الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن17%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173069 / تحميل: 9116
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

الموجود الخارجيّ في هذا الحكم فإنّ المعنى كيف ما كان يجوّز العقل أن يصدق على أكثر من مصداق واحد كمفهوم الإنسان ومفهوم الإنسان الطويل، ومفهوم هذا الإنسان القائم أمامنا. وأمّا تقسيم المنطقيّين المفهوم إلى الكلّيّ والجزئيّ، وكذا تقسيمهم الجزئيّ إلى الإضافيّ والحقيقيّ فإنّما هو تقسيم بالإضافة والنسبة، إمّا نسبة أحد المفهومين إلى الآخر وإمّا نسبته إلى الخارج، وهذا الوصف الّذي في المفاهيم - وهو جواز الانطباق على أكثر من واحد - ربّما نسمّيه بالإطلاق كما نسمّي مقابلة بالشّخصيّة أو الوحدة.

ثمّ الموجود الخارجيّ (ونعني به الموجود المادّيّ خاصّة) لما كان واقعاً تحت قانون التغيّر والحركة العموميّة كان لا محالة ذا امتداد منقسماً إلى حدود وقطعات، كلّ قطعة منها تغاير القطعة الاُخرى ممّا تقدّم عليها أو تأخّر عنها، ومع ذلك فهي مرتبطة بها بوجودها، إذ لو لا ذلك لم يصدق معنى التغيّر والتبدّل لأنّ أحد شيئين إذا عدم من أصله، والآخر وجد من أصله لم يكن ذلك تبدّل هذا من ذاك، بل التبدّل الّذي يلازم كلّ حركة إنّما يتحقّق بوجود قدر مشترك في الحالين جميعاً.

ومن هنا يظهر أنّ الحركة أمر واحد بشخصه يتكثّر بحسب الإضافة إلى الحدود، فيتعيّن بكلّ نسبة قطعة تغاير القطعه الاُخرى، وأمّا نفس الحركة فسيلان وجريان واحد شخصيّ، ونحن ربّما سمّينا هذا الوصف في الحركة إطلاقاً في مقابل النسب الّتي لها إلى كلّ حدّ حدّ، فنقول: الحركة المطلقة بمعنى قطع النظر عن إضافتها إلى الحدود. ومن هنا يظهر أن المطلق بالمعنى الثاني أمر واقعيّ موجود في الخارج، بخلاف المطلق بالمعنى الأوّل فإنّ الإطلاق بهذا المعنى وصف ذهنيّ لموجود ذهنيّ، هذا.

ثمّ إنّا لا نشكّ أنّ الإنسان موجود طبيعيّ ذو أفراد وأحكام وخواصّ وأنّ الّذي توجده الخلقة هو الفرد من أفراد الإنسان دون مجموع الأفراد أعني الاجتماع الإنسانيّ إلّا أنّ الخلقة لما أحسّت بنقص وجوده، واحتياجه إلى استكمالات لا تتمّ له وحده، جهّزه بأدوات وقوىّ تلائم سعيه للاستكمال في ظرف الاجتماع وضمن الأفراد المجتمعين، فطبيعة الإنسان الفرد مقصود للخلقة أوّلاً وبالذات والاجتماع مقصود لها ثانياً وبالتبع.

٣٨١

وأمّا حقيقة أمر الإنسان مع هذا الاجتماع الّذي تقتضية وتتحرّك إليه الطبيعة الإنسانيّة (إن صحّ إطلاق الاقتضاء والعلّية والتّحرّك في مورد الاجتماع حقيقة) فإنّ الفرد من الإنسان موجود شخصيّ واحد بالمعنى الّذي تقدّم من شخصيّته ووحدته، وهو مع ذلك واقع في الحركة، متبدّل متحوّل إلى الكمال، ومن هنا كان كلّ قطعة من قطعات وجوده المتبدّل مغايرة لغيرها من القطعات، وهو مع ذلك ذو طبيعة سيّالة مطلقة محفوظة في مراحل التغيّرات واحدة شخصيّة، وهذه الطبيعة الموجودة في الفرد محفوظة بالتوالد والتناسل واشتقاق الفرد من الفرد - وهي الّتي نعبّر عنها بالطبيعة النوعيّة - فإنّها محفوظة بالأفراد وإن تبدّلت وعرض لها الفساد والكون، بمثل البيان الّذي مرّ في خصوص الطبيعة الفرديّة، فالطبيعة الشخصيّة موجوده متوجّهة إلى الكمال الفرديّ، والطبيعة النوعيّة موجودة مطلقة متوجّهة إلى الكمال.

وهذا الاستكمال النوعيّ لا شكّ في وجوده وتحقّقه في نظام الطبيعة، وهو الّذي نعتمد عليه في قولنا: إنّ النوع الإنسانيّ مثلاً متوجّه إلى الكمال، وأنّ الإنسان اليوم أكمل وجوداً من الإنسان الأوّليّ، وكذا ما تحكم به فرضيّة تحوّل الأنواع، فلو لا أنّ هناك طبيعة نوعيّة خارجيّة محفوظة في الأفراد أو الأنواع مثلاً لم يكن هذا الكلام إلّا كلاماً شعريّاً.

والكلام في الاجتماع الشّخصيّ القائم بين أفراد قوم أو في عصر أو في محيط، ونوع الاجتماع القائم بنوع الإنسان المستمرّ باستمراره والمتحوّل بتحوّله (لو صحّ أنّ الاجتماع كالإنسان المجتمع حال خارجيّ لطبيعة خارجيّة !) نظير القول في طبيعة الإنسان الشخصيّة والنوعيّة في التقييد والإطلاق.

فالاجتماع متحرّك متبدّل بحركة الإنسان وتبدّله - وله وحدة من بادئ الحركة إلى أين توجّه بوجود مطلق - وهذا الواحد المتغيّر بواسطة نسبته وإضافته إلى كلّ حدّ حدّ تصير قطعة قطعة، وكلّ قطعة شخص واحد من أشخاص الاجتماع، وأشخاص الاجتماع مستندة في وجودها إلى أشخاص الإنسان، كما أنّ مطلق الاجتماع بالمعنى الّذي تقدّم مستند إلى مطلق الطبيعة الإنسانيّة، فإنّ حكم الشخص شخص الحكم

٣٨٢

وفرده، وحكم المطلق مطلق الحكم (لا كلّيّ الحكم، فلسنا نعني الإطلاق المفهوميّ فلا تغفل) ونحن لا نشكّ أنّ الفرد من الإنسان وهو واحد له حكم واحد باق ببقائه، إلّا أنّه متبدّل بتبدّلات جزئيّة بتبع التبدّلات الطارئة على موضوعه الّذي هو الإنسان فمن أحكام الإنسان الطبيعيّ أنّه يتغذّى ويفعل بالإرادة ويحسّ ويتفكّر - وهو موجود مع الإنسان وباق ببقائه - وإن تبدّل طبق تبدّله في نفسه، وكذلك الكلام في أحكام مطلق الإنسان الموجود بوجود أفراده.

ولمّا كان الاجتماع من أحكام الطبيعة الإنسانيّة وخواصّها فمطلق الاجتماع (نعني به الاجتماع المستمرّ الّذي أوجدته الطبيعة الإنسانيّة المستمرّة من حين وجد الإنسان الفرد إلى يومنا هذ) من خواصّ النوع الإنسانيّ المطلق موجود معه باق ببقائه، وأحكام الاجتماع الّتي أوجدها واقتضاها هي مع الاجتماع موجودة بوجوده، باقية ببقائه، وإن تبدّلت بتبدّلات جزئيّة مع انحفاظ الأصل مثل نوعها، وحينئذ صحّ لنا أن نقول: إنّ هناك أحكاماً اجتماعيّة باقية غير متغيّرة، كوجود مطلق الحسن والقبح، كما أنّ نفس الاجتماع المطلق كذلك، بمعنى أنّ الاجتماع لا ينقلب إلى غير الاجتماع كالانفراد وإن تبدّل اجتماع خاصّ إلى آخر خاصّ، والحسن المطلق والخاصّ كالاجتماع المطلق والخاصّ بعينه.

ثمّ إنّا نرى أنّ الفرد من الإنسان يحتاج في وجوده وبقائه إلى كمالات ومنافع يجب له أن يجتلبها ويضمّها إلى نفسه، والدليل على هذا الوجوب احتياجه في جهات وجوده وتجهيز الخلقة له بما يقوى به على ذلك، كجهاز التغذّي وجهاز التناسل مثلاً، فعلى الإنسان أن يقدم عليه، وليس له أن لا يقدم قطعاً بالتفريط فإنّه يناقض دليل الوجوب الّذي ذكرناه، وليس له أن يقدم في باب من أبواب الحاجة بما يزيد على اللّازم بالإفراط، مثل أن يأكل حتّى يموت، أو يمرض، أو يتعطّل عن سائر قواه الفعّالة، بل عليه أن يتوسّط في جلب كلّ كمال أو منفعة، وهذا التوسّط هي العفّة، وطرفاه الشره والخمود، وكذلك نرى الفرد في وجوده وبقائه متوسّطاً بين نواقص وأضداد ومضارّ لوجوده يجب عليه أن يدفعها، والدليل عليه الاحتياج والتجهيز في نفسه فيجب

٣٨٣

عليه المقاومة والدفاع على ما ينبغي من التوسّط، من غير إفراط يضادّ سائر تجهيزاته أو تفريط يضادّ الاحتياج والتجهيز المربوطين، وهذا التوسّط هي الشجاعة، وطرفاها التهوّر والجبن ونظير الكلام جار في العلم ومقابليه أعني الجربزة والبلادة، وفي العدالة ومقابليها وهما الظلم والانظلام.

