الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173056 / تحميل: 9114
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

بإختلاف الأقوام والمناطق و الأعصار، فجميع هذه المعاني والقواعد المستقرّة عليها من صنع الطبيعة الإنسانيّة بإلهام من الله سبحانه، تلطّفت بها طبيعة الإنسان، لتمثّل بها ما تعتقدها وتريدها من المعاني في الخارج، ثمّ تتحرّك إليها بالعمل، والفعل والترك، والاستكمال.

والتوجّه العباديّ إلى الله سبحانه، وهو المنزّه عن شئون المادّة، والمقدّس عن تعلّق الحسّ المادّيّ إذا أريد أن يتجاوز حدّ القلب والضمير، وتنزّل على موطن الأفعال - وهي لا تدور إلّا بين الماديّات - لم يكن في ذلك بدّ ومخلص من أن يكون على سبيل التمثيل بأن يلاحظ التوجّهات القلبيّة على إختلاف خصوصيّاتها، ثمّ تمثّل في الفعل بما يناسبها من هيئات الأفعال وأشكالها، كالسجدة يراد بها التذلّل، والركوع يراد به التعظيم، والطواف يراد به تفدية النفس، والقيام يراد به التكبير، والوضوء والغسل يراد بهما الطهارة للحضور ونحو ذلك. ولا شكّ أنّ التوجّه إلى المعبود، واستقباله من العبد في عبوديّته روح عبادته، الّتي لولاها لم يكن لها حياة ولا كينونة، وإلى تمثيله تحتاج العبادة في كمالها وثباتها وإستقرار تحقّقها.

وقد كان الوثنيّون، وعبدة الكواكب وسائر الأجسام من الإنسان وغيره يستقبلون معبوداتهم وآلهتهم، ويتوجّهون إليهم بالأبدان في أمكنة متقاربة.

لكن دين الأنبياء ونخصّ بالذكر من بينها دين الإسلام الّذي يصدّقها جميعاً وضع الكعبة قبلة، وأمر باستقبالها في الصّلاة، الّتي لا يعذر فيها مسلم، أينما كان من أقطار الأرض وآفاقها، ونهي عن استقبالها واستدبارها في حالات وندب إلى ذلك في اُخرى فاحتفظ على قلب الإنسان بالتوجّه إلى بيت الله، وأن لا ينسى ربّه في خلوته وجلوته، وقيامه وقعوده، ومنامه ويقظته، ونسكه وعبادته حتّى في أخسّ حالاته وأرداها فهذا بالنظر إلى الفرد.

وأمّا بالنظر إلى الاجتماع، فالأمر أعجب والأثر أجلى وأوقع فقد جمع الناس على إختلاف أزمنتهم وأمكنتهم على التوجّه إلى نقطة واحدة، يمثّل بذلك وحدتهم الفكريّة

٣٤١

وارتباط جامعتهم، والتيام قلوبهم، وهذا ألطف روح يمكن أن تنفذ في جميع شئون الأفراد في حياتها المادّيّة والمعنويّة تعطي من الاجتماع أرقاه، ومن الوحدة أوفاها وأقواها، خصّ الله تعالى بها عباده المسلمين، وحفظ به وحدة دينهم، وشوكة جمعهم، حتّى بعد أن تحزّبوا أحزاباً، وافترقوا مذاهب وطرائق قدداً، لا يجتمع منهم اثنان على رأي، نشكر الله تعالى على آلائه.

٣٤٢

( سورة البقرة الآية ١٥٢)

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ( ١٥٢)

( بيان)

لما امتنّ الله تعالى على النبيّ والمسلمين، بإرسال النبيّ الكريم منهم إليهم نعمة لا تقدّر بقدر ومنحه على منحة - وهو ذكر منه لهم - إذ لم ينسهم في هدايتهم إلى مستقيم الصراط، وسوقهم إلى أقصى الكمال، وزيادة على ذلك، وهو جعل القبلة، الّذي فيه كمال دينهم، وتوحيد عبادتهم، وتقويم فضيلتهم الدينيّة والاجتماعيّة فرّع على ذلك دعوتهم إلى ذكره وشكره: ليذكرهم بنعمته على ذكرهم إيّاه بعبوديّته وطاعته، ويزيدهم على شكرهم لنعمته وعدم كفرانهم، وقد قال تعالى:( وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ) الكهف - ٢٤. وقال تعالى:( لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ) إبراهيم - ٧. والآيتان جميعاً نازلتان قبل آيات القبلة من سورة البقرة.

ثمّ إنّ الذكر ربّما قابل الغفلة كقوله تعالى:( وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا ) الكهف - ٢٨، وهي انتفاء العلم بالعلم، مع وجود أصل العلم، فالذكر خلافه، وهو العلم بالعلم، وربّما قابل النسيان وهو زوال صورة العلم عن خزانة الذهن، فالذكر خلافه، ومنه قوله تعالى:( وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ) الآية. وهو حينئذ كالنسيان معنى ذو آثار وخواصّ تتفرّع عليه، ولذلك ربّما اُطلق الذكر كالنسيان في موارد تتحقّق فيها آثارهما وإن لم تتحقّق أنفسهما، فإنّك أذا لم تنصر صديقك - وأنت تعلم حاجته إلى نصرك - فقد نسيته، - والحال أنّك تذكره - وكذلك الذكر.

والظاهر أنّ إطلاق الذكر على الذكر اللّفظيّ من هذا القبيل، فإنّ التكلّم عن الشئ من آثار ذكره قلباً، قال تعالى:( قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا ) الكهف - ٨٣. ونظائره كثيرة. ولو كان الذكر اللفظيّ أيضاً ذكراً حقيقةً فهو من مراتب الذكر، لا أنّه مقصور عليه ومنحصر فيه، وبالجملة: الذكر له مراتب كما قال تعالى:( أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) الرعد - ٢٨، وقال:( وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ )

٣٤٣

الأعراف - ٢٠٥، وقال تعالى:( فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ) البقرة - ٢٠٠، فالشدّة إنّما يتّصف به المعنى دون اللّفظ، وقال تعالى:( وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ) الكهف - ٢٤، وذيل هذه الآية تدلّ على الأمر برجاء ما هو أعلى منزلة ممّا هو فيه: فيؤل المعنى إلى أنّك إذا تنزّلت من مرتبة من ذكره إلى مرتبة هي دونها، وهو النسيان، فاذكر ربّك وارج بذلك ما هو أقرب طريقاً وأعلى منزلة، فينتج أنّ الذّكر القلبيّ ذو مراتب في نفسه، وبذلك يتبيّن صحّة قول القائل: إنّ الذكر حضور المعنى عند النفس، فإنّ الحضور ذو مراتب.

ولو كان لقوله تعالى، فاذكروني - وهو فعل متعلّق بياء المتكلّم حقيقة من دون تجوّزٍ - أفاد ذلك، أنّ للإنسان سنخاً آخر من العلم غير هذا العلم المعهود عندنا الّذي هو حصول صورة المعلوم ومفهومه عند العالم، إذ كلّما فرض من هذا القبيل فهو تحديد وتوصيف للمعلوم من العالم، وقد تقدّست ساحته سبحانه عن توصيف الواصفين، قال تعالى:( سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصّافّات - ١٦٠، وقال:( وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) طه - ١١٠، وسيجئ بعض ما يتعلّق بالمقام في الكلام على الآيتين إنشاء الله.

( بحث روائي)

تكاثرت الأخبار في فضل الذكر من طرق العامّة والخاصّة، فقد روي: بطرق مختلفة أنّ ذكر الله حسن على كلّ حالٍ.

وفي عدّة الدّاعي قال: وروي: أنّ رسول الله قد خرج على أصحابه، فقال: ارتعوا في رياض الجنّة، قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنّة ؟ قال: مجالس الذكر اغدوا وروّحوا واذكروا، ومن كان يحبّ أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإنّ الله تعالى ينزّل العبد حيث أنزل العبدالله من نفسه، واعلموا: أنّ خير أعمالكم عند مليككم وأزكاها وأرفعها في درجاتكم، وخير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله تعالى، فإنّه تعالى أخبر عن نفسه فقال: أنا جليس من ذكرني، وقال تعالى: فاذكروني أذكركم بنعمتي، اُذكروني بالطاعة والعبادة أذكركم بالنعم والإحسان والراحة والرضوان.

٣٤٤

وفي المحاسن ودعوات الراونديّ عن الصادقعليه‌السلام قال: إنّ الله تبارك وتعالى يقول: من شغل بذكري عن مسألتي، أعطيه أفضل ما اعطي من سألني.

وفي المعاني عن الحسين البزّاز قال: قال: لي أبوعبداللهعليه‌السلام ألا احدّثك بأشدّ ما فرض الله على خلقة ؟ قلت: بلى قال، إنصاف الناس من نفسك، ومواساتك لأخيك، وذكر الله في كلّ موطن، أما إنّي لا أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر، وإن كان هذا من ذاك، ولكن ذكر الله في كلّ موطن، إذا هجمت على طاعته أو معصيته.

أقول: وهذا المعنى مرويّ بطرق كثيرة عن النبيّ وأهل بيتهعليهم‌السلام وفي بعضها وهو قول الله: الّذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون الآية.

وفي عدّة الدّاعي عن النبيّ، قال قال سبحانه: إذا علمت أنّ الغالب على عبدي الاشتغال بي، نقلتُ شهوته في مسألتي ومناجاتي، فإذا كان عبدي كذلك وأراد أن يسهو حلت بينه وبين أن يسهو، أولئك أوليائي، حقّاً، أولئك الأبطال حقّاً، أولئك الّذين إذا أردت أن أهلك أهل الأرض عقوبة زويتها عنهم من أجل أولئك الأبطال.

