الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 172976 / تحميل: 9105
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

( ٦ - القرآن يسند المعجزة إلى سبب غير مغلوب)

فقد تبيّن من الفصول السابقة من البحث أنّ المعجزة كسائر الاُمور الخارقة للعادة لا تفارق الأسباب العاديّة في الاحتياج إلى سبب طبيعيّ وأن مع الجميع أسبابا باطنيّة وأن الفرق بينها أن الاُمور العاديّة ملازمة لأسباب ظاهريّة تصاحبها الأسباب الحقيقيّة الطبيعيّة غالباً أو مع الأغلب ومع تلك الأسباب الحقيقيّة إرادة الله وأمره، والاُمور الخارقة للعادة من الشرور كالسحر والكهانة مستندة إلى أسباب طبيعيّة مفارقة للعادة مقارنة للسبب الحقيقيّ بالإذن والإرادة كإستجابة الدعاء ونحو ذلك من غير تحدّ يبتني عليه ظهور حقّ الدعوة وأن المعجزة مستندة إلى سبب طبيعيّ حقيقيّ بإذن الله وأمره إذا كان هناك تحدّ يبتنى عليه صحّة النبوّة والرسالة والدعوة إلى الله تعالى وأنّ القسمين الآخرين يفارقان سائر الأقسام في أنّ سببهما لا يصير مغلوبا مقهورا قطّ بخلاف سائر المسبّبات.

فإن قلت: فعلى هذا لو فرضنا الإحاطة والبلوغ إلى السبب الطبيعيّ الّذي للمعجزة كانت المعجزة ميسورة ممكنة الإتيان لغير النبيّ أيضاً ولم يبق فرق بين المعجزة وغيرها إلّا بحسب النسبة والإضافه فقط فيكون حينئذ أمر ما معجزة بالنسبة إلى قوم غير معجزة بالنسبة إلى آخرين، وهم المطّلعون على سببها الطبيعيّ الحقيقيّ، وفي عصر دون عصر، وهو عصر العلم. فلو ظفر البحث العلميّ على الأسباب الحقيقيّة الطبيعيّة القصوى لم يبق مورد للمعجزة ولم تكشف المعجزة عن الحق. ونتيجه هذا البحث أن المعجزة لا حجيّة فيها إلّا على الجاهل بالسبب فليست حجّة في نفسها.

قلت: كلّا فليست المعجزة معجزة من حيث أنّها مستندة إلى سبب طبيعيّ مجهول حتّى تنسلخ عن إسمها عند إرتفاع الجهل وتسقط عن الحجيّة، ولا أنّها معجزة من حيث إستنادها إلى سبب مفارق للعادة، بل هي معجزة من حيث أنها مستندة إلى أمر مفارق للعادة غير مغلوب السبب قاهرة العلة البتّة، وذلك كما أنّ الأمر الحادث من جهة إستجابة الدعاء كرامة من حيث إستنادها إلى سبب غير مغلوب كشفاء المريض مع أنّه يمكن أن يحدث من غير جهته كجهة العلاج بالدواء غير أنّه حينئذ أمر عاديّ يمكن أن يصير سببه مغلوبا مقهورا بسبب آخر أقوى منه.

٨١

( ٧ - القرآن يعدّ المعجزة برهاناً على صحّة الرّسالة لا دليلاً عاميّاً)

وهيهنا سؤال وهو أنّه ما هي الرابطة بين المعجزة وبين حقيّة دعوى الرسالة مع أنّ العقل لا يرى تلازماً بين صدق الرسول في دعوته إلى الله سبحانه وبين صدور أمر خارق للعادة عن الرسول على أنّ الظاهر من القرآن الشريف، تقرير ذلك فيما يحكيه من قصص عدّة من الأنبياء كهود وصالح وموسى وعيسى ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّهم على ما يقصّه القرآن حينما بثّوا دعوتهم سئلوا عن آية تدلّ على حقّيّة دعوتهم فأجابوهم فيما سألوا وجاؤا بالآيات.

وربّما أعطوا المعجزة في أول البعثة قبل أن يسألهم أممهم شيئاً من ذلك كما قال تعالى في موسىعليه‌السلام وهارون( اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ) طه - ٤٢، وقال تعالى في عيسىعليه‌السلام :( وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) آل عمران - ٤٩، وكذا إعطاء القرآن معجزة للنبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم) وبالجملة فالعقل الصريح لا يرى تلازما بين حقيّة ما أتى به الأنبياء والرسل من معارف المبدأ والمعاد وبين صدور أمر يخرق العادة عنهم.

مضافاً إلى أنّ قيام البراهين الساطعة على هذه الاُصول الحقّة يغنى العالم البصير بها عن النظر في أمرالإعجاز، ولذا قيل إنّ المعجزات لإقناع نفوس العامّة لقصور عقولهم عن إدراك الحقائق العقليّة وأمّا الخاصّة فإنّهم في غنى عن ذلك.

والجواب عن هذا السؤال أنّ الأنبياء والرسلعليهم‌السلام لم يأتوا بالآيات المعجزة لاثبات شئ من معارف المبدأ والمعاد ممّا يناله العقل كالتوحيد والبعث وأمثالها وإنّما اكتفوا في ذلك بحجّة للعقل والمخاطبة من طريق النظر والاستدلال كقوله تعالى:( قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) : إبراهيم - ١٠ في الإحتجاج على التوحيد قوله تعالى:( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا

٨٢

مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ص - ٢٨ في الإحتجاج على البعث. وإنّما سئل الرسل المعجزة وأتوابها لإثبات رسالتهم وتحقيق دعواها.

وذلك أنّهم ادّعوا الرسالة من الله بالوحى وأنّه بتكليم إلهيّ أو نزول ملك ونحو ذلك وهذا شئٌ خارق للعادة في نفسه من غير سنخ الإدراكات الظاهرة والباطنة الّتي يعرفها عامّة الناس ويجدونها من أنفسهم، بل إدراك مستور عن عامّة النفوس لو صحّ وجوده لكان تصرّفاً خاصّاً من ماوراء الطبيعة في نفوس الأنبياء فقط، مع أنّ الأنبياء كغيرهم من أفراد الناس في البشريّة وقواها، ولذلك صادفوا إنكاراً شديداً من الناس ومقاومة عنيفة في ردّه على أحد وجهين:

فتارة حاول الناس إبطال دعواهم بالحجّة كقوله تعالى:( قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) إبراهيم - ١٠، إستدلّوا فيها على بطلان دعواهم الرسالة بأنّهم مثل سائر الناس والناس لا يجدون شيئاً ممّا يدّعونه من أنفسهم مع وجود المماثلة، ولو كان لكان في الجميع أو جاز للجميع هذا، ولهذا أجاب الرسل عن حجّتهم بما حكاه الله تعالى عنهم بقوله:( قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) إبراهيم - ١١، فردّوا عليهم بتسليم المماثلة وأنّ الرسالة من منن الله الخاصّة، والإختصاص ببعض النعم الخاصّة لا ينافي المماثلة فللناس إختصاصات، نعم لو شاء أن يمتنّ على من يشاء منهم فعل ذلك من غير مانع فالنبوّة مختصّة بالبعض وإن جاز على الكلّ.

ونظير هذا الإحتجاج قولهم في النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما حكاه الله تعالى:( أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا ) ص - ٨، وقولهم كما حكاه الله:( لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) الزخرف - ٣١.

ونظير هذا الإحتجاج أو قريب منه ما في قول تعالى:( وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ ) الفرقان - ٨، ووجه الإستدلال أنّ دعوى الرسالة توجب

٨٣

أن لا يكون بشرا مثلنا لكونه ذا أحوال من الوحي وغيره ليس فينا فلم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لاكتساب المعيشة ؟ بل يجب أن ينزل معه ملك يشاركه في الإنذار أو يلقي إليه كنز فلا يحتاج إلى مشي الأسواق للكسب أو تكون له جنّة فيأكل منها لا ممّا نأكل منه من طعام، فرد الله تعالى عليهم بقوله:( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ) إلى أن قال:( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ) الفرقان - ٢٠، وردّ تعالى في موضع آخر مطالبتهم مباشرة الملك للإنذار بقوله:( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ) الانعام - ٩.

وقريب من ذلك الإحتجاج أيضاً ما في قوله تعالى:( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ) الفرقان - ٢١، فأبطلوا بزعمهم دعوى الرسالة بالوحي بمطالبة أن يشهدوا نزول الملك أو رؤية الربّ سبحانه لمكان المماثلة مع النبيّ، فرّد الله تعالى عليهم ذلك بقوله:( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا ) الفرقان - ٢٢، فذكر أنّهم والحال حالهم لا يرون الملائكة إلّا مع حال الموت كما ذكره في موضع آخر بقوله تعالى:( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنظَرِينَ ) الحجر - ٨، ويشتمل هذه الآيات الأخيرة على زيادة في وجه الإستدلال، وهو تسليم صدق النبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم) في دعواه إلّا أنّه مجنون وما يحكيه ويخبر به أمر يسوّله له الجنون غير مطابق للواقع كما في موضع آخر من قوله:( وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ) القمر - ٩.

وبالجملة فأمثال هذه الآيات مسوقة لبيان إقامتهم الحجّة على إبطال دعوى النبوّة من طريق المماثلة.

وتارة أخري أقاموا أنفسهم مقام الإنكار وسؤال الحجّة والبيّنة على صدق الدعوة لاشتمالها على ما تنكره النفوس ولا تعرفه العقول (على طريقة المنع مع السند بإصطلاح فنّ المناظرة) وهذه البيّنة هي المعجزة، بيان ذلك أنّ دعوى النبوّة والرسالة من كلّ

٨٤

نبيّ ورسول على ما يقصّه القرآن إنّما كانت بدعوى الوحى والتكليم الإلهيّ بلا واسطة أو بواسطة نزول الملك، وهذا أمر لا يساعد عليه الحسّ ولا تؤيّده التجربة فيتوجّه عليه الإشكال من جهتين: أحداهما من جهة عدم الدليل عليه، والثانية من جهة الدليل على عدمه، فإنّ الوحى والتكليم الإلهيّ وما يتلوه من التشريع والتربية الدينيّة ممّا لا يشاهده البشر من أنفسهم، والعادة الجارية في الأسباب والمسبّبات تنكرة فهو أمر خارق للعادة، وقانون العليّة العامّة لا يجوّزه، فلو كان النبيّ صادقا في دعواه النبوّة والوحى كان لازمه أنّه متّصل بما وراء الطبيعة، مؤيّد بقوّة إلهيّة تقدر على خرق العادة وأنّ الله سبحانه يريد بنبوّته والوحى إليه خرق العادة، فلو كان هذا حقّا ولا فرق بين خارق وخارق كان من الممكن أن يصدر من النبيّ خارق آخر للعادة من غير مانع وأن يخرق الله العادة بأمر آخر يصدّق النبوّة والوحى من غير مانع عنه فإنّ حكم الأمثال واحد فلئن أراد الله هداية الناس بطريق خارق للعادة وهو طريق النبوّة والوحى فليؤيّدها وليصدّقها بخارق آخر وهو المعجزة.

