: إلّا لنميّز من يتّبعك، والعدول من لفظ الخطاب إلى الغيبة لدخالة صفة الرّسالة في هذا التميّز، والمراد بجعل القبلة السابقة: جعلها في حقّ المسلمين، وإن كان المراد أصل جعل بيت المقدّس قبلة فالمراد مطلق الرسول، والكلام على رسله من غير التفاتٍ، غير أنّه بعيد من الكلام بعض البعد.

وثانياً: أنّ الصلوات الّتي كان المسلمون صلّوها إلى بيت المقدّس كيف حالها، وقد صلّيت إلى غير القبلة ؟ والجواب: أنّ القبلة قبله ما لم تنسخ، وأنّ الله سبحانه إذا نسخ حكماً رفعه من حين النسخ، لا من أصله، لرأفته ورحمته بالمؤمنين، وهذا ما أشار إليه بقوله: وما كان الله ليضيع اعمالكم، إنّ الله بالناس لرؤوف رحيم. والفرق بين الرأفة والرحمة، بعد اشتراكهما في أصل المعنى، أنّ الرأفة يختصّ بالمبتلى المفتاق، والرحمة أعمّ.

قوله تعالى: ( قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ) ، الآية تدلّ على أنّ رسول الله قبل نزول آية القبلة - وهي هذه الآية - كان يقلّب وجهه في آفاق السماء، وأنّ ذلك كان انتظاراً منه، أو توقّعاً لنزول الوحي في أمر القبلة، لما كان يحبّ أن يكرمه الله تعالى بقبلة تختصّ به، لا أنّه كان لا يرتضى بيت المقدّس قبلة، وحاشاً رسول الله من ذلك، كما قال تعالى: فلنولّينّك قبلة ترضيها، فإنّ الرضا بشئ لا يوجب السخط بخلافه بل اليهود على ما في الروايات الواردة في شأن نزول الآية كانوا يعيّرون المسلمين في تبعيّة قبلتهم، ويتفاخرون بذلك عليهم، فحزن رسول الله ذلك، فخرج في سواد اللّيل يقلّب وجهه إلى السماء ينتظر الوحي من الله سبحانه، وكشف همّه فنزلت الآية، ولو نزلت على البقاء بالقبلة السابقة لكانت حجّة له (صلّي الله عليه وآله وسلّم) على اليهود، وليس ولم يكن لرسول الله ولا للمسلمين عارفي استقبال قبلتهم، إذ ليس للعبد إلّا الإطاعة والقبول، لكن نزلت بقبلة جديدة، فقطع تعييرهم وتفاخرهم، مضافاً إلى تعيين التكليف، فكانت حجّة ورضى.

٣٢٨

قوله تعالى: ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) . الشطر البعض، وشطر المسجد الحرام هو الكعبة، وفي قوله تعالى شطر المسجد الحرام دون أن يقال: فولّ وجهك الكعبة، أو يقال: فولّ وجهك البيت الحرام، محاذاة للحكم في القبلة السابقة فإنّها كانت شطر المسجد الأقصى، وهي الصخرة المعروفة هناك، فبدّلت من شطر المسجد الحرام - وهي الكعبة - على أنّ اضافة الشطر إلى المسجد وتوصيف المسجد، بالحرام يعطي مزاياً للحكم تفوت لو قيل: الكعبة أو البيت الحرام.

وتخصيص رسول الله بالحكم أوّلاً بقوله فولّ وجهك، ثمّ تعميم الحكم له ولغيره من المؤمنين بقوله وحيث ما كنتم يؤيّد أنّ القبلة حوّلت، ورسول الله قائم يصلّي في المسجد - والمسلمون معه - فاختصّ الأمر به، أوّلاً في شخص صلاته ثمّ عقب الحكم العامّ الشامل له ولغيره، ولجميع الأوقات والأمكنة.

قوله تعالى: ( وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ) ، وذلك لاشتمال كتابهم على صدق نبوّة رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم)، أو كون قبلة هذا النبيّ الصادق هو شطر المسجد الحرام، وأيّاماً كان فقوله: اوتوا الكتاب، يدلّ على اشتمال كتابهم على حقّيّة هذا التشريع، إمّا مطابقة أو تضمّناً، وما الله بغافل عمّا يعملون من كتمان الحقّ، واحتكار ما عندهم من العلم.

