الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 94107
تحميل: 6035


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 94107 / تحميل: 6035
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 9

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

( سورة الأنفال مدنيّـة وهي خمس وسبعون آيه)

( سورة الانفال آيه ١ - ٦)

بسم الله الرّحمن الرّحيم يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ للّهِ‏ِ وَالرّسُولِ فَاتّقُوا اللّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ( ١) إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلى‏ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ( ٢) الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ( ٣) أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ( ٤) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقّ وَإِنّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ( ٥) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقّ بَعْدَ ما تَبَيّنَ كَأَنّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرونَ( ٦)

( بيان)

سياق الآيات في السورة يعطي أنّها مدنيّـة نزلت بعد وقعة بدر، وهي تقصّ بعض أخبار بدر، وتذكر مسائل متفرّقة تتعلّق بالجهاد والغنائم والأنفال ونحوها، واُموراً اُخرى تتعلّق بالهجرة، وبها تختتم السورة.

قوله تعالى: ( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ) إلى آخر الآية. الأنفال جمع نفل بالفتح وهو الزيادة على الشئ، ولذا يطلق النفل والنافلة على التطوّع

٣

لزيادتة على الفريضة، وتطلق الأنفال على ما يسمّى فيئاً أيضاً وهي الأشياء من الأموال الّتي لا مالك لها من الناس كرؤوس الجبال، وبطون الأودية، والديار الخربة، والقرى الّتي باد أهلها، وتركة من لا وارث له، وغير ذلك كأنّها زيادة على ما ملكه الناس فلم يملكها أحد وهي لله ولرسوله، وتطلق على غنائم الحرب كأنّها زيادة على ما قصد منها فإنّ المقصود بالحرب والغزوة الظفر على الأعداء واستئصالهم فإذا غلبوا وظفر بهم فقد حصل المقصود، والأموال الّتي غنمه المقاتلون والقوم الّذين أسروهم زيادة على أصل الغرض.

و( ذات ) في الأصل مؤنّث( ذا ) بمعنى الصاحب من الألفاظ اللازمة الإضافة غير أنّه كثر استعماله في نفس الشئ بمعنى ما به الشئ هو هو فيقال: ذات الإنسان أي ما به الإنسان إنسان وذات زيد أي النفس الإنسانيّـة الخاصّـة الّتي سمّيت بزيد، وكأنّ الأصل فيها النفس ذات أعمال كذا ثمّ اُفردت بالذكر فقيل ذات الأعمال أو ما يؤدّي مؤدّاه ثمّ قيل ذات، وكذلك الأمر في ذات البين فلكون الخصومة لا تتحقّق إلّا بين طرفين نسب إليها البين فقيل ذات البين أي الحالة والرابطة السيّـئة الّتي هي صاحبة البين فالمراد بقوله: أصلحوا ذات بينكم أي أصلحوا الحالة الفاسدة والرابطة السيّـئة الّتي بينكم.

وقال الراغب في المفردات:( ذو ) على وجهين: أحدهما يتوصّل به إلى الوصف بأسماء الأجناس والأنواع، ويضاف إلى الظاهر دون المضمر، ويثنّى ويجمع، ويقال في التثنية: ذواتا ، و في الجمع ذوات ، ولا يستعمل شئ منها إلّا مضافاً.

قال: وقد استعار أصحاب المعاني الذات فجعلوه عبارة عن عين الشئ جوهراً كان أو عرضاً واستعملوها مفردة ومضافة إلى المضمر وبالألف واللام، وأجروها مجرى النفس والخاصّـة فقالوا: ذاتة ونفسه وخاصّـته وليس ذلك من كلام العرب، والثاني في لفظ ذو لغة لطيّئ يستعملونه استعمال( الّذي ) ويجعل في الرفع والنصب والجرّ والجمع والتأنيث على لفظ واحد نحو:

وبئري ذو حفرت وذو طويت

أي الّتي حفرت والّتي طويت انتهى.

والّذي ذكره من عدم إضافته إلى الضمير منقول عن الفرّاء ولازمه كون استعماله

٤

مضافاً إلى الضمير من كلام المولّدين والحقّ أنّه قليل لا متروك وقد وقع في كلام عليّعليه‌السلام في بعض خطبه كما في نهج البلاغة.

وقد اختلف المفسّرون في معنى الآية وموقعها اختلافا شديداً من جهات: من جهة معنى قوله:( يسألونك عن الأنفال ) وقد نسب إلى أهل البيتعليهم‌السلام وبعض آخر كعبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقّـاص وطلحة بن مصرف أنّهم قرأوا:( يسالونك الأنفال ) فقيل : عن زائدة في القراءة المشهورة، وقيل: بل مقدّرة في القراءة الشاذّة وقيل: إنّ المراد بالأنفال غنائم الحرب وقيل: غنائم غزوة بدر خاصّـة بجعل اللام في الأنفال للعهد، وقيل: الفئ الّذي لله والرسول والإمام، وقيل: إنّ الآية منسوخة بآية الخمس، وقيل: بل محكمة، وقد طالت المشاجرة بينهم كما يعلم بالرجوع إلى مطوّلات التفاسير كتفسيري الرازيّ والآلوسيّ وغيرهما.

