الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 166015
تحميل: 8430


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 166015 / تحميل: 8430
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وعن الباقرعليه‌السلام : سرقوا أكرم آية في كتاب الله، بسم الله الرحمن الرحيم، وينبغي الإتيان به عند افتتاح كلّ أمر عظيم أو صغير ليبارك فيه.

اقول: والروايات عن أئمّة أهل البيت في هذا المعنى كثيره، وهي جميعاً تدلّ على أنّ البسملة جزء من كلّ سورة إلّا سورة البرائة، وفي روايات أهل السنّة والجماعة ما يدلّ على ذلك.

ففي صحيح مسلم عن أنس قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انزل عليّ آنفا سورة فقرا: بسم الله الرحمن الرحيم.

وعن أبي داود عن ابن عبّاس (وقد صحّحوا سندها) قال: انّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يعرف فصل السورة، (وفي رواية انقضاء السورة) حتّى ينزل عليه، بسم الله الرحمن الرّحيم.

اقول: وروي هذا المعنى من طرق الخاصّة عن الباقرعليه‌السلام وفي الكافي والتوحيد والمعاني وتفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام في حديث: والله إله كلّ شئ، الرحمن بجميع خلقه، الرحيم بالمؤمنين خاصّة.

وروي عن الصادقعليه‌السلام : الرّحمن اسم خاصّ بصفة عامّة والرحيم اسم عامٌ بصفة خاصّة.

اقول: قد ظهر ممّا مرّ وجه عموم الرحمن للمؤمن والكافر واختصاص الرحيم بالمؤمن، وأمّا كون الرحمن اسماً خاصّاً بصفة عامّة والرحيم اسماً عامّاً بصفة خاصّة فكأنّه يريد به أنّ الرحمن خاصّ بالدنيا ويعمّ الكافر والمؤمن والرّحيم عامّ للدنيا والآخرة ويخصّ المؤمنين، وبعبارة اُخرى: الرحمن يختصّ بالافاضة التكوينيّة الّتي يعمّ المؤمن والكافر، والرحيم يعمّ التكوين والتشريع الّذي بابه باب الهداية والسعادة، ويختصّ بالمؤمنين لأنّ الثبات والبقاء يختصّ بالنعم الّتي تفاض عليهم والعاقبة للتقوي.

وفي كشف الغمّة عن الصادقعليه‌السلام قال: فُقِد لأبيعليه‌السلام بغلة فقال لئن ردّها الله عليّ لأحمدنّه بمحامد يرضيها فما لبث أن أتى بها بسرجها ولجامها - فلمّا استوى وضمّ إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء وقال الحمد لله ولم يزد، ثمّ قال ما تركت ولا أبقيت

٢١

شيئا جعلت أنواع المحامد لله عزّوجلّ، فما من حمد إلّا وهو داخل فيها.

قلت: وفي العيون عن عليّعليه‌السلام : أنّه سئل عن تفسيرها فقال: هو أنّ الله عرّف عباده بعض نعمه عليهم جملاً إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل لأنّها أكثر من أن تحصى أو تعرف، فقال: قولوا الحمد لله على ما أنعم به علينا.

اقول: يشيرعليه‌السلام إلى ما مرّ من أنّ الحمد، من العبد وإنّما ذكره الله بالنيابة تأديباً وتعليماً.

( بحث فلسفي)

البراهين العقليّة ناهضة على أنّ استقلال المعلول وكلّ شأن من شئونه إنّما هو بالعلّة، وأنّ كلّ ما له من كمال فهو من أظلال وجود علّته، فلو كان للحسن والجمال حقيقة في الوجود فكماله واستقلاله للواجب تعالى لأنّه العلّة الّتي ينتهي إليه جميع العلل، والثناء والحمد هو إظهار موجود مّا بوجوده كمال موجود آخر وهو لا محالة علّته، وإذا كان كلّ كمال ينتهي إليه تعالى فحقيقة كلّ ثناء وحمد تعود وتنتهى إليه تعالى، فالحمد لله ربّ العالمين.

قوله تعالى: إيّاك نعبد وإيّاك نستعين الآية، العبد هو المملوك من الانسان أو من كلّ ذي شعور بتجريد المعنى كما يعطيه قوله تعالى:( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ) مريم - ٩٣. والعبادة مأخوذة منه وربّما تفرّقت اشتقاقاتها أو المعاني المستعملة هي فيها لاختلاف الموارد، وما ذكره الجوهريّ في الصحاح أنّ أصل العبوديّة الخضوع فهو من باب الأخذ بلازم المعنى وإلّا فالخضوع متعدّ باللام والعبادة متعديّة بنفسها.

وبالجملة فكأنّ العبادة هي نصب العبد نفسه في مقام المملوكيّة لربّه ولذلك كانت العبادة منافية للاستكبار وغير منافية للاشتراك فمن الجائزأن يشترك أزيد من الواحد في ملك رقبة أو في عبادة عبد، قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) غافر - ٦٠ وقال تعالى:( وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا )

٢٢

الكهف - ١١٠ .فعدّ الإشراك ممكنا ولذلك نهى عنه، والنهى لا يمكن إلّا عن ممكن مقدور بخلاف الاستكبار عن العبادة فإنّه لا يجامعها.

والعبوديّة إنّما يستقيم بين العبيد ومواليهم فيما يملكه الموالي منهم، وامّا ما لا يتعلّق به الملك من شئون وجود العبد ككونه ابن فلان أو ذا طول في قامته فلا يتعلّق به عبادة ولا عبوديّة، لكن الله سبحانه في ملكه لعباده على خلاف هذا النعت فلا ملكه يشوبه ملك ممّن سواه ولا أنّ العبد يتبعّض في نسبته إليه تعالى فيكون شئ منه مملوكاً وشئٌ ، آخر غير مملوك، ولا تصرّفٌ من التصرّفات فيه جائز وتصرّف آخر غير جائز كما أنّ العبيد فيما بيننا شئٌ منهم مملوك وهو أفعالهم الاختيارية وشئٌ غير مملوك وهو الاوصاف الاضطراريّة، وبعض التصرّفات فيهم جائزٌ كالاستفادة من فعلهم وبعضها غير جائز كقتلهم من غير جرم مثلاً، فهو تعالى مالك على الاطلاق من غير شرط ولا قيد وغيره مملوك على الإطلاق من غير شرط ولا قيد فهناك حصر من جهتين، الربّ مقصور في المالكيّة، والعبد مقصور في العبوديّة، وهذه هي الّتي يدلّ عليه قوله: إيّاك نعبد حيث قدّم المفعول وأطلقت العبادة.

