الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173048 / تحميل: 9112
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

( ٦ - القرآن يسند المعجزة إلى سبب غير مغلوب)

فقد تبيّن من الفصول السابقة من البحث أنّ المعجزة كسائر الاُمور الخارقة للعادة لا تفارق الأسباب العاديّة في الاحتياج إلى سبب طبيعيّ وأن مع الجميع أسبابا باطنيّة وأن الفرق بينها أن الاُمور العاديّة ملازمة لأسباب ظاهريّة تصاحبها الأسباب الحقيقيّة الطبيعيّة غالباً أو مع الأغلب ومع تلك الأسباب الحقيقيّة إرادة الله وأمره، والاُمور الخارقة للعادة من الشرور كالسحر والكهانة مستندة إلى أسباب طبيعيّة مفارقة للعادة مقارنة للسبب الحقيقيّ بالإذن والإرادة كإستجابة الدعاء ونحو ذلك من غير تحدّ يبتني عليه ظهور حقّ الدعوة وأن المعجزة مستندة إلى سبب طبيعيّ حقيقيّ بإذن الله وأمره إذا كان هناك تحدّ يبتنى عليه صحّة النبوّة والرسالة والدعوة إلى الله تعالى وأنّ القسمين الآخرين يفارقان سائر الأقسام في أنّ سببهما لا يصير مغلوبا مقهورا قطّ بخلاف سائر المسبّبات.

فإن قلت: فعلى هذا لو فرضنا الإحاطة والبلوغ إلى السبب الطبيعيّ الّذي للمعجزة كانت المعجزة ميسورة ممكنة الإتيان لغير النبيّ أيضاً ولم يبق فرق بين المعجزة وغيرها إلّا بحسب النسبة والإضافه فقط فيكون حينئذ أمر ما معجزة بالنسبة إلى قوم غير معجزة بالنسبة إلى آخرين، وهم المطّلعون على سببها الطبيعيّ الحقيقيّ، وفي عصر دون عصر، وهو عصر العلم. فلو ظفر البحث العلميّ على الأسباب الحقيقيّة الطبيعيّة القصوى لم يبق مورد للمعجزة ولم تكشف المعجزة عن الحق. ونتيجه هذا البحث أن المعجزة لا حجيّة فيها إلّا على الجاهل بالسبب فليست حجّة في نفسها.

قلت: كلّا فليست المعجزة معجزة من حيث أنّها مستندة إلى سبب طبيعيّ مجهول حتّى تنسلخ عن إسمها عند إرتفاع الجهل وتسقط عن الحجيّة، ولا أنّها معجزة من حيث إستنادها إلى سبب مفارق للعادة، بل هي معجزة من حيث أنها مستندة إلى أمر مفارق للعادة غير مغلوب السبب قاهرة العلة البتّة، وذلك كما أنّ الأمر الحادث من جهة إستجابة الدعاء كرامة من حيث إستنادها إلى سبب غير مغلوب كشفاء المريض مع أنّه يمكن أن يحدث من غير جهته كجهة العلاج بالدواء غير أنّه حينئذ أمر عاديّ يمكن أن يصير سببه مغلوبا مقهورا بسبب آخر أقوى منه.

٨١

( ٧ - القرآن يعدّ المعجزة برهاناً على صحّة الرّسالة لا دليلاً عاميّاً)

وهيهنا سؤال وهو أنّه ما هي الرابطة بين المعجزة وبين حقيّة دعوى الرسالة مع أنّ العقل لا يرى تلازماً بين صدق الرسول في دعوته إلى الله سبحانه وبين صدور أمر خارق للعادة عن الرسول على أنّ الظاهر من القرآن الشريف، تقرير ذلك فيما يحكيه من قصص عدّة من الأنبياء كهود وصالح وموسى وعيسى ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّهم على ما يقصّه القرآن حينما بثّوا دعوتهم سئلوا عن آية تدلّ على حقّيّة دعوتهم فأجابوهم فيما سألوا وجاؤا بالآيات.

وربّما أعطوا المعجزة في أول البعثة قبل أن يسألهم أممهم شيئاً من ذلك كما قال تعالى في موسىعليه‌السلام وهارون( اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ) طه - ٤٢، وقال تعالى في عيسىعليه‌السلام :( وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) آل عمران - ٤٩، وكذا إعطاء القرآن معجزة للنبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم) وبالجملة فالعقل الصريح لا يرى تلازما بين حقيّة ما أتى به الأنبياء والرسل من معارف المبدأ والمعاد وبين صدور أمر يخرق العادة عنهم.

مضافاً إلى أنّ قيام البراهين الساطعة على هذه الاُصول الحقّة يغنى العالم البصير بها عن النظر في أمرالإعجاز، ولذا قيل إنّ المعجزات لإقناع نفوس العامّة لقصور عقولهم عن إدراك الحقائق العقليّة وأمّا الخاصّة فإنّهم في غنى عن ذلك.

والجواب عن هذا السؤال أنّ الأنبياء والرسلعليهم‌السلام لم يأتوا بالآيات المعجزة لاثبات شئ من معارف المبدأ والمعاد ممّا يناله العقل كالتوحيد والبعث وأمثالها وإنّما اكتفوا في ذلك بحجّة للعقل والمخاطبة من طريق النظر والاستدلال كقوله تعالى:( قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) : إبراهيم - ١٠ في الإحتجاج على التوحيد قوله تعالى:( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا

٨٢

مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ص - ٢٨ في الإحتجاج على البعث. وإنّما سئل الرسل المعجزة وأتوابها لإثبات رسالتهم وتحقيق دعواها.

وذلك أنّهم ادّعوا الرسالة من الله بالوحى وأنّه بتكليم إلهيّ أو نزول ملك ونحو ذلك وهذا شئٌ خارق للعادة في نفسه من غير سنخ الإدراكات الظاهرة والباطنة الّتي يعرفها عامّة الناس ويجدونها من أنفسهم، بل إدراك مستور عن عامّة النفوس لو صحّ وجوده لكان تصرّفاً خاصّاً من ماوراء الطبيعة في نفوس الأنبياء فقط، مع أنّ الأنبياء كغيرهم من أفراد الناس في البشريّة وقواها، ولذلك صادفوا إنكاراً شديداً من الناس ومقاومة عنيفة في ردّه على أحد وجهين:

فتارة حاول الناس إبطال دعواهم بالحجّة كقوله تعالى:( قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) إبراهيم - ١٠، إستدلّوا فيها على بطلان دعواهم الرسالة بأنّهم مثل سائر الناس والناس لا يجدون شيئاً ممّا يدّعونه من أنفسهم مع وجود المماثلة، ولو كان لكان في الجميع أو جاز للجميع هذا، ولهذا أجاب الرسل عن حجّتهم بما حكاه الله تعالى عنهم بقوله:( قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) إبراهيم - ١١، فردّوا عليهم بتسليم المماثلة وأنّ الرسالة من منن الله الخاصّة، والإختصاص ببعض النعم الخاصّة لا ينافي المماثلة فللناس إختصاصات، نعم لو شاء أن يمتنّ على من يشاء منهم فعل ذلك من غير مانع فالنبوّة مختصّة بالبعض وإن جاز على الكلّ.

ونظير هذا الإحتجاج قولهم في النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما حكاه الله تعالى:( أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا ) ص - ٨، وقولهم كما حكاه الله:( لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) الزخرف - ٣١.

ونظير هذا الإحتجاج أو قريب منه ما في قول تعالى:( وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ ) الفرقان - ٨، ووجه الإستدلال أنّ دعوى الرسالة توجب

٨٣

أن لا يكون بشرا مثلنا لكونه ذا أحوال من الوحي وغيره ليس فينا فلم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لاكتساب المعيشة ؟ بل يجب أن ينزل معه ملك يشاركه في الإنذار أو يلقي إليه كنز فلا يحتاج إلى مشي الأسواق للكسب أو تكون له جنّة فيأكل منها لا ممّا نأكل منه من طعام، فرد الله تعالى عليهم بقوله:( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ) إلى أن قال:( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ) الفرقان - ٢٠، وردّ تعالى في موضع آخر مطالبتهم مباشرة الملك للإنذار بقوله:( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ) الانعام - ٩.

وقريب من ذلك الإحتجاج أيضاً ما في قوله تعالى:( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ) الفرقان - ٢١، فأبطلوا بزعمهم دعوى الرسالة بالوحي بمطالبة أن يشهدوا نزول الملك أو رؤية الربّ سبحانه لمكان المماثلة مع النبيّ، فرّد الله تعالى عليهم ذلك بقوله:( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا ) الفرقان - ٢٢، فذكر أنّهم والحال حالهم لا يرون الملائكة إلّا مع حال الموت كما ذكره في موضع آخر بقوله تعالى:( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنظَرِينَ ) الحجر - ٨، ويشتمل هذه الآيات الأخيرة على زيادة في وجه الإستدلال، وهو تسليم صدق النبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم) في دعواه إلّا أنّه مجنون وما يحكيه ويخبر به أمر يسوّله له الجنون غير مطابق للواقع كما في موضع آخر من قوله:( وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ) القمر - ٩.

وبالجملة فأمثال هذه الآيات مسوقة لبيان إقامتهم الحجّة على إبطال دعوى النبوّة من طريق المماثلة.

وتارة أخري أقاموا أنفسهم مقام الإنكار وسؤال الحجّة والبيّنة على صدق الدعوة لاشتمالها على ما تنكره النفوس ولا تعرفه العقول (على طريقة المنع مع السند بإصطلاح فنّ المناظرة) وهذه البيّنة هي المعجزة، بيان ذلك أنّ دعوى النبوّة والرسالة من كلّ

٨٤

نبيّ ورسول على ما يقصّه القرآن إنّما كانت بدعوى الوحى والتكليم الإلهيّ بلا واسطة أو بواسطة نزول الملك، وهذا أمر لا يساعد عليه الحسّ ولا تؤيّده التجربة فيتوجّه عليه الإشكال من جهتين: أحداهما من جهة عدم الدليل عليه، والثانية من جهة الدليل على عدمه، فإنّ الوحى والتكليم الإلهيّ وما يتلوه من التشريع والتربية الدينيّة ممّا لا يشاهده البشر من أنفسهم، والعادة الجارية في الأسباب والمسبّبات تنكرة فهو أمر خارق للعادة، وقانون العليّة العامّة لا يجوّزه، فلو كان النبيّ صادقا في دعواه النبوّة والوحى كان لازمه أنّه متّصل بما وراء الطبيعة، مؤيّد بقوّة إلهيّة تقدر على خرق العادة وأنّ الله سبحانه يريد بنبوّته والوحى إليه خرق العادة، فلو كان هذا حقّا ولا فرق بين خارق وخارق كان من الممكن أن يصدر من النبيّ خارق آخر للعادة من غير مانع وأن يخرق الله العادة بأمر آخر يصدّق النبوّة والوحى من غير مانع عنه فإنّ حكم الأمثال واحد فلئن أراد الله هداية الناس بطريق خارق للعادة وهو طريق النبوّة والوحى فليؤيّدها وليصدّقها بخارق آخر وهو المعجزة.

وهذا هو الّذي بعث الاُمم إلى سؤال المعجزة على صدق دعوى النبوّة كلّما جائهم رسول من أنفسهم بعثا بالفطرة والغريزة وكان سؤال المعجزة لتأييد الرسالة وتصديقها لا للدلالة على صدق المعارف الحقّة الّتي كان الأنبياء يدعون إليها ممّا يمكن أن يناله البرهان كالتوحيد والمعاد، ونظير هذا ما لو جاء رجل بالرسالة إلى قوم من قبل سيدّهم الحاكم عليهم ومعه أوامر ونواه يدّعيها للسيّد فإنّ بيانه لهذه الأحكام وإقامتة البرهان على أنّ هذه الأحكام مشتملة على مصلحة القوم وهم يعلمون أن سيّدهم لا يريد إلّا صلاح شأنهم، إنّما يكفي في كون الأحكام الّتي جاء بها حقّة صالحة للعمل ولا تكفى البراهين والأدّلة المذكورة في صدق رسالتة وأن سيّدهم أراد منهم بإرساله إليهم ما جاء به من الأحكام بل يطالبونه ببيّنة أو علامة تدلّ على صدقه في دعواه ككتاب بخطّه وخاتمه يقرئونه، أو علامة يعرفونها، كما قال المشركون للنبيّ:( حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ) أسرى - ٩٣. فقد تبيّن بما ذكرناه أوّلاً: التلازم بين صدق دعوى الرسالة وبين المعجزة

٨٥

وأنّها الدليل على صدق دعواها لا يتفاوت في ذلك حال الخاصّة والعامّة في دلالتها وإثباتها، وثانياً أنّ ما يجده الرسول والنبيّ من الوحي ويدركه منه من غير سنخ ما نجده بحواسّنا وعقولنا النظريّة الفكريّة، فالوحي غير الفكر الصائب، وهذا المعنى في كتاب الله تعالى من الوضوح والسطوع بحيث لا يرتاب فيه من له أدنى فهم وأقلّ إنصاف.

