الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173030 / تحميل: 9109
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

( سورة البقرة وهي مائتان وستّ وثمانون آية)

( سورة البقرة الآيات ١ - ٥)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم( ١) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ  فِيهِ  هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ( ٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ( ٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ( ٤) أُولَئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ  وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( ٥)

( بيان)

لما كانت السورة نازلةً نجوما لم يجمعها غرض واحد إلّا أنّ معظمها تنبئ عن غايةٍ واحدةٍ محصّلةٍ وهو بيان أنّ من حقّ عبادة الله سبحانه أن يؤمن عبده بكل ما أنزله بلسان رسله من غير تفرّقة بين وحيٍ ووحيٍ ولا بين رسول ورسول ولا غير ذلك، ثمّ تقريع الكافرين والمنافقين وملامة أهل الكتاب بما ابتدعوه من التفرّقة في دين الله والتفريق بين رسله، ثمّ التخلّص إلى بيان عدّة من الأحكام كتحويل القبلة وأحكام الحجّ والارث والصوم وغير ذلك.

قوله تعالى : ( ألم ) ، سيأتي بعض ما يتعلّق من الكلام بالحروف المقطّعة الّتي في اوائل السور، في أوّل سورة الشورى إن شاء الله، وكذلك الكلام في معنى هداية القرآن ومعنى كونه كتاباً.

وقوله تعالى: ( هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ) الخ، المتّقون هم المؤمنون، وليست التقوى من الاوصاف الخاصّة لطبقة من طبقاتهم أعني: لمرتبة من مراتب الإيمان حتّى تكون مقاماً من مقاماته نظير الإحسان والإخبات والخلوص، بل هي صفة مجامعةٌ لجميع مراتب الإيمان إذا تلبّس الإيمان بلباس التحقّق، والدليل على ذلك أنّه تعالى لا يخصّ بتوصيفه طائفةً خاصّة من طوائف المؤمنين على اختلاف طبقاتهم ودرجاتهم والّذي أخذه تعالى من الأوصاف المعرّفة للتقوى في هذه الآيات التسع عشرة الّتي

٤١

يبيّن فيها حال المؤمنين والكفّار والمنافقين، خمس صفات، وهي الإيمان بالغيب، واقامة الصلاة، والانفاق ممّا رزق الله سبحانه، والإيمان بما انزله على أنبيائه، والإيقان بالآخرة، وقد وصفهم بأنّهم على هدى من ربّهم فدلّ ذلك على ان تلبسهم بهذه الصفات الكريمة بسبب تلبّسهم بلباس الهداية من الله سبحانه، فهم انّما صاروا متّقين اُولي هذه الصفات بهداية منه تعالى، ثمّ وصف الكتاب بأنّه هدى لهؤلاء المتّقين بقوله تعالى:( ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) فعلمنا بذلك: أنّ الهداية غير الهداية، وأنّ هؤلاء وهم متّقون محفوفون بهدايتين، هداية اولى بها صاروا متّقين، وهداية ثانية اكرمهم الله سبحانه بها بعد التقوى وبذلك صحّت المقابلة بين المتّقين وبين الكفّار والمنافقين، فإنّه سبحانه يجعلهم في وصفهم بين ضلالين وعمائين، ضلال أوّل هو الموجب لاوصافهم الخبيثة من الكفر والنفاق، وضلال ثان يتأكّد به ضلالهم الأوّل، ويتّصفون به بعد تحقق الكفر والنفاق كما يقوله تعالى في حق الكفّار:( خَتَمَ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) البقرة - ٧، فنسب الختم إلى نفسه تعالى والغشاوة إلى أنفسهم، وكما يقوله في حق المنافقين:( فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا ) البقرة - ١٠ فنسب المرض الأوّل إليهم والمرض الثاني إلى نفسه على حدّ ما يستفاد من قوله تعالى:( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ) البقرة - ٢٦، وقوله تعالى:( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ) الصف - ٥.

وبالجملة المتّقون واقعون بين هدايتين، كما أنّ الكفّار والمنافقين واقعون بين ضلالين.

ثمّ إنّ الهداية الثانية لما كانت بالقرآن فالهداية الاُولى قبل القرآن وبسبب سلامة الفطرة، فإنّ الفطرة إذا سلمت لم تنفكّ من أن تتنبّه شاهدة لفقرها وحاجتها إلى امر خارج عنها، وكذا احتياج كلّ ما سواها ممّا يقع عليه حسّ أو وهم أو عقل إلى امر خارج يقف دونه سلسلة الحوائج، فهي مؤمنة مذعنة بوجود موجود غائب عن الحسّ منه يبدء الجميع وإليه ينتهي ويعود، وأنّه كما لم يهمل دقيقة من دقائق ما يحتاج إليه الخلقة كذلك لا يهمل هداية الناس إلى ما ينجيهم من مهلكات الاعمال والاخلاق، وهذا هو

٤٢

الإذعان بالتوحيد والنبوّة والمعاد وهي ُصول الدين، ويلزم ذلك استعمال الخضوع له سبحانه في ربوبيّتة، واستعمال ما في وسع الإنسان من مال وجاه وعلم وفضيلة لإحياء هذا الإمر ونشره، وهذان هما الصلاة والإنفاق.

ومن هنا يعلم: إنّ الّذي أخذه سبحانه من إوصافهم هو الّذي يقضي به الفطرة إذا سلمت وإنّه سبحانه وعدهم إنّه سيفيض عليهم إمرً سمّاه هداية، فهذه الاعمال الزاكية منهم متوسّطة بين هدايتين كما عرفت، هداية سابقة وهداية لاحقة، وبين الهدايتين يقع صدق الاعتقاد وصلاح العمل، ومن الدليل على أنّ هذه الهداية الثانية من الله سبحانه فرع الُولى، آيات كثيرة كقوله تعالى:( يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ) ابراهيم - ٢٧. وقوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ) الحديد - ٢٨. وقوله تعالى:( إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - ٧. وقوله تعالى:( وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الصف - ٧. وقوله تعالى:( وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) الصفّ - ٥. إلى غير ذلك من الآيات.

والإمر في ضلال الكفّار والمنافقين كما في المتّقين على ما سيأتي إنشاء الله.

وفي الآيات إشارة إلى حياة ُخرى للانسان كامنة مستبطنة تحت هذه الحيإة الدنيويّة، وهي الحياة الّتي بها يعيش الإنسان في هذه الدار و بعد الموت وحين البعث، قال تعالى:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) الانعام - ١٢٣ وسيأتي الكلام فيه إنشاء الله.

وقوله سبحانه : يؤمنون الإيمان، تمكّن الاعتقاد في القلب ماخوذ من الإمن كأنّ المؤمن يعطي لما امن به الإمن من الريب والشكّ وهو آفة الاعتقاد، والإيمان كما مرّ معنى ذو مراتب، إذ الإذعان ربّما يتعلّق بالشئ نفسه فيترتّب عليه إثره فقط، وربّما يشتدّ بعض الاشتداد فيتعلّق ببعض لوازمه، وربّما يتعلّق بجميع لوازمه فيستنتج منه إنّ للمؤمنين طبقات على حسب طبقات الإيمان.

وقوله سبحانه : ( بِالْغَيْبِ ) ، الغيب خلاف الشهادة وينطبق على ما لا يقع عليه

٤٣

الحسّ، وهو الله سبحانه وآياته الكبرى الغائبة عن حواسّنا، ومنها الوحي هو الّذي اشير إليه بقوله:( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ) فالمراد بالإيمان بالغيب في مقابل الإيمان بالوحي والإيقان بالآخرة، هو الإيمان بالله تعالى ليتمّ بذلك الإيمان بالاصول الثلاثة للدين، والقرآن يؤكّد القول على عدم القصر على الحسّ فقط ويحرّص على اتّباع سليم العقل وخالص اللبّ.

وقوله سبحانه : ( وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) ، العدول في خصوص الاذعان بالاخرة عن الإيمان إلى الإيقان، كأنّه للإشارة إلى أنّ التقوى لا تتمّ إلّا مع اليقين بالاخرة الّذي لا يجامع نسيانها، دون الإيمان المجرّد، فإنّّ الإنسان ربّما يؤمن بشئ ويذهل عن بعض لوازمه فيأتي بما ينافيه، لكنّه إذا كان على علم وذكر من يوم يحاسب فيه على الخطير واليسير من اعماله لا يقتحم معه الموبقات ولا يحوم حوم محارم الله سبحانه البتّة قال تعالى:( وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) ص - ٢٦. فبيّن تعالى: أنّ الضلال عن سبيل الله إنّما هو بنسيان يوم الحساب، فذكره واليقين به ينتج التقوى.

وقوله تعالى : ( أُولَئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ) ، الهداية كلّها من الله سبحانه، لا ينسب إلى غيره البتّة الّا على نحو من المجاز كما سيأتي إن شاء الله، ولمّا وصفهم الله سبحانه بالهداية وقد قال في نعتها:( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره ) : لانعام - ١٢٥، وشرح الصدر سعته وهذا الشرح، يدفع عنه كلّ ضيق وشحّ، وقد قال تعالى:( وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) الحشر - ٩، عقّب سبحانه ههنا أيضاً قوله: اُولئك على هدىً من ربّهم، بقوله: واُولئك هم المفلحون الآية.

( بحث روائي)

في المعاني عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى: الّذين يؤمنون بالغيب، قال: من آمن بقيام القائمعليه‌السلام أنّه حقّ.

اقول: وهذا المعنى مروّي في غير هذه الرّواية وهو من الجرى.

٤٤

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) قال: وممّا علّمنا هم يبثّون.

وفي المعاني عنهعليه‌السلام : في الآية: وممّا علّمناهم يبثّون، وما علّمناهم من القرآن يتلون.

اقول: والرّوايتان مبنيّتان على حمل الإنفاق على الاعمّ من إنفاق المال كما ذكرناه.

( بحث فلسفي)

هل يجوز التعويل على غير الإدراكات الحسّيّة من المعاني العقليّة ؟ هذه المسألة من معارك الآراء بين المتأخرين من الغربيّين، وإن كان المعظم من القدماو حكماء الاسلام على جواز التعويل على الحسّ والعقل معا، بل ذكروا أنّ البرهان العلميّ لا يشمل المحسوس من حيث إنّه محسوس، لكنّ الغربيّين مع ذلك اختلفوا في ذلك، والمعظم منهم وخاصّة من علماء الطبيعة على عدم الاعتماد على غير الحسّ، وقد احتجّوا على ذلك بأنّ العقليّات المحضة يكثر وقوع الخطأ والغلط فيها مع عدم وجود ما يميّز به الصواب من الخطأ وهو الحسّ والتجربة المماسّان للجزئيّات بخلاف الإدراكات الحسّيّة فإنّا إذا أدركنا شيئاً بواحد من الحواسّ اتبعنا ذلك بالتجربة بتكرار الأمثال، ولا نزال نكرّر حتّى نستثبت الخاصّة المطلوبة في الخارج ثمّ لا يقع فيه شكّ بعد ذلك، والحجّة باطلة مدخولة.

أوّلاً: بأنّ جميع المقدّمات المأخوذة فيها عقليّة غير حسّيّة فهي حجّة على بطلان الاعتماد على المقدّمات العقليّة بمقدّمات عقليّة فيلزم من صحة الحجّة فسادها.

وثانياً: بأنّ الغلط في الحواسّ لا يقصر عدداً من الخطأ والغلط في العقليّات، كما يرشد إليه الأبحاث الّتي أوردوها في المبصرات وسائر المحسوسات، فلو كان مجرّد وقوع الخطأ في باب موجباً لسدّه وسقوط الاعتماد عليه لكان سدّ باب الحسّ أوجب وألزم.

