الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 165994
تحميل: 8430


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 165994 / تحميل: 8430
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عَذَابٌ أَلِيمٌ ) إبراهيم - ٢٢، وقوله تعالى:( اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ) البقرة - ٢٥٧، وأمثالها كثيرةٌ على إختلاف فنونها.

ويلحق بهذا القسم نوع آخر من الآيات كقوله تعالى:( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) فإنّ الآية دعت إلى ترك الأسى والفرح بأنّ الّذي أصابكم ما كان ليخطئكم وما أخطأكم ما كان ليصيبكم لاستناد الحوادث إلى قضاء مقضىّ وقدر مقدّر، فالأسى والفرح لغوٌ لا ينبغي صدوره من مؤمن يؤمن بالله الّذي بيده أزمّة الاُمور كما يشير إليه قوله تعالى:( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ) فهذا القسم من الآيات أيضاً نظير القسم السابق الّذي يتسبّب فيه إلى إصلاح الأخلاق بالغايات الشريفة الاُخرويّة، وهي كمالات حقيقيّة غير ظنيّة يتسبّب فيه إلى إصلاح الأخلاق بالمبادئ السابقة الحقيقيّة من القدر والقضاء والتخلّق بأخلاق الله والتذكّر بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا ونحو ذلك.

فإن قلت: التسبّب بمثل القضاء والقدر يوجب بطلان أحكام هذه النشأة الاختياريّة وفي ذلك بطلان الأخلاق الفاضلة واختلال نظام هذه النشأة الطبيعيّة، فإنّه لو جاز الاستناد في إصلاح صفة الصبر والثبات وترك الفرح والأسى كما استفيد من الآية السابقة إلى كون الحوادث مكتوبة في لوح محفوظ، ومقضيّة بقضاء محتوم أمكن الاستناد إلى ذلك في ترك طلب الرزق، وكسب كلّ كمال مطلوب، والاتّقاء عن كلّ رذيلة خلقيّة وغير ذلك، فيجوز حينئذ أن نقعد عن طلب الرزق، والدفاع عن الحقّ، ونحو ذلك بأنّ الّذي سيقع منه مقضيّ مكتوب، وكذا يجوز أن نترك السعي في كسب كلّ كمال، وترك كلّ نقصٍ بالاستناد إلى حتم القضاء وحقيقة الكتاب، وفي ذلك بطلان كلّ كمالٍ.

قلت: قد ذكرنا في البحث عن القضاء، ما يتّضح به الجواب عن هذا الإشكال: فقد ذكرنا ثمّ أنّ الأفعال الإنسانيّة من أجزاء علل الحوادث، ومن المعلوم أنّ المعاليل

٣٦١

والمسبّبات يتوقّف وجودها على وجود أسبابها وأجزاء أسبابها، فقول القائل: إنّ الشبع إمّا مقضيّ الوجود، وإمّا مقضيّ العدم، وعلى كلّ حال فلا تأثير للأكل غلطٌ فاحش، فإنّ الشبع فرض تحقّقه في الخارج لا يستقيم إلّا بعد فرض تحقّق الأكل الاختياريّ الّذي هو أحد أجزاء علله، فمن الخطاء أن يفرض الإنسان معلولاً من المعاليل، ثمّ يحكم بإلغاء علله أو شئ من أجزاء علله.

فغير جايز أن يبطل الإنسان حكم الاختيار الّذي عليه مدار حياته الدنيويّة وإليه تنتسب سعادته وشقاؤة، وهو أحد أجزاء علل الحوادث الّتي تلحق وجوده من أفعاله أو الأحوال والملكات الحاصلة من أفعاله، غير أنّه كما لا يجوز له إخراج إرادته واختياره من زمرة العلل، وإبطال حكمه في التأثير، كذلك لا يجوز له أن يحكم بكون اختياره سبباً وحيداً، وعلّة تامّة إليه تستند الحوادث، من غير أن يشاركه شئ آخر من أجزاء العالم والعلل الموجودة فيه الّتي في رأسها الإرادة الإلهيّة فإنّه يتفرّع عليه كثير من الصفات المذمومة كالعجب والكبر والبخل، والفرح والأسى، والغمّ ونحو ذلك.

يقول الجاهل: أنا الّذي فعلت كذا وتركت كذا فيعجب بنفسه أو يستكبر على غيره أو يبخل بماله - وهو جاهلٌ بأنّ بقيّة الأسباب الخارجة عن اختياره الناقص، وهي اُلوف واُلوف لو لم يمهّد له الأمر لم يسدّ اختياره شيئاً، ولا أغني عن شئ - يقول الجاهل: لو أنّي فعلت كذا لما تضرّرت بكذا، أو لما فات عنّي كذا، وهو جاهلٌ بأنّ هذا الفوت أو الموت يستند عدمه - أعني الربح أو العافية، أو الحياة - إلى اُلوف واُلوف من العلل يكفي في انعدامها - أعني في تحقّق الفوات أو الموت - انعدام واحد منها، وإن كان اختياره موجوداً، على أنّ نفس اختيار الإنسان مستندٌ إلى علل كثيرة خارجة عن اختيار الإنسان فالاختيار لا يكون بالاختيار.

فإذا عرفت ما ذكرنا وهو حقيقةٌ قرآنيّةٌ يعطيها التعليم الإلهيّ كما مرّ، ثمّ تدبّرت في الآيات الشريفة الّتي في المورد وجدت أنّ القرآن يستند إلى القضاء المحتوم والكتاب المحفوظ في إصلاح بعض الأخلاق دون بعض.

فما كان من الأفعال أو الأحوال والملكات يوجب استنادها إلى القضاء والقدر إبطال

٣٦٢

حكم الاختيار فإنّ القرآن لا يستند إليه، بل يدفعه كلّ الدفع كقوله تعالى:( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) الأعراف - ٢٨.

وما كان منها يوجب سلب استنادها إلى القضاء إثبات استقلال اختيار الإنسان في التّأثير، وكونه سبباً تامّاً غير محتاج في التأثير، ومستغنياً عن غيره، فإنّه يثبت إستناده إلى القضاء ويهدي الإنسان إلى مستقيم الصراط الّذي لا يخطئ بسالكه، حتّى ينتفي عنه رذائل الصفات الّتي تتبعه كإسناد الحوادث إلى القضاء كي لا يفرح الإنسان بما وجده جهلاً، ولا يحزن بما فقده جهلاً كما في قوله تعالى:( وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) النور - ٣٣، فإنّه يدعو إلى الجود بإسناد المال إلى إيتاء الله تعالى، وكما في قوله تعالى:( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) البقرة - ٣، فإنّه يندب إلى الإنفاق بالاستناد إلى أنّه من رزق الله تعالى، وكما في قوله تعالى:( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) الكهف - ٧، نهى رسوله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) عن الحزن والغمّ استناداً إلى أن كفرهم ليس غلبة منهم على الله سبحانه بل ما على الأرض من شئ اُمورٌ مجعولةٌ عليها للابتلاء والامتحان إلى غير ذلك.

وهذا المسلك أعنى الطريقة الثانية في إصلاح الأخلاق طريقة الأنبياء، ومنه شئ كثير في القرآن، وفيما ينقل إلينا من الكتب السماويّة.