وقد إنحرف في ذلك جمع من الباحثين من أهل العصر فراموا بناء المعارف الإلهيّة والحقائق الدينيّة على ما وصفه العلوم الطبيعيّة من اصالة المادّة المتحوّلة المتكاملة فقد رأوا أنّ الإدراكات الإنسانيّة خواصّ مادّيّة مترشّحة من الدماغ وأنّ الغايات الوجوديّة وجميع الكمالات الحقيقيّة إستكمالات فرديّة أو اجتماعيّة مادّيّة.

فذكروا أنّ النبوّة نوع نبوغ فكريّ وصفاء ذهني يستحضر به الإنسان المسمّى نبيّاً كمال قومه الإجتماعيّ ويريد به أن يخلّصهم من ورطة الوحشيّة والبربريّة إلى ساحة الحضارة والمدنيّة فيستحضر ما ورثه من العقائد والآراء ويطبّقها على مقتضيات عصره ومحيط حياته، فيقنّن لهم أصولا اجتماعيّة وكليّات عمليّة يستصلح بها أفعالهم الحيويّة ثمّ يتمّم ذلك بأحكام واُمور عباديّة ليستحفظ بها خواصّهم الروحيّة لافتقار الجامعة الصالحة والمدنيّة الفاضلة إلى ذلك ويتفرّع على هذا الافتراض:

أوّلاً: أنّ النبيّ إنسان متفكّر نابغ يدعو قومه إلى صلاح محيطهم الاجتماعيّ.

وثانياً: أنّ الوحي هو إنتقاش الأفكار الفاضلة في ذهنه.

وثالثاً: أنّ الكتاب السماويّ مجموع هذه الأفكار الفاضلة المنزّهة عن التهوسات النفسانيّة والأغراض النفسانيّة الشخصيّة.

ورابعاً: أنّ الملائكة الّتي أخبر بها النبيّ قوى طبيعيّة تدبّر اُمور الطبيعة أو قوى نفسانيّة تفيض كمالات النفوس عليها، وأنّ روح القدس مرتبة من الروح الطبيعيّة المادّيّة تترشّح منها هذه الأفكار المقدّسة، وأنّ الشيطان مرتبة من الروح تترشّح منها الأفكار الرديّة وتدعو إلى الأعمال الخبيثة المفسدة للاجتماع، وعلى هذا الأسلوب فسرّوا الحقائق الّتي أخبر بها الأنبياء كاللوح والقلم والعرش والكرسيّ والكتاب والحساب والجنّة والنار بما يلائم الاُصول المذكورة.

٨٦

وخامساً: أنّ الأديان تابعة لمقتضيات أعصارها تتحوّل بتحوّلها.

وسادساً: أنّ المعجزات المنقولة عن الأنبياء المنسوبة إليهم خرافات مجعولة أو حوادث محرّفة لنفع الدين وحفظ عقائد العامّة عن التبدّل بتحوّل الأعصار أو لحفظ مواقع أئمّة الدين ورؤساء المذهب عن السقوط والاضمحلال إلى غير ذلك ممّا أبدعه قوم وتبعهم آخرون.

هذه جمل ما ذكروه والنبوّة بهذا المعنى لأن تسمّي لعبة سياسيّة أولى بها من أن تسمّى نبوّة إلهيّة والكلام التفصيليّ في أطراف ما ذكروه خارج عن البحث المقصود في هذا المقام.

والّذي يمكن أن يقال فيه هيهنا أنّ الكتب السماويّة والبيانات النبويّة المأثورة على ما بأيدينا لا توافق هذا التفسير لا تناسبه أدنى مناسبة، وإنّما دعاهم إلى هذا النوع من التفسير إخلادهم إلى الأرض وركونهم إلى مباحث المادّة فاستلزموا إنكار ماوراء الطبيعة وتفسير الحقائق المتعالية عن المادّة بما يسلخها عن شأنها وتعيدها إلى المادّة الجامدة.

وما ذكره هؤلاء هو في الحقيقة تطّور جديد فيما كان يذكره آخرون فقد كانوا يفسّرون جميع الحقائق المأثورة في الدين بالمادّة غير أنّهم كانوا يثبتون لها وجودات غائبة عن الحسّ كالعرش والكرسيّ واللوح والقلم والملائكة ونحوها من غير مساعدة الحسّ والتجربة على شئ من ذلك، ثمّ لما أتّسع نطاق العلوم الطبيعيّة وجرى البحث على أساس الحسّ والتجربة لزم الباحثين على ذلك الأسلوب أن ينكروا لهذه الحقائق وجوداتها المادّيّة الخارجة عن الحسّ أو البعيدة عنه وأن يفسّروها بما تعيدها إلى الوجود المادّيّ المحسوس ليوافق الدين ما قطع به العلم ويستحفظ بذلك عن السقوط.

فهاتان الطائفتان بين باغ وعاد، أمّا القدماء من المتكلّمين فقد فهموا من البيانات، الدينيّة مقاصدها حقّ الفهم من غير مجاز غير أنّهم رأوا أنّ مصاديقها جميعاً اُمور مادّيّة محضة لكنّها غائبة عن الحسّ غير محكومة بحكم المادّة أصلاً و الواقع خلافه، وأما المتأخّرون من باحثي هذا العصر ففسّروا البيانات الدينيّة بما أخرجوها به عن مقاصدها البيّنة الواضحة، وطبّقوها على حقائق مادّيّة ينالها الحسّ وتصدّقها التجربة مع أنّها

٨٧

ليست بمقصودة، ولا البيانات اللفظيّة تنطبق على شئ منها.

والبحث الصحيح يوجب أنّ تفسّر هذه البيانات اللفظيّة على ما يعطيها اللفظ في العرف واللّغة ثمّ يعتمد في أمر المصداق على ما يفسّر به بعض الكلام بعضا ثمّ ينظر هل الأنظار العلميّة تنافيها أو تبطلها ؟ فلو ثبت فيها في خلال ذلك شئ خارج عن المادّة وحكمها فإنّما الطريق إليه إثباتاً أو نفياً طور آخر من البحث غير البحث الطبيعيّ الّذي تتكفّلة العلوم الطبيعيّة، فما للعلم الباحث عن الطبيعة وللأمر الخارج عنها ؟ فإنّ العلم الباحث عن المادّة وخواصّها ليس من وظيفته أن يتعرّض لغير المادّة خواصّها لا إثباتاً ولا نفياً.

ولو فعل شيئاً منه باحث من بحّاثه كان ذلك منه شططا من القول، نظير ما لو أراد الباحث في علم اللغة أن يستظهر من علمه حكم الفلك نفياً أو إثباتاً، ولنرجع إلى بقيّة الآيات.

وقوله تعالى: ( فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) . سوق الآيات من أوّل السورة وإن كانت لبيان حال المتّقين والكافرين والمنافقين (الطوائف الثلاث) جميعاً لكنّه سبحانه حيث جمعهم طرّاً في قوله:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ) ، ودعاهم إلى عبادته تقسّموا لا محالة إلى مؤمن وغيره فإنّ هذه الدعوة لا تحتمل من حيث إجابتها وعدمها غير القسمين: المؤمن والكافر وأمّا المنافق فإنّما يتحقّق بضمّ الظاهر إلى الباطن، واللّسان إلى القلب فكان هناك من جمع بين اللّسان والقلب إيماناً أو كفراً ومن أختلف لسانه وقلبه وهو المنافق، فلمّا ذكرنا (لعلّه) أسقط المنافقون من الذكر، وخصّ بالمؤمنين والكافرين ووضع الايمان مكان التقوى.

ثمّ إن الوقود ما توقد به النار وقد نصّت الآية على أنّه نفس الإنسان، فالإنسان وقود وموقود عليه، كما في قوله تعالى أيضاً:( ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ) غافر - ٧٢. وقوله تعالى:( نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ) اللّمزة - ٧، فالإنسان معذّب بنار توقده نفسه، وهذه الجملة نظيرة قوله تعالى:( لَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ) البقرة - ٢٥، ظاهرة في أنّه ليس للإنسان

٨٨

هناك إلّا ما هيّأه من هيهنا، كما عن النبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم):( كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون) الحديث. وإن كان بين الفريقين فرق من حيث أنّ لأهل الجنّة مزيداً عند ربّهم. قال تعالى:( لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) ق - ٣٥.

والمراد بالحجارة في قوله:( وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) الأصنام الّتي كانوا يعبدونها ويشهد به قوله تعالى:( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) الآية الأنبياء - ٩٨، والحصب هو الوقود.

وقوله تعالى: ( لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ) ، قرينة الأزواج تدلّ على أنّ المراد بالطهارة هي الطهارة من أنواع الأقذار والمكاره الّتي تمنع من تمام الإلتيام والألفة والأنس من الأقذار والمكاره الخلقيّة والخُلقيّة.

( بحث روائي)

روى الصدوق، قال: سئل الصادقعليه‌السلام عن الآية فقال: الأزواج المطهّرة اللّاتي لا يحضن ولا يحدثن.

أقول: وفي بعض الروايات تعميم الطهارة للبرائة عن جميع العيوب والمكاره.

٨٩

( سورة البقرة الآيات ٢٦ - ٢٧)

إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا  فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ  وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا  يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا  وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ( ٢٦ ) الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ  أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( ٢٧ )

( بيان)

قوله تعالى: ( إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ ) ، البعوضة الحيوان المعروف وهو من أصغر الحيوانات المحسوسة وهذه الآية والّتي بعدها نظيرة ما في سورة الرعد( أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ) الرعد - ١٩، ٢٠، ٢١.

وكيف كان فالآية تشهد على أنّ من الضلال والعمى ما يلحق الإنسان عقيب أعماله السيّئة غير الضلال والعمى الّذي له في نفسه ومن نفسه حيث يقول تعالى:( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ) فقد جعل إضلاله في تلو الفسق لا متقدّماً عليه هذا.

ثمّ إنّ الهداية والإضلال كلمتان جامعتان لجميع أنواع الكرامة والخذلان الّتي ترد منه تعالى على عباده السعداء والاشقياء، فإنّ الله تعالى وصف في كلامه حال السعداء من عبادة بأنّه يحييهم حياة طيّبة، ويؤيّدهم بروح الايمان، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويجعل لهم نوراً يمشون به، وهو وليّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهو معهم يستجيب لهم إذا دعوه ويذكرهم إذا ذكروه، والملائكة تنزّل عليهم بالبشرى والسلام إلى غير ذلك.

ووصف حال الاشقياء من عباده بأنّه يضلّهم ويخرجهم من النور إلى الظلمات و

٩٠

يختم على قلوبهم، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، ويطمس وجوههم على أدبارهم ويجعل في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون، ويجعل من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً فيغشيهم فهم لا يبصرون، ويُقيّض لهم شياطين قرناء يضلّونهم عن السبيل ويحسبون أنّهم مهتدون، ويزيّنون لهم أعمالهم، وهم أولياؤهم، ويستدرجهم الله من حيث لا يشعرون، ويملي لهم إنّ كيده متين، ويمكربهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون.

فهذه نبذة ممّا ذكره سبحانه من حال الفريقين وظاهرها أنّ للإنسان في الدنيا وراء الحياة الّتي يعيش بها فيها حياة اُخرى سعيدة أو شقيّة ذات اصول وأعراق يعيش بها فيها، وسيطّلع ويقف عليها عند إنقطاع الأسباب وإرتفاع الحجاب، ويظهر من كلامه تعالى أيضاً أنّ للإنسان حياة اُخرى سابقة على حيوته الدنيا يحذوها فيها كما يحذو حذو حياته الدنيا فيما يتلوها. وبعبارة اُخرى إنّ للإنسان حياة قبل هذه الحياة الدنيا وحياة بعدها، والحياة الثالثة تتبع حكم الثانية والثانية حكم الاُولى، فالإنسان وهو في الدنيا واقع بين حياتين: سابقة ولاحقة، فهذا هو الّذي يقضي به ظاهر القرآن.

