الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 97043 / تحميل: 6727
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

( سورة الأنفال مدنيّـة وهي خمس وسبعون آيه)

( سورة الانفال آيه ١ - ٦)

بسم الله الرّحمن الرّحيم يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ للّهِ‏ِ وَالرّسُولِ فَاتّقُوا اللّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ( ١) إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلى‏ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ( ٢) الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ( ٣) أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ( ٤) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقّ وَإِنّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ( ٥) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقّ بَعْدَ ما تَبَيّنَ كَأَنّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرونَ( ٦)

( بيان)

سياق الآيات في السورة يعطي أنّها مدنيّـة نزلت بعد وقعة بدر، وهي تقصّ بعض أخبار بدر، وتذكر مسائل متفرّقة تتعلّق بالجهاد والغنائم والأنفال ونحوها، واُموراً اُخرى تتعلّق بالهجرة، وبها تختتم السورة.

قوله تعالى: ( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ) إلى آخر الآية. الأنفال جمع نفل بالفتح وهو الزيادة على الشئ، ولذا يطلق النفل والنافلة على التطوّع

٣

لزيادتة على الفريضة، وتطلق الأنفال على ما يسمّى فيئاً أيضاً وهي الأشياء من الأموال الّتي لا مالك لها من الناس كرؤوس الجبال، وبطون الأودية، والديار الخربة، والقرى الّتي باد أهلها، وتركة من لا وارث له، وغير ذلك كأنّها زيادة على ما ملكه الناس فلم يملكها أحد وهي لله ولرسوله، وتطلق على غنائم الحرب كأنّها زيادة على ما قصد منها فإنّ المقصود بالحرب والغزوة الظفر على الأعداء واستئصالهم فإذا غلبوا وظفر بهم فقد حصل المقصود، والأموال الّتي غنمه المقاتلون والقوم الّذين أسروهم زيادة على أصل الغرض.

و( ذات ) في الأصل مؤنّث( ذا ) بمعنى الصاحب من الألفاظ اللازمة الإضافة غير أنّه كثر استعماله في نفس الشئ بمعنى ما به الشئ هو هو فيقال: ذات الإنسان أي ما به الإنسان إنسان وذات زيد أي النفس الإنسانيّـة الخاصّـة الّتي سمّيت بزيد، وكأنّ الأصل فيها النفس ذات أعمال كذا ثمّ اُفردت بالذكر فقيل ذات الأعمال أو ما يؤدّي مؤدّاه ثمّ قيل ذات، وكذلك الأمر في ذات البين فلكون الخصومة لا تتحقّق إلّا بين طرفين نسب إليها البين فقيل ذات البين أي الحالة والرابطة السيّـئة الّتي هي صاحبة البين فالمراد بقوله: أصلحوا ذات بينكم أي أصلحوا الحالة الفاسدة والرابطة السيّـئة الّتي بينكم.

وقال الراغب في المفردات:( ذو ) على وجهين: أحدهما يتوصّل به إلى الوصف بأسماء الأجناس والأنواع، ويضاف إلى الظاهر دون المضمر، ويثنّى ويجمع، ويقال في التثنية: ذواتا ، و في الجمع ذوات ، ولا يستعمل شئ منها إلّا مضافاً.

قال: وقد استعار أصحاب المعاني الذات فجعلوه عبارة عن عين الشئ جوهراً كان أو عرضاً واستعملوها مفردة ومضافة إلى المضمر وبالألف واللام، وأجروها مجرى النفس والخاصّـة فقالوا: ذاتة ونفسه وخاصّـته وليس ذلك من كلام العرب، والثاني في لفظ ذو لغة لطيّئ يستعملونه استعمال( الّذي ) ويجعل في الرفع والنصب والجرّ والجمع والتأنيث على لفظ واحد نحو:

وبئري ذو حفرت وذو طويت

أي الّتي حفرت والّتي طويت انتهى.

والّذي ذكره من عدم إضافته إلى الضمير منقول عن الفرّاء ولازمه كون استعماله

٤

مضافاً إلى الضمير من كلام المولّدين والحقّ أنّه قليل لا متروك وقد وقع في كلام عليّعليه‌السلام في بعض خطبه كما في نهج البلاغة.

وقد اختلف المفسّرون في معنى الآية وموقعها اختلافا شديداً من جهات: من جهة معنى قوله:( يسألونك عن الأنفال ) وقد نسب إلى أهل البيتعليهم‌السلام وبعض آخر كعبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقّـاص وطلحة بن مصرف أنّهم قرأوا:( يسالونك الأنفال ) فقيل : عن زائدة في القراءة المشهورة، وقيل: بل مقدّرة في القراءة الشاذّة وقيل: إنّ المراد بالأنفال غنائم الحرب وقيل: غنائم غزوة بدر خاصّـة بجعل اللام في الأنفال للعهد، وقيل: الفئ الّذي لله والرسول والإمام، وقيل: إنّ الآية منسوخة بآية الخمس، وقيل: بل محكمة، وقد طالت المشاجرة بينهم كما يعلم بالرجوع إلى مطوّلات التفاسير كتفسيري الرازيّ والآلوسيّ وغيرهما.