فهذه أربع ملكاتٍ وفضائل تستدعيه الطبيعة الفرديّة المجهّزة، بأدواتها: العفّة والشجاعة، والحكمة، والعدالة - وهي كلّها حسنة - لأنّ معنى الحسن الملائمة لغاية الشئ وكماله وسعادته، وهي جميعاً ملائمة مناسبة لسعادة الفرد بالدليل الّذي تقدّم ذكره، ومقابلاتها رذائل قبيحة. وإذا كان الفرد من الإنسان بطبيعته وفي نفسه على هذا الوصف فهو في ظرف الاجتماع أيضاً على هذا الوصف، وكيف يمكن أن يبطل الاجتماع - وهو من أحكام هذه الطبيعة - سائر أحكامها الوجوديّة ؟ وهل هو إلّا تناقض الطبيعة الواحدة، وليس حقيقة الاجتماع إلّا تعاون الأفراد في تسهيل الطريق إلى استكمال طبائعهم وبلوغها إلى غاية اُمنيّتها ؟

وإذا كان الفرد من الإنسان في نفسه وفي ظرف الاجتماع على هذا الوصف، فنوع الإنسان في اجتماعه النوعيّ أيضاً كذلك، فنوع الإنسان في اجتماعه يستكمل بالدفاع بقدر ما لا يفسد الاجتماع وباجتلاب المنافع بقدر ما لا يفسد الاجتماع، وبالعلم بقدر ما لا يفسد الاجتماع، وبالعدالة الاجتماعيّة - وهي إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، وبلوغه حظّه الّذي يليق به دون الظلم والانظلام - وكلّ هذه الخصال الأربع فضائل بحكم الاجتماع المطلق يقضي الاجتماع الإنسانيّ بحسنها المطلق ويعدّ مقابلاتها رذائل ويقضي بقبحها.

فقد تبيّن بهذا البيان: أنّ في الاجتماع المستمرّ الإنسانيّ حسناً وقبحاً لا يخلو عنهما قطّ وأنّ أصول الأخلاق الأربعة فضائل حسنة دائماً، ومقابلاتها رذائل قبيحة دائماً، والطبيعة الإنسانيّة الاجتماعيّة تقضي بذلك، وإذا كان الأمر في الاُصول على هذا النحو فالفروع المنتهية بحسب التحليل إليها حكمها في القبول ذلك، وإن كان ربّما يقع إختلاف ما في مصاديقها من جهة الانطباق على ما سنشير إليه.

إذا عرفت ما ذكرنا ظهر لك وجه سقوط ما نقلنا من قولهم من أمر الأخلاق وهاك بيانه.

٣٨٤

أمّا قولهم: إنّ الحسن والقبح المطلقين غير موجودين، بل الموجود منهما النسبيّ من الحسن والقبح وهو متغيّر مختلف بإختلاف المناطق والأزمنه والاجتماعات، فهو مغالطة ناشئة من الخلط بين الإطلاق المفهوميّ بمعنى الكلّيّة والإطلاق الوجوديّ بمعنى إستمرار الوجود، فالحسن والقبح المطلقان الكلّيّان غير موجودين في الخارج لوصف الكلّيّة والإطلاق، لكنّهما ليسا هما الموجبين لما نقصده من النتيجة، وأمّا الحسن والقبح المطلقان المستمرّان بمعنى استمرارهما حكمين للاجتماع ما دام الاجتماع مستمرّاً باستمرار الطبيعة فهما كذلك، فإنّ غاية الاجتماع سعادة النوع، ولا يمكن موافقة جميع الأفعال الممكنة والمفروضة للاجتماع كيف ما فرض، فهناك أفعال موافقة ومخالفة دائماً فهناك حسن وقبح دائماً.

وعلى هذا فكيف يمكن أن يفرض اجتماع كيف ما فرض ولا يعتقد أهله أنّ من الواجب أن يعطي كلّ ذي حقّ حقّه أو أنّ جلب المنافع بقدر ما ينبغي واجب أو أنّ الدفاع عن مصالح الاجتماع بقدر ما ينبغي لازم أو أنّ العلم الّذي يتميّز به منافع الإنسان من غيرها فضيلة حسنة ؟ وهذه هي العدالة والعفّة، والشجاعة، والحكمة الّتي ذكرنا أنّ الاجتماع الإنسانيّ كيف ما فرض لا يحكم إلّا بحسنها وكونها فضائل إنسانيّة، وكذا كيف يتيسّر لإجتماع أن لا يحكم بوجوب الانقباض والانفعال عن التظاهر بالقبيح الشنيع، وهو الحياء من شعب العفّة أو لا يحكم بوجوب السخط وتغيّر النفس في هتك المقدّسات وهضم الحقوق، وهو الغيرة من شعب الشجاعة، أو لا يحكم بوجوب الاقتصار على ما للإنسان من الحقوق الاجتماعيّة، وهو القناعة أو لا يحكم بوجوب حفظ النفس في موقعها الاجتماعيّ من غير دحض الناس وتحقيرهم بالاستكبار والبغي بغير الحقّ، وهو التواضع ؟ وهكذا الأمر في كلّ واحد واحد من فروع الفضائل.

وأمّا ما يزعمونه من إختلاف الأنظار في الاجتماعات المختلفة في خصوص الفضائل وصيرورة الخلق الواحد فضيلة عند قوم رذيلة عند آخرين في أمثلة جزئيّة فليس من جهة إختلاف النظر في الحكم الاجتماعيّ بأن يعتقد قوم بوجوب اتّباع الفضيلة الحسنة وآخرون بعدم وجوبه بل من جهة الإختلاف في انطباق الحكم على المصداق وعدم انطباقه.

٣٨٥

مثل أنّ الاجتماعات الّتي كانت تديرها الحكومات المستبدّة كانت تري لعرش الملك الاختيار التامّ في أن يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وليس ذلك لسوء ظنّهم بالعدالة بل لاعتقادهم بأنّه من حقوق السلطنة والملك فلم يكن ذلك ظلماً من مقام السلطنة بل إيفاءً بحقوقه الحقّة بزعمهم.

ومثل أنّ العلم كان يعيّر به الملوك في بعض الاجتماعات، كما يحكى عن ملّة فرنسا في القرون الوسطى، ولم يكن ذلك لتحقيرهم فضيلة العلم، بل لزعمهم أنّ العلم بالسياسة وفنون إدارة الحكومة يضادّ المشاغل السلطانيّة.

ومثل أنّ عفّة النساء بمعنى حفظ البضع من غير الزّوج، وكذا الحياء من النساء وكذا الغيرة من رجالهنّ، وكذا عدّة من الفضائل كالقناعة والتواضع أخلاق لا يذعن بفضلها في بعض الاجتماعات، لكنّ ذلك منهم لأنّ اجتماعهم الخاصّ لا يعدّها مصاديق للعفّة والحياء والغيرة والقناعة والتواضع، لا لأنّ هذه الفضائل ليست فضائل عندهم. والدليل على ذلك وجود أصلها عندهم، فهم يمدحون عفّة الحاكم في حكمه والقاضي في قضائه، ويمدحون الاستحياء من مخالفة القوانين، ويمدحون الغيرة للدفاع عن الاستقلال والحضارة وعن جميع مقدّساتهم، ويمدحون القناعة بما عيّنه القانون من الحقوق لهم، ويمدحون التواضع لأئمّتهم وهداتهم في الاجتماع.

وأمّا قولهم: بدوران الأخلاق في حسنها مدار موافقتها لغاية المرام الاجتماعيّ واستنتاجهم ذلك من دوران حسنها مدار موافقة غاية الاجتماع ففيه مغالطة واضحة فإنّ المراد بالاجتماع الهيئة الحاصلة من عمل مجموع القوانين الّتي قرّرتها الطبيعة بين الأفراد المجتمعين ولا محالة تكون موصلة إلى سعادتهم لولا الإخلال بانتظامها وجريها، ولا محالة لها أحكام: من الحسن والقبح والفضيلة والرذيلة. والمراد بالمرام مجموع الفرضيّات الّتي وضعت لإيجاد اجتماع على هيئت جديدة بتحميلها على الأفراد المجتمعين، أعنى أنّ الاجتماع والمرام متغايران بالفعليّة والقوّة، والتحقّق وفرض التحقّق، فكيف يصير حكم أحد هما عين حكم الآخر، وكيف يكون الحسن والقبح، والفضيلة والرذيله الّتى عيّنها الاجتماع العامّ باقتضاء من الطبيعة الإنسانيّة

٣٨٦

متبدّلة إلى ما حكم به المرام الذى ليس إلّا فرضاً من فارض ؟

ولو قيل: أن لا حكم للاجتماع العامّ الطبيعيّ من نفسه، بل الحكم للمرام، وخاصّة إذا كانت فرضيّة متلائمة لسعادة الأفراد عاد الكلام السابق في الحسن والقبح، والفضيلة والرذيلة، وأنّها تنتهي بالآخرة إلى اقتضاء مستمرّ من الطبيعة.

على أنّ هيهنا محذوراً آخر وهو أنّ الحسن والقبح وسائر الأحكام الاجتماعيّة - وهى الّتى تعتمد عليها الحجّة الاجتماعيّة وتتألّف منها الاستدلالات - لو كانت تابعة للمرام، ومن الممكن بل الواقع تحقّق مرامات مختلفة متناقضة متباينة أدّى ذلك إلى إرتفاع الحجّة المشتركة المقبولة عند عامّة الاجتماعات، ولم يكن التقدّم والنجاح حينئذ إلّا للقدرة والتحكّم. وكيف يمكن أن يقال: إنّ الطبيعة الإنسانيّة ساقت أفرادها إلى حياة اجتماعيّة لا تفاهم بين أجزائها ولا حكم يجمعها إلّا حكم مبطل لنفس الاجتماع ؟ وهل هذا إلّا تناقض شنيع في حكم الطبيعة واقتضائها الوجودىّ ؟

( بحث روائي آخر)

في متفرّقات متعلّقة بما تقدّم

عن الباقرعليه‌السلام قال: أتى رجل رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) فقال: إنّى راغب نشيط في الجهاد. قال: فجاهد في سبيل الله فإنّك إن تقتل كنت حيّاً عند الله مرزوقاً وإن متّ فقد وقع أجرك على الله الحديث.

أقول: وقوله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): وإن متّ إلخ إشارة إلى قوله تعالى:( وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ ) النساء - ١٠٠، وفيه دلالة على أنّ الخروج إلى الجهاد مهاجرة إلى الله ورسوله.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام : في إسماعيل النبيّ الّذي سمّاه الله سبحانه صادق الوعد، قالعليه‌السلام إنّما سمّي صادق الوعد، لأنّه وعد رجلاً في مكان فانتظره في ذلك المكان سنة، فسمّاه الله عزّوجلّ صادق الوعد، ثمّ إنّ الرّجل أتاه بعد ذلك الوقت

٣٨٧

فقال له إسماعيل: ما زلت منتظراً لك الحديث.

أقول: وهذا أمر ربّما يحكم العقل العاديّ بكونه منحرفاً عن جادّة الاعتدال مع أنّ الله سبحانه جعله منقبة لهعليه‌السلام حتّى عظّم قدره ورفع ذكره بقوله:( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ) مريم - ٥٥، فليس ذلك إلّا أنّ الميزان الّذي ووزن به هذا العمل غير الميزان الّذي بيد العقل العاديّ، فللعقل العاديّ تربية بتدبيره ولله سبحانه تربية لأوليائه بتأييده، وكلمة الله هي العليا، ونظائر هذه القضيّة كثيرة مرويّة منقولة عن النبيّ والأئمّة والأولياء.