لكنّ الجمهور من المفسّرين حملوا القسم الأوّل من الآيات وهي الواصفة للحياة السابقة على ضرب من لسان الحال وإقتضاء الاستعداد، والقسم الثاني منها وهي الواصفة للحياة اللّاحقة على ضروب المجاز والاستعارة هذا، إلّا أنّ ظواهر كثير من الآيات يدفع ذلك. أمّا القسم الأوّل وهي آيات الذرّ والميثاق فستأتي في مواردها، وأمّا القسم الثاني فكثير من الآيات دالّة على أنّ الجزاء يوم الجزاء بنفس الأعمال وعينها كقوله تعالى:( لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) التحريم - ٧، وقوله تعالى:( ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ) الآية البقرة - ٢٨١، وقوله تعالى:( فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) البقرة - ٢٤. وقوله تعالى:( فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ) العلق - ١٨، وقوله تعالى:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ ) آل عمران - ٣٠، وقوله تعالى:( مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ) البقرة - ١٧٤، وقوله:( إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ) النساء - ١٠، إلى غير ذلك من الآيات.

ولعمري لو لم يكن في كتاب الله تعالى - إلّا قوله:( لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا

٩١

فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق - ٢٢، لكان فيه كفاية إذ الغفلة لا تكون إلّا عن معلوم حاضر، وكشف الغطاء لا يستقيم إلّا عن مغطّى موجود فلو لم يكن ما يشاهده الإنسان يوم القيامة موجوداً حاضراً من قبل لما كان يصحّ أن يقال للإنسان إنّ هذه أمور كانت مغفولة لك، مستورة عنك فهي اليوم مكشوف عنها الغطاء، مزالة منها الغفلة.

ولعمري أنّك لو سألت نفسك أن تهديك إلى بيان يفي بهذه المعاني حقيقة من غير مجاز لما أجابتك إلّا بنفس هذه البيانات والأوصاف الّتي نزل بها القرآن الكريم.

ومحصل الكلام أن كلامه تعالى موضوع على وجهين:

أحدهما: وجه المجازاة بالثواب والعقاب، وعليه عدد جمّ من الآيات، تفيد: أن ما سيستقبل الإنسان من خير أو شرّ كجنّة أو نار إنّما هو جزاءٌ لما عمله في الدنيا من العمل.

وثانيهما: وجه تجسّم الأعمال وعليه عدّة اُخرى من الآيات، وهي تدلّ على أنّ الأعمال تُهيّئ بأنفسها أو باستلزامها وتأثيرها أموراً مطلوبة أو غير مطلوبة أي خيراً أو شرّاً هي ألتّي سيطّلع عليه الإنسان يوم يكشف عن ساق. وإيّاك أن تتوهّم أنّ الوجهين متنافيان فإنّ الحقائق إنّما تقرب إلى الأفهام بالأمثال المضروبة كما ينصّ على ذلك القرآن.

وقوله تعالى: ( إِلَّا الْفَاسِقِينَ ) الفسق كما قيل من الألفاظ الّتي أبدع القرآن إستعمالها في معناها المعروف، مأخوذ من فسقت التمرة إذا خرجت عن قشرها وجلدها ولذلك فسّر بعده بقوله تعالى:( الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) الآية، والنقض إنّما يكون عن إبرام، ولذلك أيضاً وصف الفاسقين في آخر الآية بالخاسرين والإنسان إنّما يخسر فيما ملكه بوجه، قال تعالى:( إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) الشورى - ٤٥، وإيّاك أن تتلقّى هذه الصفات الّتي أثبتها سبحانه في كتابه للسعداء من عباده أو الأشقياء مثل المقرّبين والمخلصين والمخبتين والصالحين والمطهّرين وغيرهم، ومثل الظالمين والفاسقين والخاسرين والغاوين والضالّين وأمثالها أوصافاً مبتذلة أو مأخوذة لمجرّد تزيين اللّفظ، فتضطرب بذلك قريحتك في فهم كلامه

٩٢

تعالى فتعطف الجميع على واد واحد، وتأخذها هجائً عاميًّ وحديثً ساذجً سوقيًّ بل هي أوصاف كاشفة عن حقائق روحيّة ومقامات معنويّة في صراطي السعادة والشقإوة، كلّ واحد منها في نفسة مبدأ لآثار خاصّة ومنشأ لأحكام مخصوصة معيّنة، كما أنّ مراتب السنّ وخصوصيّات القوى وأوضاع الخلقة في الإنسان كلّ منها منشأ ٌلأحكام وآثار مخصوصة لا يمكننا أن نطلب واحدً منها من غير منشأه ومحتده، ولئن تدبّرت في مواردها من كلامه تعالى وأمعنت فيها وجدت صدق ما إدّعيناه.

( بحث الجبر والتفويض)

وإعلم: أنّ بيانه تعالى أنّ الإضلال إنّما يتعلّق بالفاسقين يشرح كيفيّة تأثيره تعالى في أعمال العباد ونتائجها (وهو الّذي يراد حلّه في بحث الجبر والتفويض).

بيان ذلك: أنّه تعالى قال:( لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) البقرة - ٢٨٤، وقال:( لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) الحديد - ٥، وقال:( لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ) التغابن - ١، فأثبت فيها وفي نظائرها من الآيات الملك لنفسه على العالم بمعنى أنّه تعالى مالك على الإطلاق ليس بحيث يملك على بعض الوجوه ولا يملك على بعض الوجوه، كما أنّ الفرد من الإنسان يملك عبدً أو شيئً آخر فيما يوافق تصرّفاته أنظار العقلاء، وأمّا التصرّفات السفهيّة فلا يملكها، وكذا العالم مملوك لله تعالى مملوكيّة على الإطلاق، لا مثل مملوكيّة بعض أجزاء العالم لنا حيث أن ملكنا ناقص إنّما يصحّح بعض التصرّفات لا جميعها، فإنّ الإنسان المالك لحمار مثلً إنّما يملك منه أن يتصرّف فيه بالحمل والركوب مثلً وإمّا أن يقتلة عطشا أو جوعً أو يحرقه بالنار من غير سبب موجب فالعقلاء لا يرون له ذلك، أي كلّ مالكيّة في هذا الإجتماع الإنسانيّ مالكيّة ضعيفة إنّما تصحّح بعض التصرّفات المتصوّرة في العين المملوكة لا كلّ تصرّف ممكن، وهذا بخلاف ملكه تعالى للأشياء فإنّها ليس لها من دون الله تعالى من ربّ يملكها وهي لا تملك لنفسها نفعً ولا ضرًّ ولا موتً ولا حيإة ولا نشورا فكلّ تصرّف متصوّر فيها فهو له تعالى، فأيّ تصرّف تصرّف به في عباده وخلقه فله ذلك من غير أن يستتبع قبحً ولا ذمّاً

٩٣

ولا لوماً في ذلك، إذ التصرّف من بين التصرّفات إنّما يستقبح ويذّم عليه فيما لا يملك المتصرّف ذلك لإنّ العقلاء لا يرون له ذلك، فملك هذا المتصرّف محدود مصروف إلى التصرّفات الجائزة عند العقل، وأمّا هو تعالى فكل تصرّف تصرّف به فهو تصرّف من مالك وتصرّف في مملوك فلا قبح ولا ذمّ ولا غير ذلك وقد أيّد هذه الحقيقة بمنع الغير عن أيّ تصرّف في ملكه إلّا ما يشائه أو يأذن فيه وهو السائل المحاسب دون المسؤل المأخوذ، فقال تعالى:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) البقرة - ٢٥٥، وقال تعالى:( مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) يونس - ٣، وقال تعالى:( لَّوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ) الرعد - ٣١، وقال:( يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ) النحل - ٩٣، وقال تعالى:( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ ) الدهر - ٣٠، وقال تعالى( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) الأنبياء - ٢٣، فالله هو المتصرّف الفاعل في ملكه وليس لشئ غيره شئ من ذلك إلّا بإذنه ومشيّته، فهذا ما يقتضيه ربوبيّته.

ثمّ إنّا نرى أنّه تعالى نصب نفسه في مقام التشريع وجرى في ذلك على ما يجري عليه العقلاء في المجتمع الإنسانيّ، من إستحسان الحسن والمدح والشكر عليه وإستقباح القبيح والذمّ عليه كما قال تعالى:( إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ) البقرة - ٢٧١، وقال:( بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ ) الحجرات - ١١، وذكر أن تشريعاته منظور فيها إلى مصالح الإنسان ومفاسده مرعيّ فيها أصلح ما يعالج به نقص الإنسان فقال تعالى:( إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) الانفال - ٢٤، وقال تعالى:( ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) الصف - ١١، وقال تعالى:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ - إلى أن قال-وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ) النحل - ٩٠، وقال تعالى:( إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ) الاعراف - ٢٨، والآيات في ذلك كثيرة، وفي ذلك إمضاءٌ لطريقة العقلاء في المجتمع، بمعني أن هذه المعاني الدائرة عند العقلاء من حسن وقبح ومصلحة ومفسدة وأمر ونهي وثواب وعقاب أو مدح وذمّ وغير ذلك والأحكام المتعلّقة بها كقولهم: الخير يجب أن يؤثر والحسن يجب أن يفعل، والقبيح يجب أن يجتنب عنه إلى غير ذلك، كما أنّها هي الإساس للأحكام العامّة العقلائيّة كذلك الأحكام الشرعيّة الّتي شرّعها الله تعالى لعباده مرعىّ فيها ذلك، فمن

٩٤

طريقة العقلاء أنّ أفعالهم يلزم أن تكون معلّلة بأغراض ومصالح عقلائيّة ومن جملة أفعالهم تشريعاتهم وجعلهم للأحكام والقوانين، ومنها جعل الجزاء ومجازاة الإحسان بالإحسان والإسائة بالإسائة أن شاؤا فهذه كلّها معلّلة بالمصالح والإغراض الصالحة، فلو لم يكن في مورد أمر أو نهي من الإوامر العقلائيّة ما فيه صلاح الاجتماع بنحو ينطبق على المورد لم يقدم العقلاء على مثله، وكلّ المجازاة إنّما تكون بالمسانخة بين الجزاء وأصل العمل في الخيريّة والشريّة وبمقدار يناسب وكيف يناسب، ومن أحكامهم أنّ الإمر والنهي وكلّ حكم تشريعيّ لا يتوجّه إلّا إلى المختار دون المضطرّ والمجبر على الفعل وإيضاً إنّ الجزاء الحسن أو السّئ أعنى الثواب والعقاب لا يتعلّقان إلّا بالفعل الاختياريّ إللّهم إلّا فيما كان الخروج عن الاختيار والوقوع في الاضطرار مستندا إلى سوء الاختيار كمن أوقع نفسه في اضطرار المخالفة فإنّ العقلاء لا يرون عقابه قبيحا، ولا يبالون بقصّة إضطراره.

فلو أنّه سبحانه أجبر عباده على الطاعات أو المعاصي لم يكن جزا المطيع بالجنّة والعاصي بالنار إلّا جزافا في مورد المطيع، وظلما في مورد العاصي، والجزاف والظلم قبيحان عند العقلاء ولزم الترجيح من غير مرجّح وهو قبيح عندهم أيضاً ولا حجّة في قبيح وقد قال تعالى:( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) النساء - ١٦٥، وقال تعالى:( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) الانفال - ٤٢، فقد اتّضح بالبيان السابق أمور:

أحدها: أنّ التشريع ليس مبنيّا على أساس الإجبار في الإفعال، فالتكاليف مجعولة على وفق مصالح العباد في معاشهم ومعادهم أوّلً، وهي متوجّهة إلى العباد من حيث أنّهم مختارون في الفعل والترك ثانيا، والمكلّفون إنّما يثابون أو يعاقبون بما كسبت أيديهم من خير أو شرّ إختيارا.

