الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن17%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173054 / تحميل: 9113
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

محمّد البدر، آخر أئمة الزيديّة، فليرجع إلى كتابنا (بحوث في الملل والنحل). (1)

فكما قامت للزيديّة دولة في المغرب واليمن، فهكذا قامت دولة زيديّة في طبرستان بين الأعوام (250 - 360هـ)؛ حيث ظهر الحسن بن زيد بن محمّد بن إسماعيل بن زيد بن الحسين في طبرستان أيّام المستعين الله، وتمكّن من بسط نفوذه على طبرستان وجُرجان، وقام بعده أخوه محمّد بن زيد، ودخل بلاد الديلم عام 277هـ، ثُمَّ ملك طبرستان بعد ذلك الناصر للحق الحسن بن عليّ المعروف بالأطروش، وجاء بعده الحسن بن القاسم، وبعده محمّد بن الحسن بن القاسم المتوفّى 360هـ.

هذه إلمامة موجزة وضعتها أمام القارئ عن ثوّارهم ودولهم.

عقائد الزيديّة

لم يكن زيد الشهيد صاحب نهج كلامي ولا فقهي، فلو كان يقول بالعدل والتوحيد ويكافح الجبر والتشبيه، فلأجل أنّه ورثهما عن آبائه (عليهم السّلام)، وإن كان يفتي في مورد أو موارد، فهو يصدر عن الحديث الّذي يرويه عن آبائه.

نعم، جاء بعد زيد مفكّرون وعاة، وهم بين دعاة للمذهب، أو بناة للدولة في اليمن وطبرستان، فساهموا في إرساء مذهب باسم المذهب الزيدي، متفتّحين في الأُصول والعقائد مع المعتزلة، وفي الفقه وكيفيّة الاستنباط مع الحنفيّة، ولكن الصلة بين ما كان عليه زيد الشهيد في الأُصول والفروع وما أرساه

____________________

(1) بحوث في الملل والنحل: 7/371 - 386.

٢٤١

هؤلاء في مجالي العقيدة والشريعة منقطعة إلاّ في القليل منهما.

ولا أُغالي إذا قلت: إنّ المذهب الزيدي مذهب ممزوج ومنتزع من مذاهب مختلفة في مجالي العقيدة والشريعة، ساقتهم إلى ذلك الظروف السائدة عليهم، وصار مطبوعاً بطابع مذهب زيد، وإن لم يكن له صلة بزيد إلاّ في القسم القليل.

ومن ثَمَّ التقت الزيديّة في العدل والتوحيد مع شيعة أهل البيت جميعاً، إذ شعارهم في جميع الظروف والأدوار رفض الجبر والتشبيه، والجميع في التديّن بذينك الأصلين عيال على الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)، كما أنّهم التقوا في الأُصول الثلاثة: ـ

1 - الوعد والوعيد.

2 - المنزلة بين المنزلتين.

3 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. - مع المعتزلة حيث أدخلوا هذه الأُصول في مذهبهم ورتّبوا عليه:

1 - خلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات بلا توبة، وحرمانه من الشفاعة؛ لأنّها للعدول دون الفسّاق.

2 - الشفاعة؛ بمعنى ترفيع الدرجة، لا الحطّ من الذنوب.

3 - الفاسق في منزلة بين المنزلتين؛ فهو عندهم لا مؤمن ولا كافر بل فاسق.

فاستنتجوا الأمرين الأوّلين من الأصل الأوّل، والثالث من الأصل الثاني.

٢٤٢

وأمّا الأصل الثالث، فهو ليس من خصائص الاعتزال، ولا الزيديّة، بل يشاركهم الإماميّة. هذه عقائدهم في الأُصول.

وأمّا الفروع فقد التفّت الزيديّة حول القياس والاستحسان والإجماع، وجعلوا الثالث بما هو هو حجّة، كما قالوا بحجيّة قول الصحابي وفعله، وبذلك صاروا أكثر فِرق الشيعة انفتاحاً على أهل السنّة.

ولكن العلامة الفارقة والنقطة الشاخصة الّتي تميّز هذا المذاهب عمّا سواه من المذاهب، ويسوقهم إلى الانفتاح على الإماميّة والإسماعيليّة، هو القول بإمامة عليّ والحسنين بالنصّ الجليّ أو الخفيّ عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، والقول بأنّ تقدّم غيرهم عليهم كان خطأ وباطلاً.

وها نحن نأتي برؤوس عقائدهم الّتي يلتقون في بعضها مع المعتزلة والإماميّة:

1 - صفاته سبحانه عين ذاته، خلافاً للأشاعرة.

2 - إنّ الله سبحانه لا يُرى ولا تجوز عليه الرؤية.

3 - العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها.

4 - الله سبحانه مريد بإرادة حادثة.

5 - إنّه سبحانه متكلّم بكلام، وكلامه سبحانه فعله: وهو الحروف والأصوات.

6 - أفعال العباد ليست مخلوقة لله سبحانه.

7 - تكليف ما يطاق قبيح، خلافاً للمجبّرة والأشاعرة.

8 - المعاصي ليس بقضاء الله.

٢٤٣

9 - الإمامة تجب شرعاً لا عقلاً، خلافاً للإمامية.

10 - النصّ على إمامة زيد والحسنين عند الأكثريّة.

11 - القضاء في فدك صحيح، خلافاً للإماميّة.

12 - خطأ المتقدّمين على عليّ في الخلافة قطعيّ.

13 - خطأ طلحة والزبير وعائشة قطعيّ.

14 - توبة الناكثين صحيحة.

15 - معاوية بن أبي سفيان فاسق لبغيه لم تثبت توبته.

هذه رؤوس عقائد الزيديّة استخرجناها من كتاب (القلائد في تصحيح الاعتقاد)، المطبوع في مقدّمة البحر الزخّار. (1)

فرق الزيديّة:

قد ذكر مؤرّخو العقائد للزيديّة فِرقاً، بين مقتصر على الثلاث، وإلى مفيض إلى ست، وإلى ثمان، منهم: الجاروديّة والسليمانيّة والبتريّة والنعيميّة، إلى غير ذلك من الفِرق، وبما أنّ هذه الفِرق كلّها قد بادت وذهبت أدراج الريح، مع بقاء الزيديّة في اليمن، ولا يوجد اليوم في اليمن بين الزيديّة من المفاهيم الكلاميّة المنسوبة إلى الفِرق كالجاروديّة أو السليمانيّة أو البتريّة أو الصالحيّة إلاّ مفهوم واحد، وهو المفهوم العام الّذي تعرفت عليه، وهو القول بإمامة زيد والخروج

____________________

(1) البحر الزخّار: 52 - 96.

٢٤٤

على الظلمة، واستحقاق الإمامة بالطلب والفضل، لا بالوراثة، مع القول بتفضيل عليّ - كرم الله وجهه - وأولويتّه بالإمامة، وقصرها من بعده في البطنين الحسن والحسين.

وأمّا أسماء تلك الفِرق والعقائد المنسوب إليهم، فلا توجد اليوم إلاّ في بطون الكتب والمؤلَّفات في الفِرق الإسلاميّة كالمِلل والنحل ونحوها، فإذا كان الحال في اليمن كما ذكره الفضيل شرف الدين، فالبحث عن هذه الفِرق من ناحية إيجابيّاتها وسلبيّاتها ليس مهمّاً بعد ما أبادهم الدهر، وإنّما اللاّزم دراسة المفهوم الجامع بين فِرقهم.

٢٤٥

15

الإسماعيليّة

الإسماعيليّة فِرقة من الشيعة القائلة بأنّ الإمامة بالتنصيص من النبيّ أو الإمام القائم مقامه، غير أنّ هناك خلافاً بين الزيديّة والإماميّة والإسماعيليّة في عدد الأئمّة ومفهوم التنصيص.

فالأئمّة المنصوصة خلافتهم وإمامتهم بعد النبيّ عند الزيديّة لا يتجاوز عن الثلاثة: عليّ أمير المؤمنين (عليه السّلام)، والسبطين الكريمين: الحسن والحسين (عليهما السّلام)، وبشهادة الأخير أغلقت دائرة التنصيص وجاءت مرحلة الانتخاب بالبيعة كما تقدم.

وأمّا الأئمّة المنصوصون عند الإماميّة فاثنا عشر إماماً آخرهم غائبهم يظهره الله سبحانه عندما يشاء، وقد حوّل أمر الأُمّة - في زمان غيبته - إلى الفقيه العارف بالأحكام والسنن والواقف على مصالح المسلمين على النحو المقرّر في كتبهم وتآليفهم.

وأمّا الإمامة عند الإسماعيليّة فهي تنتقل عندهم من الآباء إلى الأبناء، ويكون انتقالها عن طريق الميلاد الطبيعي، فيكون ذلك بمثابة نصّ من الأب بتعيين الابن، وإذا كان للأب عدّة أبناء فهو بما أُوتي من معرفة خارقة للعادة يستطيع أن يعرف من هو الإمام الّذي وقع عليه النص، فالقول بأنّ الإمامة عندهم بالوراثة أولى من القول بالتنصيص.

٢٤٦

وعلى كلّ حال فهذه الفِرقة منشقّة عن الشيعة، معتقدة بإمامة إسماعيل بن جعفر بن الإمام الصادق (عليه السّلام)، وإليك نبذة مختصرة عن سيرة إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).

الإمام الأوّل للدعوة الإسماعيليّة:

إنّ إسماعيل هو الإمام الأوّل والمؤسّس للمذهب، فوالده الإمام الصادق (عليه السّلام) غنيّ عن التعريف وفضله أشهر من أن يُذكر، وأُمّه فاطمة بنت الحسين بن عليّ بن الحسين الّتي أنجبت أولاداً ثلاثة هم:

1 - إسماعيل بن جعفر.

2 - عبد الله بن جعفر.

3 - أُم فروة.

وكان إسماعيل أكبرهم، وكان أبو عبد الله (عليه السّلام) شديد المحبّة له والبرَّ به والإشفاق عليه، مات في حياة أبيه (عليه السلام) (بالعريض) وحمل على رقاب الرّجال إلى أبيه بالمدينة حتّى دفنه بالبقيع. (1)

استشهاد الإمام الصادق (عليه السّلام) على موته:

كان الإمام الصادق حريصاً على إفهام الشيعة بأنّ الإمامة لم تُكتب لإسماعيل، فليس هو من خلفاء الرسول الاثني عشر الّذين كُتبت لهم الخلافة والإمامة بأمر السماء وإبلاغ الرسول الأعظم.