ثمّ إنّ الملك حيث كان مقتوم الوجود بمالكه كما عرفت ممّا مرّ، فلا يكون حاجباً عن مالكه ولا يحجب عنه، فإنّك إذا نظرت إلى دار زيد فإن نظرت إليها من جهة أنّها دار أمكنك أن تغفل عن زيد، وإن نظرت إليها بما أنّها ملك زيد لم يمكنك الغفلة عن مالكها وهو زيد.

ولكنّك عرفت أنّ ما سواه تعالى ليس له إلّا المملوكيّة فقط وهذه حقيقتة فشئٌ منه في الحقيقة لا يحجب عنه تعالى، ولا النظر إليه يجامع الغفلة عنه تعالى، فله تعالى الحضور المطلق، قال سبحانه:( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ) فصلت ٥٣ - ٥٤ وإذا كان كذلك فحقّ عبادته تعالى أن يكون عن حضور من الجانبين.

امّا من جانب الربّ عزّوجلّ، فان يعبد عبادة معبودٍ حاضر وهو الموجب للالتفات (المأخوذ في قوله تعالى إيّاك نعبد) عن الغيبة إلى الحضور.

٢٣

وأمّا من جانب العبد، فأن يكون عبادته عبادةً عبد حاضر من غير أن يغيب في عبادته فيكون عبادته صورة فقط من غير معنى وجسداً من غير روح، أو يتبعّض فيشتغل بربّه وبغيره، امّا ظاهراً وباطناً كالوثنيّين(١) في عبادتهم لله ولاصنامهم معاً، أو باطناً فقط كمن يشتغل في عبادته بغيره تعالى بنحو الغايات والأغراض، كأن يعبدالله وهمّه في غيره، أو يعبدالله طمعاً في جنّة أو خوفاً من نار فإنّ ذلك كلّه من الشرك في العبادة الّذي ورد عنه النهي، قال تعالى:( فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ) الزمر - ٢، وقال تعالى:( أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ) ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) الزمر - ٣.

فالعبادة إنّما تكون عبادة حقيقة، إذا كان على خلوص من العبد وهو الحضور الّذي ذكرناه، وقد ظهر أنّه إنّما يتمّ إذا لم يشتغل بغيره تعالى في عمله فيكون قد أعطاه الشركة مع الله سبحانه في عبادته ولم يتعلّق قلبه في عبادته رجائاً أو خوفاً هو الغاية في عبادته كجنّة أو نار فيكون عبادته له لا لوجه الله، ولم يشتغل بنفسه فيكون منافياً لمقام العبوديّة الّتي لا تلائم الإنيّة والاستكبار، وكأنّ الإتيان بلفظ المتكلّم مع الغير للايماء إلى هذه النكتة فانّ فيه هضماً للنفس بالغاء تعيّنها وشخوصها وحدها المستلزم لنحو من الإنيّة والاستقلال بخلاف إدخالها في الجماعة وخلطها بسواد الناس فإنّ فيه إمحاء التعيّن وإعفاء الأثر فيؤمن به ذلك.

وقد ظهر من ذلك كلّه: أنّ إظهار العبوديّة بقوله: إيّاك نعبد، لا يشتمل على نقص من حيث المعنى ومن حيث الاخلاص الّا ما في قوله: إيّاك نعبد من نسبة العبد العبادة إلى نفسه المشتمل بالاستلزام على دعوى الاستقلال في الوجود والقدرة والارادة مع أنه مملوك والمملوك لا يملك شيئاً، فكأنّه تدورك ذلك بقوله تعالى وإيّاك نستعين، أي إنّما ننسب العبادة إلى انفسنا وندّعيه لنا مع الاستعانة بك لا مستقلّين بذلك مدّعين ذلك دونك، فقوله: إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، لإبداء معنى واحد وهو العبادة عن اخلاص، ويمكن أن يكون هذا هو الوجه في اتّحاد الاستعانة والعبادة في السياق الخطابيّ حيث قيل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين من دون أن يقال: إيّاك نعبد أعنّا وإهدنا الصراط المستقيم

____________________

(١) التشريك في العبادة كان من دابّ عوامّ الوثنيّين من العرب و غيرهم و امّا الخواصّ منهم فما كانو يعبىون إلا الأصنام منه

٢٤

وامّا تغيير السياق في قوله: اهدنا الصراط الآية. فسيجئ الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

فقد بان بما مرّ من البيان في قوله، إيّاك نعبد وإيّاك نستعين الآية، الوجه في الالتفات من الغيبة إلى الحضور، والوجه في الحصر الّذي يفيده تقديم المفعول، والوجه في اطلاق قوله: نعبد اه، والوجه في اختيار لفظ المتكلّم مع الغير، والوجه في تعقيب الجملة الاولى بالثانية، والوجه في تشريك الجملتين في السياق، وقد ذكر المفسّرون نكات اُخرى في اطراف ذلك من أرادها فليراجع كتبهم وهو الله سبحانه غريم لا يقضى دينه.

٢٥

( سورة الحمد الآيات ٦ – ٧)

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ( ٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ( ٧)

( بيان)

قوله تعالى: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) الخ، امّا الهداية فيظهر معناها في ذيل الكلام على الصراط وأمّا الصراط فهو والطريق والسبيل قريب المعنى، وقد وصف تعالى الصراط بالاستقامة ثمّ بيّن أنّه الصراط الّذي يسلكه الّذين أنعم الله تعالى عليهم، فالصراط الّذي من شأنه ذلك هو الّذي سئل الهداية إليه وهو بمعنى الغاية للعبادة أي: أنّ العبد يسئل ربّه أن تقع عبادته الخالصة في هذا الصراط.