ثانيها: أنّ ما ينسبه القرآن إليه تعالى من الإضلال والخدعة والمكر والإمداد في الطغيان وتسليط الشيطان وتوليته على الإنسان وتقييض القرين ونظائر ذلك جميعها منسوبة إليه تعالى على ما يلائم ساحة قدسه ونزاهته تعالى عن ألواث النقص والقبح و

٩٥

المنكر، فإنّ جميع هذه المعاني راجعة بالآخرة إلى الإضلال وشعبه وأنواعه، وليس كلّ إضلال حتّى الإضلال البدويّ وعلى سبيل الإغفال بمنسوب إليه ولا لائق بجنابه، بل الثابت له الإضلال مجازاة وخذلانا لمن يستقبل بسوء إختياره ذلك كما قال تعالى:( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ) الآية البقرة - ٢٦، وقال:( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ) الصف - ٥، وقال تعالى:( كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ ) المؤمن - ٣٤.

ثالثها: أنّ القضاء غير متعلّق بأفعال العباد من حيث أنّها منسوبة إلى الفاعلين بالانتساب الفعليّ دون الانتساب الوجوديّ وسيجئ لهذا القول زيادة توضيح في التذييل الآتي وفي الكلام على القضاء والقدر إن شاء الله تعالى.

رابعها: أنّ التشريع كما لا يلائم الجبر كذلك لا يلائم التفويض، إذ لا معنى للإمر والنهي المولويّين فيما لا يملك المولى منه شيئً، مضافً إلى أنّ التفويض لا يتمّ إلّا مع سلب إطلاق الملك منه تعالى عن بعض ما في ملكه.

( بحث روائي)

إستفاضت الروايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّهم قالوا: (لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين الحديث).

وفي العيون بعدّة طرق لما إنصرف أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام من صفّين قام إليه شيخ ممّن شهد الواقعة معه فقال يا أميرالمؤمنين أخبرنا من مسيرنا هذا أبقضاء من الله وقدر، فقال له أميرالمؤمنين: أجل يا شيخ فو الله ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلّا بقضاء من الله وقدر، فقال الشيخ عند الله احتسب عنائي يا أميرالمؤمنين فقال: مهلا يا شيخ لعلّك تظنّ قضاء حتما وقدرً لازما، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والإمر والنهي والزجر، ولسقط معنى الوعد والوعيد، ولم تكن على مسئٍ لائمة ولا لمحسن محمّدة، ولكان المحسن أولى باللائمة من المذنب والمذنب أولى بالإحسان من المحسن، تلك مقالة عبدة الاوثان وخصماء الرحمن وقدريّة هذه الإمّة ومجوسها. يا شيخ إنّ الله

٩٦

كلّف تخييرا ونهى تحذيرا، وأعطى على القليل كثيرا ولم يعص مغلوبا، ولم يطع مكروهً ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلا. ذلك ظن الّذين كفروا فويل للذين كفروا من النار الحديث.

أقول: قوله: بقضاء من الله وقدر إلى قوله:( عندالله أحتسب عنائي) . ليعلم أن من أقدم المباحث الّتي وقعت في الإسلام موردا للنقض والإبرام، وتشاغبت فيه الإنظار مسألة الكلام ومسألة القضاء والقدر وإذ صوّروا معنى القضاء والقدر وإستنتجوا نتيجتة فإذا هي أن الإرادة الإلهيّة الإزليّة تعلّقت بكلّ شئ من العالم فلا شئ من العالم موجود على وصف الإمكان، بل إن كان موجودً فبالضرورة، لتعلّق الإرادة بها واستحالة تخلّف مرادة تعالى عن إرادتة، وإن كان معدوما فبالامتناع لعدم تعلّق الإرادة بها وإلّا لكانت موجودة، وإذا اطّردت هذه القاعدة في الموجودات وقع الإشكال في الافعال الاختياريّة الصادرة منّا فإنّا نرى في بادي النظر أنّ نسبة هذه الافعال وجودا وعدما الينا متساوية، وإنّما يتعيّن واحد من الجانبين بتعلّق الإرادة به بعد إختيار ذلك الجانب فأفعالنا اختياريّة، والإرادة مؤثّرة في تحقّقه سبب في إيجاده، ولكن، فرض تعلّق الإرادة الإلهيّة الازليّة المستحيلة التخلّف بالفعل يبطل اختياريّة الفعل أوّلً، وتأثير إرادتنا في وجود الفعل ثانيً وحينئذ لم يكن معنى للقدرة قبل الفعل على الفعل، ولا معنى للتكليف لعدم القدرة قبل الفعل وخاصّة في صورة الخلاف والتمرّد فيكون تكليفا بما لا يطاق، ولا معنى لإثابة المطيع بالجبر لأنّه جزاف قبيح، ولا معنى لعقاب العاصي بالجبر لأنّه ظلم قبيح إلى غير ذلك من اللّوازم، وقد إلتزم الجميع هؤلاء الباحثون فقالوا القدرة غير موجودة قبل الفعل، والحسن والقبح أمران غير واقعيّين لا يلزم تقيّد أفعاله تعالى بهما بل كلّ ما يفعله فهو حسن ولا يتّصف فعله تعالى بالقبح، فلا مانع هناك من الترجيح بلا مرجّح، ولا من الإرادة الجزافيّة، ولا من التكليف بما لا يطاق، ولا من عقاب العاصي وإن لم يكن النقصان من قبله إلى غير ذلك من التوالي تعالى عن ذلك.

وبالجملة كان القول بالقضاء والقدر في الصدر الإوّل مساوقا لارتفاع الحسن والقبح والجزاء بالاستحقإق ولذلك لما سمع الشيخ منهعليه‌السلام كون المسير بقضاء وقدر قال وهو في مقام التأثّر واليأس: عند الله أحتسب عنائي أي إنّ مسيري وإرادتي فاقدة الجدوى من

٩٧

حيث تعلّق الإرادة الإلهيّة بها فلم يبق لي إلّا العناء والتعب من الفعل فأحتسبه عند ربّي فهو الّذي أتعبني بذلك فأجاب عنه الإمامعليه‌السلام بقوله:( لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب) الخ، وهو أخذ بالُصول العقلائيّة الّتي أساس التشريع مبنيّ عليها واستدلّ في آخر كلامهعليه‌السلام بقوله:( ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلا ) الخ، وذلك لإنّ صحّة الإرادة الجزافيّة الّتي هي من لوازم ارتفاع الاختيار يوجب إمكان تحقّق الفعل من غير غاية وغرض وهو يوجب امكان إرتفاع الغاية عن الخلقة والايجاد، وهذا الامكان يساوق الوجوب، فلا غاية على هذا التقدير للخلقة والايجاد، وذلك خلق السموات والأرض وما بينهما باطلا، وفيه بطلان المعاد وفيه كلّ محذور، وقوله :( ولم يعص مغلوبا ولم يطع مكروها) كإنّ المراد لم يعص والحال أنّ عاصيه مغلوب بالجبر ولم يطع والحال أن طوعه مكروه للمطيع.

وفي التوحيد والعيون عن الرّضاعليه‌السلام قال: ذكر عنده الجبر والتفويض فقال: ألا أعلّمكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ولا يخاصمكم عليه أحد إلّا كسّرتموه ؟ قلنا إن رأيت ذلك، فقال إنّ الله عزّوجلّ لم يطع بإكراه، ولم يعص بغلبة ولم يهمل العباد في ملكة، هو المالك لما ملّكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه فإن إئتمر العباد بطاعته لم يكن الله منها صادّا، ولا منها مانعً وان إئتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإن لم يحل فعلوه فليس هو الّذي أدخلهم فيه ثمّ قالعليه‌السلام من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه.

اقول: قد عرفت أنّ الّذي ألزم المجبّرة أن قالوا بما قالوا هو البحث في القضاء والقدر وإستنتاج الحتم واللّزوم فيهما وهذا البحث صحيح وكذلك النتيجة إيضاً نتيجة صحيحة غير أنّهم اخطؤا في تطبيقها، واشتبه عليهم أمر الحقائق والاعتباريّات، واختلط عليهم الوجوب والإمكان، توضيح ذلك أنّ القضاء والقدر على تقدير ثبوتهما ينتجان أنّ الأشياء في نظام الايجاد والخلقة على صفة الوجوب واللّزوم فكلّ موجود من الموجودات وكلّ حال من أحوال الموجود مقدّرة محدودة عند الله سبحانه، معيّن له جميع ما هو معه من الوجود وأطواره واحواله لا يتخلّف عنه ولا يختلف، ومن الواضح أن الضرورة والوجوب

٩٨

من شؤون العلّة فإنّ العلة التامّة هي الّتي إذا قيس إليها الشئ صار متّصفا بصفة الوجوب وإذا قيس إلى غيرها أي شئ كان لم يصر إلّا متّصفا بالإمكان، فانبساط القدر والقضاء في العالم هو سريان العلّيّة التامّة والمعلوليّة في العالم بتمامه وجميعه، وذلك لا ينافي سريان حكم القوّة والامكان في العام من جهة أخرى وبنظر آخر فالفعل الاختياريّ الصادر عن الإنسان بإرادته إذا فرض منسوبا إلى جميع ما يحتاج إليه في وجوده من علم وإرادة وأدوات صحيحة ومادّة يتعلّق بها الفعل وسائر الشرائط الزمانيّة والمكانيّة كان ضروريّ الوجود، وهو الّذي تعلّقت به الإرادة الإلهيّة الازليّة لكن كون الفعل ضروريّاً بالقياس إلى جميع أجزاء علّته التامّة ومن جهتها لا يوجب كونه ضروريّاً إذا قيس إلى بعض أجزاء علّته التامّة كما إذا قيس الفعل إلى الفاعل دون بقيّة أجزاء علّته التامّة فإنّه لا يتجاوز حد الامكان، ولا يَبلغ البتّة حد الوجوب فلا معنى لما زعموه أنّ عموم القضاء وتعلّق الإرادة الإلهيّة بالفعل يوجب زوال القدرة وارتفاع الاختيار، بل الإرادة الإلهيّة إنّما تعلّقت بالفعل بجميع شؤونه وخصوصيّاته الوجوديّة ومنها إرتباطاته بعلله وشرائط وجوده، وبعبارة إخرى تعلّقت الإرادة الإلهيّة بالفعل الصادر من زيد مثلً لا مطلقا بل من حيث أنّه فعل إختياريّ صادر من فاعل كذا في زمان كذا ومكان كذا فإذن تأثير الإرادة الإلهيّة في الفعل يوجب كون لفعل إختياريّا وإلّا تخلّف متعلّق الإرادة الإلهيّة عنها فإذن تأثير الإرادة الإلهيّة في صيرورة الفعل ضروريّاً يوجب كون الفعل إختياريّا أي كون الفعل ضروريّاً بالنسبة إلى الإرادة الإلهيّة ممكنً إختياريًّ بالنسبة إلى الإرادة الإنسانيّة الفاعليّة، فالإرادة في طول الإرادة وليست في عرضها حتّى تتزاحما، ويلزم من تأثير الإرادة الإلهيّة بطلان تأثير الإرادة الإنسانيّة فظهر أن ملاك خطأ المجبّرة فيما أخطأوا فيه عدم تمييزهم كيفيّة تعلّق الإرادة الإلهيّة بالفعل، وعدم فرقهم بين الإرادتين الطوليّتين وبين الإرادتين العرضيتّين وحكمهم ببطلان تأثير إرادة العبد في الفعل لتعلّق إرادة الله تعالى به.

والمعتزلة وإن خالفت المجبّرة في اختياريّة افعال العبإد وسائر اللوازم إلّا أنّهم سلكوا في إثباته مسلكا لا يقصر من قول المجبّرة فسادا، وهو أنّهم سلّموا للمجبّرة أنّ

٩٩

تعلّق إرادة الله بالفعل يوجب بطلان الاختيار، ومن جهة أخرى أصرّوا على اختياريّة الافعال الاختياريّة فنفوا بالإخرة تعلّق الإرادة الإلهيّة بالافعال فلزمهم إثبات خالق آخر للإفعال وهو الإنسان، كما أنّ خالق غيرها هو الله سبحانه فلزمهم محذور الثنويّة، ثمّ وقعوا في محاذير إخرى أشدّ ممّا وقعت فيه المجبّرة، كما قالعليه‌السلام : مساكين القدريّة أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من قدرته وسلطانه الحديث.