____________________

(1) إرشاد المفيد: 284.

٢٤٧

ومن الدواعي الّتي ساعدت على بثّ بذر الشبهة والشكّ في نفوس الشيعة في ذلك اليوم؛ هو ما اشتهر من أنّ الإمامة للولد الأكبر، وكان إسماعيل أكبر أولاده، فكانت أماني الشيعة معقودة عليه، ولأجل ذلك تركّزت جهود الإمام الصادق (عليه السّلام) على معالجة الوضع واجتثاث جذور تلك الشبهة وأنّ الإمامة لغيره، فتراه تارة ينصّ على ذلك، بقوله وكلامه، وأُخرى بالاستشهاد على موت إسماعيل وأنّه قد انتقل إلى رحمة الله ولن يصلح للقيادة والإمامة.

وإليك نموذجاً يؤيّد النهج الّذي انتهجه الإمام لتحقيق غرضه في إزالة تلك الشبهة.

روى النعماني عن زرارة بن أعين، أنّه قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السّلام) وعند يمينه سيّد ولده موسى (عليه السّلام) وقدّامه مرقد مغطّى، فقال لي: «يا زرارة جئني بداود بن كثير الرقي وحمران وأبي بصير» ودخل عليه المفضّل بن عمر، فخرجت فأحضرت من أمرني بإحضاره، ولم يزل الناس يدخلون واحداً إثر واحد حتّى صرنا في البيت ثلاثين رجلا.

فلمّا حشد المجلس قال: «يا داود اكشف لي عن وجه إسماعيل»، فكشف عن وجهه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا داود أحيٌّ هو أم ميّت؟» ، قال داود: يا مولاي هو ميّت، فجعل يعرض ذلك على رجل رجل، حتّى أتى على آخر من في المجلس، وانتهى عليهم بأسرهم، وكل يقول: هو ميّت يا مولاي، فقال: «اللّهم اشهد» ثُمَّ أمر بغسله وحنوطه، وإدراجه في أثوابه.

فلمّا فرغ منه قال للمفضّل: (يا مفضّل أحسر عن وجهه)، فحسر عن وجهه، فقال: «أحيُّ هو أم ميّت؟» فقال له: ميّت، قال(عليه السّلام): «اللّهم اشهد عليهم» ، ثُمَّ

٢٤٨

حمل إلى قبره، فلمّا وضع في لحده، قال: «يا مفضّل اكشف عن وجهه»، وقال للجماعة: (أحيّ هو أم ميّت؟)، قلنا له: ميّت، فقال: «اللّهم اشهد، واشهدوا فانّه سيرتاب المبطلون، يريدون إطفاء نور الله بأفواههم - ثُمَّ أومأ إلى موسى - والله متمّ نوره ولو كره المشركون»، ثُمَّ حثونا عليه التراب، ثُمَّ أعاد علينا القول، فقال: «الميّت، المحنّط، المكفّن المدفون في هذا اللحد من هو؟» قلنا: إسماعيل، قال: «اللّهم اشهد». ثُمَّ أخذ بيد موسى (عليه السّلام) وقال: «هو حقّ، والحقّ منه، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها». (1)

هل كان عمل الإمام تغطية لستره؟

إنّ الإسماعيليّة تدّعي أنّ ما قام به الإمام الصادق (عليه السّلام) كان تغطية؛ لستره عن أعين العباسيّين، الّذين كانوا يطاردونه بسبب نشاطه المتزايد في نشر التعاليم الّتي اعتبرتها الدولة العباسيّة منافية لقوانينها. والمعروف أنّه توجّه إلى سلمية ومنها إلى دمشق فعلم به عامل الخليفة، وهذا ما جعله يغادرها إلى البصرة ليعيش فيها متستّراً بقيّة حياته.

مات في البصرة سنة 143هـ، وكان أخوه موسى بن جعفر الكاظم حجاباً عليه، أمّا وليّ عهده محمّد فكان له من العمر أربع عشرة سنة عند موته. (2)

ما ذكره أُسطورة حاكتها يدُ الخيال، ولم يكن الإمام الصادق (عليه السّلام) ولا أصحابه الأجلاّء، ممّن تتلمذوا في مدرسة الحركات السريّة، حتّى يفتعل موت ابنه بمرأى ومسمع من الناس وهو بعد حيّ يرزق، ولم يكن عامل الخليفة

____________________

(1) غيبة النعماني: 327، الحديث 8، ولاحظ؛ بحار الأنوار: 48/21.

(2) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 180.

٢٤٩

بالمدينة المنوّرة بليداً، يكتفي بالتمويه، حتّى يتسلّم المحضر ويبعث به إلى دار الخلافة العبّاسيّة.

والظاهر أنّ إصرارهم بعدم موت إسماعيل في حياة أبيه جعفر الصادق (عليه السّلام)، لأجل تصحيح إمامة ابنه عبد الله بن إسماعيل؛ حتّى يتسنّى له أخذ الإمامة من أبيه الحيّ بعد حياة الإمام الصادق (عليه السّلام).

لكن الحقّ أنّه توفّي أيّام حياة أبيه، بشهادة الأخبار المتضافرة الّتي تعرّفت عليها، وهل يمكن إغفال أُمّة كبيرة وفيهم جواسيس الخليفة وعمّالها؟!، وستْر رحيل إسماعيل إلى البصرة بتمثيل جنازة بطريقة مسرحيّة يُعلن بها موته، فإنّه منهج وأُسلوب السياسيّين المخادعين، المعروفين بالتخطيط والمؤامرة، ومن يريد تفسير فعل الإمام عن هذا الطريق فهو من هؤلاء الجماعة (وكلّ إناء بالّذي فيه ينضح). وأين هذا من وضع الجنازة مرّات وكشف وجهه والاستشهاد على موته وكتابة الشهادة على كفنه؟!

والتاريخ يشهد على أنّه لم يكن لإسماعيل ولا لولَده الإمام الثاني، أيّة دعوة في زمان أبي جعفر المنصور ولا ولَده المهدي العبّاسي، بشهادة أنّ ابن المفضّل كتب كتاباً ذكر فيه صنوف الفِرق، ثُمَّ قرأ الكتاب على الناس، فلم يذكر فيه شيئاً من تلك الفِرقة مع أنّه ذكر سائر الفِرق الشيعيّة البائدة.

والحق إنّ إسماعيل كان رجلاً ثقة، محبوباً للوالد، وتوفّي في حياة والده وهو عنه راض، ولم تكن له أي دعوة للإمامة، ولم تظهر أي دعوة باسمه أيّام خلافة المهدي العبّاسي الّذي توفّي عام 169هـ، وقد مضى على وفاة الإمام الصادق (عليه السّلام) إحدى وعشرون سنة.

٢٥٠

الخطوط العريضة للمذهب الإسماعيلي

إنّ للمذهب الإسماعيلي آراء وعقائداً:

الأُولى: انتماؤهم إلى بيت الوحي والرسالة:

كانت الدعوة الإسماعيليّة يوم نشوئها دعوة بسيطة لا تتبنّى سوى: إمامة المسلمين، وخلافة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) واستلام الحكم من العباسيّين بحجة ظلمهم وتعسّفهم، غير أنّ دعوة بهذه السذاجة لا يُكتب لها البقاء إلاّ باستخدام عوامل تضمن لها البقاء، وتستقطب أهواء الناس وميولهم.

ومن تلك العوامل الّتي لها رصيد شعبي كبير هو ادّعاء انتماء أئمّتهم إلى بيت الوحي والرسالة وكونهم من ذريّة الرسول وأبناء بنته الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السّلام)، وكان المسلمون منذ عهد الرسول يتعاطفون مع أهل بيت النبيّ، وقد كانت محبّتهم وموالاتهم شعار كلّ مسلم واع.

وممّا يشير إلى ذلك أنّ الثورات الّتي نشبت ضد الأُمويّين كانت تحمل شعار حبّ أهل البيت (عليهم السّلام) والاقتداء بهم والتفاني دونهم، ومن هذا المنطلق صارت الإسماعيليّة تفتخر بانتماء أئمّتهم إلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، حتّى إذا تسلّموا مقاليد الحكم وقامت دولتهم اشتهروا بالفاطميّين، وكانت التسمية يومذاك تهزّ المشاعر وتجذب العواطف بحجّة أنّ الأبناء يرثون ما للآباء من الفضائل والمآثر، وأنّ

٢٥١

تكريم ذريّة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) تكريم له (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فشتّان ما بين بيت أُسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوانه وبيت أُسّس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم.

الثانية: تأويل الظواهر:

إنّ تأويل الظواهر وإرجاعها إلى خلاف ما يتبادر منها في عرف المتشرّعة هي السمة البارزة الثانية للدعوة الإسماعيليّة، وهي إحدى الدعائم الأساسيّة؛ بحيث لو انسلخت الدعوة عن التأويل واكتفت بالظواهر لم تتميّز عن سائر الفِرق الشيعيّة إلاّ بصرف الإمامة عن الإمام الكاظم (عليه السّلام) إلى أخيه إسماعيل بن جعفر، وقد بنوا على هذه الدعامة مذهبهم في مجالي العقيدة والشريعة، وخصوصاً فيما يرجع إلى تفسير الإمامة وتصنيفها إلى أصناف.

إنّ تأويل الظواهر والتلاعب بآيات الذكر الحكيم وتفسيرها بالأهواء والميول جعل المذهب الإسماعيلي يتطوّر مع تطوّر الزمان، ويتكيّف بمكيّفاته، ولا ترى الدعوة أمامها أي مانع من مماشاة المستجدات وإن كانت على خلاف الشارع أو الضرورة الدينيّة.

الثالثة: تطعيم مذهبهم بالمسائل الفلسفيّة:

إنّ ظاهرة الجمود على النصوص والظواهر ورفض العقل في مجالات العقائد، كانت من أهم ميّزات العصر العبّاسي، هذه الظاهرة ولّدت رد فعل عند أئمّة الإسماعيليّة، فانجرفوا في تيّارات المسائل الفلسفيّة وجعلوها من صميم

٢٥٢

الدّين وجذوره، وانقلب المذهب إلى منهج فلسفي يتطوّر مع تطوّر الزمن، ويتبنّى أُصولاً لا تجد منها في الشريعة الإسلاميّة عيناً ولا أثراً.