وثالثاً: أنّ التميّز بين الخطأ والصواب ممّا لا بدّ منه في جميع المدركات غير أنّ التجربة وهو تكرّر الحسّ ليست آلة لذلك التميّز بل القضيّة التجربيّة تصير إحدى

٤٥

المقدّمات من قياس يحتجّ به على المطلوب، فإنّا إذا اُدركنا بالحسّ خاصّة من الخواصّ ثمّ اتبعناه بالتجربة بتكرار الأمثال تحصل لنا في الحقيقة قياس على هذا الشكل: إنّ هذه الخاصّة دائميّ الوجود أو أكثريّ الوجود لهذا الموضوع، ولو كانت خاصّة لغير هذا الموضوع لم يكن بدائميّ أو أكثريّ، لكنّه دائميّ أو اكثريّ وهذا القياس كما ترى يشتمل على مقدّمات عقليّة غير حسّيّة ولا تجربيّة.

ورابعاً: هب إنّ جميع العلوم الحسّيّة مؤيّدة بالتجربة في باب العمل لكن من الواضح ان نفس التجربة ليس ثبوتها بتجربة اُخرى وهكذا إلى غير النهاية بل العلم بصحّته من طريق غير طريق الحسّ، فالاعتماد على الحسّ والتجربة اعتمادٌ على العلم العقليّ اضطراراً.

وخامساً: أنّ الحسّ لا ينال غير الجزئيّ المتغيّر والعلوم لا تستنتج ولا تستعمل غير القضايا الكليّة وهي غير محسوسة ولا مجرّبة، فإنّّ التشريح مثلاً إنّما ينال من الإنسان مثلاً أفراداً معدودين قليلين أو كثيرين، يعطي للحسّ فيها مشاهدة أنّ لهذا الإنسان قلباً وكبداً مثلاً، ويحصل من تكرارها عدد من المشاهدة يقلّ أو يكثر وذلك غير الحكم الكليّ في قولنا: كلّ انسان فله قلب أو كبد، فلو اقتصرنا في الاعتماد والتعويل على ما يستفاد من الحسّ والتجربة فحسب من غير ركون على العقليّات من رأس لم يتمّ لنا إدراك كلّي ولا فكر نظريّ ولا بحث علميّ، فكما يمكن التعويل أو يلزم على الحسّ في مورد يخصّ به كذلك التعويل فيما يخصّ بالقوّة العقليّة، ومرادنا بالعقل هو المبدأ لهذه التصديقات الكليّة والمدرك لهذه الأحكام العامّة، ولا ريب أنّ الإنسان معه شئ شأنه هذا الشأن، وكيف يتصوّر أن يوجد ويحصل بالصنع والتكوين شئ شأنه الخطأ في فعله رأساً ؟ أو يمكن أن يخطئ في فعله الّذي خصّه به التكوين ؟ والتكوين إنّما يخصّ موجوداً من الموجودات بفعل من الافعال بعد تثبت الرابطة الخارجيّة بينهما، وكيف يثبت رابطة بين موجود وما ليس بموجود أي خطأ وغلط ؟

وأمّا وقوع الخطأ في العلوم أو الحواسّ فلبيان حقيقة الأمر فيه محلّ آخر ينبغي الرجوع إليه والله الهادي.

٤٦

( بحث آخر فلسفي)

الإنسان البسيط في أوائل نشأته حين ما يطأ موطأ الحياة لا يرى من نفسه إلّا انّه ينال من الأشياء اُعيانها الخارجيّة من غير أن يتنبّه أنّه يوسّط بينه وبينها وصف العلم، ولا يزال على هذا الحال حتّى يصادف في بعض مواقفه الشكّ أو الظنّ، وعند ذلك يتنبّه: أنّه لا ينفكّ في سيره الحيويّ ومعاشه الدنيويّ عن استعمال العلم لا سيّما وهو ربّما يخطئ ويغلط في تمييزاته، ولا سبيل للخطأ والغلط إلى خارج الاعيان، فيتيقّن عند ذلك بوجود صفة العلم (وهو الإدراك المانع من النقيض) فيه.

ثمّ البحث البالغ يوصلنا أيضاً إلى هذه النتيجة، فإنّّ إدراكاتنا التصديقيّة تحلّل إلى قضيّة أوّل الأوائل (وهى أنّ الايجاب والسلب لا يجتمعان معاً ولا يرتفعان معاً) فما من قضيّة بديهيّة أو نظريّة إلّا وهي محتاجة في تمام تصديقها إلى هذه القضيّة البديهيّة الأوّليّة، حتّى أنّا لو فرضنا من انفسنا الشّك فيها وجدنا الشّك المفروض لا يجامع بطلان نفسه وهو مفروض، وإذا ثبتت هذه القضيّة على بداهتها ثبت جمٌّ غفيرٌ من التصديقات العلميّة على حسب مساس الحاجة إلى اثباتها، وعليها معوّل الإنسان في أنظاره وأعماله.

فما من موقف علميّ ولا واقعة عمليّة إلّا ومعوّل الإنسان فيه على العلم، حتّى أنّه إنّما يشخّص شكّه بعلمه أنّه شّك، وكذا ظنّه أو وهمه أو جهله بما يعلم أنّه ظنّ أو وهم أو جهل هذا.

ولقد نشأ في عصر اليونانيّين جماعة كانوا يسمّون بالسو فسطائيّين نفوا وجود العلم، وكانوا يبدون في كلّ شئ الشّك حتّى في أنفسهم وفي شّكهم، وتبعهم آخرون يسمون بالشكّاكين قريبوا المسلك منهم نفوا وجود العلم عن الخارج عن أنفسهم وأفكارهم (إدراكاتهم) وربّما لفّقوا لذلك وجوها من الاستدلال.

منها: أنّ أقوى العلوم والإدراكات (وهي الحاصلة لنا من طرق الحواسّ) مملوّة

٤٧

خطأ وغلطاً فكيف بغيرها ؟ ومع هذا الوصف كيف يمكن الاعتماد على شئ من العلوم والتصديقات المتعلّقة بالخارج منّا ؟

ومنها: أنّا كلّما قصدنا نيل شئ من الأشياء الخارجيّة لم ننل عند ذلك إلّا العلم به دون نفسه فكيف يمكن النيل لشئ من الأشياء ؟ إلى غير ذلك من الوجوه.

والجواب عن الأوّل: أنّ هذا الاستدلال يبطل نفسه، فلو لم يجز الاعتماد على شئ من التصديقات لم يجز الاعتماد على المقدّمات المأخوذة في نفس الاستدلال، مضافاً إلى أن الاعتراف بوجود الخطأ وكثرته اعتراف بوجود الصواب بما يعادل الخطأ أو يزيد عليه، مضافاً إلى أنّ القائل بوجود العلم لا يدّعي صحّة كلّ تصديق بل إنّما يدّعيه في الجملة، وبعبارة اُخرى يدّعي الايجاب الجزئيّ في مقابل السلب الكلّي والحجّة لا تفي بنفي ذلك.

والجواب عن الثاني: أن محلّ النزاع وهو العلم حقيقته الكشف عن ماورائه فإذا فرضنا أنّا كلّما قصدنا شيئاً من الأشياء الخارجيّة وجدنا العلم بذلك إعترفنا بأنّا كشفنا عنه حينئذ، ونحن إنّما ندّعي وجود هذا الكشف في الجملة، ولم يدّع احد في باب وجود العلم: أنّا نجد نفس الواقع وننال عين الخارج دون كشفه، وهؤلاء محجوجون بما تعترف به نفوسهم اعترافا اضطراريّاً في أفعال الحياة الاختياريّة وغيرها، فإنّهم يتحرّكون إلى الغذاء والماء عند إحساس ألم الجوع والعطش، وكذا إلى كلّ مطلوب عند طلبه لاعند تصوّره الخالي، ويهربون عن كلّ محذور مهروب عنه عند العلم بوجوده لا عند مجرّد تصوّره، وبالجملة كلّ حاجة نفسانيّة ألهمتها إليهم احساساتهم أوجدوا حركة خارجيّة لرفعها ولكنّهم عند تصوّر تلك الحاجة من غير حاجة الطبيعة إليها لا يتحرّكون نحو رفعها، وبين التصوّرين فرق لا محالة، وهو أنّ احد العلمين يوجده الإنسان باختياره ومن عند نفسه والاخر إنّما يوجد في الإنسان بايجاد أمر خارج عنه مؤثّر فيه، وهو الّذي يكشف عنه العلم، فإذن العلم موجود وذلك ما اردناه.

واعلم: أنّ في وجود العلم شكّاً قويّاً من وجه آخر وهو الّذي وضع عليه اساس العلوم المادّيّة اليوم من نفي العلم الثابت (وكل علم ثابت)، بيانه: أنّ البحث العلميّ

٤٨

يثبت في عالم الطبيعة نظام التحوّل والتكامل، فكلّ جزء من أجزاء عالم الطبيعة واقعٌ في مسير الحركة متوجّه إلى الكمال، فما من شئ إلّا وهو في الآن الثاني من وجوده غيره وهو في الآن الأوّل من وجوده، ولا شكّ أنّ الفكر والإدراك من خواصّ الدماغ فهي خاصّة مادّيّة لمركّب مادّيّ، فهي لا محالة واقعة تحت قانون التحوّل والتكامل، فهذه الإدراكات (ومنها الإدراك المسمّى بالعلم) واقعة في التغيّر والتحوّل فلا معنى لوجود علم ثابت باق وإنّما هو نسبيّ، فبعض التصديقات أدوم بقاء وأطول عمراً أو أخفى نقيضاً ونقضاً من بعض آخر وهو المسمّى بالعلم فيما وجد.

والجواب عنه: أن الحجّة مبنية على كون العلم مادّيّاً غير مجرّد في وجوده وليس ذلك بيّنا ولا مبيّناً بل الحقّ أنّ العلم ليس بمادّيّ البتّة، وذلك لعدم إنطباق صفات المادّة وخواصّها عليه.

(١) فإنّّ المادّيّات مشتركة في قبول الانقسام وليس يقبل العلم بما أنّه علم الانقسام البتّة.

(٢) والمادّيّات مكانيّة زمانيّة والعلم بما أنّه علم لا يقبل مكاناً ولا زماناً، والدليل عليه إمكان تعقّل الحادثة الجزئيّة الواقعة في مكان معيّن وزمان معيّن في كل مكان وكلّ زمان مع حفظ العينيّة.

(٣) والمادّيّات بأجمعها واقعة تحت سيطرة الحركة العموميّة فالتغيّر خاصّة عموميّة فيها مع أن العلم بما أنه علم لا يتغيّر، فإنّّ حيثيّة العلم بالذات تنافي حيثيّة التغيّر والتبدّل وهو ظاهر عند المتأمّل.

(٤) ولو كان العلم ممّا يتغيّر بحسب ذاته كالمادّيّات لم يمكن تعقّل شئ واحد ولا حادثة واحدة فوقتين مختلفين معاً ولا تذكّر شئ أو حادثة سابقة في زمان لاحق، فإنّّ الشئ المتغيّر وهو في الآن الثاني غيره في الآن الأوّل، فهذه الوجوه ونظائرها دالة على أنّ العلم بما أنّه علم ليس بمادّيّ البتّة، وأمّا ما يحصل في العضو الحسّاس أو الدماغ من تحقّق عمل طبيعيّ فليس بحثنا فيه أصلاً ولا دليل على أنّه هو العلم، ومجرّد تحقّق عمل عند تحقّق أمر من الاُمور لا يدلّ على كونهما أمراً واحداً، والزائد على هذا المقدار من البحث ينبغي أن يطلب من محلّ آخر.