وهذا هو الّذي بعث الاُمم إلى سؤال المعجزة على صدق دعوى النبوّة كلّما جائهم رسول من أنفسهم بعثا بالفطرة والغريزة وكان سؤال المعجزة لتأييد الرسالة وتصديقها لا للدلالة على صدق المعارف الحقّة الّتي كان الأنبياء يدعون إليها ممّا يمكن أن يناله البرهان كالتوحيد والمعاد، ونظير هذا ما لو جاء رجل بالرسالة إلى قوم من قبل سيدّهم الحاكم عليهم ومعه أوامر ونواه يدّعيها للسيّد فإنّ بيانه لهذه الأحكام وإقامتة البرهان على أنّ هذه الأحكام مشتملة على مصلحة القوم وهم يعلمون أن سيّدهم لا يريد إلّا صلاح شأنهم، إنّما يكفي في كون الأحكام الّتي جاء بها حقّة صالحة للعمل ولا تكفى البراهين والأدّلة المذكورة في صدق رسالتة وأن سيّدهم أراد منهم بإرساله إليهم ما جاء به من الأحكام بل يطالبونه ببيّنة أو علامة تدلّ على صدقه في دعواه ككتاب بخطّه وخاتمه يقرئونه، أو علامة يعرفونها، كما قال المشركون للنبيّ:( حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ) أسرى - ٩٣. فقد تبيّن بما ذكرناه أوّلاً: التلازم بين صدق دعوى الرسالة وبين المعجزة

٨٥

وأنّها الدليل على صدق دعواها لا يتفاوت في ذلك حال الخاصّة والعامّة في دلالتها وإثباتها، وثانياً أنّ ما يجده الرسول والنبيّ من الوحي ويدركه منه من غير سنخ ما نجده بحواسّنا وعقولنا النظريّة الفكريّة، فالوحي غير الفكر الصائب، وهذا المعنى في كتاب الله تعالى من الوضوح والسطوع بحيث لا يرتاب فيه من له أدنى فهم وأقلّ إنصاف.

وقد إنحرف في ذلك جمع من الباحثين من أهل العصر فراموا بناء المعارف الإلهيّة والحقائق الدينيّة على ما وصفه العلوم الطبيعيّة من اصالة المادّة المتحوّلة المتكاملة فقد رأوا أنّ الإدراكات الإنسانيّة خواصّ مادّيّة مترشّحة من الدماغ وأنّ الغايات الوجوديّة وجميع الكمالات الحقيقيّة إستكمالات فرديّة أو اجتماعيّة مادّيّة.

فذكروا أنّ النبوّة نوع نبوغ فكريّ وصفاء ذهني يستحضر به الإنسان المسمّى نبيّاً كمال قومه الإجتماعيّ ويريد به أن يخلّصهم من ورطة الوحشيّة والبربريّة إلى ساحة الحضارة والمدنيّة فيستحضر ما ورثه من العقائد والآراء ويطبّقها على مقتضيات عصره ومحيط حياته، فيقنّن لهم أصولا اجتماعيّة وكليّات عمليّة يستصلح بها أفعالهم الحيويّة ثمّ يتمّم ذلك بأحكام واُمور عباديّة ليستحفظ بها خواصّهم الروحيّة لافتقار الجامعة الصالحة والمدنيّة الفاضلة إلى ذلك ويتفرّع على هذا الافتراض:

أوّلاً: أنّ النبيّ إنسان متفكّر نابغ يدعو قومه إلى صلاح محيطهم الاجتماعيّ.

وثانياً: أنّ الوحي هو إنتقاش الأفكار الفاضلة في ذهنه.

وثالثاً: أنّ الكتاب السماويّ مجموع هذه الأفكار الفاضلة المنزّهة عن التهوسات النفسانيّة والأغراض النفسانيّة الشخصيّة.

ورابعاً: أنّ الملائكة الّتي أخبر بها النبيّ قوى طبيعيّة تدبّر اُمور الطبيعة أو قوى نفسانيّة تفيض كمالات النفوس عليها، وأنّ روح القدس مرتبة من الروح الطبيعيّة المادّيّة تترشّح منها هذه الأفكار المقدّسة، وأنّ الشيطان مرتبة من الروح تترشّح منها الأفكار الرديّة وتدعو إلى الأعمال الخبيثة المفسدة للاجتماع، وعلى هذا الأسلوب فسرّوا الحقائق الّتي أخبر بها الأنبياء كاللوح والقلم والعرش والكرسيّ والكتاب والحساب والجنّة والنار بما يلائم الاُصول المذكورة.

٨٦

وخامساً: أنّ الأديان تابعة لمقتضيات أعصارها تتحوّل بتحوّلها.

وسادساً: أنّ المعجزات المنقولة عن الأنبياء المنسوبة إليهم خرافات مجعولة أو حوادث محرّفة لنفع الدين وحفظ عقائد العامّة عن التبدّل بتحوّل الأعصار أو لحفظ مواقع أئمّة الدين ورؤساء المذهب عن السقوط والاضمحلال إلى غير ذلك ممّا أبدعه قوم وتبعهم آخرون.

هذه جمل ما ذكروه والنبوّة بهذا المعنى لأن تسمّي لعبة سياسيّة أولى بها من أن تسمّى نبوّة إلهيّة والكلام التفصيليّ في أطراف ما ذكروه خارج عن البحث المقصود في هذا المقام.

والّذي يمكن أن يقال فيه هيهنا أنّ الكتب السماويّة والبيانات النبويّة المأثورة على ما بأيدينا لا توافق هذا التفسير لا تناسبه أدنى مناسبة، وإنّما دعاهم إلى هذا النوع من التفسير إخلادهم إلى الأرض وركونهم إلى مباحث المادّة فاستلزموا إنكار ماوراء الطبيعة وتفسير الحقائق المتعالية عن المادّة بما يسلخها عن شأنها وتعيدها إلى المادّة الجامدة.

وما ذكره هؤلاء هو في الحقيقة تطّور جديد فيما كان يذكره آخرون فقد كانوا يفسّرون جميع الحقائق المأثورة في الدين بالمادّة غير أنّهم كانوا يثبتون لها وجودات غائبة عن الحسّ كالعرش والكرسيّ واللوح والقلم والملائكة ونحوها من غير مساعدة الحسّ والتجربة على شئ من ذلك، ثمّ لما أتّسع نطاق العلوم الطبيعيّة وجرى البحث على أساس الحسّ والتجربة لزم الباحثين على ذلك الأسلوب أن ينكروا لهذه الحقائق وجوداتها المادّيّة الخارجة عن الحسّ أو البعيدة عنه وأن يفسّروها بما تعيدها إلى الوجود المادّيّ المحسوس ليوافق الدين ما قطع به العلم ويستحفظ بذلك عن السقوط.

فهاتان الطائفتان بين باغ وعاد، أمّا القدماء من المتكلّمين فقد فهموا من البيانات، الدينيّة مقاصدها حقّ الفهم من غير مجاز غير أنّهم رأوا أنّ مصاديقها جميعاً اُمور مادّيّة محضة لكنّها غائبة عن الحسّ غير محكومة بحكم المادّة أصلاً و الواقع خلافه، وأما المتأخّرون من باحثي هذا العصر ففسّروا البيانات الدينيّة بما أخرجوها به عن مقاصدها البيّنة الواضحة، وطبّقوها على حقائق مادّيّة ينالها الحسّ وتصدّقها التجربة مع أنّها

٨٧

ليست بمقصودة، ولا البيانات اللفظيّة تنطبق على شئ منها.

والبحث الصحيح يوجب أنّ تفسّر هذه البيانات اللفظيّة على ما يعطيها اللفظ في العرف واللّغة ثمّ يعتمد في أمر المصداق على ما يفسّر به بعض الكلام بعضا ثمّ ينظر هل الأنظار العلميّة تنافيها أو تبطلها ؟ فلو ثبت فيها في خلال ذلك شئ خارج عن المادّة وحكمها فإنّما الطريق إليه إثباتاً أو نفياً طور آخر من البحث غير البحث الطبيعيّ الّذي تتكفّلة العلوم الطبيعيّة، فما للعلم الباحث عن الطبيعة وللأمر الخارج عنها ؟ فإنّ العلم الباحث عن المادّة وخواصّها ليس من وظيفته أن يتعرّض لغير المادّة خواصّها لا إثباتاً ولا نفياً.

ولو فعل شيئاً منه باحث من بحّاثه كان ذلك منه شططا من القول، نظير ما لو أراد الباحث في علم اللغة أن يستظهر من علمه حكم الفلك نفياً أو إثباتاً، ولنرجع إلى بقيّة الآيات.

وقوله تعالى: ( فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) . سوق الآيات من أوّل السورة وإن كانت لبيان حال المتّقين والكافرين والمنافقين (الطوائف الثلاث) جميعاً لكنّه سبحانه حيث جمعهم طرّاً في قوله:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ) ، ودعاهم إلى عبادته تقسّموا لا محالة إلى مؤمن وغيره فإنّ هذه الدعوة لا تحتمل من حيث إجابتها وعدمها غير القسمين: المؤمن والكافر وأمّا المنافق فإنّما يتحقّق بضمّ الظاهر إلى الباطن، واللّسان إلى القلب فكان هناك من جمع بين اللّسان والقلب إيماناً أو كفراً ومن أختلف لسانه وقلبه وهو المنافق، فلمّا ذكرنا (لعلّه) أسقط المنافقون من الذكر، وخصّ بالمؤمنين والكافرين ووضع الايمان مكان التقوى.

ثمّ إن الوقود ما توقد به النار وقد نصّت الآية على أنّه نفس الإنسان، فالإنسان وقود وموقود عليه، كما في قوله تعالى أيضاً:( ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ) غافر - ٧٢. وقوله تعالى:( نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ) اللّمزة - ٧، فالإنسان معذّب بنار توقده نفسه، وهذه الجملة نظيرة قوله تعالى:( لَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ) البقرة - ٢٥، ظاهرة في أنّه ليس للإنسان

٨٨

هناك إلّا ما هيّأه من هيهنا، كما عن النبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم):( كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون) الحديث. وإن كان بين الفريقين فرق من حيث أنّ لأهل الجنّة مزيداً عند ربّهم. قال تعالى:( لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) ق - ٣٥.

والمراد بالحجارة في قوله:( وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) الأصنام الّتي كانوا يعبدونها ويشهد به قوله تعالى:( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) الآية الأنبياء - ٩٨، والحصب هو الوقود.

وقوله تعالى: ( لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ) ، قرينة الأزواج تدلّ على أنّ المراد بالطهارة هي الطهارة من أنواع الأقذار والمكاره الّتي تمنع من تمام الإلتيام والألفة والأنس من الأقذار والمكاره الخلقيّة والخُلقيّة.

( بحث روائي)

روى الصدوق، قال: سئل الصادقعليه‌السلام عن الآية فقال: الأزواج المطهّرة اللّاتي لا يحضن ولا يحدثن.

أقول: وفي بعض الروايات تعميم الطهارة للبرائة عن جميع العيوب والمكاره.

٨٩

( سورة البقرة الآيات ٢٦ - ٢٧)

إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا  فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ  وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا  يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا  وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ( ٢٦ ) الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ  أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( ٢٧ )

( بيان)

قوله تعالى: ( إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ ) ، البعوضة الحيوان المعروف وهو من أصغر الحيوانات المحسوسة وهذه الآية والّتي بعدها نظيرة ما في سورة الرعد( أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ) الرعد - ١٩، ٢٠، ٢١.

وكيف كان فالآية تشهد على أنّ من الضلال والعمى ما يلحق الإنسان عقيب أعماله السيّئة غير الضلال والعمى الّذي له في نفسه ومن نفسه حيث يقول تعالى:( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ) فقد جعل إضلاله في تلو الفسق لا متقدّماً عليه هذا.

ثمّ إنّ الهداية والإضلال كلمتان جامعتان لجميع أنواع الكرامة والخذلان الّتي ترد منه تعالى على عباده السعداء والاشقياء، فإنّ الله تعالى وصف في كلامه حال السعداء من عبادة بأنّه يحييهم حياة طيّبة، ويؤيّدهم بروح الايمان، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويجعل لهم نوراً يمشون به، وهو وليّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهو معهم يستجيب لهم إذا دعوه ويذكرهم إذا ذكروه، والملائكة تنزّل عليهم بالبشرى والسلام إلى غير ذلك.

ووصف حال الاشقياء من عباده بأنّه يضلّهم ويخرجهم من النور إلى الظلمات و

٩٠

يختم على قلوبهم، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، ويطمس وجوههم على أدبارهم ويجعل في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون، ويجعل من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً فيغشيهم فهم لا يبصرون، ويُقيّض لهم شياطين قرناء يضلّونهم عن السبيل ويحسبون أنّهم مهتدون، ويزيّنون لهم أعمالهم، وهم أولياؤهم، ويستدرجهم الله من حيث لا يشعرون، ويملي لهم إنّ كيده متين، ويمكربهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون.