بيان ذلك: أنّ الله سبحانه قررّ في كلامه لنوع الانسان بل لجميع من سواه سبيلاً يسلكون به إليه سبحانه فقال تعالى:( يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ) الانشقاق - ٦ وقال تعالى:( وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) التغابن - ٣، وقال:( أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) الشورى - ٥٣، إلى غير ذلك من الآيات وهي واضحة الدلاله على أنّ الجميع سالكوا سبيل، وأنّهم سائرون إلى الله سبحانه.

ثمّ بيّن: أنّ السبيل ليس سبيلاً واحداً ذا نعت واحد بل هو منشعب إلى شعبتين منقسم إلى طريقين، فقال:( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ) يس - ٦١.

فهناك طريق مستقيم وطريق آخر ورائه، وقال تعالى( فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) البقرة - ١٨٦، وقال تعالى:( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) غافر - ٦٠، فبيّن تعالى: انه قريب من عباده وأن الطريق الأقرب إليه تعالى طريق عبادته ودعائه، ثمّ قال تعالى في وصف الّذين لا يؤمنون:( أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ) فصلت - ٤٤ فبيّن: أنّ غاية الّذين لا يؤمنون في مسيرهم وسبيلهم بعيدة.

فتبيّن: أن السّبيل إلى الله سبيلان: سبيل قريب وهو سبيل المؤمنين وسبيل

٢٦

بعيد وهو سبيل غيرهم فهذا نحو اختلاف في السبيل وهناك نحو آخر من الاختلاف، قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ) الاعراف - ٤٠ ولو لا طروق من متطرّق لم يكن للباب معنى فهناك طريق من السفل إلى العلو، وقال تعالى:( وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ ) طه - ٨١. والهويّ هو السقوط إلى أسفل، فهناك طريق آخر آخذ في السفالة والانحدار، وقال تعالى:( وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) البقرة - ١٠٨، فعرّف الضلال عن سواء السبيل بالشرك لمكان قوله: فقد ضلّ، وعند ذلك تقسّم الناس في طرقهم ثلثه أقسام: من طريقه إلى فوق وهم الّذين يؤمنون بآيات الله ولا يستكبرون عن عبادته، ومن طريقه إلى ألسفل، وهم المغضوب عليهم، ومن ضلّ الطريق وهو حيران فيه وهم الضالّون، وربّما أشعر بهذا التقسيم قوله تعالى:( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) .

والصراط المستقيم لا محالة ليس هو الطريقين الآخرين من الطرق الثلاث اعني: طريق المغضوب عليهم وطريق الضالّين فهو من الطريق الأوّل الّذي هو طريق المؤمنين غير المستكبرين إلّا أنّ قوله تعالى:( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) المجادلة - ١١. يدلّ على أنّ نفس الطريق الأوّل أيضاً يقع فيه انقسام.

وبيانه: أنّ كلّ ضلال فهو شرك كالعكس على ما عرفت من قوله تعالى:( وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) البقرة - ١٠٨. وفي هذا المعنى قوله تعالى( أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا ) يس - ٦٢. والقرآن يعدّ الشرك ظلماً وبالعكس، كما يدلّ عليه قوله تعالى حكايةً عن الشيطان لما قضي الأمر:( إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ابراهيم - ٢٢. كما يعدّ الظلم ضلالاً في قوله تعالى( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ) الانعام - ٨٢ وهو ظاهر من ترتيب الاهتداء والامن من الضلال أو العذاب الّذي يستتبعه الضلال، على ارتفاع الظلم ولبس الإيمان به، وبالجملة الضلال والشرك والظلم أمرها واحد وهي متلازمة مصداقاً، وهذا هو المراد من قولنا: إنّ كلّ واحد منها معرّف بالآخر أو

٢٧

هو الآخر، فالمراد المصداق دون المفهوم.

إذا عرفت هذا علمت أنّ الصراط المستقيم الّذي هو صراط غير الضالّين صراطٌ لا يقع فيه شرك ولا ظلم البتّة كما لا يقع فيه ضلال البتّة، لا في باطن الجنان من كفر أو خطور لا يرضى به الله سبحانه، ولا في ظاهر الجوارح والأركان من فعل معصية أو قصور في طاعة، وهذا هو حقّ التوحيد علماً وعملاً إذ لا ثالث لهما وماذا بعد الحقّ إلّا الضلال ؟ وينطبق على ذلك قوله تعالى:( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ) الانعام - ٨٢، وفيه تثبيت للأمن في الطريق ووعد بالاهتداء التامّ بناءً على ما ذكروه: من كون اسم الفاعل حقيقة في الاستقبال فليفهم فهذا نعت من نعوت الصراط المستقيم.

ثمّ انّه تعالى عرّف هؤلاء المنعم عليهم الّذين نسب صراط المستقيم إليهم بقوله تعالى:( وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) النساء - ٦٩، وقد وصف هذا الإيمان والإطاعة قبل هذه الآية بقوله( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًاوَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ) النساء٦٥ - ٦٦. فوصفهم بالثبات التامّ قولاً وفعلاً وظاهراً وباطناً على العبوديّة لا يشذّ منهم شاذّ من هذه الجهة ومع ذلك جعل هؤلاء المؤمنين تبعاً لاُولئك المنعم عليهم وفي صفّ دون صفّهم لمكان مع ولمكان قوله:( وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) ولم يقل: فاُولئك من الّذين.

ونظير هذه الآية قوله تعالى:( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ) الحديد - ١٩. وهذا هو إلحاق المؤمنين بالشهداء والصدّيقين في الآخرة، لمكان قوله: عند ربهم، وقوله: لهم اجرهم.