٤٩

( سورة البقرة الآيات ٦ – ٧)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ( ٦ ) خَتَمَ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِم  وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَة  وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ٧ )

( بيان)

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ، هؤلاء قوم ثبتوا على الكفر وتمكّن الجحود من قلوبهم، ويدلّ عليه وصف حالهم بمساواة الإنذار وعدمه فيهم، ولا يبعد أن يكون المراد من هؤلاء الّذين كفروا هم الكفّار من صناديد قريش وكبراء مكّة الّذين عاندوا ولجّوا في أمر الدين ولم يألوا جهداً في ذلك ولم يؤمنوا حتّى أفناهم الله عن آخرهم في بدر وغيره، ويؤيّده أنّ هذا التعبير وهو قوله:( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) ، لا يمكن استطراده في حقّ جميع الكفّار وإلّا انسدّ باب الهداية القرآن ينادي على خلافه، وأيضاً هذا التعبير إنّما وقع في سورة يس (وهي مكّية) وفي هذه السورة (وهي سورة البقرة أوّل سورة نزلت في المدينة) نزلت ولم تقع غزوة بدر بعد، فالأشبه أن يكون المراد( مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ، هيهنا وفي ساير الموارد من كلامه تعالى: كفّار مكّة في أوّل البعثة إلّا أن تقوم قرينة على خلافه، نظير ما سيأتي أنّ المراد من قوله تعالى:( الَّذِينَ آمَنُوا ) ، فيما اُطلق في القرآن من غير قرينة هم السابقون الأوّلون من المسلمين، خُصُّوا بهذا الخطاب تشريفاً.وقوله تعالى: ( خَتَمَ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ) الخ يشعر تغيير السياق: (حيث نسب الختم إلى نفسه تعالى والغشاوة إليهم أنفسهم) بأنّ فيهم حجاباً دون الحقّ في أنفسهم وحجاباً من الله تعالى عقيب كفرهم وفسوقهم، فأعمالهم متوسّطة بين حجابين: من ذاتهم ومن الله تعالى، وسيأتي بعض ما يتعلّق بالمقام في قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا ) .

واعلم : أنّ الكفر كالإيمان وصف قابل للشدّة والضعف فله مراتب مختلفة الآثار كالإيمان.

٥٠

( بحث روائي)

في الكافي عن الزبيريّ عن الصادقعليه‌السلام قال: قلت له: أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله عزّوجلّ، قال: الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه، فمنها كفر الجحود، والجحود على وجهين، والكفر بترك ما أمر الله، وكفر البرائة، وكفر النعم. فأمّا كفر الجحود فهو الجحود بالربوبيّة وهو قول من يقول: لا ربّ ولا جنّة ولا نار، وهو قول صنفين من الزنادقة يقال لهم الدهريّة وهم الّذين يقولون وما يهلكنا إلّا الدهر وهو دين وضعوه لأنفسهم بالإستحسان منهم ولا تحقيق لشئ ممّا يقولون: قال عزّوجلّ: إن هم إلّا يظنّون، أنّ ذلك كما يقولون، وقال: إنّ الّذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، يعني بتوحيد الله، فهذا أحد وجوه الكفر.

وأمّا الوجه الآخر فهو الجحود على معرفة، وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حقّ قد استقرّ عنده، وقد قال الله عزّوجلّ:( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ) ، وقال الله عزّوجلّ: وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين، فهذا تفسير وجهى الجحود، والوجه الثالث من الكفر كفر النعم وذلك قوله سبحانه يحكي قول سليمان: هذا من فضل ربّي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن يشكر فإنّما يشكر لنفسه ومن يكفر فإنّ الله غنيّ كريم، وقال: لئن شكرتم لأزيدنّكم ولئن كفرتم إنّ عذابي لشديد، وقال: فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون.

والوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر الله عزّوجلّ به، وهو قول عزّوجلّ:( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ) فكفّرهم بترك ما أمر الله عزّوجلّ به ونسبهم إلى الإيمان

٥١

ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده فقال: فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلّا خزىٌ في الحياة الدنيا ويوم القيمة يردّون إلى أشدّ العذاب وما الله بغافل عمّا تعملون.

والوجه الخامس من الكفر كفر البرائة وذلك قول الله عزّوجلّ يحكي قول إبراهيم:( كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ ) ، يعني تبرّأنا منكم، وقال: ( يذكر ابليس وتبرّيه من أوليائه من الإنس يوم القيامة ) إنّي كفرت بما أشركتمون من قبل، وقال: إنّما اتّخذتم من دون الله أوثاناً مودّة بينكم في الحياة الدنيا ثمّ يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً، يعني يتبرّأ بعضكم من بعض.

اقول: وهي في بيان قبول الكفر الشدّة والضعف كما مرّ.

٥٢

( سورة البقرة الآيات ٨ – ٢٠)

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ( ٨ ) يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( ٩ ) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا  وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ( ١٠ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ( ١١ ) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَّا يَشْعُرُونَ ( ١٢ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ  أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِن لَّا يَعْلَمُونَ ( ١٣ ) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ( ١٤ ) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( ١٥ ) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ( ١٦ ) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ ( ١٧ ) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ( ١٨ ) أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ  وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ( ١٩ ) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ  كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا  وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ  إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٢٠ )

٥٣

( بيان)

قوله تعالى: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ) إلى آخر الآيات، الخدعة نوع من المكر، والشيطان هو الشرير ولذلك سمّي إبليس شيطاناً.

وفي الآيات بيان حال المنافقين، وسيجئ إن شاء الله تفصيل القول فيهم في سورة المنافقين وغيرها.

وقوله تعالى: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) (الخ) مثل يمثل به حالهم، أنّهم كالّذي وقع في ظلمة عمياء لا يتميّز فيها خير من شر ولا نافع من ضار فتسبّب لرفعها بسبب من أسباب الإستضائة كنار يوقدها فيبصر بها ما حولها فلمّا توقدّت وأضائت ما حولها أخمدها الله بسبب من الأسباب كريح أو مطر أو نحوهما فبقى فيما كان عليه من الظلمة وتورّط بين ظلمتين: ظلمة كان فيها وظلمة الحيرة وبطلان السبّب.

وهذه حال المنافق، يظهر الإيمان فيستفيد بعض فوائد الدين باشتراكه مع المؤمنين في مواريثهم ومناكحهم وغيرهما حتّى إذا حان حين الموت وهو الحين الّذي فيه تمام الإستفادة من الإيمان ذهب الله بنوره وأبطل ما عمله وتركه في ظلمة لا يدرك فيها شيئاً ويقع بين الظّلمة الأصليّة وما أوجده من الظلمة بفعاله.

وقوله تعالى: ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ ) الخ، الصيّب هو المطر الغزير، والبرق معروف، والرعد هو الصوت الحادث من السحاب عند الإبراق، والصاعقة هي النازلة من البروق.

وهذا مثل ثان يمثّل به حال المنافقين في إظهارهم الإيمان، أنّهم كالّذي أخذه صيّب السماء ومعه ظلمة تسلب عنه الإبصار والتمييز، فالصيّب يضطرّه إلى الفرار والتخلّص، والظلمة تمنعه ذلك، والمهوّلات من الرعد والصاعقة محيطة به فلا يجد مناصاً عن أن يستفيد بالبرق وضوئه وهو غير دائم ولا باق متّصل كلّما أضاء له مشى وإذا أظلم عليه قام.

وهذه حال المنافق فهو لا يحبّ الإيمان ولا يجد بدّا من إظهاره، ولعدم المواطأة بين قلبه ولسانه لا يستضئ له طريقه تمام الإستضائة، فلا يزال يخبط خبطاً بعد خبط ويعثر عثرة بعد عثرة فيمشي قليلا ويقف قليلا ويفضحه الله بذلك ولو شاء الله لذهب بسمعه وبصره فيفتضح من أوّل يوم.

٥٤

( سورة البقرة الآيات ٢١ – ٢٥)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( ٢١ ) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ  فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٢٢ ) وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٢٣ ) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ  أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( ٢٤ ) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ  كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا  قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ  وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا  وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ  وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٢٥ )

( بيان)

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا ) الخ، لما بيّن سبحانه: حال الفرق الثلاث: المتّقين والكافرين، والمنافقين، وأنّ المتّقين على هدى من ربّهم والقرآن هدى لهم، وأنّ الكافرين مختوم على قلوبهم، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة وأنّ المنافقين مرضى وزادهم الله مرضاً وهم صمّ بكم عمى (وذلك في تمام تسع عشرة آية) فرّع تعالى على ذلك أن دعى الناس إلى عبادته وأن يلتحقوا بالمتّقين دون الكافرين والمنافقين بهذه الآيات الخمس إلى قوله: خالدون. وهذا السياق يعطي كون قوله:( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) متعلّقاً بقوله: اعبدوا، دون قوله خلقكم وإن كان المعنى صحيحاً على كلا التقديرين.

وقوله تعالى: ( فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ، الأنداد جمع ندّ كمثل،

٥٥

وزناً ومعنى وعدم تقييد قوله تعالى: وانتم تعلمون بقيد خاصّ وجعله حالاً من قوله تعالى:( فَلَا تَجْعَلُوا ) ، يفيد التأكيد البالغ في النهي بأنّ الإنسان وله علم مّا كيفما كان لا يجوز له أن يتّخذ لله سبحانه أنداداً والحال أنّه سبحانه هو الّذي خلقهم والّذين من قبلهم ثمّ نظم النظام الكونيّ لرزقهم وبقائهم.

وقوله تعالى: ( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ) أمر تعجيزيّ لإبانة إعجاز القرآن، وأنّه كتاب منزّل من عند الله لا ريب فيه، إعجازاً باقياً بمرّ الدّهور وتوالي القرون، وقد تكرّر في كلامه تعالى هذا التعجيز كقوله تعالى:( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) الاسراء - ٨٨، وقوله تعالى:( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) هود - ١٣. وعلى هذا فالضمير في مثله عائد إلى قوله تعالى: ممّا نزّلنا، ويكون تعجيزاً بالقرآن نفسه وبداعة أسلوبه وبيانه.

ويمكن أن يكون الضمير راجعاً إلى قوله: عبدنا، فيكون تعجيزاً بالقرآن من حيث أنّ الّذي جاء به رجل اُمّي لم يتعلّم من معلّم ولم يتلّق شيئاً من هذه المعارف الغالية العالية والبيانات البديعة المتقنة من أحد من الناس فيكون الآية في مساق قوله تعالى:( قُل لَّوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) يونس - ١٦، وقد ورد التفسيران معاً في بعض الأخبار.

واعلم: ان هذه الآية كنظائرها تعطي إعجاز أقصر سورة من القرآن كسورة الكوثر وسورة العصر مثلاً، وما ربّما يحتمل من رجوع ضمير مثله إلى نفس السورة كسورة البقرة أو سورة يونس مثلاً يأباه الفهم المستأنس بأساليب الكلام إذ من يرمي القرآن بأنه افتراء على الله تعالى إنّما يرميه جميعاً ولا يخصّص قوله ذاك بسورة دون سورة، فلا معنى لردّه بالتحدّي بسورة البقرة أو بسورة يونس لرجوع المعنى حينئذ إلى مثل قولنا: وإن كنتم في من سورة الكوثر أو الإخلاص مثلاً فأتوا بسورة مثل سورة يونس وهم بيّن الإستهجان هذا.