فإن قلت: كيف يمكن مخالفة الشرع مع العقل في ما للعقل إليه سبيل.

قلت: أمّا حكم العقل فيما له إليه سبيل ففي محلّه، لكنّه يحتاج إلى موضوع يقع عليه حكمه، وقد عرفت فيما تقدّم أنّ أمثال هذه العلوم في المسلك الثالث الّذي ذكرناه لا تبقى للعقل موضوعاً يحكم فيه وعليه، وهذا سبيل المعارف اللإلهيّة والظاهر أنّ إسماعيل النبيّعليه‌السلام كان أطلق القول بوعده بأن قال: أنتظرك ههنا حتّى تعود إلىّ ثمّ التزم على إطلاق قوله صوناً لنفسه عن نقض العهد والكذب في الوعد وحفظاً لما ألقى الله في روعه وأجراه على لسانه. وقد روي نظيره عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم): إنّه كان عند المسجد الحرام فوعده بعض أصحابه بالرجوع إليه ووعده النبيّ بانتظاره حتّى يرجع فذهب في شأنه ولم يرجع، فانتظره النبيّ ثلاثة أيّام في مكانه الّذي وعده حتّى مرّ به الرجل بعد الثلاثة، وهو جالس ينتظر والرجل قد نسي الوعد، الحديث.

وفي الخصائص للسيّد الرضيّ، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام قال: - وقد سمع رجلاً يقول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون - يا هذا إنّ قولنا: إنّا لله إقرار منّا بالملك، وإنّا إليه راجعون إقرار منّا بالهلاك.

أقول: وقد اتّضح معناه بما تقدّم ورواه في الكافي مفصّلاً.

وفي الكافي: عن إسحاق بن عمّار وعبدالله بن سنان، عن الصادقعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال الله عزّوجلّ: إنّي جعلت الدنيا بين عبادي قرضاً فمن أقرضني

٣٨٨

فيها قرضاً أعطيته بكلّ واحدة عشراً إلى سبعمأة ضعف، ومن لم يقرضني قرضاً وأخذت منه شيئاً قسراً أعطيته ثلاث خصال لو أعطيت واحدة منهنّ ملائكتي لرضوا بها عنّي، ثمّ قال أبوعبدالله: قول الله: الّذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربّهم، فهذه واحدة من ثلاث خصال، ورحمة اثنتان، وأولئك هم المهتدون ثلاث، ثمّ قال أبوعبداللهعليه‌السلام هذا لمن أخذ الله منه شيئاً قسراً.

أقول: والرواية مرويّة بطرق اُخرى متقاربة.

وفي المعاني عن الصادقعليه‌السلام : الصلاة من الله رحمة، ومن الملائكة التزكية، ومن الناس دعاء.

أقول: وفي معناه عدّة روايات اُخر، وبين هذه الرواية وما تقدّمها تناف ظاهراً حيث أنّ الرواية السابقة تعدّ الصلاة غير الرحمة، ويساعد عليه ظاهر قوله عليهم صلوات من ربّهم ورحمة، وهذه الرّواية تعدّها رحمة ويرتفع التنافى بالرجوع إلى ما تقدّم من البيان.

٣٨٩

( سورة البقرة الآية ١٥٨)

إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ  فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا  وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ( ١٥٨ )

( بيان)

الصفا والمروة موضعان بمكّة يأتي الحجّاج بينهما بعمل السعي، وهما جبلان مسافة بينهما سبعمأة وستّون ذراعاً ونصف ذراع على ما قيل، وأصل الصفا في اللّغة الحجر الصلب الأملس، وأصل المروة الحجر الصّلب، والشعائر جمع شعيرة، وهي العلامة، ومنه المشعر، ومنه قولنا: أشعر الهدى، أي أعلمه، والحجّ هو القصد بعد القصد، أي القصد المكرّر وهو في اصطلاح الشرع العمل المعهود بين المسلمين، والاعتمار الزيارة وأصله العمارة لأنّ الديار تعمر بالزيارة، وهو في اصطلاح الشرع زيارة، البيت بالطريق المعهود، والجناح الميل عن الحقّ والعدل، ويراد به الإثم، فيؤل نفي الجناح إلى التجويز، والتطوّف من الطواف، وهو الدوران حول الشئ، وهو السير الّذي ينتهي آخره إلى أوّله، ومنه يعلم أن ليس من اللّازم كونه حول شئ وإنّما ذلك من مصاديقه الظاهرة وعلى هذا المعنى أطلق التطوّف في الآية فإنّ المراد به السعي وهو قطع ما بين الصفا والمروة من المسافة سبع مرّات متوالية، والتطوّع من الطوع بمعنى الطاعه، وقيل: إنّ التطوّع يفارق الإطاعة في أنّه يستعمل في المندوب خاصّة، بخلاف الإطاعة ولعلّ ذلك - لو صحّ هذا القول - بعناية أنّ العمل الواجب لكونه إلزاميّاً كأنّه ليس بمأتيّ به طوعاً، بخلاف المأتيّ من المندوب فإنّه على الطوع من غير شائبة، وهذا تلطّف عنائيّ وإلّا فأصل الطوع يقابل الكره ولا ينافي الأمر الإلزاميّ. قال تعالى:( قَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ) فصّلت - ١١، وأصل باب التفعّل الأخذ لنفسه، كقولنا: تميّز أي أخذ، يميّز وتعلّم الشئ أي أخذ يعلمه، وتطوّع خيراً أي أخذ يأتي بالخير بطوعه، فلا دليل من جهة اللّغة على اختصاص

٣٩٠

التطوّع بالامتثال الندبيّ إلّا أنّ توجبه العناية العرفيّة المذكورة.

فقوله تعالى: ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ ) إلى قوله: يطوّف بهما يشير إلى كون المكانين معلّمين بعلامة الله سبحانه، يدلّان بذلك عليه، ويذكّر أنّه تعالى واختصاصهما بكونهما من الشعائر دون بقيّة الأشياء جميعاً يدلّ على أنّ المراد بالشعائر ليست الشعائر التكوينيّة بل هما شعيرتان بجعله تعالى إيّاهما معبدين يعبد فيهما، فهما يذكّران الله سبحانه، فكونهما شعيرتين يدلّ على أنّه تعالى قد شرع فيهما عبادة متعلّقة بهما، وتفريع قوله:( فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) إنّما هو للإيذان بأصل تشريع السعي بين الصفا والمروة، لا لإفادة الندب، ولو كان المراد إفادة الندب كان الأنسب بسياق الكلام أن يمدح التطوّف لا أن ينفي ذمّه، فإنّ حاصل المعنى أنّه لما كان الصفا والمروة معبدين ومنسكين من معابد الله فلا يضرّكم أن تعبدوه فيهما، وهذا لسان التشريع، ولو كان المراد إفادة الندب كان الأنسب أن يفاد أنّ الصفا والمروة، لما كانا من شعائر الله فإنّ الله يحبّ السعي بينهما - وهو ظاهر - والتعبير بأمثال هذا القول الّذي لا يفيد وحده الإلزام في مقام التشريع شائع في القرآن، وكقوله تعالى في الجهاد:( ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ ) الصفّ - ١١، وفي الصوم( وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ) البقرة - ١٨٤، وفي القصر( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ ) النساء - ١٠١.

قوله تعالى: ( وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ) ، إن كان معطوفاً على مدخول فاء التفريع في قوله تعالى:( فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ ) ، كان كالتعليل لتشريع التطوّف بمعنى آخر أعمّ من العلّة الخاصّة الّتي تبيّن بقوله: إنّ الصفا والمروة، وكان المراد بالتطوّع مطلق الإطاعة لا الإطاعة المندوبة، وإن كان استينافاً بالعطف إلى أوّل الآية كان مسوقاً لإفادة محبوبيّة التطوّف في نفسه إن كان المراد بتطوّع الخير هو التطوّف أو مسوقاً لإفادة محبوبيّة الحجّ والعمرة إن كان هما المراد بتطوّع الخير هذا.

والشاكر والعليم اسمان من أسماء الله الحسنى، والشكر هو مقابلة من اُحسن إليه إحسان المحسن بإظهاره لساناً أو عملاً كمن ينعم إليه المنعم بالمال فيجازيه بالثناء

٣٩١

الجميل الدالّ على نعمته أو باستعمال المال في ما يرتضيه، ويكشف عن إنعامه، والله سبحانه وإن كان محسناً قديم الإحسان ومنه كلّ الإحسان لا يد لأحد عنده حتّى يستوجبه الشكر إلّا أنّه جلّ ثناؤه عدّ الأعمال الصالحة الّتي هي في الحقيقة إحسانه إلى عباده إحساناً من العبد إليه، فجازاه بالشكر والإحسان وهو إحسان على إحسان. قال تعالى:( هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ) الرحمن - ٦٠، وقال تعالى:( إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا ) الدهر - ٢٢، فإطلاق الشاكر عليه تعالى على حقيقة معنى الكلمة من غير مجاز.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ: عن بعض أصحابنا عن الصادقعليه‌السلام : سألته: عن السعي بين صفا والمروة فريضة هي أم سنّة ؟ قال: فريضة، قلت: أليس الله يقول: فلا جناح عليه أن يطوّف بهما ؟ قال كان ذلك في عمرة القضاء، وذلك أنّ رسول الله كان شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام فتشاغل رجل من أصحابه حتّى اُعيدت الأصنام. قال: فأنزل الله، إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوّف بهما، أي والأصنام عليها.

أقول: وعن الكافي ما يقرب منه.

وفي الكافي أيضاً عن الصادقعليه‌السلام : في حديث حجّ النبيّعليه‌السلام : بعد ما طاف بالبيت وصلّى ركعتيه قال:صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فأبدء بما بدء الله عزّوجلّ، وإنّ المسلمين كانوا يظنّون أنّ السعي بين الصفا والمروة شئٌ صنعه المشركون فأنزل الله إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوّف بهما.

أقول: ولا تنافي بين الروايتين في شأن النزول، وهو ظاهر، وقولهعليه‌السلام في الرواية فأبدء بما بدء الله ملاك التشريع، وقد مضى في حديث هاجر وسعيها سبع مرّات بين الصفا والمروة أنّ السنّة جرت بذلك.