وهيهنا مسلك ثالث مخصوص بالقرآن الكريم لا يوجد في شئ ممّا نقل إلينا من الكتب السماويّة، وتعاليم الأنبياء الماضين سلام الله عليهم أجمعين، ولا في المعارف المأثورة من الحكماء الإلهيّين، وهو تربية الإنسان وصفاً وعلماً باستعمال علوم ومعارف لا يبقى معها موضوع الرذائل، وبعبارة أخرى إزالة الأوصاف الرذيلة بالرفع لا بالدفع.

وذلك كما أنّ كلّ فعل يراد به غير الله سبحانه فالغاية المطلوبة منه إمّا عزّة في المطلوب يطمع فيها، أو قوّة يخاف منها ويحذر عنها، لكنّ الله سبحانه يقول:( إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ) يونس - ٦٥، ويقول:( أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ) البقرة - ١٦٥، والتحقّق بهذا العلم الحقّ لا يبقى موضوعاً لرياء، ولا سمعة، ولا خوفاً من غير الله، ولا رجاء لغيره، و

٣٦٣

لا ركون إلى غيره، فهاتان القصيّتان إذا صارتا معلومتين للإنسان تغسلان كلّ ذميمة وصفاً أو فعلاً عن الإنسان وتحلّيان نفسه بحلية ما يقابلها من الصفات الكريمة الإلهيّة من التقوى بالله، والتعزّز بالله وغيرهما من مناعة وكبرياء واستغناء وهيبة إلهيّة ربّانيّة.

وأيضاً قد تكرّر في كلامه تعالى: أنّ الملك لله، وأنّ له ملك السماوات والأرض وأنّ له ما في السماوات والأرض وقد مرّ بيانه مراراً، وحقيقة هذا الملك كما هو ظاهر لا تبقى لشئ من الموجودات استقلالاً دونه، واستغناءً عنه بوجه من الوجوه، فلا شئ إلّا وهو سبحانه المالك لذاته ولكلّ ما لذاته، وإيمان الإنسان بهذا الملك وتحقّقه به يوجب سقوط جميع الأشياء ذاتاً ووصفاً وفعلاً عنده عن درجة الاستقلال، فهذا الإنسان لا يمكنه أن يريد غير وجهه تعالى، ولا أن يخضع لشئ، أو يخاف أو يرجو شيئاً، أو يلتذّ أو يبتهج بشئ، أو يركن إلى شئ أو يتوكّل على شئ أو يسلّم لشئ أو يفوّض إلى شئ، غير وجهه تعالى. وبالجملة لا يريد ولا يطلب شيئاً إلّا وجهه الحقّ الباقي بعد فناء كلّ شئ، ولا يعرض إعراضاً ولا يهرب إلّا عن الباطل الّذي هو غيره الّذي لا يرى لوجوده وقعاً ولا يعبأ به قبال الحقّ الّذي هو وجود باريه جلّ شأنه.

وكذلك قوله تعالى:( اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ) طه - ٨، وقوله:( ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) الأنعام - ١٠٢، وقوله:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) السجدة - ٧، وقوله:( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) طه - ١١١، وقوله:( كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) البقرة - ١١٦، وقوله:( وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) الإسراء - ٢٣، وقوله:( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) فصّلت - ٥٣، وقوله:( أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ) فصّلت - ٥٤، وقوله:( وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ ) النجم - ٤٢.

ومن هذا الباب الآيات الّتي نحن فيها وهي قوله تعالى:( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) إلى آخرها فإنّ هذه الآيات وأمثالها مشتملة على معارف خاصّة إلهيّة ذات نتائج خاصّة حقيقيّة لا تشابه تربيتها نوع التربية الّتي يقصدها حكيم أخلاقيّ في فنّه. ولا نوع التربية الّتي سنّها الأنبياء في شرائعهم، فإنّ المسلك الأوّل كما عرفت مبنيّ على العقائد العامّة الاجتماعيّة

٣٦٤

في الحسن والقبح والمسلك الثاني مبنيّ على العقائد العامّة الدينيّة في التكاليف العبوديّة ومجازاتها، وهذا المسلك الثالث مبنيّ على التوحيد الخالص الكامل الّذي يختصّ به الإسلام على مشرّعه وآله أفضل الصلاة هذا.

فإنّ تعجب فعجب قول بعض المستشرقين من علماء الغرب في تاريخه الّذي يبحث فيه عن تمدّن الإسلام وحاصله: أنّ الّذي يجب للباحث أن يعتني به هو البحث عن شؤن المدنيّة الّتي بسطتها الدعوة الدينيّة الإسلاميّة بين الناس من متّبعيها، والمزايا والخصائص الّتي خلّفها و ورّثها فيهم من تقدّم الحضارة وتعالي المدنيّة، وأمّا المعارف الدينيّة الّتي يشتمل عليه الإسلام فهي موادّ أخلاقيّة يشترك فيها جميع النبوّات، ويدعو إليها جميع الأنبياء هذا.

وأنت بالإحاطة بما قدّمناه من البيان تعرف سقوط نظره، وخبط رأيه فإنّ النتيجة فرع لمقدّمتها، والآثار الخارجيّة المترتّبة على التربية إنّما هي مواليد ونتائج لنوع العلوم والمعارف الّتي تلقّاها المتعلّم المتربّي، وليسا سواءً قول يدعو إلى حقّ نازل وكمال متوسّط وقول يدعو إلى محض الحقّ وأقصى الكمال، وهذا حال هذا المسلك الثالث، فأوّل المسالك يدعو إلى الحقّ الاجتماعيّ، وثانيها يدعو إلى الحقّ الواقعيّ والكمال الحقيقيّ الّذي فيه سعادة الإنسان في حياتة لآخرة، وثالثها يدعو إلى الحقّ الّذي هو الله، ويبني تربيته على أنّ الله سبحانه واحدٌ لا شريك له، وينتج العبوديّة المحضة، وكم بين المسالك من فرق !

وقد أهدى هذا المسلك إلى الاجتماع الإنسانيّ جمّاً غفيراً من العباد الصالحين، والعلماء الربّانيّين، والأولياء المقرّبين رجالاً ونساء، وكفى بذلك شرفاً للدين.

على أنّ هذا المسلك ربّما يفترق عن المسلكين الأخيرين بحسب النتائج، فإنّ بنائه على الحبّ العبوديّ، وايثار جانب الربّ على جانب العبد. ومن المعلوم أنّ الحبّ والوله والتيم ربّما يدلّ الإنسان المحبّ على اُمور لا يستصوبه العقل الاجتماعيّ الّذي هو ملاك أخلاق الاجتماعيّة، أو الفهم العامّ العاديّ الّذي هو أساس التكاليف العامّة الدينيّة، فللعقل أحكامٌ، وللحبّ أحكام، وسيجئ توضيح هذا المعنى في بعض الأبحاث الآتية إنشاء الله تعالى.