٥٦

( الإعجاز وماهيّته)

اعلم: أنّ دعوى القرآن أنّها آية معجزة بهذا التحدّي الذى أبدتها هذه الآية تنحّل بحسب الحقيقة إلى دعويين، وهما دعوى ثبوت أصل الإعجاز وخرق العادة الجارية ودعوى أنّ القران مصداق من مصاديق الإعجاز ومعلوم أنّ الدعوى الثانية تثبت بثبوتها الدعوى الاُولى، والقرآن أيضاً يكتفى بهذا النمط من البيان ويتحدّى بنفسه فيستنتج به كلتا النتيجتين غير أنّه يبقى الكلام على كيفيّة تحقّق الإعجاز مع اشتماله على ما لا تصدّقه العادة الجارية في الطبيعة من إستناد المسبّبات إلى أسبابها المعهودة المشخّصة من غير استثناء في حكم السببيّة أو تخلّف واختلاف في قانون العلّيّة، والقرآن يبيّن حقيقة الأمر ويزيل الشبهة فيه.

فالقرآن يشدق في بيان الأمر من جهتين.

الاولى: أنّ الإعجاز ثابت ومن مصاديقه القران المثبت لأصل الإعجاز ولكون منه بالتحدّي.

الثانية: أنّه ما هو حقيقة الإعجاز وكيف يقع في الطبيعة أمر يخرق عادتها وينقض كلّيّتها.

( إعجاز القرآن)

لا ريب في أنّ القرآن يتحدّى بالإعجاز في آيات كثيرة مختلفة مكّية ومدنيّة تدلّ جميعها على أنّ القرآن آية معجزة خارقة حتّى أنّ الآية السابقة أعني قوله تعالى:( وإن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ) الآية، اي من مثل النبيّ (صلى إليه عليه وآله وسلم) إستدلال على كون القرآن معجزة بالتحدّي على إتيان سورة نظيرة سورة من مثل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا أنّه إستدلال على النبوّة مستقيماً وبلا واسطة، والدليل عليه قوله تعالى في أوّلها:( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا ) ولم يقل وإن كنتم في ريب من رسالة عبدنا، فجميع التحديّات الواقعة في القرآن نحو استدلال

٥٧

على كون القرآن معجزة خارقة من عند الله، والآيات المشتملة على التحدّي مختلفة في العموم والخصوص ومن أعمّها تحدّيا قوله تعالى:( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) الأسراء - ٨٨، والآية مكّية وفيها من عموم التحدّي ما لا يرتاب فيه ذو مسكة.

فلو كان التحدّي ببلاغة بيان القرآن وجزالة أسلوبه فقط لم يتعدّ التحدّي قوماً خاصّاً وهم العرب العرباء من الجاهليّين والمخضرمين قبل اختلاط اللسان وفساده، وقد قرع بالآية أسماع الإنس والجنّ.

وكذا غير البلاغة والجزالة من كلّ صفة خاصّة إشتمل عليها القرآن كالمعارف الحقيقيّة والأخلاق الفاضلة والأحكام التشريعيّة والأخبار المغيّبة ومعارف اُخرى لم يكشف البشر حين النزول عن وجهها النقاب إلى غير ذلك، كلّ واحد منها ممّا يعرفه بعض الثقلين دون جميعهم، فإطلاق التحدّي على الثقلين ليس إلّا في جميع ما يمكن فيه التفاضل في الصفات.

فالقرآن آية للبليغ في بلاغته وفصاحته، وللحكيم في حكمته، وللعالم في علمه وللاجتماعيّ في اجتماعه، وللمقنّنين في تقنينهم وللسياسيّين في سياستهم، وللحكّام في حكومتهم، ولجميع العالمين فيما لا ينالونه جميعاً كالغيب والاختلاف في الحكم والعلم والبيان.

ومن هنا يظهر أنّ القرآن يدّعي عموم إعجازه من جميع الجهات من حيث كونه إعجازاً لكلّ فرد من الإنس والجنّ من عامّة أو خاصّة أو عالم أو جاهل أو رجل أو امرأة أو فاضل بارع في فضله أو مفضول إذا كان ذا لبّ يشعر بالقول، فإنّ الإنسان مفطور على الشعور بالفضيلة وإدراك الزيادة والنقيصة فيها، فلكلّ إنسان أن يتأمّل ما يعرفه من الفضيلة في نفسه أو في غيره من أهله ثمّ يقيس ما أدركه منها إلى ما يشتمل عليه القرآن فيقضي بالحق والنصفة، فهل يتأتّى القوّة البشريّة أن يختلق معارف إلهيّة مبرهنة تقابل ما أتى به القرآن وتماثله في الحقيقة ؟ وهل يمكنها أن تأتّي بأخلاق مبنيّة على أساس الحقائق تعادل ما أتى به القرآن في الصفاء والفضيلة ؟ وهل يمكنها

٥٨

أن يشرّع أحكاما تامّة فقهية تحصي جميع أعمال البشر من غير اختلاف يؤدّي إلى التناقض مع حفظ روح التوحيد وكلمة التقوى في كلّ حكم ونتيجته، وسريان الطهارة في أصله وفرعه ؟ وهل يمكن أن يصدر هذا الإحصاء العجيب والإتقان الغريب من رجل ُمّي لم يتربّ إلّا في حجر قوم حظّهم من الإنسانيّة على مزإياها الّتي لا تحصى وكمالاتها الّتي لا تغيّا أن يرتزقوا بالغارات الغزوات ونهب الاموال وأن يئدوا البنات ويقتلوا الإولاد خشية إملاق ويفتخروا بالآباء وينكحوا الإمّهات ويتباهوا بالفجور ويذمّوا العلم ويتظاهروا بالجهل وهم على أنفتهم وحميّتهم الكاذبة إذّلاء لكلّ مستذلّ وخطفة لكل خاطف فيوما لليمن ويوما للحبشة ويوما للروم ويومً للفرس ؟ فهذا حال عرب الحجاز في الجاهليّة.

وهل يجتري عاقل على أن يأتي بكتاب يدّعيه هدى للعالمين ثمّ يودعه أخبارً في الغيب ممّا مضى ويستقبل وفيمن خلت من الُمم وفيمن سيقدم منهم لا بالواحد والإثنين في أبواب مختلفة من القصص والملاحم والمغيّبات المستقبلة ثمّ لا يتخلّف شئ منها عن صراط الصدق ؟.

وهل يتمكّن إنسان وهو أحد أجزاء نشأة الطبيعة المادّيّة، والدار دار التحوّل والتكامل، أن يداخل في كلّ شأن من شئون العالم الإنسانيّ ويلقي إلى الدنيا معارف وعلوما وقوانين وحكما ومواعظ وأمثالا وقصصً في كلّ ما دقّ وجلّ ثمّ لا يختلف حاله في شئ منها في الكمال والنقص وهي متدرجّة الوجود متفرّقة الالقاء وفيها ما ظهر ثمّ تكرّر وفيها فروع متفرّعة على أصولها ؟ هذا مع ما نراه أنّ كلّ إنسان لا يبقى من حيث كمال العمل ونقصه على حال واحدة.

فالإنسان اللبيب القادر على تعقّل هذه المعاني لا يشكّ في أنّ هذه المزايا الكلّيّة وغيرها ممّا يشتمل عليه القرآن الشريف كلّها فوق القوّة البشريّة ووراء الوسائل الطبيعيّة المادّيّة وان لم يقدر على ذلك فلم يضلّ في إنسانيّته ولم ينس ما يحكم به وجدإنه الفطريّ أن يراجع فيما لا يحسن إختباره ويجهل مأخذه إلى أهل الخبرة به.

فإن قلت: ما الفائدة في توسعة التحدّي إلى العامّة والتعدّي عن حومه الخاصّة

٥٩

فإنّ العامّة سريعة الانفعال للدعوة والإجابة لكل صنيعة وقد خضعوا لإمثال الباب والبهاء والقاديانيّ والمسيلمة على أنّ ما أتوا به واستدلّوا عليه أشبه بالهجر والهذيان منه بالكلام.

قلت: هذا هو السبيل في عموم الإعجاز والطريق الممكن في تمييز الكمال والتقدّم في أمر يقع فيه التفاضل والسباق، فإنّ أفهام الناس مختلفة اختلافً ضروريّاً والكمالات كذلك، والنتيجة الضروريّة لهاتين المقدّمتين أن يدرك صاحب الفهم العالي والنظر الصائب ويرجع من هو دون ذلك فهما ونظرا إلى صاحبه، و الفطرة حاكمة والغريزة قاضية.

ولا يقبل شئ ممّا يناله الانسان بقواه المدركة ويبلغه فهمه العموم والشمول لكلّ فرد في كلّ زمان ومكان بالوصول والبلوغ والبقاء إلّا ما هو من سنخ العلم والمعرفة على الطريقة المذكورة، فإنّ كلّ ما فرض آية معجزة غير العلم والمعرفة فإنّما هو موجود طبيعيّ أو حادث حسّيّ محكوم بقوانين المادّة محدود بالزمان والمكان فليس بمشهود إلّا لبعض أفراد الانسان دون بعض ولو فرض محالا أو كالمحال عمومه لكلّ فرد منه فإنّما يمكن في مكان دون جميع الإمكنة، ولو فرض اتّساعه لكلّ مكان لم يمكن اتّساعه لجميع الإزمنة والإوقات.

فهذا ما تحدّى به القرآن تحدّيً عامًّ لكلّ فرد في كلّ مكان في كلّ زمان.

( تحدّيه بالعلم)

وقد تحدّى بالعلم والمعرفة خاصّة بقوله تعالى:( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) النحل - ٨٩، وقوله( وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) الانعام - ٥٩، إلى غير ذلك من الآيات، فإنّ الإسلام كما يعلمه ويعرفه كلّ من سار في متن تعليماته من كلّيّاته الّتي أعطاها القرآن وجزئيّاته الّتي أرجعها إلى النبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم)، بنحو قوله:( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) الحشر - ٧، وقوله تعالى:( لِتَحْكُمَ

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

س: ما هي التغيّرات الإيجابية التي لمستها في حياتك منذ اعتناقك الإِسلام؟

ج: لقد وجدتُ السلام الداخلي.. لقد عشتُ السلام في قلبي وروحي وفي علاقاتي بالآخرين، حتى باتت حياتي مستقرة، وانعكس ذلك على حياة ابنتيّ أيضاً، واندفعت إلى الحياة بقوة وإرادة أكبر، فعدت لمتابعة دراستي في الجامعة.

س: يعني أنك تشعرين الآن براحة أكبر من ذي قبل؟

ج: طبعاً، والحمد لله، أشعر بلذة كبرى أثناء الصلاة وصوم شهر رمضان المبارك، وأعلم أن عليّ أن أتعلم الكثير الكثير عن الإِسلام، فكلما وقعت على معرفة معينة تبيّن لي أن الذي أعرفه لا يوازي ذرة في كتاب هذا الوجود، فعليّ البحث أكثر، علماً أن حياة الفرد قصيرة، قياساً بما يجب أن يتعلّمه الإنسان في هذه الحياة.

س: على ضوء تجربتك، هل تقترحين أساليب معينة لدعوة غير المسلمين للإِسلام؟

ج: أتمنى أن تطابق أقوالنا أفعالنا، فنمارس قولاً وعملاً ما تدعو إليه العقيدة الإِسلامية، وأن نستحضر الله تعالى في كل ما نقوم به، ونسير على هدي النبي محمد (ص) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، وأن نحدّث الناس عن الإِسلام باللين والكلمة الحسنى، وألا تزعزع الأزمات والمصاعب إيماننا بالله تعالى.