٣٩٢

وفي الدرّ المنثور: عن عامر الشّعبي قال: كان وثن بالصفا يدعى إساف، ووثن بالمروة يدعى نائلة فكان أهل الجاهليّة إذا طافوا بالبيت يسعون بينهما ويمسحون الوثنين فلمّا قدم رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قالوا: يا رسول الله إنّ الصفا والمروة إنّما كان يطاف بهما من أجل الوثنين، وليس الطواف بهما من الشعائر، فأنزل الله: إنّ الصفا والمروة الآية فذكر الصفا من أجل الوثن الّذي كان عليه، وأثبت المروة من جهة الصنم الّذي كان عليه موثباً.

أقول: وقد روى الفريقان في المعاني السابقة روايات كثيرة.

ومقتضى جميع هذه الروايات أنّ الآية نزلت في تشريع السعي في سنة حجّ فيها المسلمون، وسورة البقرة أوّل سورة نزلت بالمدينة، ومن هنا يستنتج أنّ الآية غير متّحدة السياق مع ما قبلها من آيات القبلة فإنّها نزلت في السنة الثانية من الهجرة كما تقدّم، ومع الآيات الّتى في مفتتح السورة، فإنّها نزلت في السنة الاُولى من الهجرة فللآيات سياقات متعدّدة كثيرة، لا سياق واحد.

٣٩٣

( سورة البقرة الآيات ١٥٩ - ١٦٢)

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ  أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ( ١٥٩ ) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ  وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١٦٠ ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( ١٦١ ) خَالِدِينَ فِيهَا  لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ( ١٦٢ )

( بيان)

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ ) ، الظاهر - والله أعلم - أنّ المراد بالهدى ما تضمّنه الدين الإلهيّ من المعارف والأحكام الّذي يهدي تابعيه إلى السعادة، وبالبيّنات الآيات والحجج الّتي هي بيّنات وأدلّة وشواهد على الحقّ الّذي هو الهدى، فالبيّنات في كلامه تعالى وصف خاصّ بالآيات النازلة، وعلى هذا يكون المراد بالكتمان - وهو الإخفاء - أعمّ من كتمان أصل الآية، وعدم إظهاره للناس، أو كتمان دلالته بالتأويل أو صرف الدلالة بالتوجيه، كما كانت اليهود تصنع ببشارات النبوّة ذلك فما يجهله الناس لا يظهرونه لهم، وما يعلم به الناس يؤوّلونه بصرفه عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ ) ، أفاد أنّ كتمانهم إنّما هو بعد البيان والتبيّن للناس، لا لهم فقط، وذلك أنّ التبيّن لكلّ شخص شخص من أشخاص الناس أمر لا يحتمله النظام الموجود المعهود في هذا العالم، لا في الوحي فقط، بل في كلّ إعلام عموميّ وتبيين مطلق، بل إنّما يكون باتّصال الخبر إلى بعض الناس من غير واسطة وإلى بعض آخرين بواسطتهم، بتبليغ الحاضر الغائب والعالم الجاهل، فالعالم يعدّ من وسائط البلوغ وأدواته، كاللسان والكلام: فإذا بيّن الخبر للعالم المأخوذ عليه الميثاق

٣٩٤

بعلمه مع غيره من المشافهين فقد بين الناس، فكتمان العالم علمه هذا كتمان العلم عن الناس بعد البيان لهم وهو السبب الوحيد الّذي عدّه الله سبحانه سبباً لإختلاف الناس في الدين وتفرّقهم في سبل الهداية والضلالة، وإلّا فالدين فطريّ تقبله الفطرة وتخضع له القوّة المميّزة بعد ما بيّن لها، قال تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) الروم - ٣٠، فالدّين فطريّ على الخلقة لا يدفعه الفطرة أبداً لو ظهر لها ظهوراً ما بالصفاء من القلب، كما في الأنبياء، أو ببيان قوليّ، ولا محالة ينتهي هذا الثّاني إلى ذلك الأوّل فافهم ذلك.

ولذلك جمع في الآية بين كون الدّين فطريّاً على الخلقة وبين عدم العلم به فقال: فطرة الله الّتي فطر الناس عليها، وقال: لكنّ أكثر الناس لا يعلمون، وقال تعالى:( وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) البقرة - ٢١٣، فأفاد أنّ الإختلاف فيما يشتمل عليه الكتاب إنّما هو ناش عن بغي العلماء الحاملين له، فالإختلافات الدينيّة والانحراف عن جادّة الصواب معلول بغى العلماء بالإخفاء والتأويل والتحريف، وظلمهم، حتّى أن الله عرّف الظلم بذلك يوم القيامة كما قال:( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ) الأعراف - ٤٤، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

فقد تبيّن أنّ الآية مبتنية على الآية أعني: أنّ قوله تعالى: إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب الآية، مبتنية على قوله تعالى: كان الناس أمّةً واحدة فبعث الله النبيّين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلّا الّذين أوتوه من بعد ما جائتهم البينات بغياً بينهم الآية، ومشيرة إلى جزاء هذا البغي بذيلها وهو قوله: أولئك يلعنهم الله إلخ.

قوله تعالى: ( أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) ، بيان لجزاء بغي الكاتمين لما أنزله الله من الآيات والهدى، وهو اللّعن من الله، واللّعن من كلّ لاعن، وقد كرّر اللّعن

٣٩٥

لأنّ اللّعن مختلف فإنّه من الله التبعيد من الرحمة والسعادة ومن اللاعنين سؤاله من الله، وقد أطلق اللّعن منه ومن اللاعنين وأطلق اللاعنين، وهو يدلّ على توجيه كلّ اللعن من كلّ لاعن إليهم والاعتبار يساعد عليه فإنّ الّذي يقصده لاعن بلعنه هو البعد عن السعادة، ولا سعادة بحسب الحقيقة، إلّا السعادة الحقيقيّة الدينيّة وهذه السعادة لما كانت مبيّنة من جانب الله، مقبولة عند الفطرة، فلا يحرم عنها محروم إلّا بالردّ والجحود، وكلّ هذا الحرمان إنّما هو لمن علم بها وجحدها عن علم دون من لا يعلم بها ولم تبيّن له، وقد أخذ الميثاق على العلماء أن يبّثوا علمهم وينشروا ما عندهم من الآيات والهدى، فإذا كتموه وكفّوا عن بثّه فقد جحدوه فأولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، ويشهد لما ذكرنا الآية الآتية: أنّ الّذين كفروا وماتوا وهم كفّار - إلى قوله - أجمعين الآية فإنّ الظاهر أن قوله: أنّ للتعليل أو لتأكيد مضمون هذه الآية، بتكرار ما هو في مضمونها ومعناها وهو قوله: الّذين كفروا وماتوا وهم كفّار.

قوله تعالى: ( إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا ) الآية، استثناء من الآية السابقة، والمراد بتقييد توبتهم بالتبيّن أن يتبيّن أمرهم ويتظاهروا بالتوبة، ولازم ذلك أن يبيّنوا ما كتموه للناس وأنّهم كانوا كاتمين وإلّا فلم يتوبوا بعد لأنّهم كاتمون بعد بكتمان أنّهم كانوا كاتمين.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ) ، كناية عن إصرارهم على كفرهم وعنادهم وتعنّتهم في قبول الحقّ فإنّ من لا يدين بدين الحقّ لا لعناد واستكبار بل لعدم تبيّنه له ليس بكافر بحسب الحقيقة، بل مستضعف، أمره إلى الله، ويشهد بذلك تقييد كفر الكافرين في غالب الآيات والتكذيب وخاصّة في آيات هبوط آدم المشتملة على أوّل تشريع شرّع لنوع الإنسان، قال تعالى:( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى - إلى قوله -وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) البقرة - ٣٩، فالمراد بالّذين كفروا في الآية هم المكذّبون المعاندون - وهم الكاتمون لما أنزل الله - وجازاهم الله تعالى بقوله: أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وهذا حكمٌ من الله سبحانه أن يلحق بهم كلّ لعن لعن به ملك

٣٩٦

من الملائكة أو أحد من الناس جميعاً من غير استثناء، فهؤلاء سبيلهم سبيل الشيطان، إذ قال الله سبحانه فيه:( وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ ) الحجر - ٣٥، فجعل جميع اللّعن عليه فهؤلاء - وهم العلماء الكاتمون لعلمهم - شركاء الشيطان في اللّعن العامّ المطلق ونظراؤه فيه، فما أشدّ لحن هذه الآية وأعظم أمرها ! وسيجئ في الكلام على قوله تعالى:( لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ) الانفال - ٣٧، ما يتعلّق بهذا المقام إنشاء الله العزيز.

قوله تعالى: ( خَالِدِينَ فِيهَا ) ، أي في اللّعنة، وقوله: لا يخفّف عنهم العذاب ولا هم ينظرون، في تبديل السياق بوضع العذاب موضع اللّعنة دلالة على أنّ اللعنة تتبدّل عليهم عذاباً.

واعلم أنّ في هذه الآيات موارد من الالتفات، فقد التفت في الآية الاُولى من التكلّم مع الغير إلى الغيبة في قوله: أولئك يلعنهم الله، لأنّ المقام مقام تشديد السخط، والسخط يشتدّ إذا عظم اسم من ينسب إليه أو وصفه - ولا أعظم من الله سبحانه - فنسب إليه اللّعن ليبلغ في الشدّة كلّ مبلغ، ثمّ التفت في الآية الثانية من الغيبة إلى التكلّم وحده بقوله: فأولئك أتوب عليهم وأنا التوّاب الرحيم، للدلالة على كمال الرحمة والرأفة، بإلقاء كلّ نعت وطرح كلّ صفة وتصدّى الأمر بنفسه تعالى وتقدّس، فليست الرأفة والحنان المستفادة من هذه الجملة كالّتي يستفاد من قولنا مثلاً: فأولئك يتوب الله عليهم أو يتوب ربّهم عليهم، ثمّ التفت في الآية الثالثة من التكلّم وحده إلى الغيبة بقوله: أولئك عليهم لعنة الله، والوجه فيه نظير ما ذكرناه في اللتفات الواقع في الآية الاُولى.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ عن بعض أصحابنا عن الصادقعليه‌السلام قال: قلت له: أخبرني عن قول الله عزّوجلّ: إنّ الّذين يكتمون الآية، قال: نحن نعني بها - والله المستعان - إنّ الواحد منّا إذا صارت إليه لم يكن له أو لم يسعه إلّا أن يبيّن للناس من يكون بعده.

وعن الباقرعليه‌السلام : في الآية، قال: يعني بذلك نحن، والله المستعان.

وعن محمّد بن مسلم قالعليه‌السلام : هم أهل الكتاب.

