الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 172995 / تحميل: 9109
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

( سورة البقرة وهي مائتان وستّ وثمانون آية)

( سورة البقرة الآيات ١ - ٥)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم( ١) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ  فِيهِ  هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ( ٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ( ٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ( ٤) أُولَئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ  وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( ٥)

( بيان)

لما كانت السورة نازلةً نجوما لم يجمعها غرض واحد إلّا أنّ معظمها تنبئ عن غايةٍ واحدةٍ محصّلةٍ وهو بيان أنّ من حقّ عبادة الله سبحانه أن يؤمن عبده بكل ما أنزله بلسان رسله من غير تفرّقة بين وحيٍ ووحيٍ ولا بين رسول ورسول ولا غير ذلك، ثمّ تقريع الكافرين والمنافقين وملامة أهل الكتاب بما ابتدعوه من التفرّقة في دين الله والتفريق بين رسله، ثمّ التخلّص إلى بيان عدّة من الأحكام كتحويل القبلة وأحكام الحجّ والارث والصوم وغير ذلك.

قوله تعالى : ( ألم ) ، سيأتي بعض ما يتعلّق من الكلام بالحروف المقطّعة الّتي في اوائل السور، في أوّل سورة الشورى إن شاء الله، وكذلك الكلام في معنى هداية القرآن ومعنى كونه كتاباً.

وقوله تعالى: ( هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ) الخ، المتّقون هم المؤمنون، وليست التقوى من الاوصاف الخاصّة لطبقة من طبقاتهم أعني: لمرتبة من مراتب الإيمان حتّى تكون مقاماً من مقاماته نظير الإحسان والإخبات والخلوص، بل هي صفة مجامعةٌ لجميع مراتب الإيمان إذا تلبّس الإيمان بلباس التحقّق، والدليل على ذلك أنّه تعالى لا يخصّ بتوصيفه طائفةً خاصّة من طوائف المؤمنين على اختلاف طبقاتهم ودرجاتهم والّذي أخذه تعالى من الأوصاف المعرّفة للتقوى في هذه الآيات التسع عشرة الّتي

٤١

يبيّن فيها حال المؤمنين والكفّار والمنافقين، خمس صفات، وهي الإيمان بالغيب، واقامة الصلاة، والانفاق ممّا رزق الله سبحانه، والإيمان بما انزله على أنبيائه، والإيقان بالآخرة، وقد وصفهم بأنّهم على هدى من ربّهم فدلّ ذلك على ان تلبسهم بهذه الصفات الكريمة بسبب تلبّسهم بلباس الهداية من الله سبحانه، فهم انّما صاروا متّقين اُولي هذه الصفات بهداية منه تعالى، ثمّ وصف الكتاب بأنّه هدى لهؤلاء المتّقين بقوله تعالى:( ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) فعلمنا بذلك: أنّ الهداية غير الهداية، وأنّ هؤلاء وهم متّقون محفوفون بهدايتين، هداية اولى بها صاروا متّقين، وهداية ثانية اكرمهم الله سبحانه بها بعد التقوى وبذلك صحّت المقابلة بين المتّقين وبين الكفّار والمنافقين، فإنّه سبحانه يجعلهم في وصفهم بين ضلالين وعمائين، ضلال أوّل هو الموجب لاوصافهم الخبيثة من الكفر والنفاق، وضلال ثان يتأكّد به ضلالهم الأوّل، ويتّصفون به بعد تحقق الكفر والنفاق كما يقوله تعالى في حق الكفّار:( خَتَمَ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) البقرة - ٧، فنسب الختم إلى نفسه تعالى والغشاوة إلى أنفسهم، وكما يقوله في حق المنافقين:( فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا ) البقرة - ١٠ فنسب المرض الأوّل إليهم والمرض الثاني إلى نفسه على حدّ ما يستفاد من قوله تعالى:( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ) البقرة - ٢٦، وقوله تعالى:( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ) الصف - ٥.

وبالجملة المتّقون واقعون بين هدايتين، كما أنّ الكفّار والمنافقين واقعون بين ضلالين.

ثمّ إنّ الهداية الثانية لما كانت بالقرآن فالهداية الاُولى قبل القرآن وبسبب سلامة الفطرة، فإنّ الفطرة إذا سلمت لم تنفكّ من أن تتنبّه شاهدة لفقرها وحاجتها إلى امر خارج عنها، وكذا احتياج كلّ ما سواها ممّا يقع عليه حسّ أو وهم أو عقل إلى امر خارج يقف دونه سلسلة الحوائج، فهي مؤمنة مذعنة بوجود موجود غائب عن الحسّ منه يبدء الجميع وإليه ينتهي ويعود، وأنّه كما لم يهمل دقيقة من دقائق ما يحتاج إليه الخلقة كذلك لا يهمل هداية الناس إلى ما ينجيهم من مهلكات الاعمال والاخلاق، وهذا هو

٤٢

الإذعان بالتوحيد والنبوّة والمعاد وهي ُصول الدين، ويلزم ذلك استعمال الخضوع له سبحانه في ربوبيّتة، واستعمال ما في وسع الإنسان من مال وجاه وعلم وفضيلة لإحياء هذا الإمر ونشره، وهذان هما الصلاة والإنفاق.

ومن هنا يعلم: إنّ الّذي أخذه سبحانه من إوصافهم هو الّذي يقضي به الفطرة إذا سلمت وإنّه سبحانه وعدهم إنّه سيفيض عليهم إمرً سمّاه هداية، فهذه الاعمال الزاكية منهم متوسّطة بين هدايتين كما عرفت، هداية سابقة وهداية لاحقة، وبين الهدايتين يقع صدق الاعتقاد وصلاح العمل، ومن الدليل على أنّ هذه الهداية الثانية من الله سبحانه فرع الُولى، آيات كثيرة كقوله تعالى:( يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ) ابراهيم - ٢٧. وقوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ) الحديد - ٢٨. وقوله تعالى:( إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - ٧. وقوله تعالى:( وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الصف - ٧. وقوله تعالى:( وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) الصفّ - ٥. إلى غير ذلك من الآيات.

والإمر في ضلال الكفّار والمنافقين كما في المتّقين على ما سيأتي إنشاء الله.

وفي الآيات إشارة إلى حياة ُخرى للانسان كامنة مستبطنة تحت هذه الحيإة الدنيويّة، وهي الحياة الّتي بها يعيش الإنسان في هذه الدار و بعد الموت وحين البعث، قال تعالى:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) الانعام - ١٢٣ وسيأتي الكلام فيه إنشاء الله.

وقوله سبحانه : يؤمنون الإيمان، تمكّن الاعتقاد في القلب ماخوذ من الإمن كأنّ المؤمن يعطي لما امن به الإمن من الريب والشكّ وهو آفة الاعتقاد، والإيمان كما مرّ معنى ذو مراتب، إذ الإذعان ربّما يتعلّق بالشئ نفسه فيترتّب عليه إثره فقط، وربّما يشتدّ بعض الاشتداد فيتعلّق ببعض لوازمه، وربّما يتعلّق بجميع لوازمه فيستنتج منه إنّ للمؤمنين طبقات على حسب طبقات الإيمان.

وقوله سبحانه : ( بِالْغَيْبِ ) ، الغيب خلاف الشهادة وينطبق على ما لا يقع عليه

٤٣

الحسّ، وهو الله سبحانه وآياته الكبرى الغائبة عن حواسّنا، ومنها الوحي هو الّذي اشير إليه بقوله:( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ) فالمراد بالإيمان بالغيب في مقابل الإيمان بالوحي والإيقان بالآخرة، هو الإيمان بالله تعالى ليتمّ بذلك الإيمان بالاصول الثلاثة للدين، والقرآن يؤكّد القول على عدم القصر على الحسّ فقط ويحرّص على اتّباع سليم العقل وخالص اللبّ.

وقوله سبحانه : ( وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) ، العدول في خصوص الاذعان بالاخرة عن الإيمان إلى الإيقان، كأنّه للإشارة إلى أنّ التقوى لا تتمّ إلّا مع اليقين بالاخرة الّذي لا يجامع نسيانها، دون الإيمان المجرّد، فإنّّ الإنسان ربّما يؤمن بشئ ويذهل عن بعض لوازمه فيأتي بما ينافيه، لكنّه إذا كان على علم وذكر من يوم يحاسب فيه على الخطير واليسير من اعماله لا يقتحم معه الموبقات ولا يحوم حوم محارم الله سبحانه البتّة قال تعالى:( وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) ص - ٢٦. فبيّن تعالى: أنّ الضلال عن سبيل الله إنّما هو بنسيان يوم الحساب، فذكره واليقين به ينتج التقوى.

وقوله تعالى : ( أُولَئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ) ، الهداية كلّها من الله سبحانه، لا ينسب إلى غيره البتّة الّا على نحو من المجاز كما سيأتي إن شاء الله، ولمّا وصفهم الله سبحانه بالهداية وقد قال في نعتها:( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره ) : لانعام - ١٢٥، وشرح الصدر سعته وهذا الشرح، يدفع عنه كلّ ضيق وشحّ، وقد قال تعالى:( وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) الحشر - ٩، عقّب سبحانه ههنا أيضاً قوله: اُولئك على هدىً من ربّهم، بقوله: واُولئك هم المفلحون الآية.

( بحث روائي)

في المعاني عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى: الّذين يؤمنون بالغيب، قال: من آمن بقيام القائمعليه‌السلام أنّه حقّ.

اقول: وهذا المعنى مروّي في غير هذه الرّواية وهو من الجرى.

٤٤

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) قال: وممّا علّمنا هم يبثّون.

وفي المعاني عنهعليه‌السلام : في الآية: وممّا علّمناهم يبثّون، وما علّمناهم من القرآن يتلون.

اقول: والرّوايتان مبنيّتان على حمل الإنفاق على الاعمّ من إنفاق المال كما ذكرناه.

( بحث فلسفي)

هل يجوز التعويل على غير الإدراكات الحسّيّة من المعاني العقليّة ؟ هذه المسألة من معارك الآراء بين المتأخرين من الغربيّين، وإن كان المعظم من القدماو حكماء الاسلام على جواز التعويل على الحسّ والعقل معا، بل ذكروا أنّ البرهان العلميّ لا يشمل المحسوس من حيث إنّه محسوس، لكنّ الغربيّين مع ذلك اختلفوا في ذلك، والمعظم منهم وخاصّة من علماء الطبيعة على عدم الاعتماد على غير الحسّ، وقد احتجّوا على ذلك بأنّ العقليّات المحضة يكثر وقوع الخطأ والغلط فيها مع عدم وجود ما يميّز به الصواب من الخطأ وهو الحسّ والتجربة المماسّان للجزئيّات بخلاف الإدراكات الحسّيّة فإنّا إذا أدركنا شيئاً بواحد من الحواسّ اتبعنا ذلك بالتجربة بتكرار الأمثال، ولا نزال نكرّر حتّى نستثبت الخاصّة المطلوبة في الخارج ثمّ لا يقع فيه شكّ بعد ذلك، والحجّة باطلة مدخولة.

أوّلاً: بأنّ جميع المقدّمات المأخوذة فيها عقليّة غير حسّيّة فهي حجّة على بطلان الاعتماد على المقدّمات العقليّة بمقدّمات عقليّة فيلزم من صحة الحجّة فسادها.

وثانياً: بأنّ الغلط في الحواسّ لا يقصر عدداً من الخطأ والغلط في العقليّات، كما يرشد إليه الأبحاث الّتي أوردوها في المبصرات وسائر المحسوسات، فلو كان مجرّد وقوع الخطأ في باب موجباً لسدّه وسقوط الاعتماد عليه لكان سدّ باب الحسّ أوجب وألزم.