يقول المؤرّخ الإسماعيلي المعاصر مصطفى غالب: إنّ كلمة (إسماعيليّة) كانت في بادئ الأمر تدلّ على أنّها من إحدى الفِرق الشيعيّة المعتدلة، لكنّها صارت مع تطوّر الزمن حركة عقليّة تدلّ على أصحاب مذاهب دينيّة مختلفة، وأحزاب سياسيّة واجتماعيّة متعدّدة، وآراء فلسفيّة وعلميّة متنوّعة. (1)

الرابعة: تنظيم الدعوة:

ظهرت الدعوة الإسماعيليّة في ظروف ساد فيها سلطان العبّاسيّين شرق الأرض وغربها، ونشروا في كلِّ بقعة جواسيس وعيوناً ينقلون الأخبار إلى مركز الخلافة الإسلاميّة، ففي مثل هذه الظروف العصيبة لا يُكتب النجاح لكلّ دعوة تقوم ضدّ السلطة إلاّ إذا امتلكت تنظيماً وتخطيطاً متقناً يضمن استمرارها، ويصون دعاتها وأتباعها من حبائل النظام الحاكم وكشف أسرارهم.

وقد وقف الدعاة على خطورة الموقف، وأحسّوا بلزوم إتقان التخطيط والتنظيم، وبلغوا فيه الذروة؛ بحيث لو قُورنت مع أحدث التنظيمات الحزبيّة العصريّة، لفاقتها وكانت لهم القدح المعلّى في هذا المضمار، وقد ابتكروا أساليب دقيقة يقف عليها من سبر تراجمهم وقرأ تاريخهم، ولم يكتفوا بذلك فحسب بل جعلوا تنظيمات الدعوة من صميم العقيدة وفلسفتها.

____________________

(1) تاريخ الدعوة الإسماعيليّة: 14.

٢٥٣

الخامسة: تربية الفدائيّين للدفاع عن المذهب:

إنّ الأقلّية المعارضة من أجل الحفاظ على كيانها لا مناص لها من تربية فدائيّين مضحّين بأنفسهم في سبيل الدعوة؛ لصيانة أئمتهم ودعاتهم من تعرّض الأعداء، فينتقون من العناصر المخلصة المعروفة بالتضحية والإقدام، والشجاعة النادرة، والجرأة الخارقة ويكلّفون بالتضحيات الجسديّة، وتنفيذ أوامر الإمام أو نائبه، وإليك هذا النموذج:

في سنة 500 هـ فكّر فخر الملك بن نظام وزير السلطان سنجر، أن يُهاجم قلاع الإسماعيليّة، فأوفد إليه الحسن بن الصباح أحد فدائيّيه فقتله بطعنة خنجر، ولقد كانت قلاعه في حصار مستمر من قبل السلجوقيّين.

السادسة: كتمان الوثائق:

إنّ استعراض تاريخ الدعوات الباطنيّة السرّيّة وتنظيماتها رهن الوقوف على وثائقها ومصادرها الّتي تنير الدرب لاستجلاء كنهها، وكشف حقيقتها وما غمض من رموزها ومصطلحاتها، ولكن للأسف الشديد أنّ الإسماعيليّة كتموا وثائقهم وكتاباتهم ومؤلّفاتهم وكلّ شيء يعود لهم، ولم يبذلوها لأحد سواهم، فصار البحث عن الإسماعيليّة بطوائفها أمراً مستعصياً، إلاّ أن يستند الباحث إلى كتب خصومهم وما قيل فيهم، ومن المعلوم أنّ القضاء في حقّ طائفة استناداً إلى كلمات مخالفيهم خارج عن أدب البحث النزيه.

٢٥٤

السابعة: الأئمّة المستورون والظاهرون:

إنّ الإسماعيليّة أعطت للإمامة مركزاً شامخاً، وصنّفوا الإمامة إلى رُتب ودرجات، وزوّدوها بصلاحيّات واختصاصات واسعة، غير أنّ المهمَّ هنا الإشارة إلى تصنيفهم الإمام إلى مستور دخل كهف الاستتار، وظاهر يملك جاهاً وسلطاناً في المجتمع، فالأئمّة المستورون هم الّذين نشروا الدعوة سرّاً وكتماناً، وهم:

1 - إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).

2 - محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الحبيب) (132 - 193هـ)، ولد في المدينة المنوّرة وتسلّم شؤون الإمامة واستتر عن الأنظار خشية وقوعه بيد الأعداء. ولقّب بالإمام المكتوم لأنّه لم يعلن دعوته وأخذ في بسطها خفية.

3 - عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الوافي) (179 - 212هـ)، ولد في مدينة محمّد آباد، وتولّى الإمامة عام 193هـ بعد وفاة أبيه، وسكن السلمية عام 194هـ مصطَحباً بعدد من أتباعه؛ وهو الّذي نظّم الدعوة تنظيماً دقيقاً.

4 - أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (التقي) (198 - 265هـ)، وتولّى الإمامة عام 212هـ، سكن السلمية سرّاً حيث أصبحت مركزاً لنشر الدعوة.

5 - الحسين بن أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الرضي) (212 - 289هـ) تولّى الإمامة عام 265هـ، ويقال أنّه اتّخذ عبد الله بن ميمون القدّاح حجّة له وحجاباً عليه.

٢٥٥

الأئمّة الظاهرون:

6 - عبيد الله المهدي (260 - 322هـ) والمعروف بين الإسماعيليّة أنّ عبيد الله المهدي الّذي هاجر إلى المغرب وأسّس هناك الدولة الفاطميّة كان ابتداءً لعهد الأئمّة الظاهرين الّذين جهروا بالدعوة وأخرجوها عن الاستتار.

7 - محمّد بن عبيد الله القائم بأمر الله (280 - 334هـ)، ولد بالسلمية، ارتحل مع أبيه عبيد الله المهدي إلى المغرب وعهد إليه بالإمامة من بعده.

8 - إسماعيل المنصور بالله (303 - 346هـ)، ولد بالقيروان، تسلّم شؤون الإمامة بعد وفاة أبيه سنة 334هـ.

9 - معد بن إسماعيل المعزّ لدين الله (319 - 365هـ)، مؤسس الدولة الفاطميّة في مصر.

10 - نزار بن معد العزيز بالله (344 - 386هـ)، ولي العهد بمصر سنة 365هـ، واستقلّ بالأمر بعد وفاة أبيه، وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً.

11 - منصور بن نزار الحاكم بأمر الله (375 - 411هـ)، بويع بالخلافة سنة 386هـ وكان عمره أحد عشر عاماً ونصف العام، وهو من الشخصيّات القليلة الّتي لم تتجلّ شخصيّته بوضوح، وقام بأعمال إصلاحيّة زعم مناوئوه أنّها من البدع.

وأمّا عن مصير الحاكم، فمجمل القول فيه أنّه فُقد في سنة 411هـ، ولم يُعلم مصيره، وحامت حول كيفيّة اغتياله أساطير لا تتلاءم مع الحاكم المقتدر.

٢٥٦

وبعد اختفائه انشقّت فِرقة من الإسماعيليّة ذهبت إلى إلوهيّة الحاكم وغيبته، وهم المعروفون اليوم بـ (الدروز) يقطنون لبنان.

12 - عليّ بن منصور الظاهر لإعزاز دين الله (395 - 427هـ)، بويع بالخلافة وعمره ستة عشر عاماً، وشنّ حرباً على الدروز محاولاً إرجاعهم إلى العقيدة الفاطميّة الأصيلة.

13 - معد بن عليّ المستنصر بالله (420 - 487هـ)، بويع بالخلافة عام 427هـ، وكان له من العمر سبعة أعوام، وقد ظلّ في الحكم ستّين عاماً، وهي أطول مدّة في تاريخ الخلافة الإسلاميّة.

إلى هنا تمّت ترجمة الأئمّة الثلاثة عشر الّذين اتّفقت كلمة الإسماعيليّة على إمامتهم وخلافتهم، ولم يشذّ منهم سوى الدروز الّذين انشقوا عن الإسماعيليّة في عهد خلافة الحاكم بأمر الله، وصار وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق آخر وظهور طائفتين من الإسماعيليّة، بين مستعلية تقول بإمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ونزاريّة تقول بإمامة نزار بن المستنصر.

وسنأتي بالحديث عن الإسماعيليّة المستعلية والنزاريّة فيما يلي.

٢٥٧

الإسماعيليّة المستعلية

صارت وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق الإسماعيليّة مرّة ثانية - بعد انشقاق الدروز في المرّة الأُولى - فمنهم من ذهب إلى إمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ومنهم من ذهب إلى إمامة نزار من المستنصر بالله، وإليك الكلام في أئمّة المستعلية في هذا الفصل مقتصرين على أسمائهم وتاريخ ولادتهم ووفاتهم:

1 - الإمام أحمد بن معد بن عليّ المستعلي بالله (467 - 495هـ).

2 - الإمام منصور بن أحمد الآمر بأحكام الله (490 - 524هـ).

قال ابن خلّكان: مات الآمر بأحكام الله ولم يعقب، وربّما يقال: أنّ الآمر مات وامرأته حامل بالطيّب. فلأجل ذلك عهد الآمر بأحكام الله الخلافة إلى الحافظ، الظافر، الفائز، ثُمَّ إلى العاضد، وبما أنّ هؤلاء لم يكونوا من صلب الإمام السابق، بل كانوا من أبناء عمّه صاروا دعاة؛ حيث لم يكن في الساحة إمام، ودخلت الدعوة المستعلية بعد اختفاء الطيّب بالستر، وما تزال تنتظر عودته، وتوقّفت عن السير وراء الركب الإمامي واتّبعت نظام الدعاة المطلقين.

3 - الداعي عبد المجيد بن أبي القاسم محمّد بن المستنصر الحافظ لدين الله (467 - 544هـ).

4 - الداعي إسماعيل بن عبد المجيد الظافر بأمر الله (527 - 549 هـ).