والّذي ينبغي أن يقال بالاستمداد من السياق: أنّ الآية بسياقها تدلّ على أنّه كان بين هؤلاء المشار إليهم بقوله:( يسألونك ) تخاصم خاصم به بعضهم بعضاً بأخذ كلّ جانباً من القول لا يرضى به خصمه، والتفريع الّذي في قوله:( فاتّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ) يدلّ على أنّ الخصومة كانت في أمر الأنفال، ولازم ذلك أن يكون السؤال الواقع منهم المحكيّ في صدر الآية إنّما وقع لقطع الخصومة، كأنّهم تخاصموا في أمر الأنفال ثمّ راجعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسألونه عن حكمها لتنقطع بما يجيبه الخصومة وترتفع عمّا بينهم.

وهذا - كما ترى - يؤيّد أوّلاً القراءة المشهورة:( يسألونك عن الأنفال ) فإنّ السؤال إذا تعدّى بمن كان بمعنى استعلام الحكم والخبر، وأمّا إذا استعمل متعدّياً بنفسه كان بمعنى الاستعطاف ولا يناسب المقام إلّا المعنى الأوّل.

وثانياً: أنّ الأنفال بحسب المفهوم وإن كان يعمّ الغنيمة والفئ جميعاً إلّا أنّ مورد الآية هي الأنفال بمعنى غنائم الحرب لاغنائم غزوة بدر خاصّـة إذ لا وجه للتخصيص فإنّهم إذ تخاصموا في غنائم بدر لم يتخاصموا فيها لأنّها غنائم بدر خاصّـة بل لأنّها غنائم مأخوذة من أعداء الدين في جهاد دينيّ، وهو ظاهر.

٥

واختصاص الآية بحسب موردها بغنيمة الحرب لا يوجب تخصيص الحكم الوارد فيها بالمورد، فإنّ المورد لا يخصّص، فإطلاق حكم الآية بالنسبة إلى كلّ ما يسمّى بالنفل في محلّه، وهي تدلّ على أنّ الأنفال جميعاً لله ولرسوله لا يشارك الله ورسوله فيها أحد من المؤمنين سواء في ذلك الغنيمة والفئ.

ثمّ الظاهر من قوله:( قل الأنفال لله والرسول ) وما يعظهم الله به بعد هذه الجملة ويحرّضهم على الإيمان هو أنّ الله سبحانه فصل الخصومة بتشريع ملكها لنفسه ولرسوله، ونزعها من أيديهم وهو يستدعي أن يكون تخاصمهم من جهة دعوى طائفة الاُخرى ذلك، ففصل الله سبحانه خصومتهم فيها بسلب ملكهم منها وإثبات ملك نفسه ورسوله، وموعظتهم أن يكفّوا عن المخاصمة والمشاجرة، وأمّا قول من يقول: إنّ الغزاة يملكون ما أخذوه من الغنيمة بالإجماع فأحرى به أن يورد في الفقه دون التفسير.

وبالجملة فنزاعهم في الأنفال يكشف عن سابق عهد لهم بأنّ الغنيمة لهم أو ما في معناه غير أنّه كان حكماً مجملاً اختلف فيه المتخاصمان وكلّ يجرّ النار إلى قرصته، والآيات الكريمة تؤيّد ذلك.

توضيحه أنّ ارتباط الآيات في السورة والتصريح بقصّة وقعة بدر فيها يكشف أنّ السورة بأجمعها نزلت حول وقعة بدر وبعيدها حتّى أنّ ابن عبّـاس - على ما نقل عنه - كان يسمّيها سورة بدر، والّتي تتعرّض لأمر الغنيمة من آياتها خمس آيات في مواضع ثلاثة من السورة هي بحسب ترتيب السورة، قوله تعالى:( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ) الآية، وقوله تعالى:( واعلموا أنّما غنمتم من شئ فأنّ لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كلّ شي قدير ) ، وقوله تعالى:( ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتّى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسّـكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا ممّا غنمتم حلالاً طيّـباً واتّقوا الله إنّ الله غفور رحيم ) .

٦

وسياق الآية الثانية يفيد أنّها نزلت بعد الآية الاُولى والآيات الأخيرة جميعاً لمكان قوله فيها:( إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ) فهي نازلة بعد الوقعة بزمان.

ثمّ الآيات الأخيرة تدلّ على أنّهم كلّموا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمر الأسرى وسألوه أن لا يقتلهم ويأخذ الفدية وفيها عتابهم على ذلك ثمّ تجويز أن يأكلوا ممّا غنموا وكأنّهم فهموامن ذلك أنّهم يملكون الغنائم والأنفال على إبهام في أمره: هل يملكه جميع من حضر الوقعة أو بعضهم كالمقاتلين دون القاعدين مثلاً ؟ وهل يملكون ذلك بالسويّـة فيقسّم بينهم كذلك أو يختلفون فيه بالزيادة والنقيصة كأن يكون سهم الفرسان منها أزيد من المشاة ؟ أو نحو ذلك.

وكان ذلك سبب التخاصم بينهم فتشاجروا في الأمر، ورفعوا ذلك إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت الآية الاُولى:( قل الأنفال لله والرسول فاتّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ) الآية فخطأتهم الآية فيما زعموا أنّهم مالكوا الأنفال بما استفادوا من قوله:( فكلوا ممّا غنمتم ) الآية وأقرّت ملك الأنفال لله والرسول ونهتهم عن التخاصم والتشاجر، فلمّا انقطع بذلك تخاصمهم أرجعها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم وقسّمها بينهم بالسويّـة وعزل السهم لعدّة من أصحابه لم يحضروا الوقعة ولم يقدّم مقاتلا على قاعد، ولا فارساً على ماش ثمّ نزلت الآية الثانية:( واعلموا أنّما غنمتم من شئ فأنّ لله خمسه ) الآية بعد حين فأخرج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا ردّ إليهم من السهام الخمس وبقي لهم الباقي.