وفي المحاسن عن الصادقعليه‌السلام قال: قال الله تعالى: ابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، ابن آدم اذكرني في خلاء أذكرك في خلاء، اذكرني في ملاء أذكرك في ملاء خير من ملائك، وقال: ما من عبد يذكر الله في ملاء من الناس إلّا ذكره الله في ملاء من الملائكة.

أقول: وقد روي هذا المعنى بطرق كثيرة في كتب الفريقين.

وفي الدرّ المنثور أخرج الطبرانيّ وابن مردويه والبيهقيّ في شعب الإيمان عن إبن مسعود قال: قال: رسول الله، من اُعطى أربعاً اُعطي أربعاً، وتفسير ذلك في كتاب الله من اُعطي الذكر ذكره الله، لأنّ الله يقول: اُذكروني أذكركم، ومن أعطى الدعاء اُعطي الإجابة، لأنّ الله يقول: ادعوني أستجب لكم، ومن اُعطي الشّكر اُعطي الزيادة، لأنّ الله يقول: لئن شكرتم لاُزيدنّكم، ومن اُعطي الاستغفار أعطي المغفرة لأنّ الله يقول: استغفروا ربّكم إنّه كان غفّارا.

٣٤٥

وفي الدرّ المنثور أيضاً أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقيّ في شعب الإيمان عن خالد بن أبي عمران، قال: قال: رسول الله، من أطاع الله فقد ذكر الله، وإن قلّت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن، ومن عصى الله فقد نسي الله، وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن.

أقول: في الحديث إشارة إلى أنّ المعصية لا تتحقّق من العبد إلّا بالغفلة والنسيان فإنّ الإنسان لو ذكر ما حقيقة معصيته وما لها من الأثر لم يقدم على معصيته، حتّى أنّ من يعصي الله ولا يبالي إذا ذكر عند ذلك بالله، ولا يعتني بمقام ربّه هو طاغ جاهل بمقام ربّه وعلوّ كبريائه وكيفيّة إحاطته، وإلى ذلك تشير أيضاً رواية اُخرى، رواها في الدرّ المنثور، عن أبي هند الداري، عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال الله: اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي ومن ذكرني - وهو مطيع - فحقّ عليّ أن أذكره بمغفرتي، ومن ذكرني - وهو عاص - فحقّ عليّ أن أذكره بمقت الحديث، وما اشتمل عليه هذا الحديث من الذكر عند المعصية هو الّذي تسمّيه الآية وسائر الأخبار بالنّسيان لعدم ترتّب آثار الذكر عليه، وللكلام بقايا سيجئ شطر منها.

٣٤٦

( سورة البقرة الآيات ١٥٣ - ١٥٧)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ  إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ( ١٥٣ ) وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ  بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لَّا تَشْعُرُونَ ( ١٥٤ ) وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ  وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ( ١٥٥ ) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ( ١٥٦ ) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ  وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ( ١٥٧ )

( بيان)

خمس آيات متّحدة السياق، متّسقة الجمل، ملتئمة المعاني، يسوق أوّلها إلى آخرها ويرجع آخرها إلى أوّلها، وهذا يكشف عن كونها نازلة دفعة غير متفرّقة وسياقها ينادي بأنّها نزلت قبيل الأمر بالقتال وتشريع حكم الجهاد، ففيه ذكر من بلاء سيقبل على المؤمنين، ومصيبة ستصيبهم، ولا كلّ بلاء ومصيبة، بل البلاء العموميّ الّذي ليس بعاديّ الوقوع مستمرّ الحدوث، فإنّ نوع الإنسان كسائر الأنواع الموجودة في هذه النشأة الطبيعيّة لا يخلو في أفراده من حوادث، جزئيّة يختلّ بها نظام الفرد في حياته الشخصيّة: من موت ومرض وخوف وجوع وغمّ وحرمان، سنّة الله الّتي جرت في عباده وخلقه، فالدار دار التزاحم، والنشأة نشأة التبدّل والتحوّل، ولن تجد لسنّة الله تحويلاً ولن تجد لسنّة الله تبديلاً.

والبلاء الفرديّ وإن كان شاقّاً على الشخص المبتلى بذلك، مكروهاً، لكن ليس مهولاً مهيباً تلك المهابة الّتى تترائى بها البلايا والمحن العامّة، فإنّ الفرد يستمدّ في قوّة تعقّله وعزمه وثبات نفسه من قوى سائر الأفراد، وأمّا البلايا العامّة الشاملة فإنّها تسلب الشعور العموميّ وجملة الرأي والحزم والتدبير من الهيئة، المجتمعة، ويختلّ به نظام الحياة منهم، فيتضاعف الخوف وتتراكم الوحشة ويضطرب عندها العقل والشعور

٣٤٧

وتبطل العزيمة والثبات، فالبلاء العامّ والمحنة الشاملة أشقّ وأمرّ، وهو الّذي تلوّح له الآيات.

ولا كلّ بلاءٍ عامّ كالوباء والقحط بل بلاءٌ عامّ قرّبتهم منها أنفسهم، فإنّهم أخذوا دين التوحيد، وأجابوا دعوة الحقّ، وتخلّفهم فيه الدنيا وخاصّة قومهم، وما لهؤلاء همُ إلّا إطفاء نور الله، واستئصال كلمة العدل، وإبطال دعوة الحقّ، ولا وسيلة تحسم مادّة النزاع وتقطع الخلاف غير القتال، فسائر الوسائل كإقامة الحجّة وبثّ الفتنة، وإلقاء الوسوسة والريبة وغيرها صارت بعد عقيمة غير منتجة، فالحجّة مع النبيّ والوسوسة والفتنة والدّسيسة ما كانت تؤثّر أثراً تطمئنّ إليه أعداء الدين فلم يكن عندهم وسيلة إلّا القتال والاستعانة به على سدّ سبيل الحقّ، وإطفاء نور الدين اللّامع المشرق. هذا من جانب الكفر، والأمر من جانب الدين أوضح، فلم يكن إلى نشر كلمة التوحيد، وبثّ دين الحقّ، وحكم العدل، وقطع دابر الباطل وسيلة إلّا القتال، فإنّ التجارب الممتدّ من لدن كان الإنسان نازلاً فيهذه الدار يعطي أنّ الحقّ إنّما يؤثّر إذا أميط الباطل، ولن يماط إلّا بضرب من إعمال القدرة والقوّة.

وبالجملة ففي الآيات تلويحٌ إلى إقبال هذه المحنة بذكر القتل في سبيل الله، وتوصيفه بوصف لا يبقى فيه معه جهة مكروهة، ولا صفة سوء، وهو أنّه ليس بموت بل حياة، وأيّ حياة !

فالآيات تستنهض المؤمنين على القتال، وتخبرهم أنّ أمامهم بلاء ومحنة لن تنالوا مدارج المعالي، وصلاة ربّهم ورحمته، والاهتداء بهدايته إلّا بالصبر عليها، وتحمّل مشاقّها، ويعلّمهم ما يستعينون به عليها، وهو الصبر والصلاة: أمّا الصبر: فهو وحده الوقاية من الجزع واختلال أمر التدبير، وأمّا الصلاة: فهي توجّه إلى الربّ، وانقطاع إلى من بيده الأمر، وأنّ القوّة لله جميعاً.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) الآية، قد تقدّم جملة من الكلام في الصبر والصلاة في تفسير قوله:( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ) البقرة - ٤٥، والصبر: من أعظم الملكات

٣٤٨

والأحوال الّتي يمدحها القرآن، ويكرّر الأمر به حتّى بلغ قريباً من سبعين موضعاً من القرآن حتّى قيل فيه:( إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) لقمان - ١٧، وقيل:( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) فصّلت - ٣٥، وقيل:( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) الزمر - ١٠.

والصّلاة: من أعظم العبادات الّتي يحثّ عليها في القرآن حتّى قيل فيها:( إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ) العنكبوت - ٤٥، وما أوصى الله في كتابه بوصايا إلّا كانت الصّلاة رأسها وأوّلها.

ثمّ وصف سبحانه الصبر بأنّ الله مع الصابرين المتّصفين بالصبر، وإنّما لم يصف الصلاة، كما في قوله تعالى:( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ ) الآية، لأنّ المقام في هذه الآيات، مقام ملاقات الأهوال ومقارعة الأبطال، فالاهتمام بأمر الصبر أنسب بخلاف الآية السابقة، فلذلك قيل: إنّ الله مع الصابرين، وهذه المعيّة غير المعيّة الّتي يدلّ عليه قوله تعالى:( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) الحديد - ٤، فإنّها معيّة الإحاطة والقيمومة، بخلاف المعيّة مع الصابرين، فإنّها معيّة إعانة فالصبر مفتاح الفرج.

قوله تعالى: ( وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لَّا تَشْعُرُونَ ) الآية، ربّما يقال: إنّ الخطاب مع المؤمنين الّذين آمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر وأذعنوا بالحياة الآخرة، ولا يتصوّر منهم القول ببطلان الإنسان بالموت، بعد ما أجابوا دعوة الحقّ وسمعوا شيئاً كثيراً من الآيات الناطقة بالمعاد، مضافاً إلى أنّ الآية إنّما تثبت الحياة بعد الموت في جماعة مخصوصين، وهم الشهداء المقتولون في سبيل الله، في مقابل غيرهم من المؤمنين، وجميع الكفّار، مع أنّ حكم الحياة بعد الموت عامّ شاملٌ للجميع فالمراد بالحياة بقاء الاسم، والذكر الجميل على مرّ الدهور، وبذلك فسرّه جمع من المفسّرين.