قوله تعالى: ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ ) ، تقريع لهم بالعناد واللجاج، وأنّ إباؤهم عن القبول ليس لخفاء الحقّ عليهم، وعدم تبيّنه لهم، فإنّهم عالمون بأنّه حقّ علماً لا يخالطه شكّ، بل الباعث لهم على بثّ الاعتراض وإثارة الفتنة عنادهم في الدين وجحودهم للحقّ، فلا ينفعهم حجّة، ولا يقطع إنكارهم آية فلو أتيتهم بكلّ آية ما تبعوا قبلتك لعنادهم وجحودهم، وما أنت بتابع قبلتهم، لأنّك على بيّنة من ربّك ويمكن أن يكون قوله: وما أنت نهياً في صورة خبر، وما بعضهم بتابع قبلة بعض، وهم اليهود يستقبلون صخرة بيت المقدّس أينما كانوا، والنصارى يستقبلون المشرق أينما كانوا، فلا هذا البعض يقبل قبلة ذاك البعض، ولا ذاك يقبل قبلة هذا اتّباعاً للهوى.

٣٢٩

قوله تعالى: ( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ) ، تهديد للنبيّ، والمعنى متوجّه إلى اُمّته، وإشارة إلى أنّهم في هذا التمرّد إنّما يتّبعون أهوائهم وأنّهم بذلك ظالمون.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ) ، الضمير في قوله يعرفونه، راجع إلى رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) دون الكتاب، والدليل عليه تشبيه هذه المعرفة بمعرفة الأبناء، فإنّ ذلك إنّما يحسن في الإنسان، ولا يقال في الكتاب، إنّ فلاناً يعرفه أو يعلمه، كما يعرف ابنه، على أنّ سياق الكلام - وهو في رسول الله، وما أوحي إليه من أمر القبلة، اجنبيّ عن موضوع الكتاب الّذي اُوتيه أهل الكتاب، فالمعنى أنّ أهل الكتاب يعرفون رسول الله بما عندهم من بشارات الكتب كما يعرفون أبنائهم، وأنّ فريقاً منهم ليكتمون الحقّ وهم يعلمون.

وعلي هذا ففي الكلام التفات من الحضور إلى الغيبة في قوله يعرفونه، فقد أخذ رسول الله غائباً، ووجه الخطاب إلى المؤمنين بعد ما كان (صلّي الله عليه وآله وسلّم) حاضراً، والخطاب معه، وذلك لتوضيح: أنّ أمره (صلّي الله عليه وآله وسلّم) واضح ظاهر عند أهل الكتاب، ومثل هذا النظم كمثل كلام من يكلّم جماعة لكنّه يخصّ واحداً منهم بالمخاطبة إظهاراً لفضله، فيخاطبه ويسمع غيره، فإذا بلغ إلى ما يخصّ شخص المخاطب من الفضل والكرامة، عدل عن خطابه إلى مخاطبة الجماعة، ثمّ بعد الفراغ عن بيان فضله عدل ثانياً إلى ما كان فيه أوّلاً من توجيه الخطاب إليه وبهذا يظهر نكتة الالتفات.

قوله تعالى: ( الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) ، تأكيد للبيان السابق وتشديد في النهى عن الامتراء، وهو الشكّ والارتياب، وظاهر الخطاب لرسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) ومعناه للاُمّة.

قوله تعالى: ( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ) ، الوجهة ما يتوجّه إليه كالقبلة، و هذارجوع إلى تلخيص البيان السابق، وتبديل له من بيان آخر يهدي الناس إلى ترك تعقيب أمر القبله، والإكثار من الكلام فيه، والمعنى أنّ كلّ قوم فلهم قبلة مشرّعة على حسب ما يقتضيه مصالحهم وليس حكماً تكوينيّاً ذاتيّاً لا يقبل التغيير

٣٣٠

والتحويل، فلا يهمّ لكم البحث والمشاجرة فيه، فاتركوا ذلك واستبقوا الخيرات وسارعوا إليها بالاستباق، فإنّ الله سيجمعكم إلى يوم لا ريب فيه، وأينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً إنّ الله على كلّ شئ قدير.

واعلم أنّ الآية كما أنّها قابلة الانطباق على أمر القبلة لوقوعها بين آياتها كذلك تقبل الانطباق على أمر التكوين، وفيها إشارة إلى القدر والقضاء، وجعل الأحكام والآداب لتحقيقها وسيجئ تمام بيانه فيما يخصّ به من المقام إنشاء الله.