هذا ما يتحصّل من انضمام الآيات المربوطة بالأنفال بعضها ببعض.

فقوله تعالى :( يسألونك عن الأنفال ) يفيد بما ينضمّ إليه من قرائن السياق أنّهم سألوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حكم غنائم الحرب بعد ما زعموا أنّهم يملكون الغنيمة، واختلفوا فيمن يملكها، أو في كيفيّـة ملكها وانقسامها بينهم، أو فيهما معا، وتخاصموا في ذلك.

وقوله:( قل الأنفال لله والرسول ) جواب عن مسألتهم وفيه بيان أنّهم لا يملكونها وإنّما هي أنفال يملكها الله ورسوله فيوضع حيثما أراد الله ورسوله وقد قطع ذلك أصل ما نشب بينهم من الاختلاف والتخاصم.

٧

ويظهر من هذا البيان أنّ الآية غير ناسخة لقوله تعالى:( فكلوا ممّا غنمتم ) إلى آخر الآية، وإنّما تبيّن معناها بالتفسير وأنّ قوله :( كلوا ) ليس بكناية عن ملكهم للغنيمة بحسب الأصل وإنّما المراد هو التصرّف فيها والتمتّع منها إلّا أن يمتلكوا بقسمة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّـاها بينهم.

ويظهر أيضاً أنّ قوله تعالى:( واعلموا أنّما غنمتم من شئ فأنّ لله خمسه وللرسول ولذي القربى ) الآية ليس بناسخ لقوله:( قل الأنفال لله والرسول ) الآية فإنّ قوله:( واعلموا أنّما غنمتم ) الآية إنّما يؤثّر بالنسبة إلى المجاهدين منعهم عن أكل تمام الغنيمة والتصرّف فيه إذ لم يكن لهم بعد نزول قوله:( الأنفال لله والرسول ) إلّا ذلك وأمّا قوله:( الأنفال لله والرسول) فلا يفيد إلّا كون أصل ملكها لله والرسول من دون أن يتعرّض لكيفيّـة التصرّف وجواز الأكل والتمتّع فلا يناقضه في ذلك قوله:( واعلموا أنّما غنمتم ) الآية حتّى يكون بالنسبة إليه ناسخا فيتحصّل من مجموع الآيات الثلاث: أنّ أصل الملك في الغنيمة لله والرسول ثمّ يرجع أربعة أخماسها إلى المجاهدين يأكلونها ويمتلكونها ويرجع خمس منها إلى الله والرسول وذي القربى وغيرهم لهم التصرّف فيها والاختصاص بها.

ويظهر بالتأمّل في البيان السابق أيضاً: أنّ في التعبير عن الغنائم بالأنفال وهو جمع نفل بمعنى الزيادة إشارة إلى تعليل الحكم بموضوعه الأعمّ، كأنه قيل: يسألونك عن الغنائم وهي زيادات لا مالك لها من بين الناس وإذا كان كذلك فأجبهم بحكم الزيادات والأنفال وقل: الأنفال لله والرسول ولازم ذلك كون الغنيمة لله والرسول.

وبذلك ربّما تأيّد كون اللّام في لفظ الأنفال الأوّل للعهد وفي الثاني للجنس أو الاستغراق وتبيّن وجه الإظهار في قوله:( قل الأنفال ) الآية حيث لم يقل : قل هي لله والرسول.

ويظهر بذلك أيضاً: أنّ قوله:( قل الأنفال لله والرسول ) حكم عامّ يشمل بعمومه الغنيمة وسائر الأموال الزائدة في المجتمع نظير الديار الخالية والقرى البائدة ورؤوس الجبال وبطون الأودية وقطائع الملوك وتركة من لا وارث له أمّا الأنفال بمعنى

٨

الغنائم فهي متعلّقة بالمقاتلين من المسلمين بعمل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبقي الباقي تحت ملك الله ورسوله.

هذا ما يفيده التأمّل في كرائم الآيات وللمفسّرين فيها أقاويل مختلفة تعلم بالرجوع إلى مطوّلات التفاسير لا جدوى في نقلها والتعرّض المنقض والإبرام فيها.

قوله تعالى: ( إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) إلى آخر الآيتين الآيتان والّتي بعدهما بيان ما يتميّز به المؤمنون بحقيقة الإيمان ويختصّون به من الأوصاف الكريمة والثواب الجزيل بيّـنت ليتأكّد به ما يشتمل عليه قوله تعالى:( فاتّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ) إلى آخر الآية.

وقد ذكر الله تعالى لهم خمس صفات اختارها من بين جميع صفاتهم الّتي ذكرها في كلامه لكونها مستلزمة لكرائم صفاتهم على كثرتها وملازمة لحقّ الإيمان، وهي بحيث إذا تنبّـهوا لها وتأمّلوها كان ذلك ممّا يسهّـل لهم توطين النفس على التقوى وإصلاح ذات بينهم، وإطاعة الله ورسوله.

وهاتيك الصفات الخمس هي: وجل القلب عند ذكر الله، وزيادة الإيمان عند استماع آيات الله، والتوكّل، وإقامة الصلاة والإنفاق ممّا رزقهم الله ومعلوم أنّ الصفات الثلاث الاُول من أعمال القلوب والأخيرتان من أعمال الجوارح.