٣٩٧

أقول: كلّ ذلك من قبيل الجري والانطباق، وإلّا فالآية مطلقة.

وفي بعض الروايات عن عليّعليه‌السلام : تفسيره بالعلماء إذا فسدوا.

وفي المجمع عن النبيّ في الآية، قال: من سأل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار، وهو قوله: أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون.

أقول: والخبران يؤيّدان ما قدّمناه.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى: ويلعنهم اللاعنون، قال: نحن هم، وقد قالوا: هوامّ الأرض.

أقول: هو إشارة إلى ما يفيده قوله تعالى:( وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) هود - ١٨، فإنّهم الأشهاد المأذونون في الكلام يوم القيامة، والقائلون صواباً. وقوله: وقالوا: هوامّ الأرض، هو منقول عن المفسّرين كمجاهد وعكرمة وغيرهما، وربّما نسب في بعض الروايات إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام : إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدي، في عليّ.

أقول: وهو من قبيل الجري والانطباق.

٣٩٨

( سورة البقرة الآيات ١٦٣ - ١٦٧)

وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ  لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ( ١٦٣ ) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( ١٦٤ ) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ  وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ  وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ( ١٦٥ ) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ( ١٦٦ ) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا  كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ  وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ( ١٦٧ )

( بيان)

الآيات متّحدة متّسقة ذات نظم واحد - وهي تذكر التوحيد - وتقيم عليه البرهان وتذكر الشرك وما ينتهي إليه أمره.

قوله تعالى: ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد ) ، قد مرّ معنى الإله في الكلام على البسملة من سورة الحمد في أوّل الكتاب، وأمّا الوحدة فمفهومها من المفاهيم البديهيّة الّتي لا نحتاج في تصوّرها إلى معرّف يدلّنا عليها، والشئ ربّما يتّصف بالوحدة من حيث وصفٍ من أوصافه، كرجل واحد، وعالم واحد، وشاعر واحد، فيدلّ به على أنّ الصفة الّتي فيه لا تقبل الشركة ولا تعرّضها الكثرة، فإنّ الرجوليّة الّتي في زيد مثلاً - وهو رجل واحد - ليست منقسمة بينه وبين غيره، بخلاف ما في زيد وعمرو مثلاً - وهما رجلان - فإنّه

٣٩٩

منقسم بين اثنين كثير بهما، فزيد من جهة هذه الصفة - وهي الرجوليّة - واحد لا يقبل الكثرة، وإن كان من جهة هذه الصفة وغيرها من الصفات كعلمه، وقدرته، وحياته، ونحوها ليس بواحد بل كثير حقيقة. والله سبحانه واحد، من جهة أنّ الصفة الّتي لا يشاركه فيها غيره، كالاُلوهيّة فهو واحد في الاُلوهيّة، لا يشاركه فيها غيره تعالى، والعلم و القدرة والحياة، فله علم لا كالعلوم وقدرة وحياة لا كقدرة غيره وحياته، وواحد من جهة أنّ الصفات الّتي له لا تتكثّر ولا تتعدّد إلّا مفهوماً فقط، فعلمه وقدرته وحياته جميعها شئٌ واحد هو ذاته، ليس شئ منها غير الآخر بل هو تعالى يعلم بقدرته ويقدر بحياته وحيّ بعلمه، لا كمثل غيره في تعدّد الصفات عيناً ومفهوماً، وربّما يتّصف الشئٌ بالوحدة من جهة ذاته، وهو عدم التكثّر والتجزّي في الذات بذاته، فلا تتجزّى إلى جزء وجزء، وإلى ذات واسم وهكذا. وهذه الوحدة هي المسمّاة بأحديّة الذات، ويدلّ على هذا المعنى بلفظ أحد، الّذي لا يقع في الكلام من غير تقييد بالإضافة إلّا إذا وقع في حيّز النفي أو النهي أو ما في معناهما كقولنا ما جائني أحد، فيرتفع بذلك أصل الذات سواء كان واحداً أو كثيراً، لأنّ الوحدة مأخوذه في أصل الذات لا في وصف من أوصافه بخلاف قولنا: ما جائني واحد فإنّ هذا القول لا يكذب بمجئ اثنين أو أزيد لأنّ الوحدة مأخوذة في صفة الجائى وهو الرجوليّة في رجل واحد مثلاً فاحتفظ بهذا الاجمال حتّى نشرحه تمام الشرح في قوله تعالى:( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) الإخلاص - ١، إنشاء الله تعالى.

وبالجملة فقوله: وإلهكم إله واحد، تفيد بجملته اختصاص الاُلوهيّة بالله عزّاسمه، ووحدته فيها وحدة تليق بساحة قدسه تبارك وتعالى، وذلك أنّ لفظ الواحد بحسب المتفاهم عند هؤلاء المخاطبين لا يدلّ على أزيد من مفهوم الوحدة العامّة الّتي تقبل الانطباق على أنواع مختلفة لا يليق بالله سبحانه إلّا بعضها فهناك وحدة عدديّة ووحدة نوعيّة ووحدة جنسيّة وغير ذلك، فيذهب وهم كلّ من المخاطبين إلى ما يعتقده ويراه من المعنى. ولو كان قيل: والله إله واحد، لم يكن فيه توحيد لأنّ أرباب الشرك يرون أنّه تعالى إله واحد، كما أنّ كلّ واحد من آلهتهم إله واحد، ولو كان قيل:

٤٠٠

والبعض الآخر قال : إنّها مسألة الخلق والرزق والحياة والموت والعزّة والذلّة فقط.

والبعض الآخر عنون مسألة الخلق والموت بالنسبة للإنسان وقال : إنّ لله جيوشا ثلاثة : جيش ينتقل من أصلاب الآباء إلى أرحام الامّهات ، وجيش يخرج إلى عالم الدنيا من أرحام الامّهات ، وجيش يساق من عالم الدنيا إلى القبور.

وكما قلنا فإنّ للآية مفهوما واسعا يشمل كلّ خلق جديد وخلقة جديدة ، ويشمل كلّ تغيير وتحوّل في هذا العالم.

ونقرأ في رواية لأمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال في أحد خطبه : «الحمد لله الذي لا يموت ولا تنقضي عجائبه لأنّه كلّ يوم هو في شأن ، من إحداث بديع لم يكن»(١) .

ونقرأ في حديث آخر للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسيره الآية الكريمة : «من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرّج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين»(٢) .

ولا بدّ من الانتباه لهذه النقطة أيضا : إنّ المقصود من (يوم) هو ليس (النهار) في مقابل (الليل) بل يشمل الأحقاب المتزامنة ، وكذلك الساعات واللحظات ، ومفهومه أنّ الله المتعال في كلّ زمان في شأن وعمل.

كما أنّ البعض ذكروا شأنا نزوليا للآية ، وهو أنّها نزلت ردّا على قول اليهود الذين يعتقدون أنّ اللهعزوجل يعطّل كلّ الأعمال في يوم السبت ، ولا يصدر أي حكم(٣) . فالقرآن الكريم يقول : إنّ خلق الله وتدبيره ليس له توقّف.

ومرّة اخرى ـ بعد هذه النعم المستمرّة والإجابة لاحتياجات جميع خلقه من أهل السماوات والأرض يكرّر قوله سبحانه :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

* * *

__________________

(١) أصول الكافي مطابق نقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٩٣.

(٢) مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث ، ونقل هذا الحديث أيضا في روح المعاني من صحيح البخاري.

(٣) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٠٢.

٤٠١

بحوث

١ ـ ما هي حقيقة الفناء؟

ما مرّ بنا في الآيات السابقة وهو أنّ «الكلّ يفنى إلّا الله» ليس بمعنى الفناء المطلق ، وأنّ روح الإنسان تفنى أيضا أو أنّ التراب الناشئ من بدنه بعد الموت سينعدم أيضا ، إذ أنّ الآيات القرآنية صرّحت بوجود عالم البرزخ إلى يوم القيامة(١) .

ومن جهة اخرى فإنّ الله سبحانه يذكر لمرّات عدّة أنّ الموتى يخرجون من قبورهم يوم القيامة(٢) .

ويذكر سبحانه في آية اخرى أنّ رميم العظام يلبس الحياة مرّة اخرى بأمر الله(٣) .

وهذه الآيات كلّها شاهد على أنّ الفناء في الآية والآيات الاخرى بمعنى اضطراب نظام الجسم والروح وقطع الارتباط بينهما واضطراب عالم الخلقة كذلك ، وحلول عالم جديد محلّ العالم السابق.

٢ ـ استمرار الخلق والإبداع

قلنا : إنّ الآية الكريمة :( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) تدلّ على دوام الخلقة واستمرار الخلق ، وأنّها مبعث أمل من جهة ، ونافية للغرور من جهة اخرى ، لذا فانّ القادة الإسلاميين يعتمدون عليها كثيرا لبعث الأمل في النفوس ، كما نقرأ ذلك في تبعيد الصحابي الجليل «أبى ذرّ الغفاري» إلى (الربذة) حيث يذكر التاريخ أنّ علياعليه‌السلام جاء لتوديعه فواساه بكلمات مؤثّرة ، ثمّ أعقبه ابنه الإمام الحسنعليه‌السلام حيث خاطب أبا ذر رضى الله عنه بقوله «يا عمّاه» تكريما له وأعقبه أخوه سيّد الشهداء الإمام

__________________

(١) المؤمنون ، ١٠٠.

(٢) سورة يس ، ٥١.

(٣) سورة يس ، ٧٩.

٤٠٢

الحسينعليه‌السلام بقوله لأبي ذرّ : «يا عمّاه إنّ الله تعالى قادر على أن يغيّر ما قد ترى. الله كلّ يوم في شأن ، وقد منعك هؤلاء القوم دنياهم ومنعتهم دينك فاسأل الله الصبر والنصر(١)

ونقرأ أيضا أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام وهو في طريقه إلى كربلاء لقي الشاعر «الفرزدق» عند (صفاح) فسأله الإمامعليه‌السلام عن خبر الناس خلفه ـ إشارة إلى أهل العراق ـ فقال : الخبير سألت ، قلوب الناس معك ، وسيوفهم مع بني أميّة ، والقضاء ينزل من السماء والله يفعل ما يشاء. فقال الإمام الحسينعليه‌السلام : (صدقت لله الأمر يفعل ما يشاء وكلّ يوم ربّنا في شأن)(٢) .

وكلّ ذلك يرينا أنّ هذه الآية هي الآية باعثة للأمل في نفوس المؤمنين.