قوله تعالى: ( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) ، ذكر بعض المفسّرين أنّ المعنى ومن أيّ مكان خرجت، وفي أيّ بقعة حللت فولّ وجهك وذكر بعضهم أنّ المعنى ومن حيث خرجت من البلاد، ويمكن أن يكون المراد بقوله ومن حيث خرجت، مكّة، الّتي خرج رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) منها كما قال تعالى:( من قريتك الّتي أخرجتك ) محمّد - ١٣، ويكون المعنى أنّ استقبال البيت حكم ثابت لك في مكّة وغيرها من البلاد والبقاع وفي قوله وأنّه للحقّ من ربّك وما الله بغافل عمّا تعملون تأكيد و تشديد.

قوله تعالى: ( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) ، تكرار الجملة الاُولى بلفظها لعلّه للدلالة على ثبوت حكمها على أيّ حال، فهو كقول القائل، اتّق الله إذا قمت واتّق الله إذا قعدت، واتّق الله إذا نطقت، واتّق الله إذا سكتّ، يريد: التزم التقوى عند كلّ واحدة من هذه الأحوال ولتكن معك، ولو قيل اتّق الله إذا قمت وإذا قعدت وإذا نطقت وإذا سكّت فاتت هذه النكتة، والمعنى استقبل شطر المسجد الحرام من الّتي خرجت منها وحيث ما كنتم من الأرض فولّوا وجوهكم شطره.

قوله تعالى: ( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ) ، بيان لفوائد ثلاث في هذا الحكم الّذي فيه أشدّ التأكيد على ملازمة الامتثال والتحذّر عن الخلاف:

أحداها: أنّ اليهود كانوا يعلمون من كتبهم أنّ النبيّ الموعود تكون قبلته الكعبة

٣٣١

دون بيت المقدّس، كما قال تعالى: وإنّ الّذين اُوتوا الكتاب ليعلمون أنّه الحقّ من ربّهم الآية، وفي ترك هذا الحكم الحجّة لليهود على المسلمين بأنّ النبيّ ليس هو النبيّ الموعود لكن التزام هذا الحكم والعمل به يقطع حجّتهم إلّا الّذين ظلموا منهم، وهو استثناء منقطع، أي لكنّ الّذين ظلموا منهم باتّباع الأهواء لا ينقطعون بذلك فلا تخشوهم لأنّهم ظالمون باتّباع الأهواء، والله لا يهدي القوم الظالمين و اخشوني.

وثانيتها: أن ملازمة هذا الحكم يسوق المسلمين إلى تمام النعمة عليهم بكمال دينهم، وسنبيّن معنى تمام النعمة في الكلام على قوله تعالى:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) المائدة - ٣.

وثالثتها: رجاء الاهتداء إلى الصراط المستقيم، وقد مرّ معنى الاهتداء في الكلام على معنى قوله تعالى:( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) فاتحة الكتاب - ٦.

وذكر بعض المفسّرين أن اشتمال هذه الآية - وهي آية تحويل القبلة - على قوله وليتمّ نعمته عليكم ولعلّكم تهتدون، مع اشتمال قوله تعالى في سورة الفتح في ذكر فتح مكّة على هاتين الجملتين، إذ قال تعالى:( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِّيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ) الفتح - ٢ يدلّ على كونها مشتملة على البشارة بفتح مكّة.

بيان ذلك أنّ الكعبة كانت مشغولة في صدر الإسلام بأصنام المشركين وأوثانهم وكان السلطان معهم، والإسلام لم يقو بعد بحيث يظهر قهره وقدرته، فهدى الله رسوله إلى استقبال بيت المقدّس، لكونه قبلة لليهود، الّذين هم أقرب في دينهم من المشركين إلى الإسلام، ثمّ لما ظهر أمر الإسلام بهجرة رسول الله إلى المدينة، وقرب زمان الفتح وتوقّع تطهيرالبيت من أرجاس الأصنام جاء الأمر بتحويل القبلة وهي النعمة العظيمة الّتي اختصّ به المسلمون، ووعد في آية التحويل إتمام النعمة والهداية وهو خلوص الكعبة من أدناس الأوثان، وتعيّنها لأن تكون قبله يعبدالله إليها، ويكون المسلمون هم المختصّون بها، وهي المختصّة بهم، فهي بشارة بفتح مكّة. ثمّ لما ذكر فتح مكّة حين فتحت أشار إلى ما وعدهم به من إتمام النعمة والبشارة بقوله ويتمّ نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً الآية.