وقد روعي في ذكرها الترتيب الّذي بينها بحسب الطبع فإنّ نور الإيمان إنّما يشرق على القلب تدريجاً فلا يزال يشتدّ ويضاعف حتّى يتمّ ويكمل بحقيقته فأوّل ما يشرق يتأثّر القلب بالوجل والخشية إذا تذكّر بالله عند ذكره وهو قوله تعالى:( إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) .

ثمّ لا يزال ينبسط الإيمان ويتعرّق وينمو ويتفرّع بالسير في الآيات الدالّة عليه تعالى والهادية إلى المعارف الحقّة فكلّما تأمّل المؤمن في شئ منها زادته إيماناً فيقوى الإيمان ويشتدّ حتّى يستقرّ في مرحلة اليقين وهو قوله تعالى:( وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ) .

وإذا زاد الإيمان وكمل كمالاً عرف عندئذ مقام ربّه وموقع نفسه معرفة تطابق

٩

واقع الأمر وهو أنّ الأمر كلّه إلى الله سبحانه فإنّه تعالى وحده هو الربّ الّذي إليه يرجع كلُّ شئ، فالواجب الحقّ على الإنسان أن يتوكّل عليه ويتّـبع ما يريده منه بأخذه وكيلاً في جميع ما يهمّه في حياته فيرضى بما يقدّر له في مسير الحياة، ويجري على ما يحكم عليه من الأحكام ويشرّعه من الشرائع فيأتمر بأوامره وينتهي عن نواهيه، وهو قوله تعالى:( وعلى ربّهم يتوكّلون ) .

ثمّ إذا استقرّ الإيمان على كماله في القلب، استوجب ذلك أن ينعطف العبد بالعبوديّـة إلى ربّه وينصب نفسه في مقام العبوديّـة وإخلاص الخضوع وهو الصلاة، وهي أمر بينه وبين ربّه وأن يقوم بحاجة المجتمع في نواقص مساعيهم بالإنفاق على الفقراء ممّا رزقه الله من مال أو علم أو غير ذلك وهو أمر بينه وبين سائر أفراد مجتمعه وهو قوله تعالى:( الّذين يقيمون الصلاة وممّا رزقناهم ينفقون ) .

وقد ظهر ممّا تقدّم أنّ قوله تعالى:( زادتهم إيماناً ) إشارة إلى الزيادة من حيث الكيفيّـة وهو الاشتداد والكمال دون الكمّـيّـة وهي الزيادة من حيث عدد المؤمنين كما احتمله بعض المفسّرين.

قوله تعالى:( اُولئك هم المؤمنون حقّاً لهم درجات عند ربّهم ومغفرةٌ ورزقٌ كريمٌ ) قضاء منه تعالى بثبوت الإيمان حقّاً فيمن اتّصف بما عدّه تعالى من الصفات الخمس، ولذلك اُطلق ما ذكره لهم من كريم الأجر في قوله:( لهم درجات عند ربّهم ) الآية فلهؤلاء من صفات الكمال وكريم الثواب وعظيم الأجر ما لكلّ مؤمن حقيقيّ.

وأما قوله:( لهم درجات عند ربّهم ومغفرةٌ ورزقٌ كريمٌ ) فالمغفرة هي الصفح الإلهيّ عند ذنوبهم، والرزق الكريم ما يرتزقون به من نعم الجنّـة وقد أراد الله سبحانه بالرزق الكريم الجنّـة ونعمها في مواضع من كلامه، كقوله تعالى:( فالّذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم والّذين سعوا في آياتنا معاجزين اُولئك أصحاب الجحيم ) الحج: ٥١ وغير ذلك.

وبذلك يظهر أنّ المراد بقوله:( لهم درجات عند ربّهم ) مراتب القرب والزلفى ودرجات الكرامة المعنويّـة وهو كذلك فإنّ المغفرة والجنّـة من آثار مراتب القرب من الله

١٠

سبحانه وفروعه البتّـة.

والّذي يشتمل عليه الآية من إثبات الدرجات لهؤلاء المؤمنين ، هو ثبوت جميع الدرجات لجميعهم، لا ثبوت جميعها لكلّ واحد منهم فإنّها من لوازم الإيمان، والإيمان مختلف ذو مراتب فالدرجات الموهوبة بإزائه كذلك لا محالة، فمن المؤمنين من له درجة واحدة ، ومنهم ذو الدرجتين، ومنهم ذو الدرجات على اختلاف مراتبهم في الإيمان.

ويؤيّده قوله تعالى:( يرفع الله الّذين آمنوا منكم والّذين اُوتوا العلم درجات ) المجادلة ١١ وقوله تعالى:( أفمن اتّبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنّم وبئس المصير، هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون ) آل عمران: ١٦٣.

وبما تقدّم يظهر أنّ تفسير بعضهم ما في الآية من الدرجات بدرجات الجنّـة، ليس على ما ينبغي وأنّ المتعيّن كون المراد بها درجات القرب كما تقدّم وإن كان كلّ منهما يلازم الآخر.

قوله تعالى: ( كما أخرجك ربّك من بيتك بالحقّ وإنّ فريقاً من المؤمنين لكارهون ) إلى آخر الآيتين. ظاهر السياق أنّ قوله:( كما أخرجك ) متعلّق بما يدلّ عليه قوله تعالى:( قل الأنفال لله والرسول ) والتقدير: أنّ الله حكم بكون الأنفال له ولرسوله بالحقّ مع كراهتهم له، كما أخرجك من بيتك بالحقّ مع كراهة فريق منهم له، فللجميع حقّ يترتّب عليه من مصلحة دينهم ودنياهم ما هم غافلون عنه.