فاؤلئك (وهم اصحاب الصراط المستقيم) أعلى قدراً وأرفع درجة ومنزلة من هؤلاء وهم المؤمنون الّذين أخلصوا قلوبهم وأعمالهم من الضلال والشرك والظلم، فالتدبّر

٢٨

في هذه الآيات يوجب القطع بأنّ هؤلاء المؤمنين و (شأنهم هذا الشأن) فيهم بقيّة بعد لو تمّت فيهم كانوا من الّذين أنعم الله عليهم، وارتقوا من منزلة المصاحبة معهم إلى درجة الدخول فيهم ولعلّه نوعٌ من العلم بالله، ذكره في قوله تعالى:( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) المجادلة - ١١. فالصراط المستقيم أصحابه منعم عليهم بنعمة هي أرفع النعم قدراً، يربو على نعمة الايمان التامّ، وهذا ايضاً نعتٌ من نعوت الصراط المستقيم.

ثمّ إنّه تعالى على أنّه كررّ في كلامه ذكر الصراط والسبيل، لم ينسب لنفسه أزيد من صراط مستقيم واحد، وعدّ لنفسه سبلاً كثيرة فقال عزّ من قائل:( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) العنكبوت - ٦٩. وكذا لم ينسب الصراط المستقيم إلى أحد من خلقه إلّا ما في هذه الآية (صراط الّذين انعمت عليهم الآية) ولكنّه نسب السبيل إلى غيره من خلقه، فقال تعالى:( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ ) يوسف - ١٠٨. وقال تعالى( سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ) لقمان - ١٥. وقال:( سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ) النساء - ١١٥. ويعلم منها: أنّ السبيل غير الصراط المستقيم فإنّه يختلف ويتعدّد ويتكثّر باختلاف المتعبّدين السالكين سبيل العبادة بخلاف الصراط المستقيم كما يشير إليه قوله تعالى:( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) المائدة - ١٦، فعدّ السبل كثيرةً والصراط واحداً وهذا الصراط المستقيم إمّا هي السبل الكثيرة وإمّا أنّها تؤدّي إليه باتّصال بعضها إلى بعض واتّحادها فيها.

وأيضاً قال تعالى:( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ) يوسف - ١٠٦. فبيّن أنّ من الشرك (وهو ضلال) ما يجتمع مع الايمان وهو سبيل، ومنه يعلم أنّ السبيل يجامع الشرك، لكنّ الصراط المستقيم لا يجامع الضلال كما قال: ولا الضالّين.

والتدبّر في هذه الآيات يعطى أنّ كلّ واحد من هذه السبل يجامع شيئاً من النقص أو الامتياز، بخلاف الصراط المستقيم، وأنّ كلاً منها هو الصراط المستقيم لكنه

٢٩

غير الآخر ويفارقه لكنّ الصراط المستقيم يتّحد مع كلّ منها في عين أنّه يتحدّ مع ما يخالفه، كما يستفاد من بعض الآيات المذكورة وغيرها كقوله:( وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ) يس - ٦١. وقوله تعالى:( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) الانعام - ١٦١. فسمّى العبادة صراطاً مستقيماً وسمّى الدين صراطاً مستقيماً وهما مشتركان بين السبل جميعاً، فمثل الصراط المستقيم بالنسبة إلى سبل الله تعالى كمثل الروح بالنسبة إلى البدن، فكما أنّ للبدن اطواراً في حيوته هو عند كلّ طور غيره عند طور آخر، كالصّبي والطفوليّة والرهوق والشباب والكهولة والشيب والهرم لكنّ الروح هي الروح وهي متّحدة بها والبدن يمكن أن تطرء عليه أطوار تنافي ما تحبّه وتقتضيه الروح لو خلّيت ونفسها بخلاف الروح فطرة الله الّتي فطر الناس عليها والبدن مع ذلك هو الروح أعني الإنسان، فكذلك السبيل إلى الله تعالى هو صراط المستقيم إلّا أنّ السبيل كسبيل المؤمنين وسبيل المنيبين وسبيل المتّبعين للنبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم) أو غير ذلك من سبل الله تعالى، ربّما اتّصلت به آفةٌ من خارج أو نقصٌ لكنّهما لا يعرضان الصراط المستقيم كما عرفت أنّ الايمان وهو سبيل ربّما يجامع الشرك والضلال لكن لا يجتمع مع شئ من ذلك الصراط المستقيم، فللسبيل مراتب كثيرة من جهة خلوصه وشوبه وقربه وبعده، والجميع على الصراط المستقيم أو هي هو.

وقد بيّن الله سبحانه هذا المعنى، أعني: اختلاف السبل إلى الله مع كون الجميع من صراطه المستقيم في مثل ضربه للحقّ والباطل في كلامه، فقال تعالى:( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ ) الرعد - ١٧. فبيّن: أنّ القلوب والأفهام في تلقّي المعارف والكمال مختلفة، مع كون الجميع متكئةً منتهيةً إلى رزق سماويّ واحد، وسيجئ تمام الكلام في هذا المثل في سورة الرعد، وبالجملة فهذا أيضاً نعتٌ من نعوت الصراط المستقيم.

وإذا تأملّت ما تقدّم من نعوت الصراط المستقيم تحصّل لك أنّ الصراط المستقيم

٣٠

مهيمنٌ على جميع السبل إلى الله والطرق الهادية إليه تعالى، بمعنى أنّ السبيل إلى الله إنّما يكون سبيلا له موصلاً إليه بمقدار يتضمّنه من الصراط المستقيم حقيقةً، مع كون الصراط المستقيم هادياً موصلا إليه مطلقاً ومن غير شرط وقيد، ولذلك سماه الله تعالى صراطاً مستقيماً، فانّ الصراط هو الواضح من الطريق، مأخوذ من سرطت سرطاً إذا بلعت بلعاً، كأنّه يبلع سالكيه فلا يدعهم يخرجوا عنه ولا يدفعهم عن بطنه، والمستقيم هو الّذي يريد أن يقوم على ساق فيتسلّط على نفسه وما لنفسه كالقائم الّذي هو مسلّط على أمره، ويرجع المعنى إلى أنّه الّذي لا يتغيّر أمره ولا يختلف شأنه فالصراط المستقيم ما لا يتخلّف حكمه في هدايته وإيصاله سالكيه إلى غايته ومقصدهم قال تعالى:( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ) النساء - ١٧٤. اي لا يتخلّف أمر هذه الهداية، بل هي على حالها دائماً، وقال تعالى:( فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ) الانعام - ١٢٦. أي هذه طريقته الّتي لا يختلف ولا يتخلّف، وقال تعالى:( قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ) الحجر - ٤٢. أي هذه سنّتي وطريقتي دائماً من غير تغيير، فهو يجري مجرى قوله:( فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا ) الفاطر - ٤٣.