٣٣٢

وهذا الكلام وإن كان بظاهره وجيها لكنّه خال عن التدبّر، فإنّ ظاهر الآيات لا يساعد عليه، إذ الدالّ على وعد إتمام النعمة في هذه الآية: ولأتمّ نعمتي عليكم ولعلّكم تهتدون، الآية إنّما هو لام الغاية، وآية سورة الفتح الّتي أخذها أنجازً لهذا الوعد ومصداقً لهذه البشارة أعني قوله تعالى:( لِّيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ) ، مشتملة على هذه اللّام بعينها، فالآيتان جميعاً مشتملتان على الوعد الجميل بإتمام النعمة، على أنّ آية الحجّ مشتملة على وعد إتمام النعمة لجميع المسلمين، وآية الفتح على ذلك لرسول الله خاصّة فالسياق في الآيتين مختلف.

ولو كان هناك آية تحكي عن أنجاز الوعد الّذي تشتمل عليه الآيتان لكان هو قوله تعالى:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) المائدة - ٣، وسيجئ الكلام في معنى النعمة و تشخيص هذه النعمة الّتي يمتنّ بها الله سبحانه في الآية.

ونظير هاتين الآيتين في الاشتمال على عدة إتمام النعمة قوله تعالى:( وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) المائدة - ٦، وقوله تعالى:( كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ) النحل - ٨١، وسيجئ إنشاء الله شئ من الكلام المناسب لهذا المقام في ذيل هذه الآيات.

قوله تعالى: ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ ) ، ظاهر الآية أنّ الكاف للتشبيه وما مصدريّة، فالمعنى: أنعمنا عليكم بأن جعلنا لكم البيت الّذي بناه إبراهيم ودعا له بما دعا من الخيرات والبركات قبلة كما أرسلنا فيكم رسولً منكم يتلوا عليكم آياتنا ويعلّمكم الكتاب والحكمة ويزكّيكم مستجيبين لدعوة إبراهيم، إذ قال هو وابنه إسماعيل ربّنا وابعث فيهم رسولً منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم، وفيهم امتنانٌ عليهم بالأرسال كالامتنان بجعل الكعبة قبلة. ومن هنا يظهر أنّ المخاطب بقوله فيكم رسولً منكم، هو الُمّة المسلمة، وهو أولياء الدين من الُمّة خاصّة بحسب الحقيقة، والمسلمون جميعاً من آل إسماعيل، - وهم عرب مضر - بحسب الظاهر، وجميع العرب بل جميع المسلمين بحسب الحكم.

٣٣٣

قوله تعالى: ( يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا ) ، ظاهرة آيات القرآن لمكان قوله يتلوا، فإنّ العناية في التلاوة إلى اللفظ دون المعنى. والتزكية هي التطهير، وهو إزالة الأدناس والقذارات، فيشمل إزالة الاعتقادات الفاسدة كالشرك والكفر، وإزالة الملكات الرذيلة من الأخلاق كالكبر والشحّ، وإزالة الأعمال والأفعال الشنيعة كالقتل والزنا وشرب الخمر وتعليم الكتاب والحكمة وتعليم مالم يكونوا يعلمونه يشمل جميع المعارف الأصليّه والفرعيّة.

واعلم: أنّ الآيات الشّريفة تشتمل على موارد من الالتفات، فيه تعالى بالغيبة ولتكلّم وحده ومع الغير، وفي غيره تعالى أيضاً بالغيبة والخطاب والتكلّم، والنكتة فيها غير خفيّة على المتدبّر البصير.

( بحث روائي)

في المجمع عن القمّيّ في تفسيره في قوله تعالى سيقول السفهاء الآية، عن الصادقعليه‌السلام قال تحوّلت القبلة إلى الكعبة، بعد ما صلّى النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بمكّة ثلث عشرة سنة إلى بيت المقدّس، وبعد مهاجرته إلى المدينة صلّى إلى بيت المقدّس سبعة أشهر، قال ثمّ وجهه الله إلى مكّة، وذلك أنّ اليهود كانوا يعيرون على رسول الله يقولون أنت تابع لنا تصلّي إلى قبلتنا، فاغتمّ رسول الله من ذلك غمّاً شديداً، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء، ينتظر من الله في ذلك أمراً، فلمّا أصبح وحضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بنى سالم، وقد صلّى من الظهر ركعتين فنزل جبرئيل فأخذ بعضديه وحوله إلى الكعبة وأنزل عليه:( قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) فكان قد صلّى ركعتين إلى بيت المقدّس وركعتين إلى الكعبة، فقالت اليهود والسفهاء ما ولّاهم عن قبلتهم الّتي كانوا عليها ؟