٢٥٨

5 - الداعي عيسى بن إسماعيل الفائز بنصر الله (544 - 555هـ).

6 - عبد الله بن يوسف العاضد لدين الله (546 - 567هـ).

ثُمَّ إنّ العاضد فوّض الوزارة إلى صلاح الدين الأيّوبي الّذي بذل الأموال على أصحابه وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من المال، فلم يزل أمره في ازدياد وأمر العاضد في نقصان، حتّى تلاشى العاضد وانحلّ أمره، ولم يبق له سوى إقامة ذكره في الخطبة، وتتبّع صلاح الدين جُند العاضد، وأخذ دور الأمراء وإقطاعاتهم فوهبها لأصحابه، وبعث إلى أبيه وإخوته وأهله، فقدموا من الشام عليه، وعزل قُضاة مصر الشيعة، واختفى مذهب الشيعة إلى أنّ نُسي من مصر، وقد زادت المضايقات على العاضد وأهل بيته، حتّى مرض ومات وعمره إحدى وعشرون سنة إلاّ عشرة أيام، وهو آخر الخلفاء الفاطميّين بمصر، وكانت مدّتهم بالمغرب ومصر منذ قام عبيد الله المهدي إلى أن مات العاضد 272 سنة، منها بالقاهرة 208 سنين.(1)

تتابع الدعاة عند المستعلية:

قد عرفت أنّ ركب الإمامة قد توقّف عند المستعلية وانتهى الأمر إلى الدعاة الّذين تتابعوا إلى زمان 999هـ، وعند ذلك افترقت المستعلية إلى فِرقتين: داوديّة، وسليمانيّة، وذلك بعد وفاة الداعي المطلق داود بن عجب شاه، انتخبت مستعلية كجرات داود بن قطب شاه خلفاً له، ولكن اليمانيّين عارضوا ذلك وانتخبوا داعياً آخر، يُدعى سليمان بن

____________________

(1) انظر الخطط المقريزيّة: 1/358 - 359.

٢٥٩

الحسن، ويقولون: إنّ داود قد أوصى له بموجب وثيقة ما تزال محفوظة.

إنّ الداعي المطلق للفِرقة الإسماعيليّة المستعلية الداوديّة اليوم هو طاهر سيف الدّين، ويُقيم في بومباي الهند، أمّا الداعي المطلق للفِرقة المستعلية السليمانيّة فهو عليّ بن الحسين، ويقيم في مقاطعة نجران بالحجاز. (1)

جناية التاريخ على الفاطميّين:

لاشكّ أنّ كلّ دولة يرأسها غير معصوم لا تخلو من أخطاء وهفوات، وربّما تنتابها بين آونة وأُخرى حوادث وفتن تضعضع كيانها وتشرفها على الانهيار.

والدولة الفاطميّة غير مستثناة عن هذا الخط السائد؛ فقد كانت لديها زلاّت وعثرات، إلاّ أنّها قامت بأعمال ومشاريع كبيرة لا تقوم بها إلاّ الدولة المؤمنة بالله سبحانه وشريعته، كالجامع الأزهر الّذي ظلّ عبر الدهور يُنير الدرب لأكثر من ألف سنة، كما أنّهم أنشأوا جوامع كبيرة ومدارس عظيمة مذكورة في تاريخهم، وبذلك رفعوا الثقافة الإسلاميّة إلى مرتبة عالية، وتلك الأعمال جعلت لهم في قلوب الناس مكانة عالية.

غير أنّا نرى أنّ أكثر المؤرّخين يصوّرها بأنّها من أكثر العصور ظلاماً في التاريخ؛ شأنها في ذلك شأن سائر الفراعنة، وليس هذا إلاّ حدسيّات وتخمينات أخذها أصحاب أقلام السِّير والتاريخ من رُماة القول على عواهنه دون أن يُمعنوا فيه.

____________________

(1) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 162.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

الموجود الخارجيّ في هذا الحكم فإنّ المعنى كيف ما كان يجوّز العقل أن يصدق على أكثر من مصداق واحد كمفهوم الإنسان ومفهوم الإنسان الطويل، ومفهوم هذا الإنسان القائم أمامنا. وأمّا تقسيم المنطقيّين المفهوم إلى الكلّيّ والجزئيّ، وكذا تقسيمهم الجزئيّ إلى الإضافيّ والحقيقيّ فإنّما هو تقسيم بالإضافة والنسبة، إمّا نسبة أحد المفهومين إلى الآخر وإمّا نسبته إلى الخارج، وهذا الوصف الّذي في المفاهيم - وهو جواز الانطباق على أكثر من واحد - ربّما نسمّيه بالإطلاق كما نسمّي مقابلة بالشّخصيّة أو الوحدة.

ثمّ الموجود الخارجيّ (ونعني به الموجود المادّيّ خاصّة) لما كان واقعاً تحت قانون التغيّر والحركة العموميّة كان لا محالة ذا امتداد منقسماً إلى حدود وقطعات، كلّ قطعة منها تغاير القطعة الاُخرى ممّا تقدّم عليها أو تأخّر عنها، ومع ذلك فهي مرتبطة بها بوجودها، إذ لو لا ذلك لم يصدق معنى التغيّر والتبدّل لأنّ أحد شيئين إذا عدم من أصله، والآخر وجد من أصله لم يكن ذلك تبدّل هذا من ذاك، بل التبدّل الّذي يلازم كلّ حركة إنّما يتحقّق بوجود قدر مشترك في الحالين جميعاً.

ومن هنا يظهر أنّ الحركة أمر واحد بشخصه يتكثّر بحسب الإضافة إلى الحدود، فيتعيّن بكلّ نسبة قطعة تغاير القطعه الاُخرى، وأمّا نفس الحركة فسيلان وجريان واحد شخصيّ، ونحن ربّما سمّينا هذا الوصف في الحركة إطلاقاً في مقابل النسب الّتي لها إلى كلّ حدّ حدّ، فنقول: الحركة المطلقة بمعنى قطع النظر عن إضافتها إلى الحدود. ومن هنا يظهر أن المطلق بالمعنى الثاني أمر واقعيّ موجود في الخارج، بخلاف المطلق بالمعنى الأوّل فإنّ الإطلاق بهذا المعنى وصف ذهنيّ لموجود ذهنيّ، هذا.

ثمّ إنّا لا نشكّ أنّ الإنسان موجود طبيعيّ ذو أفراد وأحكام وخواصّ وأنّ الّذي توجده الخلقة هو الفرد من أفراد الإنسان دون مجموع الأفراد أعني الاجتماع الإنسانيّ إلّا أنّ الخلقة لما أحسّت بنقص وجوده، واحتياجه إلى استكمالات لا تتمّ له وحده، جهّزه بأدوات وقوىّ تلائم سعيه للاستكمال في ظرف الاجتماع وضمن الأفراد المجتمعين، فطبيعة الإنسان الفرد مقصود للخلقة أوّلاً وبالذات والاجتماع مقصود لها ثانياً وبالتبع.

٣٨١

وأمّا حقيقة أمر الإنسان مع هذا الاجتماع الّذي تقتضية وتتحرّك إليه الطبيعة الإنسانيّة (إن صحّ إطلاق الاقتضاء والعلّية والتّحرّك في مورد الاجتماع حقيقة) فإنّ الفرد من الإنسان موجود شخصيّ واحد بالمعنى الّذي تقدّم من شخصيّته ووحدته، وهو مع ذلك واقع في الحركة، متبدّل متحوّل إلى الكمال، ومن هنا كان كلّ قطعة من قطعات وجوده المتبدّل مغايرة لغيرها من القطعات، وهو مع ذلك ذو طبيعة سيّالة مطلقة محفوظة في مراحل التغيّرات واحدة شخصيّة، وهذه الطبيعة الموجودة في الفرد محفوظة بالتوالد والتناسل واشتقاق الفرد من الفرد - وهي الّتي نعبّر عنها بالطبيعة النوعيّة - فإنّها محفوظة بالأفراد وإن تبدّلت وعرض لها الفساد والكون، بمثل البيان الّذي مرّ في خصوص الطبيعة الفرديّة، فالطبيعة الشخصيّة موجوده متوجّهة إلى الكمال الفرديّ، والطبيعة النوعيّة موجودة مطلقة متوجّهة إلى الكمال.

وهذا الاستكمال النوعيّ لا شكّ في وجوده وتحقّقه في نظام الطبيعة، وهو الّذي نعتمد عليه في قولنا: إنّ النوع الإنسانيّ مثلاً متوجّه إلى الكمال، وأنّ الإنسان اليوم أكمل وجوداً من الإنسان الأوّليّ، وكذا ما تحكم به فرضيّة تحوّل الأنواع، فلو لا أنّ هناك طبيعة نوعيّة خارجيّة محفوظة في الأفراد أو الأنواع مثلاً لم يكن هذا الكلام إلّا كلاماً شعريّاً.

والكلام في الاجتماع الشّخصيّ القائم بين أفراد قوم أو في عصر أو في محيط، ونوع الاجتماع القائم بنوع الإنسان المستمرّ باستمراره والمتحوّل بتحوّله (لو صحّ أنّ الاجتماع كالإنسان المجتمع حال خارجيّ لطبيعة خارجيّة !) نظير القول في طبيعة الإنسان الشخصيّة والنوعيّة في التقييد والإطلاق.

فالاجتماع متحرّك متبدّل بحركة الإنسان وتبدّله - وله وحدة من بادئ الحركة إلى أين توجّه بوجود مطلق - وهذا الواحد المتغيّر بواسطة نسبته وإضافته إلى كلّ حدّ حدّ تصير قطعة قطعة، وكلّ قطعة شخص واحد من أشخاص الاجتماع، وأشخاص الاجتماع مستندة في وجودها إلى أشخاص الإنسان، كما أنّ مطلق الاجتماع بالمعنى الّذي تقدّم مستند إلى مطلق الطبيعة الإنسانيّة، فإنّ حكم الشخص شخص الحكم

٣٨٢

وفرده، وحكم المطلق مطلق الحكم (لا كلّيّ الحكم، فلسنا نعني الإطلاق المفهوميّ فلا تغفل) ونحن لا نشكّ أنّ الفرد من الإنسان وهو واحد له حكم واحد باق ببقائه، إلّا أنّه متبدّل بتبدّلات جزئيّة بتبع التبدّلات الطارئة على موضوعه الّذي هو الإنسان فمن أحكام الإنسان الطبيعيّ أنّه يتغذّى ويفعل بالإرادة ويحسّ ويتفكّر - وهو موجود مع الإنسان وباق ببقائه - وإن تبدّل طبق تبدّله في نفسه، وكذلك الكلام في أحكام مطلق الإنسان الموجود بوجود أفراده.