وثالثاً: أنّ التميّز بين الخطأ والصواب ممّا لا بدّ منه في جميع المدركات غير أنّ التجربة وهو تكرّر الحسّ ليست آلة لذلك التميّز بل القضيّة التجربيّة تصير إحدى

٤٥

المقدّمات من قياس يحتجّ به على المطلوب، فإنّا إذا اُدركنا بالحسّ خاصّة من الخواصّ ثمّ اتبعناه بالتجربة بتكرار الأمثال تحصل لنا في الحقيقة قياس على هذا الشكل: إنّ هذه الخاصّة دائميّ الوجود أو أكثريّ الوجود لهذا الموضوع، ولو كانت خاصّة لغير هذا الموضوع لم يكن بدائميّ أو أكثريّ، لكنّه دائميّ أو اكثريّ وهذا القياس كما ترى يشتمل على مقدّمات عقليّة غير حسّيّة ولا تجربيّة.

ورابعاً: هب إنّ جميع العلوم الحسّيّة مؤيّدة بالتجربة في باب العمل لكن من الواضح ان نفس التجربة ليس ثبوتها بتجربة اُخرى وهكذا إلى غير النهاية بل العلم بصحّته من طريق غير طريق الحسّ، فالاعتماد على الحسّ والتجربة اعتمادٌ على العلم العقليّ اضطراراً.

وخامساً: أنّ الحسّ لا ينال غير الجزئيّ المتغيّر والعلوم لا تستنتج ولا تستعمل غير القضايا الكليّة وهي غير محسوسة ولا مجرّبة، فإنّّ التشريح مثلاً إنّما ينال من الإنسان مثلاً أفراداً معدودين قليلين أو كثيرين، يعطي للحسّ فيها مشاهدة أنّ لهذا الإنسان قلباً وكبداً مثلاً، ويحصل من تكرارها عدد من المشاهدة يقلّ أو يكثر وذلك غير الحكم الكليّ في قولنا: كلّ انسان فله قلب أو كبد، فلو اقتصرنا في الاعتماد والتعويل على ما يستفاد من الحسّ والتجربة فحسب من غير ركون على العقليّات من رأس لم يتمّ لنا إدراك كلّي ولا فكر نظريّ ولا بحث علميّ، فكما يمكن التعويل أو يلزم على الحسّ في مورد يخصّ به كذلك التعويل فيما يخصّ بالقوّة العقليّة، ومرادنا بالعقل هو المبدأ لهذه التصديقات الكليّة والمدرك لهذه الأحكام العامّة، ولا ريب أنّ الإنسان معه شئ شأنه هذا الشأن، وكيف يتصوّر أن يوجد ويحصل بالصنع والتكوين شئ شأنه الخطأ في فعله رأساً ؟ أو يمكن أن يخطئ في فعله الّذي خصّه به التكوين ؟ والتكوين إنّما يخصّ موجوداً من الموجودات بفعل من الافعال بعد تثبت الرابطة الخارجيّة بينهما، وكيف يثبت رابطة بين موجود وما ليس بموجود أي خطأ وغلط ؟

وأمّا وقوع الخطأ في العلوم أو الحواسّ فلبيان حقيقة الأمر فيه محلّ آخر ينبغي الرجوع إليه والله الهادي.

٤٦

( بحث آخر فلسفي)

الإنسان البسيط في أوائل نشأته حين ما يطأ موطأ الحياة لا يرى من نفسه إلّا انّه ينال من الأشياء اُعيانها الخارجيّة من غير أن يتنبّه أنّه يوسّط بينه وبينها وصف العلم، ولا يزال على هذا الحال حتّى يصادف في بعض مواقفه الشكّ أو الظنّ، وعند ذلك يتنبّه: أنّه لا ينفكّ في سيره الحيويّ ومعاشه الدنيويّ عن استعمال العلم لا سيّما وهو ربّما يخطئ ويغلط في تمييزاته، ولا سبيل للخطأ والغلط إلى خارج الاعيان، فيتيقّن عند ذلك بوجود صفة العلم (وهو الإدراك المانع من النقيض) فيه.

ثمّ البحث البالغ يوصلنا أيضاً إلى هذه النتيجة، فإنّّ إدراكاتنا التصديقيّة تحلّل إلى قضيّة أوّل الأوائل (وهى أنّ الايجاب والسلب لا يجتمعان معاً ولا يرتفعان معاً) فما من قضيّة بديهيّة أو نظريّة إلّا وهي محتاجة في تمام تصديقها إلى هذه القضيّة البديهيّة الأوّليّة، حتّى أنّا لو فرضنا من انفسنا الشّك فيها وجدنا الشّك المفروض لا يجامع بطلان نفسه وهو مفروض، وإذا ثبتت هذه القضيّة على بداهتها ثبت جمٌّ غفيرٌ من التصديقات العلميّة على حسب مساس الحاجة إلى اثباتها، وعليها معوّل الإنسان في أنظاره وأعماله.

فما من موقف علميّ ولا واقعة عمليّة إلّا ومعوّل الإنسان فيه على العلم، حتّى أنّه إنّما يشخّص شكّه بعلمه أنّه شّك، وكذا ظنّه أو وهمه أو جهله بما يعلم أنّه ظنّ أو وهم أو جهل هذا.

ولقد نشأ في عصر اليونانيّين جماعة كانوا يسمّون بالسو فسطائيّين نفوا وجود العلم، وكانوا يبدون في كلّ شئ الشّك حتّى في أنفسهم وفي شّكهم، وتبعهم آخرون يسمون بالشكّاكين قريبوا المسلك منهم نفوا وجود العلم عن الخارج عن أنفسهم وأفكارهم (إدراكاتهم) وربّما لفّقوا لذلك وجوها من الاستدلال.

منها: أنّ أقوى العلوم والإدراكات (وهي الحاصلة لنا من طرق الحواسّ) مملوّة

٤٧

خطأ وغلطاً فكيف بغيرها ؟ ومع هذا الوصف كيف يمكن الاعتماد على شئ من العلوم والتصديقات المتعلّقة بالخارج منّا ؟

ومنها: أنّا كلّما قصدنا نيل شئ من الأشياء الخارجيّة لم ننل عند ذلك إلّا العلم به دون نفسه فكيف يمكن النيل لشئ من الأشياء ؟ إلى غير ذلك من الوجوه.

والجواب عن الأوّل: أنّ هذا الاستدلال يبطل نفسه، فلو لم يجز الاعتماد على شئ من التصديقات لم يجز الاعتماد على المقدّمات المأخوذة في نفس الاستدلال، مضافاً إلى أن الاعتراف بوجود الخطأ وكثرته اعتراف بوجود الصواب بما يعادل الخطأ أو يزيد عليه، مضافاً إلى أنّ القائل بوجود العلم لا يدّعي صحّة كلّ تصديق بل إنّما يدّعيه في الجملة، وبعبارة اُخرى يدّعي الايجاب الجزئيّ في مقابل السلب الكلّي والحجّة لا تفي بنفي ذلك.

والجواب عن الثاني: أن محلّ النزاع وهو العلم حقيقته الكشف عن ماورائه فإذا فرضنا أنّا كلّما قصدنا شيئاً من الأشياء الخارجيّة وجدنا العلم بذلك إعترفنا بأنّا كشفنا عنه حينئذ، ونحن إنّما ندّعي وجود هذا الكشف في الجملة، ولم يدّع احد في باب وجود العلم: أنّا نجد نفس الواقع وننال عين الخارج دون كشفه، وهؤلاء محجوجون بما تعترف به نفوسهم اعترافا اضطراريّاً في أفعال الحياة الاختياريّة وغيرها، فإنّهم يتحرّكون إلى الغذاء والماء عند إحساس ألم الجوع والعطش، وكذا إلى كلّ مطلوب عند طلبه لاعند تصوّره الخالي، ويهربون عن كلّ محذور مهروب عنه عند العلم بوجوده لا عند مجرّد تصوّره، وبالجملة كلّ حاجة نفسانيّة ألهمتها إليهم احساساتهم أوجدوا حركة خارجيّة لرفعها ولكنّهم عند تصوّر تلك الحاجة من غير حاجة الطبيعة إليها لا يتحرّكون نحو رفعها، وبين التصوّرين فرق لا محالة، وهو أنّ احد العلمين يوجده الإنسان باختياره ومن عند نفسه والاخر إنّما يوجد في الإنسان بايجاد أمر خارج عنه مؤثّر فيه، وهو الّذي يكشف عنه العلم، فإذن العلم موجود وذلك ما اردناه.

واعلم: أنّ في وجود العلم شكّاً قويّاً من وجه آخر وهو الّذي وضع عليه اساس العلوم المادّيّة اليوم من نفي العلم الثابت (وكل علم ثابت)، بيانه: أنّ البحث العلميّ

٤٨

يثبت في عالم الطبيعة نظام التحوّل والتكامل، فكلّ جزء من أجزاء عالم الطبيعة واقعٌ في مسير الحركة متوجّه إلى الكمال، فما من شئ إلّا وهو في الآن الثاني من وجوده غيره وهو في الآن الأوّل من وجوده، ولا شكّ أنّ الفكر والإدراك من خواصّ الدماغ فهي خاصّة مادّيّة لمركّب مادّيّ، فهي لا محالة واقعة تحت قانون التحوّل والتكامل، فهذه الإدراكات (ومنها الإدراك المسمّى بالعلم) واقعة في التغيّر والتحوّل فلا معنى لوجود علم ثابت باق وإنّما هو نسبيّ، فبعض التصديقات أدوم بقاء وأطول عمراً أو أخفى نقيضاً ونقضاً من بعض آخر وهو المسمّى بالعلم فيما وجد.

والجواب عنه: أن الحجّة مبنية على كون العلم مادّيّاً غير مجرّد في وجوده وليس ذلك بيّنا ولا مبيّناً بل الحقّ أنّ العلم ليس بمادّيّ البتّة، وذلك لعدم إنطباق صفات المادّة وخواصّها عليه.

(١) فإنّّ المادّيّات مشتركة في قبول الانقسام وليس يقبل العلم بما أنّه علم الانقسام البتّة.

(٢) والمادّيّات مكانيّة زمانيّة والعلم بما أنّه علم لا يقبل مكاناً ولا زماناً، والدليل عليه إمكان تعقّل الحادثة الجزئيّة الواقعة في مكان معيّن وزمان معيّن في كل مكان وكلّ زمان مع حفظ العينيّة.

(٣) والمادّيّات بأجمعها واقعة تحت سيطرة الحركة العموميّة فالتغيّر خاصّة عموميّة فيها مع أن العلم بما أنه علم لا يتغيّر، فإنّّ حيثيّة العلم بالذات تنافي حيثيّة التغيّر والتبدّل وهو ظاهر عند المتأمّل.

(٤) ولو كان العلم ممّا يتغيّر بحسب ذاته كالمادّيّات لم يمكن تعقّل شئ واحد ولا حادثة واحدة فوقتين مختلفين معاً ولا تذكّر شئ أو حادثة سابقة في زمان لاحق، فإنّّ الشئ المتغيّر وهو في الآن الثاني غيره في الآن الأوّل، فهذه الوجوه ونظائرها دالة على أنّ العلم بما أنّه علم ليس بمادّيّ البتّة، وأمّا ما يحصل في العضو الحسّاس أو الدماغ من تحقّق عمل طبيعيّ فليس بحثنا فيه أصلاً ولا دليل على أنّه هو العلم، ومجرّد تحقّق عمل عند تحقّق أمر من الاُمور لا يدلّ على كونهما أمراً واحداً، والزائد على هذا المقدار من البحث ينبغي أن يطلب من محلّ آخر.