فمثل هذا مثل المولى من الموالي العرفيّة يختار عبدا من عبيده و يزوّجه إحدى فتياته ثمّ يقطع له قطيعة ويخصّه بدار وأثاث وغير ذلك ممّا يحتاج إليه الإنسان في حيإته إلى حين محدود وأجل مسمّى، فإن قلنا إنّ المولى وإن اعطى لعبده ما أعطى وملكه ما ملّك فإنّه لا يملك وأين العبد من الملك كان ذلك قول المجبّرة، وإن قلنا إن إلمولى باعطائه المال لعبده وتمليكه جعله مالكا وإنعزل هو عن المالكيّة وكان المالك هو العبد كان ذلك قول المعتزلة، ولو جمعنا بين الملكين بحفظ المرتبتين وقلنا: إن المولى مقامه في المولويّة وللعبد مقامه في الرّقيّة وإنّ العبد إنّما يملك في ملك المولى، فالمولى مالك في عين أنّ العبد مالك فهنا ملك على ملك كان ذلك القول الحقّ الّذى رآه أئمّة أهل البيتعليه‌السلام ، وقام عليه البرهان هذ.

وفي الاحتجاج فيما سأله عباية بن ربعيّ الاسديّ عن أميرالمؤمنين علىّعليه‌السلام في معنى الاستطاعة، فقال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : تملكها من دون الله أو مع الله ؟ فسكت عباية بن ربعيّ فقال له قل يا عباية، قال: وما أقول يا أميرالمؤمنين ؟ قال: تقول تملكها بالله الّذي يملكها من دونك فإنّ ملّككها كان ذلك من عطائه وإن سلبكها كان ذلك من بلائه وهو المالك لما ملّكك والقادر على ما عليه أقدرك الحديث.

أقول: ومعنى الرواية واضح ممّا بيّناه آنفا.

وفي شرح العقائد للمفيد قال: وقد روى عن أبي الحسن الثالثعليه‌السلام إنّه سئل عن أفعال العباد أهي مخلوقة لله تعالى ؟ فقالعليه‌السلام : لو كان خالقا لها لما تبرء منها وقد قال سبحانه: إن الله برئ ٌمن المشركين ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم وإنّما تبرء من شركهم وقبائحهم.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

كانت ربّما استفيد الندب إليها من مثل قوله تعالى:( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الّذين من قبلهم ) المؤمن: ٨٢، وقوله:( فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ) الآية ١٢٢ من السورة إلّا أنّ إرادتها من قوله:( السائحون ) تبطل جودة الترتيب بين الصفات المنضودة.

وثالثاً: أنّ هذه الصفات الشريفة هي الّتى يتمّ بها إيمان المؤمن المستوجب للوعد القطعيّ بالجنّـة المستتبع للبشارة الإلهيّـة والنبويّـة وهى الملازمة للقيام بحقّ الله المستلزمة لقيام الله سبحانه بما جعله من الحقّ على نفسه.

قوله تعالى: ( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اُولى قربى ) إلى آخر الآيتين، معنى الآية ظاهر غير أنّه تعالى لمّا ذكر في الآية الثانية الّتى تبيّن سبب استغفار ابراهيم لأبيه مع كونه كافراً أنّه تبرّأ منه بعد ذلك لمّا تبيّن له أنّه عدوّ لله، فدلّ ذلك على أنّ تبيّن كون المشركين أصحاب الجحيم إنّما يرشد إلى عدم جواز الاستغفار لكونه ملازماً لكونهم أعداء لله فإذا تبيّن للنبىّ والّذين آمنوا أنّ المشركين أعداء لله كشف ذلك لهم عن حكم ضروريّ وهو عدم جواز الاستغفار لكونه لغواً لا يترتّب عليه أثر وخضوع الإيمان مانع أن يلغو العبد مع ساحة الكبرياء.

وذلك أنّه تارة يفرض الله تعالى عدوّاً للعبد مبغضاً له لتقصير من ناحيته وسوء من عمله فمن الجائز بالنظر إلى سعة رحمة الله أن يستغفر له ويسترحم إذا كان العبد متذلّلاً غير مستكبر، وتارة يفرض العبد عدوّاً لله محارباً له مستكبراً مستعلياً كأرباب الجحود والعناد من المشركين، والعقل الصريح حاكم بأنّه لا ينفعه حينئذ شفاعة بمسألة أو استغفار إلّا أن يتوب ويرجع إلى الله وينسلخ عن الاستكبار والعناد ويتلبّس بلباس الذلّة والمسكنة فلا معنى لسؤال الرحمة والمغفرة لمن يأبى عن القبول، ولا للاستعطاء لمن لا يخضع للأخذ والتناول إلّا الهزؤ بمقام الربوبيّـة واللعب بمقام العبوديّـة وهو غير جائز بضرورة من حكم الفطرة.

وفي الآية نفى الجواز بنفى الحقّ بدليل قوله:( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا ) أي ما كانوا يملكون الاستغفار بعد ما تبيّن لهم كذا وكذا، وقد تقدّم في ذيل قوله

٤٢١

تعالى:( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ) الآية ١٧ من السورة أنّ حكم الجواز مسبوق في الشرع بجعل الحقّ.

والمعنى أنّ النبيّ والّذين آمنوا بعد ما ظهر وتبيّن بتبيين الله لهم أنّ المشركين أعداء لله مخلّدون في النار لم يكن لهم حقّ يملكون به أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اُولى قربى منهم، وأمّا استغفار إبراهيم لأبيه المشرك فإنّه ظنّ أنّه ليس بعدوّ معاند لله وإن كان مشركاً فاستعطفه بوعد وعدها إيّاه فاستغفر له فلمّا تبيّن له أنّه عدوّ لله معاند على شركه وضلاله تبرّء منه.

وقوله:( إنّ إبراهيم لأوّاه حليم ) تعليل لوعد إبراهيم واستغفاره لأبيه بأنّه تحمّل جفوة أبيه ووعده وعداً حسناً لكونه حليماً واستغفر له لكونه أوّاهاً، والأوّاه هو الكثير التأوّه خوفاً من ربّه وطمعاً فيه.

قوله تعالى: ( وما كان الله ليضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتّى يبيّن لهم ما يتّقون ) إلى آخر الآيتين الآيتان متّصلتان بالآيتين قبلهما المسوقتين للنهى عن الاستغفار للمشركين.

أمّا الآية الاُولى أعني قوله:( وما كان الله ليضلّ ) الخ ففيه تهديد للمؤمنين بالإضلال بعد الهداية إن لم يتّقوا ما بيّن الله لهم أن يتّقوه ويجتنبوا منه، وهو بحسب ما ينطبق على المورد أنّ المشركين أعداء لله لا يجوز الاستغفار لهم والتودّد إليهم فعلى المؤمنين أن يتّقوا ذلك وإلّا فهو الضلال بعد الهدى، وعليك أن تذكر ما قدّمناه في تفسير قوله تعالى:( اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشوني ) المائدة: ٣ في الجزء الخامس من الكتاب وفي تفسير آيات ولاية المشركين وأهل الكتاب الواقعة في السور المتقدّمة.

والآية بوجه في معنى قوله تعالى:( ذلك بأنّ الله لم يك مغيّراً نعمة أنعمها على قوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم ) الأنفال: ٥٣ وما في معناه من الآيات، وهى جميعاً تهتف بأنّ من السنّة الإلهيّـة أن تستمرّ على العبد نعمته وهدايته حتّى يغيّر هو ما عنده بالكفران والتعدّى فيسلب الله منه النعمة والهداية.

٤٢٢

وأمّا الآية الثانية أعنى قوله:( إنّ الله له ملك السماوات والأرض يحيى ويميت وما لكم من دون الله من ولىّ ولا نصير ) فذيلها بيان لعلّة الحكم السابق المدلول عليه بالآية السابقة وهو النهى عن تولّى أعداء الله أو وجوب التبرّى منهم إذ لا ولىّ ولا نصير حقيقة إلّا الله سبحانه وقد بيّنه للمؤمنين فعليهم بدلالة من إيمانهم أن يقصروا التولّى عليه تعالى أو من أذن في تولّيهم له من أوليائه وليس لهم أن يتعدّوا ذلك إلى تولّى أعدائه كائنين من كانوا.

وصدر الآية بيان لسبب هذا السبب وهو أنّ الله سبحانه هو الّذى يملك كلّ شئ وبيده الموت والحياة فإليه تدبير كلّ أمر فهو الولىّ لا ولىّ غيره.

وقد ظهر من عموم البيان والعلّة في الآيات الأربع أنّ الحكم عامّ وهو وجوب التبرّى أو حرمة التولّى لأعداء الله سواء كان التولّى بالاستغفار أو بغير ذلك وسواء كان العدوّ مشركاً أو كافراً أو منافقاً أو غيرهم من أهل البدع الكافرين بايات الله أو المصرّين على بعض الكبائر كالمرابى المحارب لله ورسوله.

قوله تعالى: ( لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار الّذين ) إلى آخر الآيتين، الساعة مقدار من الزمان فساعة العسرة الزمان الّذى تعسر فيه الحياة لابتلاء الإنسان بما تشقّ معه العيشة عليه كعطش أو جوع أو حرّ شديد أو غير ذلك، والزيغ هو الخروج من الطريق والميل عن الحقّ، وإضافة الزيغ إلى القلوب وذكر ساعة العسرة وسائر ما يلوح من سياق الكلام دليل على أنّ المراد بالزيغ الاستنكاف عن امتثال أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والخروج عن طاعته بالتثاقل عن الخروج إلى الجهاد أو الرجوع إلى الأوطان بقطع السير تحرّجاً من العسرة والمشقّة الّتى واجهتهم في مسيرهم.

والتخليف - على ما في المجمع - تأخير الشئ عمّن مضى فأمّا تأخير الشئ عنك في المكان فليس بتخليف، وهو من الخلف الّذى هو مقابل لجهة الوجه يقال، خلّفه أي جعله خلفه فهو مخلّف. انتهى والرحب هو السعة الّتى تقابل الضيق، وبما رحبت أي برحبها فما مصدريّة.

و الآيتان وإن كانت كلّ واحدة منهما ناظرة إلى جهة دون جهة الاُخرى

٤٢٣

فالاُولى تبيّن التوبة على النبيّ والمهاجرين والأنصار والثانية تبيّن توبة الثلاثة المخلّفين مضافاً إلى أنّ نوع التوبة على أهل الآيتين مختلف فأهل الآية الاُولى أو بعضهم تاب الله عليهم من غير معصية منهم، وأهل الآية الثانية تيب عليهم وهم عاصون مذنبون.

وبالجملة الآيتان مختلفتان غرضاً ومدلولاً غير أنّ السياق يدلّ على أنّهما مسوقتان لغرض واحد ومتّصلتان كلاماً واحداً تبيّن فيه توبته تعالى للنبىّ والمهاجرين والأنصار والثلاثة الّذين خلّفوا، ومن الدليل عليه قوله:( لقد تاب الله على النبيّ - إلى أن قال -وعلى الثلاثة ) الخ فالآية الثانية غير مستقلّة عن الاُولى بحسب اللفظ وإن استقلّت عنها في المعنى، وذلك يستدعى نزولهما معاً وتعلّق غرض خاصّ بهذا الاتّصال والامتزاج.

ولعلّ الغرض الأصلىّ بيان توبة الله سبحانه لاُولئك الثلاثة المخلّفين وقد ضمّ إليها ذكر توبته تعالى للمهاجرين والأنصار حتّى للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتطيب قلوبهم بخلطهم بغيرهم وزوال تميّزهم من سائر الناس وعفو أثر ذلك عنهم حتّى يعود الجميع على نعت واحد وهو أنّ الله تاب عليهم برحمته فهم فيه سواء من غير أن يرتفع بعضهم عن بعض أو ينخفض بعضهم عن بعض.

وبهذا تظهر النكتة في تكرار ذكر التوبة في الآيتين فإنّ الله سبحانه يبدء بذكر توبته على النبيّ والمهاجرين والأنصار ثمّ يقول:( ثمّ تاب عليهم ) وعلى الثلاثة الّذين خلّفوا ثمّ يقول:( ثمّ تاب عليهم ليتوبوا ) فليس إلّا أنّ الكلام مسوق على منهج الإجمال والتفصيل ذكر فيه توبته تعالى على الجميع إجمالاً ثمّ اُشير إلى حال كلّ من الفريقين على حدته فذُكرت عند ذلك توبته الخاصّـة به.

ولو كانت كلّ واحدة من الآيتين ذات غرض مستقلّ من غير أن يجمعها غرض جامع لكان ذلك تكراراً من غير نكتة ظاهرة.