٣٦٥

قوله تعالى: ( أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) الآية. التدبّر في الآية يعطي أنّ الصلاة غير الرحمة بوجه، ويشهد به جمع الصلاة وإفراد الرحمة وقد قال تعالى:( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ) الاحزاب - ٤٣، والآية تفيد كون قوله:( وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ) ، في موقع العلّة لقوله: هو الّذي يصلّي عليكم، والمعنى أنّه إنّما يصلّي عليكم، وكان من اللّازم المترقّب ذلك، لأنّ عادته جرت على الرحمة بالمؤمنين، وأنتم مؤمنون فكان من شأنكم أن يصلّي عليكم حتّى يرحمكم، فنسبة الصلاة إلى الرحمة نسبة المقدّمة إلى ذيها وكالنسبة الّتي بين الالتفات والنظر، والّتى بين الالقاء في النار والإحراق مثلاً، وهذا يناسب ما قيل في معنى الصلاة: أنّها الانعطاف والميل، فالصلاة من الله سبحانه إنعطاف إلى العبد بالرحمة ومن الملائكة إنعطاف إلى الإنسان بالتوسّط في إيصال الرحمة، ومن المؤمنين رجوع ودعاءٌ بالعبوديّة وهذا لا ينافي كون الصلاة بنفسها رحمة ومن مصاديقها، فإنّ الرحمة في القرآن على ما يعطيه التدبّر في مواردها هي العطيّة المطلقة الإلهيّة، والموهبة العامّة الربّانيّة، كما قال تعالى:( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) الأعراف - ١٥٦، وقال تعالى:( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ) الأنعام - ١٣٣، فالإذهاب لغناه والاستخلّف والإنشاء لرحمتة، وهما جميعاً يستندان إلى رحمته كما يستندان إلى غناه فكلّ خلق وأمر رحمةٌ، كما أنّ كلّ خلق وأمر عطيّة تحتاج إلى غني، قال تعالى:( وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ) الاسراء - ٢٠، وإن عطيّته الصلاة فهي أيضاً من الرحمة غير أنّها رحمةٌ خاصّة، ومن هنا يمكن أن يوجّه جمع الصلاة وإفراد الرحمة في الآية.

قوله تعالى: ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) كأنّه بمنزلة النتيجة لقوله: أولئك عليهم صلواتٌ من ربّهم ورحمة، ولذلك جدّد اهتدائهم جملة ثانية مفصولة عن الاُولى، ولم يقل: صلوات من ربّهم ورحمةٌ وهدايةٌ، ولم يقل: واولئك هم المهديّون بل ذكر قبولهم للهداية بالتعبير بلفظ الاهتداء الّذي هو فرع مترتّب على الهداية، فقد تبيّن

٣٦٦

أنّ الرحمة هدايتهم إليه تعالى، والصلوات كالمقدّمات لهذه الهداية واهتدائهم نتيجة هذه الهداية، فكلّ من الصلاة والرحمة والاهتداء غير الآخر وإن كان الجميع رحمةً بنظر آخر.

فمثل هؤلاء المؤمنين في ما يخبره الله من كرامته عليهم مثل صديقك تلقاه وهو يريد دارك، ويسأل عنها يريد النزول بك فتلّقاه بالبشر والكرامة، فتورده مستقيم الطريق وأنت معه تسيّره، ولا تدعه يضلّ في مسيره حتّى تورده نُزله من دارك وتعاهده في الطريق بمأكله ومشربه، وركوبه وسيره، وحفظه من كلّ مكروه يصيبه فجميع هذه الاُمور إكرام واحدٌ لأنّك إنّما تريد إكرامه، وكلّ تعاهد تعاهدٌ وإكرامٌ خاصّ والهداية غير الإكرام، وغير التعاهد، وهو مع ذلك إكرامٌ فكلّ منها تعاهد وكلّ منها هداية وكل منها إكرام خاصّ، والجميع إكرامٌ، فالإكرام الواحد العامّ بمنزلة الرحمة والتعاهدات في كلّ حين بمنزلة الصلوات، والنزول في الدار بمنزلة الاهتداء.

والإتيان بالجملة الاسميّة في قوله: واُولئك هم المهتدون، والابتداء باسم الإشاره الدالّ على البعيد، وضمير الفصل ثانياً وتعريف الخبر بلام الموصول في قوله: المهتدون كلّ ذلك لتعظيم أمرهم وتفخيمه - والله أعلم -.

( بحث روائي)

في البرزخ وحياة الروح بعد الموت

في تفسير القمّيّ عن سويد بن غفلة عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام قال: إنّ ابن آدم إذا كان في آخر يوم من الدنيا، وأوّل يوم من الآخرة مثّل له ماله وولده وعمله، فيلتفت إلى ماله فيقول: والله إنّي كنت عليك لحريصاً شحيحاً، فما لي عندك ؟ فيقول: خذ منّي كفنك، ثمّ يلتفت إلى ولده فيقول: والله إنّي كنت لكم لمحبّاً، وإنّي كنت عليكم لحامياً، فما ذا لي عندكم ؟ فيقولون: نؤدّيك إلى حفرتك ونواريك فيها، ثمّ يلتفت إلى عمله فيقول: والله إنّي كنت فيك لزاهداً، وإنّك كنت عليّ لثقيلاً، فما ذا عندك ؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك، ويوم حشرك، حتّى أعرض أنا وأنت على ربّك، فإن

٣٦٧

كان لله وليّاً أتاه أطيب الناس ريحاً وأحسنهم منظراً، وأزينهم رياشاً، فيقول: بشّر بروح من الله وريحان وجنّة نعيم، قد قدمت خير مقدّم، فيقول: من أنت ؟ فيقول: أنا عملك الصالح، ارتحل من الدنيا إلى الجنّة، وإنّه ليعرف غاسلة، ويناشد حامله أن يعجّله. فإذا دخل قبره أتاه ملكان، وهما فتّانا القبر، يحبّران أشعارهما، ويحبّران الأرض بأنيابهما، وأصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق الخاطف، فيقولان له: من ربّك، ومن نبيّك ؟ وما دينك ؟ فيقول: الله ربّي، ومحمّد نبيّي، والإسلام ديني، فيقولان: ثبّتك الله فيما تحبّ وترضى، وهو قول الله: يثبّت الله الّذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا الآية، فيفسحان له في قبره مدّ بصره، ويفتحان له باباً إلى الجنّة، ويقولان: نم قرير العين نوم الشابّ الناعم، وهو قوله: أصحاب الجنّة يومئذ خيرٌ مستقرّاً وأحسن مقيلاً.

وإذا كان لربّه عدوّاً فإنّه يأتيه أقبح خلق الله رياشاً، وأنتنه ريحاً، فيقول له أبشر بنزل من حميم، وتصليه جحيم، وأنّه ليعرف غاسله، ويناشد حامله أن يحبسه، فإذا أدخل قبره أتيا ممتحنا القبر، فألقيا عنه أكفانه ثمّ قالا له، من ربّك ؟ ومن نبيّك ؟ وما دينك ؟ فيقول: لا أدري فيقولان له: ما دريت ولا هديت، فيضربانه بمرزبه ضربة، ما خلق الله دابّة إلّا وتذعر لها ما خلا الثقلان، ثمّ يفتحان له باباً إلى النار، ثمّ يقولان له: نم بشّر حال، فيبوّء من الضيق مثل ما فيه القنا من الزّج، حتّى أنّ دماغه يخرج من بين ظفره ولحمه، ويسلّط الله عليه حيّات الأرض وعقاربها وهوامّها تنهشه حتّى يبعثه الله من قبره، وإنّه ليتمنى قيام السّاعة ممّا هو فيه من الشرّ.