ويردّهأولا: أنّ كون هذه حياةّ إنّما هو في الوهم فقط دون الخارج، فهي حياة تخيّليّة ليس لها في الحقيقة إلّا الاسم، ومثل هذا الموضوع الوهميّ لا يليق بكلامه، وهو تعالى يدعو إلى الحقّ، ويقول:( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ) يونس - ٣٢، وأمّا

٣٤٩

الّذي سأله إبراهيم في قوله:( وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ) الشعراء - ٨٤، فإنّما يريد به بقاء دعوته الحقّة، ولسانه الصادق بعده، لا حسن ثنائه وجميل ذكره بعده فحسب.

نعم هذا القول الباطل، والوهم الكاذب إنّما يليق بحال المادّيّين، وأصحاب الطبيعة، فإنّهم اعتقدوا: مادّيّة النفوس وبطلانها بالموت ونفوا الحياة الآخرة ثمّ أحسّوا بإحتياج الإنسان بالفطرة إلى القول ببقاء النفوس وتأثّرها بالسعادة والشقاء، بعد موتها في معالي اُمور، لا تخلو في الارتقاء إليها من التفديّة والتضحيّة، لا سيّما في عظائم العزائم الّتي يموت ويقتل فيها أقوام ليحيي ويعيش آخرون، ولو كان كلّ من مات فقد فات لم يكن داع للإنسان (وخاصّة إذا اعتقد بالموت والفوت) أن يبطل ذاته ليبقى ذات آخرين، ولا باعث له أن يحرّم على نفسه لذّة الاستمتاع من جميع ما يقدر عليه بالجور ليتمتّع آخرون بالعدل، فالعاقل لا يعطي شيئاً إلّا ويأخذ بدله وأمّا الإعطاء من غير بدل، والترك من غير أخذ، كالموت في سبيل حياة الغير، والحرمان في طريق تمتّع الغير فالفطرة الإنسانيّة تأباه، فلمّا استشعروا بذلك دعاهم جبر هذا النقص إلى وضع هذه الأوهام الكاذبة، الّتي ليس لها موطن إلّا عرصة الخيال وحظيرة الوهم، قالوا إنّ الإنسان الحرّ من رقّ الأوهام والخرافات يجب عليه أن يفدي بنفسه وطنه، أو كلّ ما فيه شرفه، لينال الحياة الدائمة بحسن الذكر وجميل الثناء، ويجب عليه أن يحرّم على نفسه بعض تمتّعاته في الاجتماع ليناله الآخرون، ليستقيم أمر الاجتماع والحضارة، ويتمّ العدل الاجتماعيّ فينال بذلك حياة الشرف والعلاء.

وليت شعري إذا لم يكن إنسان، وبطل هذا التركيب المادّيّ وبطل بذلك جميع خواصّه، ومن جملتها الحياة والشعور، فمن هو الّذي ينال هذه الحياة وهذا الشرف ؟ ومن الّذي يدركه ويلتذّ به ؟ فهل هذا إلّا خرافة. ؟

وثانياً: أنّ ذيل الآية - وهو قوله تعالى: ولكن لا تشعرون، - لا يناسب هذا المعنى، بل كان المناسب له أن يقال: بل أحياء ببقاء ذكرهم الجميل، وثناء الناس عليهم بعدهم، لأنّه المناسب لمقام التسلية وتطييب النفس.

وثالثاً: أنّ نظيرة هذه الآية - وهي تفسّرها - وصف حياتهم بعد القتل بما ينافي هذا

٣٥٠

المعنى، قال تعالى:( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) آل عمران - ١٦٩، إلى آخر الآيات ومعلوم أنّ هذه الحياة حياة خارجيّة حقيقيّة ليست بتّقديريّة.

ورابعاً: أنّ الجهل بهذه الحياة الّتي بعد الموت ليس بكلّ البعيد من بعض المسلمين في أواسط عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ الّذي هو نصّ غير قابل للتأويل إنّما هو البعث للقيامة، وأمّا ما بين الموت إلى الحشر - وهي الحياة البرزخيّة - فهي وإن كانت من جملة ما بيّنه القرآن من المعارف الحقّة، لكنّها ليست من ضروريّات القرآن، والمسلمون غير مجمعين عليه بل ينكره بعضهم حتّى اليوم ممّن يعتقد كون النفس غير مجرّدة عن المادّة وأنّ الإنسان يبطل وجوده بالموت وانحلال التركيب، ثمّ يبعثه الله إلى القضاء يوم القيامة، فيمكن أن يكون المراد بيان حياة الشهداء في البرزخ لمكان جهل بعض المؤمنين بذلك، وإن علم به آخرون.

وبالجملة: المراد بالحياة في الآية الحياة الحقيقيّة دون التّقديريّة، وقد عدّ الله سبحانه حياة الكافر بعد موته هلاكاً وبواراً في مواضع من كلامه، كقوله تعالى:( وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) إبراهيم - ٢٨، إلى غير ذلك من الآيات، فالحياة حياة السعادة، والأحياء بهذه الحياة المؤمنون خاصّة كما قال:( وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) العنكبوت - ٦٤، وإنّما لم يعلموا، لأنّ حواسّهم مقصورة على إدراك خواصّ الحياة في المادّة الدنيويّة، وأمّا ما ورأها فإذا لم يدركوه لم يفرّقوا بينه وبين الفناء فتوهّموه فنائاً، وما توهّمه الوهم مشترك بين المؤمن والكافر في الدنيا، فلذلك قال: في هذه الآية، بل أحياء ولكن لا تشعرون أي: بحواسّكم، كما قال في الآية الاُخرى: لهي الحيوان لو كانوا يعلمون، أي باليقين كما قال تعالى:( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) التكاثر - ٦.

فمعنى الآية - والله أعلم - ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات، ولاتعتقدوا فيهم الفناء والبطلان كما يفيده لفظ الموت عندكم، ومقابلته مع الحياة، وكما يعين على هذا القول حواسّكم فليسوا بأموات بمعنى البطلان، بل أحياء ولكن حواسّكم لا تنال

٣٥١

ذلك ولا تشعر به، وإلقاء هذا القول على المؤمنين - مع أنّهم جميعاً أو أكثرهم عالمون ببقاء حياة الإنسان بعد الموت، وعدم بطلان ذاته - إنّما هو لإيقاظهم وتنبيههم بما هو معلوم عندهم، يرتفع بالالتفات إليه الحرج عن صدورهم، والاضطراب والقلق عن قلوبهم إذا أصابتهم مصيبة القتل، فإنّه لا يبقى مع ذلك من آثار القتل عند أولياء القتيل إلّا مفارقة في أيّام قلائل في الدنيا وهو هيّن في قبال مرضات الله سبحانه وما ناله القتيل من الحياة الطيّبة، والنعمة المقيمة، ورضوان من الله أكبر، وهذا نظير خطاب النبيّ بمثل قوله تعالى: الحقّ من ربّك فلا تكوننّ من الممترين الآية، مع أنّه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) أوّل الموقنين بآيات ربّه، ولكنّه كلام كنّي به عن وضوح المطلب، وظهوره بحيث لا يقبل أيّ خطور نفسانيّ لخلافه.

( نشأة البرزخ)

فالآية تدلّ دلالة واضحة على حياة الإنسان البرزخيّة، كالآية النظيرة لها وهى قوله:( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) آل عمران - ١٦٩، والآيات في ذلك كثيرة.

ومن أعجب الأمر ما ذكره بعض الناس في الآية: أنّها نزلت في شهداء بدر، فهي مخصوصة بهم فقط، لا تتعدّاهم إلى غيرهم هذا، ولقد أحسن بعض المحقّقين: من المفسّرين في تفسير قوله: واستعينوا بالصبر والصلاة الآية، إذ سأل الله تعالى الصبر على تحمّل أمثال هذه الأقاويل.

وليت شعري ماذا يقصده هؤلاء بقولهم هذا ؟ وعلى أيّ صفة يتصوّرون حياة شهداء بدر بعد قتلهم مع قولهم: بانعدام الإنسان بعد الموت والقتل، وانحلال تركيبه وبطلانه ؟ أهو على سبيل الإعجاز: باختصاصهم من الله بكرامةٍ لم يكرم بها النبيّ الأكرم وسائر الأنبياء والمرسلين والأولياء المقرّبين، إذ خصّهم الله ببقاء وجودهم بعد الانعدام، فليس ذلك بإعجاز بل ايجاد محال ضروريّ الاستحالة، ولا إعجاز في محال، ولو جاز عند العقل إبطال هذا الحكم على بداهتها لم يستقم حكم ضروريّ فما دونه ؟ ام هو على نحو

٣٥٢

الاستثناء في حكم الحسّ بأن يكون الحسّ مخطئاً في أمر هؤلآء الشهداء ؟ فهم أحياء يرزقون بالأكل والشرب وسائر التمتّعات - وهم غائبون عن الحسّ - وما ناله الحسّ من أمرهم بالقتل وقطع الأعضاء وسقوط الحسّ وانحلال التركيب فقد اخطأ في ذلك من رأس، فلو جاز على الحسّ أمثال هذه الأغلاط فيصيب في شئ ويغلط في آخر من غير مخصّص بطل الوثوق به على الإطلاق، ولو كان المخصّص هو الإرادة الإلهيّة احتاج تعلّقها إلى مخصّص آخر، والإشكال - وهو عدم الوثوق بالإدراك - على حاله، فكان من الجائز أن نجد ما ليس بواقع، واقعاً والواقع ليس بواقع وكيف يرضى عاقل أن يتفّوه بمثل ذلك ؟ وهل هو إلّا سفسطة.