على أنّ في الآية الاُولى دلالة واضحة على أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن له في ذلك ذنب

٤٢٤

ولا زيغ ولا كاد أن يزيغ قلبه فإنّ في الكلام مدحاً للمهاجرين والأنصار باتّباع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يزغ قلبه ولا كاد أن يزيغ حتّى صار متّبعاً يقتدى به ولو لا ما ذكرناه من الغرض لم يكن لذكرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع سائر المذكورين وجه ظاهر.

فيؤول معنى الآية إلى أنّ الله - اُقسم لذلك - تاب ورجع برحمته رجوعاً إلى النبيّ والمهاجرين والأنصار والثلاثة الّذين خلّفوا فأمّا توبته ورجوعه بالرحمة على المهاجرين والأنصار فإنّهم اتّبعوا النبيّ في ساعة العسرة وزمانها - وهو أيّـام مسيرهم إلى تبوك - اتّبعوه من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ويميل عن الحقّ بترك الخروج أو ترك السير فبعد ما اتّبعوه تاب الله عليهم إنّه بهم لرؤوف رحيم.

وأمّا الثلاثة الّذين خلّفوا فإنّهم آل أمرهم إلى أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ووسعت - وكان ذلك بسبب أنّ الناس لم يعاشروهم ولا كلّموهم حتّى أهلهم فلم يجدوا أنيساً يأنسون به - وضاقت عليهم أنفسهم - من دوام الغمّ عليهم - و أيقنوا أن لا ملجأ من الله إلّا إليه بالتوبة والإنابة فلمّا كان ذلك كلّه تاب الله عليهم وانعطف ورجع برحمته إليهم ليتوبوا إليه فيقبل توبتهم إنّه هو التوّاب - كثير الرجوع إلى عباده يرجع إليهم بالهداية والتوفيق للتوبة إليه ثمّ بقبول تلك التوبة - والرحيم بالمؤمنين.

وقد تبيّن بذلك كلّه أوّلاً: أنّ المراد بالتوبة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محض الرجوع إليه بالرحمة، ومن الرجوع إليه بالرحمة، الرجوع إلى اُمّته بالرحمة فالتوبة عليهم توبة عليه فهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الواسطة في نزول الخيرات والبركات إلى اُمّته.

وأيضاً فإنّ من فضله تعالى على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن: كلّما ذكر اُمّته أو الّذين معه بخير أفرده من بينهم وصدر الكلام بذكره تشريفاً له كما في قوله:( آمن الرسول بما اُنزل إليه من ربّه والمؤمنون ) البقرة: ٢٨٥ وقوله:( ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) التوبة ٢٦، وقوله:( لكن الرسول والّذين آمنوا معه جاهدوا ) التوبة ٨٨ إلى غير ذلك من الموارد.

وثانياً: أنّ المراد بما ذكر ثانياً وثالثاً من التوبه بقوله:( ثمّ تاب عليهم ) في

٤٢٥

الموضعين هو تفصيل ما ذكره إجمالاً بقوله:( لقد تاب الله ) .

وثالثاً: أنّ المراد بالتوبة في قوله:( ثمّ تاب عليهم ) في الموضعين رجوعه تعالى إليهم بالهداية إلى الخير والتوفيق فقد ذكرنا مراراً في الأبحاث السابقة أنّ توبة العبد محفوفة بتوبتين من الربّ تعالى، وأنّه يرجع إليه بالتوفيق وإفاضة رحمة الهداية وهو التوبة الاُولى منه فيهتدى العبد إلى الاستغفار وهو توبته فيرجع تعالى إليه بقبول توبته وغفران ذنوبه وهو التوبة الثانية منه تعالى.

والدليل على أنّ المراد بها في الموضعين ذلك أمّا في الآية الاُولى فلأنّه لم يذكر منهم فيها ذنباً يستغفرون له حتّى تكون توبته عليهم توبة قبول، وإنّما ذكر أنّه كان من المتوقّع زيغ قلوب بعضهم وهو يناسب التوبة الاُولى منه تعالى دون الثانية، وأمّا في الآية الثانية فلأنّه ذكر بعدها قوله:( ليتوبوا ) وهو الاستغفار، اُخذ غاية لتوبته تعالى فتوبته تعالى قبل توبتهم ليست إلّا التوبة الاُولى منه.

وربّما أيّد ذلك قوله تعالى في مقام تعليل توبته عليهم:( إنّه بهم رؤوف رحيم ) حيث لم يذكر من أسمائه ما يدلّ بلفظه على قبول توبتهم كما لم يذكر منهم توبة بمعنى الاستغفار.

ورابعاً: أنّ المراد بقوله في الآية الثانية:( ليتوبوا ) توبة الثلاثة الّذين خلّفوا المترتّب على توبته تعالى الاُولى عليهم، فالمعنى ثمّ تاب الله على الثلاثة ليتوب الثلاثة فيتوب عليهم ويغفر لهم إنّه هو التوّاب الرحيم.

فان قلت: فالآية لم تدلّ على قبول توبتهم وهذا مخالف للضرورة الثابتة من جهة النقل أنّ الآية نزلت في توبتهم.

قلت: القصّة ثابتة نقلاً غير أنّها لا توجد دلالة في لفظ الآية إلّا أنّ الآية تدلّ بسياقها على ذلك فقد قال تعالى قى مقام الإجمال:( لقد تاب الله ) وهو أعمّ بإطلاقه من التوبة بمعنى التوفيق وبمعنى القبول، وكذا قوله بعد:( إنّ الله هو التوّاب الرحيم ) وخاصّـة بالنظر إلى ما في الجملة من سياق الحصر الناظر إلى قوله:( وظنّوا أن لا ملجأ من الله إلّا إليه ) فإذا كانوا أقدموا على التوبة ليأخذوا ملجاً من الله يأمنون فيه وقد هداهم

٤٢٦

الله إليه بالتوبة فتابوا فمن المحال أن يردّهم الله من بابه خائبين وهو التوّاب الرحيم، وكيف يستقيم ذلك؟ وهو القائل عزّ من قائل:( إنّما التوبة على الله للّذين يعملون السوء بجهالة ثمّ يتوبون من قريب فاُولئك يتوب الله عليهم ) النساء: ١٧.

وربّما قيل: إنّ معنى( ثمّ تاب عليهم ليتوبوا ) ثمّ سهّل الله عليهم التوبة ليتوبوا. وهو سخيف. وأسخف منه قول من قال: إنّ المراد بالتوبة في( ليتوبوا ) الرجوع إلى حالتهم الاُولى قبل المعصية. وأسخف منه قول آخرين: إنّ الضمير في( ليتوبوا ) راجع إلى المؤمنين والمعنى ثمّ تاب على الثلاثة وأنزل توبتهم على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتوب المؤمنون من ذنوبهم لعلمهم بأنّ الله قابل التوب.

وخامساً: أنّ الظنّ يفيد في الآية مفاد العلم لا لدلالة لفظيّـة بل لخصوص المورد.

قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله وكونوا مع الصادقين ) الصدق بحسب الأصل مطابقة القول والخبر للخارج، ويوصف به الإنسان إذا طابق خبره الخارج ثمّ لمّا عدّ كلّ من الاعتقاد والعزم - الإرادة - قولاً توسّع في معنى الصدق فعدّ الإنسان صادقاً إذا طابق خبره الخارج وصادقاً إذا عمل بما اعتقده وصادقاً إذا أتى بما يريده ويعزم عليه على الجدّ.

وما في الآية من إطلاق الأمر بالتقوى واطلاق الصادقين وإطلاق الأمر بالكون معهم - والمعيّة هي المصاحبة في العمل وهو الاتّباع - يدلّ على أنّ المراد بالصدق هو معناه آلوسيع العامّ دون الخاصّ.

فالآية تأمر المؤمنين بالتقوى واتّباع الصادقين في أقوالهم وأفعالهم وهو غير الأمر بالاتّصاف بصفتهم فإنّه الكون منهم لا الكون معهم وهو ظاهر.

قوله تعالى: ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ) إلى آخر الآيتين الرغبة ميل خاصّ نفسانيّ والرغبة في الشئ الميل إليه لطلب منفعة فيه، والرغبة عن الشئ الميل عنه بتركه والباء للسببيّـة فقوله:( ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ) معناه وليس لهم أن يشتغلوا بأنفسهم عن نفسه فيتركوه عند مخاطر المغازى وفي تعب الأسفار ودعثائها ويقعدوا

٤٢٧

للتمتّع من لذائذ الحياة، والظمأ العطش، والنصب التعب والمخمصة المجاعة، والغيظ أشدّ الغضب، والموطئ الأرض الّتى توطأ بالأقدام.

والآية تسلب حقّ التخلّف عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل المدينة والأعراب الّذين حولها ثمّ تذكر أنّ الله قابل هذا السلب منهم بأنّه يكتب لهم في كلّ مصيبة تصيبهم في الجهاد من جوع وعطش وتعب وفي كلّ أرض يطئونها فيغيطون به الكفّـار أو نيل نالوه منهم عملاً صالحاً فإنّهم محسنون والله لا يضيع أجر المحسنين، وهذا معنى قوله:( ذلك بأنّهم لا يصيبهم ظمأ ) الخ.

ثمّ ذكر أنّ نفقاتهم صغيرة يسيرة كانت أو كبيرة خطيرة وكذا كلّ واد قطعوه فإنّه مكتوب لهم محفوظ لأجلهم ليجزوا به أحسن الجزاء.

وقوله:( ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ) غاية متعلّقة بقوله:( كتب لهم ) أي غاية هذه الكتابة هي أن يجزيهم بأحسن أعمالهم، وإنّما خصّ جزاء أحسن الأعمال بالذكر لأنّ رغبة العامل عاكفة عليه، أو لأنّ الجزاء بأحسنها يستلزم الجزاء بغيره، أو لأنّ المراد بأحسن الأعمال الجهاد في سبيل الله لكونه أشقّها وقيام الدعوة الدينيّـة به.

وههنا معنى آخر وهو أنّ جزاء العمل في الحقيقة إنّما هو نفس العمل عائداً إلى الله فأحسن الجزاء هو أحسن العمل فالجزاء بأحسن الأعمال في معنى الجزاء بأحسن الجزاء ومعنى آخر وهو أن يغفر الله سبحانه سيّئاتهم المشوبة بأعمالهم الحسنة ويستر جهات نقصها فيكون العمل أحسن بعد ما كان حسناً ثمّ يجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون فافهم ذلك وربّما رجع المعنيان إلى معنى واحد.

قوله تعالى: ( وما كان المؤمنون لينفروا كافّة فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ) السياق يدلّ على أنّ المراد بقوله:( لينفروا كافّة ) لينفروا وليخرجوا إلى الجهاد جميعاً، وقوله:( فرقة منهم ) الضمير للمؤمنين الّذين ليس لهم أن ينفروا كافّة، ولازمه أن يكون النفر إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم.

فالآية تنهى مؤمنى سائر البلاد غير مدينة الرسول أن ينفروا إلى الجهاد كافّة

٤٢٨

بل يحضّضهم أن ينف طائفة منهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتفقّه في الدين، وينفر إلى الجهاد غيرهم.

والأنسب بهذا المعنى أن يكون الضمير في قوله( رجعوا ) للطائفة المتفقّهين، وفي قوله:( إليهم ) لقومهم والمراد إذا رجع هؤلاء المتفقّهون إلى قومهم، ويمكن العكس بأن يكون المعنى: إذا رجع قومهم من الجهاد إلى هؤلاء الطائفة بعد تفقّههم ورجوعهم إلى اوطانهم.

ومعنى الآية لا يجوز لمؤمنى البلاد أن يخرجوا إلى الجهاد جميعاً فهلّا نفر وخرج إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طائفة من كلّ فرقة من فرق المؤمنين ليتحقّقوا الفقه والفهم في الدين فيعملوا به لأنفسهم ولينذروا بنشر معارف الدين وذكر آثار المخالفة لاُصوله وفروعه قومهم إذا رجعت هذه الطائفة إليهم لعلّهم يحذرون ويتّقون.

ومن هنا يظهر أوّلاً: أنّ المراد بالتفقّه تفهّم جميع المعارف الدينيّـة من اُصول وفروع لا خصوص الأحكام العمليّـة وهو الفقه المصطلح عليه عند المتشرّعة، والدليل عليه قوله:( لينذروا قومهم ) فإنّ ذلك أمر إنّما يتمّ بالتفقّه في جميع الدين وهو ظاهر.