وفي منتخب البصائرعن أبي بكر الحضرميّ عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: لا يسأل في القبر إلّا من محض الإيمان محضاً، أو محض الكفر محضاً فقلت له: فسائر الناس ؟ فقال: يلهى عنهم.

وفي أمالي الشيخ عن ابن ظبيان قال: كنت عند أبي عبداللهعليه‌السلام فقال: ما يقول الناس في أرواح المؤمنين بعد موتهم ؟ قلت: يقولون في حواصل طيور خضر ؟ فقال: سبحان الله، المؤمن أكرم على الله من ذلك ! إذا كان ذلك أتاه رسول الله وعليّ وفاطمة

٣٦٨

والحسن والحسينعليهم‌السلام ، ومعهم ملائكة الله عزّوجلّ المقرّبون، فإن أنطق الله لسانه بالشهادة له بالتوحيد، وللنبيّ بالنبوّة، والولاية لأهل البيت، شهد على ذلك رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وعليّ وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام والملائكة المقرّبون معهم وإن اعتقل لسانه خصّ الله نبيّه بعلم ما في قلبه من ذلك، فشهد به، وشهد على شهادة النبيّ: عليّ وفاطمة والحسن والحسين - على جماعتهم من الله أفضل السّلام - ومن حضر معهم من الملائكة فإذا قبضه الله إليه صيّر تلك الروح إلى الجنّة، في صورة كصورته، فيأكلون ويشربون فإذا قدم عليهم القادم عرفهم بتلك الصورة الّتي كانت في الدنيا.

وفي المحاسن عن حمّاد بن عثمان عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ذكر الأرواح، أرواح المؤمنين فقال: يلتقون، قلت: يلتقون ؟ قال: نعم يتسائلون و يتعارفون حتّى إذا رأيته قلت: فلان.

وفي الكافي عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ المؤمن ليزور أهله فيرى ما يحبّ. ويستر عنه ما يكره، وإنّ الكافر ليزور أهله، فيرى ما يكره، ويستر عنه ما يحبّ. قال: منهم من يزور كلّ جمعة، ومنهم من يزور على قدر عمله.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام : أنّ الأرواح في صفة الأجساد في شجر من الجنّة، تعارف وتسائل، فإذا قدمت الروح على الأرواح تقول: دعوها، فإنّها قد أقبلت من هول عظيم ثمّ يسألونها ما فعل فلان، وما فعل فلان، فإن قلت لهم: تركته حيّاً ارتجوه، وإن قالت لهم: قد هلك، قالوا: قد هوى هوى.

أقول: والرّوايات في باب البرزخ كثيرةٌ، وإنّما نقلنا ما فيه جوامع معنى البرزخ. وفي المعاني المنقولة روايات مستفيضة كثيرة، وفيها دلالة على نشأة مجرّدة عن المادّة

( بحث فلسفي)

هل النفس مجرّدة عن المادّة ؟ (ونعني بالنفس ما يحكى عنه كلّ واحد منّا بقوله، أنا، وبتجرّدها عدم كونها أمراً مادّيّاً ذا انقسام وزمان ومكان).

إنّا لا نشكّ في أنّا نجد من أنفسنا مشاهدة معنى نحكي عنه: بأنا، ولا نشكّ أنّ

٣٦٩

كلّ إنسان هو مثلنا في هذه المشاهدة الّتي لا نغفل عنه حيناً من أحيان حياتنا وشعورنا، وليس هو شيئاً من أعضائنا، وأجزاء بدننا الّتي نشعر بها بالحسّ أو بنحو من الاستدلال كأعضائنا الظاهرة المحسوسة بالحواس الظاهرة من البصر واللمس ونحو ذلك، وأعضائنا الباطنة الّتي عرفناها بالحسّ والتجربة، فإنّا ربّما نغفل عن كلّ واحد منها وعن كلّ مجموع منها حتّى عن مجموعها التامّ الّذي نسمّيه بالبدن، ولا نغفل قطّ عن المشهود الّذي نعبّر عنه: بأنا، فهو غير البدن وغير أجزائه.

وأيضاً لو كان هو البدن أو شيئاً من أعضائه أو أجزائه: أو خاصّة من الخواصّ الموجودة فيها - وهى جميعاً مادّيّة، ومن حكم المادّة التغير التّدريجيّ وقبول الانقسام والتجزّي - لكان مادّيّاً متغيّراً وقابلاً للانقسام وليس كذلك فإنّ كلّ أحد إذا رجع إلى هذه المشاهدة النفسانيّة اللّازمة لنفسه، وذكر ما كان يجده من هذه المشاهدة منذ أوّل شعوره بنفسه وجده معنى مشهوداً واحداً باقياً على حاله من غير أدنى تعدّد وتغيّر، كما يجد بدنه وأجزاء بدنه، والخواصّ الموجودة معها متغيّرة متبدّلة من كلّ جهة، في مادّتها وشكلها، وسائر أحوالها وصورها، وكذا وجده معنى بسيطاً غير قابل للانقسام والتجزّي، كما يجد البدن، وأجزائه وخواصّه - وكلّ مادّة وأمر مادّيّ كذلك - فليست النفس هي البدن، ولا جزءً من أجزائه، ولا خاصّة من خواصّه، سواء أدركناه بشئ من الحواسّ أو بنحو من الاستدلال، أو لم ندرك، فإنّها جميعاً مادّيّة كيفما فرضت، ومن حكم المادّة التغيّر، وقبول الانقسام، والمفروض أن ليس في مشهودنا المسمّى بالنفس شئ من هذه الأحكام فليست النفس بمادّيّة بوجه.

وأيضاً هذا الّذي نشاهده نشاهده أمراً واحداً بسيطاً ليس فيه كثرة من الأجزاء ولا خليط من خارج بل هو واحد صرف فكلّ إنسان يشاهد ذلك من نفسه ويرى أنّه هو وليس بغيره فهذا المشهود أمرٌ مستقلّ في نفسه، لا ينطبق عليه حدّ المادّة ولا يوجد فيه شئٌ من أحكامها اللازمة: فهو جوهرٌ مجرّدٌ عن المادّة، متعلّق بالبدن نحو تعلّق يوجب اتّحاداً ما له بالبدن وهو التعلّق التدبيريّ وهو المطلوب.

وقد أنكر تجرّد النفس جميع المادّيّين، وجمع من الإلهيّين من المتكلّمين، والظاهريّين

٣٧٠

من المحدّثين، واستدلّوا على ذلك، وردّوا ما ذكر من البرهان بما لا يخلو عن تكلّف من غير طائل.

قال المادّيّون: إنّ الأبحاث العلميّة على تقدّمها وبلوغها اليوم إلى غاية الدقّة في فحصها وتجسّسها لم تجد خاصّة من الخواصّ البدنيّة إلّا وجدت علّتها المادّيّه، ولم تجد أثراً روحيّاً لا يقبل الانطباق على قوانين المادّة حتّى تحكم بسببها بوجود روح مجرّدة.