والّذي ينبغي أن يقال بالاستمداد من السياق: أنّ الآية بسياقها تدلّ على أنّه كان بين هؤلاء المشار إليهم بقوله:( يسألونك ) تخاصم خاصم به بعضهم بعضاً بأخذ كلّ جانباً من القول لا يرضى به خصمه، والتفريع الّذي في قوله:( فاتّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ) يدلّ على أنّ الخصومة كانت في أمر الأنفال، ولازم ذلك أن يكون السؤال الواقع منهم المحكيّ في صدر الآية إنّما وقع لقطع الخصومة، كأنّهم تخاصموا في أمر الأنفال ثمّ راجعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسألونه عن حكمها لتنقطع بما يجيبه الخصومة وترتفع عمّا بينهم.

وهذا - كما ترى - يؤيّد أوّلاً القراءة المشهورة:( يسألونك عن الأنفال ) فإنّ السؤال إذا تعدّى بمن كان بمعنى استعلام الحكم والخبر، وأمّا إذا استعمل متعدّياً بنفسه كان بمعنى الاستعطاف ولا يناسب المقام إلّا المعنى الأوّل.

وثانياً: أنّ الأنفال بحسب المفهوم وإن كان يعمّ الغنيمة والفئ جميعاً إلّا أنّ مورد الآية هي الأنفال بمعنى غنائم الحرب لاغنائم غزوة بدر خاصّـة إذ لا وجه للتخصيص فإنّهم إذ تخاصموا في غنائم بدر لم يتخاصموا فيها لأنّها غنائم بدر خاصّـة بل لأنّها غنائم مأخوذة من أعداء الدين في جهاد دينيّ، وهو ظاهر.

٥

واختصاص الآية بحسب موردها بغنيمة الحرب لا يوجب تخصيص الحكم الوارد فيها بالمورد، فإنّ المورد لا يخصّص، فإطلاق حكم الآية بالنسبة إلى كلّ ما يسمّى بالنفل في محلّه، وهي تدلّ على أنّ الأنفال جميعاً لله ولرسوله لا يشارك الله ورسوله فيها أحد من المؤمنين سواء في ذلك الغنيمة والفئ.

ثمّ الظاهر من قوله:( قل الأنفال لله والرسول ) وما يعظهم الله به بعد هذه الجملة ويحرّضهم على الإيمان هو أنّ الله سبحانه فصل الخصومة بتشريع ملكها لنفسه ولرسوله، ونزعها من أيديهم وهو يستدعي أن يكون تخاصمهم من جهة دعوى طائفة الاُخرى ذلك، ففصل الله سبحانه خصومتهم فيها بسلب ملكهم منها وإثبات ملك نفسه ورسوله، وموعظتهم أن يكفّوا عن المخاصمة والمشاجرة، وأمّا قول من يقول: إنّ الغزاة يملكون ما أخذوه من الغنيمة بالإجماع فأحرى به أن يورد في الفقه دون التفسير.

وبالجملة فنزاعهم في الأنفال يكشف عن سابق عهد لهم بأنّ الغنيمة لهم أو ما في معناه غير أنّه كان حكماً مجملاً اختلف فيه المتخاصمان وكلّ يجرّ النار إلى قرصته، والآيات الكريمة تؤيّد ذلك.

توضيحه أنّ ارتباط الآيات في السورة والتصريح بقصّة وقعة بدر فيها يكشف أنّ السورة بأجمعها نزلت حول وقعة بدر وبعيدها حتّى أنّ ابن عبّـاس - على ما نقل عنه - كان يسمّيها سورة بدر، والّتي تتعرّض لأمر الغنيمة من آياتها خمس آيات في مواضع ثلاثة من السورة هي بحسب ترتيب السورة، قوله تعالى:( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ) الآية، وقوله تعالى:( واعلموا أنّما غنمتم من شئ فأنّ لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كلّ شي قدير ) ، وقوله تعالى:( ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتّى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسّـكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا ممّا غنمتم حلالاً طيّـباً واتّقوا الله إنّ الله غفور رحيم ) .

٦

وسياق الآية الثانية يفيد أنّها نزلت بعد الآية الاُولى والآيات الأخيرة جميعاً لمكان قوله فيها:( إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ) فهي نازلة بعد الوقعة بزمان.

ثمّ الآيات الأخيرة تدلّ على أنّهم كلّموا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمر الأسرى وسألوه أن لا يقتلهم ويأخذ الفدية وفيها عتابهم على ذلك ثمّ تجويز أن يأكلوا ممّا غنموا وكأنّهم فهموامن ذلك أنّهم يملكون الغنائم والأنفال على إبهام في أمره: هل يملكه جميع من حضر الوقعة أو بعضهم كالمقاتلين دون القاعدين مثلاً ؟ وهل يملكون ذلك بالسويّـة فيقسّم بينهم كذلك أو يختلفون فيه بالزيادة والنقيصة كأن يكون سهم الفرسان منها أزيد من المشاة ؟ أو نحو ذلك.

وكان ذلك سبب التخاصم بينهم فتشاجروا في الأمر، ورفعوا ذلك إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت الآية الاُولى:( قل الأنفال لله والرسول فاتّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ) الآية فخطأتهم الآية فيما زعموا أنّهم مالكوا الأنفال بما استفادوا من قوله:( فكلوا ممّا غنمتم ) الآية وأقرّت ملك الأنفال لله والرسول ونهتهم عن التخاصم والتشاجر، فلمّا انقطع بذلك تخاصمهم أرجعها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم وقسّمها بينهم بالسويّـة وعزل السهم لعدّة من أصحابه لم يحضروا الوقعة ولم يقدّم مقاتلا على قاعد، ولا فارساً على ماش ثمّ نزلت الآية الثانية:( واعلموا أنّما غنمتم من شئ فأنّ لله خمسه ) الآية بعد حين فأخرج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا ردّ إليهم من السهام الخمس وبقي لهم الباقي.