أقول: والروايات الواردة من طرق العامّة والخاصّة كثيرة مودعة في جوامع الحديث قريبة المضامين، وقد اختلف في تاريخ الواقعة، وأكثرها - وهو الأصحّ - أنّها كانت في رجب السنة الثانية من الهجرة الشهر السابع عشر منها وسيجئ بعض ما يتعلّق بالمقام في بحث على حدة إنشاالله.

٣٣٤

وعن طرق أهل السنّة والجماعة في شهادة هذه الاُمّة على الناس، وشهادة النبيّ عليهم أنّ الاُمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء فيطالب الله الأنبياء بالبيّنة على أنّهم قد بلّغوا - وهو أعلم - فيؤتي بأمّة محمّد، فيشهدون، فتقول الاُمم من أين عرفتم ؟ فيقولون عرفنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيّه الصادق، فيؤتى بمحمّد، ويسأل عن حال أمّته، فيزكّيهم ويشهد بعدالتهم، وذلك قوله تعالى فكيف إذا جئنا من كلّ اُمّة بشهيد.

أقول: ما يشتمل عليه هذا الخبر - وهو مؤيّد بأخبار اُخر نقلها السيوطيّ في الدرّ المنثور وغيره - من تزكية رسول الله لاُمّته، وتعديله إيّاهم، لعلّه يراد به تعديله لبعضهم دون جميعهم، وإلّا فهو مدفوع بالضرورة الثابتة من الكتاب والسنّة، وكيف تصحّح أو تصوّب هذه الفجائع الّتي لا تكاد توجد، ولا أنموذجة منها في واحدة من الاُمم الماضية ؟ وكيف يزكّى ويعدّل فراعنة هذه الاُمّة وطواغيتها ؟ فهل ذلك إلّا طعن في الدين الحنيف ولعب بحقائق هذه الملّة البيضاء، على أنّ الحديث مشتمل على إمضاء الشهادة النظريّة دون شهادة التحمّل.

وفي المناقب في هذا المعنى عن الباقرعليه‌السلام ولا يكون شهداء على الناس إلّا الأئمّة والرسل، وأمّا الاُمّة فغير جايز أن يستشهدها الله وفيهم من لا تجوز شهادته على حزمة بقل.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً الآية، فإن ظننت أنّ الله عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحّدين أفترى أنّ من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمرّ يطلب الله شهادته يوم القيامة، ويقبلها منه بحضرة جميع الاُمم الماضية ؟ كلّا ! لم يعن الله مثل هذا من خلقة، يعني الاُمّة الّتي وجبت لها دعوة إبراهيم كنتم: خير أمّة أخرجت للناس وهم الاُمّة الوسطى وهم خير اُمّة أخرجت للناس.

أقول: وقد مرّ بيان ذلك في ذيل الآية بالاستفادة من الكتاب.

وفي قرب الأسناد عن الصادقعليه‌السلام عن أبيه عن النبيّ قال ممّا أعطى الله أمّتي و

٣٣٥

فضلهم على سائر الاُمم أعطاهم ثلاث خصال لم يعطها إلّا نبيّ - إلى أن قال - وكان إذا بعث نبيّاً جعله شهيداً على قومه، وإنّ الله تبارك وتعالى جعل اُمّتي شهيداً على الخلق، حيث يقول ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس الحديث.

أقول: والحديث لا ينافي ما مرّ، فإنّ المراد بالاُمّة الاُمّة المسلمة الّتي وجبت لها دعوة إبراهيم.

وفي تفسير العيّاشيّ عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام : في حديث يصف فيه يوم القيامة، قالعليه‌السلام يجتمعون في موطن يستنطق فيه جميع الخلق، فلا يتكلّم أحد إلّا من أذن له الرحمن وقال صواباً، فيقام الرسول فيسأل فذلك قوله لمحمّد فكيف إذا جئنا من كلّ اُمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً، وهو الشهيد على الشهداء، والشهداء هم الرسل.