قالوا: وسلسلة الأعصاب تؤدّي الإدراكات إلى العضو المركزيّ وهو الجزء الدماغيّ على التوالي وفي نهاية السّرعة، ففيه مجموعة متّحدة ذات وضع واحد لا يتميّز أجزائها ولا يدرك بطلان بعضها، وقيام الآخر مقامه، وهذا الواحد المتحصّل هو نفسنا الّتي نشاهدها، ونحكي عنها بأنا، فالّذي نرى أنّه غير جميع أعضائنا صحيح إلّا أنّه لا يثبت أنّه غير البدن وغير خواصّه، بل هو مجموعة متّحدة من جهة التوالي والتوارد لا نغفل عنه، فإنّ لازم الغفلة عنه على ما تبيّن بطلان الأعصاب ووقوفها عن أفعالها وهو الموت، والّذي نرى أنّه ثابتٌ، صحيح لكنّه لا من جهة ثباته وعدم تغيّره في نفسه بل الأمر مشتبه على المشاهدة من جهة توالي الواردات الإدراكيّة وسرعة ورودها، كالحوض الّذي يرد عليه الماء من جانب ويخرج من جانب بما يساويه وهو مملوٌّ دائماً، فما فيه من الماء يجده الحسّ واحداً ثابتاً، وهو بحسب الواقع لا واحدٌ ولا ثابت، وكذا يجد عكس الإنسان أو الشجر أو غيرهما فيه واحداً ثابتاً وليس واحداً ثابتاً بل هو كثيرٌ متغيّر تدريجاً بالجريان التّدريجيّ الّذي لأجزاء الماء فيه، وعلى هذا النحو وجود الثبات والوحدة والشخصيّة الّتي نرى في النفس.

قالوا: فالنفس الّتي يقام البرهان على تجرّدها من طريق المشاهدة الباطنيّة هي في الحقيقة مجموعة من خواصّ طبيعيّة، وهي الإدراكات العصبيّة الّتي هي نتائج حاصلة من التّأثير والتّأثّر المتقابلين بين جزء المادّة الخارجيّة، وجزء المركّب العصبيّ، ووحدتها وحدة اجتماعيّة لا وحدة واقعيّة حقيقيّة.

أقول: أمّا قولهم: إنّ الأبحاث العلميّة المبتنية على الحسّ والتجربة لم تظفر في سيرها الدقيق بالروح، ولا وجدت حكماً من الأحكام غير قابل التعليل إلّا بها فهو

٣٧١

كلام حقّ لا ريب فيه لكنّه لا ينتج انتفاء النفس المجرّدة الّتي أقيم البرهان على وجودها، فإنّ العلوم الطبيعيّة الباحثة عن أحكام الطبيعة وخواصّ المادّة إنّما تقدر على تحصيل خواصّ موضوعها الّذي هو المادّة، وإثبات ما هو من سنخها، وكذا الخواصّ والأدوات المادّيّة الّتي نستعملها لتتميم التجارب المادّيّ إنّما لها أن تحكم في الأمور المادّيّة، وأمّا ما وراء المادّة والطبيعة، فليس لها أن تحكم فيها نفياً ولا إثباتاً، وغاية ما يشعر البحث المادّيّ به هو عدم الوجدان، وعدم الوجدان غير عدم الوجود، وليس من شأنه كما عرفت أن يجد ما بين المادّة الّتي هي موضوعها، ولا بين أحكام المادّة وخواصّها الّتي هي نتائج بحثها أمراً مجرّداً خارجاً عن سنخ المادّة وحكم الطبيعة.

والّذي جرّأهم على هذا النفي زعمهم أنّ المثبتين لهذه النفس المجرّدة إنّما أثبتوها لعثورهم إلى أحكام حيويّة من وظائف الأعضاء ولم يقدروا على تعليلها العلميّ، فأثبتوا النفس المجرّدة لتكون موضوعاً مبدئاً لهذه الأفاعيل، فلمّا حصل العلم اليوم على عللها الطبيعيّة لم يبق وجهٌ للقول بها، نظير هذا الزّعم ما زعموه في باب إثبات الصانع.

وهو اشتباه فاسدٌ فإنّ المثبتين لوجود هذه النفس لم يثبتوها لذلك ولم يسندوا بعض الأفاعيل البدنيّة إلى البدن فيما علله ظاهرةٌ، وبعضها إلى النفس فيما علله مجهولة، بل أسندوا الجميع إلى العلل البدنيّة بلا واسطة وإلى النفس بواسطتها، وإنّما اسندوا إلى النفس ما لا يمكن إسناده إلى البدن ألبتّة وهو علم الإنسان بنفسه ومشاهدته ذاته كما مرّ.

وأمّا قولهم: إنّ الإنّيّة المشهودة للإنسان على صفة الوحدة هي عدّة من الإدراكات العصبيّة الواردة على المركز على التوالي وفي نهاية السرعة - ولها وحدة اجتماعيّة - فكلام لا محصّل له ولا ينطبق عليه الشهود النّفسانيّ ألبتّة، وكأنّهم ذهلوا عن شهودهم النفسانيّ فعدلوا عنه إلى ورود المشهودات الحسّيّة إلى الدماغ واشتغلوا بالبحث عمّا يلزم ذلك من الآثار التالية وليت شعري إذا فرض أنّ هناك أموراً كثيرة بحسب الواقع لا وحدة لها ألبتّة، وهذه الاُمور الكثيرة الّتي هي الإدراكات اُمورٌ مادّيّة ليس ورائها شئٌ آخر إلّا نفسها،

٣٧٢

وأنّ الأمر المشهود الّذي هو النفس الواحدة هو عين هذه الإدراكات الكثيرة، فمن أين حصل هذا الواحد الّذي لا نشاهد غيره ؟ ومن أين حصلت هذه الوحدة المشهودة فيها عياناً ؟ والّذي ذكروه من وحدتها الاجتماعيّة كلامُ أشبه بالهزل منه بالجدّ فإنّ الواحد الاجتماعيّ هو كثيرٌ في الواقع من غير وحدة وإنّما وحدتها في الحسّ أو الخيال كالدار الواحدة والخطّ الواحد مثلاً، لا في نفسه، والمفروض في محلّ كلامنا أنّ الإدراكات والشعورات الكثيرة في نفسها هي شعورٌ واحد عند نفسها فلازم قولهم إنّ هذه الإدراكات في نفسها كثيرة لا ترجع إلى وحدة أصلاً، وهي بعينها شعور واحد نفسانيّ واقعاً، وليس هناك أمر آخر له هذه الإدراكات الكثيرة فيدركها على نعت الوحدة كما يدرك الحاسّة أو الخيال المحسوسات أو المتخيّلات الكثيرة المجتمعة على وصف الوحدة الاجتماعيّة، فإنّ المفروض أنّ مجموع الإدراكات الكثيرة في نفسها نفس الإدراك النفسانيّ الواحد في نفسه. ولو قيل: إنّ المدرك هيهنا الجزء الدماغيّ يدرك الإدراكات الكثيرة على نعت الوحدة كان الإشكال بحاله، فإنّ المفروض أنّ إدراك الجزء الدماغيّ نفس هذه الإدراكات الكثيرة المتعاقبة بعينها، لا أنّ للجزء الدماغيّ قوّة إدراك تتعلّق بهذه الإدراكات كتعلّق القوى الحسّيّة بمعلوماتها الخارجيّة وانتزاعها منها صوراً حسّيّة، فافهم ذلك.