فهذه نبذة ممّا ذكره سبحانه من حال الفريقين وظاهرها أنّ للإنسان في الدنيا وراء الحياة الّتي يعيش بها فيها حياة اُخرى سعيدة أو شقيّة ذات اصول وأعراق يعيش بها فيها، وسيطّلع ويقف عليها عند إنقطاع الأسباب وإرتفاع الحجاب، ويظهر من كلامه تعالى أيضاً أنّ للإنسان حياة اُخرى سابقة على حيوته الدنيا يحذوها فيها كما يحذو حذو حياته الدنيا فيما يتلوها. وبعبارة اُخرى إنّ للإنسان حياة قبل هذه الحياة الدنيا وحياة بعدها، والحياة الثالثة تتبع حكم الثانية والثانية حكم الاُولى، فالإنسان وهو في الدنيا واقع بين حياتين: سابقة ولاحقة، فهذا هو الّذي يقضي به ظاهر القرآن.

لكنّ الجمهور من المفسّرين حملوا القسم الأوّل من الآيات وهي الواصفة للحياة السابقة على ضرب من لسان الحال وإقتضاء الاستعداد، والقسم الثاني منها وهي الواصفة للحياة اللّاحقة على ضروب المجاز والاستعارة هذا، إلّا أنّ ظواهر كثير من الآيات يدفع ذلك. أمّا القسم الأوّل وهي آيات الذرّ والميثاق فستأتي في مواردها، وأمّا القسم الثاني فكثير من الآيات دالّة على أنّ الجزاء يوم الجزاء بنفس الأعمال وعينها كقوله تعالى:( لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) التحريم - ٧، وقوله تعالى:( ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ) الآية البقرة - ٢٨١، وقوله تعالى:( فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) البقرة - ٢٤. وقوله تعالى:( فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ) العلق - ١٨، وقوله تعالى:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ ) آل عمران - ٣٠، وقوله تعالى:( مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ) البقرة - ١٧٤، وقوله:( إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ) النساء - ١٠، إلى غير ذلك من الآيات.

ولعمري لو لم يكن في كتاب الله تعالى - إلّا قوله:( لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا

٩١

فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق - ٢٢، لكان فيه كفاية إذ الغفلة لا تكون إلّا عن معلوم حاضر، وكشف الغطاء لا يستقيم إلّا عن مغطّى موجود فلو لم يكن ما يشاهده الإنسان يوم القيامة موجوداً حاضراً من قبل لما كان يصحّ أن يقال للإنسان إنّ هذه أمور كانت مغفولة لك، مستورة عنك فهي اليوم مكشوف عنها الغطاء، مزالة منها الغفلة.

ولعمري أنّك لو سألت نفسك أن تهديك إلى بيان يفي بهذه المعاني حقيقة من غير مجاز لما أجابتك إلّا بنفس هذه البيانات والأوصاف الّتي نزل بها القرآن الكريم.

ومحصل الكلام أن كلامه تعالى موضوع على وجهين:

أحدهما: وجه المجازاة بالثواب والعقاب، وعليه عدد جمّ من الآيات، تفيد: أن ما سيستقبل الإنسان من خير أو شرّ كجنّة أو نار إنّما هو جزاءٌ لما عمله في الدنيا من العمل.

وثانيهما: وجه تجسّم الأعمال وعليه عدّة اُخرى من الآيات، وهي تدلّ على أنّ الأعمال تُهيّئ بأنفسها أو باستلزامها وتأثيرها أموراً مطلوبة أو غير مطلوبة أي خيراً أو شرّاً هي ألتّي سيطّلع عليه الإنسان يوم يكشف عن ساق. وإيّاك أن تتوهّم أنّ الوجهين متنافيان فإنّ الحقائق إنّما تقرب إلى الأفهام بالأمثال المضروبة كما ينصّ على ذلك القرآن.

وقوله تعالى: ( إِلَّا الْفَاسِقِينَ ) الفسق كما قيل من الألفاظ الّتي أبدع القرآن إستعمالها في معناها المعروف، مأخوذ من فسقت التمرة إذا خرجت عن قشرها وجلدها ولذلك فسّر بعده بقوله تعالى:( الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) الآية، والنقض إنّما يكون عن إبرام، ولذلك أيضاً وصف الفاسقين في آخر الآية بالخاسرين والإنسان إنّما يخسر فيما ملكه بوجه، قال تعالى:( إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) الشورى - ٤٥، وإيّاك أن تتلقّى هذه الصفات الّتي أثبتها سبحانه في كتابه للسعداء من عباده أو الأشقياء مثل المقرّبين والمخلصين والمخبتين والصالحين والمطهّرين وغيرهم، ومثل الظالمين والفاسقين والخاسرين والغاوين والضالّين وأمثالها أوصافاً مبتذلة أو مأخوذة لمجرّد تزيين اللّفظ، فتضطرب بذلك قريحتك في فهم كلامه

٩٢

تعالى فتعطف الجميع على واد واحد، وتأخذها هجائً عاميًّ وحديثً ساذجً سوقيًّ بل هي أوصاف كاشفة عن حقائق روحيّة ومقامات معنويّة في صراطي السعادة والشقإوة، كلّ واحد منها في نفسة مبدأ لآثار خاصّة ومنشأ لأحكام مخصوصة معيّنة، كما أنّ مراتب السنّ وخصوصيّات القوى وأوضاع الخلقة في الإنسان كلّ منها منشأ ٌلأحكام وآثار مخصوصة لا يمكننا أن نطلب واحدً منها من غير منشأه ومحتده، ولئن تدبّرت في مواردها من كلامه تعالى وأمعنت فيها وجدت صدق ما إدّعيناه.

( بحث الجبر والتفويض)

وإعلم: أنّ بيانه تعالى أنّ الإضلال إنّما يتعلّق بالفاسقين يشرح كيفيّة تأثيره تعالى في أعمال العباد ونتائجها (وهو الّذي يراد حلّه في بحث الجبر والتفويض).

بيان ذلك: أنّه تعالى قال:( لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) البقرة - ٢٨٤، وقال:( لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) الحديد - ٥، وقال:( لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ) التغابن - ١، فأثبت فيها وفي نظائرها من الآيات الملك لنفسه على العالم بمعنى أنّه تعالى مالك على الإطلاق ليس بحيث يملك على بعض الوجوه ولا يملك على بعض الوجوه، كما أنّ الفرد من الإنسان يملك عبدً أو شيئً آخر فيما يوافق تصرّفاته أنظار العقلاء، وأمّا التصرّفات السفهيّة فلا يملكها، وكذا العالم مملوك لله تعالى مملوكيّة على الإطلاق، لا مثل مملوكيّة بعض أجزاء العالم لنا حيث أن ملكنا ناقص إنّما يصحّح بعض التصرّفات لا جميعها، فإنّ الإنسان المالك لحمار مثلً إنّما يملك منه أن يتصرّف فيه بالحمل والركوب مثلً وإمّا أن يقتلة عطشا أو جوعً أو يحرقه بالنار من غير سبب موجب فالعقلاء لا يرون له ذلك، أي كلّ مالكيّة في هذا الإجتماع الإنسانيّ مالكيّة ضعيفة إنّما تصحّح بعض التصرّفات المتصوّرة في العين المملوكة لا كلّ تصرّف ممكن، وهذا بخلاف ملكه تعالى للأشياء فإنّها ليس لها من دون الله تعالى من ربّ يملكها وهي لا تملك لنفسها نفعً ولا ضرًّ ولا موتً ولا حيإة ولا نشورا فكلّ تصرّف متصوّر فيها فهو له تعالى، فأيّ تصرّف تصرّف به في عباده وخلقه فله ذلك من غير أن يستتبع قبحً ولا ذمّاً

٩٣

ولا لوماً في ذلك، إذ التصرّف من بين التصرّفات إنّما يستقبح ويذّم عليه فيما لا يملك المتصرّف ذلك لإنّ العقلاء لا يرون له ذلك، فملك هذا المتصرّف محدود مصروف إلى التصرّفات الجائزة عند العقل، وأمّا هو تعالى فكل تصرّف تصرّف به فهو تصرّف من مالك وتصرّف في مملوك فلا قبح ولا ذمّ ولا غير ذلك وقد أيّد هذه الحقيقة بمنع الغير عن أيّ تصرّف في ملكه إلّا ما يشائه أو يأذن فيه وهو السائل المحاسب دون المسؤل المأخوذ، فقال تعالى:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) البقرة - ٢٥٥، وقال تعالى:( مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) يونس - ٣، وقال تعالى:( لَّوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ) الرعد - ٣١، وقال:( يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ) النحل - ٩٣، وقال تعالى:( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ ) الدهر - ٣٠، وقال تعالى( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) الأنبياء - ٢٣، فالله هو المتصرّف الفاعل في ملكه وليس لشئ غيره شئ من ذلك إلّا بإذنه ومشيّته، فهذا ما يقتضيه ربوبيّته.

ثمّ إنّا نرى أنّه تعالى نصب نفسه في مقام التشريع وجرى في ذلك على ما يجري عليه العقلاء في المجتمع الإنسانيّ، من إستحسان الحسن والمدح والشكر عليه وإستقباح القبيح والذمّ عليه كما قال تعالى:( إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ) البقرة - ٢٧١، وقال:( بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ ) الحجرات - ١١، وذكر أن تشريعاته منظور فيها إلى مصالح الإنسان ومفاسده مرعيّ فيها أصلح ما يعالج به نقص الإنسان فقال تعالى:( إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) الانفال - ٢٤، وقال تعالى:( ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) الصف - ١١، وقال تعالى:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ - إلى أن قال-وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ) النحل - ٩٠، وقال تعالى:( إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ) الاعراف - ٢٨، والآيات في ذلك كثيرة، وفي ذلك إمضاءٌ لطريقة العقلاء في المجتمع، بمعني أن هذه المعاني الدائرة عند العقلاء من حسن وقبح ومصلحة ومفسدة وأمر ونهي وثواب وعقاب أو مدح وذمّ وغير ذلك والأحكام المتعلّقة بها كقولهم: الخير يجب أن يؤثر والحسن يجب أن يفعل، والقبيح يجب أن يجتنب عنه إلى غير ذلك، كما أنّها هي الإساس للأحكام العامّة العقلائيّة كذلك الأحكام الشرعيّة الّتي شرّعها الله تعالى لعباده مرعىّ فيها ذلك، فمن

٩٤

طريقة العقلاء أنّ أفعالهم يلزم أن تكون معلّلة بأغراض ومصالح عقلائيّة ومن جملة أفعالهم تشريعاتهم وجعلهم للأحكام والقوانين، ومنها جعل الجزاء ومجازاة الإحسان بالإحسان والإسائة بالإسائة أن شاؤا فهذه كلّها معلّلة بالمصالح والإغراض الصالحة، فلو لم يكن في مورد أمر أو نهي من الإوامر العقلائيّة ما فيه صلاح الاجتماع بنحو ينطبق على المورد لم يقدم العقلاء على مثله، وكلّ المجازاة إنّما تكون بالمسانخة بين الجزاء وأصل العمل في الخيريّة والشريّة وبمقدار يناسب وكيف يناسب، ومن أحكامهم أنّ الإمر والنهي وكلّ حكم تشريعيّ لا يتوجّه إلّا إلى المختار دون المضطرّ والمجبر على الفعل وإيضاً إنّ الجزاء الحسن أو السّئ أعنى الثواب والعقاب لا يتعلّقان إلّا بالفعل الاختياريّ إللّهم إلّا فيما كان الخروج عن الاختيار والوقوع في الاضطرار مستندا إلى سوء الاختيار كمن أوقع نفسه في اضطرار المخالفة فإنّ العقلاء لا يرون عقابه قبيحا، ولا يبالون بقصّة إضطراره.