هذا ما يتحصّل من انضمام الآيات المربوطة بالأنفال بعضها ببعض.

فقوله تعالى :( يسألونك عن الأنفال ) يفيد بما ينضمّ إليه من قرائن السياق أنّهم سألوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حكم غنائم الحرب بعد ما زعموا أنّهم يملكون الغنيمة، واختلفوا فيمن يملكها، أو في كيفيّـة ملكها وانقسامها بينهم، أو فيهما معا، وتخاصموا في ذلك.

وقوله:( قل الأنفال لله والرسول ) جواب عن مسألتهم وفيه بيان أنّهم لا يملكونها وإنّما هي أنفال يملكها الله ورسوله فيوضع حيثما أراد الله ورسوله وقد قطع ذلك أصل ما نشب بينهم من الاختلاف والتخاصم.

٧

ويظهر من هذا البيان أنّ الآية غير ناسخة لقوله تعالى:( فكلوا ممّا غنمتم ) إلى آخر الآية، وإنّما تبيّن معناها بالتفسير وأنّ قوله :( كلوا ) ليس بكناية عن ملكهم للغنيمة بحسب الأصل وإنّما المراد هو التصرّف فيها والتمتّع منها إلّا أن يمتلكوا بقسمة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّـاها بينهم.

ويظهر أيضاً أنّ قوله تعالى:( واعلموا أنّما غنمتم من شئ فأنّ لله خمسه وللرسول ولذي القربى ) الآية ليس بناسخ لقوله:( قل الأنفال لله والرسول ) الآية فإنّ قوله:( واعلموا أنّما غنمتم ) الآية إنّما يؤثّر بالنسبة إلى المجاهدين منعهم عن أكل تمام الغنيمة والتصرّف فيه إذ لم يكن لهم بعد نزول قوله:( الأنفال لله والرسول ) إلّا ذلك وأمّا قوله:( الأنفال لله والرسول) فلا يفيد إلّا كون أصل ملكها لله والرسول من دون أن يتعرّض لكيفيّـة التصرّف وجواز الأكل والتمتّع فلا يناقضه في ذلك قوله:( واعلموا أنّما غنمتم ) الآية حتّى يكون بالنسبة إليه ناسخا فيتحصّل من مجموع الآيات الثلاث: أنّ أصل الملك في الغنيمة لله والرسول ثمّ يرجع أربعة أخماسها إلى المجاهدين يأكلونها ويمتلكونها ويرجع خمس منها إلى الله والرسول وذي القربى وغيرهم لهم التصرّف فيها والاختصاص بها.

ويظهر بالتأمّل في البيان السابق أيضاً: أنّ في التعبير عن الغنائم بالأنفال وهو جمع نفل بمعنى الزيادة إشارة إلى تعليل الحكم بموضوعه الأعمّ، كأنه قيل: يسألونك عن الغنائم وهي زيادات لا مالك لها من بين الناس وإذا كان كذلك فأجبهم بحكم الزيادات والأنفال وقل: الأنفال لله والرسول ولازم ذلك كون الغنيمة لله والرسول.

وبذلك ربّما تأيّد كون اللّام في لفظ الأنفال الأوّل للعهد وفي الثاني للجنس أو الاستغراق وتبيّن وجه الإظهار في قوله:( قل الأنفال ) الآية حيث لم يقل : قل هي لله والرسول.

ويظهر بذلك أيضاً: أنّ قوله:( قل الأنفال لله والرسول ) حكم عامّ يشمل بعمومه الغنيمة وسائر الأموال الزائدة في المجتمع نظير الديار الخالية والقرى البائدة ورؤوس الجبال وبطون الأودية وقطائع الملوك وتركة من لا وارث له أمّا الأنفال بمعنى

٨

الغنائم فهي متعلّقة بالمقاتلين من المسلمين بعمل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبقي الباقي تحت ملك الله ورسوله.

هذا ما يفيده التأمّل في كرائم الآيات وللمفسّرين فيها أقاويل مختلفة تعلم بالرجوع إلى مطوّلات التفاسير لا جدوى في نقلها والتعرّض المنقض والإبرام فيها.

قوله تعالى: ( إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) إلى آخر الآيتين الآيتان والّتي بعدهما بيان ما يتميّز به المؤمنون بحقيقة الإيمان ويختصّون به من الأوصاف الكريمة والثواب الجزيل بيّـنت ليتأكّد به ما يشتمل عليه قوله تعالى:( فاتّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ) إلى آخر الآية.

وقد ذكر الله تعالى لهم خمس صفات اختارها من بين جميع صفاتهم الّتي ذكرها في كلامه لكونها مستلزمة لكرائم صفاتهم على كثرتها وملازمة لحقّ الإيمان، وهي بحيث إذا تنبّـهوا لها وتأمّلوها كان ذلك ممّا يسهّـل لهم توطين النفس على التقوى وإصلاح ذات بينهم، وإطاعة الله ورسوله.

وهاتيك الصفات الخمس هي: وجل القلب عند ذكر الله، وزيادة الإيمان عند استماع آيات الله، والتوكّل، وإقامة الصلاة والإنفاق ممّا رزقهم الله ومعلوم أنّ الصفات الثلاث الاُول من أعمال القلوب والأخيرتان من أعمال الجوارح.