٤٩

( سورة البقرة الآيات ٦ – ٧)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ( ٦ ) خَتَمَ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِم  وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَة  وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ٧ )

( بيان)

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ، هؤلاء قوم ثبتوا على الكفر وتمكّن الجحود من قلوبهم، ويدلّ عليه وصف حالهم بمساواة الإنذار وعدمه فيهم، ولا يبعد أن يكون المراد من هؤلاء الّذين كفروا هم الكفّار من صناديد قريش وكبراء مكّة الّذين عاندوا ولجّوا في أمر الدين ولم يألوا جهداً في ذلك ولم يؤمنوا حتّى أفناهم الله عن آخرهم في بدر وغيره، ويؤيّده أنّ هذا التعبير وهو قوله:( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) ، لا يمكن استطراده في حقّ جميع الكفّار وإلّا انسدّ باب الهداية القرآن ينادي على خلافه، وأيضاً هذا التعبير إنّما وقع في سورة يس (وهي مكّية) وفي هذه السورة (وهي سورة البقرة أوّل سورة نزلت في المدينة) نزلت ولم تقع غزوة بدر بعد، فالأشبه أن يكون المراد( مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ، هيهنا وفي ساير الموارد من كلامه تعالى: كفّار مكّة في أوّل البعثة إلّا أن تقوم قرينة على خلافه، نظير ما سيأتي أنّ المراد من قوله تعالى:( الَّذِينَ آمَنُوا ) ، فيما اُطلق في القرآن من غير قرينة هم السابقون الأوّلون من المسلمين، خُصُّوا بهذا الخطاب تشريفاً.وقوله تعالى: ( خَتَمَ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ) الخ يشعر تغيير السياق: (حيث نسب الختم إلى نفسه تعالى والغشاوة إليهم أنفسهم) بأنّ فيهم حجاباً دون الحقّ في أنفسهم وحجاباً من الله تعالى عقيب كفرهم وفسوقهم، فأعمالهم متوسّطة بين حجابين: من ذاتهم ومن الله تعالى، وسيأتي بعض ما يتعلّق بالمقام في قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا ) .

واعلم : أنّ الكفر كالإيمان وصف قابل للشدّة والضعف فله مراتب مختلفة الآثار كالإيمان.

٥٠

( بحث روائي)

في الكافي عن الزبيريّ عن الصادقعليه‌السلام قال: قلت له: أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله عزّوجلّ، قال: الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه، فمنها كفر الجحود، والجحود على وجهين، والكفر بترك ما أمر الله، وكفر البرائة، وكفر النعم. فأمّا كفر الجحود فهو الجحود بالربوبيّة وهو قول من يقول: لا ربّ ولا جنّة ولا نار، وهو قول صنفين من الزنادقة يقال لهم الدهريّة وهم الّذين يقولون وما يهلكنا إلّا الدهر وهو دين وضعوه لأنفسهم بالإستحسان منهم ولا تحقيق لشئ ممّا يقولون: قال عزّوجلّ: إن هم إلّا يظنّون، أنّ ذلك كما يقولون، وقال: إنّ الّذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، يعني بتوحيد الله، فهذا أحد وجوه الكفر.

وأمّا الوجه الآخر فهو الجحود على معرفة، وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حقّ قد استقرّ عنده، وقد قال الله عزّوجلّ:( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ) ، وقال الله عزّوجلّ: وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين، فهذا تفسير وجهى الجحود، والوجه الثالث من الكفر كفر النعم وذلك قوله سبحانه يحكي قول سليمان: هذا من فضل ربّي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن يشكر فإنّما يشكر لنفسه ومن يكفر فإنّ الله غنيّ كريم، وقال: لئن شكرتم لأزيدنّكم ولئن كفرتم إنّ عذابي لشديد، وقال: فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون.

والوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر الله عزّوجلّ به، وهو قول عزّوجلّ:( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ) فكفّرهم بترك ما أمر الله عزّوجلّ به ونسبهم إلى الإيمان

٥١

ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده فقال: فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلّا خزىٌ في الحياة الدنيا ويوم القيمة يردّون إلى أشدّ العذاب وما الله بغافل عمّا تعملون.

والوجه الخامس من الكفر كفر البرائة وذلك قول الله عزّوجلّ يحكي قول إبراهيم:( كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ ) ، يعني تبرّأنا منكم، وقال: ( يذكر ابليس وتبرّيه من أوليائه من الإنس يوم القيامة ) إنّي كفرت بما أشركتمون من قبل، وقال: إنّما اتّخذتم من دون الله أوثاناً مودّة بينكم في الحياة الدنيا ثمّ يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً، يعني يتبرّأ بعضكم من بعض.

اقول: وهي في بيان قبول الكفر الشدّة والضعف كما مرّ.

٥٢

( سورة البقرة الآيات ٨ – ٢٠)

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ( ٨ ) يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( ٩ ) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا  وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ( ١٠ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ( ١١ ) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَّا يَشْعُرُونَ ( ١٢ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ  أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِن لَّا يَعْلَمُونَ ( ١٣ ) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ( ١٤ ) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( ١٥ ) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ( ١٦ ) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ ( ١٧ ) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ( ١٨ ) أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ  وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ( ١٩ ) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ  كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا  وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ  إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٢٠ )

٥٣

( بيان)

قوله تعالى: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ) إلى آخر الآيات، الخدعة نوع من المكر، والشيطان هو الشرير ولذلك سمّي إبليس شيطاناً.

وفي الآيات بيان حال المنافقين، وسيجئ إن شاء الله تفصيل القول فيهم في سورة المنافقين وغيرها.

وقوله تعالى: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) (الخ) مثل يمثل به حالهم، أنّهم كالّذي وقع في ظلمة عمياء لا يتميّز فيها خير من شر ولا نافع من ضار فتسبّب لرفعها بسبب من أسباب الإستضائة كنار يوقدها فيبصر بها ما حولها فلمّا توقدّت وأضائت ما حولها أخمدها الله بسبب من الأسباب كريح أو مطر أو نحوهما فبقى فيما كان عليه من الظلمة وتورّط بين ظلمتين: ظلمة كان فيها وظلمة الحيرة وبطلان السبّب.

وهذه حال المنافق، يظهر الإيمان فيستفيد بعض فوائد الدين باشتراكه مع المؤمنين في مواريثهم ومناكحهم وغيرهما حتّى إذا حان حين الموت وهو الحين الّذي فيه تمام الإستفادة من الإيمان ذهب الله بنوره وأبطل ما عمله وتركه في ظلمة لا يدرك فيها شيئاً ويقع بين الظّلمة الأصليّة وما أوجده من الظلمة بفعاله.

وقوله تعالى: ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ ) الخ، الصيّب هو المطر الغزير، والبرق معروف، والرعد هو الصوت الحادث من السحاب عند الإبراق، والصاعقة هي النازلة من البروق.

وهذا مثل ثان يمثّل به حال المنافقين في إظهارهم الإيمان، أنّهم كالّذي أخذه صيّب السماء ومعه ظلمة تسلب عنه الإبصار والتمييز، فالصيّب يضطرّه إلى الفرار والتخلّص، والظلمة تمنعه ذلك، والمهوّلات من الرعد والصاعقة محيطة به فلا يجد مناصاً عن أن يستفيد بالبرق وضوئه وهو غير دائم ولا باق متّصل كلّما أضاء له مشى وإذا أظلم عليه قام.

وهذه حال المنافق فهو لا يحبّ الإيمان ولا يجد بدّا من إظهاره، ولعدم المواطأة بين قلبه ولسانه لا يستضئ له طريقه تمام الإستضائة، فلا يزال يخبط خبطاً بعد خبط ويعثر عثرة بعد عثرة فيمشي قليلا ويقف قليلا ويفضحه الله بذلك ولو شاء الله لذهب بسمعه وبصره فيفتضح من أوّل يوم.

٥٤

( سورة البقرة الآيات ٢١ – ٢٥)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( ٢١ ) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ  فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٢٢ ) وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٢٣ ) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ  أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( ٢٤ ) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ  كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا  قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ  وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا  وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ  وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٢٥ )

( بيان)

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا ) الخ، لما بيّن سبحانه: حال الفرق الثلاث: المتّقين والكافرين، والمنافقين، وأنّ المتّقين على هدى من ربّهم والقرآن هدى لهم، وأنّ الكافرين مختوم على قلوبهم، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة وأنّ المنافقين مرضى وزادهم الله مرضاً وهم صمّ بكم عمى (وذلك في تمام تسع عشرة آية) فرّع تعالى على ذلك أن دعى الناس إلى عبادته وأن يلتحقوا بالمتّقين دون الكافرين والمنافقين بهذه الآيات الخمس إلى قوله: خالدون. وهذا السياق يعطي كون قوله:( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) متعلّقاً بقوله: اعبدوا، دون قوله خلقكم وإن كان المعنى صحيحاً على كلا التقديرين.

وقوله تعالى: ( فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ، الأنداد جمع ندّ كمثل،

٥٥

وزناً ومعنى وعدم تقييد قوله تعالى: وانتم تعلمون بقيد خاصّ وجعله حالاً من قوله تعالى:( فَلَا تَجْعَلُوا ) ، يفيد التأكيد البالغ في النهي بأنّ الإنسان وله علم مّا كيفما كان لا يجوز له أن يتّخذ لله سبحانه أنداداً والحال أنّه سبحانه هو الّذي خلقهم والّذين من قبلهم ثمّ نظم النظام الكونيّ لرزقهم وبقائهم.

وقوله تعالى: ( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ) أمر تعجيزيّ لإبانة إعجاز القرآن، وأنّه كتاب منزّل من عند الله لا ريب فيه، إعجازاً باقياً بمرّ الدّهور وتوالي القرون، وقد تكرّر في كلامه تعالى هذا التعجيز كقوله تعالى:( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) الاسراء - ٨٨، وقوله تعالى:( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) هود - ١٣. وعلى هذا فالضمير في مثله عائد إلى قوله تعالى: ممّا نزّلنا، ويكون تعجيزاً بالقرآن نفسه وبداعة أسلوبه وبيانه.

ويمكن أن يكون الضمير راجعاً إلى قوله: عبدنا، فيكون تعجيزاً بالقرآن من حيث أنّ الّذي جاء به رجل اُمّي لم يتعلّم من معلّم ولم يتلّق شيئاً من هذه المعارف الغالية العالية والبيانات البديعة المتقنة من أحد من الناس فيكون الآية في مساق قوله تعالى:( قُل لَّوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) يونس - ١٦، وقد ورد التفسيران معاً في بعض الأخبار.

واعلم: ان هذه الآية كنظائرها تعطي إعجاز أقصر سورة من القرآن كسورة الكوثر وسورة العصر مثلاً، وما ربّما يحتمل من رجوع ضمير مثله إلى نفس السورة كسورة البقرة أو سورة يونس مثلاً يأباه الفهم المستأنس بأساليب الكلام إذ من يرمي القرآن بأنه افتراء على الله تعالى إنّما يرميه جميعاً ولا يخصّص قوله ذاك بسورة دون سورة، فلا معنى لردّه بالتحدّي بسورة البقرة أو بسورة يونس لرجوع المعنى حينئذ إلى مثل قولنا: وإن كنتم في من سورة الكوثر أو الإخلاص مثلاً فأتوا بسورة مثل سورة يونس وهم بيّن الإستهجان هذا.

٥٦

( الإعجاز وماهيّته)

اعلم: أنّ دعوى القرآن أنّها آية معجزة بهذا التحدّي الذى أبدتها هذه الآية تنحّل بحسب الحقيقة إلى دعويين، وهما دعوى ثبوت أصل الإعجاز وخرق العادة الجارية ودعوى أنّ القران مصداق من مصاديق الإعجاز ومعلوم أنّ الدعوى الثانية تثبت بثبوتها الدعوى الاُولى، والقرآن أيضاً يكتفى بهذا النمط من البيان ويتحدّى بنفسه فيستنتج به كلتا النتيجتين غير أنّه يبقى الكلام على كيفيّة تحقّق الإعجاز مع اشتماله على ما لا تصدّقه العادة الجارية في الطبيعة من إستناد المسبّبات إلى أسبابها المعهودة المشخّصة من غير استثناء في حكم السببيّة أو تخلّف واختلاف في قانون العلّيّة، والقرآن يبيّن حقيقة الأمر ويزيل الشبهة فيه.

فالقرآن يشدق في بيان الأمر من جهتين.

الاولى: أنّ الإعجاز ثابت ومن مصاديقه القران المثبت لأصل الإعجاز ولكون منه بالتحدّي.

الثانية: أنّه ما هو حقيقة الإعجاز وكيف يقع في الطبيعة أمر يخرق عادتها وينقض كلّيّتها.