وقد تبيّن ممّا ذكرناه في معنى الصراط المستقيم اُمور.

احدها: أنّ الطرق إلى الله مختلفة كمالاً ونقصاً وغلائاً ورخصاً، في جهة قربها من منبع الحقية والصراط المستقيم كالاسلام والايمان والعبادة والاخلاص والاخبات، كما ان مقابلاتها من الكفر والشرك والجحود والطغيان والمعصية كذلك، قال سبحانه( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) الاحقاف - ١٩.

وهذا نظير المعارف الالهيّة الّتى تتلقّاها العقول من الله فإنّها مختلفة باختلاف الاستعدادات ومتلوّنة بألوان القابليّات على ما يفيده المثل المضروب في قوله تعالى:

٣١

( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ) الآية

وثانيها: أنّه كما أنّ الصراط المستقيم مهيمنٌ على جميع السبل، فكذلك اصحابه الّذين مكنّهم الله تعالى فيه وتولّى أمرهم وولّاهم أمر هداية عباده حيث قال:( وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) النساء - ٦٩. وقال تعالى:( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) المائدة - ٥٥. والآية نازلة في أمير المؤمنين عليعليه‌السلام بالاخبار المتواترة وهوعليه‌السلام اوّل فاتحٍ لهذا الباب من الاُمّة وسيجئ تمام الكلام في الآية.

وثالثها: إنّ الهداية إلى الصراط يتعيّن معناها بحسب تعيّن معناه، وتوضيح ذلك أنّ الهداية هي الدلالة على ما في الصحاح، وفيه أنّ تعديتها لمفعولين لغة أهل الحجاز، وغيرهم يعدّونه إلى المفعول الثاني بإلى، وقوله هو الظاهر، وما قيل: إنّ الهداية إذا تعدّت إلى المفعول الثاني بنفسها، فهي بمعنى الإيصال إلى المطلوب، وإذا تعدّت بإلى فبمعنى إرائة، الطريق مستدلّا بنحو قوله تعالى:( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) القصص - ٥٦. حيث إنّ هدايته بمعنى إرائة الطريق ثابتة فالمنفىّ غيرها وهو الإيصال إلى المطلوب قال تعالى:( وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ) النساء - ٦٨. وقال تعالى:( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) الشورى - ٥٢.

فالهداية بالإيصال إلى المطلوب تتعدّى إلى المفعول الثاني بنفسها، والهداية بإرائة الطريق بإلى، وفيه أنّ النفي المذكور نفي لحقيقة الهداية الّتي هي قائمة بالله تعالى، لا نفي لها أصلاً، وبعبارة اُخرى هو نفي الكمال دون نفي الحقيقة، مضافاً إلى أنّه منقوض بقوله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون:( يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ) غافر - ٣٨. فالحق انّه لا يتفاوت معنى الهداية باختلاف التعدية، ومن الممكن أن يكون التعدية إلى المفعول الثاني من قبيل قولهم دخلت الدار.

وبالجملة فالهداية هي الدلالة وارائة الغاية بارائة الطريق وهي نحو إيصال إلى المطلوب، وإنّما تكون من الله سبحانه، وسنته سنّة الأسباب بإيجاد سبب ينكشف به المطلوب ويتحقّق به وصول العبد إلى غايته في سيره، وقد بيّنه الله سبحانه بقوله:( فَمَن

٣٢

يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ) الانعام - ١٢٥. وقوله:( ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللهِ ذَٰلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ) الزمر - ٢٣. وتعدية قوله تلين بإلى لتضمين معنى مثل الميل والاطمينان، فهو إيجاده تعالى وصفاً في القلب به يقبل ذكر الله ويميل ويطمئن إليه، وكما أنّ سبله تعالى مختلفة، فكذلك الهداية تختلف باختلاف السبل الّتي تضاف إليه فلكّل سبيل هداية قبله تختصّ به.

وإلى هذا الاختلاف يشير قوله تعالى:( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) العنكبوت - ٦٩. إذ فرق بين أن يجاهد العبد في سبيل الله، وبين أن يجاهد في الله، فالمجاهد في الأوّل يريد سلامة السبيل ودفع العوائق عنه بخلاف المجاهد في الثّاني فانّه إنّما يريد وجه الله فيمدّه الله سبحانه بالهداية إلى سبيل دون سبيل بحسب استعداده الخاصّ به، وكذا يمدّه الله تعالى بالهداية إلى السبيل بعد السبيل حتّى يختصّه بنفسه جلت عظمته.

ورابعها: ان الصراط المستقيم لما كان أمرا محفوظاً في سبل الله تعالى على اختلاف مراتبها ودرجاتها، صحّ أن يهدي الله الانسان إليه وهو مهديّ فيهديه من الصراط إلى الصراط، بمعنى أن يهديه إلى سبيل من سبله ثمّ يزيد في هدايته فيهتدي من ذلك السبيل إلى ما هو فوقها درجة، كما أنّ قوله تعالى: إهدنا الصراط (وهو تعالى يحكيه عمّن هداه بالعبادة) من هذا القبيل، ولا يرد عليه: أنّ سؤال الهداية ممّن هو مهتد بالفعل سؤال لتحصيل الحاصل وهو محال، وكذا ركوب الصراط بعد فرض ركوبه تحصيل للحاصل ولا يتعلّق به سؤال، والجواب ظاهر.