ولمّا كان الاجتماع من أحكام الطبيعة الإنسانيّة وخواصّها فمطلق الاجتماع (نعني به الاجتماع المستمرّ الّذي أوجدته الطبيعة الإنسانيّة المستمرّة من حين وجد الإنسان الفرد إلى يومنا هذ) من خواصّ النوع الإنسانيّ المطلق موجود معه باق ببقائه، وأحكام الاجتماع الّتي أوجدها واقتضاها هي مع الاجتماع موجودة بوجوده، باقية ببقائه، وإن تبدّلت بتبدّلات جزئيّة مع انحفاظ الأصل مثل نوعها، وحينئذ صحّ لنا أن نقول: إنّ هناك أحكاماً اجتماعيّة باقية غير متغيّرة، كوجود مطلق الحسن والقبح، كما أنّ نفس الاجتماع المطلق كذلك، بمعنى أنّ الاجتماع لا ينقلب إلى غير الاجتماع كالانفراد وإن تبدّل اجتماع خاصّ إلى آخر خاصّ، والحسن المطلق والخاصّ كالاجتماع المطلق والخاصّ بعينه.

ثمّ إنّا نرى أنّ الفرد من الإنسان يحتاج في وجوده وبقائه إلى كمالات ومنافع يجب له أن يجتلبها ويضمّها إلى نفسه، والدليل على هذا الوجوب احتياجه في جهات وجوده وتجهيز الخلقة له بما يقوى به على ذلك، كجهاز التغذّي وجهاز التناسل مثلاً، فعلى الإنسان أن يقدم عليه، وليس له أن لا يقدم قطعاً بالتفريط فإنّه يناقض دليل الوجوب الّذي ذكرناه، وليس له أن يقدم في باب من أبواب الحاجة بما يزيد على اللّازم بالإفراط، مثل أن يأكل حتّى يموت، أو يمرض، أو يتعطّل عن سائر قواه الفعّالة، بل عليه أن يتوسّط في جلب كلّ كمال أو منفعة، وهذا التوسّط هي العفّة، وطرفاه الشره والخمود، وكذلك نرى الفرد في وجوده وبقائه متوسّطاً بين نواقص وأضداد ومضارّ لوجوده يجب عليه أن يدفعها، والدليل عليه الاحتياج والتجهيز في نفسه فيجب

٣٨٣

عليه المقاومة والدفاع على ما ينبغي من التوسّط، من غير إفراط يضادّ سائر تجهيزاته أو تفريط يضادّ الاحتياج والتجهيز المربوطين، وهذا التوسّط هي الشجاعة، وطرفاها التهوّر والجبن ونظير الكلام جار في العلم ومقابليه أعني الجربزة والبلادة، وفي العدالة ومقابليها وهما الظلم والانظلام.

فهذه أربع ملكاتٍ وفضائل تستدعيه الطبيعة الفرديّة المجهّزة، بأدواتها: العفّة والشجاعة، والحكمة، والعدالة - وهي كلّها حسنة - لأنّ معنى الحسن الملائمة لغاية الشئ وكماله وسعادته، وهي جميعاً ملائمة مناسبة لسعادة الفرد بالدليل الّذي تقدّم ذكره، ومقابلاتها رذائل قبيحة. وإذا كان الفرد من الإنسان بطبيعته وفي نفسه على هذا الوصف فهو في ظرف الاجتماع أيضاً على هذا الوصف، وكيف يمكن أن يبطل الاجتماع - وهو من أحكام هذه الطبيعة - سائر أحكامها الوجوديّة ؟ وهل هو إلّا تناقض الطبيعة الواحدة، وليس حقيقة الاجتماع إلّا تعاون الأفراد في تسهيل الطريق إلى استكمال طبائعهم وبلوغها إلى غاية اُمنيّتها ؟

وإذا كان الفرد من الإنسان في نفسه وفي ظرف الاجتماع على هذا الوصف، فنوع الإنسان في اجتماعه النوعيّ أيضاً كذلك، فنوع الإنسان في اجتماعه يستكمل بالدفاع بقدر ما لا يفسد الاجتماع وباجتلاب المنافع بقدر ما لا يفسد الاجتماع، وبالعلم بقدر ما لا يفسد الاجتماع، وبالعدالة الاجتماعيّة - وهي إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، وبلوغه حظّه الّذي يليق به دون الظلم والانظلام - وكلّ هذه الخصال الأربع فضائل بحكم الاجتماع المطلق يقضي الاجتماع الإنسانيّ بحسنها المطلق ويعدّ مقابلاتها رذائل ويقضي بقبحها.

فقد تبيّن بهذا البيان: أنّ في الاجتماع المستمرّ الإنسانيّ حسناً وقبحاً لا يخلو عنهما قطّ وأنّ أصول الأخلاق الأربعة فضائل حسنة دائماً، ومقابلاتها رذائل قبيحة دائماً، والطبيعة الإنسانيّة الاجتماعيّة تقضي بذلك، وإذا كان الأمر في الاُصول على هذا النحو فالفروع المنتهية بحسب التحليل إليها حكمها في القبول ذلك، وإن كان ربّما يقع إختلاف ما في مصاديقها من جهة الانطباق على ما سنشير إليه.

إذا عرفت ما ذكرنا ظهر لك وجه سقوط ما نقلنا من قولهم من أمر الأخلاق وهاك بيانه.

٣٨٤

أمّا قولهم: إنّ الحسن والقبح المطلقين غير موجودين، بل الموجود منهما النسبيّ من الحسن والقبح وهو متغيّر مختلف بإختلاف المناطق والأزمنه والاجتماعات، فهو مغالطة ناشئة من الخلط بين الإطلاق المفهوميّ بمعنى الكلّيّة والإطلاق الوجوديّ بمعنى إستمرار الوجود، فالحسن والقبح المطلقان الكلّيّان غير موجودين في الخارج لوصف الكلّيّة والإطلاق، لكنّهما ليسا هما الموجبين لما نقصده من النتيجة، وأمّا الحسن والقبح المطلقان المستمرّان بمعنى استمرارهما حكمين للاجتماع ما دام الاجتماع مستمرّاً باستمرار الطبيعة فهما كذلك، فإنّ غاية الاجتماع سعادة النوع، ولا يمكن موافقة جميع الأفعال الممكنة والمفروضة للاجتماع كيف ما فرض، فهناك أفعال موافقة ومخالفة دائماً فهناك حسن وقبح دائماً.

وعلى هذا فكيف يمكن أن يفرض اجتماع كيف ما فرض ولا يعتقد أهله أنّ من الواجب أن يعطي كلّ ذي حقّ حقّه أو أنّ جلب المنافع بقدر ما ينبغي واجب أو أنّ الدفاع عن مصالح الاجتماع بقدر ما ينبغي لازم أو أنّ العلم الّذي يتميّز به منافع الإنسان من غيرها فضيلة حسنة ؟ وهذه هي العدالة والعفّة، والشجاعة، والحكمة الّتي ذكرنا أنّ الاجتماع الإنسانيّ كيف ما فرض لا يحكم إلّا بحسنها وكونها فضائل إنسانيّة، وكذا كيف يتيسّر لإجتماع أن لا يحكم بوجوب الانقباض والانفعال عن التظاهر بالقبيح الشنيع، وهو الحياء من شعب العفّة أو لا يحكم بوجوب السخط وتغيّر النفس في هتك المقدّسات وهضم الحقوق، وهو الغيرة من شعب الشجاعة، أو لا يحكم بوجوب الاقتصار على ما للإنسان من الحقوق الاجتماعيّة، وهو القناعة أو لا يحكم بوجوب حفظ النفس في موقعها الاجتماعيّ من غير دحض الناس وتحقيرهم بالاستكبار والبغي بغير الحقّ، وهو التواضع ؟ وهكذا الأمر في كلّ واحد واحد من فروع الفضائل.

وأمّا ما يزعمونه من إختلاف الأنظار في الاجتماعات المختلفة في خصوص الفضائل وصيرورة الخلق الواحد فضيلة عند قوم رذيلة عند آخرين في أمثلة جزئيّة فليس من جهة إختلاف النظر في الحكم الاجتماعيّ بأن يعتقد قوم بوجوب اتّباع الفضيلة الحسنة وآخرون بعدم وجوبه بل من جهة الإختلاف في انطباق الحكم على المصداق وعدم انطباقه.

٣٨٥

مثل أنّ الاجتماعات الّتي كانت تديرها الحكومات المستبدّة كانت تري لعرش الملك الاختيار التامّ في أن يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وليس ذلك لسوء ظنّهم بالعدالة بل لاعتقادهم بأنّه من حقوق السلطنة والملك فلم يكن ذلك ظلماً من مقام السلطنة بل إيفاءً بحقوقه الحقّة بزعمهم.

ومثل أنّ العلم كان يعيّر به الملوك في بعض الاجتماعات، كما يحكى عن ملّة فرنسا في القرون الوسطى، ولم يكن ذلك لتحقيرهم فضيلة العلم، بل لزعمهم أنّ العلم بالسياسة وفنون إدارة الحكومة يضادّ المشاغل السلطانيّة.

ومثل أنّ عفّة النساء بمعنى حفظ البضع من غير الزّوج، وكذا الحياء من النساء وكذا الغيرة من رجالهنّ، وكذا عدّة من الفضائل كالقناعة والتواضع أخلاق لا يذعن بفضلها في بعض الاجتماعات، لكنّ ذلك منهم لأنّ اجتماعهم الخاصّ لا يعدّها مصاديق للعفّة والحياء والغيرة والقناعة والتواضع، لا لأنّ هذه الفضائل ليست فضائل عندهم. والدليل على ذلك وجود أصلها عندهم، فهم يمدحون عفّة الحاكم في حكمه والقاضي في قضائه، ويمدحون الاستحياء من مخالفة القوانين، ويمدحون الغيرة للدفاع عن الاستقلال والحضارة وعن جميع مقدّساتهم، ويمدحون القناعة بما عيّنه القانون من الحقوق لهم، ويمدحون التواضع لأئمّتهم وهداتهم في الاجتماع.