( إعجاز القرآن)

لا ريب في أنّ القرآن يتحدّى بالإعجاز في آيات كثيرة مختلفة مكّية ومدنيّة تدلّ جميعها على أنّ القرآن آية معجزة خارقة حتّى أنّ الآية السابقة أعني قوله تعالى:( وإن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ) الآية، اي من مثل النبيّ (صلى إليه عليه وآله وسلم) إستدلال على كون القرآن معجزة بالتحدّي على إتيان سورة نظيرة سورة من مثل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا أنّه إستدلال على النبوّة مستقيماً وبلا واسطة، والدليل عليه قوله تعالى في أوّلها:( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا ) ولم يقل وإن كنتم في ريب من رسالة عبدنا، فجميع التحديّات الواقعة في القرآن نحو استدلال

٥٧

على كون القرآن معجزة خارقة من عند الله، والآيات المشتملة على التحدّي مختلفة في العموم والخصوص ومن أعمّها تحدّيا قوله تعالى:( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) الأسراء - ٨٨، والآية مكّية وفيها من عموم التحدّي ما لا يرتاب فيه ذو مسكة.

فلو كان التحدّي ببلاغة بيان القرآن وجزالة أسلوبه فقط لم يتعدّ التحدّي قوماً خاصّاً وهم العرب العرباء من الجاهليّين والمخضرمين قبل اختلاط اللسان وفساده، وقد قرع بالآية أسماع الإنس والجنّ.

وكذا غير البلاغة والجزالة من كلّ صفة خاصّة إشتمل عليها القرآن كالمعارف الحقيقيّة والأخلاق الفاضلة والأحكام التشريعيّة والأخبار المغيّبة ومعارف اُخرى لم يكشف البشر حين النزول عن وجهها النقاب إلى غير ذلك، كلّ واحد منها ممّا يعرفه بعض الثقلين دون جميعهم، فإطلاق التحدّي على الثقلين ليس إلّا في جميع ما يمكن فيه التفاضل في الصفات.

فالقرآن آية للبليغ في بلاغته وفصاحته، وللحكيم في حكمته، وللعالم في علمه وللاجتماعيّ في اجتماعه، وللمقنّنين في تقنينهم وللسياسيّين في سياستهم، وللحكّام في حكومتهم، ولجميع العالمين فيما لا ينالونه جميعاً كالغيب والاختلاف في الحكم والعلم والبيان.

ومن هنا يظهر أنّ القرآن يدّعي عموم إعجازه من جميع الجهات من حيث كونه إعجازاً لكلّ فرد من الإنس والجنّ من عامّة أو خاصّة أو عالم أو جاهل أو رجل أو امرأة أو فاضل بارع في فضله أو مفضول إذا كان ذا لبّ يشعر بالقول، فإنّ الإنسان مفطور على الشعور بالفضيلة وإدراك الزيادة والنقيصة فيها، فلكلّ إنسان أن يتأمّل ما يعرفه من الفضيلة في نفسه أو في غيره من أهله ثمّ يقيس ما أدركه منها إلى ما يشتمل عليه القرآن فيقضي بالحق والنصفة، فهل يتأتّى القوّة البشريّة أن يختلق معارف إلهيّة مبرهنة تقابل ما أتى به القرآن وتماثله في الحقيقة ؟ وهل يمكنها أن تأتّي بأخلاق مبنيّة على أساس الحقائق تعادل ما أتى به القرآن في الصفاء والفضيلة ؟ وهل يمكنها

٥٨

أن يشرّع أحكاما تامّة فقهية تحصي جميع أعمال البشر من غير اختلاف يؤدّي إلى التناقض مع حفظ روح التوحيد وكلمة التقوى في كلّ حكم ونتيجته، وسريان الطهارة في أصله وفرعه ؟ وهل يمكن أن يصدر هذا الإحصاء العجيب والإتقان الغريب من رجل ُمّي لم يتربّ إلّا في حجر قوم حظّهم من الإنسانيّة على مزإياها الّتي لا تحصى وكمالاتها الّتي لا تغيّا أن يرتزقوا بالغارات الغزوات ونهب الاموال وأن يئدوا البنات ويقتلوا الإولاد خشية إملاق ويفتخروا بالآباء وينكحوا الإمّهات ويتباهوا بالفجور ويذمّوا العلم ويتظاهروا بالجهل وهم على أنفتهم وحميّتهم الكاذبة إذّلاء لكلّ مستذلّ وخطفة لكل خاطف فيوما لليمن ويوما للحبشة ويوما للروم ويومً للفرس ؟ فهذا حال عرب الحجاز في الجاهليّة.

وهل يجتري عاقل على أن يأتي بكتاب يدّعيه هدى للعالمين ثمّ يودعه أخبارً في الغيب ممّا مضى ويستقبل وفيمن خلت من الُمم وفيمن سيقدم منهم لا بالواحد والإثنين في أبواب مختلفة من القصص والملاحم والمغيّبات المستقبلة ثمّ لا يتخلّف شئ منها عن صراط الصدق ؟.

وهل يتمكّن إنسان وهو أحد أجزاء نشأة الطبيعة المادّيّة، والدار دار التحوّل والتكامل، أن يداخل في كلّ شأن من شئون العالم الإنسانيّ ويلقي إلى الدنيا معارف وعلوما وقوانين وحكما ومواعظ وأمثالا وقصصً في كلّ ما دقّ وجلّ ثمّ لا يختلف حاله في شئ منها في الكمال والنقص وهي متدرجّة الوجود متفرّقة الالقاء وفيها ما ظهر ثمّ تكرّر وفيها فروع متفرّعة على أصولها ؟ هذا مع ما نراه أنّ كلّ إنسان لا يبقى من حيث كمال العمل ونقصه على حال واحدة.

فالإنسان اللبيب القادر على تعقّل هذه المعاني لا يشكّ في أنّ هذه المزايا الكلّيّة وغيرها ممّا يشتمل عليه القرآن الشريف كلّها فوق القوّة البشريّة ووراء الوسائل الطبيعيّة المادّيّة وان لم يقدر على ذلك فلم يضلّ في إنسانيّته ولم ينس ما يحكم به وجدإنه الفطريّ أن يراجع فيما لا يحسن إختباره ويجهل مأخذه إلى أهل الخبرة به.

فإن قلت: ما الفائدة في توسعة التحدّي إلى العامّة والتعدّي عن حومه الخاصّة

٥٩

فإنّ العامّة سريعة الانفعال للدعوة والإجابة لكل صنيعة وقد خضعوا لإمثال الباب والبهاء والقاديانيّ والمسيلمة على أنّ ما أتوا به واستدلّوا عليه أشبه بالهجر والهذيان منه بالكلام.

قلت: هذا هو السبيل في عموم الإعجاز والطريق الممكن في تمييز الكمال والتقدّم في أمر يقع فيه التفاضل والسباق، فإنّ أفهام الناس مختلفة اختلافً ضروريّاً والكمالات كذلك، والنتيجة الضروريّة لهاتين المقدّمتين أن يدرك صاحب الفهم العالي والنظر الصائب ويرجع من هو دون ذلك فهما ونظرا إلى صاحبه، و الفطرة حاكمة والغريزة قاضية.

ولا يقبل شئ ممّا يناله الانسان بقواه المدركة ويبلغه فهمه العموم والشمول لكلّ فرد في كلّ زمان ومكان بالوصول والبلوغ والبقاء إلّا ما هو من سنخ العلم والمعرفة على الطريقة المذكورة، فإنّ كلّ ما فرض آية معجزة غير العلم والمعرفة فإنّما هو موجود طبيعيّ أو حادث حسّيّ محكوم بقوانين المادّة محدود بالزمان والمكان فليس بمشهود إلّا لبعض أفراد الانسان دون بعض ولو فرض محالا أو كالمحال عمومه لكلّ فرد منه فإنّما يمكن في مكان دون جميع الإمكنة، ولو فرض اتّساعه لكلّ مكان لم يمكن اتّساعه لجميع الإزمنة والإوقات.

فهذا ما تحدّى به القرآن تحدّيً عامًّ لكلّ فرد في كلّ مكان في كلّ زمان.

( تحدّيه بالعلم)

وقد تحدّى بالعلم والمعرفة خاصّة بقوله تعالى:( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) النحل - ٨٩، وقوله( وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) الانعام - ٥٩، إلى غير ذلك من الآيات، فإنّ الإسلام كما يعلمه ويعرفه كلّ من سار في متن تعليماته من كلّيّاته الّتي أعطاها القرآن وجزئيّاته الّتي أرجعها إلى النبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم)، بنحو قوله:( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) الحشر - ٧، وقوله تعالى:( لِتَحْكُمَ

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

منقصة في الطبيعة المأمور بها لاجل تشخصها في هذا القسم بمشخص غير ملائم لها كما في الصلاة في الحمام فان تشخصها بتشخص وقوعها فيه لا يناسب كونها معراجا وان لم يكن نفس الكون في الحمام في الصلاة بمكروه ولا حزازة فيه اصلا بل كان راجحا كما لا يخفى وربما يحصل لها لاجل تخصصها بخصوصية شديدة الملائمة معها مزية فيها كما في الصلاة في المسجد والامكنة الشريفة، وذلك لان الطبيعة المأمور بها في حد نفسها إذا كانت مع تشخص لا يكون له شدة الملائمة ولا عدم الملائمة لها مقدار من المصلحة والمزية كالصلاة في الدار مثلا وتزداد تلك المزية فيما كان تشخصها بما له شدة الملائمة وتنقص فيما إذا لم تكن له ملائمة ولذلك ينقص ثوابها تارة ويزيد أخرى ويكون النهي فيه لحدوث نقصان في مزيتها فيه

______________________________

(قوله: منقصة في الطبيعة) يعني نقصا في وفاء الطبيعة المأمور بها بالمرتبة الخاصة من المصلحة التي تفي بها لو لم تكن متشخصة بذلك المشخص ولا بد من أن يكون المقدار الفائت مما لا يجب تداركه وإلا كان النهي تحريميا لو لم يمكن تداركه. أولا يصح النهي أصلا لو أمكن تداركه بل يكون المكلف مخيرا بين فعل الفرد المذكور مع التدارك وبين فعل غيره من الافراد، ومن أن يكون المقدار الباقي الذي يحصله الفرد ملزما وإلا كان مستحبا لا فردا للواجب (قوله: وربما يحصل) شروع في دفع اشكال اجتماع الوجوب والاستحباب في العبادات المستحبة (قوله: ولذلك ينقص) قد تقدم ان الثواب والعقاب بمراتبهما ليسا تابعين لمراتب المصلحة والمفسدة بل هما تابعان لمراتب الانقياد والتجري نعم مراتب التجري تختلف باختلاف مراتب الاهتمام المختلفة باختلاف مراتب المصلحة والمفسدة وأما مراتب الانقياد فتختلف باختلاف مراتب المشقة فزيادة العقاب تدل على تأكد المصلحة الفائتة والمفسدة المرتكبة وأما زيادة الثواب فلا تدل عليه نعم الوعد بزيادة الثواب يدل على مزيد الاهتمام الناشئ عن زيادة المصلحة (ومنه) يظهر أنه لا يصح نقص الثواب عن مقدار الاستحقاق الا ان يكون المراد النقص عن المرتبة

٣٨١

إرشادا إلى ما لا نقصان فيه من سائر الافراد ويكون أكثر ثوابا منه وليكن هذا مراد من قال: إن الكراهة في العبادة بمعنى أنها تكون أقل ثوابا، ولا يرد عليه بلزوم اتصاف العبادة التي تكون أقل ثوابا من الاخرى بالكراهة ولزوم اتصاف ما لا مزية فيه ولا منقصة بالاستحباب لانه أكثر ثوابا مما فيه المنقصة، لما عرفت من أن المراد من كونه أقل ثوابا إنما هو بقياسه إلى نفس الطبيعة المتشخصة بما لا يحدث معه مزية لها ولا منقصة من المشخصات، وكذا كونه أكثر ثوابا. ولا يخفى أن النهي في هذا القسم لا يصح الا للارشاد بخلاف القسم الاول فانه يكون فيه مولويا وان كان حمله على الارشاد بمكان من الامكان