وقد سلك هؤلآء في قولهم هذا مسلك العامّة من المحدّثين، حيث يرون أنّ الاُمور الغائبة عن حواسّنا ممّا يدلّ عليه الظواهر الدينيّة من الكتاب والسنّة، كالملائكة وأرواح المؤمنين وساير ما هو من هذا القبيل موجودات مادّيّة طبيعيّة، وأجسام لطيفة تقبل الحلول والنفوذ في الأجسام الكثيفة، على صورة الإنسان ونحوه، يفعل جميع الأفعال الإنسانيّة مثلاً، ولها أمثال القوى الّتي لنا غير أنّها ليست محكومة بأحكام الطبيعة: من التغيّر والتبدّل والتركيب وانحلاله، والحياة والموت الطّبيعيّتين، فإذا شاء الله تعالى ظهورها ظهرت لحواسّنا، وإذا لم يشأ أو شاء أن لا تظهر لم تظهر، مشيّة خالصة من غير مخصّص في ناحية الحواسّ، أو تلك الأشياء.

وهذا القول منهم مبنيّ على إنكار العلّيّة والمعلوليّة، بين الأشياء ولو صحّت هذه الاُمنيّة الكاذبة بطلت جميع الحقائق العقليّة، والأحكام العلميّة، فضلاً عن المعارف الدينيّة ولم تصل النوبة إلى أجسامهم اللّطيفة المكرّمة الّتي لا تصل إليها يد التأثير والتأثّر المادّيّ الطبيعيّ، وهو ظاهر.

فقد تبيّن بما مرّ: أنّ الآية دالّة على الحياة البرزخيّة، وهي المسمّاة بعالم القبر، عالم متوسّط بين الموت والقيامة، ينعّم فيه الميّت أو يعذّب حتّى تقوم القيامة.

ومن الآيات الدالّة عليه - وهي نظيرة لهذه الآية الشريفة - قوله تعالى:( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ

٣٥٣

اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) آل عمران - ١٧١، وقد مرّ تقريب دلالة الآية على المطلوب، ولو تدبّر القائل باختصاص هذه الآيات بشهداء بدر في متن الآيات لوجد أنّ سياقها يفيد اشتراك سائر المؤمنين معهم في الحياة. والتنعّم بعد الموت.

ومن الآيات قوله تعالى:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) المؤمنون - ١٠٠، والآية ظاهرة الدلالة على أنّ هناك حياة متوسّطة بين حياتهم الدنيويّة وحياتهم بعد البعث، وسيجئ تمام الكلام في الآية إنشاء الله تعالى.

ومن الآيات قوله تعالى:( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ ) (ومن المعلوم أنّ المراد به أوّل ما يرونهم وهو يوم الموت كما تدلّ عليه آيات اُخر) لا بشرى يومئذٍ للمجرمين ويقولون حجراً محجوراً. وقدّمنا إلى ما عملوا من عملٍ فجعلناه هباء منثوراً. أصحاب الجنّة يومئذٍ خير مستقرّاً وأحسن مقيلاً. ويوم تشقّق السماء الغمام (وهو يوم القيامة) ونزل الملائكة تنزيلاً.( الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ) الفرقان - ٢٦، ودلالتها ظاهرة. وسيأتي تفصيل القول فيها في محلّه إنشاء الله تعالى.

ومن الآيات قوله تعالى:( قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ) المؤمن - ١١، فهنا إلى يوم البعث - وهو يوم قولهم هذا - إماتتان وإحيائان، ولن تستقيم المعنى إلّا بإثبات البرزخ، فيكون إماتة وإحياء في البرزخ وإحياء في يوم القيامة، ولو كان أحد الاحيائين في الدنيا والآخر في الآخرة لم يكن هناك إلّا إماتة واحدة من غير ثانية، وقد مرّ كلام يتعلّق بالمقام في قوله تعالى:( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ) البقره - ٢٨، فارجع.

ومن الآيات قوله تعالى:( وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) المؤمن - ٤٦، إذ من

٣٥٤

المعلوم أنّ يوم القيامة لا بكرة فيه ولا عشىّ فهو يومٌ غير اليوم.

والآيات الّتي تستفاد منها هذه الحقيقة القرآنيّة، أو تؤمي إليها كثيرة، كقوله تعالى:( تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) النحل - ٦٣، إلى غير ذلك.

( تجرّد النفس)

ويتبيّن بالتدبّر في الآية، وسائر الآيات الّتي ذكرناها حقيقة اُخرى أوسع من ذلك، وهي تجرّد النفس، بمعنى كونها أمراً وراء البدن وحكمها غير حكم البدن وسائر التركيبات الجسميّة، لها نحو اتّحاد بالبدن تدبّرها بالشعور والإرادة وسائر الصفات الإدراكيّة، والتدبّر في الآيات السابقة الذّكر يجلّي هذا المعنى فإنّها تفيد أنّ الإنسان بشخصه ليس بالبدن، لا يموت يموت البدن، ولا يفنى بفنائه، وانحلال تركيبه وتبدّد أجزائه، وأنّه يبقى بعد فناء البدن في عيش هنئ دائم، ونعيم مقيم، أو في شقاء لازم، وعذاب أليم، وأنّ سعادته في هذه العيشة، وشقائه فيها مرتبطة بسنخ ملكاتة وأعماله، لا بالجهات الجسمانيّة والأحكام الاجتماعيّة.

فهذه معان تعطيها هذه الآيات الشريفة، وواضح أنّها أحكام تغاير الأحكام الجسمانيّة، وتنافى الخواصّ المادّيّة الدنيويّة من جميع جهاتها، فالنفس الإنسانيّة غير البدن.

وممّا يدلّ عليه من الآيات قوله تعالى:( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ ) الزمر - ٤٢، والتوفّي والاستيفاء هو أخذ الحقّ بتمامه وكماله، وما تشتمل عليه الآية: من الأخذ والإمساك والإرسال ظاهر في المغايرة بين النفس والبدن.

ومن الآيات قوله تعالى:( وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) السجدة - ١١، ذكر سبحانه شبهة من شبهات الكفّار المنكرين للمعاد، وهو أنّا

٣٥٥

بعد الموت وانحلال تركيب أبداننا تتفرّق أعضاؤنا، وتبدّد أجزاؤنا، وتتبدّل صورنا فنضلّ في الأرض، ويفقدنا حواسّ المدركين، فكيف يمكن أن نقع ثانياً في خلق جديد ؟ وهذا استبعاد محض، وقد لقّن تعالى على رسوله: الجواب عنه، بقوله: قل: يتوفّاكم ملك الموت الّذي وكلّ بكم الآية، وحاصل الجواب أنّ هناك ملكاً موكّلاً بكم هو يتوفّاكم ويأخذكم، ولا يدعكم تضلّوا وأنتم في قبضته وحفاظته، وما تضلّ في الأرض إنّما هو أبدانكم لا نفوسكم الّتي هي المدلول عليها بلفظ، كم، فإنّه يتوفّاكم.

ومن الآيات قوله تعالى:( وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ) الآية السجدة - ٩، ذكره في خلق الإنسان ثمّ قال تعالى:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) الاسراء - ٨٥، فأفاد أنّ الروح من سنخ أمره، ثمّ عرّف الأمر في قوله تعالى:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ) يس - ٨٣، فأفاد أنّ الروح من الملكوت، وأنّها كلمة، كن، ثمّ عرف الأمر بتوصيفه بوصف آخر بقوله:( وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) القمر - ٥٠، والتّعبير بقوله: كلمح بالبصر يعطي أنّ الأمر الّذي هو كلمة، كن، موجود دفعيّ الوجود غير تدريجيّة، فهو يوجد من غير اشتراط وجوده وتقييده بزمان أو مكان، ومن هنا يتبيّن أن الأمر - ومنه الروح - شئ غير جسمانيّ ولا مادّيّ، فإنّ الموجودات المادّيّة الجسمانيّة من أحكامها العامّة أنّها تدريجيّة الوجود، مقيّدة بالزمان والمكان، فالروح الّتي للإنسان ليست بمادّيّة جسمانيّة، وإن كان لها تعلّق بها.

وهناك آيات تكشف عن كيفيّة هذا التعلّق، فقد قال تعالى:( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ ) طه - ٥٥، وقال تعالى:( خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ) الرحمن - ١٤، وقال تعالى( وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ ) السجدة - ٨، ثمّ قال: سبحانه وتعالى:( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) المؤمنون - ١٤، فأفاد أنّ الإنسان لم يكن إلّا جسماً طبيعيّاً يتوارد عليه صور مختلفة متبدّلة، ثمّ أنشأ الله هذا الّذي هو جسم جامد خامد خلقاً آخر

٣٥٦

ذا شعور وإرادة، يفعل أفعالاً: من الشعور والإردة والفكر والتصرّف في الأكوان، والتدبير في أمور العالم بالنقل والتبديل والتحويل إلى غير ذلك ممّا لا يصدر عن الأجسام والجسمانيّات، فلا هي جسمانيّة، ولا موضوعها الفاعل لها.

فالنفس بالنسبة إلى الجسم الّذي ينتهي أمره إلى إنشائها - وهو البدن الّذي تنشاء منه النفس - بمنزلة الثمرة من الشجرة والضوء من الدهن بوجه بعيد، وبهذا يتّضح كيفيّة تعلّقها بالبدن ابتداعاً، ثمّ بالموت تنقطع العلقة، وتبطل المسكة، فهي في أوّل وجودها عين البدن، ثمّ تمتاز بالإنشاء منه، ثمّ تستقل عنه بالكلّيّة فهذا ما تفيده الآيات الشريفة المذكورة بظهورها: وهناك آيات كثيرة تفيد هذه الحقيقة بالايماء والتلويح، يعثر عليها المتدبّر البصير، والله الهادي.