وقيل إنّه متعلّق بقوله:( يجادلونك في الحقّ ) وقيل: إنّ العامل فيه معنى الحقّ والتقدير: هذا الذكر من الحقّ كما أخرجك ربّك من بيتك بالحقّ. والمعنيان - كما ترى - بعيدان عن سياق الآية.

والمراد بالحقّ ما يقابل الباطل، وهو الأمر الثابت الّذي يترتّب عليه آثاره الواقعيّـة المطلوبة وكون الفعل - وهو الإخراج - بالحقّ هو أن يكون هو المتعيّن الواجب بحسب الواقع ، وقيل: المراد به الوحي، وقيل: المراد به الجهاد، وقيل غير ذلك ، وهي معان بعيدة.

والأصل في معنى الجدل شدّة الفتل، يقال: زمام جديل أي شديد الفتل وسمّي

١١

الجدال جدالاً لأنّ فيه نزاعاً بالفتل عن مذهب إلى مذهب كما ذكره في المجمع.

ومعنى الآيتين: أنّ الله تعالى حكم في أمر الأنفال بالحقّ مع كراهتهم لحكمه كما أخرجك من بيتك بالمدينة إخراجاً يصاحب الحقّ، والحال أنّ فريقاً من المؤمنين لكارهون لذلك، ينازعونك في الحقّ بعد ما تبيّن لهم إجمالاً والحال أنّهم يشبهون جماعة يساقون إلى الموت، و هم ينظرون إلى ما اُعدّ لهم من أسبابه و أدواته.

( بحث روائي)

في جامع الجوامع للطبرسيّ : قرأ ابن مسعود وعليّ بن الحسين زين العابدين والباقر والصادقعليهم‌السلام : يسألونك الأنفال

أقول: ورواه عن ابن مسعود وكذا عن السجّـاد و الباقر والصادقعليهم‌السلام غيره.

وفي الكافي بإسناده عن العبد الصالحعليه‌السلام قال: الأنفال كلّ أرض خربة قد باد أهلها، وكلّ أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ولكن صالحوا صلحاً وأعطوا بأيديهم على غير قتال - فقال -: وله - يعني الوالي - رؤوس الجبال وبطون الأودية والآجام وكلّ أرض ميتة لا ربّ لها وله صوافي الملوك: ما كان في أيديهم من غير وجه الغصب لأنّ الغصب كلّه مردود، وهو وارث من لا وارث له، ويعول من لا حيلة له.

وفيه: بإسناده عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يسألونك عن الأنفال ) قال: من مات وليس له مولى فماله من الأنفال

أقول: وفي معنى الروايتين روايات كثيرة مرويّـة من طرق أهل البيتعليهم‌السلام ولا ضير في عدم ذكرها الأنفال بمعنى غنائم الحرب، فإنّ الآية بموردها تدلّ عليه على ما يفيده سياقها.

وفي الدرّ المنثور: أخرج الطيالسيّ والبخاريّ في الأدب المفرد ومسلم والنحّـاس في ناسخه وابن مردويه والبيهقيّ في الشعب عن سعد بن أبي وقّـاص قال: نزلت فيّ أربع آيات من كتاب الله: كانت اُمّي حلفت أن لا تأكل ولا تشرب حتّى اُفارق محمّـداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله:

١٢

وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً.

والثانية: أنّى كنت اخذت سيفاً أعجبني فقلت: يا رسول الله هب لي هذا فنزلت: يسألونك عن الأنفال.

والثالثة: أنّي مرضت فأتاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت: يا رسول الله إنّي اُريد ان اُقسّم مالي أفاُوصي بالنصف؟ قال: لا فقلت: الثلث؟ فسكت فكان الثلث بعده جائزاُ

والرابعة: أنّي شربت الخمر مع قوم من الأنصار فضرب رجل منهم أنفي بلحيي جمل فأتيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله تحريم الخمر.

أقول: الرواية لا تخلو عن شئ أمّا أوّلاً فلأنّ قوله تعالى:( وإن جاهداك على أن تشرك بي ) الآية ذيل قوله تعالى:( ووصّينا الإنسان بوالديه ) لقمان - ١٤ وهي بسياقها تأبى أن تكون نازلة عن سبب خاصّ على أنّه قد تقدّم في ذيل قوله تعالى:( قل تعالوا أتل ما حرّم ربّكم عليكم أن لا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ) الآيات الأنعام: ١٥١ أنّ الإحسان بالوالدين من الأحكام العامّة غير المختصّة بشريعة دون شريعة.

وأمّا ثانياً: فلأنّ ما ذكر من اخذ ألسيف واستيهابه من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما يناسب قراءة :( يسألونك الأنفال ) لا قراءة:( يسألونك عن الأنفال ) وقد تقدّم توضيحه في البيان المتقدّم.

وأمّا ثالثاً: فلأنّ استقرار السنّة على الإيصاء بالثلث لم يكن بآية نازلة بل بسنّة نبوّية.

وأمّا رابعاً: فلأنّ قصّة شربه الخمر مع جماعة من الصحابة وشجّ أنفه بلحيي بعير وإن كانت حقّة لكنّه إنّما شرب الخمر مع جماعة مختلطة من المهاجرين والانصار وقد شجّ أنفه عمر بن الخطّاب ثمّ أنزل الله آية المائدة ولم ينزل للتحريم بل لتشديده وقد تقدّم ذلك كلّه في ذيل قوله تعالى:( يا أيّها الّذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان ) المائدة: ٩٠.