______________________________

الموعود بها لا المستحقة (قوله: ارشادا إلى مالا) بل ارشادا إلى المنقصة في متعلقه فيوجب ذلك بعثا إلى مالا نقصان فيه وكانه المراد كما تقدم نظيره (قوله: بلزوم اتصاف) هذا يرد لو كان المراد أقل ثوابا من بعض الافراد مطلقا وكذا لزوم اتصاف... الخ، فانه يرد لو كان المراد من الاستحباب أكثرية الثواب بالنسبة إلى بعض الافراد مطلقا (قوله: في هذا القسم) يعني بالنسبة إلى التوجيه المختص به لا بالنظر إلى توجيهه بما مر في القسم الاول فانه لا يتعين فيه ذلك (قوله: إلا للارشاد) لان كونه مولويا ولو تنزيهيا كراهتيا يتوقف على ثبوت مفسدة في متعلقه أو مصلحة في نقيضه مزاحمة لمصلحته والمفروض انه ليس كذلك إذ كان متعلقه ذا مصلحة وليس في نقيضه مصلحة كما في القسم الاول إلا ان يقال: إن ترك العبادة وإن لم يكن ملازما لعنوان ذي مصلحة أو متحدا معه إلا أن فعلها ملازم لفوات مقدار من المصلحة وحيث أن فوات ذلك المقدار مبغوض حقيقة كان ملازمه مبغوضا عرضا فيصح النهي عنه بالعرض والمجاز. نعم لو لم يكن فعل الفرد ملازما لفوات ذلك المقدار لامكان تداركه ولو بالاعادة في فرد آخرتم ما ذكر ثم إنك عرفت في القسم الاول إمكان أن يكون النهي لمفسدة في ملازمه ويمكن ذلك أيضا في هذا القسم لكن لازمه خروج الفرد عن كونه

٣٨٢

(وأما القسم الثالث) فيمكن ان يكون النهى فيه عن العبادة المتحدة مع ذاك العنوان أو الملازمة له بالعرض والمجاز وكان المنهي عنه به حقيقة ذاك العنوان ويمكن أن يكون على الحقيقة ارشادا إلى غيرها من سائر الافراد مما لا يكون متحدا معه أو ملازما له إذ المفروض التمكن من استيفاء مزية العبادة بلا ابتلاء بحزازة ذاك العنوان اصلا. هذا على القول بجواز الاجتماع، وأما على الامتناع فكذلك في صورة الملازمة، وأما في صورة الاتحاد وترجيح جانب الامر - كما هو المفروض -

______________________________

واجبا لما عرفت من أنه لا مزاحمة بين المقتضي التعييني والمقتضي التخييري فان الاول يؤثر ولو كان استحبابيا والثاني يسقط ولو كان وجوبيا إذ لا تزاحم حقيقة بينهما لامكان الجمع بينهما بفعل غير المكروه من الافراد فيثبت النهي عن الملازم وتخرج العبادة عن كونها فردا للمأمور به بما هو كذلك نعم يكون التقرب بملاك الامر كما تقدم والله سبحانه اعلم (قوله: فيمكن أن يكون) يعني بعد ما كان المبغوض حقيقة هو العنوان المتحد مع العبادة فتعلق النهي بنفس العبادة يمكن أن يكون عرضيا بالمعنى المتقدم ويكون مولويا ويمكن ان يكون حقيقا ويكون إرشاديا إلى ثبوت مفسدة في العنوان المتحد مع العبادة أو الملازم لها لكن عرفت أن الحقيقي - ولو كان إرشاديا - ما يدل على ثبوت مفسدة في متعلقه لا في غيره ولو كان متحدا معه، فلو حمل النهي على الارشاد كان عرضيا أيضا، ومنه يظهر تعين جعله مولويا عرضيا لا ارشاديا كذلك لان الاول أوفق بظاهر النهي نعم لو كان حمله على الارشاد يقتضي كونه حقيقيا دار الامر بين كل من التصرفين ولا معين لاحدهما (قوله: ارشادا إلى) قد تقدم مثل هذا التعبير المبني على المسامحة وسيأتي أيضا (قوله: مما لا يكون) بيان للافراد يعني الافراد التي لا تتحد مع العنوان المنهي عنه حقيقة ولا تلازمه (قوله: هذا على القول) يعني هذا الذي ذكرناه من أن العبادة بنفسها مأمور بها وأن العنوان المتحد معها أو الملازم لها هو المنهي عنه حقيقة يتم على الاجتماع إذ مبنى الاجتماع عدم التنافي

٣٨٣

حيث أنه صحة العبادة فيكون حال النهي فيه حاله في القسم الثاني فيحمل على ما حمل عليه فيه طابق النعل بالنعل حيث أنه بالدقة يرجع إليه، إذ على الامتناع ليس الاتحاد مع العنوان الآخر إلا من مخصصاته ومشخصاته التي تختلف الطبيعة المأمور بها في المزية زيادة ونقيصة بحسب اختلافها في الملائمة كما عرفت وقد انقدح بما ذكرناه أنه لا مجال أصلا لتفسير الكراهة في العبادة باقلية الثواب في القسم الاول مطلقا وفي هذا القسم على القول بالجواز،

______________________________

بين الامر والنهي بعنوانين ويتم ايضا على الامتناع إذا كان العنوان ملازما للعبادة لا متحدا معها لان القول بالامتناع يختص بصورة اتحاد العنوانين ولا يجري في صورة تلازمهما غاية الامر أن امتناع اختلاف المتلازمين في الحكم يؤدي إلى امتناع فعليتهما معا لكن يصح الاتيان بالعبادة حينئذ ولو لملاك الامر كما تقدم في الضد وكذا يتم أيضا على الامتناع وترجيح جانب الامر في صورة الاتحاد فتصح العبادة للامر بها فعلا (قوله: حيث انه صحة) ضمير (أن) راجع إلى المفروض يعني حيث أن المفروض صحة العبادة فهو ملازم لتقديم جانب الامر إذ مع تقديم النهي لا مجال للصحة كما تقدم (قوله: فيكون حال النهي) يعني حيث كان المفروض صحة العبادة الملازم لتعلق الامر الفعلي بها على الامتناع فالنهي المتعلق بها يمتنع أن يكون مولويا لمنافاته لصحتها فيحمل على الارشاد إلى نقص في مصلحتها من جهة اقترانها بالخصوصية الخاصة كما تقدم في القسم الثاني (قوله: إذ على الامتناع) هذا التخصيص غير ظاهر (قوله: في القسم الاول) إذ لا قصور في مصلحة العبادة ليقل ثوابها ومنه يظهر عدم صحة التفسير المذكور في القسم الثاني أيضا بناء على توجيهه بما في القسم الاول (قوله: على القول بالجواز) فانه أيضا لا قصور في المصلحة وكذا على القول بالامتناع في صورة الملازمة. نعم على الامتناع والاتحاد لابد من الالتزام بنقص المصلحة كما ذكر فتكون أقل ثوابا بناء على ما تقدم منه من تبعية كمية الثواب لكمية المصلحة

٣٨٤

كما انقدح حال اجتماع الوجوب والاستحباب فيها وان الامر الاستحبابي يكون على نحو الارشاد إلى أفضل الافراد مطلقا على نحو الحقيقة، ومولويا اقتضائيا كذلك، وفعليا بالعرض والمجاز فيما كان ملاكه ملازمتها لما هو مستحب أو متحد معه على القول بالجواز (ولا يخفى) أنه لا يكاد يأتي القسم الاول ههنا فان انطباق عنوان راجح على الفعل الواجب الذي لا بدل له إنما يؤكد ايجابه لا أنه يوجب استحبابه أصلا ولو بالعرض والمجاز

______________________________

(قوله: كما انقدح حال) العبادة المستحبة (تارة) تكون أكثر مصلحة لتشخصها بما له دخل في ذلك (وأخرى) ينطبق عليها عنوان ذو مصلحة ويتحد معها (وثالثة) يلازمها عنوان كذلك ولا ريب في امكان كون الامر في الجميع إرشاديا حقيقيا كما في الاولى وعرضيا كما في الاخيرتين وأما كونه مولويا فهو ممتنع في الاولى للزوم اجتماع الاستحباب والوجوب في شئ واحد بعنوان واحد وكذا في الثانية - بناء على الامتناع - أما على الجواز فلا ضير فيه لانه بعنوانين ويكون تعلقه بالعبادة عرضيا، وفى الثالثة يجوز لو جاز اختلاف المتلازمين في الحكم ويكون تعلقه بالعبادة عرضيا أيضا ويمتنع لو امتنع. نعم لا بأس بتعلق الارادة الاستحبابية به فتتأكد مع الوجوبية في الاولى وفى الثانية على القول بالامتناع لاتحاد المتعلق حينئذ ولا كذلك على الجواز لتعدده فلا مجال للتأكد كالثالثة (قوله: مطلقا على) الاطلاق في قبال التقييد الآتي ذكره في المولوي الفعلي فيعم جميع الصور التي أشرنا إليها (قوله: على نحو الحقيقة) قد عرفت الاشكال فيه في الاخيرتين (قوله: كذلك) يعني مطلقا على نحو الحقيقة وعرفت أيضا التأمل فيه (قوله: فيما كان ملاكه) يعني في مورد كان ملاك الامر الاستحبابي ملازمة العبادة لعنوان مستحب (قوله: على القول بالجواز) قيد للمتحد إذ على الامتناع تمتنع فعلية الاستحباب مع فعلية الوجوب لتضادهما وعرفت الامتناع في الملازم أيضا (قوله: يؤكد إيجابه)

٣٨٥

إلا على القول بالجواز، وكذا فيما إذا لازم مثل هذا العنوان فانه لو لم يؤكد الايجاب لما يصحح الاستحباب الا اقتضائيا بالعرض والمجاز فتفطن (ومنها) أن أهل العرف يعدون من أتى بالمأمور به في ضمن الفرد المحرم مطيعا وعاصيا من وجهين فإذا امر المولى عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان خاص كما مثل به الحاجبي والعضدي فلو خاطه في ذاك المكان عد مطيعا لامر الخياطة وعاصيا للنهي عن الكون في ذلك المكان (وفيه) - مضافا إلى المناقشة في المثال بأنه ليس من باب الاجتماع ضرورة أن الكون المنهي عنه غير متحد مع الخياطة

______________________________

يعني يكون حينئذ واجبا وجوبا أكيدا ناشئا عن مصلحة اكيدة ولا يكون مستحبا لا فعليا ولا اقتضائيا كما هو الحال في سائر موارد الوجوب الاكيد بخلاف القسمين الاخيرين فان العبادة المستحبة لما كان لها بدل غير مستحب صح ان يقال: انها واجبة ومستحبة، ولو كان الاستحباب اقتضائيا لا فعليا (أقول): لا فرق بين ما له بدل وما لا بدل له لان المصلحة القائمة بالعنوان إذا كان يجوز الترخيص في تركها حيث لم تكن لزومية فضمها إلى المصلحة اللزومية لا يوجب تأكد الوجوب فيكون في الموضوع وجوب فعلى واستحباب اقتضائي نعم يوجب تأكد الارادة وليست هي الوجوب ولا منتزع منها - مع أنه لو أوجبت تأكد الوجوب اقتضت ذلك حتى فيما له بدل لعدم الفرق فتكون العبادة المتحدة مع العنوان واجبة وجوبا أكيدا والبدل واجبا وجوبا غير أكيد (فالتحقيق) مجئ الاقسام الثلاثة بلا فرق بين العبادة المكروهة والمستحبة (قوله: إلا على القول) إذ على هذا القول يكون موضوع المصلحة الوجوبية غير موضوع المصلحة الاستحبابية فيمتنع تأكد الوجوب لتعدد الموضوع وكذا في صورة تلازم العنوان المستحب فانه أيضا يمتنع التأكد وحينئذ يثبت وجوب لموضوع المصلحة الزومية واستحباب لموضوع المصلحة الاستحبابية لكن الاستحباب لا يكون فعليا لامتناع اختلاف المتلازمين في الحكم بل يكون اقتضائيا لا غير (قوله: إلا اقتضائيا) وكذا في المتحد على القول بالجواز (قوله: غير متحد مع الخياطة) إذ الخياطة صفة