قوله تعالى: ( وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ) ، لما أمرهم الله بالاستعانة بالصبر والصلاة ونهاهم عن القول بموت من يقتل منهم في سبيل الله بل هم أحياءٌ بيّن لهم السبب الّذي من أجله خاطبهم بما خاطب، وهو أنّهم سيبتلون بما لا يتمهّد لهم المعالي ولا يصفو لهم الأمر في الحياة الشريفة والدين الحنيف إلّا به، وهو الحرب والقتال، لا يدور رحى النصر والظفر على مرادهم إلّا أن يتحصّنوا بهذين الحصنين ويتأيّدوا بهاتين القوّتين، وهما الصبر والظفر، ويضيفوا إلى ذلك ثالثاً وهو خصلة ما حفظها قوم إلّا ظفروا بأقصى مرادهم وحازوا الغاية القصوى من كمالهم، واشتدّ بأسهم وطابت نفسهم، وهو الإيمان بأنّ القتيل منهم غير ميّت ولا فقيد، وأنّ سعيهم بالمال والنفس غير ضائع ولا باطل، فإن قتلوا عدوّهم فهم على الحياة - وقد أبادوا عدوّهم وما كان يريده من حكومة الجور والباطل عليهم - وإن قتلهم عدوّهم فهم على الحياة - ولم يتحكّم الجور والباطل عليهم، فلهم إحدى الحسنيين على أيّ حال.

وعامّة الشدائد الّتي يأتي بها هو الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس فذكرها الله تعالى، وأمّا الثمرات فالظّاهر أنّها الأولاد فإنّ تأثير الحرب في قلّة النسل بموت الرجال والشبّان أظهر من تأثيره في نقص ثمرات الأشجار، وربّما قيل: إنّ المراد

٣٥٧

ثمرات النخيل، وهي التّمر والمراد بالأموال غيرها وهي الدّوابّ من الإبل والغنم.

قوله تعالى: ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) ، أعاد ذكر الصابرين ليبشّرهم أوّلاً، ويبيّن كيفيّة الصبر بتعليم ما هو الصبر الجميل ثانياً، ويظهر به حقّ الأمر الّذي يقضي بوجوب الصّبر وهو ملكه تعالى للإنسان - ثالثاً، ويبيّن جزائه العامّ - وهو الصلاة والرحمة والاهتداء - رابعاً، فأمر تعالى نبيّه أوّلاً بتبشيرهم، ولم يذكر متعلّق البشارة لتفخيم أمره فإنّها من الله سبحانه فلا تكون إلّا خيراً وجميلاً، وقد ضمنها ربّ العزّة، ثمّ بيّن أنّ الصابرين هم الّذين يقولون: كذا وكذا عند إصابة المصيبة وهي الواقعة الّتي تصيب الإنسان، ولا يستعمل لفظ المصيبة إلّا في النازلة المكروهة، ومن المعلوم أن ليس المراد بالقول مجرّد التّلفظّ بالجملة من غير حضور معناها بالبال، ولا مجرّد الإخطار من غير تحقّق بحقيقة معناها، وهي أنّ الإنسان مملوك لله بحقيقة الملك، وأنّ مرجعه إلى الله سبحانه وبه يتحقّق أحسن الصبر الّذي يقطع منابت الجزع والأسف، ويغسل رين الغفلة.

بيانه أنّ وجود الإنسان وجميع ما يتبع وجودة، من قواه وأفعاله قائم الّذات بالله الّذي هو فاطره وموجده فهو قائمٌ به مفتقر ومستند إليه في جميع أحواله من حدوث وبقاء غير مستقلّ دونه، فلربّه التصرّف فيه كيف شاء وليس للإنسان من الأمر شئ إذ لا استقلال له بوجه أصلاً فله الملك في وجوده وقواه وأفعاله حقيقةً.

ثمّ إنّه تعالى ملكه بالإذن نسبة ذاته، ومن هناك يقال: للإنسان وجود، وكذا نسبة قواه وأفعاله ومن هناك يقال: للإنسان قوىّ كالسمع والبصر، ويقال: للإنسان أفعال كالمشى والنطق، والأكل والشرب، ولو لا الإذن الإلهيّ لم يملك الإنسان ولا غيره من المخلوقات نسبة من هذه النسب الظاهرة، لعدم استقلال في وجودها من دون الله أصلاً.

وقد أخبر سبحانه: أنّ الأشياء سيعود إلى حالها قبل الإذن ولا يبقي ملكٌ إلّا لله وحده، قال تعالى:( لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) المؤمن - ١٦، وفيه رجوع الإنسان بجميع ما له ومعه إلى الله سبحانه.

٣٥٨

فهناك ملكٌ حقيقيّ هو لله سبحانه لا شريك له فيه، لا الإنسان ولا غيره، وملك ظاهريّ صوريّ كملك الإنسان نفسه وولده وماله وغير ذلك، وهو لله سبحانه حقيقةً، وللإنسان بتمليكه تعالى في الظاهر مجازاً، فإذا تذكر الإنسان حقيقة ملكه تعالى، ونسبه إلى نفسه فوجد نفسه ملكاً طلقاً لربّه، وتذكّر أيضاً أنّ الملك الظاهريّ فيما بين الإنسان ومن جملتها ملك نفسه لنفسه وماله وولده سيبطل فيعود راجعاً إلى ربّه وجد أنّه بالأخرة لا يملك شيئاً أصلاً لا حقيقةً ولا مجازاً، وإذا كان كذلك لم يكن معنى للتأثّر عن المصائب الموجبة للتأثّر عند إصابتها فإنّ التأثّر إنّما يكون من جهة فقد الإنسان شيئاً ممّا يملكه، حتّى يفرح بوجدانه، ويحزن بفقدانه، وأمّا إذا أذعن واعتقد أنّه لا يملك شيئاً لم يتأثّر ولم يحزن، وكيف يتأثّر من يؤمن بأنّ الله له الملك وحده يتصرّف في ملكه كيف يشاء ؟

( الاخلاق)

إعلم أنّ إصلاح أخلاق النفس وملكاتها في جانبي العلم والعمل، واكتساب الأخلاق الفاضلة، وإزالة الأخلاق الرذيلة إنّما هو بتكرار الأعمال الصالحة المناسبة لها ومزاولتها، والمداومة عليها، حتّى تثبت في النفس من الموارد الجزئيّة علومٌ جزئيّة، وتتراكم وتنتقش في النفس انتقاشاً متعذّر الزوال أو متعسرّها، مثلاً إذا أراد الإنسان إزالة صفة الجبن واقتناء ملكة الشجاعة كان عليه أن يكرّر الورود في الشدائد والمهاول الّتي تزلزل القلوب وتقلقل الأحشاء، وكلّما ورد في مورد منها وشاهد أنّه كان يمكنه الورود فيه وأدرك لذّة الإقدام وشناعة الفرار والتحذّر انتقشت نفسه بذلك انتقاشاً بعد انتقاش حتّى تثبت فيها ملكة الشجاعة، وحصول هذه الملكة العلميّة وإن لم يكن في نفسه بالاختيار لكنّه بالمقدّمات الموصلة إليه كما عرفت اختياريّ كسبيّ.

إذا عرفت ما ذكرناه علمت أنّ الطريق إلى تهذيب الأخلاق واكتساب الفاضلة منها أحد مسلكين:

٣٥٩

المسلك الأوّل: تهذيبها بالغايات الصالحة الدنيويّة، والعلوم والآراء المحمودة عند الناس كما يقال: إنّ العفّة وقناعة الإنسان بما عنده والكفّ عمّا عند الناس توجب العزّة والعظمة في أعيُن الناس والجاه عند العامّة، وإنّ الشرّه يوجب الخصاصة والفقر، وإنّ الطمع يوجب ذلّة النفس المنيعة، وإنّ العلم يوجب إقبال العامّة والعزّة والوجاهة والاُنس عند الخاصّة، وإنّ العلم بصر يتّقى به الإنسان كلّ مكروه، ويدرك كلّ محبوب وإنّ الجهل عمىّ، وإنّ العلم يحفظك وأنت تحفظ المال، وإنّ الشجاعة ثبات يمنع النفس عن التلوّن والحمد من الناس على أيّ تقدير سوآءٌ غلب الإنسان أو غلب عليه بخلاف الجبن والتهوّر، وإنّ العدالة راحة النفس عن الهمم المؤذية، وهي الحياة بعد الموت: ببقاء الاسم وحسن الذكر وجميل الثناء والمحبّة في القلوب.

وهذا هو المسلك المعهود الّذي رتّب عليه علم الأخلاق، والمأثور من بحث الأقدمين من يونان وغيرهم فيه.

لم يستعمل القرآن هذا المسلك الّذي بناؤه على انتخاب الممدوح عند عامّة الناس عن المذموم عندهم، والأخذ بما يستحسنه الاجتماع وترك ما يستقبحه، نعم ربّما جرى عليه كلامه تعالى فيما يرجع بالحقيقة إلى ثواب اُخرويّ أو عقاب اُخرويّ كقوله تعالى:( وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ) البقرة - ١٥٠، دعا سبحانه إلى العزم والثبات، وعلّله بقوله: لئلّا يكون، وكقوله تعالى:( وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا ) الأنفال - ٤٦، دعا سبحانه إلى الصبر وعلّله بأنّ تركه وإيجاد النزاع يوجب الفشل وذهاب الريح وجرئة العدوّ، وقوله تعالى:( وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) الشورى - ٤٣، دعا إلى الصبر العفو، وعلّله بالعزم و الإعظام.