وثمّة قصّة اخرى في هذا الصدد حيث ذكروا أنّ أحد الأمراء سأل وزيره عن تفسير هذه الآية ، إلّا أنّ الوزير أعلن عن عدم علمه بها وطلب مهلة ليوم غد ، ورجع إلى البيت محزونا ، وكان لديه غلام أسود ذو علم ومعرفة ، فسأله عمّا به ، فحدّث غلامه بالقصّة ، فأجابه : إذا ذهبت إلى الأمير فأخبره إذا كان يرغب في معرفة تفسير هذه الآية فأنا مستعدّ لذلك فطلبه الأمير وسأله ، فأجابه الغلام : يا أمير ، شأنه يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل ، ويخرج الحيّ من الميّت ، ويخرج الميّت من الحيّ ، ويشفي سقيما ، ويسقم سليما ، ويبتلي معافى ، ويعافي مبتلى ، ويعزّ ذليلا ، ويذلّ عزيزا ، ويفقر غنيّا ، ويغني فقيرا

فقال الأمير : «فرّجت عنّي فرّج الله عنك» ثمّ أكرمه وأنعمه(٣) .

٣ ـ الحركة الجوهرية

__________________

(١) الغدير ، ج ٨ ، ص ٣٠١.

(٢) الكامل لابن الأثير ، ج ٤ ، ص ٤٠.

(٣) تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٣٣٧.

٤٠٣

بعض المؤيديّن للحركة الجوهرية يستدلّون لإثبات مرادهم بالآيات القرآنية أو يعتبرونها إشارة لمقصودهم ، ومن ضمن ما يستشهدون به الآية الكريمة :( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) .

التوضيح : يعتقد الفلاسفة القدماء أنّ للحركة أربع مقولات عرضية هي : (أين ، كيف ، كم ، وضع).

وبتعبير أوضح أنّ حركة الجسم تكون بتغيير مكانه وذلك بانتقاله ، وهذه هي مقولة (الأين) ، أو بنموّه أو زيادة كمّيته وهذه مقولة «الكم». أو تغيّر اللون والطعم والرائحة (كشجرة التفاح) وهذا المقصود من «الكيف» ، أو أن يدور في مكانه حول نفسه كالحركة الوضعية للأرض وهذا ما يراد به من «الوضع».

وقد كان سائدا أنّ الحركة غير ممكنة في جوهر وذات الجسم أبدا ، لأنّه في كلّ حركة يجب أن تكون ذات الجسم المتحرّك ثابتة ، إلّا أنّ عوارضه قد تتغيّر ، فالحركة لا تتصوّر في ذات الشيء وجوهره ، بل في اعراضه.

لكنّ الفلاسفة المتأخرّين رفضوا هذه النظرية واعتقدوا بالحركة الجوهرية ، وقالوا : إنّ أساس الحركة هي الذات ، الجوهر ، والتي تظهر آثارها في العوارض.

وأوّل شخص طرح هذه النظرية بشكل تفصيلي استدلالي هو المولى صدر الدين الشيرازي حيث قال : إنّ كلّ ذرّات الكائنات وعالم المادّة في حركة دائبة ، أو بتعبير آخر : إنّ مادّة الأجسام وجود سيّال متغيّر الذات دائما ، وفي كلّ لحظة له وجود جديد يختلف عن الوجود السابق له ، ولكون هذه التغيّرات متّصلة مع بعضها فإنّها تحسب شيئا واحدا ، وبناء على هذا فإنّ لنا في كلّ لحظة وجودا جديدا ، إلّا أنّ هذه الوجودات متصلة ومستمرة ولها صورة واحدة ، أو بتعبير آخر : إنّ المادة لها أربعة أبعاد (طول وعرض وعمق وأمّا البعد الآخر فهو ما نسمّيه (الزمان) وهذا الزمان ليس بشيء إلّا مقدار الحركة في الجوهر) لاحظوا جيّدا.

وممّا يجدر ذكره أنّ الحركة الجوهرية لا ترتبط بمسألة الحركة في داخل

٤٠٤

الذرّة لأنّها حركة وضعية وعرضية ، أمّا الحركة في الجوهر فلها مفهوم عميق جدّا تشمل الذات والجوهر.

والعجيب هنا أنّ المتحرّك هو نفس الحركة.

ولإثبات هذا المقصود فإنّهم يستدلّون بدلائل عديدة لا مجال لذكرها هنا ، إلّا أنّه لا بأس بالإشارة إلى نتيجة هذا الرأي الفلسفي وهو أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ إدراكنا لمسألة معرفة الله أوضح من أي زمان ، لأنّ الخلق والخلقة لم تكن في بداية الخلق فحسب ، بل إنّها في كلّ ساعة وكلّ لحظة ، وإنّ الله سبحانه مستمر في خلقه ، ونحن مرتبطون به دائما ومستفيضون من فيض ذاته وهذا معنى( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) .

ومن الطبيعي أن لا مانع من أن يكون هذا المفهوم جزءا من المفهوم الواسع للآية الكريمة.

* * *

٤٠٥

الآيات

( سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦) )

التّفسير

التحدّي المشروط :

النعم الإلهيّة التي استعرضتها الآيات السابقة كانت مرتبطة بهذا العالم ، إلّا أنّ الآيات مورد البحث تتحدّث عن أوضاع يوم القيامة ، وخصوصيات المعاد ، وفي الوقت الذي تحمل تهديدا للمجرمين ، فإنّها وسيلة لتربية وتوعية وإيقاظ المؤمنين ، بالإضافة إلى أنّها مشجّعة لهم للسير في طريق مرضاته سبحانه ، ومن هنا فإنّنا نعتبرها نعمة. لذلك بعد ذكر كلّ واحدة من هذه النعم يتكرّر نفس السؤال الذي كان يعقّب ذكر كلّ نعمة من النعم السابقة.

٤٠٦

يقول سبحانه في البداية :( سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ ) (١) (٢) .

نعم ، إنّ الله العالم القادر سيحاسب في ذلك اليوم الإنس والجنّ حسابا دقيقا على جميع أعمالهم وأقوالهم ونيّاتهم ، ويعيّن لكلّ منهم الجزاء والعقاب.

ومع علمنا بأنّ الله سبحانه لا يشغله عمل عن عمل ، وعلمه محيط بالجميع في آن واحد ، ولا يشغله شيء عن شيء (ولا يشغله شأن عن شأن) ولكنّنا نواجه التعبير في (سنفرغ) والتي تستعمل غالبا بالتوجّه الجادّ لعمل ما ، والانصراف الكلّي له ، وهذا من شأن المخلوقات بحكم محدوديتها.

إلّا أنّه استعمل هنا لله سبحانه ، تأكيدا على مسألة حساب الله تعالى لعباده بصورة لا يغادر فيها صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ، ولا يغفل عن مثقال ذرّة من أعمال الإنسان خيرا أو شرّا ، والأظرف من ذلك أنّ الله الكبير المتعال هو الذي يحاسب بنفسه عبده الصغير ، وعلينا أن نتصوّركم هي مرعبة ومخيفة تلك المحاسبة.

(الثقلان) من مادّة (ثقل) على وزن (كبر) بمعنى الحمل الثقيل وجاءت بمعنى الوزن أيضا ، إلّا أنّ (ثقل) على وزن (خبر) تقال عادة لمتاع وحمل المسافرين ، وتطلق على جماعة الإنس والجنّ وذلك لثقلهم المعنوي ، لأنّ الله تبارك وتعالى قد أعطاهم عقلا وشعورا وعلما ووعيا له وزن وقيمة بالرغم من أنّ الثقل الجسدي لهم ملحوظ أيضا كما قال تعالى :( وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ) ،(٣) حيث ورد أنّ أحد معانيها هو خروج الناس من القبور في يوم القيامة ، إلّا أنّ التعبير في الآية مورد البحث جاء باللحاظ المعنوي ، خاصّة وأنّ الجنّ ليس لهم ثقل مادّي.

__________________

(١) يجب الالتفات إلى أنّ رسم الخطّ القديم في القرآن المجيد كتبت (أيّها) في موارد بصورة (أيّه) والتي هي في الآية مورد البحث وآيتين أخريين (النور آية ٣١ ، والزخرف آية ٤٩) في الوقت الذي تكتب (أيّها) في الحالات الاخرى بالألف الممدودة ، والملاحظ أنّها كانت على أساس قاعدة رسم الخطّ القديم.

(٢) مع كون «الثقلين» تنبيه فالضمير في لكم أتى جمعا وذلك إشارة إلى مجموعتين.

(٣) الزلزلة ، ٢.

٤٠٧

التأكيد على هاتين الطائفتين بالخصوص لأنّ التكاليف الإلهيّة مختّصة بهما في الغالب.

وبعد هذا يكرّر الله سبحانه سؤاله مرّة اخرى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وتعقيبا على الآية السابقة التي كانت تستعرض الحساب الإلهي الدقيق ، يخاطب الجنّ والإنس مرّة اخرى بقوله :( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) للفرار من العقاب الإلهي( فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ) أي بقوّة إلهية ، في حين أنّكم فاقدون لمثل هذه القوّة والقدرة.

وبهذه الصورة فإنّكم لن تستطيعوا أن تفرّوا من محكمة العدل الإلهي ، فحيثما تذهبون فهو ملكه وتحت قبضته ومحلّ حكومته تعالى ، ولا مناصّ لهذا المخلوق الصغير من الفرار من ميدان القدرة الإلهيّة؟ كما قال الإمام عليعليه‌السلام في دعاء كميل بن زياد المربي للروح : (ولا يمكن الفرار من حكومتك).

«معشر» في الأصل من (عشر) مأخوذ من عدد «عشرة» ، ولأنّ العدد عشرة عدد كامل ، فإنّ مصطلح (معشر) يقال : للمجموعة المتكاملة والتي تتكوّن من أصناف وطوائف مختلفة.

«أقطار» جمع (قطر) بمعنى أطراف الشيء.

«تنفذوا» من مادّة (نفوذ) ، وهي في الأصل بمعنى خرق وعبور من شيء ، والتعبير (من أقطار) إشارة إلى شقّ السماوات وتجاوزها إلى خارجها.

وبالمناسبة فإنّ تقديم «الجنّ» هنا جاء لاستعدادهم الأنسب للعبور من السماوات ، وقد ورد اختلاف بين المفسّرين على أنّ الآية أعلاه هل تتحدّث عن القيامة ، أو أنّ حديثها عن عالم الدنيا ، أو كليهما؟

ولأنّ الآيات السابقة واللاحقة تتحدّث عن وقائع العالم الآخر ، فإنّ المتبادر إلى الذهن أنّ الآية تتحدّث عن الهروب والفرار من يد العدالة الإلهية الذي يفكّر به

٤٠٨

العاصون في ذلك اليوم.