س: ما هو الدور الذي تقومين به أو تنوين القيام به لخدمة الدعوة الإِسلامية؟

ج: أبذل قصارى جهدي لأتمتع بصفات المرأة المسلمة المتديّنة، وهذا بحد ذاته دعوة إلى الله من خلال أفعالي وسلوكي، وأسأل الله أن أكون عند حسن ظنه تعالى.

س: ما مدى إمكانية الدعوة إلى الدين الحنيف في بلادك؟

ج: يحتاج الإِسلام في بلادي إلى القدوة الحسنة، فبقدر ما يلتزم المسلمون بتعاليم الإِسلام هنا، يسهل تغلغل الإِسلام إلى القلوب والعقول، فالإِسلام يحمل بداخله مقومات قادرة على إنقاذ الناس من التيه والضياع ولجوئهم إلى المخدرات، وبإمكان هذا الدين إنقاذنا من الغرائز المنحطة التي سجن الإنسان نفسه خلف قضبانها.

لقد وضع الإِسلام في أيدينا المفتاح إلى الجنة، وكل ما علينا هو إدارة هذا المفتاح للولوج إلى عالم الآخرة، ولا يكون ذلك إلا باتباع أوامر الله تعالى وسُنَّة نبيه (ص) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) برضىً وطمأنينة.

١٤١

س: كيف ترين أوضاع المسلمين الحالية؟

ج: في الواقع أجد الكثيرين منهم منغمسين في أمور دنياهم دون الالتفات إلى أمر الآخرة، وهؤلاء كسالى عن الدعوة إلى الله، وعن تطبيق الإِسلام في حياتهم الفردية والاجتماعية، همّهم الاستمتاع بهذه الدنيا الفانية التي تعمي بصائرهم عن سعادة الإيمان والتقوى والعمل بما أنزله الله تعالى.

س: كيف ترين أوضاع المرأة المسلمة؟

ج: أعلّم ابنتيّ أنهما غاليتان، وعليهما ألا تفرطا بنفسيهما بثمن بخس، فالفتاة أم المستقبل وعلى الجميع من حولها احترامها. وعلى جميع الرجال المسلمين حماية النساء، وعلى هؤلاء أيضاً حماية أنفسهن.

لقد وُهبنا والحمد لله هذا الإيمان، ولكن هذا الإيمان يجب أن يتسع ويقوى، ويتغلب على جميع الشرور التي تتجه إلى تشويه دور المرأة كواهبة للحياة، ومنارة للحب والراحة والسرور.

١٤٢

الأخت المسلمة السويدية

الدكتورة سمية «بارنيللا» تقول لـ «نور الإِسلام»

· العناية الإلهية شملتني بألطافها ووضعتني على طريق الهداية إلى دين الله تعالى.

· الإِسلام دين المنطق والعدل، يقبل النقاش العقلي الحر. ويضفي التوازن على كل جوانب الحياة الإنسانية.

· أدعو المرأة المسلمة وخاصة في البلاد الإِسلامية. لتعتبر أن حصنها هو حجابها، وأن التزامها بدينها هو طريق تقدّمها ومستقبلها. لا تقليد الحضارة الغربية الزائفة.

السويد كغيرها من الدول الغربية التي نجح الإِسلام، بما يمتلكه من قوة الإقناع، أن يستقطب إلى صفوفه أعداداً متزايدة من أبنائها الذين أتيح لهم أن يطلعوا على أفكاره ونظمه.. فلا أسوار التعصب والجهل التاريخية، ولا حواجز الحضارة المادية بكل بهارجها ومغرياتها، ولا الدعايات المضادة للإِسلام بكل لؤمها وخبثها.. ليس كل هذا بقادر على أن يمنع أنوار الهداية الإلهية، من أن تضيء العقول والنفوس التي تهفو إلى الحق وتبحث عن الحقيقة.

هذه الحقيقة تؤكدّها وتبيّنها بوضوح حكاية الأخت المسلمة السويدية الدكتورة سمية - بارنيللا سابقاً - مع الإِسلام الذي شدّها إليه وضوح عقيدته وعقلانيته وشمولية رسالته، فاستنقذها كما تقول مما كانت تعانيه من فراغ عقائدي وروحي، ومنحها الطمأنينة والدافع لكي تنخرط في نشاطات فكرية واجتماعية عديدة من أجل رعاية المسلمين في منطقتها، وحمل مهمة تبليغ الإِسلام في أنحاء دولة السويد كافة.

في منزلها الزوجي في بلدة «شاملينغ» التابعة لمدينة لوند السويدية، التقتها «نور الإِسلام» بحضور زوجها الأخ جميل الجزائري الجنسية، وأطفالها الأربعة، ومنهم ابنتها التي ذكرت لنا أنها الوحيدة المحجبة في صفها، وهي معتزة بذلك.. وبعد الترحيب كان السؤال الأول:

س: كيف تصفين لنا رحلتك نحو اعتناق الإِسلام؟

ج: في الحقيقة أنا أعتبر أن العناية الإلهية هي التي شملتني بألطافها ووضعتني على طريق الهداية لدين الله تعالى، الذي اختاره وارتضاه ليقود خطى البشرية نحو شاطىء الأمان، وهو الدين الصالح لكل زمان ومكان.

١٤٣

وكانت رحلتي نحو الإِسلام قد بدأت منذ أوائل الثمانينيات، وهي لم تكن سهلة أو سريعة، حيث أخذتُ متسعاً من الوقت للاطلاع والتأمل، قبل أن أتخذ القرار السعيد باعتناق الإِسلام والالتزام بتعاليمه والجهر بذلك، بعدما حصل لديّ الاقتناع واليقين بصحة هذه الخطوة المصيرية بالنسبة إليّ.. وإذا شئتم ذكر بعض التفاصيل حول الكيفية التي تعرّفت فيها إلى الإِسلام والتي قادتني إليه، فإن الفضل في ذلك بعد التوفيق الإلهي يعود إلى أختي مريم، التي نشأتُ معها في قريتنا «سفل - Siffle »، وكانت قد اختارت الدراسة الجامعية في إحدى الجامعات الصينية، وهناك رغبت في الاطلاع على البوذية بحكم الفراغ العقائدي الذي كانت تعيشه، ولكن بحمد الله، فإن الطريق بدلاً من أن يقودها إلى البوذية أوصلها إلى الإِسلام، حيث تعرّفت هناك إلى مجموعة من الطلاب المسلمين الذين كانوا يدرسون في الجامعة نفسها، وبواسطتهم اطلعت على الإِسلام فاقتنعت به وأعلنت إسلامها، وتزوّجت من أحد الطلبة المصريين. وعندما عادت إلى السويد جرى بيني وبينها نقاشات مطوّلة حول الإِسلام، جعلت صدري ينشرح لهذا الدين، وأعادتني إلى التفكير بالحياة الدينية والروحية بعد أن كنت غير مبالية، وهذا ما دفعني إلى مزيد من الاطلاع على الإِسلام، فكان لي لقاءات مع بعض الطلبة المسلمين المثقفين الذين أجلوا لي بعض الغوامض وزودوني بالعديد من الكتب التي استفدت منها كثيراً، حيث بدأتُ أحصل على أجوبة مقنعة على الأسئلة التي كان تحيّرني وتبعث في نفسي الشك، وهكذا وجدت الإِسلام دين العقل والمنطق والعدل، ووجدته يؤمّن التوازن بين العقل والعاطفة، وفي كل جوانب الحياة الإنسانية، ويضع للإنسان منهجاً يؤمّن له السعادة في الحياتين.. الدنيا والآخرة، كما يطرح حلولاً متميزة لكل المشاكل التي تعترض حياة الإنسان، وهذا ما دفعني للتحول نحوه.

س: كيف كان صدى التزامك بالإِسلام بين أهلك وفي محيطك؟

ج: قبل ارتدائي الحجاب والالتزام باللباس الشرعي، اقتصر رد فعل أهلي وأصدقائي على بعض التعجّب والتساؤل عمّا إذا كنت سأثبت على قناعاتي الجديدة، وعمّا إذا كنت سأتعدّى مجرد القناعة إلى الالتزام الظاهري، ولكن بعد زواجي ذهبتُ مع زوجي جميل إلى الجزائر، وهناك التزمتُ بالحجاب واللباس الشرعي، وبعد عودتي إلى السويد واجهتُ الكثير من الاستغراب والأسئلة المعترضة على وضعي الجديد سواءً من الأهل أو الأصدقاء حيث لم يكن أحد يتصوّر أنني سألتزم إلى هذا الحد، وقد عرفوني سابقاً غير مبالية بالدين، ولم يدر في خلدهم أن الإِسلام أمر مختلف وأنه ليس مجرد ديانة تعنى بباطن الفرد فقط، بل هو أسلوب للحياة والتعامل.

١٤٤

وبارتدائي الحجاب في ذلك الوقت، أصبحت في نظرهم أنتمي إلى الأقليات المسلمة التي يتجنبها الإنسان السويدي، الذي هو بطبيعته يعيش العزلة والخوف من الجديد والمختلف، غير أن هذا لم يمنعني من أن أشق طريقي بكل ثقة وصبر، وأن أفرض احترامي واحترام ما التزمت به على الكثيرين ممن تبرموا في البداية.

س: كيف ترين أهمية الحجاب بالنسبة إلى المرأة المسلمة وخصوصاً في الغرب؟

ج: الحجاب بنظري هو حصن تعيش المرأة في داخله بكل طمأنينة، واثقة بالنفس، وهو يفسح المجال أمام المرأة للتفكير بما هو أهم من الملابس والزينة، ويعطيها الفرصة لتصبّ جهودها أكثر على ما يدفعها ويدفع محيطها للتقدّم، لأنها تحرّر نفسها من الاستغلال الرخيص لأنوثتها فتتحرّر من سطوة جشع تجار الأزياء وتفاهاتهم، ومن عبث وفساد وسائل الإعلام والإعلان التي تسيّر النساء الفارغات في عالمنا المعاصر.

س: هل يمكن أن تعطينا صورة عن المستوى العلمي الذي توصّلت إليه وعن مجال عملك؟

ج: لقد تابعتُ دراستي بعد إسلامي حتى نلتُ شهادة الدكتوراه من جامعة لوند، وذلك في قسم البيئة البشرية، وكان موضوع أطروحتي هو «المسلمون في الشرق الأوسط»، الذي هو محل اهتمامي الشخصي، وهذا ما اقتضي مني زيارة عدة دول إسلامية في الشرق الأوسط لاستكمال المعلومات حول هذا الموضوع، وأنا الآن أعمل باحثة في جامعة لوند نفسها.

س: علمنا أن لديك نشاطات إسلامية متعددة، فما هي؟

ج: لقد انتخبتُ عضواً في الأكاديمية الإِسلامية، وهي جمعية تضم الجامعيين المسلمين في جميع أنحاء السويد، وتهتم بالتعريف بالإِسلام، وإجلاء صورته في المجتمع السويدي، والدعوة إليه عن طريق المحاضرات والندوات والكتب والمنشورات، وأنا أساهم قدر طاقتي في نشاطات هذه الجمعية.