٣٨٦

وجودا اصلا كما لا يخفى (المنع) إلا عن صدق احدهما إما الاطاعة بمعنى الامتثال فيما غلب جانب الامر أو العصيان فيما غلب جانب النهي لما عرفت من البرهان على الامتناع (نعم) لا بأس بصدق الاطاعة بمعنى حصول الغرض والعصيان في التوصليات وأما في العبادات فلا يكاد يحصل الغرض منها إلا فيما صدر من المكلف فعلا غير محرم وغير مبغوض عليه كما تقدم (بقي) الكلام في حال التفصيل من بعض الاعلام والقول بالجواز عقلا والامتناع عرفا (وفيه) أنه لا سبيل للعرف في الحكم بالجواز أو الامتناع إلا طريق العقل فلا معنى لهذا التفصيل إلا ما اشرنا إليه من النظر المسامحي غير المبتنى على التدقيق والتحقيق وأنت خبير بعدم العبرة به بعد الاطلاع على خلافه بالنظر الدقيق وقد عرفت فيما تقدم أن النزاع ليس في خصوص مدلول صيغة الامر والنهي بل في الاعم فلا مجال لان يتوهم أن العرف هو المحكم في تعيين المداليل ولعله كان بين مدلوليهما حسب تعيينه تناف لا يجتمعان في واحد ولو

______________________________

قائمة بالثوب فكيف تكون متحدة مع الكون القائم بالمكلف إلا أن يراد من الخياطة حركة اليد المؤدية إليها ومن الكون في المكان ما يعم الحركة فيه (قوله: المنع إلا عن) يعني نمنع صدق الاطاعة والمعصية معا بل تصدق إحداهما لا غير (قوله: من بعض الاعلام) هو السيد الطباطبائي (ره) وربما استظهر من السلطان والمحقق القمي (ره) في بعض كلماته ونسب إلى الاردبيلي (قوله: إلا طريق) إذ الجواز والامتناع من أحكام العقل (قوله: بل في الاعم) يعني الاعم مما كان مدلولا عليه بالصيغة اللفظية أو بغيرها من أنواع الدال (اقول): عموم الدال لا ينفع بعد اتحاد المدلول فإذا بني على الامتناع في مدلول الصيغة لابد أن يبنى على الامتناع في غيره لان الامتناع من ذاتيات المدلول لا لخصوصية الدال فتأمل جيدا (قوله: المداليل) يعني اللفظية (قوله: ولعله كان) هذا من تتمة التوهم (قوله: حسب تعيينه) يعني تعيين العرف والله سبحانه ولي التوفيق وله الحمد فانه به حقيق

٣٨٧

بعنوانين وان كان العقل يرى جواز اجتماع الوجوب والحرمة في واحد بوجهين فتدبر

وينبغى التنبيه على أمور

(الاول) أن الاضطرار إلى ارتكاب الحرام وان كان يوجب ارتفاع حرمته والعقوبة عليه مع بقاء ملاك وجوبه - لو كان - مؤثرا له كما إذا لم يكن بحرام

______________________________

تنبيهات الاجتماع

(قوله: وان كان يوجب ارتفاع) لقبح التكليف حال الاضطرار بل امتناعه لما عرفت من أن قوام التكليف إحداث الداعي العقلي ليترتب عليه صرف العبد قدرته في موافقته من فعل أو ترك وهذا مما لا يتأتى مع الاضطرار - مضافا إلى أدلة رفع الاضطرار من الآيات والروايات فإذا ارتفع التكليف تبعه العقاب نعم يبقى الاشكال في صحة العبادة حينئذ مع كون الفعل مبغوضا في نفسه ومحرما لولا الاضطرار وسيأتي (قوله: مع بقاء ملاك وجوبه) إذ من المعلوم ان الاضطرار ليس من العناوين الموجبة ذاتا لارتفاع ملاك التكليف اعني المصلحة والمفسدة بل يجوز أن يكون الملاك مشروطا بالاختيار فبطروء الاضطرار يرتفع لارتفاع شرطه وان لا يكون مشروطا بالاختيار فبطروء الاضطرار لا يرتفع بل يبقى الفعل على ما هو عليه من المصلحة أو المفسدة (قوله: لو كان موثرا) كان تامة فاعلها ضمير الملاك (وموثرا) حال من ملاكه يعني بعد سقوط التحريم يبقى ملاك الوجوب موثرا في الوجوب ومقتضيا له لسقوط ملاك التحريم عن صلاحية المزاحمة له فيترتب عليه أثره فعلا (فان قلت): الاضطرار كما يرفع التحريم يمنع من ثبوت الوجوب فان الاختيار شرط في التكليف مطلقا بلا فرق بين الوجوب والتحريم

٣٨٨

بلا كلام الا انه إذا لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار بأن يختار ما يؤدى إليه لا محالة فان الخطاب بالزجر عنه حينئذ وان كان ساقطا الا أنه حيث يصدر عنه مبغوضا عليه وعصيانا لذاك الخطاب ومستحقا عليه العقاب لا يصلح لان يتعلق به الايجاب، وهذا في الجملة مما لا شبهة فيه ولا ارتياب وإنما الاشكال فيما إذا كان ما اضطر إليه بسوء اختياره مما ينحصر به التخلص عن محذور الحرام كالخروج عن الدار المغصوبة فيما إذا توسطها بالاختيار

______________________________

وغيرهما فكيف يثبت الوجوب لثبوت ملاكه بعد ارتفاع التحريم (قلت): محل الكلام ما إذا كان ملاك الوجوب ثابتا في فرد من الطبيعة المحرمة لا في نفس الطبيعة مطلقا والاضطرار إلى الطبيعة لا يكون اضطرارا إلى خصوص الفرد الواجد لملاك الوجوب فيجوز تعلق الوجوب به ويكون باعثا إليه. نعم يشكل ذلك لو كانت المفسدة أقوى لان الفعل يكون مرجوحا حينئذ ولا يجوز الامر بما هو مرجوح والاضطرار لا يوجب رجحان الوجود على العدم كي يكون الفعل راجحا ولو بالعرض نعم يكون واجبا عقلا لا شرعا نظير ارتكاب أقل القبيحين (قوله: بلا كلام) متعلق بقوله: يوجب، (قوله: الا انه إذا لم يكن) يعني ان ثبوت الوجوب يختص بغير هذه الصورة (قوله: بأن يختار) بيان للاضطرار بسوء الاختيار وضمير (إليه) راجع إلى الاضطرار (قوله: وان كان ساقطا) لان الزجر مساوق للانزجار كما عرفت فيمتنع بامتناعه (قوله: ومستحقا عليه) لانه مخالفة مستندة إلى الاختيار (قوله: لا يصلح لان يتعلق) لان الملاك المصحح لتعلق التحريم به قبل الاضطرار إليه مناف لملاك الوجوب فثبوت الوجوب له يكون بلا ملاك فيمتنع، ومنه يظهر اندفاع توهم أن ثبوت الوجوب له بعد الاضطرار لا يستدعي اجتماع الحكمين المتضادين لان المفروض سقوط التحريم بمجرد الاضطرار فالوجوب - على تقدير ثبوته - لا يكون مجتمعا مع التحريم ووجه الاندفاع ما عرفت الاشارة إليه من ان تضاد الاحكام إنما هو لتنافي ملاكاتها

٣٨٩

في كونه منهيا عنه أو مأمورا به مع جريان حكم المعصية عليه أو بدونه فيه أقوال. هذا على الامتناع، وأما على القول بالجواز فعن أبى هاشم انه مأمور به ومنهي عنه واختاره الفاضل القمي ناسبا له إلى اكثر المتأخرين وظاهر الفقهاء (والحق) أنه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه وعصيان له بسوء الاختيار ولا يكاد يكون مأمورا به كما إذا لم يكن هناك توقف(١) عليه أو بلا انحصار به

______________________________

ففرض ثبوت ملاك التحريم - كما هو لازم القول بكونه معصية - كاف في المنع عن تعلق الوجوب وسيأتي انشاء الله لذلك مزيد توضيح (قوله: في كونه منهيا عنه) ظرف مستقر خبر الاشكال (قوله: حكم المعصية) يعني استحقاق الذم والعقاب (قوله: أو بدونه) يعني أو مأمورا به بلا حكم المعصية (قوله: هذا على الامتناع) هذا التخصيص غير ظاهر فان أدلة الاقوال تقتضي عدم الفرق في كل قول منها بين الجواز والامتناع فلاحظها (قوله: وظاهر الفقهاء) لم يتضح وجه الاستظهار المذكور مع أن المشهور بين اصحابنا القول بالامتناع نعم ظاهر كثير منهم صحة صلاة الغاصب حال الخروج بل عن المنتهى الاجماع عليه لكنه لا يدل على كون الخروج مامورا به ومنهيا عنه فراجع (قوله: لم يكن هناك توقف) لا يخفى أن من توسط أرضا غصبا صار مضطرا إلى ارتكاب الحرام بمقدار أقل زمان يمكنه فيه الخروج ويكون مختارا فيما زاد على ذلك المقدار لامكان الخروج فلا يكون مرتكبا للحرام، وظاهر المتن توقف ترك التصرف الزائد على المقدار المضطر إليه على الخروج فيكون الخروج مقدمة له لكن صرح

______________

(١) لا يخفى انه لا توقف هاهنا حقيقة بداهة ان الخروج انما هو مقدمة للكون في خارج الدار لا مقدمة لترك الكون فيها الواجب لكونه ترك الحرام نعم بينهما ملازمة لاجل التضاد بين الكونين ووضوح الملازمة بين وجود الشئ وعدم ضده فيجب الكون في خارج الدار عرضا لوجوب ملازمه حقيقة فتجب مقدمته كذلك وهذا هو الوجه في المماشاة والجري على ان مثل الخروج يكون مقدمة لما هو الواجب من ترك الحرام فافهم. منه قدس سره (*)

٣٩٠

وذلك ضرورة انه حيث كان قادرا على ترك الحرام رأسا لا يكون عقلا معذورا في مخالفته فيما اضطر إلى ارتكابه بسوء اختياره ويكون معاقبا عليه كما إذا كان ذلك بلا توقف عليه أو مع عدم الانحصار به ولا يكاد يجدي توقف انحصار التخلص عن الحرام به لكونه بسوء الاختيار

______________________________

في حاشيته على المقام بمنع ذلك (وتوضيح) ما ذكر أن من المعلوم امتناع ان يكون الشئ الواحد في زمان واحد في مكانين لتضاد الكونين وحينئذ فكون المكلف في الزمان المعين في مكان ملازم لعدم كونه في مكان آخر - على ما عرفت في مبحث الضد من ملازمة احد الضدين لعدم الآخر من دون مقدمية بينهما أصلا - فكون المكلف في الزمان الزائد على زمان الخروج في المكان المباح ملازم لعدم كونه في المكان المغصوب لا أنه مقدمة له وإذا لم يكن مقدمة له لم يكن الخروج مقدمة له أيضا لان الخروج مقدمة إعدادية للكون في المكان المباح وما يكون مقدمة لاحد الضدين لا يكون مقدمة لعدم الآخر لان ما يكون مقدمة لاحد المتلازمين لا يكون مقدمة للملازم الآخر. نعم تصح نسبة المقدمية إليه بالعرض لا بالحقيقة (قوله: وذلك ضرورة أنه) هذا لا يصلح تعليلا إلا لاحد جزئي الدعوى (أعني كونه منهيا عنه وأنه عصيان للنهي) لا للجزء الآخر (أعني كونه ليس مأمورا به) فهو ينفي القول الثالث لا الثاني الا بملاحظة ما تقدم من أن ما يصدر مبغوضا وعصيانا لا يصلح لان يتعلق به الوجوب (قوله: كان قادرا على) يعني كان قبل الدخول في الارض المغصوبة قادرا على ترك التصرف الحرام لقدرته على ترك الدخول فان من لم يدخل في الارض لم يتصرف فيها أصلا لا بالدخول ولا بالخروج وإذا كان قادرا على ذلك كان التصرف في الارض بنحو الدخول أو بالخروج بعد الدخول حراما مقدورا على تركه فيكون معصية (قوله: فيما اضطر إلى) وهو التصرف بعد الدخول (قوله: بسوء اختياره) يعني اختياره للدخول (قوله: بلا توقف) يعني بلا أن يتوقف عليه التخلص (قوله: أو مع عدم) فان مقدمة الواجب إذا كانت محرمة ولا ينحصر التوصل إلى