والكلام في كيفيّة حصول الثبات والبساطة في هذا المشهود الّذي هو متغيّر متجزّ في نفسه كالكلام في حصول وحدته.

مع أنّ هذا الفرض أيضاً - أعني أن يكون الإدراكات الكثيرة المتوالية المتعاقبة مشعورة بشعور دماغيّ على نعت الوحدة - نفسه فرض غير صحيح. فما شأن الدماغ والقوّة الّتي فيه، والشعور الّذي لها، والمعلوم الّذي عندها، وهي جميعاً أمورٌ مادّيّة، ومن شأن المادّة والمادّيّ الكثرة، والتغيّر، وقبول الانقسام، وليس في هذه الصورة العلميّة شئ من هذه الأوصاف والنعوت، وليس غير المادّة والمادّيّ هناك شئ؟

وقولهم: إنّ الأمر يشتبه على الحسّ أو القوّة المدركة، فيدرك الكثير المتجزّي

٣٧٣

المتغيّر واحداً بسيطاً ثابتاً غلطٌ واضح، فإنّ الغلط والاشتباه من الاُمور النسبيّة الّتي تحصل بالمقايسة والنسبة، لا من الاُمور النفسيّة، مثال ذلك أنّا نشاهد الأجرام العظيمة السماويّة صغيرة كالنقاط البيض، ونغلط في مشاهدتنا هذه، على ما تبيّنه البراهين العلميّة، وكثيرٌ من مشاهدات حواسّنا إلّا أنّ هذه الأغلاط إنّما تحصل وتوجد إذا قايسنا ما عند الحسّ ممّا في الخارج من واقع هذه المشهودات، وأمّا ما عند الحسّ في نفسه فهو أمرٌ واقعيّ كنقطة بيضآء لا معنى لكونه غلطاً ألبتّة.

والأمر فيما نحن فيه من هذا القبيل فإنّ حواسّنا وقوانا المدركة إذا وجدت الأمور الكثيرة المتغيّرة المتجزيّة على صفة الوحدة والثبات والبساطة كانت القوى المدركة غالطة في إدراكها مشتبهة في معلومها بالقياس إلى المعلوم الّذي في الخارج. وأمّا هذه الصورة العلميّة الموجودة عند القوّة فهي واحدة ثابتة بسيطة في نفسها ألبتّة، ولا يمكن أن يقال للأمر الّذي هذا شأنه: إنّه مادّيّ لفقده أوصاف المادّة العامّة.

فقد تحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ الحجّة الّتي أوردها المادّيّون من طريق الحسّ والتجربة إنّما ينتج عدم الوجدان، وقد وقعوا في المغالطة بأخذ عدم الوجود (وهو مدّعاهم) مكان عدم الوجدان، وما صوّروه لتقرير الشهود النفسانيّ المثبت لوجود أمر واحد بسيط ثابت تصويرٌ فاسد لا يوافق، لا الاُصول المادّيّة المسلّمة بالحسّ والتجربة، ولا واقع الأمر الّذي هو عليه في نفسه.

وأمّا ما افترضه الباحثون في علم النفس الجديد في أمر النفس وهو أنّه الحالة المتّحدة الحاصلة من تفاعل الحالات الروحيّة، من الإدراك والإرادة والرضا والحبّ وغيرها المنتجة لحالة متّحدة مؤلّفة فلا كلام لنا فيه، فإنّ لكلّ باحث أن يفترض موضوعاً ويضعه موضوعاً لبحثه، وإنّما الكلام فيه من حيث وجوده وعدمه في الخارج والواقع مع قطع النظر عن فرض الفارض وعدمه، وهو البحث الفلسفيّ كما هو ظاهر على الخبير بجهات البحث.

وقال قوم آخرون من نفاة تجرّد النفس من الملّيّين: إنّ الّذي يتحصّل من الاُمور المربوطة بحياة الإنسان كالتشريح والفيزيولوجي أنّ هذه الخواصّ الروحيّة

٣٧٤

الحيويّة تستند إلى جراثيم الحياة والسلولات الّتي هي الاُصول في حياة الإنسان وسائر الحيوان وتتعلّق بها، فالروح خاصّة وأثرٌ مخصوص فيها لكلّ واحد منها أرواح متعدّدة فالّذي يسمّيه الإنسان روحاً لنفسه ويحكي عنه بأنا مجموعة متكوّنة من أرواح غير محصورة على نعت الاتّحاد والاجتماع. ومن المعلوم أنّ هذه الكيفيّات الحيويّة والخواصّ الروحيّة تبطل بموت الجراثيم والسلّولات وتفسد بفسادها فلا معنى للروح الواحدة المجرّدة الباقية بعد فناء التركيب البدنيّ غاية الأمر أنّ الاُصول المادّيّة المكتشفة بالبحث العلميّ لما لم تف بكشف رموز الحياة كان لنا أن نقول: إنّ العلل الطّبيعيّة لا تفي بإيجاد الروح فهي معلولة لموجود آخر وراء الطبيعة، وأمّا الاستدلال على تجرّد النفس من جهة العقل محضاً فشئ لا يقبله ولا يصغي إليه العلوم اليوم لعدم اعتمادها على غير الحسّ والتجربة، هذا.

أقول: وأنت خبيرٌ بأنّ جميع ما أوردناه على حجّة المادّيّين واردٌ على هذه الحجّة المختلقة من غير فرق ونزيدها أنّها مخدوشةأوّلاً: بأنّ عدم وفاء الأصول العلميّة المكتشفة إلى اليوم ببيان حقيقة الروح والحياة لا ينتج عدم وفائها أبداً ولا عدم انتهاء هذه الخواصّ إلى العلل المادّيّة في نفس الأمر على جهل منّا، فهل هذا إلّا مغالطة وضع فيها العلم بالعدم مكان عدم العلم ؟

وثانياً: بأنّ استناد بعض حوادث العالم - وهي الحوادث المادّيّة - إلى المادّة، وبعضها الآخر وهي الحوادث الحيويّة إلى أمر وراء المادّة - وهو الصانع - قولٌ بأصلين في الإيجاد، ولا يرتضيه المادّيّ ولا الإلهيّ، وجميع أدلّة التوحيد يبطله.