إلّا أنّ البعض بلحاظ جملة :( لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ) اعتبرها إشارة إلى الرحلات الفضائية للإنسانية ، وقد ذكر القرآن شروطها من القدرة العلمية والصناعية.

ويحتمل أيضا أن يكون المقصود منها هو عالم الدنيا وعالم القيامة ، يعني أنّكم لن تتمكّنوا من النفوذ بدون قدرة الله في أقطار السماوات ليس في هذه الدنيا فحسب ، بل في عالم الآخرة أيضا ، حيث وضعت في الدنيا وسيلة محدودة لاختباركم ، أمّا في الآخرة فلا توجد أيّة وسيلة لكم.

وفسّرها البعض تفسيرا رابعا حيث قالوا : إنّ المقصود بالنفوذ هو النفوذ الفكري والعلمي في أقطار السماوات ، الذي يمكن للبشر إنجازه بواسطة القدرة الاستدلالية.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل مناسب أكثر ، خاصّة وأنّ بعض الأخبار التي نقلت من المصادر الإسلامية تؤيّده ، ومن جملتها حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث يقول :

«إذا كان يوم القيامة جمع الله العباد في صعيد واحد ، وذلك أن يوحي إلى السماء الدنيا أن اهبطي بمن فيك ، فيهبط أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجنّ والإنس والملائكة ، ثمّ يهبط أهل السماء الثانية بمثل الجميع مرتين ، فلا يزالون كذلك حتّى يهبط أهل سبع سماوات فتصير الجنّ والإنس في سبع سرادقات من الملائكة ثمّ ينادي مناد ،( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ) فينظرون فإذا قد أحاط بهم سبع أطواق من الملائكة»(١) .

__________________

(١) تفسير الصافي ص ٥١٧ وتفسير مجمع البيان ج ٩ ص ٢٠٥.

٤٠٩

كما أنّ الجمع بين التفاسير ممكن أيضا.

ويخاطب سبحانه هاتين المجموعتين «الجنّ والإنس» بقوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

والتهديد هنا لطف إلهي أيضا ، فالبرغم من أنّه يحمل تهديدا ظاهريا ، إلّا أنّه عامل للتنبيه والإصلاح والتربية ، حيث أنّ وجود المحاسبة في كلّ نظام هو نعمة كبيرة.

وما ورد في الآية اللاحقة تأكيد لما تقدّم ذكره في الآيات السابقة ، والذي يتعلّق بعدم قدرة الجنّ والإنس من الفرار من يد العدالة الإلهيّة حيث يقول سبحانه :( يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ ) .

«شواظ» كما ذكر الراغب في المفردات ، وابن منظور في لسان العرب ، وكثير من المفسّرين أنّه بمعنى (الشعلة العديمة الدخان) وفسّرها آخرون بأنّها (ألسنة النار) التي تقتطع من النار نفسها حسب الظاهر ، وتكون خضراء اللون. وعلى كلّ حال فإنّ هذا التعبير يشير إلى شدّة حرارة النار.

و «نحاس» بمعنى الدخان أو (الشعل ذات اللون الأحمر مصحوبة بالدخان) والتي تكون بلون النحاس ، وفسّرها البعض بأنّها (النحاس المذاب) وهي لا تتناسب في الظاهر مع ما ورد في الآية مورد البحث ، لأنّها تتحدّث عن موجود يحيط بالإنسان في يوم القيامة ويمنعه من الفرار من حكومة العدل الإلهي.

وكم هي عجيبة (محكمة القيامة) حين يحاط الإنسان إحاطة تامّة بالملائكة والنار الحارقة والدخان القاتل ، ولا مناص إلّا التسليم لحكم الواحد الأحد في ذلك اليوم الرهيب.

ثمّ يضيف سبحانه قوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

والكلام هنا عن النعم والآلاء من أجل ما ذكرنا من اللطف في الآية السابقة.

* * *

٤١٠

الآيات

( فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥) )

التّفسير

يعرف المجرمون بسيماهم :

تكملة للآيات السابقة يتحدّث القرآن الكريم عن بعض مشاهد يوم القيامة ، والآيات أعلاه تذكر خصوصيات من مشاهد ذلك اليوم الموعود ، وعن كيفية الحساب والجزاء والعقاب ، يقول سبحانه في بداية الحديث :( فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ

٤١١

فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ ) (١) .

ويستفاد من مجموع آيات «القيامة» بصورة واضحة أنّ النظام الحالي للعالم سوف يتغيّر ويضطرب وتقع حوادث مرعبة جدّا في كلّ الوجود ، فتتغيّر الكواكب والسيّارات والأرض والسماء ، وتحصل تغيّرات يصعب تصورها ، ومن جملتها ما ذكر في الآية أعلاه ، وهي انشقاق وتناثر الكرات السماوية ، حيث يصبح لونها أحمر بصورة مذابة كالدهن.

(وردة) و (ورد) هو الورد المتعارف ، ولأنّ لون الورد في الغالب يكون أحمر ، فإنّ معنى الاحمرار يتداعى للذهن منها.

ويأتي هذا المصطلح أيضا بمعنى «الخيل الحمر» ، وبما أنّ لونها يتغيّر في فصول السنة حين يكون في الربيع مائلا إلى الصفرة ، وفي الشتاء يحمّر ، ويقتم لونها في البرد الشديد ، فتشبيه السماء يوم القيامة بها هو بلحاظ التغيّرات التي تحصل في ألوانها فتارة يكون لونها كالشعلة الوهاجة أحمر حارقا ، وأحيانا أصفر ، واخرى أسود قاتم ومعتم.

«دهان» على وزن (كتاب) ، بمعنى الدهن المذاب ، وتطلق أحيانا على الرسوبات المتخلّفة للمادّة الدهنية ، وغالبا ما تكون لها ألوان متعدّدة ، ومن هنا ورد هذا التشبيه حيث يصبح لون السماء كالدهن المذاب بلون الورد الأحمر ، أو إشارة إلى ذوبان الكرات السماوية أو اختلاف لونها.

وفسّر البعض «الدهان» بمعنى الجلد أو اللون الأحمر ، وعلى كلّ حال فإنّ هذه التشبيهات تجسّد لنا صورة من مشهد ذلك اليوم العظيم. حيث أنّ حقيقة الحوادث في ذلك اليوم ليس لها شبيه مع أيّة حوادث اخرى من حوادث عالمنا

__________________

(١) توجد احتمالات متعدّدة في أنّ (إذا) في الآية هل هي شرطية ، أم فجائية ، أم ظرفية ، والظاهر أنّ الاحتمال الأوّل هو الأولى ، وجزاء الشرط محذوف ويمكن تقديره هكذا : (فإذا انشقّت السماء فكانت وردة كالدهان ، كانت أهوال لا يطيقها البيان).

٤١٢

هذا. فهذه المشاهد لا نستطيع إدراكها إلّا إذا رأيناها.

ولأنّ الإخبار بوقوع هذه الحوادث المرعبة في يوم القيامة ـ أو قبلها ـ تنبيه وإنذار للمؤمنين والمجرمين على السواء ، ولطف من ألطاف الله سبحانه ، يتكرّر هذا السؤال :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وفي الآية اللاحقة ينتقل الحديث من الحوادث الكونية ليوم القيامة إلى حالة الإنسان المذنب في ذلك اليوم ، حيث يقول سبحانه :( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ ) .

ولماذا هذا السؤال وكلّ شيء واضح في ذلك اليوم ، فهو يوم البروز ، وكلّ شيء يقرأ في وجه الإنسان.

قد يتوهّم أنّ المعنى الوارد في هذه الآية يتنافى مع الآيات الاخرى التي تصرّح وتؤكّد مسألة سؤال الله تعالى لعباده في يوم القيامة ، كما ورد في الآية :( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ) ،(١) وكما في قوله تعالى :( فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ) .(٢)

ويحلّ هذا الإشكال إذا علمنا أنّ يوم القيامة يوم طويل جدّا ، وعلى الإنسان أن يجتاز محطّات ومواقف متعدّدة فيه ، حيث لا بدّ من التوقّف في كلّ محطّة مدّة زمنية ، وطبقا لبعض الرّوايات فإنّ عدد هذه المواقف خمسون موقفا ، وفي بعضها لا يسأل الإنسان إطلاقا ، إذ أنّ سيماء وجهه تحكي عمّا في داخله ، كما ستبيّنه الآيات اللاحقة.

كما أنّ بعض المواقف الاخرى لا يسمح له بالكلام ، حيث تشهد عليه أعضاء بدنه قال تعالى :( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا

__________________

(١) الصافات ، ٢٤.

(٢) الحجر ، ٩٢ ـ ٩٣.

٤١٣

يَكْسِبُونَ ) .(١)

كما أنّ في بعض المحطّات يسأل الإنسان وبدقّة متناهية عن كافّة أعماله(٢) .

وفي بعض المواقف يسلك الإنسان سبيل الجدل والدفاع والمخاصمة(٣) .

وخلاصة القول : إنّ كلّ محطّة لها شروطها وخصوصياتها ، وكلّ واحدة منها أشدّ رعبا من الاخرى.

ومرّة اخرى يخاطب سبحانه عباده حيث يقول :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

نعم إنّه لا يسأل حيث( يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ ) (٤) فهناك وجوه تطفح بالبشر والنور وتعبّر عن الإيمان وصالح الأعمال ، واخرى مسودّة قاتمة مكفهّرة غبراء تحكي قصّة كفرهم وعصيانهم قال تعالى :( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ) .(٥)

ثمّ يضيف سبحانه :( فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ ) .

«النواصي» : جمع ناصية وكما يقول الراغب في المفردات أنّ الأصل بمعنى الشعر بمقدّمة الرأس من مادّة (نصأ) على وزن (نصر) وتعني الاتّصال والارتباط ، «وأخذ بناصيته» بمعنى أخذه من شعره الذي في مقدّمة رأسه ، كما تأتي أحيانا كناية عن الغلبة الكاملة على الشيء.

أقدام : جمع «قدم» بمعنى الأرجل.

والمعنى الحقيقي للآية المباركة هو أنّ الملائكة تأخذ المجرمين في يوم القيامة من نواصيهم وأرجلهم ، ويرفعونهم من الأرض بمنتهى الذلّة ويلقونهم في

__________________

(١) سورة يس ، ٦٥.