١٤٥

أمّا نشاطي الإِسلامي الأساسي فيتم من خلال النادي النسائي في مدينة لوند وجمعية الإرشاد الإِسلامية الخاصة بالنساء المسلمات السويديات والمهاجرات، وتهتم الجمعية بالتوعية الثقافية الإِسلامية عن طريق تدريس التربية الدينية والعلوم الإِسلامية واللغة العربية. وتقيم الجمعية الندوات واللقاءات العامة، كما تنظم زيارات للمدارس والجامعات بهدف التبليغ الإِسلامي. إلى جانب ذلك، لدينا اهتمام خاص بالأطفال لتنشئتهم نشأة إسلامية سليمة، وإبعادهم عن المحيط المنحرف.

س: ما رأيك بمستقبل النشء المسلم الجديد في السويد والمجتمعات الغربية؟

ج: برأيي أن الأطفال المسلمين سيواجهون صعوبة أقل لدى انخراطهم بالمجتمعات الغربية، لأنه من الأسهل عليهم فهم تركيبة المجتمع الذي نشأوا فيه والتكيّف معه بمرونة أكثر من كبار السن المهاجرين، سواء في السويد أم في غيرها.

س: ما هي المشكلات التي يعاني منها المسلمون في السويد؟

ج: يعاني المسلمون في السويد من مشاكل عدة، تنعكس سلباً على تحسين أوضاعهم، منها:

- انخفاض المستوى التعليمي، حيث أن الأكثرية منهم جاءوا إلى السويد للاستفادة من الرفاهية المادية الموجودة هنا، وهذا ما يعيقهم عن الحصول على وظائف عالية.

- المشاكل القائمة بين المجموعات المسلمة ذاتها، حيث يختلف بعضهم على المرجعية التي تبتّ في القضايا المهمة التي تهم جميع المسلمين.

س: كيف ينظر السويديون والغربيون عامة إلى المسلمين الموجودين بينهم؟

ج: يصنّف المسلمون في الغرب عادة إلى قسمين: قسم يسمّونهم متطرفين، وهم الذين يتمسّكون بدينهم ويطبقون شعائره ولا يجاملون في ذلك. وقسم آخر يسمّونهم معتدلين، وهم عادة الذين لا يبالون بأمور الدين ويهملون واجباتهم الشرعية، لأنهم متأثرين بالحياة الغربية المادية. ولكن على العموم فإن نظرة الغربيين إلى الإِسلام والمسلمين هي عموماً سلبية، وهي ناشئة عن رؤيتهم الحضارية والدينية المختلفة والاحتكاكات التاريخية، كما أن الإعلام المعادي الموجّه يغذي هذه النظرة السلبية، ويعمل على تضخيم وهم الخطر الإِسلامي على الغرب. كما لا ننسى هنا أخطاء المهاجرين المسلمين وأفعال الكثيرين منهم التي تعطي صورة سيئة عنهم، وعمّا يمثلون.

١٤٦

ولا يعني هذا أن ليس هناك تفهّم للإِسلام وتعاطف مع المسلمين وقضاياهم لدى جهات وأشخاص كثيرين في الغرب، وهنا تأتي مسؤولية المسلمين لكي يبذلوا الجهود المضاعفة كي تتسع هذه النظرة الإيجابية للإِسلام في الغرب.

س: هل من كلمة أخيرة؟

ج: أريد أن أوجّه عبر مجلتكم الموقرة نداءً مختصراً إلى المرأة المسلمة عموماً وإلى النساء في البلاد الإِسلامية بشكل مباشر لأدعوهن إلى مزيد من الوعي والتعقل والتمسك بالإِسلام، هذه الرسالة العظيمة، كي يساهمن بشكل أفضل في تماسك وتطوير وسلامة مجتمعاتهن لإبعادها عن الموبقات والمفاسد التي تعصف بالمجتمعات الغربية، والتي تحطّ من قدر الإنسان، وألا ينخدعن بمظاهر الحياة الغربية ومغرياتها وحرياتها الزائفة، التي تزيّنها لهن وسائل الإعلام المفسدة، فهذه لا تؤدي إلّا إلى سقوطهن وتدمير كل مقومات القوة التي يوفرها لهن الإِسلام في أنفسهن ومجتمعاتهن، وأني آمل من كل اللواتي انبهرن بهذه القشور وتخلين عن مزايا شخصيتهن الإِسلامية الكريمة أن يراجعن أنفسهن ويواجهن الحقيقة بإرادة وصدق.

١٤٧

الأخ المسلم البريطاني جان هانز (محمد علي)

يقول:

· السلوك النظيف والقويم لبعض العمّال المسلمين الملتزمين جعلني أُكبِر الإِسلام وأرغب في اعتناقه.

· في الغرب نحلم بالسعادة ولا نجدها، بل نعيش الحسرة والأسف عند انقضاء كل متعة ننالها.

· تفرّغت لطلب العلوم الدينية الإِسلامية من أجل خلاص نفسي وهداية أهلي ومجتمعي.

· النبي الأعظم (ص) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) هم معلمو البشر وقادتهم، ويجب أن نتخذهم قدوة لنا.

في الوقت الذي تنتشر فيه الفلسفات المادية والتيارات الإلحادية وهي تغزو وسائل الإعلام في كل قطر وبلد، مدعومة بأحدث وسائل الاتصال والنشر. تجد ثلّة من الناس طريقها الواضح المستقيم، وسط الغبار والزحام المتراكم من الأيديولوجيات والأفكار، مهتدية بنور الإِسلام الذي يجذب إلى ساحته كثيراً ممن أنعم الله عليهم بنعمة الدين الحنيف، ومن قلب الغرب الذي أدار ظهره للدين منذ أن أعرض عن النهج الإلهي، في مطلع النهضة العلمية التي حققت له رفاهية مادية ولكنها فشلت في أن توصله إلى رحاب الطمأنينة وواحة السعادة في هذه الدنيا فضلاً عن الآخرة. من بين هؤلاء النخبة المهتدية، نبدأ حديثنا عن إسلام الشاب البريطاني جان هانز «محمد علي» بهذه اللمحة الدالة التي توجز حوار مجلة «نور الإِسلام» مع هذا الشاب المهتدي.

التقيناه في رحاب المقام الشريف للسيدة زينب (عليها السلام) في ضاحية دمشق الشام، هناك ذات مساء، بعد أداء شعائر الزيارة المباركة، وبعد الفراغ من الصلاة، من بين تلك الوجوه الطيبة التي أمّت المقام الشريف، طالعنا بوجهه المشرق وثغره المبتسم، والطريف في هذا الأمر، أن هذا الشاب كان يرتدي الزي الخاص بطلاب العلم الديني، وكان مظهره يحمل أكثر من دلالة.. بعد أن رحبنا به دار بيننا الحوار التالي:

١٤٨

س: هل لك أن تعطينا لمحة عن نشأتك؟

ج: نعم بكل ترحيب، وُلدت في بريطانيا، وعشتُ طفولتي كأي فرد مسيحي، يذهب مع عائلته إلى الكنيسة أيام الآحاد والأعياد، ولم أكن أشعر بأن شيئاً يمكن أن يطرأ على حياتي فيبدلها، ولكني كنت أشعر كأكثر الناس بأن الحياة تمضي بنا حثيثية دون أن تحمل إلينا معنى أو هدفاً نبيلاً، فالناس تعيش دون مُثُل أو قيم، مكتفية بالاستغراق في الحياة المادية العابثة التي تجعل منّا أناساً أشبه بالأنعام التي تعيش ليومها ولا تفكر بغد.

كانت حياتنا رتيبة، نحلم بالسعادة ولا نجدها، فتشنا عنها كثيراً فلم نجدها في حدود متع الدنيا ولذاتها، بل كنا نصاب بالحسرة والأسف عند انقضاء كل متعة ننال منها نصيباً، لهذا كنا نعيش حياة ينتهي وجودنا بانتهائها؛ ولهذا كان الكثير من الشباب يفكرون بالتخلص من هذه الحياة الفارغة، إما بالهروب إلى المخدرات، هروباً آنياً وإمّا بالانتحار. وقد حصل أن أقدم شبان كثر على قتل أنفسهم عندما قرأوا كتاب «آلام فرتر» للكاتب الألماني «غوته» في الحقبة الماضية. في تلك الفترة لم أكن أختلف بشيءٍ عن أقراني، لقد درستُ وتعلمتُ في إنكلترا وتخرجت من الجامعة مهندساً، ثم سافرت للعمل في الخارج.

س: هل لك أن تحدثنا عن تجربتك الجديدة في ظل الإِسلام؟

ج: كانت بداية التحوّل في حياتي الشخصية حينما سافرت إلى الباكستان للعمل هناك، وبعد انقضاء فترة على وجودي في تلك البلاد، كنت خلالها أراقب العمّال البسطاء الذين كانوا يشتغلون تحت إشرافي. وقد لفت نظري إخلاصهم في العمل فضلاً عن صدقهم في المعاملة، وتفانيهم في أداء ما يُطلب منهم بكل أدب واحترام، ولاحظتُ أن السبب في ذلك يعود إلى روح النظام وجو الطهارة الذي اكتسبوه من عادة حسنة، فقد كانوا يقفون بانتظام صفاً للصلاة بضع مرات في اليوم، بعد أن يقوموا بتنظيف أجسامهم في أحواض الماء، ويغسلون بعض أعضائهم أو يمسحونها، وهي دلالة ظاهرة على طهارة الأبدان، ودلالة باطنة على نظافة الروح وتطهير النفس، وقد تعلمت منهم قول الرسول (ص) :

١٤٩

«أفضل الطيب الماء» .. أما عندنا فما نفع العطور التي يضعها الإنسان على جسم تتنازعه الأقذار والنجاسات، من الخمرة إلى الميتة ولحم الخنزير وما أشبه ذلك. ثم تعلمتُ من هؤلاء العمّال، كيف أملأ وقتي بما يفيد، وكيف أنظِّم ساعات يومي، بعد أن أقف مثلهم لحظات بخشوع وأتلفظ بالكلمات ذاتها، التي تشيع الأمن والطمأنينة في نفسي.

وعرفتُ من هنا أن الفرد المسلم يمثّل الطهارة المادية المتجسّدة في نظافة جسمه من الأدران ونظافة روحه من الآثام.

س: هل من سبب آخر دفعك إلى اعتناق الإِسلام؟

ج: لقد كان في حياتنا نحن الغربيين، كما أشرتُ إليك، فراغ هائل، نابع من انتفاء القِيم في واقع الإنسان الغربي، وهذا ما يبعث على القلق المؤدي إلى عذاب الروح، فعندنا كلمة شائعة يتداولها الناس تدلّ على اللامبالاة وعدم الاكتراث مثل «لا يهمني» أو أن يقول قائلنا لكل أمر جديد أو مدهش «حسناً».

والجدة عندنا معيار وقيمة توزن بها الأشياء، فكل شيء إذا مضى عليه وقت يفقد قيمته ويتطلع الإنسان إلى الجديد الذي يبهر ثم سرعان ما يفقد هذا الجديد سحره وتأثيره، وهكذا يظل الإنسان يلهث وراء كل جديد، حتى يتبلد إحساسه فلا يشعر بقيمة الأشياء، فتفقد الأشياء معناها وجوهرها، فيصبح الإنسان عديم الإحساس، من هنا يفكر في الخلاص بأي طريق كان.

بينما يعطي الإِسلام منهجاً وسطاً في المنع والعطاء، في التمنع والحرمان، هذا المنهج الوسط يبقي للأشياء معناها، لأن الحرية المطلقة التي تبلغ الإباحية والإسراف، تستهلك جوهر الأشياء وتبطل معناها، وهنا تكمن الكارثة في الحياة الغربية القائمة على البراغماتية والمتعة الآنيّة.