وقد روعي في ذكرها الترتيب الّذي بينها بحسب الطبع فإنّ نور الإيمان إنّما يشرق على القلب تدريجاً فلا يزال يشتدّ ويضاعف حتّى يتمّ ويكمل بحقيقته فأوّل ما يشرق يتأثّر القلب بالوجل والخشية إذا تذكّر بالله عند ذكره وهو قوله تعالى:( إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) .

ثمّ لا يزال ينبسط الإيمان ويتعرّق وينمو ويتفرّع بالسير في الآيات الدالّة عليه تعالى والهادية إلى المعارف الحقّة فكلّما تأمّل المؤمن في شئ منها زادته إيماناً فيقوى الإيمان ويشتدّ حتّى يستقرّ في مرحلة اليقين وهو قوله تعالى:( وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ) .

وإذا زاد الإيمان وكمل كمالاً عرف عندئذ مقام ربّه وموقع نفسه معرفة تطابق

٩

واقع الأمر وهو أنّ الأمر كلّه إلى الله سبحانه فإنّه تعالى وحده هو الربّ الّذي إليه يرجع كلُّ شئ، فالواجب الحقّ على الإنسان أن يتوكّل عليه ويتّـبع ما يريده منه بأخذه وكيلاً في جميع ما يهمّه في حياته فيرضى بما يقدّر له في مسير الحياة، ويجري على ما يحكم عليه من الأحكام ويشرّعه من الشرائع فيأتمر بأوامره وينتهي عن نواهيه، وهو قوله تعالى:( وعلى ربّهم يتوكّلون ) .

ثمّ إذا استقرّ الإيمان على كماله في القلب، استوجب ذلك أن ينعطف العبد بالعبوديّـة إلى ربّه وينصب نفسه في مقام العبوديّـة وإخلاص الخضوع وهو الصلاة، وهي أمر بينه وبين ربّه وأن يقوم بحاجة المجتمع في نواقص مساعيهم بالإنفاق على الفقراء ممّا رزقه الله من مال أو علم أو غير ذلك وهو أمر بينه وبين سائر أفراد مجتمعه وهو قوله تعالى:( الّذين يقيمون الصلاة وممّا رزقناهم ينفقون ) .

وقد ظهر ممّا تقدّم أنّ قوله تعالى:( زادتهم إيماناً ) إشارة إلى الزيادة من حيث الكيفيّـة وهو الاشتداد والكمال دون الكمّـيّـة وهي الزيادة من حيث عدد المؤمنين كما احتمله بعض المفسّرين.

قوله تعالى:( اُولئك هم المؤمنون حقّاً لهم درجات عند ربّهم ومغفرةٌ ورزقٌ كريمٌ ) قضاء منه تعالى بثبوت الإيمان حقّاً فيمن اتّصف بما عدّه تعالى من الصفات الخمس، ولذلك اُطلق ما ذكره لهم من كريم الأجر في قوله:( لهم درجات عند ربّهم ) الآية فلهؤلاء من صفات الكمال وكريم الثواب وعظيم الأجر ما لكلّ مؤمن حقيقيّ.

وأما قوله:( لهم درجات عند ربّهم ومغفرةٌ ورزقٌ كريمٌ ) فالمغفرة هي الصفح الإلهيّ عند ذنوبهم، والرزق الكريم ما يرتزقون به من نعم الجنّـة وقد أراد الله سبحانه بالرزق الكريم الجنّـة ونعمها في مواضع من كلامه، كقوله تعالى:( فالّذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم والّذين سعوا في آياتنا معاجزين اُولئك أصحاب الجحيم ) الحج: ٥١ وغير ذلك.

وبذلك يظهر أنّ المراد بقوله:( لهم درجات عند ربّهم ) مراتب القرب والزلفى ودرجات الكرامة المعنويّـة وهو كذلك فإنّ المغفرة والجنّـة من آثار مراتب القرب من الله

١٠

سبحانه وفروعه البتّـة.

والّذي يشتمل عليه الآية من إثبات الدرجات لهؤلاء المؤمنين ، هو ثبوت جميع الدرجات لجميعهم، لا ثبوت جميعها لكلّ واحد منهم فإنّها من لوازم الإيمان، والإيمان مختلف ذو مراتب فالدرجات الموهوبة بإزائه كذلك لا محالة، فمن المؤمنين من له درجة واحدة ، ومنهم ذو الدرجتين، ومنهم ذو الدرجات على اختلاف مراتبهم في الإيمان.

ويؤيّده قوله تعالى:( يرفع الله الّذين آمنوا منكم والّذين اُوتوا العلم درجات ) المجادلة ١١ وقوله تعالى:( أفمن اتّبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنّم وبئس المصير، هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون ) آل عمران: ١٦٣.

وبما تقدّم يظهر أنّ تفسير بعضهم ما في الآية من الدرجات بدرجات الجنّـة، ليس على ما ينبغي وأنّ المتعيّن كون المراد بها درجات القرب كما تقدّم وإن كان كلّ منهما يلازم الآخر.

قوله تعالى: ( كما أخرجك ربّك من بيتك بالحقّ وإنّ فريقاً من المؤمنين لكارهون ) إلى آخر الآيتين. ظاهر السياق أنّ قوله:( كما أخرجك ) متعلّق بما يدلّ عليه قوله تعالى:( قل الأنفال لله والرسول ) والتقدير: أنّ الله حكم بكون الأنفال له ولرسوله بالحقّ مع كراهتهم له، كما أخرجك من بيتك بالحقّ مع كراهة فريق منهم له، فللجميع حقّ يترتّب عليه من مصلحة دينهم ودنياهم ما هم غافلون عنه.