وكذا الإيراد عليه: بأن شريعتنا أكمل وأوسع من جميع الجهات من شرائع الاُمم السابقة، فما معنى السؤال من الله سبحانه أن يهدينا إلى صراط الّذين أنعم الله عليهم منهم ؟ وذلك أنّ كون شريعة أكمل من شريعة أمر، وكون المتمسك بشريعة أكمل من المتمسك بشريعة أمر آخر ورائه، فإنّ المؤمن المتعارف من مؤمني شريعة محمّد (صلّي الله عليه و آله و سلّم) (مع كون شريعته اكمل وأوسع) ليس بأكمل من نوح وابراهيمعليهم‌السلام مع كون شريعتهما أقدم وأسبق، وليس ذلك إلّا انّ حكم الشرائع والعمل بها غير حكم

٣٣

الولاية الحاصلة من التمكّن فيها والتخلّق بها، فصاحب مقام التوحيد الخالص وإن كان من أهل الشرائع السابقة أكمل وأفضل ممّن لم يتمكّن من مقام التوحيد ولم تستقرّ حياة المعرفة في روحه ولم يتمكّن نور الهداية الإلهيّة من قلبه، وإن كان عاملا بالشريعة المحمّديّة (صلّي الله عليه و آله و سلّم) الّتي هي أكمل الشرائع وأوسعها، فمن الجائز أن يستهدي صاحب المقام الداني من أهل الشريعة الكاملة ويسأل الله الهداية إلى مقام صاحب المقام العالي من أهل الشريعة الّتي هي دونها.

ومن أعجب ما ذكر في هذا المقام، ما ذكره بعض المحقّقين من أهل التفسير جواباً عن هذه الشبهة: أنّ دين الله واحد وهو الاسلام، والمعارف الاصليّة وهو التوحيد والنبوّة والمعاد وما يتفرّع عليها من المعارف الكلية واحد في الشرائع، وإنّما مزيّة هذه الشريعة على ما سبقها من الشرائع هي أنّ الأحكام الفرعيّة فيها أوسع وأشمل لجميع شئون الحياة، فهي اكثر عناية بحفظ مصالح العباد، على أنّ أساس هذه الشريعة موضوع على الاستدلال بجميع طرقها من الحكمة والموعظة والجدال الأحسن، ثمّ إنّ الدين وإن كان ديناً واحداً والمعارف الكلّيّة في الجميع على السواء غير أنّهم سلكوا سبيل ربّهم قبل سلوكنا وتقدّموا في ذلك علينا، فأمرنا الله النظر فيما كانوا عليه والاعتبار بما صاروا إليه هذا.

أقول: وهذا الكلام مبنى على اصول في مسلك التفسير مخالفة للاصول الّتي يجب أن يبتني مسلك التفسير عليها، فإنّه مبني على أنّ حقائق المعارف الاصلية واحدة من حيث الواقع من غير اختلاف في المراتب والدرجات، وكذا سائر الكمالات الباطنيّة المعنويّة، فأفضل الأنبياء المقرّبين مع أخسّ المؤمنين من حيث الوجود وكماله الخارجيّ التكوينيّ على حدّ سواء، وإنّما التفاضل بحسب المقامات المجعولة بالجعل التشريعيّ من غير أن يتّكي على تكوين، كما أنّ التفاضل بين الملك والرعيّة إنّما هو بحسب المقام الجعليّ الوضعيّ من غير تفاوت من حيث الوجود الانسانيّ هذا.

ولهذا الأصل أصل آخر يبنى عليه، وهو القول باصالة المادّة ونفى الاصالة عما ورائها والتوقّف فيه إلّا في الله سبحانه بطريق الاستثناء بالدليل، وقد وقع في هذه

٣٤

الورطة من وقع لأحد أمرين: إمّا القول بالاكتفاء بالحسّ اعتماداً على العلوم المادّيّة وإمّا إلغاء التدبّر في القرآن بالاكتفاء بالتفسير بالفهم العاميّ.

وللكلام ذيل طويل سنورده في بعض الابحاث العلميّة الآتية إن شاء الله تعالى.

وخامسها: انّ مزيّة اصحاب الصراط المستقيم على غيرهم، وكذا صراطهم على سبيل غيرهم، إنّما هو بالعلم لا بالعمل، فلهم من العلم بمقام ربّهم ما ليس لغيرهم، إذ قد تبيّن ممّا مرّ: انّ العمل التامّ موجود في بعض السبل الّتي دون صراطهم، فلا يبقى لمزيّتهم إلّا العلم، واما ما هذا العلم ؟ وكيف هو ؟ فنبحث عنه إن شاء الله في قوله تعالى:( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ) الرعد - ١٧.

ويشعر بهذا المعنى قوله تعالى:( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) المجادلة - ١١، وكذا قوله تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) الفاطر - ١٠، فالّذي يصعد إليه تعالى هو الكلم الطيّب وهو الاعتقاد والعلم، وأمّا العمل الصالح فشأنه رفع الكلم الطيّب والإمداد دون الصعود إليه تعالى، وسيجئ تمام البيان في البحث عن الآية.

( بحث روائي)

في الكافي عن الصادقعليه‌السلام في معنى العبادة قال: العبادة ثلاثة: قوم عبدوا الله خوفاً، فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب، فتلك عبادة الاًُجراء، وقوم عبدوا الله عزّوجلّ حبّاً، فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة.

وفي نهج البلاغة: إنّ قوماً عبدوا الله رغبة، فتلك عبادة التجّار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وانّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار.

وفي العلل والمجالس والخصال، عن الصادقعليه‌السلام : انّ الناس يعبدون الله على ثلاثة أوجه: فطبقة يعبدونه رغبةً في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء وهو الطمع، وآخرون يعبدونه خوفاً من النار فتلك عبادة العبيد، وهي رهبة، ولكنّي أعبده حبّاً له عزّوجلّ فتلك عبادة الكرام، لقوله عزّوجلّ:( وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) . ولقوله عزّوجلّ

٣٥

( قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله ) ، فمن احبّ الله عزّوجلّ احبّه، ومن احبّه الله كان من الآمنين، وهذا مقام مكنون لا يمسّه إلّا المطهّرون.