وثانياً: أنّ النفر إلى الجهاد موضوع عن طلبة العلم الدينىّ بدلالة من الآية.

وثالثاً: أنّ سائر المعاني المحتملة الّتى ذكروها في الآية بعيده عن السياق كقول بعضهم: إنّ المراد بقوله:( لينفروا كافّة ) نفرهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتفقّه، وقول بعضهم في( فلو لا نفر ) : أي إلى الجهاد، والمراد بقوله:( ليتفقهوا ) أي الباقون المتخلّفون فينذروا قومهم النافرين إلى الجهاد إذا رجعوا إلى اُولئك المتخلّفين. فهذه ونظائرها معان بعيدة لا جدوى في التعرّض لها والإطناب في البحث عنها.

قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا قاتلوا الّذين يلونكم من الكفّـار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أنّ الله مع المتّقين ) أمر بالجهاد العامّ الّذى فيه توسّع الإسلام حتّى يشيع في الدنيا فإنّ قتال كلّ طائفة من المؤمنين من يليهم من الكفّـار لا ينتهى إلّا باتّساع الإسلام اتّساعاً باستقرار سلطنته على الدنيا وإحاطته بالناس جميعاً.

والمراد بقوله:( وليجدوا فيكم غلظة ) أي الشدّة في ذات الله وليس يعنى بها

٤٢٩

الخشونة والفظاظة وسوء الخلق والقساوة والجفاء فجميع الاُصول الدينيّـة تذمّ ذلك وتستقبحه، ولحن آيات الجهاد ينهى عن كلّ تعدّ واعتداء وجفاء كما مرّ في سورة البقرة.

وفي قوله:( واعلموا أنّ الله مع المتّقين ) وعد إلهى بالنصر بشرط التقوى، ويؤول معناه إلى إرشادهم إلى أن يكونوا دائماً مراقبين لأنفسهم ذاكرين مقام ربّهم منهم، وهو أنّه معهم ومولاهم فهم الأعلون إن كانوا يتّقون.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور أخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبدالله قال: نزلت هذه الآية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في المسجد:( إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ) الآية فكبّر الناس في المسجد فأقبل رجل من الأنصار ثانياً طرفي ردائه على عاتقه فقال: يا رسول الله أنزلت هذه الآية؟ قال: نعم. فقال الأنصاريّ: بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل.

وفي الكافي بإسناده عن سماعة عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: لقى عبّاد البصريّ علىّ بن الحسينعليه‌السلام في طريق مكّة فقال له: يا علىّ بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحجّ ولينته إنّ الله يقول:( إنّ الله اشترى ) الخ، فقال علىّ بن الحسينعليه‌السلام إذا رأينا هؤلاء الّذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحجّ.

أقول: يريدعليه‌السلام ما في الآية الثانية:( التائبون العابدون ) الآية من الأوصاف.

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: سياحة اُمّتى في المساجد.

أقول: وروى عن أبى هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ السائحين هم الصائمون، وعن أبى اُمامة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ سياحة اُمّتى الجهاد في سبيل الله، وقد تقدّم الكلام فيه.

وفي المجمع:( التائبين العابدين ) إلى آخرها بالياء عن أبى جعفر وأبى عبداللهعليهما‌السلام .

٤٣٠

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى:( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) أخرج ابن أبى شيبة وأحمد والبخاريّ ومسلم والنسائيّ وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبوالشيخ وابن مردويه والبيهقيّ في الدلائل عن سعيد بن المسيّب عن أبيه قال: لمّا حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنده أبوجهل وعبدالله بن أبى أميّة فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أى عمّ قل لا إله إلّا الله اُحاجّ لك بها عند الله فقال أبوجهل وعبدالله بن أبى اُميّة: يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبدالمطّلب؟ وجعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرضها عليه وأبوجهل وعبدالله يعانوانه(١) بتلك المقالة فقال أبو طالب آخر ما كلّمهم هو: على ملّة عبدالمطّلب، وأبى أن يقول: لا إله إلّا الله.

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فنزلت:( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) الآية، وأنزل الله في أبى طالب فقال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء ) .

اقول: وفي معناه روايات اُخرى من طرق أهل السنّة، وفى بعضها أنّ المسلمين لمّا رأوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستغفر لعمّه وهو مشرك استغفروا لآبائهم المشركين فنزلت الآية، وقد اتّفقت الرواية عن أئمّـة أهل البيتعليهم‌السلام أنّه كان مسلماً غير متظاهر بإسلامه ليتمكّن بذلك من حماية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفيما روى بالنقل الصحيح من أشعاره شئ كثير يدلّ على توحيده وتصديقه النبوّة، وقد قدّمنا نبذة منها.

وفي الكافي بإسناده عن زرارة عن أبى جعفر قال: الأوّاه الدّعاء.

وفي المجمع في قوله تعالى:( وما كان الله ليضلّ قوماً ) الآية قيل: مات قوم من المسلمين على الإسلام قبل أن تنزل الفرائض فقال المسلمون: يا رسول الله إخواننا المسلمون ماتوا قبل الفرائض ما منزلتهم؟ فنزل:( وما كان الله ليضلّ قوماً ) الآية عن الحسن.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن عبّـاس في الآية قال: نزلت حين أخذوا الفداء من المشركين يوم الاُسارى(٢) قال: لم يكن لكم أن تأخذوه حتّى يؤذن لكم

____________________

(١) أي يفسرانه.

(٢) يعنى يوم بدر.

٤٣١

ولكن ما كان الله ليعذّب قوماً بذنب أذنبوه حتّى يبيّن لهم ما يتّقون. قال: حتّى ينهاهم قبل ذلك.

أقول: ظاهر الروايتين أنّهما من التطبيق دون النزول بمعناه المصطلح عليه، واتّصال الآية بالآيتين قبلها ودخولها في سياقهما ظاهر، وقد تقدّم توضيحه.

وفي الكافي بإسناده عن حمزة بن محمّـد الطيّار عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( وما كان الله ليضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتّى يبيّن لهم ما يتّقون ) قال: يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه. الحديث.

أقول: ورواه أيضاً عن عبد الأعلى عنهعليه‌السلام ، ورواه البرقىّ أيضاً في المحاسن.

وفى تفسير القمّىّ:( لقد تاب الله بالنبيّ على المهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة ) قال الصادقعليه‌السلام : هكذا نزلت وهم أبوذرّ وأبو خيثمة وعمير بن وهب الّذين تخلّفوا ثمّ لحقوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: وقد استخرجناه من حديث طويل أورده القمّىّ في تفسيره في قوله تعالى:( ولو أرادوا الخروج لأعدوّا له عدّة ) الآية: ٤٦ من السورة، وروى قراءة( بالنبيّ ) في المجمع عنه وعن الرضاعليهما‌السلام .

وفي المجمع في قوله:( وعلى الثلاثة الّذين خلّفوا ) وقرء علىّ بن الحسين زين العابدين ومحمّـد بن علىّ الباقرو جعفر بن محمّـد الصادقعليهم‌السلام وأبو عبد الرحمن السلمىّ. خالفوا.

وفيه في قوله:( لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار ) الآية نزلت في غزاة تبوك وما لحق المسلمين فيها من العسرة حتّى همّ قوم بالرجوع ثمّ تداركهم لطف الله سبحانه قال الحسن: كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم يركب الرجل ساعة ثمّ ينزل فيركب صاحبه كذلك، وكان زادهم الشعير المسوّس والتمر المدوّد والإهالة السنخة وكان النفر منهم يخرجون ما معهم من التميرات بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتّى يجد طعمها ثمّ يعطيها صاحبه فيمصّها ثمّ يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتّى يأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلّا النواة.

وفيه في قوله:( وعلى الثلاثة الّذين خلّفوا ) الآية نزلت في شأن كعب بن مالك

٤٣٢

ومرارة بن الربيع وهلال بن اُميّة، وذلك أنّهم تخلّفوا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يخرجوا معه لا عن نفاق ولكن عن توان ثمّ ندموا فلمّا قدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة جاؤوا إليه واعتذروا فلم يكلّمهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقدّم إلى المسلمين بأن لا يكلّمهم أحد منهم فهجرهم الناس حتّى الصبيان، وجاءت نساؤهم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلن له: يا رسول الله نعتزلهم؟ فقال: ولكن لا يقربوكنّ.

فضاقت عليهم المدينة فخرجوا إلى رؤوس الجبال، وكان أهاليهم يجيؤون لهم بالطعام ولا يكلّمونهم فقال بعضهم لبعض: قد هجرنا الناس ولا يكلّمنا أحد منهم فهلّا نتهاجر نحن أيضاً فتفرّقوا ولم يجتمع منهم اثنان، وبقوا على ذلك خمسين يوماً يتضرّعون إلى الله تعالى ويتوبون إليه، فقبل الله تعالى توبتهم وأنزل فيهم هذه الآية.

أقول: وقد تقدّمت القصّة في حديث طويل نقلناه من تفسير القمّىّ في الآية ٤٦ من السورة، ورويت القصّة بطرق كثيرة.

وفي تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب من تفسير أبى يوسف بن يعقوب بن سفيان حدّثنا مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال:( يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله ) قال: أمر الله الصحابة أن يخافوا الله. ثمّ قال:( وكونوا مع الصادقين ) يعنى مع محمّـد وأهل بيتهعليهم‌السلام .

أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة عن أئمّـة أهل البيتعليهم‌السلام وقد روى في الدرّ المنثورعن ابن مردويه عن ابن عبّـاس، وأيضاً عن ابن عساكر عن أبى جعفر في قوله:( وكونوا مع الصادقين ) قالا: مع علىّ بن أبى طالب.

وفي الكافي بإسناده عن يعقوب بن شعيب قال: قلت لأبي عبدالله (عيه السلام) إذا حدث على الإمام حدث كيف يصنع الناس؟ قال: أين قول الله عزّوجلّ:( فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون ) قال: هم في عذر ما داموا في الطلب، وهؤلاء الّذين ينتظرونهم في عذر حتّى يرجع إليهم أصحابهم.

٤٣٣

أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة عن الأئمّةعليهم‌السلام ، وهو ممّا يدلّ على أن المراد بالتفقّه في الآية أعمّ من تعلّم الفقه بالمعنى المصطلح عليه اليوم.

واعلم أنّ هناك أقوالاً اُخرى في أسباب نزول بعض الآيات السابقة تركناها لظهور ضعفها ووهنها.

٤٣٤

( سورة التوبة آيه ١٢٤ - ١٢٩)  

وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَن يَقُولُ أَيّكُمْ زَادَتْهُ هذِهِ إِيمَاناً فَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( ١٢٤ ) وَأَمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى‏ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ( ١٢٥ ) أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلّ عَامٍ مَرّةً أَوْ مَرّتَيْنِ ثُمّ لاَيَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذّكّرُونَ ( ١٢٦ ) وَإِذا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى‏ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِنْ أَحَدٍ ثُمّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاَيَفْقَهُونَ ( ١٢٧ ) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ( ١٢٨ ) فَإِن تَوَلّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لاَإِلهَ إِلّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَهُوَ رَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ١٢٩ )

( بيان)

هي آيات تختتم بها آيات براءة وهى تذكر حال المؤمنين والمنافقين عند مشاهدة نزول السور القرآنيّـة، يتحصّل بذلك أيضاً أمارة من أمارات النفاق يعرف بها المنافق من المؤمن، وهو قولهم عند نزول القرآن: أيّكم زادته هذه إيماناً ؟ ونظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد؟

وفيها وصفه تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصفاً يحنّ به إليه قلوب المؤمنين، وأمره بالتوكّل عليه إن أعرضوا عنه.

قوله تعالى: ( وإذا ما اُنزلت سورة فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيماناً ) إلى آخر الآيتين. نحو السؤال في قولهم: هل يراكم من أحد؟ يدلّ على أنّ سائله لا يخلو من شئ في قلبه فإنّ هذا السؤال بالطبع سؤال من لا يجد في قلبه أثراً من

٤٣٥

نزول القرآن وكأنّه يذعن أنّ قلوب غيره كقلبه فيما يتلقّاه فيتفحّص عمّن أثّر في قلبه نزول القرآن كأنّه يرى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدّعى أنّ القرآن يصلح كلّ قلب سواء كان مستعدّاً مهيّئاً للصلاح أم لا وهو لا يذعن بذلك وكلّما تليت عليه سورة جديدة ولم يجد في قلبه خشوعاً لله ولا ميلاً وحناناً إلى الحقّ زاد شكّاً فبعثه ذلك إلى أن يسأل سائر من حضر عند النزول عن ذلك حتّى يستقرّ في شكّه ويزيد ثباتاً في نفاقه.