وفيه: أخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وأبوالشيخ وابن مردويه والحاكم

١٣

والبيهقيّ في سننه عن أبي أمامة قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال: فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل فساءت فيه أحلامنا فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقسّمه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المسلمين، عن براء يقول: عن سواء

وفيه: أخرج سعيد بن منصور وأحمد وابن المنذر وابن ابي حاتم وابن حبّان وأبوالشيخ والحاكم وصحّحه والبيهقيّ وابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال: خرجنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشهدت معه بدراً فالتقى الناس فهزم الله العدوّ فانطلقت طائفة في آثارهم منهزمين يقتلون، وأكبّت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه وأحدقت طائفة برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تصيب العدوّ منه غرّة حتّى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الّذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها، فليس لأحد فيها نصيب، وقال الّذين خرجوا في طلب العدوّ: لستم بأحقّ بها منّا، نحن نفينا عنها العدوّ وهزمناهم، وقال الّذين أحدقوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لستم بأحقّ منّا نحن أحدقنا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخفنا أن يصيب العدوّ منه غرّة واشتغلنا به فنزلت:( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ) فقسّمها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المسلمين، الحديث

وفيه: أخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائيّ وابن جرير وابن المنذر وابن حبّان وأبوالشيخ وابن مردويه والحاكم وصحّحه والبيهقيّ في الدلائل عن ابن عبّـاس قال: لمّا كان يوم بدر قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قتل قتيلاً فله كذا وكذا ومن أسر أسيراً فله كذا وكذا فأمّا المشيخة فثبتوا تحت الرايات، وأمّا الشبّان فتسارعوا إلى القتل والغنائم فقالت المشيخة للشبّان: أشركونا معكم فإنّا كنّا لكم ردءاً ولو كان منكم شئ للجأتم الينا فاختصموا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت:( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ) فقسّم الغنائم بينهم بالسويّـة

أقول: وفي هذه المعاني روايات اُخر، وهنا روايات تدلّ على تفصيل القصّة تتّضح بها معنى الآيات سنوردها في ذيل الآيات التالية.

وفي بعض الروايات أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعدهم أن يعطيهم السلب والغنيمة ثمّ نسخه الله تعالى بقوله :( قل الأنفال لله والرسول ) وإلى ذلك يشير ما في هذه الرواية ولذلك

١٤

ربّما قيل: إنّه لا يجب على الإمام أن يفي بما وعد به المحاربين. لكن يبعّده اختلافهم في أمر الغنائم يوم بدر إذ لو كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعدهم بذلك لم يختلفوا مع صريح بيانه.

وفيه: أخرج ابن جرير عن مجاهد: أنّهم سألوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الخمس بعد الأربعة الأخماس: فنزلت :( يسألونك عن الأنفال ) .

أقول: وهو لا ينطبق على ما تقدّم من مضمون الآية على ما يعطيه السياق وفي بعض ما ورد عن المفسّرين السلف كسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وكذا عن ابن عبّـاس أنّ قوله تعالى:( يسالونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ) الآية منسوخة بقوله:( واعلموا أنّ ما غنمتم من شئ فأنّ لله خمسه وللرسول ) الآية وقد تقدّم في بيان الآية ما ينتفي به احتمال النسخ.

وفيه أخرج مالك وابن أبي شيبة وأبوعبيد وعبد بن حميد وابن جرير والنحّـاس وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبوالشيخ وابن مردويه عن القاسم بن محمّـد قال: سمعت رجلاً يسأل ابن عبّـاس عن الأنفال فقال : الفرس من النفل والسلب من النفل فأعاد المسألة فقال ابن عبّـاس : ذلك أيضاً.

ثمّ قال الرجل: الأنفال الّتي قال الله في كتابه ما هي؟ فلم يزل يسأله حتّى كاد يحرّجه فقال ابن عبّـاس: هذا مثل صبيغ الّذي ضربه عمر - وفي لفظ - ما أحوجك إلى من يضربك كما فعل عمر بصبيغ العراقيّ وكان عمر ضربه حتّى سالت الدماء على عقبيه

وفيه في قوله تعالى:( اُولئك هم المؤمنون حقّاً ) أخرج الطبرانيّ عن الحارث ابن مالك الانصاريّ أنّه مرّ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له: كيف أصبحت يا حارث؟ قال أصبحت مؤمناً حقّاً. قال: انظر ما تقول فإنّ لكلّ شئ حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال: عرفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتزاورون فيها، وكأنّي أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، قال يا حارث عرفت فالزم ثلاثاً.

أقول: والحديث مرويّ من طرق الشيعة بأسانيد عديدة .

١٥

( سورة الانفال آيه ٧ - ١٤)

وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أَنّهَا لَكُمْ وَتَوَدّونَ أَنّ غَيْرَ ذَاتِ الشّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقّ الْحَقّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ( ٧ ) لِيُحِقّ الْحَقّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ( ٨ ) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ ( ٩ ) وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلّا بُشْرَى‏ وَلِتَطْمَئِنّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النّصْرُ إِلّا مِنْ عِندِ اللّهِ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ١٠ ) إِذْ يُغْشّيكُمُ النّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مِنَ السّماءِ مَاءً لِيُطَهّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى‏ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ ( ١١ ) إِذْ يُوحِي رَبّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُوا الّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُوا الرّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنَانٍ ( ١٢ ) ذلِكَ بِأَنّهُمْ شَاقّوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( ١٣ ) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النّارِ ( ١٤ )

( بيان)

تشير الآيات إلى قصّة بدر وهي أوّل غزوة في الإسلام وظاهر سياق الآيات أنّها نزلت بعد انقضائها على ما سيتّضح.