وأمّا قولهم: بدوران الأخلاق في حسنها مدار موافقتها لغاية المرام الاجتماعيّ واستنتاجهم ذلك من دوران حسنها مدار موافقة غاية الاجتماع ففيه مغالطة واضحة فإنّ المراد بالاجتماع الهيئة الحاصلة من عمل مجموع القوانين الّتي قرّرتها الطبيعة بين الأفراد المجتمعين ولا محالة تكون موصلة إلى سعادتهم لولا الإخلال بانتظامها وجريها، ولا محالة لها أحكام: من الحسن والقبح والفضيلة والرذيلة. والمراد بالمرام مجموع الفرضيّات الّتي وضعت لإيجاد اجتماع على هيئت جديدة بتحميلها على الأفراد المجتمعين، أعنى أنّ الاجتماع والمرام متغايران بالفعليّة والقوّة، والتحقّق وفرض التحقّق، فكيف يصير حكم أحد هما عين حكم الآخر، وكيف يكون الحسن والقبح، والفضيلة والرذيله الّتى عيّنها الاجتماع العامّ باقتضاء من الطبيعة الإنسانيّة

٣٨٦

متبدّلة إلى ما حكم به المرام الذى ليس إلّا فرضاً من فارض ؟

ولو قيل: أن لا حكم للاجتماع العامّ الطبيعيّ من نفسه، بل الحكم للمرام، وخاصّة إذا كانت فرضيّة متلائمة لسعادة الأفراد عاد الكلام السابق في الحسن والقبح، والفضيلة والرذيلة، وأنّها تنتهي بالآخرة إلى اقتضاء مستمرّ من الطبيعة.

على أنّ هيهنا محذوراً آخر وهو أنّ الحسن والقبح وسائر الأحكام الاجتماعيّة - وهى الّتى تعتمد عليها الحجّة الاجتماعيّة وتتألّف منها الاستدلالات - لو كانت تابعة للمرام، ومن الممكن بل الواقع تحقّق مرامات مختلفة متناقضة متباينة أدّى ذلك إلى إرتفاع الحجّة المشتركة المقبولة عند عامّة الاجتماعات، ولم يكن التقدّم والنجاح حينئذ إلّا للقدرة والتحكّم. وكيف يمكن أن يقال: إنّ الطبيعة الإنسانيّة ساقت أفرادها إلى حياة اجتماعيّة لا تفاهم بين أجزائها ولا حكم يجمعها إلّا حكم مبطل لنفس الاجتماع ؟ وهل هذا إلّا تناقض شنيع في حكم الطبيعة واقتضائها الوجودىّ ؟

( بحث روائي آخر)

في متفرّقات متعلّقة بما تقدّم

عن الباقرعليه‌السلام قال: أتى رجل رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) فقال: إنّى راغب نشيط في الجهاد. قال: فجاهد في سبيل الله فإنّك إن تقتل كنت حيّاً عند الله مرزوقاً وإن متّ فقد وقع أجرك على الله الحديث.

أقول: وقوله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): وإن متّ إلخ إشارة إلى قوله تعالى:( وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ ) النساء - ١٠٠، وفيه دلالة على أنّ الخروج إلى الجهاد مهاجرة إلى الله ورسوله.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام : في إسماعيل النبيّ الّذي سمّاه الله سبحانه صادق الوعد، قالعليه‌السلام إنّما سمّي صادق الوعد، لأنّه وعد رجلاً في مكان فانتظره في ذلك المكان سنة، فسمّاه الله عزّوجلّ صادق الوعد، ثمّ إنّ الرّجل أتاه بعد ذلك الوقت

٣٨٧

فقال له إسماعيل: ما زلت منتظراً لك الحديث.

أقول: وهذا أمر ربّما يحكم العقل العاديّ بكونه منحرفاً عن جادّة الاعتدال مع أنّ الله سبحانه جعله منقبة لهعليه‌السلام حتّى عظّم قدره ورفع ذكره بقوله:( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ) مريم - ٥٥، فليس ذلك إلّا أنّ الميزان الّذي ووزن به هذا العمل غير الميزان الّذي بيد العقل العاديّ، فللعقل العاديّ تربية بتدبيره ولله سبحانه تربية لأوليائه بتأييده، وكلمة الله هي العليا، ونظائر هذه القضيّة كثيرة مرويّة منقولة عن النبيّ والأئمّة والأولياء.

فإن قلت: كيف يمكن مخالفة الشرع مع العقل في ما للعقل إليه سبيل.

قلت: أمّا حكم العقل فيما له إليه سبيل ففي محلّه، لكنّه يحتاج إلى موضوع يقع عليه حكمه، وقد عرفت فيما تقدّم أنّ أمثال هذه العلوم في المسلك الثالث الّذي ذكرناه لا تبقى للعقل موضوعاً يحكم فيه وعليه، وهذا سبيل المعارف اللإلهيّة والظاهر أنّ إسماعيل النبيّعليه‌السلام كان أطلق القول بوعده بأن قال: أنتظرك ههنا حتّى تعود إلىّ ثمّ التزم على إطلاق قوله صوناً لنفسه عن نقض العهد والكذب في الوعد وحفظاً لما ألقى الله في روعه وأجراه على لسانه. وقد روي نظيره عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم): إنّه كان عند المسجد الحرام فوعده بعض أصحابه بالرجوع إليه ووعده النبيّ بانتظاره حتّى يرجع فذهب في شأنه ولم يرجع، فانتظره النبيّ ثلاثة أيّام في مكانه الّذي وعده حتّى مرّ به الرجل بعد الثلاثة، وهو جالس ينتظر والرجل قد نسي الوعد، الحديث.

وفي الخصائص للسيّد الرضيّ، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام قال: - وقد سمع رجلاً يقول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون - يا هذا إنّ قولنا: إنّا لله إقرار منّا بالملك، وإنّا إليه راجعون إقرار منّا بالهلاك.

أقول: وقد اتّضح معناه بما تقدّم ورواه في الكافي مفصّلاً.

وفي الكافي: عن إسحاق بن عمّار وعبدالله بن سنان، عن الصادقعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال الله عزّوجلّ: إنّي جعلت الدنيا بين عبادي قرضاً فمن أقرضني

٣٨٨

فيها قرضاً أعطيته بكلّ واحدة عشراً إلى سبعمأة ضعف، ومن لم يقرضني قرضاً وأخذت منه شيئاً قسراً أعطيته ثلاث خصال لو أعطيت واحدة منهنّ ملائكتي لرضوا بها عنّي، ثمّ قال أبوعبدالله: قول الله: الّذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربّهم، فهذه واحدة من ثلاث خصال، ورحمة اثنتان، وأولئك هم المهتدون ثلاث، ثمّ قال أبوعبداللهعليه‌السلام هذا لمن أخذ الله منه شيئاً قسراً.

أقول: والرواية مرويّة بطرق اُخرى متقاربة.

وفي المعاني عن الصادقعليه‌السلام : الصلاة من الله رحمة، ومن الملائكة التزكية، ومن الناس دعاء.

أقول: وفي معناه عدّة روايات اُخر، وبين هذه الرواية وما تقدّمها تناف ظاهراً حيث أنّ الرواية السابقة تعدّ الصلاة غير الرحمة، ويساعد عليه ظاهر قوله عليهم صلوات من ربّهم ورحمة، وهذه الرّواية تعدّها رحمة ويرتفع التنافى بالرجوع إلى ما تقدّم من البيان.

٣٨٩

( سورة البقرة الآية ١٥٨)

إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ  فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا  وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ( ١٥٨ )

( بيان)

الصفا والمروة موضعان بمكّة يأتي الحجّاج بينهما بعمل السعي، وهما جبلان مسافة بينهما سبعمأة وستّون ذراعاً ونصف ذراع على ما قيل، وأصل الصفا في اللّغة الحجر الصلب الأملس، وأصل المروة الحجر الصّلب، والشعائر جمع شعيرة، وهي العلامة، ومنه المشعر، ومنه قولنا: أشعر الهدى، أي أعلمه، والحجّ هو القصد بعد القصد، أي القصد المكرّر وهو في اصطلاح الشرع العمل المعهود بين المسلمين، والاعتمار الزيارة وأصله العمارة لأنّ الديار تعمر بالزيارة، وهو في اصطلاح الشرع زيارة، البيت بالطريق المعهود، والجناح الميل عن الحقّ والعدل، ويراد به الإثم، فيؤل نفي الجناح إلى التجويز، والتطوّف من الطواف، وهو الدوران حول الشئ، وهو السير الّذي ينتهي آخره إلى أوّله، ومنه يعلم أن ليس من اللّازم كونه حول شئ وإنّما ذلك من مصاديقه الظاهرة وعلى هذا المعنى أطلق التطوّف في الآية فإنّ المراد به السعي وهو قطع ما بين الصفا والمروة من المسافة سبع مرّات متوالية، والتطوّع من الطوع بمعنى الطاعه، وقيل: إنّ التطوّع يفارق الإطاعة في أنّه يستعمل في المندوب خاصّة، بخلاف الإطاعة ولعلّ ذلك - لو صحّ هذا القول - بعناية أنّ العمل الواجب لكونه إلزاميّاً كأنّه ليس بمأتيّ به طوعاً، بخلاف المأتيّ من المندوب فإنّه على الطوع من غير شائبة، وهذا تلطّف عنائيّ وإلّا فأصل الطوع يقابل الكره ولا ينافي الأمر الإلزاميّ. قال تعالى:( قَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ) فصّلت - ١١، وأصل باب التفعّل الأخذ لنفسه، كقولنا: تميّز أي أخذ، يميّز وتعلّم الشئ أي أخذ يعلمه، وتطوّع خيراً أي أخذ يأتي بالخير بطوعه، فلا دليل من جهة اللّغة على اختصاص

٣٩٠

التطوّع بالامتثال الندبيّ إلّا أنّ توجبه العناية العرفيّة المذكورة.