فلو أنّه سبحانه أجبر عباده على الطاعات أو المعاصي لم يكن جزا المطيع بالجنّة والعاصي بالنار إلّا جزافا في مورد المطيع، وظلما في مورد العاصي، والجزاف والظلم قبيحان عند العقلاء ولزم الترجيح من غير مرجّح وهو قبيح عندهم أيضاً ولا حجّة في قبيح وقد قال تعالى:( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) النساء - ١٦٥، وقال تعالى:( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) الانفال - ٤٢، فقد اتّضح بالبيان السابق أمور:

أحدها: أنّ التشريع ليس مبنيّا على أساس الإجبار في الإفعال، فالتكاليف مجعولة على وفق مصالح العباد في معاشهم ومعادهم أوّلً، وهي متوجّهة إلى العباد من حيث أنّهم مختارون في الفعل والترك ثانيا، والمكلّفون إنّما يثابون أو يعاقبون بما كسبت أيديهم من خير أو شرّ إختيارا.

ثانيها: أنّ ما ينسبه القرآن إليه تعالى من الإضلال والخدعة والمكر والإمداد في الطغيان وتسليط الشيطان وتوليته على الإنسان وتقييض القرين ونظائر ذلك جميعها منسوبة إليه تعالى على ما يلائم ساحة قدسه ونزاهته تعالى عن ألواث النقص والقبح و

٩٥

المنكر، فإنّ جميع هذه المعاني راجعة بالآخرة إلى الإضلال وشعبه وأنواعه، وليس كلّ إضلال حتّى الإضلال البدويّ وعلى سبيل الإغفال بمنسوب إليه ولا لائق بجنابه، بل الثابت له الإضلال مجازاة وخذلانا لمن يستقبل بسوء إختياره ذلك كما قال تعالى:( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ) الآية البقرة - ٢٦، وقال:( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ) الصف - ٥، وقال تعالى:( كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ ) المؤمن - ٣٤.

ثالثها: أنّ القضاء غير متعلّق بأفعال العباد من حيث أنّها منسوبة إلى الفاعلين بالانتساب الفعليّ دون الانتساب الوجوديّ وسيجئ لهذا القول زيادة توضيح في التذييل الآتي وفي الكلام على القضاء والقدر إن شاء الله تعالى.

رابعها: أنّ التشريع كما لا يلائم الجبر كذلك لا يلائم التفويض، إذ لا معنى للإمر والنهي المولويّين فيما لا يملك المولى منه شيئً، مضافً إلى أنّ التفويض لا يتمّ إلّا مع سلب إطلاق الملك منه تعالى عن بعض ما في ملكه.

( بحث روائي)

إستفاضت الروايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّهم قالوا: (لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين الحديث).

وفي العيون بعدّة طرق لما إنصرف أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام من صفّين قام إليه شيخ ممّن شهد الواقعة معه فقال يا أميرالمؤمنين أخبرنا من مسيرنا هذا أبقضاء من الله وقدر، فقال له أميرالمؤمنين: أجل يا شيخ فو الله ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلّا بقضاء من الله وقدر، فقال الشيخ عند الله احتسب عنائي يا أميرالمؤمنين فقال: مهلا يا شيخ لعلّك تظنّ قضاء حتما وقدرً لازما، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والإمر والنهي والزجر، ولسقط معنى الوعد والوعيد، ولم تكن على مسئٍ لائمة ولا لمحسن محمّدة، ولكان المحسن أولى باللائمة من المذنب والمذنب أولى بالإحسان من المحسن، تلك مقالة عبدة الاوثان وخصماء الرحمن وقدريّة هذه الإمّة ومجوسها. يا شيخ إنّ الله

٩٦

كلّف تخييرا ونهى تحذيرا، وأعطى على القليل كثيرا ولم يعص مغلوبا، ولم يطع مكروهً ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلا. ذلك ظن الّذين كفروا فويل للذين كفروا من النار الحديث.

أقول: قوله: بقضاء من الله وقدر إلى قوله:( عندالله أحتسب عنائي) . ليعلم أن من أقدم المباحث الّتي وقعت في الإسلام موردا للنقض والإبرام، وتشاغبت فيه الإنظار مسألة الكلام ومسألة القضاء والقدر وإذ صوّروا معنى القضاء والقدر وإستنتجوا نتيجتة فإذا هي أن الإرادة الإلهيّة الإزليّة تعلّقت بكلّ شئ من العالم فلا شئ من العالم موجود على وصف الإمكان، بل إن كان موجودً فبالضرورة، لتعلّق الإرادة بها واستحالة تخلّف مرادة تعالى عن إرادتة، وإن كان معدوما فبالامتناع لعدم تعلّق الإرادة بها وإلّا لكانت موجودة، وإذا اطّردت هذه القاعدة في الموجودات وقع الإشكال في الافعال الاختياريّة الصادرة منّا فإنّا نرى في بادي النظر أنّ نسبة هذه الافعال وجودا وعدما الينا متساوية، وإنّما يتعيّن واحد من الجانبين بتعلّق الإرادة به بعد إختيار ذلك الجانب فأفعالنا اختياريّة، والإرادة مؤثّرة في تحقّقه سبب في إيجاده، ولكن، فرض تعلّق الإرادة الإلهيّة الازليّة المستحيلة التخلّف بالفعل يبطل اختياريّة الفعل أوّلً، وتأثير إرادتنا في وجود الفعل ثانيً وحينئذ لم يكن معنى للقدرة قبل الفعل على الفعل، ولا معنى للتكليف لعدم القدرة قبل الفعل وخاصّة في صورة الخلاف والتمرّد فيكون تكليفا بما لا يطاق، ولا معنى لإثابة المطيع بالجبر لأنّه جزاف قبيح، ولا معنى لعقاب العاصي بالجبر لأنّه ظلم قبيح إلى غير ذلك من اللّوازم، وقد إلتزم الجميع هؤلاء الباحثون فقالوا القدرة غير موجودة قبل الفعل، والحسن والقبح أمران غير واقعيّين لا يلزم تقيّد أفعاله تعالى بهما بل كلّ ما يفعله فهو حسن ولا يتّصف فعله تعالى بالقبح، فلا مانع هناك من الترجيح بلا مرجّح، ولا من الإرادة الجزافيّة، ولا من التكليف بما لا يطاق، ولا من عقاب العاصي وإن لم يكن النقصان من قبله إلى غير ذلك من التوالي تعالى عن ذلك.

وبالجملة كان القول بالقضاء والقدر في الصدر الإوّل مساوقا لارتفاع الحسن والقبح والجزاء بالاستحقإق ولذلك لما سمع الشيخ منهعليه‌السلام كون المسير بقضاء وقدر قال وهو في مقام التأثّر واليأس: عند الله أحتسب عنائي أي إنّ مسيري وإرادتي فاقدة الجدوى من

٩٧

حيث تعلّق الإرادة الإلهيّة بها فلم يبق لي إلّا العناء والتعب من الفعل فأحتسبه عند ربّي فهو الّذي أتعبني بذلك فأجاب عنه الإمامعليه‌السلام بقوله:( لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب) الخ، وهو أخذ بالُصول العقلائيّة الّتي أساس التشريع مبنيّ عليها واستدلّ في آخر كلامهعليه‌السلام بقوله:( ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلا ) الخ، وذلك لإنّ صحّة الإرادة الجزافيّة الّتي هي من لوازم ارتفاع الاختيار يوجب إمكان تحقّق الفعل من غير غاية وغرض وهو يوجب امكان إرتفاع الغاية عن الخلقة والايجاد، وهذا الامكان يساوق الوجوب، فلا غاية على هذا التقدير للخلقة والايجاد، وذلك خلق السموات والأرض وما بينهما باطلا، وفيه بطلان المعاد وفيه كلّ محذور، وقوله :( ولم يعص مغلوبا ولم يطع مكروها) كإنّ المراد لم يعص والحال أنّ عاصيه مغلوب بالجبر ولم يطع والحال أن طوعه مكروه للمطيع.

وفي التوحيد والعيون عن الرّضاعليه‌السلام قال: ذكر عنده الجبر والتفويض فقال: ألا أعلّمكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ولا يخاصمكم عليه أحد إلّا كسّرتموه ؟ قلنا إن رأيت ذلك، فقال إنّ الله عزّوجلّ لم يطع بإكراه، ولم يعص بغلبة ولم يهمل العباد في ملكة، هو المالك لما ملّكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه فإن إئتمر العباد بطاعته لم يكن الله منها صادّا، ولا منها مانعً وان إئتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإن لم يحل فعلوه فليس هو الّذي أدخلهم فيه ثمّ قالعليه‌السلام من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه.

اقول: قد عرفت أنّ الّذي ألزم المجبّرة أن قالوا بما قالوا هو البحث في القضاء والقدر وإستنتاج الحتم واللّزوم فيهما وهذا البحث صحيح وكذلك النتيجة إيضاً نتيجة صحيحة غير أنّهم اخطؤا في تطبيقها، واشتبه عليهم أمر الحقائق والاعتباريّات، واختلط عليهم الوجوب والإمكان، توضيح ذلك أنّ القضاء والقدر على تقدير ثبوتهما ينتجان أنّ الأشياء في نظام الايجاد والخلقة على صفة الوجوب واللّزوم فكلّ موجود من الموجودات وكلّ حال من أحوال الموجود مقدّرة محدودة عند الله سبحانه، معيّن له جميع ما هو معه من الوجود وأطواره واحواله لا يتخلّف عنه ولا يختلف، ومن الواضح أن الضرورة والوجوب

٩٨

من شؤون العلّة فإنّ العلة التامّة هي الّتي إذا قيس إليها الشئ صار متّصفا بصفة الوجوب وإذا قيس إلى غيرها أي شئ كان لم يصر إلّا متّصفا بالإمكان، فانبساط القدر والقضاء في العالم هو سريان العلّيّة التامّة والمعلوليّة في العالم بتمامه وجميعه، وذلك لا ينافي سريان حكم القوّة والامكان في العام من جهة أخرى وبنظر آخر فالفعل الاختياريّ الصادر عن الإنسان بإرادته إذا فرض منسوبا إلى جميع ما يحتاج إليه في وجوده من علم وإرادة وأدوات صحيحة ومادّة يتعلّق بها الفعل وسائر الشرائط الزمانيّة والمكانيّة كان ضروريّ الوجود، وهو الّذي تعلّقت به الإرادة الإلهيّة الازليّة لكن كون الفعل ضروريّاً بالقياس إلى جميع أجزاء علّته التامّة ومن جهتها لا يوجب كونه ضروريّاً إذا قيس إلى بعض أجزاء علّته التامّة كما إذا قيس الفعل إلى الفاعل دون بقيّة أجزاء علّته التامّة فإنّه لا يتجاوز حد الامكان، ولا يَبلغ البتّة حد الوجوب فلا معنى لما زعموه أنّ عموم القضاء وتعلّق الإرادة الإلهيّة بالفعل يوجب زوال القدرة وارتفاع الاختيار، بل الإرادة الإلهيّة إنّما تعلّقت بالفعل بجميع شؤونه وخصوصيّاته الوجوديّة ومنها إرتباطاته بعلله وشرائط وجوده، وبعبارة إخرى تعلّقت الإرادة الإلهيّة بالفعل الصادر من زيد مثلً لا مطلقا بل من حيث أنّه فعل إختياريّ صادر من فاعل كذا في زمان كذا ومكان كذا فإذن تأثير الإرادة الإلهيّة في الفعل يوجب كون لفعل إختياريّا وإلّا تخلّف متعلّق الإرادة الإلهيّة عنها فإذن تأثير الإرادة الإلهيّة في صيرورة الفعل ضروريّاً يوجب كون الفعل إختياريّا أي كون الفعل ضروريّاً بالنسبة إلى الإرادة الإلهيّة ممكنً إختياريًّ بالنسبة إلى الإرادة الإنسانيّة الفاعليّة، فالإرادة في طول الإرادة وليست في عرضها حتّى تتزاحما، ويلزم من تأثير الإرادة الإلهيّة بطلان تأثير الإرادة الإنسانيّة فظهر أن ملاك خطأ المجبّرة فيما أخطأوا فيه عدم تمييزهم كيفيّة تعلّق الإرادة الإلهيّة بالفعل، وعدم فرقهم بين الإرادتين الطوليّتين وبين الإرادتين العرضيتّين وحكمهم ببطلان تأثير إرادة العبد في الفعل لتعلّق إرادة الله تعالى به.