قوله تعالى: ( واذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنّها لكم وتودّون أنّ غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحقّ الحقّ بكلماته ويقطع دابر الكافرين ) ، أي واذكروا إذ يعدكم الله، وهو بيان منن الله وعدّ نعمه عليهم ليكونوا على بصيرة من أنّ الله

١٦

سبحانه لا يستقبلهم بأمر ولا يأتيهم بحكم إلّا بالحقّ وفيه حفظ مصالحهم وإسعاد جدّهم فلا يختلفوا فيما بينهم ولا يكرهوا ما يختاره لهم ويكلوا أمرهم إليه فيطيعوه ورسوله.

والمراد بالطائفتين العير والنفير، والعير قافلة قريش وفيها تجارتهم وأموالهم وكان عليها أربعون رجلاً منهم أبوسفيان بن حرب، والنفير جيش قريش وهم زهاء ألف رجل.

وقوله :( إحدى الطائفتين ) مفعول ثان لقوله:( يعدكم ) وقوله:( أنّها لكم ) بدل منه وقوله :( وتودّون ) الآية في موضع الحال، والمراد بغير ذات الشوكة: الطائفة غير ذات الشوكة وهي العير الّذي كان أقلّ عِدّة وعُدّة من النفير، والشوكة الحدّة، استعارة من الشوك.

وقوله:( و يريد الله أن يحقّ الحقّ بكلماته ) في موضع الحال، والمراد بإحقاق الحقّ إظهاره وإثباته بترتيب آثاره عليه، وكلمات الله هي ما قضى به من نصرة أنبيائه وإظهار دينه الحقّ، قال تعالى:( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنّهم لهم المنصورون وإنّ جندنا لهم الغالبون ) الصافّات -١٧٣ وقال تعالى:( يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم والله متمّ نوره ولو كره الكافرون هو الّذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون ) الصفّ: ٩. وقرئ:( بكلمته ) : وهو أوجه وأقرب والدابر ما يأتي بعد الشئ ممّا يتعلّق به ويتّصل إليه وقطع دابر الشئ، كناية عن إفنائه واستئصاله بحيث لا يبقى بعده شئ من آثاره المتفرّعة عليه المرتبطة به.

ومعنى الآية: واذكروا إذ يعدكم الله أنّ إحدى الطائفتين لكم تستعلون عليها بنصر الله إمّا العير وإمّا النفير وأنتم تودّون أن تكون تلك الطائفة هي العير لما تعلمون من شوكة النفير، وقوّتهم وشدّتهم مع ما لكم من الضعف والهوان، والحال أنّ الله يريد خلاف ذلك وهو أن تلاقوا النفير فيظهركم عليهم ويظهر ما قضى ظهوره من الحقّ، ويستأصل الكافرين ويقطع دابرهم.

قوله تعالى: ( ليحقّ الحقّ ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ) ظاهر السياق أنّ اللام للغاية، وقوله:( ليحقّ ) الآية متعلّق بقوله:( يعدكم الله ) أي إنّما وعدكم الله ذلك وهو لا يخلف الميعاد ليحقّ بذلك الحقّ ويبطل الباطل ولو كان المجرمون

١٧

يكرهونه ولا يريدونه.

وبذلك يظهر أنّ قوله:( ليحقّ الحقّ ) الآية ليس تكراراً لقوله:( ويريد الله أن يحقّ الحقّ بكلماته ) وإن كان في معناه.

قوله تعالى: ( إذ تستغيثون ربّكم فاستجاب لكم أنّي ممدّكم بألف من الملائكة مردفين ) الاستغاثة طلب الغوث وهو النصرة كما في قوله:( فاستغاثه الّذي من شيعته على الّذي من عدوّه ) القصص: ١٥ والإمداد معروف، وقوله:( مردفين ) من الإرداف وهو أن يجعل الراكب غيره ردفاً له، والردف التابع، قال الراغب: الردف التابع، وردف المرأة عجيزتها، والترادف: التتابع، والرادف: المتأخّر، والمردف المقدّم الّذي أردف غيره.انتهى.

وبهذا المعنى تلائم الآية ما في قوله تعالى فيما يشير به إلى هذه القصّة في سورة آل عمران:( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلّة فاتّقوا الله لعلّكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدّكم ربّكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتّقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربّكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين وما جعله الله إلّا بشرى لكم ولتطمئنّ قلوبكم به وما النصر إلّا من عند الله العزيز الحكيم ) آل عمران: ١٢٦.

فإنّ تطبيق الآيات من السورتين يوضح أنّ المراد بنزول ألف من الملائكة مردفين نزول ألف منهم يستتبعون آخرين فينطبق الألف المردفون على الثلاثة آلاف المنزلين.

وبذلك يظهر فساد ما قيل: إنّ المراد بكون الملائكة مردفين كون الألف متّبعين ألفاً آخر لأنّ مع كلّ واحد منهم ردفاً له فيكونون ألفين، وكذا ما قيل: إنّ المراد كون بعضهم إثر بعض، وكذا ما قيل: إنّ المراد مجيئهم على أثر المسلمين بأن يكون مردفين بمعنى رادفين، وكذا ما قيل: إنّ المراد إردافهم المسلمين بأن يتقدّموا عسكر المسلمين فيلقوا في قلوب الّذين كفروا الرعب.