لقد وهبني الإِسلام منهجاً في الحياة قرّت به عيني واطمأنت إليه نفسي، بعد سنوات من الضياع والقلق الذي يغرق فيه مجتمعنا المتردي في دوامة الانحلال على الصعيدين المادي والروحي.

ولم أصدق أن هناك عقيدة تحمل إلى الإنسان السكينة والاستقرار إلّا بعد أن رأت عيناي وسمعت أذناي ولمستُ الحقيقة التي لا ريب فيها أن الإِسلام بصفاته وسماحته هو المنتجع الآمن والواحة التي تستظل بها النفوس التواقة إلى رحاب السعادة. كان ذلك التحوّل الكبير في حياتي حين تعرفت إلى خاتم الديانات وجوهر الرسالات، الإِسلام الحنيف، وكان ذلك بفضل العناية الإلهية.

١٥٠

س: ما هي الأسباب التي دفعتك لتكون طالباً في مدرسة العلوم الدينية؟

ج: عندما اهتديتُ إلى الإِسلام، فكرت بأهلي ومجتمعي، وعرفت أني سأواجه اعتراضاتهم، لذلك شئت أن أتسلح بالحجة والبرهان، وسبيلها العلم والمعرفة، لذا عقدتُ العزم على تلقي العلوم والمعارف الإِسلامية.

س: ألا يسبب لك حرجاً ارتداؤك الزي الخاص برجال الدين؟

ج: في الأساس لم أفكر في خلاص نفسي فحسب، بل فكرت في خلاص الآخرين من أهل وطني، لهذا وطّنت النفس على تجاوز الصعاب، إنني فخور بارتداء العمامة والزي الديني، وهذا يمنحني الحرية في الحركة، بهذه الثياب الفضفاضة، كي يحررني من الزي الغربي الملاصق للجسد، فذاك يضغط عليّ ويرهقني، وهذا يتيح لي التحرك بسهولة، وهو رمز للتجرد عن زيف الحضارة في الزينة والتجمل.

ثم إن المجتمع الغربي يدّعي الحرية والديمقراطية، فأنا من هذا المنطلق يحق لي أن أرتدي ما أشاء.

س: ماذا تنوي أن تفعل عندما تعود إلى وطنك؟

ج: انطلاقاً من قول الإمام علي (ع) : «أحب لغيرك ما تحب لنفسك»، لهذا فإنني أبغي الخير لإخواني في الإنسانية من أبناء وطني كما قال الإمام (ع) : «واعلم أن الناس إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق». فسوف أقوم بواجبي في التبليغ الإِسلامي، وإنني آمل منهم أن يستجيبوا.

س: ما هو مدى اطلاعك على الثقافة الإِسلامية؟

ج: إني سعيت للاطلاع على المعارف والعلوم الإِسلامية بشغف ومحبة، وإنني ملم بحياة النبي (ص) والأئمة (عليهم السلام) ، ومطّلع على الكثير مما قالوه وفعلوه، وإنني أؤمن بعصمتهم وأنهم معلمو البشر وقادتهم، وأتخذهم قدوة وأجعل من أقوالهم شعاراً ومن أفعالهم أمثولة في الحياة.

١٥١

س: هل من كلمة أخيرة تتوجه بها إلى القرّاء؟

ج: إنني أؤكد إنني وجدتُ للحياة قيمة بعد اعتناقي الإِسلام، فنحن لم نخلق عبثاً، بل لغاية سامية، والجدة التي هي معيار كاذب وزائف لم تعد تعني لي شيئاً.

وإنني أردد ما قاله المرجع الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء «بلّغوا الإِسلام إلى الغرب، فإذا نجحتم في رسالتكم هناك، حققتم أهدافكم في التبليغ هنا»، لأن الشرق مولع بتقليد الغرب، وهو مرض العصر، ولقد كان الغرب الإسباني في عصر الإِسلام، يتوجه بأنظاره قِبَل المشرق، وإنني أدعو جميع الناس إلى قراءة الإِسلام ومعرفته عن كثب ليتسنى لهم الاهتداء ثم هداية الآخرين، لأن الناس أعداء ما جهلوا، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

١٥٢

الأخت الروسية المهتدية، يلينا كوشيليوفا

تقول «لنور الإِسلام»:

- على الرغم من الدعاية الإلحادية التي كان يفرضها النظام التعليمي الشيوعي السابق، كان ينتابني إحساس بوجود إله واحد.

- من خلال كتاب «حياة محمد» لأحد الكتّاب الروس، أعجبت بشخصية الرسول (ص) ثم صرت أبحث عن الكتب الإِسلامية.

- الأسف يعتصر قلبي، كيف لم تهتدِ النسوة السافرات إلى نعمة الحجاب، وما يمثّله من قيم النقاء والطهر.

- إنني أنصح أختي المسلمة أن لا تسير بخطى عشواء على طريق المدنية القادمة من الغرب.

يلينا يورينيفا كوشيليوفا

لم تكن تدري يلينا وهي الفتاة الروسية التي تعيش في مجتمع شيوعي يؤمن بالقيم الماركسية، أنها على موعد مثير، مع صدفة رائعة حملها إليها عيد الأضحى، حينما التقت بمن هيَّأته العناية الإلهية لينقلها من الظلمات إلى النور، ومن الشرك إلى الدين الحنيف، لقد وُلدت من جديد، كما تقول يلينا، وكنت أشعر بإرهاصات تنبئ عن استعداد وتوجه في عمق وجداني. كالظافر بالماء وسط الصحراء، لأجد الحوض الطاهر النقي، الذي ألقيت بنفسي في لجته، لأتطهر من أدران هذا العالم الذي أضاع قيم الروح والإنسانية.

تجربتي مع الإِسلام مثيرة وغنية بالعبر إذا ولجتم إلى أعماقي ستجدون أنني جد سعيدة بهذه المصادفة الرائعة. وكأن القطار الذي كان ينقلني من إحدى المدارس في ضواحي «لاتيا» كان يحملني إلى شاطئ السعادة والأمان وواحة الهداية واليقين.

في مسكنها الزوجي في بيروت وبين عائلتها السعيدة التقت نور الإِسلام السيدة يلينا وكان لنا معها هذه المقابلة:

١٥٣

س: هل لك أن تعطينا لمحة موجزة عن نشأتك وتربيتك الأولى:

ج: وُلدت سنة 1973 في طاجكستان التي كانت واحدة من جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً، من أصل روسي، وكان والدي ضابطاً برتبة كولونيل، إلى جانب كونه محامياً، وكانت أمي طبيبة، وقد تعرضت عائلتي للتنقل إلى أكثر من بلد، إذ هاجر أهلي إلى سيبيريا، إلا أنني بقيتُ أعيش مع جدتي في طاجكستان حيث دخلت إلى المدرسة، وعندما سافر أهلي إلى جمهورية لاتيا اصطحبوني معهم إلى مدينة ريفا ثم استقرت بنا السكنى أخيراً في أوكرانيا.

لقد فرضت علينا ظروف عمل والديَّ أن نتنقل بين بلدان الاتحاد السوفياتي سابقاً، مما أتاح لي فرص التعرف إلى هذه البلدان المختلفة، والخروج إلى العالم الأوسع؛ ما أكسبني مرونة في التصرف، ومزيداً من الوعي، وهذا ما أدى إلى أن لا تترسخ في نفسي عادات بلد معين، بل كنت أبحث دائماً عن الأفضل في العادات والسلوك. لقد ترعرعت وسط عائلة مثقفة. فالبيئة التي عرفتها في لاتيا تشبه البيئة الأوروبية من حيث توفر الحرية والمناخ الثقافي والفكري، قياساً على بقية البلدان الروسية.

كانت طفولتي موزعة بين البيت والمدرسة، فلم أكن أهتم بما يوليه أترابي من اهتمام.

ولست أعلم بالتأكيد لماذا كان ينتابني إحساس بوجود إله واحد مع أن التعاليم الإلحادية التي يفرضها النظام التعليمي، كانت لا تعترف بذلك، وربما كان لجدتي أثر في هذا الاستعداد لديَّ.

وكان والدي يشتري لي كتباً علمية حول نشوء العالم، حسب ما يقرره الإنجيل، وكنت أميل كثيراً إلى التأمل. وعندما بلغت السادسة أو السابعة عشرة جربتُ أن أصوم على الطريقة الأرثوذكسية، حيث كنت أمتنع عن تناول اللحوم والمشتقات الحيوانية لمدة أربعين يوماً.

١٥٤

س: هل لك أن توضحي لنا الأسباب التي حملتك على اعتناق الإِسلام:

ج: أجل. حينما كنت في الرابعة عشرة من عمري، كنت أتعلم في مدرسة تضم أولاداً من الطاجيك الذين يعتنقون الإِسلام، ولاحظتُ كيف أن العائلة المسلمة تضم عدداً كبيراً من الأولاد، وفي أثناء ذلك كان يسترعي انتباهي منظر الأولاد المؤثر، وهم يصومون طوال النهار عن الطعام والشراب، وكان بعضهم يصاب بالإعياء آخر النهار، حيث كان شهر حزيران القائظ بنهاره الطويل. وكان ذلك يحملني على التساؤل، لماذا يتحمل هؤلاء هذا العناء كله ومن أجل أي شيء يضحون بالتمتع بما يشتهون من الطعام. كان ذلك بداية التجربة مع الإِسلام بالنسبة إليّ.

وعندما بلغتُ الثامنة عشرة، كنت أدرس الكيمياء في إحدى الكليات، التي تبعد عن منزلنا ثلاثة أرباع الساعة تقريباً، وكان عليّ أن أتنقل بالقطار، وهنا حدثت الصدفة الرائعة، حيث تعرّفت إلى زوجي المهندس اللبناني فهد سويدان، وتجدَّد اللقاء وعرّفني أنه مسلم ملتزم وكان آنذاك لا يحسن اللغة تماماً.

وشاءت الصدف أن ننتقل جميعاً إلى كييف في أوكرانيا للدراسة، فتوثقت علاقتنا، من ذلك الحين بدأ اهتمامي بالإِسلام يتزايد وأخذتُ أتردد على المكتبة، وكان أن اطلّعتُ على كتاب «حياة محمد» وهو لأحد الكتّاب الروس المستشرقين فأعجبتُ بشخصية الرسول (ص) ، ثم صرتُ أبحث عن الكتب الإِسلامية لأطالعها، وتلقيتُ كثيراً من العون. وفي الوسط الطلابي في كييف لمست أن هناك إسلاماً حقيقياً حيث الصفاء الروحي والصدق الذي يتحلى به الطلاب المسلمون القادمون من بلدان المختلفة.

س: ما هو موقف أُسرتك وأصحابك من هذا التحول:

ج: بالنسبة إلى والدتي لم يشكل هذا التحول حرجاً، وأما والدي فقال لي: إنك ستبقين مسيحية، ولو حاولت أن تكوني غير ذلك، أما أنا فقد أصبحتُ مسلمة، في الواقع، ولكنني لن أتنكر للقيم الصحيحة في المسيحية.

والذي سهَّل عليّ هذا التحول هو ما كانت تشهده بلادنا من تحول كبير في بنية النظام في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق. فكل شيء كان من حولنا يتغير ويتبدل.

١٥٥

س: ما هي التغيرات الإيجابية التي تمَّت بعد اعتناقك الإِسلام؟

ج: شعرتُ بأنني بلغتُ هدفي، وأنني أدركتُ ما كنت أصبو إليه، من يقين وطمأنينة! فقد كنت متعطشة للوصول إلى الحقيقة، التي كانت ترد بشكل تساؤلات حول العقيدة والسلوك في الحياة، تبحث عن جواب شافٍ.