وقيل إنّه متعلّق بقوله:( يجادلونك في الحقّ ) وقيل: إنّ العامل فيه معنى الحقّ والتقدير: هذا الذكر من الحقّ كما أخرجك ربّك من بيتك بالحقّ. والمعنيان - كما ترى - بعيدان عن سياق الآية.

والمراد بالحقّ ما يقابل الباطل، وهو الأمر الثابت الّذي يترتّب عليه آثاره الواقعيّـة المطلوبة وكون الفعل - وهو الإخراج - بالحقّ هو أن يكون هو المتعيّن الواجب بحسب الواقع ، وقيل: المراد به الوحي، وقيل: المراد به الجهاد، وقيل غير ذلك ، وهي معان بعيدة.

والأصل في معنى الجدل شدّة الفتل، يقال: زمام جديل أي شديد الفتل وسمّي

١١

الجدال جدالاً لأنّ فيه نزاعاً بالفتل عن مذهب إلى مذهب كما ذكره في المجمع.

ومعنى الآيتين: أنّ الله تعالى حكم في أمر الأنفال بالحقّ مع كراهتهم لحكمه كما أخرجك من بيتك بالمدينة إخراجاً يصاحب الحقّ، والحال أنّ فريقاً من المؤمنين لكارهون لذلك، ينازعونك في الحقّ بعد ما تبيّن لهم إجمالاً والحال أنّهم يشبهون جماعة يساقون إلى الموت، و هم ينظرون إلى ما اُعدّ لهم من أسبابه و أدواته.

( بحث روائي)

في جامع الجوامع للطبرسيّ : قرأ ابن مسعود وعليّ بن الحسين زين العابدين والباقر والصادقعليهم‌السلام : يسألونك الأنفال

أقول: ورواه عن ابن مسعود وكذا عن السجّـاد و الباقر والصادقعليهم‌السلام غيره.

وفي الكافي بإسناده عن العبد الصالحعليه‌السلام قال: الأنفال كلّ أرض خربة قد باد أهلها، وكلّ أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ولكن صالحوا صلحاً وأعطوا بأيديهم على غير قتال - فقال -: وله - يعني الوالي - رؤوس الجبال وبطون الأودية والآجام وكلّ أرض ميتة لا ربّ لها وله صوافي الملوك: ما كان في أيديهم من غير وجه الغصب لأنّ الغصب كلّه مردود، وهو وارث من لا وارث له، ويعول من لا حيلة له.

وفيه: بإسناده عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يسألونك عن الأنفال ) قال: من مات وليس له مولى فماله من الأنفال

أقول: وفي معنى الروايتين روايات كثيرة مرويّـة من طرق أهل البيتعليهم‌السلام ولا ضير في عدم ذكرها الأنفال بمعنى غنائم الحرب، فإنّ الآية بموردها تدلّ عليه على ما يفيده سياقها.

وفي الدرّ المنثور: أخرج الطيالسيّ والبخاريّ في الأدب المفرد ومسلم والنحّـاس في ناسخه وابن مردويه والبيهقيّ في الشعب عن سعد بن أبي وقّـاص قال: نزلت فيّ أربع آيات من كتاب الله: كانت اُمّي حلفت أن لا تأكل ولا تشرب حتّى اُفارق محمّـداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله:

١٢

وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً.

والثانية: أنّى كنت اخذت سيفاً أعجبني فقلت: يا رسول الله هب لي هذا فنزلت: يسألونك عن الأنفال.

والثالثة: أنّي مرضت فأتاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت: يا رسول الله إنّي اُريد ان اُقسّم مالي أفاُوصي بالنصف؟ قال: لا فقلت: الثلث؟ فسكت فكان الثلث بعده جائزاُ

والرابعة: أنّي شربت الخمر مع قوم من الأنصار فضرب رجل منهم أنفي بلحيي جمل فأتيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله تحريم الخمر.

أقول: الرواية لا تخلو عن شئ أمّا أوّلاً فلأنّ قوله تعالى:( وإن جاهداك على أن تشرك بي ) الآية ذيل قوله تعالى:( ووصّينا الإنسان بوالديه ) لقمان - ١٤ وهي بسياقها تأبى أن تكون نازلة عن سبب خاصّ على أنّه قد تقدّم في ذيل قوله تعالى:( قل تعالوا أتل ما حرّم ربّكم عليكم أن لا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ) الآيات الأنعام: ١٥١ أنّ الإحسان بالوالدين من الأحكام العامّة غير المختصّة بشريعة دون شريعة.

وأمّا ثانياً: فلأنّ ما ذكر من اخذ ألسيف واستيهابه من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما يناسب قراءة :( يسألونك الأنفال ) لا قراءة:( يسألونك عن الأنفال ) وقد تقدّم توضيحه في البيان المتقدّم.

وأمّا ثالثاً: فلأنّ استقرار السنّة على الإيصاء بالثلث لم يكن بآية نازلة بل بسنّة نبوّية.

وأمّا رابعاً: فلأنّ قصّة شربه الخمر مع جماعة من الصحابة وشجّ أنفه بلحيي بعير وإن كانت حقّة لكنّه إنّما شرب الخمر مع جماعة مختلطة من المهاجرين والانصار وقد شجّ أنفه عمر بن الخطّاب ثمّ أنزل الله آية المائدة ولم ينزل للتحريم بل لتشديده وقد تقدّم ذلك كلّه في ذيل قوله تعالى:( يا أيّها الّذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان ) المائدة: ٩٠.