(٢) كما ورد في الآية موضع البحث والآيتين المشار لهما أعلاه.

(٣) كما ورد في الآية في سورة النحل الآية (١١١).

(٤) (سيما) في الأصل بمعنى العلامة ، وتشمل كلّ علامة في الوجه وسائر مواضع البدن ، ولأنّ علامة الرضا والغضب تبدو في الوجه أوّلا ، فإنّه يتداعى ذكر الوجه في ذكر هذه المفردات.

(٥) عبس. ٣٩ ـ ٤١.

٤١٤

جهنّم ، أو أنّه كناية عن منتهى ضعف المجرمين وعجزهم أمام ملائكة الرحمن ، حيث يقذفونهم في نار جهنّم بذلّة تامّة ، فما أشدّ هذا المشهد وما أرعبه!!

ومرّة اخرى يضيف سبحانه :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) لأنّ التذكير بيوم القيامة هو لطف منه تعالى.

ثمّ يقول سبحانه :( هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ) .

وذكر المفسّرون تفاسير مختلفة حول المخاطبين المقصودين في هذه الآية الكريمة ، وهل هم حضّار المحشر؟ أو أنّ المخاطب هو شخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب ، وقد ذكر له هذا المعنى في الدنيا؟ والمرجّح في رأينا هو المعنى الثاني خاصّة ، لأنّ الفعل (يكذّب) جاء بصيغة المضارع. وأستفيد من (المجرمون) ما يحمل على الغائب ، وهذا يوضّح أنّ الله تعالى قال لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذه أوصاف جهنّم التي ينكرها المجرمون باستمرار في هذه الدنيا. وقيل : إنّ المخاطب هو جميع الجنّ والإنس حيث يوجّه لهم إنذار يقول لهم فيه : هذه جهنّم التي ينكرها المجرمون ، لها مثل هذه الأوصاف التي تسمعونها ، لذلك يجب أن تنتبهوا وتحذروا أن يكون مصيركم هذا المصير.

ويضيف سبحانه في وصف جهنّم وعذابها المؤلم الشديد حيث يقول :( يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) .

«آن» و «آني» هنا بمعنى الماء المغلي وفي منتهى الحرارة والإحراق ، وفي الأصل من مادّة (إنّا) على وزن (رضا) بمعنى الوقت لأنّ الماء الحارق وصل إلى وقت ومرحلة نهائية.

وبهذه الحالة فإنّ المجرمين يحترقون وسط هذا اللهيب الحارق لنار جهنّم ، ويظمأون ويستغيثون للحصول على ماء يروي ظمأهم ، حيث يعطى لهم ماء مغلي (أو يصبّ عليهم) ممّا يزيد ويضاعف عذابهم المؤلم.

ويستفاد من بعض الآيات القرآنية أنّ (عين حميم) الحارقة تكون بجنب

٤١٥

جهنّم ، ويلقى فيها من يستحقّ عذابها ثمّ في النار يسجرون ، قال تعالى :( يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ) .(١)

والتعبير بـ( يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) في الآية مورد البحث ، يتناسب أيضا مع هذا المعنى.

ومرّة اخرى بعد هذا التنبيه والتحذير الشديد الموقظ ، الذي هو لطف من الله يقول البارئعزوجل :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ )

* * *

__________________

(١) المؤمن ، ٧١ ـ ٧٢.

٤١٦

الآيات

( وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) )

التّفسير

الجنّتان اللتان أعدتا للخائفين :

يترك القرآن الكريم وصفه لأهل النار وحالاتهم البائسة لينقلنا إلى صفحة جديدة من صفحات يوم القيامة ، ويحدّثنا فيها عن الجنّة وأهلها ، وما أعدّ لهم من النعم فيها ، والتي يصوّرها سبحانه بشكل مشوّق ومثير ينفذ إلى أعماق القلوب في عملية مقارنة لما عليه العاصون من عذاب شديد يحيط بهم والتي تحدّثت عنها الآيات السابقة ، وما ينتظر المؤمنين من جنّات وعيون وقصور وحور في الآيات

٤١٧

أعلاه ، يقول سبحانه :( وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ) .

«الخوف» من مقام الله ، جاء بمعنى الخوف من مواقف يوم القيامة والحضور أمام الله للحساب ، أو أنّها بمعنى الخوف من المقام العلمي لله ومراقبته المستمرّة لكلّ البشر(١) .

والتّفسير الثّاني يتناسب مع ما ذكر في الآية (٣٣) من سورة الرعد :( أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) .

ونقرأ في حديث للإمام الصادقعليه‌السلام في تفسيره لهذه الآية أنّه قال : «ومن علم أنّ الله يراه ويسمع ما يقول ، ويعلم ما يعلمه من خير أو شرّ فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال ، فذلك الذي خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى»(٢) .

ويوجد هنا تفسير ثالث. هو أنّ الخوف من الله تعالى لا يكون بسبب نار جهنّم ، والطمع في نعيم الجنّة ، بل هو الخوف من مقام الله وجلاله فقط.

وهنالك تفسير رابع أيضا ، وهو أنّ المقصود من (مقام الله) هو الخوف من مقام عدالته ، لأنّ ذاته المقدّسة لا تستلزم الخوف ، إنّما هو الخوف من عدالته ، الذي مردّه هو خوف الإنسان من أعماله ، والإنسان المنزّه لا يخشى الحساب.

ومن المعروف أنّ المجرمين إذا مرّوا بالمحكمة أو السجن ينتابهم شيء من الخوف بسبب جناياتهم على عكس الأبرار حيث يتعاملون بصورة طبيعيّة مع الأماكن المختلفة.

وللخوف من الله أسباب مختلفة ، فأحيانا يكون بسبب قبح الأعمال وانحراف الأفكار ، واخرى بسبب القرب من الذات الإلهيّة حيث الشعور بالخوف والقلق من الغفلة والتقصير في مجال طاعة الله ، وأحيانا اخرى لمجرّد تصوّرهم لعظمة الله

__________________

(١) في الصورة الاولى يكون المقام اسم مكان ، وفي الثانية يكون مصدرا (ميميّا).

(٢) اصول الكافي طبقا لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٩٧ حيث يستفاد من ذيل الحديث أنّ الإمامعليه‌السلام ذكر هذا في تفسير الآية( وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) سورة النازعات / ٤٠ بالرغم من كون محتوى الآيتين واحد

٤١٨

اللامتناهية وذاته اللامحدودة فينتابهم الشعور بالخوف والضعة أمام قدسيته العظيمة وهذا النوع من الخوف يحصل من غاية المعرفة لله سبحانه ، ويكون خاصا بالعارفين والمخلصين لحضرته.

ولا تضادّ بين هذه التفاسير فيمكن جمعها في مفهوم الآية.

وأمّا (جنّتان) فيمكن أن تكون الاولى ماديّة جسمية ، والثانية معنوية روحية ، كما في قوله تعالى :( لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ ) .(١)

ففي هذه الآية مضافا إلى الجنّة الماديّة حيث الأنهار تجري من تحت الأشجار والمطهّرات من الزوجات ، هناك جنّة معنوية أيضا حيث الحديث عن رضوان الله تعالى.

أو أنّ الجنّة الاولى جزاء أعمالهم ، والجنّة الثانية تفضل على العباد وزيادة في الخير لهم ، يقول سبحانه :( لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) .(٢)

أو أنّ هناك جنّة للطاعة واخرى لترك المعصية.

أو أنّ أحدهما للإيمان ، والثانية للأعمال الصالحة.

أو لأنّ المخاطبين من الجنّ والإنس ، لذا فإنّ كلّ واحدة من هاتين الجنّتين تتعلّق بطائفة منهما.

ومن الطبيعي أن لا دليل على كلّ واحد من هذه التفاسير ، ويمكن جمعها في مفهوم هذه الآية ، إلّا أنّ من الطبيعي أنّ الله تعالى هيّأ لعباده الصالحين نعما عديدة لهم في الجنّة حيث مستقرّهم ، ولأهل النار (مياه حارقة وسعير لا يطاق).

ومرّة اخرى : وبعد ذكر هذه النعم العظيمة يخاطب الجميع بقوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

__________________

(١) آل عمران ، ١٥.

(٢) النور ، ٣٨.

٤١٩

ثمّ يضيف سبحانه في وصفه لهاتين الجنّتين بقوله :( ذَواتا أَفْنانٍ ) .

«ذواتا» تثنية (ذات) بمعنى صاحب ومالك(١) .

«أفنان» جمع (فنن) على وزن (قلم) والكلمة في الأصل بمعنى الغصون الطريّة المملوءة من الأوراق ، كما تأتي أحيانا بمعنى «النوع». ويمكن أن يستعمل المعنيان في الآية مورد البحث ، حيث في الصورة الاولى إشارة إلى الأغصان الطرية لأشجار الجنّة ، على عكس أشجار الدنيا حيث غصونها هرمة ويابسة.

كما يشير في الصورة الثانية إلى تنوّع نعم الجنّة وأنواع الهبات فيها ، لذا فلا مانع من استعمال المعنيين.

كما يحتمل أن يراد معنى آخر وهو أنّ لكلّ شجرة عدّة غصون مختلفة وفي كلّ غصن نوع من الفاكهة.

وبعد ذكر هذه النعم يكرّر سبحانه السؤال مرّة اخرى فيقول :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

ولأنّ البساتين النضرة والأشجار الزاهية ينبغي أن تكون لها عيون ، أضاف سبحانه في وصفه لهذه الجنّة بقوله :( فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ ) .

ثمّ يطرح مقابل هذه النعمة الإضافية قوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وبالرغم من أنّ الآية أعلاه لم توضّح لنا شيئا عن طبيعة هاتين العينين الجاريتين وعبّرت عنها بصيغة نكرة ، فإنّ هذه الموارد عادة تكون دليلا على العظمة الإلهيّة ، وقد ذكر بعض المفسّرين أنّ المقصود بهاتين العينين هما «سلسبيل» وتسنيم» قال تعالى :( عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً ) ،(٢) وقال تعالى :

__________________

(١) يعتقد البعض أنّ أصل ذات والتي هي مفرد مؤنث كانت ذوات ، والواو حذفت للتخفيف وأصبحت ذات ولكون التثنية ترجع الكلمة إلى أصلها ، لذا أصبحت (ذواتان) وقد حذفت النون عند الإضافة ، وجاء في مجمع البحرين أنّ أصل (ذو) هو (ذوا) على وزن (عصا) ولذلك فلا عجب أنّ مؤنثها يصبح (ذوات).

(٢) الإنسان ، ١٨.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459