فقوله تعالى: ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ ) إلى قوله: يطوّف بهما يشير إلى كون المكانين معلّمين بعلامة الله سبحانه، يدلّان بذلك عليه، ويذكّر أنّه تعالى واختصاصهما بكونهما من الشعائر دون بقيّة الأشياء جميعاً يدلّ على أنّ المراد بالشعائر ليست الشعائر التكوينيّة بل هما شعيرتان بجعله تعالى إيّاهما معبدين يعبد فيهما، فهما يذكّران الله سبحانه، فكونهما شعيرتين يدلّ على أنّه تعالى قد شرع فيهما عبادة متعلّقة بهما، وتفريع قوله:( فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) إنّما هو للإيذان بأصل تشريع السعي بين الصفا والمروة، لا لإفادة الندب، ولو كان المراد إفادة الندب كان الأنسب بسياق الكلام أن يمدح التطوّف لا أن ينفي ذمّه، فإنّ حاصل المعنى أنّه لما كان الصفا والمروة معبدين ومنسكين من معابد الله فلا يضرّكم أن تعبدوه فيهما، وهذا لسان التشريع، ولو كان المراد إفادة الندب كان الأنسب أن يفاد أنّ الصفا والمروة، لما كانا من شعائر الله فإنّ الله يحبّ السعي بينهما - وهو ظاهر - والتعبير بأمثال هذا القول الّذي لا يفيد وحده الإلزام في مقام التشريع شائع في القرآن، وكقوله تعالى في الجهاد:( ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ ) الصفّ - ١١، وفي الصوم( وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ) البقرة - ١٨٤، وفي القصر( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ ) النساء - ١٠١.

قوله تعالى: ( وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ) ، إن كان معطوفاً على مدخول فاء التفريع في قوله تعالى:( فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ ) ، كان كالتعليل لتشريع التطوّف بمعنى آخر أعمّ من العلّة الخاصّة الّتي تبيّن بقوله: إنّ الصفا والمروة، وكان المراد بالتطوّع مطلق الإطاعة لا الإطاعة المندوبة، وإن كان استينافاً بالعطف إلى أوّل الآية كان مسوقاً لإفادة محبوبيّة التطوّف في نفسه إن كان المراد بتطوّع الخير هو التطوّف أو مسوقاً لإفادة محبوبيّة الحجّ والعمرة إن كان هما المراد بتطوّع الخير هذا.

والشاكر والعليم اسمان من أسماء الله الحسنى، والشكر هو مقابلة من اُحسن إليه إحسان المحسن بإظهاره لساناً أو عملاً كمن ينعم إليه المنعم بالمال فيجازيه بالثناء

٣٩١

الجميل الدالّ على نعمته أو باستعمال المال في ما يرتضيه، ويكشف عن إنعامه، والله سبحانه وإن كان محسناً قديم الإحسان ومنه كلّ الإحسان لا يد لأحد عنده حتّى يستوجبه الشكر إلّا أنّه جلّ ثناؤه عدّ الأعمال الصالحة الّتي هي في الحقيقة إحسانه إلى عباده إحساناً من العبد إليه، فجازاه بالشكر والإحسان وهو إحسان على إحسان. قال تعالى:( هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ) الرحمن - ٦٠، وقال تعالى:( إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا ) الدهر - ٢٢، فإطلاق الشاكر عليه تعالى على حقيقة معنى الكلمة من غير مجاز.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ: عن بعض أصحابنا عن الصادقعليه‌السلام : سألته: عن السعي بين صفا والمروة فريضة هي أم سنّة ؟ قال: فريضة، قلت: أليس الله يقول: فلا جناح عليه أن يطوّف بهما ؟ قال كان ذلك في عمرة القضاء، وذلك أنّ رسول الله كان شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام فتشاغل رجل من أصحابه حتّى اُعيدت الأصنام. قال: فأنزل الله، إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوّف بهما، أي والأصنام عليها.

أقول: وعن الكافي ما يقرب منه.

وفي الكافي أيضاً عن الصادقعليه‌السلام : في حديث حجّ النبيّعليه‌السلام : بعد ما طاف بالبيت وصلّى ركعتيه قال:صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فأبدء بما بدء الله عزّوجلّ، وإنّ المسلمين كانوا يظنّون أنّ السعي بين الصفا والمروة شئٌ صنعه المشركون فأنزل الله إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوّف بهما.

أقول: ولا تنافي بين الروايتين في شأن النزول، وهو ظاهر، وقولهعليه‌السلام في الرواية فأبدء بما بدء الله ملاك التشريع، وقد مضى في حديث هاجر وسعيها سبع مرّات بين الصفا والمروة أنّ السنّة جرت بذلك.

٣٩٢

وفي الدرّ المنثور: عن عامر الشّعبي قال: كان وثن بالصفا يدعى إساف، ووثن بالمروة يدعى نائلة فكان أهل الجاهليّة إذا طافوا بالبيت يسعون بينهما ويمسحون الوثنين فلمّا قدم رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قالوا: يا رسول الله إنّ الصفا والمروة إنّما كان يطاف بهما من أجل الوثنين، وليس الطواف بهما من الشعائر، فأنزل الله: إنّ الصفا والمروة الآية فذكر الصفا من أجل الوثن الّذي كان عليه، وأثبت المروة من جهة الصنم الّذي كان عليه موثباً.

أقول: وقد روى الفريقان في المعاني السابقة روايات كثيرة.

ومقتضى جميع هذه الروايات أنّ الآية نزلت في تشريع السعي في سنة حجّ فيها المسلمون، وسورة البقرة أوّل سورة نزلت بالمدينة، ومن هنا يستنتج أنّ الآية غير متّحدة السياق مع ما قبلها من آيات القبلة فإنّها نزلت في السنة الثانية من الهجرة كما تقدّم، ومع الآيات الّتى في مفتتح السورة، فإنّها نزلت في السنة الاُولى من الهجرة فللآيات سياقات متعدّدة كثيرة، لا سياق واحد.

٣٩٣

( سورة البقرة الآيات ١٥٩ - ١٦٢)

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ  أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ( ١٥٩ ) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ  وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١٦٠ ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( ١٦١ ) خَالِدِينَ فِيهَا  لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ( ١٦٢ )

( بيان)

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ ) ، الظاهر - والله أعلم - أنّ المراد بالهدى ما تضمّنه الدين الإلهيّ من المعارف والأحكام الّذي يهدي تابعيه إلى السعادة، وبالبيّنات الآيات والحجج الّتي هي بيّنات وأدلّة وشواهد على الحقّ الّذي هو الهدى، فالبيّنات في كلامه تعالى وصف خاصّ بالآيات النازلة، وعلى هذا يكون المراد بالكتمان - وهو الإخفاء - أعمّ من كتمان أصل الآية، وعدم إظهاره للناس، أو كتمان دلالته بالتأويل أو صرف الدلالة بالتوجيه، كما كانت اليهود تصنع ببشارات النبوّة ذلك فما يجهله الناس لا يظهرونه لهم، وما يعلم به الناس يؤوّلونه بصرفه عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ ) ، أفاد أنّ كتمانهم إنّما هو بعد البيان والتبيّن للناس، لا لهم فقط، وذلك أنّ التبيّن لكلّ شخص شخص من أشخاص الناس أمر لا يحتمله النظام الموجود المعهود في هذا العالم، لا في الوحي فقط، بل في كلّ إعلام عموميّ وتبيين مطلق، بل إنّما يكون باتّصال الخبر إلى بعض الناس من غير واسطة وإلى بعض آخرين بواسطتهم، بتبليغ الحاضر الغائب والعالم الجاهل، فالعالم يعدّ من وسائط البلوغ وأدواته، كاللسان والكلام: فإذا بيّن الخبر للعالم المأخوذ عليه الميثاق

٣٩٤

بعلمه مع غيره من المشافهين فقد بين الناس، فكتمان العالم علمه هذا كتمان العلم عن الناس بعد البيان لهم وهو السبب الوحيد الّذي عدّه الله سبحانه سبباً لإختلاف الناس في الدين وتفرّقهم في سبل الهداية والضلالة، وإلّا فالدين فطريّ تقبله الفطرة وتخضع له القوّة المميّزة بعد ما بيّن لها، قال تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) الروم - ٣٠، فالدّين فطريّ على الخلقة لا يدفعه الفطرة أبداً لو ظهر لها ظهوراً ما بالصفاء من القلب، كما في الأنبياء، أو ببيان قوليّ، ولا محالة ينتهي هذا الثّاني إلى ذلك الأوّل فافهم ذلك.

ولذلك جمع في الآية بين كون الدّين فطريّاً على الخلقة وبين عدم العلم به فقال: فطرة الله الّتي فطر الناس عليها، وقال: لكنّ أكثر الناس لا يعلمون، وقال تعالى:( وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) البقرة - ٢١٣، فأفاد أنّ الإختلاف فيما يشتمل عليه الكتاب إنّما هو ناش عن بغي العلماء الحاملين له، فالإختلافات الدينيّة والانحراف عن جادّة الصواب معلول بغى العلماء بالإخفاء والتأويل والتحريف، وظلمهم، حتّى أن الله عرّف الظلم بذلك يوم القيامة كما قال:( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ) الأعراف - ٤٤، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

فقد تبيّن أنّ الآية مبتنية على الآية أعني: أنّ قوله تعالى: إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب الآية، مبتنية على قوله تعالى: كان الناس أمّةً واحدة فبعث الله النبيّين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلّا الّذين أوتوه من بعد ما جائتهم البينات بغياً بينهم الآية، ومشيرة إلى جزاء هذا البغي بذيلها وهو قوله: أولئك يلعنهم الله إلخ.