وفيه: أخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وأبوالشيخ وابن مردويه والحاكم

١٣

والبيهقيّ في سننه عن أبي أمامة قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال: فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل فساءت فيه أحلامنا فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقسّمه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المسلمين، عن براء يقول: عن سواء

وفيه: أخرج سعيد بن منصور وأحمد وابن المنذر وابن ابي حاتم وابن حبّان وأبوالشيخ والحاكم وصحّحه والبيهقيّ وابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال: خرجنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشهدت معه بدراً فالتقى الناس فهزم الله العدوّ فانطلقت طائفة في آثارهم منهزمين يقتلون، وأكبّت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه وأحدقت طائفة برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تصيب العدوّ منه غرّة حتّى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الّذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها، فليس لأحد فيها نصيب، وقال الّذين خرجوا في طلب العدوّ: لستم بأحقّ بها منّا، نحن نفينا عنها العدوّ وهزمناهم، وقال الّذين أحدقوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لستم بأحقّ منّا نحن أحدقنا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخفنا أن يصيب العدوّ منه غرّة واشتغلنا به فنزلت:( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ) فقسّمها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المسلمين، الحديث

وفيه: أخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائيّ وابن جرير وابن المنذر وابن حبّان وأبوالشيخ وابن مردويه والحاكم وصحّحه والبيهقيّ في الدلائل عن ابن عبّـاس قال: لمّا كان يوم بدر قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قتل قتيلاً فله كذا وكذا ومن أسر أسيراً فله كذا وكذا فأمّا المشيخة فثبتوا تحت الرايات، وأمّا الشبّان فتسارعوا إلى القتل والغنائم فقالت المشيخة للشبّان: أشركونا معكم فإنّا كنّا لكم ردءاً ولو كان منكم شئ للجأتم الينا فاختصموا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت:( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ) فقسّم الغنائم بينهم بالسويّـة

أقول: وفي هذه المعاني روايات اُخر، وهنا روايات تدلّ على تفصيل القصّة تتّضح بها معنى الآيات سنوردها في ذيل الآيات التالية.

وفي بعض الروايات أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعدهم أن يعطيهم السلب والغنيمة ثمّ نسخه الله تعالى بقوله :( قل الأنفال لله والرسول ) وإلى ذلك يشير ما في هذه الرواية ولذلك

١٤

ربّما قيل: إنّه لا يجب على الإمام أن يفي بما وعد به المحاربين. لكن يبعّده اختلافهم في أمر الغنائم يوم بدر إذ لو كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعدهم بذلك لم يختلفوا مع صريح بيانه.

وفيه: أخرج ابن جرير عن مجاهد: أنّهم سألوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الخمس بعد الأربعة الأخماس: فنزلت :( يسألونك عن الأنفال ) .

أقول: وهو لا ينطبق على ما تقدّم من مضمون الآية على ما يعطيه السياق وفي بعض ما ورد عن المفسّرين السلف كسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وكذا عن ابن عبّـاس أنّ قوله تعالى:( يسالونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ) الآية منسوخة بقوله:( واعلموا أنّ ما غنمتم من شئ فأنّ لله خمسه وللرسول ) الآية وقد تقدّم في بيان الآية ما ينتفي به احتمال النسخ.

وفيه أخرج مالك وابن أبي شيبة وأبوعبيد وعبد بن حميد وابن جرير والنحّـاس وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبوالشيخ وابن مردويه عن القاسم بن محمّـد قال: سمعت رجلاً يسأل ابن عبّـاس عن الأنفال فقال : الفرس من النفل والسلب من النفل فأعاد المسألة فقال ابن عبّـاس : ذلك أيضاً.

ثمّ قال الرجل: الأنفال الّتي قال الله في كتابه ما هي؟ فلم يزل يسأله حتّى كاد يحرّجه فقال ابن عبّـاس: هذا مثل صبيغ الّذي ضربه عمر - وفي لفظ - ما أحوجك إلى من يضربك كما فعل عمر بصبيغ العراقيّ وكان عمر ضربه حتّى سالت الدماء على عقبيه

وفيه في قوله تعالى:( اُولئك هم المؤمنون حقّاً ) أخرج الطبرانيّ عن الحارث ابن مالك الانصاريّ أنّه مرّ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له: كيف أصبحت يا حارث؟ قال أصبحت مؤمناً حقّاً. قال: انظر ما تقول فإنّ لكلّ شئ حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال: عرفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتزاورون فيها، وكأنّي أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، قال يا حارث عرفت فالزم ثلاثاً.

أقول: والحديث مرويّ من طرق الشيعة بأسانيد عديدة .

١٥

( سورة الانفال آيه ٧ - ١٤)

وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أَنّهَا لَكُمْ وَتَوَدّونَ أَنّ غَيْرَ ذَاتِ الشّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقّ الْحَقّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ( ٧ ) لِيُحِقّ الْحَقّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ( ٨ ) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ ( ٩ ) وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلّا بُشْرَى‏ وَلِتَطْمَئِنّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النّصْرُ إِلّا مِنْ عِندِ اللّهِ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ١٠ ) إِذْ يُغْشّيكُمُ النّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مِنَ السّماءِ مَاءً لِيُطَهّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى‏ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ ( ١١ ) إِذْ يُوحِي رَبّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُوا الّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُوا الرّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنَانٍ ( ١٢ ) ذلِكَ بِأَنّهُمْ شَاقّوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( ١٣ ) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النّارِ ( ١٤ )

( بيان)

تشير الآيات إلى قصّة بدر وهي أوّل غزوة في الإسلام وظاهر سياق الآيات أنّها نزلت بعد انقضائها على ما سيتّضح.