٣٩١

(ان قلت): كيف لا يجديه ومقدمة الواجب واجبة ؟ (قلت) إنما تجب المقدمة لو لم تكن محرمة ولذا لا يترشح الوجوب من الواجب إلا على ما هو المباح من المقدمات دون المحرمة مع اشتراكهما في المقدمية، واطلاق الوجوب بحيث ربما يترشح منه الوجوب عليها مع انحصار المقدمة بها إنما هو فيما إذا كان الواجب أهم من ترك المقدمة المحرمة والمفروض ههنا

______________________________

الواجب بفعلها لا تكون واجبة (قوله: إن قلت كيف) يعني ان الحكم بوجوب المقدمة عقلي والحكم العقلي لا يقبل التخصيص فكيف يحكم بعدم وجوب الخروج مع أنه مقدمة للتخلص الواجب ؟ (قوله: إلا على ما هو المباح) مقدمة الواجب (تارة) تكون منحصرة بالمباح (وأخرى) منحصرة بالحرام (وثالثة) غير منحصرة باحدهما بأن تكون ذات فردين مباح وحرام (فان كانت) من الاول فلا ريب في ترشح الوجوب عليها - بناء على وجوب المقدمة - فتكون حينئذ مباحة بالذات واجبة بالعرض لكن وجوبها فعلي إن كانت اباحتها لا اقتضائية لعدم التزاحم بين المقتضي واللا مقتضي وإذا كانت اباحتها اقتضائية تزاحم مقتضيها مع مقتضي الوجوب فيكون الاثر للاقوى منهما، وان كانت من الثاني وقع التزاحم بين مقتضي الحرمة في المقدمة وبين مقتضي الوجوب في ذيها فيؤخذ بالاقوى منهما فان كان مقتضي الحرمة فيها أقوى بقيت على تحريمها وسقط وجوب ذيها، وإن كان مقتضي الوجوب فيها أقوى سقط تحريمها ووجبت مطلقا على المشهور أو في حال فعل الواجب بعدها بناء على المقدمة الموصلة، ومع تساوي المقتضيين تثبت الاباحة لكل منهما لا مطلقا بل بنحو يلازم إعمال احد المقتضيين فيجوز فعل المقدمة في ظرف فعل الواجب أعني ذاها على القول بالمقدمة الموصلة، وعلى المشهور يجوز فعل المقدمة المحرمة وان لم يفعل بعدها الواجب كما تقدم في مبحث المقدمة (وان كانت) من الثالث ثبت الوجوب للفرد المباح تعيينا ولا يثبت للمحرم لان مناط الوجوب تخييري ومناط التحريم تعييني والاول وإن كان

٣٩٢

وإن كان ذلك الا انه كان بسوء الاختيار ومعه لا يتغير عما هو عليه من الحرمة والمبغوضية والا لكانت الحرمة معلقة على ارادة المكلف واختياره لغيره وعدم حرمته مع اختياره له وهو كما ترى - مع أنه خلاف الفرض

______________________________

أقوى لا يزاحم الثاني وإن كان أضعف (قوله: وإن كان ذلك) يعني أهمية الواجب وهو التخلص عن الغصب من ترك الحرام وهو الخروج لكنه لا يخلو من تأمل لان الخروج نوع من الغصب فحرمته تثبت بمناط حرمة الغصب لا بمناط آخر فلا مقتضي للاهمية، وطول الزمان وان كان له دخل في زيادة الاهتمام لكنه لا يطرد إذ قد يكون زمان الخروج أطول من زمان التخلص المتوقف عليه كما لو علم بموت المالك بعد الخروج في زمان أقصر من زمان الخروج مع كونه وارثا له فالوجه في ترجح الخروج كونه أقل المحذورين وأهون القبيحين كما سيأتي (قوله: والا لكانت الحرمة) ظاهر العبارة أن المراد هو أنه لو كان الخروج واجبا بعد الدخول لزم كون حرمته معلقة على الكون في المكان المباح الملازم لترك الدخول، وعدمها معلقا على إرادته أي الخروج لكن لزوم اللازم الثاني غير ظاهر إذ الوجوب إنما يناط - عند القائل به - بمجرد الدخول ولو مع إرادة المكث فانه بالدخول حيث يتردد أمر الداخل بين المكث والخروج يكون الخروج واجبا ليتخلص به عن الغصب فلا يكون عدم حرمته معلقا على ارادته. نعم يتم ما ذكر لو كان أمر المكلف دائرا بين ترك الدخول وبين الدخول مع الخروج فهو إما أن يريد ترك الدخول أو يريد الدخول والخروج فمع الاول يكون الخروج حراما ومع الثاني لا يكون حراما، لكن محل الكلام ما إذا أمكنه المكث بعد الدخول (قوله: وهو كما ترى) يعني به بطلان كلا اللازمين (أما الاول) فلانه مع الكون في المكان المباح وترك الدخول يكون الخروج خارجا عن محل الابتلاء لمضادته للكون المذكور فلا معنى لحرمته حينئذ (وأما الثاني) فلما تقدم من أن وظيفة التكليف إحداث الارادة فيكون كالعلة لها فلا يكون معلولا لها، وإن شئت قلت: إن الشئ في ظرف

٣٩٣

وأن الاضطرار يكون بسوء الاختيار (ان قلت): إن التصرف في أرض الغير بدون اذنه بالدخول والبقاء حرام بلا إشكال ولا كلام وأما التصرف بالخروج الذي يترتب عليه رفع الظلم ويتوقف عليه التخلص عن التصرف الحرام فهو ليس بحرام في حال من الحالات بل حاله حال مثل شرب الخمر المتوقف عليه النجاة من الهلاك في الاتصاف بالوجوب في جميع الاوقات، ومنه ظهر المنع عن كون جميع أنحاء التصرف في أرض الغير مثلا حراما قبل الدخول وأنه يتمكن من ترك الجميع حتى الخروج، وذلك لانه لو لم يدخل لما كان متمكنا من الخروج وتركه وترك الخروج بترك الدخول رأسا ليس في الحقيقة الا ترك الدخول فمن لم يشرب الخمر لعدم وقوعه في المهلكة التي يعالجها به مثلا لم يصدق عليه الا انه لم يقع في المهلكة لا أنه مما ما شرب الخمر فيها إلا على نحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع كما لا يخفى (وبالجملة) لا يكون الخروج - بملاحظة كونه مصداقا للتخلص عن الحرام أو سببا له - إلا مطلوبا

______________________________

إرادته يكون واجبا فالتكليف به من قبيل تحصيل الحاصل (قوله: وان الاضطرار) بيان للفرض لان كونه بسوء الاختيار يقتضي كونه محرما وإلا كان من حسن الاختيار (قوله: من الحالات) يعني لا قبل الاضطرار ولا بعده (قوله: وذلك لانه لو) بيان لظهور المنع يعني أن المنع عن الخروج نوع من التكليف والتكليف بجميع أنواعه مشروط بالقدرة وقبل الدخول لا قدرة على الخروج حتى يصح المنع عنه فالمنع عنه حينئذ تكليف بغير المقدور ممتنع، (قوله: وترك الخروج) دفع لتوهم أن ترك الخروج مقدور قبل الدخول فلا وجه لدعوى عدم القدرة عليه (قوله: ليس في الحقيقة) إذ نسبة القدرة إلى الوجود والعدم نسبة واحدة فإذا لم يقدر على الخروج قبل الدخول لم يقدر على تركه أيضا (قوله: لا أنه ما شرب) يعني لا يصدق عليه أنه ممن لم يشرب الخمر في التهلكة (قوله: مصداقا للتخلص) لم يتوهم أحد كونه مصداقا

٣٩٤

ويستحيل أن يتصف بغير المحبوبية ويحكم عليه بغير المطلوبية (قلت): هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال على كون ما انحصر به التخلص مأمورا به وهو موافق لما أفاده شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - على ما في تقريرات بعض الاجلة، لكنه لا يخفى أن ما به التخلص عن فعل الحرام أو ترك الواجب إنما يكون حسنا عقلا ومطلوبا شرعا بالفعل وان كان قبيحا ذاتا إذا لم يتمكن المكلف من التخلص بدونه ولم يقع بسوء اختياره إما في الاقتحام في ترك الواجب أو فعل الحرام، وإما في الاقدام على ما هو قبيح وحرام لولا أن به التخلص بلا كلام

______________________________

للتخلص بل لا ريب عندهم في كونه مصداقا للغصب (قوله: ويستحيل أن) لان الاتصاف بغير المحبوبية يكون بلا منشأ مصحح (قوله: لكنه لا يخفى أن ما به) حاصل الاشكال أنه إذا توقف فعل الواجب أو ترك الحرام على فعل محرم بحيث دار أمر المكلف بين فعل ذلك المحرم الذي هو المقدمة، وبين تفويت ما يتوقف على ذلك المحرم من فعل الواجب وترك الحرام الذي هو ذو المقدمة فان كان هذا الدوران بغير اختيار المكلف صح دعوى انقلاب ذلك المحرم إلى كونه واجبا من جهة مقدميته لفعل الواجب أو لترك الحرام، أما إذا كان الدوران بسوء اختيار المكلف بحيث كان يمكن المكلف أن يفعل الواجب الذي هو ذو المقدمة بدون فعل الحرام الذي هو المقدمة أو كان يمكنه أن يترك الحرام بدون فعل المحرم الذي هو المقدمة وباختياره أوقع نفسه في الدوران المذكور لا ينقلب المحرم إلى الوجوب بل يبقى على تحريمه (قوله: ولم يقع) يعني ولم يضطر بسوء اختياره إلى الاقتحام في ترك ذي المقدمة أو الاقتحام في فعل الحرام الذي هو المقدمة، (قوله: أو فعل الحرام) معطوف على ترك الواجب وأحدهما على البدل يكون ذا المقدمة (قوله: ما هو قبيح) وهو المقدمة المحرمة (قوله: لو لا أن به التخلص) قيد لقوله: قبيح وحرام، وكذا قوله: بلا كلام، إذ المقدمة محرمة بلا كلام من الخصم لو لا جهة توقف التخلص عليها كالخروج فيما نحن

٣٩٥

كما هو المفروض في المقام ضرورة تمكنه منه قبل اقتحامه فيه بسوء اختياره، (وبالجملة) كان قبل ذلك متمكنا من التصرف خروجا كما يتمكن منه دخولا غاية الامر يتمكن منه بلا واسطة ومنه بالواسطة ومجرد عدم التمكن منه إلا بواسطة لا يخرجه عن كونه مقدورا كما هو الحال في البقاء فكما يكون تركه مطلوبا في جميع الاوقات فكذلك الخروج - مع أنه مثله في الفرعية على الدخول فكما لا تكون الفرعية مانعة عن مطلوبيته قبله وبعده كذلك لم تكن مانعة عن مطلوبيته وان كان العقل يحكم بلزومه إرشادا إلى اختيار أقل المحذورين وأخف القبيحين، ومن هنا ظهر حال شرب الخمر علاجا وتخلصا عن المهلكة وانه انما يكون مطلوبا على كل حال لو لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار وإلا فهو على ما هو عليه من الحرمة وان كان العقل يلزمه ارشادا إلى ما هو أهم وأولى بالرعاية من تركه