وفي التهذيب عن أبي بصير عن أحدهماعليهم‌السلام ، قال قلت له أمره أن يصلّي إلى بيت المقدّس ؟ قال نعم ألا ترى أنّ الله تبارك وتعالى يقول وما جعلنا القبلة الّتي كنت عليها إلّا لنعلم من يتّبع الرسول ممّن ينقلب على عقبيه الآية؟

أقول: مقتضى الحديث كون قوله تعالى الّتي كنت عليها وصفاً للقبلة، والمراد بها بيت المقدّس، وأنّه القبلة الّتي كان رسول الله عليها، وهو الّذي يؤيّده سياق الآيات كما تقدّم.

ومن هنا يتأيّد ما في بعض الأخبار عن العسكريّعليه‌السلام : أنّ هوى أهل مكّة كان في الكعبة فأراد الله أن يبيّن متّبع محمّد من مخالفيه باتّباع القبلة الّتي كرهها، ومحمّد يأمر بها، ولما كان هوى أهل المدينة في بيت المقدّس أمرهم بمخالفتها والتوجّه إلى الكعبة ليبيّن من يتّبع محمّداً فيما يكرهه - فهو مصدّقه وموافقه الحديث، وبه يتّضح أيضاً فساد ما قيل: إنّ قوله تعالى الّتي كنت عليها مفعول ثانٍ لجعلنا، والمعنى: وما جعلنا القبلة، هي الكعبة الّتي كنت عليها قبل بيت المقدّس، واستدلّ عليها بقوله تعالى إلّا لنعلم من يتّبع الرسول، وهو فاسد، ظهر فساده ممّا تقدّم.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الزبيريّ عن الصادقعليه‌السلام قال: قلت له ألا تخبرني عن الإيمان، أقولٌ هو وعمل أم قولٌ بلا عمل ؟ فقال الإيمان عمل كلّه والقول بعض ذلك العمل، مفروض من الله، مبيّن في كتابه، واضح نوره ثابت حجّته، يشهد له بها الكتاب ويدعو إليه.

٣٣٦

ولمّا أن صرف الله نبيّه إلى الكعبة عن بيت المقدّس قال المسلمون: للنبيّ أرأيت صلاتنا الّتي كنّا نصلّي إلى بيت المقدّس، ما حالنا فيها وما حال من مضى من أمواتنا، وهم كانوا يصلّون إلى بيت المقدّس ؟ فأنزل الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إنّ الله بالناس لرؤوفٌ رحيمٌ، فسمّى الصّلاة إيماناً، فمن اتّقى الله حافظاً لجوارحه موفياً كلّ جارحةٍ من جوارحه بما فرض الله عليه لقي الله مستكملاً لإيمانه من أهل الجنّة، ومن خان في شئ منها أو تعدّى ما أمر الله فيها لقي الله ناقص الإيمان.

أقول: ورواه الكلينيّ أيضاً، واشتماله على نزول قوله وما كان الله ليضيع إيمانكم الآية، بعد تغيير القبلة لا ينافي ما تقدّم من البيان.

وفي الفقيه أنّ النبيّ صلّى إلى بيت المقدّس ثلاث عشرة سنة بمكّة وتسعة عشر شهراً بالمدينة، ثمّ عيّرته اليهود فقالوا إنّك تابع لقبلتنا، فاغتمّ لذلك غمّاً شديداً، فلمّا كان في بعض الليل خرج يقلّب وجهه في آفاق السماء، فلمّا أصبح صلّى الغداة، فلمّا صلّى من الظهر ركعتين جاء جبرئيل فقال له قد نرى تقلّب وجهك في السماء فلنولّينّك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام الآية، ثمّ أخذ بيد النبيّ فحولّ وجهه إلى الكعبة، وحوّل من خلفه وجوههم حتّى قام الرجال مقام النساء والنساء مقام الرجال، فكان أوّل صلاتة إلى بيت المقدّس وآخرها إلى الكعبة فبلغ الخبر مسجداً بالمدينة وقد صلّى أهله من العصر ركعتين فحوّلوا نحو القبله، فكان أوّل صلاتهم إلى بيت المقدّس وآخرها إلى الكعبة فسمّي ذلك المسجد مسجد القبلتين.

أقول: وروى القمّيّ نحواً من ذلك، وأن النبيّ كان في مسجد بني سالم.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الباقرعليه‌السلام في قوله تعالى فولّ وجهك شطر المسجد الحرام الآية، قال استقبل القبلة، ولا تقلّب وجهك عن القبلة فتفسد صلاتك، فإنّ الله يقول لنبيّه في الفريضة فولّ وجّهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره.