المسلك الثاني: الغايات الاُخرويّة، وقد كثر ذكرها في كلامه تعالى كقوله سبحانه( إِنَّ اللهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ) التوبة - ١١١، وقوله تعالى:( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) الزمر - ١٠، وقوله تعالى:( إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

الفريقين ، فأمّا من يحمل أرضية شموله بالعفو الإلهي فسيلتحق بركب المتقين ، وأمّا من ثقلت كفة ذنوبه فسيحشر مع القابعين في أودية النّار ، ولكنها لا تكون مكانهم ومأواهم الأبدي.

* * *

٤٠١

الآيات

( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦) )

التّفسير

يوما لقيامة : الوقت المجهول!

تتعرض الآيات أعلاه لإجابة المشركين ومنكري المعاد حول سؤالهم الدائم عن وقت قيام الساعة (يوم القيامة) : فتقول أوّلا :( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ) (١) .

والقرآن في مقام الجواب يسعى إلى إفهامهم بأنّه لا أحد يعلم بوقت وقوع

__________________

(١) جاءت كلمة «المرسى» بهذا الموضع مصدرا ، على مالها من استعمال اخرى ، فتأتي تارة اسم زمان ومكان ، وتارة اخرى اسم مفعول من «الإرساء» ، معناها المصدري هو : الوقوع والثبات ، ويستخدم المرسى كمكان لتوقف السفن ، وفي تثبيت الجبال على سطح الأرض ، وكقوله تعالى في الآية (٤١) من سورة هود :( وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها ) ، والآية (٣٢) من سورة النازعات :( وَالْجِبالَ أَرْساها ) .

٤٠٢

القيامة ، ويوجه الباري خطابه إلى حبيبه الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بأنّك لا تعلم وقت وقوعها ، ويقول :( فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها ) .

فما خفّي عليك (يا محمّد) ، فمن باب أولى أن يخفى على الآخرين ، والعلم بوقت قيام القيامة من الغيب الذي اختصه الله لنفسه ، ولا سبيل لمعرفة ذلك سواه إطلاقا!

وكما قلنا ، فسّر خفاء موعد الحق يرجع لأسباب تربوية ، فإذا كان ساعة قيام القيامة معلومة فستحل الغفلة على جميع إذا كانت بعيدة ، وبالمقابل ستكون التقوى اضطرارا والورع بعيدا عن الحرية والإختيار إذا كانت قريبة ، والأمران بطبيعتهما سيقتلان كلّ أثر تربوي مرجو.

وثمّة احتمالات اخرى قد عرضها بعض المفسّرين ، ومنها : إنّك لم تبعث لبيان وقت وقوع يوم القيامة ، وإنّما لتعلن وتبيّن وجودها (وليس لحظة وقوعها).

ومنها أيضا : إنّ قيامك وظهورك مبيّن وكاشف عن قرب وقوع يوم القيامة بدلالة ما

روي عن النبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما جمع بين سبابتيه وقال : «بعثت أنا والقيامة كهاتين»(١)

ولكنّ التّفسير الأوّل أنسب من غيره وأقرب.

وتقول الآية التالية :( إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها ) .

فالله وحده هو العالم بوقت موعدها دون غيره ولا فائدة من الخوض في معرفة ذلك.

ويؤكّد القرآن هذا المعنى في الآيتين : (٣٤) من سورة لقمان :( إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) ، وفي الآية (١٨٧) من سورة الأعراف :( قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ) .

وقيل : المراد بالآية ، تحقق القيامة بأمر الله ، ويشير هذا القول إلى بيان علّة ما

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٩ ، وذكرت ذات الموضوع في : تفاسير (مجمع البيان) ، (القرطبي) ، (في ظلال القرآن) بالإضافة لتفسير اخرى ، في ذيل الآية (١٨) من سورة محمّد.

٤٠٣

ورد في الآية السابقة ، ولا مانع من الجمع بين التّفسيرين.

وتسهم الآية التالية في التوضيح :( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها ) .

إنّما تكليفك هو دعوة الناس إلى الدين الحقّ ، وإنذار من لا يأبى بعقاب أخروي أليم ، وما عليك تعيين وقت قيام الساعة.

مع ملاحظة ، أنّ الإنذار الموجه في الآية فيمن يخاف ويخشى وعقاب الله ، هو يشابه الموضوع الذي تناولته الآية (٢) من سورة البقرة :( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .

ويشير البيان القرآني إلى أثر الدافع الذاتي في طلب الحقيقة وتحسس المسؤولية الملقاة على عاتق الإنسان أمام خالقه ، فإذا افتقد الإنسان إلى الدافع المحرك فسوف لا يبحث فيما جاءت به كتب السماء ، ولا يستقر له شأن في أمر المعاد ، بل وحتى لا يستمع لإنذارات الأنبياء والأولياءعليهم‌السلام .

وتأتي آخر آية من السورة لتبيّن أنّ ما تبقى من الوقت لحلول الوعد الحق ليس إلّا قليلا :( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها ) .

فعمر الدنيا وحياة البرزخ من السرعة في الانقضاء ليكاد يعتقد الناس عند وقوع القيامة ، بأنّ كلّ عمر الدنيا والبرزخ ما هو إلّا سويعات معدودة!

وليس ببعيد لأنّ عمر الدنيا قصير بذاته ، وليس من الصواب أن نقايس بين زمني الدنيا والآخرة ، لأنّ الفاني ليس كالباقي.

«عشيّة» : العصر. و «الضحى» : وقت انبساط الشمس وامتداد النهار.

وقد نقلت الآيات القرآنية بعض أحاديث المجرمين في يوم القيامة ، فيما يختص بمدّة لبثهم في عالم البرزخ

فتقول الآية (١٠٣) من سورة طه :( يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً ) ، و( يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً ) .

وتقول الآية (٥٥) من سورة الروم :( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما

٤٠٤

لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ) .

واختلاف تقديرات مدّة اللبث ، يرجع لاختلاف القائلين ، وكلّ منهم قد عبّر عن قصر المدّة حسب ما يتصور ، والقاسم المشترك لكلّ التقديرات هو أنّ المدّة قصيرة جدّا ويكفي طرق باب هذا الموضوع بإيقاظ الغافل من خدره.

اللهمّ! هب لنا الأمن والسلامة في العوالم الثلاث ، الدنيا والبرزخ والقيامة

يا ربّ! لا ينجو من عقاب وشدائد يوم القيامة إلّا من رحمته بلطفك ، فاشملنا بخاصة لطفك ورحمتك

إلهي! اجعلنا ممن يخاف مقامك وينهى نفسه عن الهوى ، ولا تجعل لنا غير الجنّة مأوى

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة النّازعات

* * *

٤٠٥
٤٠٦

سورة

عبس

مكيّة

وعدد آياتها اثنتان وأربعون آية

٤٠٧
٤٠٨

«سورة عبس»

محتوى السورة :

تبحث هذه السورة على قصرها مسائل مختلفة مهمّة تدور بشكل خاص حول محور المعاد ، ويمكن ادراج محتويات السورة في خمسة مواضيع أساسية.

١ ـ عتاب إلهي شديد لمن واجه الأعمى الباحث عن الحقّ بأسلوب غير لائق.

٢ ـ أهمية القرآن الكريم.

٣ ـ كفران الإنسان للنعم والمواهب الإلهية.

٤ ـ بيان جانب من النعم الإلهية في مجال تغذية الإنسان والحيوان لاثارة حسّ الشكر في الإنسان.

٥ ـ الإشارة إلى بعض الوقائع والحوادث الرهيبة ومصير المؤمنين والكفّار ذلك اليوم العظيم.

وتسمية هذه السورة بهذا الاسم بمناسبة الآية الاولى منها.

فضيلة السورة :

ورد في الحديث النّبوي الشريف أنّ : «من قرأ سورة «عبس» جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر»(١)

* * *

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٣٥.

٤٠٩

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) )

سبب النّزول

تبيّن الآيات المباركة عتاب الله تعالى بشكل إجمالي ، عتابه لشخص قدّم المال والمكانة الاجتماعية على طلب الحق أمّا من هو المعاتب؟ فقد اختلف فيه المفسّرون ، لكنّ المشهور بين عامّة المفسّرين وخاصتهم ، ما يلي :

إنّها نزلت في عبد الله بن ام مكتوم ، إنّه أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأبي واميّة بن خلف يدعوهم إلى الله ويرجو إسلامهم (فإنّ في إسلامهم إسلام جمع من أتباعهم ، وكذلك توقف عدائهم ومحاربتهم للإسلام والمسلمين) ، فقال : يا رسول الله ، أقرئني وعلمني ممّا علمك الله ، فجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره ، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله لقطعه كلامه ، وقال في

٤١٠

نفسه : يقول هؤلاء الصناديد ، إنّما أتباعه العميان والعبيد ، فأعرض عنه وأقبل على القوم الذين يكلمهم ، فنزلت الآية.

وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك يكرمه ، وإذا رآه قال : «مرحبا بمن عاتبني فيه ربّي» ، ويقول له : «هل لك من حاجة».

واستخلفه على المدينة مرّتين في غزوتين(١) .

والرأي الثّاني في شأن نزولها : ما

روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّها نزلت في رجل من بني اميّة ، كان عند النّبي ، فجاء ابن ام مكتوم ، فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه عبس وأعرض بوجهه عنه ، فحكى الله سبحانه ذلك ، وأنكره عليه»(٢) .

وقد أيّد المحقق الإسلامي الكبير الشريف المرتضى الرأي الثّاني.

والآية لم تدل صراحة على أنّ المخاطب هو شخص النّبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنّ الآيات (٨ ـ ١٠) في السورة يمكن أن تكون قرينة ، حيث تقول :( وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) ، والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خير من ينطبق عليه هذا الخطاب الربّاني.