والمعتزلة وإن خالفت المجبّرة في اختياريّة افعال العبإد وسائر اللوازم إلّا أنّهم سلكوا في إثباته مسلكا لا يقصر من قول المجبّرة فسادا، وهو أنّهم سلّموا للمجبّرة أنّ

٩٩

تعلّق إرادة الله بالفعل يوجب بطلان الاختيار، ومن جهة أخرى أصرّوا على اختياريّة الافعال الاختياريّة فنفوا بالإخرة تعلّق الإرادة الإلهيّة بالافعال فلزمهم إثبات خالق آخر للإفعال وهو الإنسان، كما أنّ خالق غيرها هو الله سبحانه فلزمهم محذور الثنويّة، ثمّ وقعوا في محاذير إخرى أشدّ ممّا وقعت فيه المجبّرة، كما قالعليه‌السلام : مساكين القدريّة أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من قدرته وسلطانه الحديث.

فمثل هذا مثل المولى من الموالي العرفيّة يختار عبدا من عبيده و يزوّجه إحدى فتياته ثمّ يقطع له قطيعة ويخصّه بدار وأثاث وغير ذلك ممّا يحتاج إليه الإنسان في حيإته إلى حين محدود وأجل مسمّى، فإن قلنا إنّ المولى وإن اعطى لعبده ما أعطى وملكه ما ملّك فإنّه لا يملك وأين العبد من الملك كان ذلك قول المجبّرة، وإن قلنا إن إلمولى باعطائه المال لعبده وتمليكه جعله مالكا وإنعزل هو عن المالكيّة وكان المالك هو العبد كان ذلك قول المعتزلة، ولو جمعنا بين الملكين بحفظ المرتبتين وقلنا: إن المولى مقامه في المولويّة وللعبد مقامه في الرّقيّة وإنّ العبد إنّما يملك في ملك المولى، فالمولى مالك في عين أنّ العبد مالك فهنا ملك على ملك كان ذلك القول الحقّ الّذى رآه أئمّة أهل البيتعليه‌السلام ، وقام عليه البرهان هذ.

وفي الاحتجاج فيما سأله عباية بن ربعيّ الاسديّ عن أميرالمؤمنين علىّعليه‌السلام في معنى الاستطاعة، فقال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : تملكها من دون الله أو مع الله ؟ فسكت عباية بن ربعيّ فقال له قل يا عباية، قال: وما أقول يا أميرالمؤمنين ؟ قال: تقول تملكها بالله الّذي يملكها من دونك فإنّ ملّككها كان ذلك من عطائه وإن سلبكها كان ذلك من بلائه وهو المالك لما ملّكك والقادر على ما عليه أقدرك الحديث.

أقول: ومعنى الرواية واضح ممّا بيّناه آنفا.

وفي شرح العقائد للمفيد قال: وقد روى عن أبي الحسن الثالثعليه‌السلام إنّه سئل عن أفعال العباد أهي مخلوقة لله تعالى ؟ فقالعليه‌السلام : لو كان خالقا لها لما تبرء منها وقد قال سبحانه: إن الله برئ ٌمن المشركين ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم وإنّما تبرء من شركهم وقبائحهم.

١٠٠

(٥)

بعثته ونزول الوحي إليه

«بَعَثَ اللهُ سُبْحانَهُ نَبِيَّهُ الأَكْرَم عَلَى حِينِ فَتَرةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَطُولِ هَجعَةٍ مِنَ الاُمَمِ، وَاعْتِزَام مِنَ الفِتَنِ وَانتِشَارٍ مِنَ الأُمُورِ، وَتَلَظٍّ مِنَ الحُروبِ، والدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ، ظَاهِرةُ الغُرورِ، عَلى حِينِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا، وإياسٍ مِن ثَمرِهَا، وَاغوِرَار مِنْ مَائِهَا، قَدْ دَرَسَتْ مَنَار الهُدى، وَظَهَرتْ اَعلامُ الرَّدى، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لأَهْلِهَا، عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبَها، ثَمَرُهَا الفِتْنَةُ، وَطَعَامُهَا الجِيفَةُ، وَشِعارُهَا الخَوْفُ، وَدِثَارُهَا السَّيْفُ » (١) .

بعث على رأس الأربعين من عمره، وبُشّر بالنبوّة والرسالة، وأمّا الشهر الذي بعث فيه، ففيه أقوال وآراء، فالشيعة الإمامية تبعاً لأئمّة أهل البيت: على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث في سبع وعشرين من رجب.

روى الكليني عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال: لا تدع صيام يوم سبع وعشرين من رجب فإنّه اليوم الذي نزلت فيه النبوّة على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

وروى أيضاً عن الإمام الكاظمعليه‌السلام أنّه قال: بعث الله عزّ وجلّ محمّداً رحمة للعالمين في سبع وعشرين من رجب(٣) .

روى المفيد عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: في اليوم السابع والعشرين من رحب نزلت النبوّة على رسول الله، إلى غير ذلك من الروايات(٤) .

وأمّا غيرهم فمن قائل بأنّه بعث في سبعة عشر من شهر رمضان أو ثمانية عشر أو أربع وعشرين من هذا الشهر أو في الثاني عشر من ربيع الأوّل.

__________________

(١) إقتباس من كلام الإمام أمير المؤمنين في نهج البلاغة الخطبة ٨٥، طبعة عبده.

(٢) و (٣) البحار: ج ١٨ ص ١٨٩ ـ نقلاً عن الكافي وأمالي ابن الشيخ.

(٤) البحار: ج ١٨ ص ١٨٩ ـ نقلاً عن الكافي وأمالي ابن الشيخ.

١٠١

وبما أنّ أهل البيت أدرى بما في البيت، كيف وهم نجوم الهدى ومصابيح الدجى وأحد الثقلين الذين تركهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعده، فيجب علينا الوقوف دون نظرهم ولا نجتازه، نعم دلّ الذكر الحكيم على أنّ القرآن نزل في شهر رمضان قال سبحانه:( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) ( البقرة / ١٨٥ ).

وقال سبحانه:( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ( القدر / ١ ).

وقال سبحانه:( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) ( الدخان / ٣ ).

إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على نزوله في شهر رمضان.

والإستدلال بهذه الآيات على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث في شهر رمضان مبني على إقتران البشارة بالنبوّة، بنزول القرآن وهو بعد غير ثابت، فلو قلنا بالتفكيك وأنّه بعث في شهر رجب، وبشّر بالنبوّة فيه، ونزل القرآن في شهر رمضان، لما كان هناك منافاة بين بعثته في رجب، ونزول القرآن في شهر رمضان.

ويؤيّد ذلك أي عدم اقتران النبوّة بنزول القرآن ما نقله غير واحد عن عائشة: إنّ أوّل ما بدء به رسول الله من النبوّة حين أراد الله كرامته، الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رؤيا في نومه إلّا جاءت كفلق الصبح، قالت: وحبّب الله تعالى إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحبّ إليه من أن يخلو وحده(١) .

لكن الظاهر من ذيل ما روته عائشة أنّ النبوّة كانت مقترنة بنزول الوحي والقرآن الكريم، ولنذكر نص الحديث بتمامه ثمّ نذيّله ببيان بعض الملاحظات حوله.روى البخاري: « كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يخلو بغار حراء، فيتحنّث فيه وهو التعبّد في الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوّد لذلك ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى جاء الحقّ وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد ثمّ أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ منّي الجهد ثمّ أرسلني

__________________

(١) صحيح البخاري: ج ١ ص ٣، السيرة النبوية: ج ١ ص ٣٣٤.

١٠٢

فقال: إقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثالثة ثمّ أرسلني، فقال:( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) (١) .

وفي هذه الرواية تأمّلات واضحة:

١ ـ ما هو المبرّر لجبرئيل أن يروّع النبي الأعظم، وأن يؤذيه بالعصر إلى حدٍّ أنّه يظن انّه الموت ؟ يفعل به ذلك وهو يراه عاجزاً عن القيام بما يأمره به، ولا يرحمه ولا يلين معه ؟

٢ ـ لماذا يفعل ذلك ثلاث مرات لا أكثر ولا أقل ؟

٣ ـ لماذا صدّقه في الثالثة، لا في المرّة الاُولى ولا الثانية مع أنّه يعلم أنّ النبي لا يكذب ؟

٤ ـ هل السند الذي روى به البخاري قابل للإحتجاج مع أنّ فيه الزهري وعروة.

أمّا الزهري فهو الذي عرف بعمالته للحكام، وإرتزاقه من موائدهم، وكان كاتباً لهشام بن عبد الملك ومعلّماً لأولاده، وجلس هو وعروة في مسجد المدينة فنالا من عليٍّ، فبلغ ذلك السجادعليه‌السلام حتى وقف عليهما فقال: أمّا أنت يا عروة فإنّ أبي حاكم أباك، فحُكِم لأبي على أبيك، وأمّا أنت يا زهري فلو كنت أنا وأنت بمكّة لأريتك كن أبيك(٢) .

أمّا عروة بن الزبير الذي حكم عليه ابن عمر بالنفاق وعدّه الاسكافي من التابعيين الذين يضعون أخباراً قبيحة في عليّعليه‌السلام (٣) .

نعم رواه ابن هشام والطبري في تفسيره وتاريخه(٤) بسند آخر ينتهي إلى

__________________

(١) صحيح البخاري: ج ١ ص ٣.

(٢) أي بيت أبيك.

(٣) الصحيح من سيرة النبي الأعظم: ص ٢٢٣.

(٤) السيرة النبوية: ج ١ ص ٢٣٥، تفسير الطبري: ج ٣٠ ص ١٦٢، وتاريخه: ج ٣ ص ٣٥٣.

١٠٣

أشخاص يستبعد سماعهم الحديث عن نفس الرسول الأكرم ودونك أسماؤهم:

١ ـ عبيد بن عمير، ترجمه ابن الاثير، قال: ذكر البخاري أنّه رأى النبي وذكر مسلم أنّه ولد على عهد النبي وهو معدود من كبار التابعين يروي عن عمر وغيره(١) .

٢ ـ عبد الله بن شداد، ترجمه ابن الأثير وقال: ولد على عهد النبي، روى عن أبيه وعن عمر وعليّ(٢) .

٣ ـ عائشة، زوجة النبي، حيث تفرّدت بنقل هذا الحديث ومن المستبعد جداً أن لا يحدّث النبي هذا الحديث غيرها مع تلهف غيرها إلى سماع أمثال هذا الحديث.

نعم ورد مضمون الحديث في تفسير الإمام العسكريعليه‌السلام ونقله من أعلام الطائفة ابن شهر آشوب في مناقبه(٣) أو المجلسي في بحاره(٤) .

لكن الكلام في صحّة نسبة التفسير الموجود إلى الإمام العسكريعليه‌السلام وأمّا المناقب فإنّه يورد الأحاديث والتواريخ مرسلة لا مسندة، والمجلسي اعتمد على هذه المصادر التي عرفت حالها.

وبذلك يظهر أنّه لا دليل على أنّ البشارة بالنبوّة كانت مقترنة بنزول القرآن، وبذلك ينسجم نزول القرآن في شهر رمضان مع كون البعثة في شهر رجب، نعم أورد العلّامة الطباطبائي على هذه النظرية بقوله: إذا بعث النبي في اليوم الثاني والعشرين من شهر رجب وبينه وبين شهر رمضان أكثر من ثلاثين يوماً فكيف تخلو البعثة في هذه المدّة من نزول القرآن ؟ على أنّ سورة العلق أوّل سورة نزلت على رسول الله وأنّها

__________________

(١) اُسد الغابة: ج ٣ ص ٣٥٣.

(٢) نفس المصدر: ج ٤ ص ١٨٣.

(٣) مناقب آل أبي طالب: ج ١ ص ٤٠ ـ ٤٤.