قوله تعالى: ( واذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنّها لكم وتودّون أنّ غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحقّ الحقّ بكلماته ويقطع دابر الكافرين ) ، أي واذكروا إذ يعدكم الله، وهو بيان منن الله وعدّ نعمه عليهم ليكونوا على بصيرة من أنّ الله

١٦

سبحانه لا يستقبلهم بأمر ولا يأتيهم بحكم إلّا بالحقّ وفيه حفظ مصالحهم وإسعاد جدّهم فلا يختلفوا فيما بينهم ولا يكرهوا ما يختاره لهم ويكلوا أمرهم إليه فيطيعوه ورسوله.

والمراد بالطائفتين العير والنفير، والعير قافلة قريش وفيها تجارتهم وأموالهم وكان عليها أربعون رجلاً منهم أبوسفيان بن حرب، والنفير جيش قريش وهم زهاء ألف رجل.

وقوله :( إحدى الطائفتين ) مفعول ثان لقوله:( يعدكم ) وقوله:( أنّها لكم ) بدل منه وقوله :( وتودّون ) الآية في موضع الحال، والمراد بغير ذات الشوكة: الطائفة غير ذات الشوكة وهي العير الّذي كان أقلّ عِدّة وعُدّة من النفير، والشوكة الحدّة، استعارة من الشوك.

وقوله:( و يريد الله أن يحقّ الحقّ بكلماته ) في موضع الحال، والمراد بإحقاق الحقّ إظهاره وإثباته بترتيب آثاره عليه، وكلمات الله هي ما قضى به من نصرة أنبيائه وإظهار دينه الحقّ، قال تعالى:( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنّهم لهم المنصورون وإنّ جندنا لهم الغالبون ) الصافّات -١٧٣ وقال تعالى:( يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم والله متمّ نوره ولو كره الكافرون هو الّذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون ) الصفّ: ٩. وقرئ:( بكلمته ) : وهو أوجه وأقرب والدابر ما يأتي بعد الشئ ممّا يتعلّق به ويتّصل إليه وقطع دابر الشئ، كناية عن إفنائه واستئصاله بحيث لا يبقى بعده شئ من آثاره المتفرّعة عليه المرتبطة به.

ومعنى الآية: واذكروا إذ يعدكم الله أنّ إحدى الطائفتين لكم تستعلون عليها بنصر الله إمّا العير وإمّا النفير وأنتم تودّون أن تكون تلك الطائفة هي العير لما تعلمون من شوكة النفير، وقوّتهم وشدّتهم مع ما لكم من الضعف والهوان، والحال أنّ الله يريد خلاف ذلك وهو أن تلاقوا النفير فيظهركم عليهم ويظهر ما قضى ظهوره من الحقّ، ويستأصل الكافرين ويقطع دابرهم.

قوله تعالى: ( ليحقّ الحقّ ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ) ظاهر السياق أنّ اللام للغاية، وقوله:( ليحقّ ) الآية متعلّق بقوله:( يعدكم الله ) أي إنّما وعدكم الله ذلك وهو لا يخلف الميعاد ليحقّ بذلك الحقّ ويبطل الباطل ولو كان المجرمون

١٧

يكرهونه ولا يريدونه.

وبذلك يظهر أنّ قوله:( ليحقّ الحقّ ) الآية ليس تكراراً لقوله:( ويريد الله أن يحقّ الحقّ بكلماته ) وإن كان في معناه.

قوله تعالى: ( إذ تستغيثون ربّكم فاستجاب لكم أنّي ممدّكم بألف من الملائكة مردفين ) الاستغاثة طلب الغوث وهو النصرة كما في قوله:( فاستغاثه الّذي من شيعته على الّذي من عدوّه ) القصص: ١٥ والإمداد معروف، وقوله:( مردفين ) من الإرداف وهو أن يجعل الراكب غيره ردفاً له، والردف التابع، قال الراغب: الردف التابع، وردف المرأة عجيزتها، والترادف: التتابع، والرادف: المتأخّر، والمردف المقدّم الّذي أردف غيره.انتهى.

وبهذا المعنى تلائم الآية ما في قوله تعالى فيما يشير به إلى هذه القصّة في سورة آل عمران:( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلّة فاتّقوا الله لعلّكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدّكم ربّكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتّقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربّكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين وما جعله الله إلّا بشرى لكم ولتطمئنّ قلوبكم به وما النصر إلّا من عند الله العزيز الحكيم ) آل عمران: ١٢٦.

فإنّ تطبيق الآيات من السورتين يوضح أنّ المراد بنزول ألف من الملائكة مردفين نزول ألف منهم يستتبعون آخرين فينطبق الألف المردفون على الثلاثة آلاف المنزلين.

وبذلك يظهر فساد ما قيل: إنّ المراد بكون الملائكة مردفين كون الألف متّبعين ألفاً آخر لأنّ مع كلّ واحد منهم ردفاً له فيكونون ألفين، وكذا ما قيل: إنّ المراد كون بعضهم إثر بعض، وكذا ما قيل: إنّ المراد مجيئهم على أثر المسلمين بأن يكون مردفين بمعنى رادفين، وكذا ما قيل: إنّ المراد إردافهم المسلمين بأن يتقدّموا عسكر المسلمين فيلقوا في قلوب الّذين كفروا الرعب.