وهنا إشكالات اُخر أوردوها على تجرّد النفس مذكورة في الكتب الفلسفيّة والكلاميّة غير أنّ جميعها ناشئة عن عدم التأمّل والإمعان فيما مرّ من البرهان، وعدم التثبّت في تعقّل الغرض منه، ولذلك أضربنا عن إيرادها، والكلام عليها. فمن أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى مظانّها، والله الهادي

٣٧٥

( بحث اخلاقي)

علم الأخلاق (وهو الفنّ الباحث عن الملكات الإنسانيّة المتعلّقة بقواه النباتيّة والحيوانيّة والإنسانيّة، وتميّز الفضائل منها من الرذائل ليستكمل الإنسان التحلّي والاتّصاف بها سعادته العلميّة، فيصدر عنه من الأفعال ما يجلب الحمد العامّ والثناء الجميل من المجتمع الإنسانيّ) يظفر ببحثه أنّ الأخلاق الإنسانيّة تنتهي إلى قوى عامّة ثلاثة فيه هي الباعثة للنّفس على اتّخاذ العلوم العمليّة الّتي تستند وتنتهي إليها أفعال النوع وتهيئتها وتعبيتها عنده، وهي القوى الثلاث: الشهويّة والغضبيّة والنطقيّة الفكريّة، فإنّ جميع الأعمال والأفعال الصادرة عن الإنسان إمّا من قبيل الأفعال المنسوبة إلى جلب المنفعة كالأكل والشرب واللبس وغيرها، وإمّا من الأفعال المنسوبة إلى دفع المضرّة كدفاع الإنسان عن نفسه وعرضه وماله ونحو ذلك. وهذه الأفعال هي الصادرة عن المبدء الغضبيّ كما أنّ القسم السابق عليها صادرٌ عن المبدا الشهويّ، وإمّا من الأعمال المنسوبة إلى التّصوّر والتصديق الفكريّ، كتأليف القياس وإقامة الحجّة وغير ذلك وهذه الأفعال صادرةٌ عن القوّة النطقيّة الفكريّة، ولمّا كانت ذات الإنسان كالمؤلّفة، المركّبة من هذه القوى الثلاث الّتي باتّحادها وحصول الوحدة التركيبيّة منها يصدر أفعال خاصّة نوعيّة، ويبلغ الإنسان سعادتة الّتي من أجلها جعل هذا التركيب، فمن الواجب لهذا النوع أن لا يدع قوّة من هذه القوى الثلاث تسلك مسلك الإفراط أو التفريط، وتميل عن حاقّ الوسط إلى طرفي الزيادة والنقيصة، فإنّ في ذلك خروج جزء المركّب عن المقدار المأخوذ منه في جعل أصل التركيب وفي ذلك خروج المركّب عن كونه ذاك المركّب ولازمه بطلان غاية التركيب الّتي هي سعادة النوع.

وحدّ الاعتدال في القوّة الشهويّة - وهي استعمالها على ما ينبغي كمّاً وكيفاً - يسمّي عفّة، والجانبان في الإفراط والتفريط الشره والخمود. وحدّ الاعتدال في

٣٧٦

القوّة الغضبيّة هي الشجاعة والجانبان التهوّر والجبن، وحدّ الاعتدال في القوّة الفكريّة تسمّي حكمة والجانبان الجربزة والبلادة، وتحصل في النفس من اجتماع هذه الملكات ملكة رابعة هي كالمزاج من الممتزج، وهي الّتي تسمّى عدالة، وهي إعطاء كلّ ذي حقّ من القوي حقّة، ووضعه في موضعه الّذي ينبغي له، والجانبان فيها الظلم والانظلام.

فهذه أصول الأخلاق الفاضلة أعني: العفّة والشجاعة والحكمة والعدالة، ولكلّ منها فروغٌ ناشئة منها راجعة بحسب التحليل إليها، نسبتها إلى الاُصول المذكورة كنسبة النوع إلى الجنس، كالجود والسخاء، والقناعة والشكر، والصبر والشهامة، والجرئة والحياء، والغيرة والنصيحة، والكرامة والتواضع، وغيرها، هي فروع الأخلاق الفاضلة المضبوطة في كتب الأخلاق (وهاك شجرة تبيّن أصولها وتفرّع فروعها) وعلم الأخلاق يبيّن حدّ كلّ واحد منها ويميّزها من جانبيها في الإفراط والتفريط، ثمّ يبيّن أنّها حسنة جميلة ثمّ يشير إلى كيفيّة اتّخاذها ملكة في النفس من طريقي العلم والعمل أعنى الإذعان بأنّها حسنة جميلة، وتكرار العمل بها حتّى تصير هيئة راسخة في النفس.

مثاله أن يقال: إنّ الجبن إنّما يحصل من تمكّن الخوف من النفس، والخوف إنّما يكون من أمر ممكن الوقوع وعدم الوقوع، والمساوي الطرفين يقبح ترجيح أحد طرفيه على الآخر من غير مرجّح والإنسان العاقل لا ينبغي له ذلك فلا ينبغي للإنسان أن يخاف.

فإذا لقّن الإنسان نفسه هذا القول ثمّ كرّر الإقدام والورود في المخاوف والمهاول زالت عنه رذيلة الخوف، وهكذا الأمر في غيره من الرذائل والفضائل.

فهذا ما يقتضيه المسلك الأوّل على ما تقدّم في البيان وخلاصته إصلاح النّفس وتعديل ملكاتها لغرض الصفة المحمودة والثناء الجميل.

ونظيره ما يقتضيه المسلك الثاني، وهو مسلك الأنبياء وأرباب الشرائع، وإنّما التفاوت من حيث الغرض والغاية، فإنّ غاية الاستكمال الخلقيّ في المسلك الأوّل الفضيلة المحمودة عند الناس والثناء الجميل منهم، وغايته في المسلك الثاني السعادة الحقيقيّة للإنسان

٣٧٧

وهو استكمال الإيمان بالله وآياته، والخبر الاُخرويّ وهي سعادة وكمال في الواقع لا عند الناس فقط. ومع ذلك فالمسلكان يشتركان في أنّ الغاية القصوى والغرض فيها الفضيلة الإنسانيّة من حيث العمل.

وأمّا المسلك الثالث المتقدّم بيانه فيفارق الأوّلين بأنّ الغرض فيه ابتغاء وجه الله لا اقتناء الفضيلة الإنسانيّة ولذلك ربّما اختلف المقاصد الّتي فيه مع ما في المسلكين الأوّلين فربّما كان الاعتدال الخلقيّ فيه غير الاعتدال الّذي فيهما وعلى هذا القياس، بيان ذلك أنّ العبد إذا أخذ إيمانه في الاشتداد والازدياد انجذبت نفسه إلى التفكّر في ناحية ربّه، واستحضار أسمائه الحسنى، وصفاتة الجميلة المنزّهة عن النقص والشين ولا تزال تزيد نفسه انجذاباً، وتترقّى مراقبة حتّى صار يعبدالله كأنّه يراه وأنّ ربّه يراه، ويتجلّي له في مجالي الجذبة والمراقبة والحبّ فيأخذ الحبّ في الاشتداد لأنّ الإنسان مفطورٌ على حبّ الجميل، وقد قال تعالى:( وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ) البقرة - ١٦٥، وصار يتّبع الرسول في جميع حركاته وسكناته لأنّ حبّ الشئ يوجب حبّ آثاره، والرسول من آثاره وآياته كما أنّ العالم أيضاً آثاره وآياته تعالى، ولا يزال يشتدّ هذا الحبّ ثمّ يشتدّ حتّى ينقطع إليه من كلّ شئ، ولا يحبّ إلّا ربّه، ولا يخضع قلبه إلّا لوجهه فإنّ هذا العبد لا يعثر بشئ، ولا يقف على شئ وعنده شئ من الجمال والحسن إلّا وجد أنّ ما عنده أنموذج يحكي ما عنده من كمال لا ينفد وجمال لا يتناهى وحسن لا يحدّ، فله الحسن والجمال والكمال والبهاء، وكلّ ما كان لغيره فهو له، لأنّ كلّ ما سواه آية له ليس له إلّا ذلك، والآية لا نفسيّة لها، وإنّما هي حكاية تحكي صاحبها، وهذا العبد قد استولى سلطان الحبّ على قلبه، ولا يزال يستولي، ولا ينظر إلى شئ إلّا لأنّه آية من آيات ربّه، وبالجملة فينقطع حبّه عن كلّ شئ إلى ربّه، فلا يحبّ شيئاً إلّا لله سبحانه وفي الله سبحانه.