(٤) بحار الأنوار: ج ١٨ ص ١٩٦.

١٠٤

نزلت بمصاحبة البعثة(١) .

يلاحظ على ما ذكر:

١ ـ انّ الوجه الأوّل من كلامه مجرّد استبعاد، فأيّ إشكال في أن يكون النبي قد بشّر بالنبوّة ونزِّل القرآن بعد شهر وبضعة أيام.

٢ ـ وأمّا الوجه الثاني فلأنّ الروايات نطقت بأنّها أوّل سورة نزلت وليس فيها ما يدلّ على اقتران نزولها بأوّل عهد البعثة.

سؤال وإجابة:

إذا كان القرآن نازلاً في شهر رمضان فإنّ معناه أنّ مجموعه نزل في هذا الشهر مع أنّه نزل قرابة مدّة ثلاثة وعشرين سنة فكيف التوفيق بين هذين الأمرين ؟

وأمّا الإجابة فقد اُجيب عنه بأجوبة نذكرها واحداً تلو الآخر.

الأوّل: إنّ للقرآن نزولين: نزول دفعي وقد عبّر عنه بلفظ الإنزال الدال على الدفعة، ونزول تدريجي وهو الذي يعبّر عنه بالتنزيل. قال سبحانه:( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) ( هود / ١ ) فإنّ هذا الإحكام في مقابل التفصيل، والتفصيل هو جعله فصلاً فصلاً، وقطعة قطعة، والإحكام كونه على وجه لا يتفصّل فيه جزء من جزء ولا يتميّز بعض من بعض، لرجوعه إلى معنى واحد، لا أجزاء ولا فصول فيه، فعلى ذلك فالقرآن نزل دفعة واحدة على قلب النبي الأعظم، ثمّ صار ينزل تدريجياً حسب المناسبات والوقائع والأحداث(٢) .

وعلى ذلك فلا مانع من نزول جميع القرآن في شهر رمضان نزولاً دفعياً، ثمّ نزوله نحو ما في بضعة وعشرين سنة.

__________________

(١) تفسير الميزان: ج ٢ ص ١٣.

(٢) الميزان: ج ٢ ص ١٤ ـ ١٦.

١٠٥

ويلاحظ عليه: أنّ ما ذكره مبني على الفرق بين « الإنزال » و « التنزيل »، وأنّ الأوّل عبارة عن النزول الدفعي، والثاني عن النزول التدريجي مع أنّه لا دليل عليه، فإنّ الثاني أيضاً استعمل في النزول الدفعي. قال تعالى حاكياً عن المشركين:( وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ) ( الاسراء / ٩٣ ).

وقال تعالى:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ) ( الفرقان / ٣٢ ) فلو كان التنزيل هو النزول التدريجي فلماذا وصفه بقوله: « جملة واحدة ».

الثاني: إنّ القرآن نزل دفعة واحدة إلى البيت المعمور حسب ما نطقت به الروايات الكثيرة ثمّ صار ينزل تدريجياً على الرسول الأعظم.

روى حفص بن غياث عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال سألته عن قول الله عزّ وجلّ:( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) وإنّما اُنزل في عشرين بين أوّله وآخره، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام « نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثمّ نزل في طول عشرين سنة »(١) .

ولو صحّت الرواية يجب التعبّد بها، وإلّا فما معنى نزول القرآن الذي هو هدى للناس إلى البيت المعمور، وأيّ صلة بهذا النزول بهداية الناس الذي يتكلّم عنه القرآن ويقول:( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ) ؟

قال الشيخ المفيد:

« الذي ذهب إليه أبو جعفر(٢) حديث واحد لا يوجب علماً ولا عملاً ونزول

__________________

(١) البرهان في تفسير القرآن: ج ١ ص ١٨٢، والدر المنثور: ج ٦ ص ٣٧٠.

(٢) مراده الصدوق، وقد ذهب إلى أنّ القرآن قد نزل في شهر رمضان في ليلة القدر جملة واحدة إلى البيت المعمور، ثمّ انزل من البيت المعمور في مدة عشرين سنة.

١٠٦

القرآن على الأسباب الحادثة حالاً لا يدلّ على خلاف ما تضمّنه الحديث، وذلك أنّه قد تضمّن حكم ما حدث، وذكر ما جرى على وجهه، وذلك لا يكون على الحقيقة إلّا لحدوثه عند السبب، الخ.

ثمّ استعرض آيات كثيرة نزلت لحوادث متجددة(١) .

الثالث: إنّ القرآن يطلق على الكلّ والجزء، فمن الممكن أن يكون المراد بنزول القرآن في شهر رمضان هو شروع نزوله في ليلة مباركة وهي ليلة القدر، فكما يصحّ نسبة النزول إليه في شهر رمضان إذا نزل جملة واحدة، تصحّ نسبتة إليه إذا نزل أوّل جزء منه في شهر رمضان واستمرّ نزوله في الأشهر القادمة طيلة حياة النبي.

فيقال: نزل القرآن في شهر رمضان أي بدأ نزوله في هذا الشهر، وله نظائر في العرف، فلو بدأ فيضان الماء في المسيل يقال جرى السيل في يوم كذا وإن استمرّ جريانه وفيضانه عدّة أيام.

وهذا هو الظاهر من صاحب « المنار » حيث يقول: وأمّا معنى إنزال القرآن في رمضان مع أنّ المعروف باليقين أنّ القرآن نزل منجّماً في مدّة البعثة كلّها، فهو أنّ إبتداء نزوله كان في رمضان، ذلك في ليلة منه سمّيت ليلة القدر أي الشرف، والليلة المباركة كما في آيات اُخرى. وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه، على أنّ لفظ القرآن يطلق على هذا الكتاب كلّه ويطلق على بعضه.

الرابع: إنّ جملة القرآن وإن لم تنزل في تلك الليلة، لكن لـمّا نزلت سورة الحمد بها وهي تشتمل على جلِّ معارف القرآن، فكأنّ القرآن اُنزل فيه جميعاً فصحّ أن يقال: إنّا اَنزلناه في ليلة القدر.

يلاحظ عليه: أنّه لو كانت سورة الحمد أوّل سورة نزلت على رسول الله لكان حق الكلام أن يقال: قل بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، أو يقال:

__________________

(١) تصحيح الإعتقاد: ص ٥٨.

١٠٧

بسم الله الرحمن الرحيم، قل: الحمد لله ربّ العالمين(١) .

وهذا يعرب عن أنّ سورة الحمد ليست أوّل سورة نزلت على النبي.

هذه هي الوجوه التي ذكرها المفسّرون المحقّقون والثالث هو الأقوى.

أوّل ما نزل على رسول الله:

ذكر أكثر المفسّرين أنّ أوّل سورة نزلت على رسول الله هي سورة العلق، وتدل عليه روايات أئمّة أهل البيت. روى الكليني عن الصادقعليه‌السلام قال: أوّل ما نزل على رسول الله( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) وآخر سورة هو قوله:( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ) ومثله عن الإمام الرضاعليه‌السلام (٢) .

ولعلّ المراد نزول آيات خمس من أوّلها لا جميع السورة.

لأنّ قوله سبحانه في نفس تلك السورة:( أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ *عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ ) لا يناسب أن تكون أوّل ما نزل، بل هو حاك عن وجود تشريع للصلاة، ووجود من يقيمها حتّى واجه نهي بعض المشركين، وهذا لا يتّفق مع كونه أوّل ما نزل.

أساطير وخرافات

دلّت الأدلة العقلية والآيات القرآنية على أنّ الأنبياء مصونون عن الخطأ والإشتباه في تلقّي الوحي أوّلاً، وضبطه ثانياً، وإبلاغه ثالثاً وأنّهم لا يشكّون فيما يلقى في روعهم من أنّه ربّ العالمين وأنّ ما يعاينونه رسول إله العالمين، والكلام كلامه، لا يشكّون في ذلك طرفة عين ولا يتردّدون بل يتلقّونه بنفس مطمئنة.

__________________

(١) الميزان: ج ٢ ص ٢١ ـ ٢٢.

(٢) البرهان في تفسير القرآن: ج ١ المقدّمة الباب الخامس عشر ص ٢٩، وتاريخ القرآن للزنجاني: ص ٣٠.

١٠٨

هذا هو القرآن الكريم يذكر كيفيّة بدء نزول الوحي إلى موسى وأنّه تلقّاه بلا تردّد ولا تريّث. بذكره في سور مختلفة:

يقول:( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ *إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى *وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ *إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلَٰهَ إلّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي *إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ *اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ *قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي *وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي *وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي *يَفْقَهُوا قَوْلِي *وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي *هَارُونَ أَخِي *اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي *وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي *كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا *وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا *إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا ) ( طه / ١١ ـ ٣٥ ).

ترى أنّ الكليم عندما فُوجئ بنزول الوحي، تلقّاه بصدر رحب، ولم يتردّد في أنّه وحيه سبحانه وأمره، ولذلك سأل سبحانه أن يشرح له صدره، وييسر له أمره، ويحلّ العقدة التي في لسانه، ويجعل له وزيراً من أهله، يشدّ به أزره ويشركه في أمره.

يقول سبحانه:( فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *يَا مُوسَىٰ إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( النحل / ٨ ـ ٩ ).

وجاءت هذه القصة في سورة القصص على وفق ما وردت في السورتين(١) .

ومن لاحظ هذه الآيات يقف على أنّ موقف الأنبياء من الوحي هو موقف الإنسان المتيقّن المطمئنّ إليه، وهذه خاصّة تعمّ جميع الأنبياء:

نرى أنّه سبحانه يذكر رؤية النبي الأكرم، ومواجهته لمعلّمه الذي وصفه القرآن بـ « شديد القوى ».

يقول:( إِنْ هُوَ إلّا وَحْيٌ يُوحَىٰ *عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ *ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ *وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَىٰ *ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ *فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ *فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ

__________________

(١) القصص: ٢٩ ـ ٣٥.

١٠٩

مَا أَوْحَىٰ *مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ *أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ ) ( النجم / ٤ ـ ١٢ ).

فأي كلمة أصرح في توصيف إيمان النبي واذعانه في مجال الوحي ومواجهة أمينه من قوله سبحانه:( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ ) أي صدق القلب عمل العين. ويحتمل أن يكون المراد، ما رآه الفؤاد.

قال العلّامة الطباطبائي:

فالمراد بالفؤاد، فؤاد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وضمير الفاعل في « ما رأى » راجع إلى الفؤاد، والرؤيا رؤيته ولابدع في نسبة الرؤية وهي مشاهدة العيان إلى الفؤاد، فإنّ للإنسان نوعاً من الإدراك الشهودي وراء الإدراك بإحدى الحواسّ الظاهرة، والتخيّل والتفكّر بالقوى الباطنة كما أنّنا نشاهد من أنفسنا أنّنا نرى وليست هذه المشاهدة العيانية رؤية بالبصر ولا معلوماً بالفكر، وكذا نرى من أنفسنا أنّنا نسمع ونشمّ ونذوق ونلمس، ونشاهد أنّنا نتخيّل ونتفكّر، وليست هذه الرؤية ببصر أو بشيء من الحواسّ الظاهرة أو الباطنة(١) .

فالله سبحانه يؤيّد صدق النبي فيما يدّعيه من الوحي ورؤية آيات الله الكبرى، سواء كانت بالعين أو بالفؤاد.

وعلى كل تقدير فهذه الآيات وغيرها تدلّ على أنّ الأنبياء وغيرهم لا يشكّون ولا يتردّدون فيما يواجهون من الاُمور الغيبيّة.

وعلى ضوء ذلك تقف على أنّ ما ملأ كتب السيرة وبعض التفاسير في مجال بدء الوحي وأنّه تردّد النبي وشكّ عندما بشّر بالنبوّة وشاهد ملك الوحي وامتلأ روعاً وخوفاً إلى حدّ حاول أن يلقي نفسه من شاهق، وعاد إلى البيت فكلّم زوجته فيما واجهه، وعادت زوجته تسلّيه وتقنعه بأنّه رسول ربّ العالمين، وأنّ ما رآه ليس إلّا أمراً حقّاً.