______________________________

فيه فانه حرام قطعا لو لا شبهة توقف التخلص من الغصب عليه (قوله: كما هو المفروض) قيد لقوله: يتمكن المكلف (قوله: تمكنه منه) أي من التخلص (قوله: اقتحامه فيه) يعني في الحرام (قوله: وبالجملة كان) رد على قول السائل: لانه لو لم يدخل... الخ (قوله: ذلك) اشارة إلى الاقتحام في الحرام بالدخول في الارض (قوله: يتمكن منه) يعني من الدخول (قوله: ومنه) يعني من الخروج (قوله: في جميع الاوقات) حتى قبل الدخول (قوله: مطلوبيته قبله) ضمير مطلوبيته راجع إلى البقاء وضمير (قبله وبعده) راجع إلى الدخول (قوله: وإن كان العقل) يعني بعد ما كان الخروج كالبقاء تصرفا محرما يدور الامر بينه وبين البقاء ويترجح هو عليه في نظر العقل لانه أقل المحذورين. ثم ان الطبعة البغدادية لا تخلو من نقص في المقام وأصل العبارة - كما في بعض النسخ الصحيحة - هكذا: يحكم بلزومه إرشادا إلى اختيار أقل المحذورين وأخف القبيحين، ومن هنا ظهر حال شرب الخمر علاجا وتخلصا عن المهلكة وأنه انما يكون مطلوبا على كل حال لو لم يكن

٣٩٦

لكون الغرض فيه أعظم فمن ترك الاقتحام فيما يؤدى إلى هلاك النفس أو شرب الخمر لئلا يقع في أشد المحذورين منهما فيصدق انه تركهما ولو بتركه ما لو فعله لادى لا محالة إلى أحدهما كسائر الافعال التوليدية حيث يكون العمد إليها بالعمد إلى اسبابها واختيار تركها بعدم العمد إلى الاسباب. وهذا يكفي في استحقاق العقاب على الشرب للعلاج وإن كان لازما عقلا للفرار عما هو اكثر عقوبة، ولو سلم عدم الصدق إلا بنحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع فهو غير ضائر بعد تمكنه من الترك ولو على نحو هذه السالبة ومن الفعل بواسطة تمكنه مما هو من قبيل الموضوع في هذه السالبة فيوقع نفسه بالاختيار في المهلكة أو يدخل الدار فيعالج بشرب الخمر

______________________________

الاضطرار إليه بسوء الاختيار وإلا فهو على ما هو عليه من الحرمة وان كان العقل يلزمه إرشادا إلى ما هو أهم وأولى... الخ (قوله: لكن الغرض) كذا في النسخة البغدادية والصحيح: لكون الغرض: وضمير فيه راجع إلى الاهم (قوله: من ترك الاقتحام) كذا في النسخة البغدادية والصحيح: فمن ترك، وجواب الشرط قوله: فيصدق وهذا رد على قول المستدل: فمن لم يشرب... الخ يعني أن من ترك الاقتحام فيما يؤدي إلى أحد الامرين من هلاك النفس وشرب الخمر بأن لم يعرض نفسه للهلاك الذي لا يندفع إلا بشرب الخمر يصدق عليه أنه تارك للهلاك وتارك لشرب الخمر (قوله: كسائر الافعال التوليدية) كان الاولى أن يقول: نظير الافعال التوليدية، فان شرب الخمر ليس من الافعال التوليدية (قوله: بالعمد إلى أسبابها) وان لم يتعلق العمد بها فان العمد المعتبر في ترتب العقاب غير العمد المعتبر في ترتب الثواب إذ يكفي في ترتب العقاب على المسبب العمد إلى السبب مع العلم بترتب المسبب عليه ولا يكفي ذلك في ترتب الثواب بل لا بد من العمد إلى المسبب نفسه (قوله: وان كان لازما) يعني الشرب لاجل العلاج (قوله: الا بنحو السالبة) كما اعترف به المستدل (قوله: فيوقع نفسه) بيان لكيفية التمكن من الفعل،

٣٩٧

ويتخلص بالخروج أو يختار ترك الدخول والوقوع فيهما لئلا يحتاج إلى التخلص والعلاج (إن قلت): كيف يقع مثل الخروج والشرب ممنوعا عنه شرعا ومعاقبا عليه عقلا مع بقاء ما يتوقف عليه على وجوبه لسقوط الوجوب مع امتناع المقدمة المنحصرة ولو كان بسوء الاختيار والعقل قد استقل بأن الممنوع شرعا كالممتنع عادة أو عقلا (قلت): أولا إنما كان الممنوع كالممتنع إذا لم يحكم العقل بلزومه إرشادا إلى ما هو أقل المحذورين وقد عرفت لزومه بحكمه فانه مع لزوم الاتيان بالمقدمة عقلا لا بأس في بقاء ذي المقدمة على وجوبه فانه حينئذ ليس من التكليف بالممتنع كما إذا كانت المقدمة ممتنعة (وثانيا) لو سلم فالساقط إنما هو الخطاب فعلا بالبعث والايجاب لا لزوم اتيانه عقلا خروجا عن عهدة ما تنجز عليه سابقا ضرورة أنه لو لم يأت به لوقع في المحذور الاشد ونقض الغرض الاهم حيث

______________________________

(قوله: أو يختار ترك) بيان لكيفية التمكن من الترك (قوله: مع بقاء ما يتوقف) يعني فإذا امتنع الجمع بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها فاما أن يسقط الوجوب فلا باعث على الخروج أو يسقط التحريم وهو المطلوب (قوله: قلت أولا) يعني أن الممنوع شرعا انما كان كالممتنع عقلا من جهة أن المنع الشرعي موجب لمنع العقل وفى ظرف المنع العقلي عن المقدمة لا يترتب البعث العقلي على التكليف بذيها لتضادهما كما لو كانت ممتنعة أما إذا كان العقل لا يمنع من فعل المقدمة بل كان يبعث إلى فعلها لانها أقل المحذورين فلا مانع من التكليف بذي المقدمة ففي الحقيقة لا جمع بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها بل ليس إلا وجوب ذيها لا غير وحرمة المقدمة ساقطة بالاضطرار إلى مخالفتها أو مخالفة الوجوب بضميمة كون مخالفتها أهون المحذورين، لكن سقوط مثل هذا التحريم نظير السقوط بالامتناع لا ينافي كون الفعل ممنوعا عنه شرعا لو لا الامتناع ويستحق العقاب على مخالفته ولو لاجل الامتناع وليس المدعى الا ذلك (قوله: إنما هو الخطاب) التكليف الذي يصلح للسقوط والثبوت ليس الا التكليف الاعتباري وهو جعل الكلفة المساوق للبعث العقلي

٣٩٨

أنه الآن كما كان عليه من الملاك والمحبوبية بلا حدوث قصور أو طروء فتور فيه أصلا وانما كان سقوط الخطاب لاجل المانع وإلزام العقل به لذلك إرشادا كاف لا حاجة معه إلى بقاء الخطاب بالبعث إليه والايجاب له فعلا فتدبر جيدا، وقد ظهر مما حققناه فساد القول بكونه مأمورا به مع إجراء حكم المعصية عليه نظرا إلى النهي السابق - مع ما فيه من لزوم اتصاف فعل واحد بعنوان واحد بالوجوب والحرمة ولا يرتفع غائلته باختلاف زمان التحريم والايجاب قبل الدخول أو بعده كما في الفصول مع اتحاد زمان الفعل المتعلق لهما وإنما المفيد اختلاف زمانه ولو مع اتحاد زمانهما وهذا أوضح من أن يخفى كيف ولازمه وقوع الخروج بعد الدخول عصيانا للنهي السابق وإطاعة للامر اللاحق فعلا ومبغوضا ومحبوبا كذلك بعنوان واحد. وهذا

______________________________

وأما الخطاب فهو لا يقبل ذلك لانه تدريجي متصرم. نعم يصلح للاتصاف بالحسن والقبح فيقال: يحسن الخطاب ويقبح، لكن حسنه وقبحه أيضا منوطان بترتب البعث العقلي عليه وعدمه ولا ينفك أحدهما عن الآخر فمع فرض أهمية الواجب يكون هو المبعوث إليه والواجب والمكلف به والذي يحسن الخطاب به (قوله: انه الآن) يعني بعد الاضطرار والدوران كما كان عليه قبلهما (قوله: السابق) يعني الساقط حين حدوث الاضطرار قبل الخروج ولذا كان الخروج بحكم المعصية لا معصية (قوله: كما في الفصول) واستدل عليه بانه لو كانت مبغوضية شئ في زمان مضادة لمطلوبيته في زمان آخر لامتنع البداء في حقنا مع وضوح جوازه وإنما لا يترتب هنا أثر الاول لرفع البداء له بخلاف المقام... الخ (أقول): المناسب تمثيل المقام بالبداء الحقيقي في حقه سبحانه فإذا كان مستحيلا كانت المحبوبية والمبغوضية في زمان لشئ واحد في زمان واحد كذلك لا بالبداء في حقنا إذ المصحح له في حقنا الجهل بالخصوصيات التي عليها الشئ واقعا والمقام ليس كذلك (قوله: مع اتحاد زمان) فان الفعل الواحد في زمان واحد لا يجتمع فيه ملاكا المحبوبية والمبغوضية ولو في زمانين (قوله: عصيانا للنهي)

٣٩٩

مما لا يرضى به القائل بالجواز فضلا عن القائل بالامتناع كما لا يجدي في رفع هذه الغائلة كون النهي مطلقا وعلى كل حال وكون الامر مشروطا بالدخول ضرورة منافات حرمة شئ كذلك مع وجوبه في بعض الاحوال (وأما) القول بكونه مأمورا به ومنهيا عنه ففيه - مضافا إلى ما عرفت من امتناع الاجتماع فيما إذا كان بعنوانين فضلا عما إذا كان بعنوان واحد كما في المقام حيث كان الخروج بعنوانه سببا للتخلص وكان بغير اذن المالك وليس التخلص الا منتزعا عن ترك الحرام المسبب(١) عن الخروج لا عنوانا له - أن الاجتماع هاهنا لو سلم انه لا يكون بمحال لتعدد العنوان وكونه مجديا في رفع غائلة التضاد كان محالا لاجل كونه طلب

______________________________

قد عرفت أن تضاد هذه الامور بتوسط تنافي ملاكاتها (قوله: وكون الامر مشروطا) هذا ذكره في الفصول لا بقصد رفع الاشكال بحيثيتي الاطلاق والاشتراط بل لتحقيق اختلاف زماني الحكمين وعليه فلا بد أن يكون المراد بالاطلاق عدم الاشتراط بالدخول لا الشامل لما بعد الدخول بقرينة قوله: فهما غير مجتمعين، وبنائه على سقوط النهي بالاضطرار المسقط له عقلا فكيف يكون له إطلاق يشمل حال الاضطرار ؟ (قوله: بعنوانه سببا) يعني بعنوانه الاولي فيكون واجبا بعنوانه الاولي كما تقدم في مبحث المقدمة (قوله: وكان بغير) يعني وكان بعنوانه الاولي بغير إذن المالك فيكون المحرم الخروج غير

______________

(١) قد عرفت مما علقت على الهامش ان ترك الحرام غير مسبب عن الخروج حقيقة وانما المسبب عنه هو الملازم له وهو الكون في خارج الدار. نعم يكون مسببا عنه مسامحة وعرضا وقد انقدح بذلك انه لا دليل في البين إلا على حرمة الغصب المقتضي لاستقلال العقل بلزوم الخروج من باب انه اقل المحذورين وانه لا دليل على وجوبه بعنوان آخر فحينئذ يجب اعماله ايضا بناء على القول بجواز الاجتماع كاحتمال النهي عن الغصب ليكون الخروج مأمورا به ومنهيا عنه فافهم. (منه قدس سره) (*)

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459