وحينئذ يتبدّل نحو إدراكه وعمله فلا يرى شيئاً إلّا ويرى الله سبحانه قبله ومعه، وتسقط الأشياء عنده من حيّز الاستقلال فما عنده من صور العلم والإدراك غير ما عند الناس لأنّهم إنّما ينظرون إلى كلّ شئ من ورآء حجاب الاستقلال بخلافه، هذا من جهة

٣٧٨

العلم، وكذلك الأمر من جهة العمل فإنّه إذا كان لا يحبّ إلّا لله فلا يريد شيئاً إلّا لله وابتغاء وجهه الكريم، ولا يطلب ولا يقصد ولا يرجو ولا يخاف، ولا يختار، ولا يترك، ولا ييأس ولا يستوحش، ولا يرضى، ولا يسخط إلّا لله وفي الله فيختلف أغراضه مع ما للناس من الأغراض وتتبدّل غاية أفعاله فإنّه قد كان إلى هذا الحين يختار الفعل ويقصد الكمال لأنّه فضيلة إنسانيّة، ويحذر الفعل أو الخلق لأنّه رذيلة إنسانيّه. وأمّا الآن فإنّما يريد وجه ربّه، ولا هم له في فضيلة ولا رذيلة، ولا شغل له بثناء جميل، وذكر محمود، ولا التفات له إلى دنياً أو آخرة أو جنّة أو نار، وإنّما همّه ربّه، وزاده ذلّ عبوديّته، ودليله حبّه.

روت لي أحاديث الغرام صبابة

بإسنادها عن جيرة العلم الفرد

وحدّثني مرّ النسيم عن الصبا

عن الدوح عن وادي الغضا عن ربى نجد

عن الدمع عن عينى القريح عن الجوى

عن الحزن عن قلبي الجريح عن الوجد

بأنّ غرامي والهوى قد تحالفا

على تلفي حتّى أوسّد في لحدي

وهذا البيان الّذي أوردناه وإن آثرنا فيه الإجمال والاختصار لكنّك إن أجدت فيه التأمّل وجدته كافياً في المطلوب وتبيّن أنّ هذا المسلك الثالث يرتفع فيه موضوع الفضيلة والرذيلة، ويتبدّل فيه الغاية والغرض أعني الفضيلة الإنسانيّة إلى غرض واحد، وهو وجه الله، وربّما اختلف نظر هذا المسلك مع غيره فصار ما هو معدود في غيره فضيلة رذيلة فيه وبالعكس.

بقي هنا شئ وهو أنّ هيهنا نظريّة اُخرى في الأخلاق تغاير ما تقدّم، وربّما عدّ مسلكاً آخر، وهي: أنّ الأخلاق تختلف اُصولاً وفروعاً بإختلاف الاجتماعات المدنيّة لإختلاف الحسن والقبح من غير أن يرجع إلى أصل ثابت قائم على ساق، وقد ادّعى أنّها نتيجة النظريّة المعروفة بنظريّة التحوّل والتكامل في المادّة.

قالوا: إنّ الاجتماع الإنسانيّ مولود جميع الاحتياجات الوجوديّة الّتي يريد الإنسان أن يرفعها بالاجتماع، ويتوسّل بذلك، إلى بقاء وجود الاجتماع الّذي يراه بقاء وجود شخصه، وحيث أنّ الطبيعة محكومة لقانون التحوّل والتكامل كان الاجتماع

٣٧٩

أيضاً متغيّراً في نفسه، ومتوجّهاً في كلّ حين إلى ما هو أكمل وأرقى، والحسن والقبح - وهما موافقة العمل لغاية الاجتماع أعني الكمال وعدم موافقته له - لا معنى لبقائهما على حال واحد، وجمودهما على نهج فارد، فلا حسن مطلقاً، ولا قبح مطلقاً، بل هما دائماً نسبيّان مختلفان بإختلاف الاجتماعات بحسب الأمكنة والأزمنة، وإذا كان الحسن والقبح نسبيّين متحوّلين وجب التغيّر في الأخلاق، والتبدّل في الفضائل والرذائل، ومن هنا يستنتج أنّ الأخلاق تابعة للمرام القوميّ الّذي هو وسيله إلى نيل الكمال المدنيّ والغاية الاجتماعيّة، لتبعيّة الحسن والقبح لذلك، فما كان به التقدّم والوصول إلى الغاية والغرض كان هو الفضيلة وفيه الحسن، وما كان يدعو إلى الوقوف والارتجاع كان هو الرذيلة، وعلى هذا فربّما كان الكذب و الافتراء والفحشاء والشقاوة والقساوة والسرقة و الوقاحة حسنة وفضيلة إذا وقعت في طريق المرام الاجتماعيّ، والصدق والعفّة والرحمة رذيلة قبيحة إذا أوجب الحرمان عن المطلوب، هذه خلاصة هذه النظريّة العجيبة الّتي ذهبت إليها الاشتراكيّون من المادّيّين، والنظريّة غير حديثة، على ما زعموا، فقد كان الكلبيّون من قدماء يونان - على ما ينقل - على هذا المسلك، وكذا المزدكيّون (وهم أتباع مزدك الّذي ظهر بإيران على عهد كسرى ودعا إلى الاشتراك) كان عملهم على ذلك، ويعهد من بعض القبائل الوحشيّة بإفريقيّة وغيرهم.

وكيف كان فهو مسلك فاسد والحجّة الّتي اُقيمت على هذه النظريّة فاسدة من حيث البناء والمبنى معاً.

توضيح ذلك: أنّا نجد كلّ موجود من هذه الموجودات العينيّة الخارجيّة يصحب شخصيّة تلازمه، ويلزمها أن لا يكون الموجود بسببه عين الموجود الآخر ويفارقه في الوجود، كما أنّ وجود زيد يصحب شخصيّة ونوع وحدة لا يمكن معها أن يكون عين عمرو، فزيد شخص واحد، وعمرو شخص آخر، وهما شخصان اثنان، لا شخص واحد، فهذه حقيقة لا شكّ فيها (وهذا غير ما نقول: إنّ عالم المادّة موجود ذو حقيقة واحدة شخصيّة فلا ينبغي أن يشتبه الأمر).

وينتج ذلك: أنّ الوجود الخارجيّ عين الشخصيّة، لكنّ المفاهيم الذهنيّة يخالف

٣٨٠