أقول: والأخبار في نزول الآية في الفريضة واختصاصها بها كثيرة مستفيضة.

وفي تفسير القمّيّ عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى الّذين آتيناهم الكتاب يعرفونه

٣٣٧

الآية، قال: نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى، يقول الله تبارك وتعالى: والّذين آتيناهم الكتاب يعرفونه يعني يعرفون رسول الله كما يعرفون أبنائهم لأنّ الله عزّوجلّ قد أنزل عليهم في التوراة والإنجيل والزبور صفة محمّد وصفة أصحابه ومهاجرته، وهو قوله تعالى: محمّد رسول الله والّذين معه أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم تريهم ركّعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل، وهذه صفة رسول الله في التوراة وصفة أصحابه، فلمّا بعثه الله عزّوجلّ عرفه أهل الكتاب كما قال جلّ جلاله: فلمّا جائهم ما عرفوا كفروا به.

أقول: وروى نحوا منه في الكافي عن عليّعليه‌السلام .

وفي أخبار كثيرة من طرق الشيعة أنّ قوله تعالى: أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً الآية في أصحاب القائم، وفي بعضها أنّه من التطبيق والجرى.

وفي الحديث من طرق العامّة في قوله تعالى: ولاُتمّ نعمتي عليكم، عن عليّ تمام النعمة الموت على الإسلام.

وفي الحديث من طرقهم أيضاً تمام النعمة دخول الجنّة.

( بحث علمي)

تشريع القبلة في الإسلام، واعتبار الاستقبال في الصلاة - وهى عبادة عامّة بين المسلمين - وكذا في الذبائح، وغير ذلك ممّا يبتلى به عموم الناس أحوج الناس إلى البحث عن جهة القبلة وتعيينها وقد كان ذلك منهم في أوّل الأمر بالظنّ والحسبان ونوع من التخمين، ثمّ استنهض الحاجة العموميّة الرياضيّين من علمائهم أن يقرّبوه من التحقيق، فاستفادوا من الجداول الموضوعة في الزيجات لبيان عرض البلاد وطولها، واستخرجوا انحراف مكّة عن نقطة الجنوب في البلد، أي انحراف الخطّ الموصول بين البلد ومكّة عن الخطّ الموصول بين البلد ونقطة الجنوب (خطّ نصف النهار) بحساب الجيوب والمثلّثات ثمّ عيّنوا ذلك في كلّ بلدة من بلاد الإسلام، بالدائرة الهنديّة المعروفة المعيّنة لخطّ نصف النهار، ثمّ درجات الانحراف وخطّ القبلة.

٣٣٨

ثم استعملوا لتسريع العمل وسهولته الآلة المغناطيسيّة المعروفة بالحكّ، فإنّها بعقربتها تعيّن جهة الشمال والجنوب، فتنوب عن الدائرة الهنديّة في تعيين نقطة الجنوب وبالعلم بدرجة انحراف البلد يمكن للمستعمل أن يشخّص جهة القبلة.

لكن هذا السعي منهم - شكر الله تعالى سعيهم - لم يخل من النقص والاشتباه من الجهتين جميعاً. أمّا من جهة الاُولى: فإنّ المتأخّرين من الرياضيّين عثروا على أنّ المتقدّمين اشتبه عليهم الأمر في تشخيص الطول، واختلّ بذلك حساب الانحراف فتشخيص جهة الكعبة، وذلك أنّ طريقهم إلى تشخيص عرض البلاد - وهو ضبط ارتفاع القطب الشماليّ - كان اقرب إلى التحقيق، بخلاف الطريق إلى تشخيص الطول، وهو ضبط المسافة بين النقطتين المشتركتين في حادثةٍ سماويّة مشتركة كالخسوف بمقدار سير الشّمس حسّاً عندهم، وهو التقدير بالساعة، فقد كان هذا بالوسائل القديمة عسيراً وعلى غير دقّة لكن توفّر الوسائل وقرب الروابط اليوم سهّل الأمر كلّ التسهيل، فلم تزل الحاجة قائمة على ساق، حتّى قام الشيخ الفاضل البارع الشهير، بالسردار الكابلي، - رحمة الله عليه - في هذه الأواخر بهذا الشأن فاستخرج الانحراف القبليّ بالأصول الحديثة، وعمل فيه رسالته المعروفة، بتحفة الأجلّة في معرفة القبلة، وهي رسالة ظريفة بين فيها طريق عمل استخراج القبلة بالبيان الرياضيّ، ووضع فيها جداول لتعيين قبلة البلاد.