ويحتجّ الشريف المرتضى على الرأي الأوّل ، بأنّ ما في آية( عَبَسَ وَتَوَلَّى ) لا يدل على أنّ المخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث أنّ العبوس ليس من صفاته مع أعدائه ، فكيف به مع المؤمنين المسترشدين! ووصف التصدّي للأغنياء والتلهي عن الفقراء ممّا يزيد البون سعة ، وهو ليس من أخلاقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكريمة ، بدلالة قول الله تعالى في الآية (٤) من سورة (ن) ، والتي نزلت قبل سورة عبس ، حيث وصفه الباري :( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) .

وعلى فرض صحة الرأي الأوّل في شأن النزول ، فإنّ فعل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحال هذه لا يخرج من كونه (تركا للأولى) ، وهذا ما لا ينافي العصمة ،

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٣٧.

(٢) المصدر السابق.

٤١١

وللأسباب التالية :

أوّلا : على فرض صحة ما نسب إلى النّبي في إعراضه عن الأعمى وإقباله على شخصيات قريش ، فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفعله ذلك لم يقصد سوى الإسراع في نشر الإسلام عن هذا الطريق ، وتحطيم صف أعدائه.

ثانيا : إنّ العبوس أو الانبساط مع الأعمى سواء ، لأنّه لا يدرك ذلك ، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ «عبد الله بن ام مكتوم» لم يراع آداب المجلس حينها ، حيث أنّه قاطع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرارا في مجلسه وهو يسمعه يتكلم مع الآخرين ، ولكن بما أنّ الله تعالى يهتم بشكل كبير بأمر المؤمنين المستضعفين وضرورة اللطف معهم واحترامهم فإنّه لم يقبل من رسوله هذا المقدار القليل من الجفاء وعاتبه من خلال تنبيهه على ضرورة الاعتناء بالمستضعفين ومعاملتهم بكل لطف ومحبّة.

ويمثل هذا السياق دليلا على عظمة شأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالقرآن المعجز قد حدد لنبيّ الإسلام الصادق الأمين أرفع مستويات المسؤولية ، حتى عاتبه على أقل ترك للأولى (عدم اعتنائه اليسير برجل أعمى) ، وهو ما يدلل على أنّ القرآن الكريم كتاب إلهي وأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صادق فيه ، حيث لو كان الكتاب من عنده (فرضا) فلا داعي لاستعتاب نفسه

ومن مكارم خلقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما ورد في الرواية المذكورة ـ إنّه كان يحترم عبد الله بن ام مكتوم ، وكلما رآه تذكر العتاب الرّباني له.

وقد ساقت لنا الآيات حقيقة أساسية في الحياة للعبرة والتربية والاستهداء بها في صياغة مفاهيمنا وممارستنا ، فالرجل الأعمى الفقير المؤمن أفضل من الغني المتنفذ المشرك ، وأنّ الإسلام يحمي المستضعفين ولا يعبأ بالمستكبرين.

ونأتي لنقول ثانية : إنّ المشهور بين المفسّرين في شأن النّزول ، هو نزولها في شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن ليس في الآية ما يدل بصراحة على هذا المعنى.

* * *

٤١٢

التّفسير

عتاب ربّاني!

بعد أن تحدثنا حول شأن نزول الآيات ، ننتقل إلى تفسيرها :

يقول القرآن أولا :( عَبَسَ وَتَوَلَّى ) .

لماذا؟ :( أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى ) .

( وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ) ، ويطلب الإيمان والتقوى والتزكية.

( أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى ) ، فإن لم يحصل على التقوى ، فلا أقل من أن يتذكر ويستيقظ من الغفلة ، فتنفعه ذلك(١) .

ويستمر العتاب :( أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى ) ، من اعتبر نفسه غنيا ولا يحتاج لأحد.

( فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ) ، تتوجّه إليه ، وتسعى في هدايته ، في حين أنّه مغرور لما أصابه من الثروة والغرور يولد الطغيان والتكبر ، كما أشارت لهذا الآيتان (٦ و٧) من سورة العلق :( ... إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ) .(٢)

( وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ) ، أي في حين لو لم يسلك سبيل التقوى والإيمان ، فليس عليك شيء.

فوظيفتك البلاغ ، سواء أمن السامع أم لم يؤمن ، وليس لك أن تهمل الأعمى الذي يطلب الحقّ ، وإن كان هدفك أوسع ليشمل هداية كلّ أولئك الأغنياء المتحجرين.

__________________

(١) والفرق بين الآية والتي قبلها ، هو أنّ الحديث قد جرى حول التزكية والتقوى الكاملة ، في حين أنّ الحديث في الآية المبحوثة يتناول تأثير التذكر الإجمالي ، وإن لم يصل إلى مقام التقوى الكاملة ، وستكون النتيجة استفادة الأعمى المستهدي من التذكير ، سواء كانت الفائدة تامّة أم مختصرة. وقيل : إنّ الفرق بين الآيتين ، هو أنّ الأولى تشير إلى التطهير من المعاصي ، والثانية تشير إلى كسب الطاعات وإطاعة أمر الله عزوجل. والأوّل يبدو أقرب للصحة.

(٢) يقول الراغب في مفرداته : (غنى واستغنى وتغنى وتغانى) بمعنى واحد ، ويقول في (تصدّى) : إنّها من (الصدى) ، أي الصوت الراجع من الجبل.

٤١٣

وتأتي العتاب مرّة اخرى تأكيدا :( وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى ) ، في طلب الهداية

( وَهُوَ يَخْشى ) (١) ، فخشيته من الله هي التي دفعته للوصول إليك ، كي يستمع إلى الحقائق ليزكّي نفسه فيها ، ويعمل على مقتضاها.

( فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) (٢) .

ويشير التعبير بـ «أنت» إلى أنّ التغافل عن طالبي الحقيقة ، ومهما كان يسيرا ، فهو ليس من شأن من مثلك ، وإن كان هدفك هداية الآخرين ، فبلحاظ الأولويات ، فإنّ المستضعف الظاهر القلب والمتوجه بكلّه إلى الحقّ ، هو أولى من كلّ ذلك الجمع المشرك.

وعلى أيّة حال : فالعتاب سواء كان موجه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو إلى غيره ، فقد جاء ليكشف عن اهتمام الإسلام أو القرآن بطالبي الحق ، والمستضعفين منهم بالذات.

وعلى العكس من ذلك حدّة وصرامة موقف الإسلام والقرآن من الأثرياء المغرورين إلى درجة أنّ الله لا يرضى بإيذاء رجل مؤمن مستضعف.

وعلّة ذلك ، إنّ الطبقة المحرومة من الناس تمثل : السند المخلص للإسلام دائما الأتباع الأوفياء لأئمّة دين الحق ، المجاهدين الصابرين في ميدان القتال والشهادة ، كما تشير إلى هذا المعنى رسالة أمير المؤمنينعليه‌السلام لمالك الأشتر : «وإنّما عماد الدين وجماع المسلمين والعدّة للأعداء العامّة من الأئمّة ، فليكن صغوك لهم وميلك معهم»(٣) .

* * *

__________________

(١) يراد بالخشية هنا : الخوف من الله تعالى ، الذي يدفع الإنسان ليتحقق بعمق وصولا لمعرفته جلّ اسمه ، وكما يعبر المتكلمون عنه بـ وجوب معرفة الله بدليل دفع الضرر المحتمل. واحتمل الفخر الرازي : يقصد بالخشية ، الخوف من الكفّار ، أو الخوف من السقوط على الأرض لفقدانه البصر. وهذا بعيد جدّا.

(٢) «التلهي» : من (اللهو). ويأتي هنا بمعنى الغفلة عنه والاستغفال بغيره ، ليقف في قبال «التصّدي».

(٣) نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

٤١٤

الآيات

( كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) )

التّفسير

تأتي هذه الآيات المباركة لتشير إلى أهمية القرآن وطهارته وتأثيره في النفوس ، بعد أن تناولت الآيات التي سبقتها موضوع (الإعراض عن الأعمى الذي جاء لطلب الحق) ، ، فتقول( كَلَّا ) فلا ينبغي لك أن تعيد الكرّة ثانية.

( إِنَّها تَذْكِرَةٌ ) ، إنّما الآيات القرآنية تذكرة للعباد ، فلا ينبغي الإعراض عن المستضعفين من ذوي القلوب النقية الصافية والتوجه إلى المستكبرين ، أولئك الذين ملأ الغرور نفوسهم المريضة.

ويحتمل أيضا ، كون الآيات ،( كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ ) جواب لجميع التهم الموجهة ضد القرآن من قبل المشركين وأعداء الإسلام.

٤١٥

وفتقول الآية : إنّ الأباطيل والتهم الزائفة التي افتريتم بها على القرآن من كونه شعر أو سحر أو نوع من الكهانة ، لا يمتلك من الصحة شيئا ، وإنّما الآيات القرآنية آيات تذكرة وإيمان ، ودليلها فيها ، وكلّ من اقترب منها سيجد أثر ذلك في نفسه (ما عدا المعاندين).

وتشير الآية التالية إلى اختيارية الهداية والتذكّر :( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) (١) .

نعم ، فلا إجبار ولا إكراه في تقبل الهدي الرّباني ، فالآيات القرآنية مطروحة وأسمعت كلّ الآذان ، وما على الإنسان إلّا أن يستفيد منها أو لا يستفيد.

ثمّ يضيف : أنّ هذه الكلمات الإلهية الشريفة مكتوبة في صحف (ألواح وأوراق) :( فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ) .

«الصحف» : جمع (صحيفة) بمعنى اللوح أو الورقة ، أو أيّ شيء يكتب عليه.

فالآية تشير إلى أنّ القرآن قد كتب على ألواح من قبل أن ينزّل على النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصلت إليه بطريق ملائكة الوحي ، والألواح بطبيعتها جليلة القدر وعظيمة الشأن.