إذ كل ذلك أساطير وخرافات، تناقض البراهين العقليّة وما يتلقّاه الإنسان

__________________

(١) الميزان: ج ١٩ ص ٣٠.

١١٠

من قصص الأنبياء الواردة في القرآن الكريم، وقد دسّها الأحبار والرهبان وسماسرة الحديث والقصّاصون في كتب القصص والسير والحديث، ونحن نكتفي في المقام بما ذكره البخاري في صحيحه وابن هشام في سيرته، فإنّ استقصاء كل ما ورد حول هذا الموضوع من الروايات المدسوسة يدفع بنا إلى تأليف رسالة مفردة، ولكن فيما ذكرنا غنىً وكفاية. قال البخاري:

( بعد ذكر نزول أمين الوحي عليه في جبل حراء ) « فرجع بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد ( رضي الله عنها ) فقال: زمّلوني زمّلوني، فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة ـ واخبرها الخبر ـ لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلاّ والله ما يخزيك الله أبداً إنّك لتصل الرحم، وتحمل الكل وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحقّ، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى ابن عمّ خديجة، وكان أمرئً تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة يا ابن عمّ اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى يا ليتني فيها جذعاً ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك قومك، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمخرجي هم ؟ قال: نعم، لم يأتِ رجل قطّ بمثل ما جئت به إلّا عودي، وان يدركني يومك، أنصرك نصراً مؤزّراً ثمّ لم ينشب(١) ورقة أن توفّي وفتر الوحي »(٢) .

هذا ما لدى البخاري، وأمّا صاحب السيرة النبوية فبعدما ذكر مسألة الغتّ ينقل عن النبي أنّه قال:

« فخرجت حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول:

__________________

(١) أي لم يلبث.

(٢) صحيح البخاري: ج ١ ص ٣.

١١١

يا محمّد، أنت رسول الله وأنا جبرئيل، قال: فوقفت أنظر إليه، فما أتقدّم وما أتأخّر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، قال: فلا أنظر في ناحية منها إلّا رأيته كذلك، فما زلت واقفاً، ما أتقدّم أمامي، وما أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا على مكّة ورجعوا إليها، وأنا واقف في مكاني ذلك، ثمّ انصرف عنّي وانصرفت راجعاً إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفاً إليها، فقالت: يا أبا القاسم، أين كنت ؟ فو الله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكّة ورجعوا إليّ، ثمّ حدّثتها بالذي رأيت، فقالت: أبشر يا ابن عمّ واثبت، فو الذي نفس خديجة بيده إنّي لأرجو أن تكون نبيّ هذه الاُمّة ».

ثمّ يذكر انطلاق خديجة إلى ورقة بن نوفل، وما أجابها به ورقة بنفس النص الذي ذكره البخاري ثمّ يذكر لقاء النبي ورقة بن نوفل، وهو يطوف بالكعبة، فسأله ورقة بما رأى وسمع، فأخبره النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال له ورقة: والذي نفسي بيده إنّك لنبيّ هذه الاُمّة.

ثمّ عقبه بذكر ما قامت به خديجة من إمتحان صدق نبوّته فذكر أنّها قالت لرسول الله: أي ابن عمّ، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا إذا جاءك ؟ قال: نعم. قالت: فإذا جاءك فاخبرني به، فجاءه جبرئيل، فقال رسول الله لخديجة: هذا جبرئيل قد جائني، قالت: قم يا بن عمّ فاجلس على فخذي اليسرى، قال: فقام رسول الله فجلس عليها، قالت: هل ترى ؟ قال: نعم، قالت: فتحوّل فاجلس على فخذي اليمنى، فجلس على فخذها اليمنى، فقالت: هل تراه ؟ قال: نعم، قالت: فتحوّل واجلس في حجري، فتحوّل فجلس في حجرها، قالت هل تراه، قال: نعم، فتحسّرت وألقت خمارها ورسول الله جالس في حجرها، ثم قالت له: هل تراه ؟ قال: لا.

قالت: يا ابن عم أثبت وابشر، فو الله هذا ملك وما هذا بشيطان(١) .

وقال الطبري ـ بعد ما ذكر نزول جبرئيل إليه وتعليم آيات من سورة العلق ـ

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ١ ص ٢٣٧ ـ ٢٣٩، وتاريخ الطبري: ج ٢ ص ٤٩ ـ ٥٠.

١١٢

ثمّ دخلت على خديجة وقلت: زمّلوني زمّلوني حتى ذهب عنّي الروع، ثمّ أتاني وقال: يا محمّد، أنت رسول الله.

قال: لقد هممت أن أطرح نفسي من حالق من جبل فتبدّى لي حين هممت بذلك، فقال: يا محمّد، أنا جبرئيل وأنت رسول الله، ثمّ قال: إقرأ، قلت: ما اقرأ ؟ قال: فأخذني فغتني ثلاث مرات حتّى بلغ منّي الجهد ثمّ قال: اقرأ باسم ربّك الذي خلق، فقرأت فأتيت خديجة، فقلت: لقد أشفقت على نفسي، فأخبرتها خبري فقالت: أبشر فو الله لا يخزيك الله أبداً، ووالله إنّك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدّي الأمانة، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحقّ، ثمّ انطلقت بي إلى ورقة بن نوفل بن أسد، فقالت: اسمع من ابن أخيك، فسألني فأخبرته خبري، فقال: هذا الناموس الذي اُنزل على موسى بن عمران .

نظرة تحليلية حول هذه النصوص:

إنّ هذه النصوص التاريخية التي نقلها المشايخ كالبخاري وابن هشام والطبري، وتلقّاها الآخرون من بعدهم على أنّها حادثة متسالم عليها تضاد ما يستشفه الإنسان من التدبّر في حالات الأنبياء في القرآن الكريم وتناقض البديهة العقلية، وإليك بيان ما فيها من نقاط الضعف وعلائم الجعل والتهافت:

١ ـ إنّ النبوّة كما عرفت منصب إلهي لا يفيضه الله إلّا على من امتلك زخماً هائلاً من القدرات الروحية والقوى النفسية العالية حتّى يقوى على معاينة الوحي، ومشاهدة الملائكة، فعندئذٍ فلا معنى لما ذكره البخاري: « لقد خشيت على نفسي » أفيمكن أن ينزل الوحي الإلهي على من لا يفرّق بين لقاء الملك، ولقاء الجنّ ومكالمتهما حتى يخشى على نفسه الجنون أو الموت ؟

٢ ـ وأسوأ منه ما ذكره الطبري من أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله همّ أن يرمي بنفسه من شاهق من جبل، فندم عليه ورجع عنه حين سمع كلام جبرئيل يا محمّد أنا جبرئيل.

١١٣

إنّ هذا الكلام يعرب من أنّ نفسهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم تكن نفساً مستعدّة لتحمّل الوحي على حدٍّ، همّ أن يقتل نفسه بالإلقاء من حالق، وهل هذا هو إلّا نفس الجنون الذي كان المشركون يصفونه به طيلة بعثته، فوا عجباً نسمعه من أعوانه وأنصاره ومن لسان زوجته.

٣ ـ إنّ قول خديجة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّا والله ما يخزيك الله أبداً، تعرب من أنّها كانت أوثق إيماناً بنبوّته من نفس الرسول. فهل يمكن التفوّه بذلك، وما حاجة النبي الأعظم الذي قال تعالى في حقّه:( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) ( النساء / ١١٣ ) إلى هذا التسلّي ؟

وهل يصحّ ويتعقّل للنبيّ أنّ يشكّ في رسالة نفسه حتى يستفتي زوجته فيزول شكّه بتصديقها ؟

٤ ـ ذكر البخاري: أنّ خديجة انطلقت مع رسول الله إلى ورقة، فأخبره رسول الله بما وقع، فأجاب ورقة بما ذكره، وأنّ ما نزل عليه هو الناموس الذي نزّله الله على موسى.

ومعنى هذا أن يكون ورقة أعلم بالسرّ المودع في قلب رسول الله من نفسه، كما أنّ معنى ذلك أنّ كلاًّ من الزوجين كانا شاكّين في صحّة الرسالة، فانطلقا إلى متنصّر وقرأ وريقات من العهدين حتى يستفتياه ليزيل عنهما حجاب الشكّ وغشاوة الريب.

٥ ـ إنّ معنى ما ذكره البخاري من أنّ ورقة أخبر النبي بأنّه: يسخر منك قومك، وتعجّب الرسول من هذا الكلام وقال: أوَ مخرجي هم ؟ كون المرسل إليه أعلم من الرسول وأفضل منه.

٦ ـ إنّ ما ذكره ابن هشام من « أنّ الرسول كلّما رفع رأسه إلى السماء لينظر ما رأى إلّا رجلاً صافّاً قدميه في اُفق السماء، فلا ينظر في ناحية من السماء إلّا رآه فيها » يشبه كلام المصابين في عقولهم وشعورهم، والمختلّين في أفكارهم، فلا يرون في

١١٤

كل جهة إلّا الصورة المتخيّلة، لطغيانها على مخيّلتهم وشعورهم، أعاذنا الله من إكالة الشنائع بمقام النبوّة، بنحو لا يليق بساحة العاديين من الناس فضلاً عن النبي الأكرم خاتم النبّيين.

٧ ـ انظر إلى امتحان خديجة لبرهان النبوّة فإنّ ظاهرها أنّها كانت شاكّة في نبوّة زوجها، ولكنّها استحصلت اليقين على الوجه الذي سمعته في كلام ابن هشام والطبري، ولكن أيّ صلة بين رفع الخمار وإلقائه وعدم رؤية جبرئيل، وهل لرفع الخمار وتعرية شعر الرأس تأثير في غياب أمين الوحي عن البيت ؟

نرى أنّه سبحانه ينقل في غير سورة من سور القرآن الكريم مكالمة الملائكة زوجة الخليل وتبشيرها بالولد. فهل يمكن لنا أن نقول بعد ذلك: إنّ زوجة الخليل لو كانت مكشوفة الرأس لامتنعت الملائكة من دخول بيت الخليلعليه‌السلام (١) .

٨ ـ إنّ ورقة بن نوفل على حدّ تصريح نصّ الرواية كان بادي بدئه نصرانيّاً بعد ما كان مشركاً، فمقتضى الحال أن يشبّه الرسول الأعظم بالمسيح الذي كان يعتقد بنبوّته، لا بالكليم. أو ليس هذا يعرب عن لعب يد الأحبار في الخفاء في اصطناع هذه الأحاديث ودورهم في تشويش صفاء رسالة الرسول الأعظم بأمثال هذه الأساطير والمهاترات والخرافات ؟

٩ ـ نحن على ثقة ويقين بأنّ النبوّة منصب إلهي لا يتحمّله إلّا الأمثل والأكمل فالأكمل من الناس، ولا يقوم بأعباء مهامّها إلّا من امتلك قدرة روحيّة خاصّة تبعث في نفسه الإذعان والتسليم، والإنقياد حينما يتمثّل له رسول ربّه وأمين وحيه، فلا تأخذه المسكنة ولا يستولي عليه الخوف عند سماع كلامه ووحيه، وقد درسنا وضع الكليم عندما فوجئ بالوحي فما حاق به الروع ولا أحاط به الخوف، ولا همّ بإلقاء نفسه إلى غير ذلك ممّا ورد في هذه الروايات، وبما أنّ القرآن هو المرجع الفصل في تمييز الصحيح من الزائف في جملة هذه الروايات، يحتّم علينا إعراض

__________________

(١) لاحظ هود / ٧١ ـ ٧٣، الذاريات / ٢٩.

١١٥

الصفح عنها، وضربها عرض الجدار، مضافاً إلى ما فيها من التناقض والإختلاف في حكاية القصّة كما هو معلوم لمن تدبّر فيها وتأمّل نصّها.