قوله تعالى: ( أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) ، بيان لجزاء بغي الكاتمين لما أنزله الله من الآيات والهدى، وهو اللّعن من الله، واللّعن من كلّ لاعن، وقد كرّر اللّعن

٣٩٥

لأنّ اللّعن مختلف فإنّه من الله التبعيد من الرحمة والسعادة ومن اللاعنين سؤاله من الله، وقد أطلق اللّعن منه ومن اللاعنين وأطلق اللاعنين، وهو يدلّ على توجيه كلّ اللعن من كلّ لاعن إليهم والاعتبار يساعد عليه فإنّ الّذي يقصده لاعن بلعنه هو البعد عن السعادة، ولا سعادة بحسب الحقيقة، إلّا السعادة الحقيقيّة الدينيّة وهذه السعادة لما كانت مبيّنة من جانب الله، مقبولة عند الفطرة، فلا يحرم عنها محروم إلّا بالردّ والجحود، وكلّ هذا الحرمان إنّما هو لمن علم بها وجحدها عن علم دون من لا يعلم بها ولم تبيّن له، وقد أخذ الميثاق على العلماء أن يبّثوا علمهم وينشروا ما عندهم من الآيات والهدى، فإذا كتموه وكفّوا عن بثّه فقد جحدوه فأولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، ويشهد لما ذكرنا الآية الآتية: أنّ الّذين كفروا وماتوا وهم كفّار - إلى قوله - أجمعين الآية فإنّ الظاهر أن قوله: أنّ للتعليل أو لتأكيد مضمون هذه الآية، بتكرار ما هو في مضمونها ومعناها وهو قوله: الّذين كفروا وماتوا وهم كفّار.

قوله تعالى: ( إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا ) الآية، استثناء من الآية السابقة، والمراد بتقييد توبتهم بالتبيّن أن يتبيّن أمرهم ويتظاهروا بالتوبة، ولازم ذلك أن يبيّنوا ما كتموه للناس وأنّهم كانوا كاتمين وإلّا فلم يتوبوا بعد لأنّهم كاتمون بعد بكتمان أنّهم كانوا كاتمين.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ) ، كناية عن إصرارهم على كفرهم وعنادهم وتعنّتهم في قبول الحقّ فإنّ من لا يدين بدين الحقّ لا لعناد واستكبار بل لعدم تبيّنه له ليس بكافر بحسب الحقيقة، بل مستضعف، أمره إلى الله، ويشهد بذلك تقييد كفر الكافرين في غالب الآيات والتكذيب وخاصّة في آيات هبوط آدم المشتملة على أوّل تشريع شرّع لنوع الإنسان، قال تعالى:( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى - إلى قوله -وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) البقرة - ٣٩، فالمراد بالّذين كفروا في الآية هم المكذّبون المعاندون - وهم الكاتمون لما أنزل الله - وجازاهم الله تعالى بقوله: أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وهذا حكمٌ من الله سبحانه أن يلحق بهم كلّ لعن لعن به ملك

٣٩٦

من الملائكة أو أحد من الناس جميعاً من غير استثناء، فهؤلاء سبيلهم سبيل الشيطان، إذ قال الله سبحانه فيه:( وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ ) الحجر - ٣٥، فجعل جميع اللّعن عليه فهؤلاء - وهم العلماء الكاتمون لعلمهم - شركاء الشيطان في اللّعن العامّ المطلق ونظراؤه فيه، فما أشدّ لحن هذه الآية وأعظم أمرها ! وسيجئ في الكلام على قوله تعالى:( لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ) الانفال - ٣٧، ما يتعلّق بهذا المقام إنشاء الله العزيز.

قوله تعالى: ( خَالِدِينَ فِيهَا ) ، أي في اللّعنة، وقوله: لا يخفّف عنهم العذاب ولا هم ينظرون، في تبديل السياق بوضع العذاب موضع اللّعنة دلالة على أنّ اللعنة تتبدّل عليهم عذاباً.

واعلم أنّ في هذه الآيات موارد من الالتفات، فقد التفت في الآية الاُولى من التكلّم مع الغير إلى الغيبة في قوله: أولئك يلعنهم الله، لأنّ المقام مقام تشديد السخط، والسخط يشتدّ إذا عظم اسم من ينسب إليه أو وصفه - ولا أعظم من الله سبحانه - فنسب إليه اللّعن ليبلغ في الشدّة كلّ مبلغ، ثمّ التفت في الآية الثانية من الغيبة إلى التكلّم وحده بقوله: فأولئك أتوب عليهم وأنا التوّاب الرحيم، للدلالة على كمال الرحمة والرأفة، بإلقاء كلّ نعت وطرح كلّ صفة وتصدّى الأمر بنفسه تعالى وتقدّس، فليست الرأفة والحنان المستفادة من هذه الجملة كالّتي يستفاد من قولنا مثلاً: فأولئك يتوب الله عليهم أو يتوب ربّهم عليهم، ثمّ التفت في الآية الثالثة من التكلّم وحده إلى الغيبة بقوله: أولئك عليهم لعنة الله، والوجه فيه نظير ما ذكرناه في اللتفات الواقع في الآية الاُولى.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ عن بعض أصحابنا عن الصادقعليه‌السلام قال: قلت له: أخبرني عن قول الله عزّوجلّ: إنّ الّذين يكتمون الآية، قال: نحن نعني بها - والله المستعان - إنّ الواحد منّا إذا صارت إليه لم يكن له أو لم يسعه إلّا أن يبيّن للناس من يكون بعده.

وعن الباقرعليه‌السلام : في الآية، قال: يعني بذلك نحن، والله المستعان.

وعن محمّد بن مسلم قالعليه‌السلام : هم أهل الكتاب.

٣٩٧

أقول: كلّ ذلك من قبيل الجري والانطباق، وإلّا فالآية مطلقة.

وفي بعض الروايات عن عليّعليه‌السلام : تفسيره بالعلماء إذا فسدوا.

وفي المجمع عن النبيّ في الآية، قال: من سأل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار، وهو قوله: أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون.

أقول: والخبران يؤيّدان ما قدّمناه.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى: ويلعنهم اللاعنون، قال: نحن هم، وقد قالوا: هوامّ الأرض.

أقول: هو إشارة إلى ما يفيده قوله تعالى:( وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) هود - ١٨، فإنّهم الأشهاد المأذونون في الكلام يوم القيامة، والقائلون صواباً. وقوله: وقالوا: هوامّ الأرض، هو منقول عن المفسّرين كمجاهد وعكرمة وغيرهما، وربّما نسب في بعض الروايات إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام : إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدي، في عليّ.

أقول: وهو من قبيل الجري والانطباق.

٣٩٨

( سورة البقرة الآيات ١٦٣ - ١٦٧)

وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ  لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ( ١٦٣ ) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( ١٦٤ ) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ  وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ  وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ( ١٦٥ ) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ( ١٦٦ ) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا  كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ  وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ( ١٦٧ )

( بيان)

الآيات متّحدة متّسقة ذات نظم واحد - وهي تذكر التوحيد - وتقيم عليه البرهان وتذكر الشرك وما ينتهي إليه أمره.

قوله تعالى: ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد ) ، قد مرّ معنى الإله في الكلام على البسملة من سورة الحمد في أوّل الكتاب، وأمّا الوحدة فمفهومها من المفاهيم البديهيّة الّتي لا نحتاج في تصوّرها إلى معرّف يدلّنا عليها، والشئ ربّما يتّصف بالوحدة من حيث وصفٍ من أوصافه، كرجل واحد، وعالم واحد، وشاعر واحد، فيدلّ به على أنّ الصفة الّتي فيه لا تقبل الشركة ولا تعرّضها الكثرة، فإنّ الرجوليّة الّتي في زيد مثلاً - وهو رجل واحد - ليست منقسمة بينه وبين غيره، بخلاف ما في زيد وعمرو مثلاً - وهما رجلان - فإنّه

٣٩٩

منقسم بين اثنين كثير بهما، فزيد من جهة هذه الصفة - وهي الرجوليّة - واحد لا يقبل الكثرة، وإن كان من جهة هذه الصفة وغيرها من الصفات كعلمه، وقدرته، وحياته، ونحوها ليس بواحد بل كثير حقيقة. والله سبحانه واحد، من جهة أنّ الصفة الّتي لا يشاركه فيها غيره، كالاُلوهيّة فهو واحد في الاُلوهيّة، لا يشاركه فيها غيره تعالى، والعلم و القدرة والحياة، فله علم لا كالعلوم وقدرة وحياة لا كقدرة غيره وحياته، وواحد من جهة أنّ الصفات الّتي له لا تتكثّر ولا تتعدّد إلّا مفهوماً فقط، فعلمه وقدرته وحياته جميعها شئٌ واحد هو ذاته، ليس شئ منها غير الآخر بل هو تعالى يعلم بقدرته ويقدر بحياته وحيّ بعلمه، لا كمثل غيره في تعدّد الصفات عيناً ومفهوماً، وربّما يتّصف الشئٌ بالوحدة من جهة ذاته، وهو عدم التكثّر والتجزّي في الذات بذاته، فلا تتجزّى إلى جزء وجزء، وإلى ذات واسم وهكذا. وهذه الوحدة هي المسمّاة بأحديّة الذات، ويدلّ على هذا المعنى بلفظ أحد، الّذي لا يقع في الكلام من غير تقييد بالإضافة إلّا إذا وقع في حيّز النفي أو النهي أو ما في معناهما كقولنا ما جائني أحد، فيرتفع بذلك أصل الذات سواء كان واحداً أو كثيراً، لأنّ الوحدة مأخوذه في أصل الذات لا في وصف من أوصافه بخلاف قولنا: ما جائني واحد فإنّ هذا القول لا يكذب بمجئ اثنين أو أزيد لأنّ الوحدة مأخوذة في صفة الجائى وهو الرجوليّة في رجل واحد مثلاً فاحتفظ بهذا الاجمال حتّى نشرحه تمام الشرح في قوله تعالى:( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) الإخلاص - ١، إنشاء الله تعالى.

وبالجملة فقوله: وإلهكم إله واحد، تفيد بجملته اختصاص الاُلوهيّة بالله عزّاسمه، ووحدته فيها وحدة تليق بساحة قدسه تبارك وتعالى، وذلك أنّ لفظ الواحد بحسب المتفاهم عند هؤلاء المخاطبين لا يدلّ على أزيد من مفهوم الوحدة العامّة الّتي تقبل الانطباق على أنواع مختلفة لا يليق بالله سبحانه إلّا بعضها فهناك وحدة عدديّة ووحدة نوعيّة ووحدة جنسيّة وغير ذلك، فيذهب وهم كلّ من المخاطبين إلى ما يعتقده ويراه من المعنى. ولو كان قيل: والله إله واحد، لم يكن فيه توحيد لأنّ أرباب الشرك يرون أنّه تعالى إله واحد، كما أنّ كلّ واحد من آلهتهم إله واحد، ولو كان قيل:

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459