وبالجملة السؤال سؤال من لا يخلو قلبه من نفاق.

وقد فصل الله سبحانه أمر القلوب وفرّق بين قلوب المؤمنين والّذين في قلوبهم مرض فقال:( فأمّا الّذين آمنوا ) وهم الّذين قلوبهم خالية عن النفاق بريئة من المرض وهم على يقين من دينهم بقرينة المقابلة( فزادتهم ) السورة النازلة( إيماناً ) فإنّها بإنارتها أرض القلب بنور هدايتها توجب اشتداد نور الإيمان فيه، وهذه زيادة في الكيف، وباشتمالها على معارف وحقائق جديدة من المعارف القرآنيّـة والحقائق الإلهيّـة، وبسطها على القلب نور الإيمان بها توجب زيادة إيمان جديد على سابق الإيمان وهذه زيادة في الكمّيّة ونسبة زيادة الإيمان إلى السورة من قبيل النسبة إلى الأسباب الظاهرة وكيف كان فالسورة تزيد المؤمنين إيماناً فتنشرح بذلك صدورهم وتتهلّل وجوههم فرحاً( وهم يستبشرون ) .

( وأما الّذين في قلوبهم مرض ) وهم أهل الشكّ والنفاق( فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) أي ضلالاً جديداً إلى ضلالهم القديم وقد سمّى الله سبحانه الضلال رجساً في قوله:( ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً كأنّما يصّعّد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الّذين لا يؤمنون ) الانعام: ١٢٥ والمقابلة الواقعة بين( الّذين آمنوا ) و( الّذين في قلوبهم مرض ) يفيد أنّ هؤلاء ليس في قلوبهم إيمان صحيح وإنّما هو الشكّ أو الجحد وكيف كان فهو الكفر ولذلك قال( وماتوا وهم كافرون ) .

والآية تدلّ على أنّ السورة من القرآن لا تخلو عن تأثير في قلب من استمعه فإن كان قلباً سليماً زادته إيماناً واستبشاراً وسروراً، وإن كان قلباً مريضاً زادته رجساً وضلالاً نظير ما يفيده قوله:( وننزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلّا

٤٣٦

خساراً ) أسرى: ٨٢.

قوله تعالى: ( أو لا يرون أنّهم يفتنون في كلّ عام مرّة أو مرّتين ) الآية الاستفهام للتقرير أي ما لهم لا يتفكّرون ولا يعتبرون وهم يرون أنّهم يبتلون ويمتحنون كلّ عام مرّة أو مرّتين فيعصون الله ولا يخرجون من عهدة المحنة الإلهيّـة وهم لا يتوبون ولا يتذكّرون ولو تفكّروا في ذلك انتبهوا لواجب أمرهم وأيقنوا أنّ الاستمرار على هذا الشأن ينتهى بهم إلى تراكم الرجس على الرجس والهلاك الدائم والخسران المؤبّد.

قوله تعالى: ( وإذا ما اُنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ) الآية وهذه خصيصة اُخرى من خصائصهم وهى أنّهم عند نزول سورة قرآنيّـة - ولا محالة هم حاضرون - ينظر بعضهم إلى بعض نظر من يقول: هل يراكم من أحد، وهذا قول من يسمع حديثاً لا يطيقه ويضيق بذلك صدره فيتغيّر لونه ويظهر القلق والاضطراب في وجهه فيخاف أن يلتفت إليه ويظهر السرّ الّذى طواه في قلبه فينظر إلى بعض من كان قد أودعه سرّه وأوقفه على باطن أمره كأنّه يستفسره هل يطّلع على ما بنا من القلق والاضطراب أحد؟

فقوله:( نظر بعضهم إلى بعض ) أي بعض المنافقين، وهذا من الدليل على أنّ الضمير في قوله في الآية السابقة:( فمنهم من يقول ) أيضاً للمنافقين، وقوله:( نظر بعضهم إلى بعض ) أي نظر قلق مضطرب يحذر ظهور أمره وانهتاك ستره، وقوله:( هل يراكم من أحد ) في مقام التفسير للنظر أي نظر بعضهم إلى بعض نظر من يقول: هل يراكم من أحد؟ ومن للتأكيد وأحد فاعل يراكم.

وقوله:( ثمّ انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنّهم قوم لا يفقهون ) ظاهر السياق أنّ المعنى ثمّ انصرفوا من عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حال صرف الله قلوبهم عن وعى الآيات الإلهيّـة والإيمان بها بسبب أنّهم قوم لا يفقهون الكلام الحقّ فالجملة حاليّة على ما يجوّزه بعضهممن خلوّا الجملة الحاليّة المصدّرة بالفعل الماضي عن قد.

وربّما احتمل كون قوله:( صرف الله قلوبهم ) دعاءً منه تعالى على المنافقين، وله

٤٣٧

نظائر في القرآن، والدعاء منه تعالى على أحد إيعاد له بالشرّ.

قوله تعالى: ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) العنت هو الضرر والهلاك، وما في قوله:( ما عنتّم ) مصدريّة التأويل عنتكم، والمراد بالرسول على ما يشهد سياق الآيتين محمّـدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد وصفه بأنّه من أنفسهم والظاهر أنّ المراد به أنّه بشر مثلكم ومن نوعكم إذ لا دليل يدلّ على تخصيص الخطاب بالعرب أو بقريش خاصّـة، وخاصّـة بالنظر إلى وجود رجال من الروم وفارس والحبشة بين المسلمين في حال الخطاب.

والمعنى لقد جاءكم أيّها الناس رسول من أنفسكم، من أوصافه أنّه يشقّ عليه ضرّكم أو هلاككم وأنّه حريص عليكم جميعاً من مؤمن أو غير مؤمن، وأنّه رؤوف رحيم بالمؤمنين منكم خاصّـة فيحقّ عليكم أن تطيعوا أمره لأنّه رسول لا يصدع إلّا عن أمر الله، وطاعته طاعة الله، وأن تأنسوا به وتحنّوا إليه لأنّه من أنفسكم، وأن تجيبوا دعوته وتصغوا إليه كما ينصح لكم.

ومن هنا يظهر أنّ القيود المأخوذة في الكلام من الأوصاف أعني قوله( رسول ) و( من أنفسكم ) و( عزيز عليه ما عنتّم ) الخ، جميعها مسوقة لتأكيد الندب إلى إجابته وقبول دعوته، ويدلّ عليه قوله في الآية التالية:( فإن تولّوا فقل حسبى الله ) .

قوله تعالى: ( فإن تولّوا فقل حسبى الله لا إله إلّا هو عليه توكّلت وهو ربّ العرش العظيم ) أي وإن تولّوا عنك وأعرضوا عن قبول دعوتك فقل حسبى الله لا إله إلّا هو أي هو كافىّ لا إله إلّا هو.

فقوله:( لا إله إلّا هو ) في مقام التعليل لانقطاعه من الأسباب واعتصامه بربّه فهو كاف لا كافى سواه لأنّه الله لا إله غيره، ومن المحتمل أن تكون كلمة التوحيد جيئ بها للتعظيم نظير قوله:( وقالوا اتّخذ الله ولداً سبحانه ) البقرة: ١١٦.

وقوله:( عليه توكّلت ) وفيه معنى الحصر تفسير يفسّر به قوله:( حسبى الله ) الدالّ على معنى التوكّل بالالتزام، وقد تقدّم في بعض الأبحاث السابقة أنّ معنى التوكّل هو اتّخاذ العبد ربّه وكيلاً يحلّ محلّ نفسه ويتولّى تدبير اُموره أي انصرافه عن

٤٣٨

التسبب بذيل ما يعرفه من الأسباب، ولا محالة هو بعض الأسباب الّذى هو علّة ناقصة والاعتصام بالسبب الحقيقيّ الّذي إليه ينتهي جميع الأسباب.

ومن هنا يظهر وجه تذييل الكلام بقوله:( وهو ربّ العرش العظيم ) أي الملك والسلطان الّذي يحكم به على كلّ شئ ويدبّر به كلّ أمر.

وإنّما قال تعالى:( فقل حسبي الله ) الآية ولم يقل: فتوكّل على الله لإرشاده إلى أن يتوكّل على ربّه وهو ذاكر هذه الحقائق الّتي تنوّر حقيقة معنى التوكّل، وأنّ انظر المصيب هو أن لا يثق الإنسان بما يدر كه من الأسباب الظاهرة الّتي هي لا محالة بعض الأسباب بل يأخذ بما يعلمه منها على ما طبعه الله عليه ويثق بربّه ويتوكّل عليه في حصول بغيته وغرضه.

وفي الآية من الدلالة على عجيب اهتمامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باهتداء الناس ما ليس يخفى فإنّه تعالى يأمره بالتوكّل على ربّه فيما يهتمّ به من الأمر وهو ما تبيّنه الآية السابقة من شدّة رغبته وحرصه في اهتداء الناس وفوزهم بالسعادة فافهم ذلك.

( بحث روائي)

في الكافي بإسناده عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام - في حديث طويل يذكر فيه تمام الإيمان ونقصه، قال: قلت: قد فهمت نقصان الإيمان وتمامه فمن أين جاءت زيادته؟ فقال: قول الله عزّوجلّ:( وإذا ما اُنزلت سورة فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيماناً فأمّا الّذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأمّا الّذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) وقال:( نحن نقصّ عليك نبأهم بالحقّ إنّهم فتية آمنوا بربّهم وزدناهم هدى ) .

ولو كان كلّه واحداً لا زيادة فيه ولا نقصان لم يكن لأحد منهم فضل على الآخر، ولاستوت النعم فيه، ولاستوى الناس وبطل التفضيل، ولكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنّـة وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله، وبالنقصان دخل المفرّطون النار.

٤٣٩

وفي تفسير العيّـاشيّ عن زرارة بن أعين عن أبى جعفرعليه‌السلام ( وأمّا الّذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) يقول شكّاً إلى شكّهم.

وفي الدرّ المنثور في قوله:( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) أخرج أبونعيم في الدلائل عن ابن عبّـاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لم يلتق أبواي قطّ على سفاح: لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيّـبة إلى الأرحام الطاهرة مصفّى مهذّباً لا تنشعب شعبتان إلّا كنت في خيرهما.

أقول: وقد أورد فيه روايات كثيرة في هذا المعنى عن رجال من الصحابة وغيرهم كالعبّـاس وأنس وأبى هريرة وربيعة بن الحارث بن عبدالمطّلب وابن عمر وابن عبّـاس وعلى ومحمّـد بن علىّ الباقر وجعفر بن محمّـد الصادقعليه‌السلام وغيرهم عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفيه أخرج ابن الضريس في فضائل القرآن وابن الأنباريّ في المصاحف وابن مردويه عن الحسن أنّ اُبىّ بن كعب كان يقول: إنّ أحدث القرآن عهداً بالله - وفي لفظ بالسماء - هاتان الآيتان:( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) إلى آخر الآية.

أقول: و الرواية مرويّـة من طريق آخر عن اُبىّ بن كعب، وهى لا تخلو عن تعارض مع ما سيأتي من الرواية وكذا مع ما تقدّم من الروايات في قوله تعالى:( واتّقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ) الآية البقرة: ٢٨١ أنّها آخر آية نزلت من القرآن.

على أنّ لفظ الآيتين لا يلائم كونهما آخر ما نزلت من القرآن إلّا أن يكون إشارة إلى بعض الحوادث الواقعة في مرض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كحديث الدواة والقرطاس.

وفيه أخرج ابن إسحاق وأحمد بن حنبل وابن أبى داود عن عباد بن عبدالله بن الزبير قال: أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر براءة:( لقد جاءكم رسول من أنفسكم - إلى قوله -وهو ربّ العرش العظيم ) إلى عمر فقال: من معك على هذا؟ فقال: لا أدرى والله إلّا أنّى أشهد لسمعتها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووعيتها وحفظتها فقال عمر: وأنا أشهد لسمعتها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا سورة من القرآن فألحقوها فاُلحقت في آخر براءة.

أقول: وفي رواية أخرى أنّ عمر قال للحارث: لا أسألك عليها بيّنه أبداً كذلك

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459