قوله تعالى: ( وما جعله الله إلّا بشرى ولتطمئنّ به قلوبكم وما النصر إلّا من عند الله

١٨

إنّ الله عزيز حكيم ) الضميران في قوله:( جعله ) وقوله:( به ) للإمداد بالملائكة على ما يدلّ عليه السياق، والمعنى أنّ الإمداد بالملائكة إنّما كان لغرض البشرى واطمئنان نفوسكم لا ليهلك بأيديهم الكفّـار كما يشير إليه قوله تعالى بعدُ:( إذ يوحي ربّك إلى الملائكة أنّي معكم فثبّتوا الّذين آمنوا ساُلقي في قلوب الّذين كفروا الرعب ) .

وبذلك يتأيّد ما ذكره بعضهم: أنّ الملائكة لم ينزلوا ليقتلوا المشركين ولا قتلوا منهم أحداً فقد قتل ثلث المقتولين منهم أو النصف عليّعليه‌السلام والثلثين الباقين أو النصف سائر المسلمين. وإنّما كان للملائكة تكثير سواد المسلمين حينما اختلطوا بالقوم وتثبيت قلوب المسلمين، وإلقاء الرعب في قلوب المشركين، وسيجئ بعض الكلام في ذلك.

وقوله:( وما النصر إلّا من عند الله إنّ الله عزيز حكيم ) بيان انحصار حقيقة النصر فيه تعالى وأنّه لو كان بكثرة العدد والقوّة والشوكه كانت الدائرة يومئذ للمشركين بما لهم من الكثرة والقوّة على المسلمين على ما بهم من القلّة والضعف.

وقد علّل بقوله:( إنّ الله عزيز حكيم ) جميع مضمون الآية وما يتعلّق به من الآية السابقة فبعزّته نصرهم و أمدّهم، وبحكمته جعل نصره على هذه الشاكلة.

قوله تعالى: ( إذ يغشّيكم النعاس أمنة منه ) إلى آخر الآية. النعاس أوّل النوم وهو خفيفه والتغشية الاحاطة، والأمنة الأمان، وقوله:( منه ) أي من الله وقيل: أي من العدوّ، والرجز هو الرجس والقذارة، والمراد برجز الشيطان القذارة الّتي يطرأ القلب من وسوسته وتسويله.

ومعنى الآية: أنّ النصر والإمداد بالبشرى واطمئنان القلوب كان في وقت يأخذكم النعاس للأمن الّذي أفاضه الله على قلوبكم فنمتم ولو كنتم خائفين مرتاعين لم يأخذكم نعاس ولا نوم، وينزّل عليكم المطر ليطهّركم به ويذهب عنكم وسوسة الشيطان وليربط على قلوبكم ويشدّ عليها - وهو كناية عن التشجيع - وليثبت بالمطر أقدامكم في الحرب بتلبّـد الرمل أو بثبات القلوب.

والآية تؤيّد ما ورد أنّ المسلمين سبقهم المشركون إلى الماء فنزلوا على كثيب رمل، وأصبحوا محدثين ومجنبين، وأصابهم الظمأ، ووسوس إليهم الشيطان فقال: إنّ عدوّكم

١٩

قد سبقكم إلى الماء، وأنتم تصلّون مع الجنابة، والحدث، وتسوخ أقدامكم في الرمل فأمطر عليهم الله حتّى اغتسلوا به من الجنابة، وتطهّروا به من الحدث، وتلبّدت به أرضهم، وأوحلت أرض عدوّهم.

قوله تعالى: ( إذ يوحي ربّك إلى الملائكة أنّي معكم فثبّتوا الّذين آمنوا ساُلقي في قلوب الّذين كفروا الرعب ) إلى آخر الآية حال الظرف في أوّل الآية كحال الظرف في قوله:( إذ تستغيثون ربّكم ) وقوله:( إذ يغشيكم النعاس ) ومعنى الآية ظاهر.

وأمّا قوله:( فاضربوا فوق الأعناق واضربو منهم كلّ بنان ) فالظاهر أن يكون المراد بفوق الأعناق الرؤوس وبكلّ بنان جميع الأطراف من اليدين والرجلين أو أصابع الأيدي لئلّا يطيقوا حمل السلاح بها والقبض عليه.

ومن الجائز أن يكون الخطاب بقوله:( فاضربوا ) الخ للملائكة كما هو المتسابق إلى الذهن، والمراد بضرب فوق الأعناق وكلّ بنان ظاهر معناه، أو الكناية عن إذلالهم وإبطال قوّة الإمساك من أيديهم بالإرعاب، وأن يكون الخطاب للمؤمنين والمراد به تشجيعهم على عدوّهم بتثبيت أقدامهم والربط على قلوبهم، وحثّهم وإغراؤهم بالمشركين.

قوله تعالى: ( ذلك بأنّهم شاقّوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإنّ الله شديد العقاب ) المشاقّة المخالفة وأصله الشقّ بمعنى البعض كأنّ المخالف يميل إلى شقّ غير شقّ من يخالفه، والمعنى أنّ هذا العقاب للمشركين بما أوقع الله بهم، لأنّهم خالفوا الله ورسوله وألحّوا وأصرّوا على ذلك ومن يشاقق الله ورسوله فإنّ الله شديد العقاب.

قوله تعالى: ( ذلكم فذوقوه وأنّ للكافرين عذاب النار ) خطاب تشديديّ للكفّـار يشير إلى ما نزل بهم من الخزي ويأمرهم بأن يذوقوه، ويذكر لهم أن وراء ذلك عذاب النار.

٢٠