اقول: وقد تبيّن معنى الروايات ممّا مرّ من البيان، وتوصيفهم عليهم السلام عبادة الأحرار تارة بالشكر وتارة بالحبّ، لكون مرجعهما واحداً، فانّ الشكر وضع الشئ المنعم به في محلّه، والعبادة شكرها ان تكون لله الّذي يستحقها لذاته، فيعبدالله لأنّه الله، اي لأنّه مستجمع لجميع صفات الجمال والجلال بذاته، فهو الجميل بذاته المحبوب لذاته، فليس الحبّ إلا الميل إلى الجمال والانجذاب نحوه، فقولنا فيه تعالى هو معبود لأنّه هو، وهو معبود لأنّه جميل محبوب، وهو معبود لأنّه منعم مشكور بالعبادة يرجع جميعها إلى معنى واحد.

وروي بطريق عاميّ عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: إيّاك نعبد الآية، يعني: لا نريد منك غيرك ولا نعبدك بالعوض والبدل: كما يعبدك الجاهلون بك المغيّبون عنك.

اقول: والرواية تشير إلى ما تقدّم، من استلزام معنى العبادة للحضور وللإخلاص الّذي ينافي قصد البدل.

وفي تحف العقول عن الصادقعليه‌السلام في حديث: ومن زعم أنّه يعبد بالصفة لا بالادراك فقد أحال على غائب، ومن زعم انّه يعبد الصفة والموصوف فقد أبطل التوحيد لأن الصفة غير الموصوف، ومن زعم انّه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغّر بالكبير، وما قدروا الله حق قدره. الحديث.

وفي المعاني عن الصادقعليه‌السلام في معنى قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم يعني : أرشدنا إلى لزوم الطريق المؤدّي إلى محبّتك، والمبلغ إلى جنّتك، والمانع من أن نتبّع اهواءنا فنعطب، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك.

وفي المعاني أيضاً عن عليّعليه‌السلام : في الآية، يعني، أدم لنا توفيقك الّذي اطعناك به في ماضي أيّامنا، حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا.

اقول: والروايتان وجهان مختلفان في الجواب عن شهبة لزوم تحصيل الحاصل من سؤال الهداية للمهديّ، فالرواية الاُولى ناظرة إلى اختلاف مراتب الهداية مصداقاً والثانية إلى اتّحادها مفهوماً.

٣٦

وفي المعاني أيضاً عن عليّعليه‌السلام : الصراط المستقيم في الدنيا ما قصر عن الغلوّ، وارتفع عن التقصير واستقام، وفي الآخرة طريق المؤمنين إلى الجنّة.

وفي المعاني أيضاً عن عليّعليه‌السلام : في معنى صراط الّذين الآية: اي: قولوا: اهدنا صراط الّذين أنعمت عليهم بالتّوفيق لدينك وطاعتك، لا بالمال والصحّة، فإنّهم قد يكونون كفّاراً أو فسّاقاً، قال: وهم الّذين قال الله: ومن يطع الله والرّسول فاؤلئك مع الّذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين، وحسن اولئك رفيقاً.

وفي العيون عن الرّضاعليه‌السلام عن آبائه عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال: لقد سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: قال الله عزّوجلّ: قسّمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، إذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله جلّ جلاله بدء عبدي باسمي، وحقّ عليّ أن أتمّم له اُموره، وابارك له في احواله، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال الله جلّ جلاله: حمدني عبدي، وعلم أنّ النعم الّتي له من عندي وأنّ البلايا الّتي دفعت عنه بتطوّلي، أشهدكم أنّي اُضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة وأدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا، وإذا قال الرحمن الرحيم، قال الله جلّ جلاله: شهد لي عبدي أنّي الرحمن الرحيم اُشهدكم لأوفّرنّ من رحمتي حظّه ولأجزلنّ من عطائي نصيبه، فإذا قال: مالك يوم الدين قال الله تعالى: أشهدكم، كما اعترف بأنّي أنا المالك يوم الدين، لأسهّلنّ يوم الحساب حسابه، ولأتقبّلنّ حسناته ولا تجاوزنّ عن سيّئاته، فإذا قال: إيّاك نعبد، قال الله عزّوجلّ: صدق عبدي، إيّاى يعبد اشهدكم لاثيبنّه على عبادته ثواباً يغبطه كلّ من خالفه في عبادتة لي، فإذا قال: وإيّاك نستعين قال الله تعالى: بي استعان عبدي وإليّ التجأ، اشهدكم لاُعيننّه على أمره، ولاُغيثنّه في شدائده ولآخذنّ بيده يوم نوائبه، فإذا قال: إهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة، قال الله عزّوجلّ: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل، وقد استجبتُ لعبدي وأعطيته ما أمّل وآمنته ممّا منه وجل.

اقول: وروى قريباً منه الصدوق في العلل عن الرّضاعليه‌السلام ، والرواية كما ترى

٣٧

تفسّر سورة الفاتحة في الصلاة فهي تؤيّد ما مرّ مراراً أنّ السورة كلام له سبحانه النيابة عن عبده في ما يذكره في مقام العبادة واظهار العبوديّة من الثناء لربّه وإظهار عبادته، فهى سورةٌ موضوعةٌ للعبادة، وليس في القرآن سورة تناظرها في شأنها واعنى بذلك:

اوّلاً: أنّ السورة بتمامها كلام تكلّم به الله سبحانه في مقام النيابة عن عبده فيما يقوله إذا وجه وجهه إلى مقام الربوبيّة ونصب نفسه في مقام العبوديّة.

وثانيا: أنّها مقسّمة قسمين، فنصف منها لله ونصف منها للعبد.

وثالثا: أنّها مشتملة على جميع المعارف القرآنيّة على ايجازها واختصارها فأنّ القرآن على سعته العجيبة في معارفه الاصليّة وما يتفرّع عليها من الفروع من اخلاق وأحكام في العبادات والمعاملات والسياسات والاجتماعيّات ووعد ووعيد وقصص وعبر، يرجع جمل بياناتها إلى التوحيد والنبوّة والمعاد وفروعاتها، وإلى هداية العباد إلى ما يصلح به اولاهم وعقباهم، وهذه السورة كما هو واضح تشتمل على جميعها في أوجز لفظٍ وأوضح معنى.