ومن ألطف ما وفّق له في سعيه - شكر الله سعيه - ما أظهر به كرامة باهرة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في محرابه المحفوظ في مسجد النبيّ بالمدينة ٢٥. ٧٥. ٢٠

وذلك: أنّ المدينة على ما حاسبه القدماء كانت ذات عرض ٢٥ درجة وطول ٧٥ درجة ٢٠ دقيقة، وكانت لا توافقه قبلة محراب النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) في مسجده، لذلك كان العلماء لا يزالون باحثين في أمر قبله المحراب وربّما ذكروا في انحرافه وجوهاً لا تصدّقها حقيقة الأمر لكنّه - رحمه الله - أوضح أنّ المدينة على عرض ٢٤ درجة ٥٧ دقيقة وطول ٣٩ درجة ٥٩ دقيقة وانحراف. درجة ٤٥ دقيقة تقريباً. وانطبق على ذلك قبلة المحراب أحسن الانطباق وبدت بذلك كرامة باهرة للنبيّ في قبلته الّتي وجّه وجهه إليها وهو في الصلاة، وذكر أنّ جبرئيل أخذ بيده وحوّل وجهه إلى الكعبة، صدق الله ورسوله.

٣٣٩

ثمّ استخرج بعده المهندس الفاضل الزعيم عبد الرزّاق البغائريّ رحمة الله عليه قبلة أكثر بقاع الأرض ونشر فيها رسالة في معرفة القبلة، وهي جداول يذكر فيها ألف وخمسمأة بقعة من بقاع الأرض وبذلك تمّت النعمة في تشخيص القبلة.

وأمّا الجهة الثانية: وهي الجهة المغناطيسيّة، فإنّهم وجدوا أنّ القطبين المغناطيسيّين في الكرة الأرضيّة، غير منطبقين على القطبين الجغرافيّين منها، فإنّ القطب المغناطيسيّ الشماليّ مثلاً على أنّه متغيّر بمرور الزمان، بينه وبين القطب الجغرافيائيّ الشماليّ ما يقرب من ألف ميل، وعلى هذا فالحكّ لا يشخّص القطب الجنوبيّ الجغرافيّ بعينه، بل ربّما بلغ التفاوت إلى ما لا يتسامح فيه، وقد أنهض هذا المهندس الرياضيّ الفاضل الزعيم حسين عليّ رزم آرا في هذه الأيّام وهي سنة ١٣٣٢ هجريّة شمسيّة على حلّ هذه المعضلة، واستخراج مقدار التفاوت بين القطبين الجغرافيّ والمغناطيسيّ بحسب النقاط المختلفة، وتشخيص انحراف القبلة من القطب المغناطيسيّ فيما يقرب من ألف بقعة من بقاع الأرض، واختراع حكّ يتضمّن التقريب القريب من التحقيق في تشخيص القبلة، وها هو اليوم دائر معمول - شكّر الله سعيه -.

( بحث اجتماعي)

لمتأمّل في شئون الاجتماع الإنسانيّ، والناظر في الخواصّ والآثار الّتي يتعقّبها هذا الأمر المسمّى بالاجتماع من جهة أنّه اجتماع لا يشكّ في أنّ هذا الاجتماع إنّما كونّته ثمّ شعبّته وبسطته إلى شعبه وأطرافه الطّبيعة الإنسانيّة، لما استشعرت بإلهام من الله سبحانه بجهات حاجتها في البقاء والاستكمال إلى أفعال اجتماعيّة فتلتجئ إلى الاجتماع وتلزمها لتوفّق إلى أفعالها وحركاتها وسكناتها في مهد تربية الاجتماع وبمعونته. ثمّ استشعرت واُلهمت بعلومٍ (صور ذهنيّة) وإدراكات توقعها على المادّة وعلى حوائجها فيها وعلى أفعالها، وجهات أفعالها تكون هي الوصلة والرابطة بينها وبين أفعالها وحوائجها كاعتقاد الحسن والقبح، وما يجب، وما ينبغي، وسائر الاُصول الاجتماعيّة، من الرئاسة والمرؤسيّة والملك والاختصاص، والمعاملات المشتركة والمختصّة، وسائر القواعد والنواميس العموميّة والآداب والرسوم القوميّة الّتي لا تخلو عن التحوّل والإختلاف

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459