فرية إنقطاع الوحي وفتوره

وقفت على ما في الروايات السابقة من الوضع والدسّ بهدف تشويه صفاء صورة رسالة النبي الأكرم فهلمّ معي نتناول فريّة اُخرىٰ حيكت على المنوال السابق، وللغاية نفسها، وهي مسألة إنقطاع الوحي بعد نزول آيات من سورة العلق، أو سورة المدّثّر، أو سورة الحمد على إختلاف في أوّل سورة نزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد حازت هذه الفريّة على نصيب من الإهتمام والتقدير في كتب السيرة والتفسير حتى أنّ الدكتور محمد حسنين هيكل، أرسلها إرسال المسلّمات في كتابه بقوله: « انتظر هداية الوحي إيّاه في أمره، وإنارة سبيله، فإذا الوحي يفتر، واذا جبرئيل لا ينزل عليه، إلى أن قال: وقد روي أنّ خديجة قالت له: ما أرىٰ ربّك إلّا قد قلاك، وتولّاه الخوف والوجل، فهما يبعثانه من جديد، يطوي الجبال وينقطع في حراء يرتفع بكل نفسه ابتغاء وجه ربّه، يسأله: لم قلاه بعد أن اصطفاه، ولم تكن خديجة بأقلّ منه إشفاقاً ووجلاً ويتمنّى الموت صادقاً لولا أنّه كان يشعر بما اُمر به، فيرجع إلى نفسه، ثمّ إلى ربّه، ولقد قيل: إنّه فكّر في أن يلقي بنفسه من أعلى حراء أو أبي قبيس وأيّ خير في الحياة، وهذا أكبر عمله فيها يدوي وينقضي، وأنّه لذلك تساور هذه المخاوف، إذ جاءه الوحي بعد طول فتوره إذ نزل عليه بقوله تعالى:( وَالضُّحَىٰ *وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ *مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ *وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَىٰ *وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ *أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ *وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَىٰ *وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَىٰ *فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ *وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ *وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) ( سورة الضحى )(١) .

هذا ما يذكره رجل مثقّف في القرن العشرين في حقّ النبي الأكرم، فما ظنّك

__________________

(١) حياة محمد:صلى‌الله‌عليه‌وآله ص ١٣٨.

١١٦

بغيره ممّن سبقه من الذين يتعبّدون بالروايات ولا يحيدون عن شاذّها وسقيمها قيد أنملة وقدر شعرة، وأصل هذه الفرية يرجع إلى كتب السيرة والتفسير، وإليك ما يذكره واحد من اُولئك من أمثال الطبري حيث يصرّح في تفسيره بما نصّه:

١ ـ عن ابن زيد: إنّ هذه السورة نزلت على رسول الله تكذيباً من الله قريشاً في قيلهم لرسول الله لـمّا أبطأ عليه الوحي: « قد ودّع محمّداً ربّه وقلاه ».

٢ ـ عن ابن عبد الله: لـمّا أبطأ جبرئيل على رسول الله، فقالت امرأة من أهله أو من قومه: ودّع الشيطان محمّداً، فأنزل الله عليه:( وَالضُّحَىٰ ـ إلى قوله ـمَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ ) .

٣ ـ عن جندب البجلي: أبطأ جبرئيل على النبي حتّى قال المشركون ودّع محمّداً ربّه، فأنزل الله:( وَالضُّحَىٰ ) ، وعنه قالت امرأة لرسول الله: ما أرى صاحبك إلّا قد أبطأ عنك، فنزلت هذه الآية.

وفي رواية اُخرى عنه: ما أرى شيطانك إلّا قد تركك.

٤ ـ عن عبد الله بن شدّاد: إنّ خديجة قالت للنبي: ما أرىٰ ربّك إلّا قد قَلاك، فأنزل الله( وَالضُّحَىٰ ) .

٥ ـ وعن قتادة: إنّ جبرئيل أبطأ عليه بالوحي، فقال ناس من الناس: ما نرى صاحبك إلّا قد قلاك فودّعك، فأنزل الله:( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ ) .

٦ ـ عن ضحّاك: مكث جبرئيل عن محمّد، فقال المشركون: قد ودّعه ربّه.

٧ ـ عن ابن عروة، عن أبيه قال: أبطأ جبرئيل على النبي، فجزع جزعاً شديداً، وقالت خديجة: أرىٰ ربّك قد قلاك، ممّا نرى من جزعك، قالت: فنزلت( وَالضُّحَىٰ ) (١) .

يلاحظ على هذه الروايات وعلى فرية فترة إنقطاع الوحي عدّة اُمور:

١ ـ إنّ هذه الروايات التي ملأت التفاسير وكتب السير، رويت عن اُناس

__________________

(١) تفسير الطبري: ج ٣٠ ص ١٤٨.

١١٧

لا يركن إليهم كقتادة والضحّاك فإنّهما كانا يأخذان تفسير القرآن عن أهل الكتاب(١) . وجلّها بل كلّها مرسلة غير مسندة إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢ ـ إنّها اختلفت في القائل الذي شَمِت برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله: « ودّعك ربّك » فربّما يسند إلى امرأة من أهله أو قومه وأخرى إلى المشركين، وثالثة إلى طائفة من الناس، ورابعة إلى زوجته خديجة.

إنّ نسبة هذا القول إلى زوجته الطاهرة التي آمنت به يوم بعثته، وقد عرفت فضائله وملكاته النفسيّة عن كثب، بعيداً جداً.

٣ ـ إنّها إختلفت في مدة الفترة. قال ابن جريج: احتبس عنه الوحي إثنى عشر يوماً، وقال ابن عباس: خمسة عشر يوماً، وقيل: خمسة وعشرين يوماً، وقال مقاتل: أربعين يوماً(٢) ، وفي فتح الباري: أنّه كان ثلاث سنين(٣) كما في السيرة الحلبية وفيها أيضاً: إنّها كانت سنتين ونصفاً، وعلى قول: سنتين، إلى غير ذلك من الأقوال المختلفة التي تحكي عن اضطراب في الرواية والنقل.

٤ ـ إختلفت الرواية في سبب الفترة وانقطاع الوحي.فتارة زعموا أنّ سببها هو أنّ اليهود سألوا رسول الله عن مسائل ثلاث: عن أصحاب الكهف وعن الروح وعن قصّة ذي القرنين، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : سأخبركم غداً ولم يستثنِ، فاحتبس عنه الوحي، فقال المشركون ما قالوا، فنزلت(٤) .

واُخرى قالوا: إنّ عثمان أهدى إليه عنقود عنب، وقيل: عذق تمر، فجاء سائل فأعطاه، ثمّ اشتراه عثمان بدرهم، فقدّمه إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) لاحظ آلاء الرحمن في تفسير القرآن: ج ١، ص ٤٦، يقول: إنّ الضحّاك بن مزاحم فقد ضعّفه يحيى بن سعيد، وكان يروي عن ابن عباس، وأنكر ملاقاته له حتى قيل: إنّه ما رآه قط، وأمّا قتادة فقد ذكروا: أنّه مدلّس.

(٢) تفسير القرطبي: ج ٢٠ ص ٩٢.

(٣) السيرة الحلبية: ج ١ ص ٢٦٢.

(٤) روح المعاني: ج ١٠ ص ١٥٧، نقله عن جمع من المفسّرين.

١١٨

ثانياً، ثمّ عاد السائل فأعطى وهكذا ثلاث مرّات، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله ملاطفاً لا غضبان: أسائل أنت يا فلان أم تاجر ؟ فتأخّر الوحي أيّاماً فاستوحش فنزلت.

وثالثة: رووا عن ابن أبي شيبة في مسنده والطبراني وابن مردويه من حديث خولة، وكانت تخدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ جرواً دخل تحت سرير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فمات ولم تشعر به، فمكث رسول الله أربعة أيّام لا ينزل عليه الوحي، فقال: يا خولة ! ما حدث في بيت رسول الله ؟ جبرئيل لا يأتيني ! فقلت يا نبي الله ما أتى علينا يوم خير من هذا اليوم، فأخذ برده فلبسها وخرج، فقلت في نفسي لو هيّأت البيت وكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا بشيء ثقيل فلم أزل به حتى بدا لي الجرو ميّتاً، فأخذته بيدي فألقيته خلف الدار، فجاء النبي ترعد لحيته، وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة، فقال يا خولة دثّريني، فأنزل الله تعالى:( وَالضُّحَىٰ *وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ ) (١) .

ورابعة: انّ المسلمين قالوا: يا رسول الله مالك لا ينزل عليك الوحي ؟ فقال: وكيف ينزل عليّ وأنتم لا تنقّون رواجبكم، وفي رواية: براجمكم، ولا تقصّون أظفاركم، ولا تأخذون من شواربكم، فنزل جبرئيل بهذه السورة، فقال النبي: ما جئت حتى اشتقت إليك، فقال جبرئيل: وأنا كنت أشدّ إليك شوقاً، ولكنّي عبد مأمور، ثمّ أنزل عليه:( وَمَا نَتَنَزَّلُ إلّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) ( مريم / ٦٤ )(٢) .

إنّ الإضطراب في أسباب فتور الوحي يعرب عن عدم صحّة الرواية.

أمّا الأوّل: فلو صحّ فيلزم كون زمان إنقطاع الوحي في العام السابع من البعثة لأنّ قريشاً أرسلت النضر بن الحارث وابن أبي معيط إلى أحبار اليهود يسألانهم عن النبي الأكرم، وقالا لهم: إنّكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، فقالت لهم أحبار اليهود: سلوهُ عن ثلاث نأمركم بهنّ، فجاؤوا إلى رسول الله، وقالوا: يا محمّد أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل، قد كانت لهم قصّة عجب ،

__________________

(١) روح المعاني: ج ١٠ ص ١٥٧.

(٢) تفسير القرطبي: ج ٢٠ ص ٩٣، ومجمع البيان: ج ١٠ ص ٥٥ ( طبع صيدا ).

١١٩

وعن رجل كان طوّافاً قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح ما هي ؟ فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أخبركم بما سألتم عنه غداً ولم يستثن، فانصرفوا عنه(١) .

نحن ننزّه ساحة النبي الأكرم الذي نشأ نشأة الأنبياء في عالم مليء بالطهر والقداسة، أن يخبرهم على وجه قاطع بأنّه سيجيبهم غداً على أسئلتهم تلك فمن أين علم أنّه سبحانه ينزل الوحي عليه غداً ؟ أو أنّه سبحانه يجيب عن أسئلتهم عن طريق الوحي ؟

وأمّا الثاني: فهو أشبه بالقصص الموضوعة، فهل من المعتاد أن يباع عنقود عنب ثلاث مرّات في السوق، ومثله عذق تمر ؟ ولعلّ الجاعل كان يهدف إلى إختلاق الفضائل لعثمان فحسب أنّ هذا الموضع مناسب له.

وأمّا الثالث: فبعيد جدّاً، إذ كيف يمكن أن يموت الجرو تحت سرير النبي أو في زاوية من البيت ولا يلتفت إليه ؟ على أنّ ظاهر الرواية أنّ إنقطاع الوحي كان بعد تلقّي النبي لنزول الوحي مدّة مديدة حيث إنّ خولة قالت: « وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة » فإنّ ذلك يعرب عن أنّ الحادثة كانت في أزمنة متأخّرة من بدء البعثة، مع أنّ المشهور أنّها كانت في بدء البعثة ـ أي بعد نزول سورة العلق أو آيات منها ـ.

وأمّا الرابع: فهو أشبه بحمل النبي وزر الغير، فإنّ عدم قصّ المسلمين شواربهم، أو عدم تنظيف رواجبهم لا يكون سبباً لإنقطاع الوحي، قال سبحانه:( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ) ( الأنعام / ١٦٤ ).

هذه الوجوه كلّها تدفع بنا إلى القول: بأنّ مسألة انقطاع الوحي فرية تاريخيّة صنعتها يد الجعل والوضع لغاية أو غايات خاصّة، ولم يكن هناك أيّة فترة، وإنّما المسألة كانت بصورة اُخرى:

__________________

(١) السيرة النبويّة لإبن هشام: ج ١، ص ٣٠١.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459