وما يجدر ذكره أنني لم أجرِّب المحرمات قبل زواجي واعتناقي الإِسلام. إذ كان كلٌّ من روحي وجسدي طاهرين، وبقيا طاهرين، وبكلمة أقول: «كأنني وقعْت في حوض الماء الذي كنت أتوق للسباحة فيه»، كرمز للطهارة التي يمنحها الإِسلام لأتباعه. ولقد استفدتُ في لبنان كثيراً من إحدى المدرِّسات، وأنا مدينة لها بتعلم بعض العربية وقراءة القرآن الكريم وتفسير بعض الأدعية.

س: كيف تنظرين إلى ظاهرة السفور المنتشرة في المجتمع الإِسلامي؛ كونك فتاة روسية قادمة من خارج البلاد الإِسلامية؟

ج: إن هؤلاء النسوة يعانين من ضياع، وإنني لأشعر بالأسف يعتصر قلبي كيف لم يهتدين إلى نعمة الحجاب وما يمثِّله من قيم النقاء والطهر. ولكن المرأة المسلمة، وهي ترتدي الحجاب لا بدّ لها من أن تراعي مستلزمات هذا الحجاب، في حديثها وتصرفاتها ومعاملاتها.

وإني أنظر إلى ظاهرة السفور في مجتمعاتنا الحديثة، كظاهرة غير طبيعية، طرأت على المجتمع الإِسلامي والمسيحيي في الشرق والغرب، وكان من أهم الدواعي إليها، نزول المرأة إلى ميدان العمل وما أحدثته الثورة الصناعية من تبدل في القيم الاجتماعية والخلقية.

إذ العودة إلى الحجاب، هي بنظري رجوع إلى الفطرة والأصل.

س: ما هي رؤيتك لواقع المرأة المسلمة اليوم؟

ج: على المرأة المسلمة المحجبة أن تثبت للآخرين أنها ليست متقوقعة في حياتها ومنعزلة عن المجتمع، بل إنها تختزن طاقة يمكن أن تستثمرها في هداية الفتيات الأخريات، مع المحافظة على واجباتها البيتية التي هي أهم من أي نشاط اجتماعي خارج المنزل، وطبعاً مع المحافظة على طبيعتها الأنثوية.

١٥٦

س: ماذا تقترحين لهداية الجيل المعاصر:

ج: في نظري إن الجيل من الأحداث والشباب منجذب بشكلٍ ملفتٍ للنظر، إلى مشاهدة وسائل الإعلام المضرة وخاصة التلفاز، وهذا ما يشكل ظاهرة ذات آثار سلبية كبيرة بالنسبة إلى الأطفال بشكل خاص، فعلى الآباء أن ينتبهوا لتربية أولادهم، فلا يتركوهم فريسة للمسلسلات العبثية الفارغة.

س: هل من كلمة أخيرة توجهينها إلى القرّاء؟

ج: إني أنصح أختي المسلمة أن لا تسير بخطى عشواء على خطى المدنية القادمة من الشرق والغرب، بل تعود إلى أصالتها وأن لا تستورد إلا ما هو الأحسن والأفضل،، ولتستفد من تجربة الغرب الذي نظر في حضارتنا فأخذ بأحسنها، بينما نرى العكس في بلاد المسلمين، حيث ينبهرون بالأمور الخدّاعة والبرَّاقة التي تعبر عن أسوأ ما عند مجتمعات الغرب من خلاعة وسفور وابتعاد عن الدين والفضيلة.

١٥٧

الأخت المهتدية كارمن سركسيان «هدى»

هكذا تعرفت إلى الإِسلام وهكذا اهتديت

تلك الفتاة الأرمنية التي اهتدت إلى نور الإِسلام واعتنقت الدين الضيف بعد رحلة مثيرة، وتجربة غنية في البحث والاستكشاف، هذه الهداية التي كان مفتاحها التعرف على شريك لها في الحياة، ولكن الرحلة الإيمانية لم تقف عند حد، بل إن الفتاة المهتدية سارت يحفِّزها حب المعرفة، إلى أن تنهل من معين الثقافة الإِسلامية لتغترف من المكتبات ما جعلها جديرة بأن تكتب تجربتها في كتاب يمتع القارئ ويفيد في آنٍ معاً، بعنوان «قصة إسلامي» وإليك أيها القارئ مقتطفات مما أوردته في هذا الكتاب.

عن ولادتها ونشأتها تقول:

وُلدت في الكويت عام 1965، نشأتُ وترعرعتُ وقضيتُ أجمل أيام عمري في رحابها، ولا أزال أحلم بالعودة لأعيش على أرضها الطيبة مرة أخرى، حيث ولادتي ونشأتي ودراستي وعملي وزواجي وإنجابي طفلي علي، والأهم من ذلك كله، أن الله هداني للإِسلام على أرضها، فكيف أنساها، إنها نبضة في القلب، وبدون نبضات القلب لا يحيا الإنسان.

كيف تعرفت إلى الإِسلام؟

في صيف «سبتمبر/أيلول» 1985، كنت أعمل كموظفة في شركة كويتية للمشاريع الهندسية، وكنت أنظم الملفات وأقوم بأعمال أمانة السر لذلك الإنسان الذي أصبح زوجي فيما بعد. ومع أنني وافقت على الزواج منه، إلّا أن تلك الموافقة كانت مصحوبة بشيء من الخوف لأنني مسيحية وأرمنية وهو مسلم.

ولا بدّ أن أوضح معنى كلمة أرمنية، إن الكثير من الناس حين يسمع كلمة أرمني أو أرمنية، تتبادر إلى أذهانهم كلمة مرادفة هي مسيحي، وفي الحقيقة هذا خطأ، فكلمة أرمني تعني أن جذور الشخص تعود إلى أرمينيا، إحدى جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً، وهي الآن جمهورية مستقلة، ثم إن أرمينيا فيها عدد كبير من المسلمين الأرمن، لذا إن كلمة أرمني هي مثل سوري ولبناني ومصري.

١٥٨

أما سبب مخاوفي فهو أني أعرف بعض المسيحيات اللواتي اقترنَّ بمسلمين، وكان الفشل حليف هذا الزواج فطُلِّقن فيما بعد، أما أنا فكنت واثقة من نجاح زواجنا، فقد تيقنت من صدق زوجي، كما أنه استطاع أن يجذبني إلى اعتناق الإِسلام، إذ كان يمثل لي القدوة الصالحة والأسوة الحسنة في سلوكه وتصرفه معي. وبعد أن أصبحت مسلمة، اخترت لنفسي اسم هدى بدلاً من اسمي السابق «كارمن».

كيف كان تأثير إسلامها وزواجها من مسلم على أقربائها؟

كان زواجنا في البداية غير مُعْلَن، تحاشياً لردود الفعل من قِبَل الأهل والأصحاب، ولكن فوجئت بأن أختي تتصل بي عبر الهاتف وتخبرني بمعرفتها بهذا الزواج وكان ذلك مفاجأة لي، وتذكرت الآية الكريمة﴿یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا یَحِلُّ لَکُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ کَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَیْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ یَأْتِینَ بِفَاحِشَةٍ مُبَیِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ کَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَکْرَهُوا شَیْئًا وَیَجْعَلَ اللَّهُ فِیهِ خَیْرًا کَثِیرًا ﴿19﴾ ﴾ [النساء: 19]، فأخبرتها الحقيقة، وكان أهلي يسكنون في المدينة نفسها، فطلبوا من زوجي الحضور لمناقشة الموضوع.

وتمَّ الاتفاق أن أغادر منزل أهلي لأعيش مع زوجي بعد أن يئس الأهل من التأثير عليّ، وكانت دموع والدتي تنطق بأبلغ الكلام. قاطعني أهلي مدة أسبوعين فقط، بعدها قاموا بزيارتي دون أن يسمحوا لي بأن أزورهم.

ولم تعلم والدة زوجي بأمر زواجنا إلّا حين أُدخل زوجي إلى المستشفى لإجراء عملية جراحية، وكان قد أخبر أهله حفاظاً عليّ وعلى حصتي في الميراث، إذا حصل القضاء. وقد اصطحبتني والدة زوجي إلى منزلهم للمرة الأولى، فإذا بي أرى مكتبة كبيرة تضم كتباً في مختلف العلوم والآداب والتاريخ الإِسلامي، ومع أننا تأخرنا في السهر ليلاً فقد استيقظ الجميع في ساعة مبكرة من الصباح لأداء صلاة الصبح.

١٥٩

ولكن كيف اعتنقت الإِسلام؟

كانت لقاءاتي بأهله تثير عندي تساؤلات عن الصلاة، وعن الحجاب، وعن الفصل بين مجلس الرجال ومجلس النساء، وهنا بدأت رحلة المعرفة، والاستكشاف حين بدأت بالانصراف إلى مطالعة الكتب، وكانت والدته تدفعني إلى ذلك. قبل ذلك كنت أعيش في صراع، والآن بدأت رحلتي السعيدة مع الدين الحنيف. لم يكن زوجي يحدِّثني كثيراً عن الإِسلام، لأنه لا يريد أن يرغمني على اعتناقه، كما هو الشرط بيننا سابقاً، فكان يجيب باختصار على كل سؤال أطرحه عليه، ويصمت إذا لم أوجه إليه سؤالاً، كان يتألم لكوني غير مسلمة، لا أصلي، ولا أرتدي الحجاب.

كنت غير راغبة في ذلك، كنت أعلم مدى الحرج الذي أسببه لزوجي، بالرغم من ذلك كان له الدور غير المباشر في تقريبي إلى الإِسلام، ومن أجل ذلك كان يكثر من الاستماع إلى برامج القرآن الكريم، والإذاعات التي تبث برامج ثقافية حول الدين الحنيف.

انطباعاتها وشهادتها على أسلوب الحوار

إنني أعترف وأشهد بأن الطريقة التي كان يتم فيها النقاش لم تكن تؤذي مشاعري حول المسيحية - ديني السابق - فلم أتذكر أن المسلمين الذين تحاورت معهم أساءوا إلى المسيح (ع) وأمه أبدأ، بل إنهم يكنون من المحبة والتقديس لهما ما يثير الإعجاب ويؤمنون برسالته، وعندهم أن مَن لا يؤمن برسالة عيسى (ع) فليس بمسلم، وإن آمن برسالة محمد (ص) ، والغريب أنهم يستشهدون لعظمة النبي محمد (ص) بآراء كتّاب ومفكرين مسيحيين أمثال برنارد شو وغوته وكارلايل ولامارتين وجرداق وجبران ونعيمة، وحتى من غير أهل الكتاب أمثال نهرو، كنت ألتزم الصمت خلال مناقشاتهم، لأنهم يعرفون عن المسيحية أكثر مما أعرف.

كيف تم التزامها بالدين الحنيف فكرةً وسلوكاً؟

ولما كنت أتابع القراءة والمطالعة كان زوجي يقوم بشرح ما يصعب عليّ فهمه، واستمر الحال هكذا حتى أواخر عام 1987، وكنت أستمع إلى إحدى الإذاعات التي تنشر رسائل دكتوراه وماجستير يتقدم بها طلاب يرغبون بالتخصص في العلوم الإِسلامية، وقد كانت مناقشات تلك الرسائل ذات فائدة عظيمة بالنسبة إليّ.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459