وعليك أن تقيس ما يتجلّى لك من جمال هذه السورة الّتي وضعها الله سبحانه في صلاة المسلمين بما يضعه النصارى في صلاتهم من الكلام الموجود في انجيل متّى: (٦ - ٩ - ١٣) وهو ما نذكره بلفظه العربي، (أبانا الّذي في السموات، ليتقدّس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيّتك كما في السماء كذلك على الأرض، خبزنا كفافنا، أعطنا اليوم، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا، ولا تدخلنا في تجربة ولكن نجنّا من الشرير آمين).

تأمّل في المعاني الّتي تفيدها ألفاظ هذه الجمل بعنوان أنّها معارف سماويّة، وما يشتمل عليه من الادب العبوديّ، إنّها تذكر أوّلاً: أنّ أباهم (وهو الله تقدّس اسمه) في السموات !! ثمّ تدعو في حقّ الاب بتقدّس اسمه واتيان ملكوته ونفوذ مشيّتة في الأرض كما هي نافذة في السماء، ولكن من الّذي يستجيب هذا الدعاء الّذي هو بشعارات الاحزاب السياسيّة أشبه ؟ ثمّ تسئل الله إعطاء خبز اليوم ومقابلة المغفرة بالمغفرة، و

٣٨

جعل الإغماض عن الحقّ في مقابل الإغماض، وما ذا هو حقّهم لو لم يجعل الله لهم حقّاً ؟ وتسأله ان لا يمتحنهم بل ينجيهم من الشرير، ومن المحال ذلك، فالدار دار الامتحان والاستكمال وما معنى النجاة لولا الابتلاء والامتحان ؟ ثمّ اقضّ العجب ممّا ذكره بعض المستشرقين(١) من علماء الغرب وتبعه بعض من المنتحلين: أنّ الاسلام لا يربو على غيره في المعارف، فإنّ جميع شرائع الله تدعو إلى التوحيد وتصفية النفوس بالخلق الفاضل والعمل الصالح، وإنّما تتفاضل الأديان في عراقة ثمراتها الاجتماعيّة!!

( بحث آخر روائي)

في الفقيه وتفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام قال: الصراط المستقيم أمير المؤمنينعليه‌السلام .

وفي المعاني عن الصادقعليه‌السلام قال: هي الطريق إلى معرفة الله، وهما صراطان صراط في الدنيا وصراط في الآخرة، فأمّا الصراط في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة، من عرفه في الدنيا واقتدا بهداه مرّ على الصراط الّذي هو جسر جهنّم في الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا زلّت قدمه في الآخرة فتردى في نار جهنّم.

وفي المعاني أيضاً عن السجادعليه‌السلام قال: ليس بين الله وبين حجّته حجاب، ولا لله دون حجته ستر، نحن أبواب الله ونحن الصراط المستقيم ونحن عيبة علمه، ونحن تراجمة وحيه ونحن أركان توحيده ونحن موضع سرّه.

وعن ابن شهر آشوب عن تفسير وكيع بن الجّراح عن الثوريّ عن السّديّ، عن اسباط ومجاهد، عن ابن عبّاس في قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم، قال: قولوا معاشر العباد ! أرشدنا إلى حبّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واهل بيتهعليه‌السلام .

اقول: وفي هذه المعاني روايات اُخر، وهذه الاخبار من قبيل الجري، وعدّ المصداق للآية، واعلم أنّ الجري و (كثيراً ما نستعمله في هذا الكتاب) اصطلاحٌ مأخوذ من قول أئمّة أهل البيتعليه‌السلام .

ففي تفسير العيّاشيّ عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفرعليه‌السلام عن هذه الرواية،

____________________

(١) القسّيس الفاضل كوستار لبون في تاريخ تمدّن الاسلام.

٣٩

ما في القرآن آية إلّا ولها ظهر وبطن وما فيها حرف إلّا وله حدّ، ولكل حدّ مطلّعٌ، ما يعنى بقوله : ظهر وبطن ؟ قال : ظهره تنزيله وبطنه تأويله، منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد، يجري كما يجري الشمس والقمر، كلّما جاء منه شئٌ وقع الحديث.

وفي هذا المعنى روايات أخر، وهذه سليقة أئمّه أهل البيت فأنّهمعليه‌السلام يطّبقون الآية من القرآن على ما يقبل أن ينطبق عليه من الموارد وإن كان خارجاً عن مورد النزول، والاعتبار يساعده، فإنّ القرآن نزل هدىً للعالمين يهديهم إلى واجب الاعتقاد وواجب الخلق وواجب العمل، وما بيّنه من المعارف النظريّة حقائق لا تختصّ بحالٍ دون حالٍ ولا زمانٍ دون زمانٍ، وما ذكره من فضيلة أو رذيلة أو شرعه من حكم عمليّ لا يتقيّد بفردٍ دون فردٍ ولا عصرٍ دون عصر لعموم التشريع.

وما ورد من شأن النزول (وهو الامر أو الحادثة الّتي تعقّب نزول آية أو آيات في شخص أو واقعة) لا يوجب قصر الحكم على الواقعة لينقضي الحكم بانقضائها ويموت بموتها لأن البيان عامّ والتعليل مطلق، فانّ المدح النازل في حقّ أفراد من المؤمنين أو الذمّ النازل في حقّ آخرين معلّلا بوجود صفات فيهم، لا يمكن قصرهما على شخص مورد النزول مع وجود عين تلك الصفات في قوم آخر بعدهم وهكذا، والقرآن أيضاً يدلّ عليه، قال تعالى:( يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ ) المائدة - ١٦ - وقال:( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ) فصلت - ٤٢. وقال تعالى:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) الحجر - ٩.

والروايات في تطبيق الآيات القرآنيّة عليهمعليه‌السلام أو على أعدائهم أعني: روايات الجري، كثيرة في الابواب المختلفة، وربّما تبلغ المئين، ونحن بعد هذا التنبيه العامّ نترك إيراد أكثرها في الابحاث الروائيّة لخروجها عن الغرض في الكتاب، إلّا ما تعلّق بها غرض في البحث فليتذكّر.

٤٠