وسياق الآية وارتباطها مع ما سبقها من آيات وما سيليها : لا ينسجم مع ما قيل من أنّ المقصود بالصحف هنا هو ، كتب الأنبياء السابقين.

وكذا الحال بالنسبة لما قيل من كون «اللوح المحفوظ» ، لأنّ «اللوح والمحفوظ» لا يعبر عنه بصيغة الجمع ، كما جاء في الآية : «صحف».

وهذه الصحف المكرمة :( مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ) .

فهي مرفوعة القدر عند الله ، وأجلّ من أن تمتد إليها أيدي العابثين وممارسات المحرّفين ، ولكونها خالية من قذارة الباطل ، فهي أطهر من أن تجد فيها أثرا لأيّ تناقض أو تضاد أو شك أو شبهة.

__________________

(١) يعود ضمير : «ذكره» إلى ما يعود إليه ضمير «إنّها» ، وسبب اختلاف الصيغة بين الضميرين هو أنّ ضمير «إنّها» يرجع إلى الآيات القرآنية ، و «ذكره» إلى القرآن ، فجاء الأوّل مؤنثا والثّاني مذكرا.

٤١٦

وهي كذلك :( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ) ، سفراء من الملائكة.

وهؤلاء السفراء :( كِرامٍ بَرَرَةٍ ) .

«سفرة» : جمع (سافر) من (سفر) على وزن (قمر) ، ولغة : بمعنى كشف الغطاء عن الشيء ، ولذا يطلق على الرسول ما بين الأقوام (السفير) لأنّه يزيل ويكشف الوحشة فيما بينهم ، ويطلق على الكاتب اسم (السافر) ، وعلى الكتاب (سفر) لما يقوم به من كشف موضوع ما وعليه فالسفرة هنا ، بمعنى : الملائكة الموكلين بإيصال الوحي الإلهي إلى النّبي ، أو الكاتبين لآياته.

وقيل : هم حفّاظ وقرّاء وكتّاب القرآن والعلماء ، الذين يحافظون على القرآن من أيدي العابثين وتلاعب الشياطين في كلّ عصر ومصر.

ويبدو هذا القول بعيدا ، لأنّ الحديث في الآيات كان يدور حول زمان نزول الوحي على صدر الحبيب المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليس عن المستقبل.

وما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، في وقوله : «الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة»(١) . بجعل الحافظين للقرآن العاملين به في درجة السفرة الكرام البررة ، فليسوا هم السفرة بل في مصافهم ، لأنّ جلالة مقام حفظهم وعملهم ، يماثل ما يؤديه حملة الوحي الإلهي.

ونستنتج من كلّ ما تقدم : بأنّ من يسعى في حفظ القرآن وإحياء مفاهيمه وأحكامه ممارسة ، فله من المقام ما للكرام البررة.

«كرام» : جمع (كريم) ، بمعنى العزيز المحترم ، وتشير كلمة «كرام» في الآية إلى عظمة ملائكة الوحي عند الله وعلو منزلتهم.

وقيل : «كرام» : إشارة إلى طهارتهم من كلّ ذنب ، بدلالة الآيتين (٢٦ و٢٧) من سورة الأنبياء :( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٣٨.

٤١٧

«بررة» : جمع (بار) ، من (البرّ) ، بمعنى التوسع ، ولذا يطلق على الصحراء الواسعة اسم (البر) ، كما يطلق على الفرد الصالح اسم (البار) لوسعة خير وشمول بركاته على الآخرين.

و «البررة» : في الآية ، بمعنى : إطاعة الأمر الإلهي ، والطهارة من الذنوب.

ومن خلال ما تقدم تتوضح لنا ثلاث صفات للملائكة.

الاولى : إنّهم «سفرة» حاملين وحيه جلّ شأنه.

الثّانية : إنّهم أعزاء ومكرمون.

الثالثة : طهرة أعمالهم عن كلّ تقاعس أو مفسدة.

وعلى الرغم من توفير مختلف وسائل الهداية إلى الله ، ومنها ما في صحف المكرمة من تذكير وتوجيه ولكنّ الإنسان يبقى عنيدا متمردا :( قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ) (١) .

«الكفر» : في هذا الموضوع قد يحتمل على ثلاثة معان عدم الإيمان ، الكفران وعدم الشكر جحود الحق وستره بأيّ غطاء كان وعلى كلّ المستويات ، وهو المعنى الجامع والمناسب للآية ، لأنّها تعرضت لأسباب الهداية والإيمان ، فيما تتحدث الآيات التي تليها عن بيان النعم الإلهية التي لا تعد ولا تحصى.

( قُتِلَ الْإِنْسانُ ) : كناية عن شدّة غضب الباري جلّ وعلا ، وزجره لمن يكفر بآياته.

ثمّ يتعرض البيان القرآني إلى غرور الإنسان الواهي ، والذي غالبا ما يوقع صاحبه في هاوية الكفر والجحود السحيقة :( مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) ؟

__________________

(١) «قتل الإنسان» : نوع من اللعن ، وهو أشدّها عن الزمخشري في (الكشاف). «ما» ، في «ما أكفره» : للتعجب ، التعجب من السير في متاهات الكفر والضلال ، مع ما للحق من سبيل واضحة ، وتوفير مختلف مصاديق واللطف والرحمة والرّبانية التي توصل الإنسان إلى شاطئ النجاة.

٤١٨

لقد خلقه من نطفة قذرة حقيرة ، ثمّ صنع منه مخلوقا موزونا مستويا قدّر فيه جميع أموره في مختلف مراحل حياته :( مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ) .

فلم لا يتفكر الإنسان بأصل خلقته؟!

لم ينسى تفاهة مبدأه؟!

ألّا يجدر به أن يتأمل في قدرة الباري سبحانه ، وكيف جعله موجودا بديع الهيئة والهيكل من تلك النطفة الحقيرة القذرة!! ألا يتأمل!!

فالنظرة الفاحصة الممعنة في خلق الإنسان من نطفة قذرة وتحويله إلى هيئته التامّة المقدرة من كافة الجهات ، ومع ما منحه الله من مواهب واستعدادات لأفضل دليل يقودنا بيسر إلى معرفته جلّ اسمه.

«قدّره» : من (التقدير) ، وهو الحساب في الشيء وكما بات معلوما أنّ أكثر من عشرين نوعا من الفلزات وأشباه الفلزات داخلة في التركيب (البيولوجي) للإنسان ، ولكلّ منها مقدارا معينا ومحسوبا بدقّة متناهية من حيث الكمية الكيفية ، بل ويتجاوز التقدير حدّ البناء الطبيعي للبدن ليشمل حتى الاستعدادات والغرائز والميول المودعة في الإنسان الفرد ، بل وفي المجموع العام للبشرية ، وقد وضع الحساب في مواصفات تكوينية ليتمكن الإنسان بواسطتها من الوصول إلى السعادة الإنسانية المرجوة.

وتتجلّى عظمة تقدير الخالق سبحانه في تلك النطفة الحقيرة القذرة التي تتجلّى بأبهى صورها جمالا وجلالا ، حيث لو جمعنا الخلايا الأصلية للإنسان (الحيامن) لجميع البشر ، ووضعناها في مكان واحد ، لكانت بمقدار حمصة! نعم

فقد أودعت في هذا المخلوق العاقل الصغير كلّ هذه البدائع والقابليات.

وقيل : التقدير بمعنى التهيئة.

وثمّة احتمال آخر ، يقول التقدير بمعنى إيجاد القدرة في هذه النطفة المتناهية في الصغر.

٤١٩

فما أجلّ الإله الذي الذي جعل في موجود ضعيف كلّ هذه القدرة والاستطاعة ، فترى النطفة بعد أن تتحول إلى الإنسان تسير وتتحرك بين أقطار السماوات والأرض ، وتغوص في أعماق البحار وقد سخرت لها كلّ ما يحيط بها من قوى(١) .

ولا مانع من الأخذ بالتفاسير الثلاث جملة واحدة.

ويستمر القرآن في مشوار المقال :( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) يسّر له طريق تكامله حينما كان جنينا في بطن امّه ، يسّر له سبيل خروجه إلى الحياة من ذلك العالم المظلم.

ومن عجيب خلق الإنسان أنّه قبل خروجه من بطن امّه يكون على الهيئة التالية : رأسه إلى الأعلى ورجليه إلى الأسفل ، ووجهه متجها صوب ظهر امّه ، وما أن تحين ساعة الولادة حتى تنقلب هيئة فيصبح رأسه إلى الأسفل كي تسهل وتتيسّر ولادته! وقد تشذ بعض حالات لولادة ، بحيث يكون الطفل في بطن امّه في هيئة مغايرة للطبيعة ، ممّا تسبب كثير من السلبيات على وضع الام عموما.

وبعد ولادته : يمرّ الإنسان في مرحلة الطفولة التي تتميز بنموه الجسمي ، ثمّ مرحلة نمو الغرائز ، فالرشد في مسير الهداية الايمانية والروحية ، ويساهم العقل ودعوة الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام في تركيز معالم شخصية وبناء الإنسان ورحيا وإيمانيا.

وبلاغة بيان القرآن قد جمعت كلّ ذلك في جملة واحدة :( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) .

والملفت للنظر أنّ الآية المباركة تؤكّد على حرية اختيار الإنسان حين قالت أنّ الله تعالى يسّر وسهّل له الطريق الى الحق ، ولم تقل أنّه تعالى أجبره على

__________________

(١) يقول الراغب في مفردات : «قدّره» (بالتشديد) : أعطاه القدرة ، ويقال : قدّرني الله على كذا وقواني عليه».

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459