قوله تعالى: ( وما جعله الله إلّا بشرى ولتطمئنّ به قلوبكم وما النصر إلّا من عند الله

١٨

إنّ الله عزيز حكيم ) الضميران في قوله:( جعله ) وقوله:( به ) للإمداد بالملائكة على ما يدلّ عليه السياق، والمعنى أنّ الإمداد بالملائكة إنّما كان لغرض البشرى واطمئنان نفوسكم لا ليهلك بأيديهم الكفّـار كما يشير إليه قوله تعالى بعدُ:( إذ يوحي ربّك إلى الملائكة أنّي معكم فثبّتوا الّذين آمنوا ساُلقي في قلوب الّذين كفروا الرعب ) .

وبذلك يتأيّد ما ذكره بعضهم: أنّ الملائكة لم ينزلوا ليقتلوا المشركين ولا قتلوا منهم أحداً فقد قتل ثلث المقتولين منهم أو النصف عليّعليه‌السلام والثلثين الباقين أو النصف سائر المسلمين. وإنّما كان للملائكة تكثير سواد المسلمين حينما اختلطوا بالقوم وتثبيت قلوب المسلمين، وإلقاء الرعب في قلوب المشركين، وسيجئ بعض الكلام في ذلك.

وقوله:( وما النصر إلّا من عند الله إنّ الله عزيز حكيم ) بيان انحصار حقيقة النصر فيه تعالى وأنّه لو كان بكثرة العدد والقوّة والشوكه كانت الدائرة يومئذ للمشركين بما لهم من الكثرة والقوّة على المسلمين على ما بهم من القلّة والضعف.

وقد علّل بقوله:( إنّ الله عزيز حكيم ) جميع مضمون الآية وما يتعلّق به من الآية السابقة فبعزّته نصرهم و أمدّهم، وبحكمته جعل نصره على هذه الشاكلة.

قوله تعالى: ( إذ يغشّيكم النعاس أمنة منه ) إلى آخر الآية. النعاس أوّل النوم وهو خفيفه والتغشية الاحاطة، والأمنة الأمان، وقوله:( منه ) أي من الله وقيل: أي من العدوّ، والرجز هو الرجس والقذارة، والمراد برجز الشيطان القذارة الّتي يطرأ القلب من وسوسته وتسويله.

ومعنى الآية: أنّ النصر والإمداد بالبشرى واطمئنان القلوب كان في وقت يأخذكم النعاس للأمن الّذي أفاضه الله على قلوبكم فنمتم ولو كنتم خائفين مرتاعين لم يأخذكم نعاس ولا نوم، وينزّل عليكم المطر ليطهّركم به ويذهب عنكم وسوسة الشيطان وليربط على قلوبكم ويشدّ عليها - وهو كناية عن التشجيع - وليثبت بالمطر أقدامكم في الحرب بتلبّـد الرمل أو بثبات القلوب.

والآية تؤيّد ما ورد أنّ المسلمين سبقهم المشركون إلى الماء فنزلوا على كثيب رمل، وأصبحوا محدثين ومجنبين، وأصابهم الظمأ، ووسوس إليهم الشيطان فقال: إنّ عدوّكم

١٩

قد سبقكم إلى الماء، وأنتم تصلّون مع الجنابة، والحدث، وتسوخ أقدامكم في الرمل فأمطر عليهم الله حتّى اغتسلوا به من الجنابة، وتطهّروا به من الحدث، وتلبّدت به أرضهم، وأوحلت أرض عدوّهم.

قوله تعالى: ( إذ يوحي ربّك إلى الملائكة أنّي معكم فثبّتوا الّذين آمنوا ساُلقي في قلوب الّذين كفروا الرعب ) إلى آخر الآية حال الظرف في أوّل الآية كحال الظرف في قوله:( إذ تستغيثون ربّكم ) وقوله:( إذ يغشيكم النعاس ) ومعنى الآية ظاهر.

وأمّا قوله:( فاضربوا فوق الأعناق واضربو منهم كلّ بنان ) فالظاهر أن يكون المراد بفوق الأعناق الرؤوس وبكلّ بنان جميع الأطراف من اليدين والرجلين أو أصابع الأيدي لئلّا يطيقوا حمل السلاح بها والقبض عليه.

ومن الجائز أن يكون الخطاب بقوله:( فاضربوا ) الخ للملائكة كما هو المتسابق إلى الذهن، والمراد بضرب فوق الأعناق وكلّ بنان ظاهر معناه، أو الكناية عن إذلالهم وإبطال قوّة الإمساك من أيديهم بالإرعاب، وأن يكون الخطاب للمؤمنين والمراد به تشجيعهم على عدوّهم بتثبيت أقدامهم والربط على قلوبهم، وحثّهم وإغراؤهم بالمشركين.

قوله تعالى: ( ذلك بأنّهم شاقّوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإنّ الله شديد العقاب ) المشاقّة المخالفة وأصله الشقّ بمعنى البعض كأنّ المخالف يميل إلى شقّ غير شقّ من يخالفه، والمعنى أنّ هذا العقاب للمشركين بما أوقع الله بهم، لأنّهم خالفوا الله ورسوله وألحّوا وأصرّوا على ذلك ومن يشاقق الله ورسوله فإنّ الله شديد العقاب.

قوله تعالى: ( ذلكم فذوقوه وأنّ للكافرين عذاب النار ) خطاب تشديديّ للكفّـار يشير إلى ما نزل بهم من الخزي ويأمرهم بأن يذوقوه، ويذكر لهم أن وراء ذلك عذاب النار.

٢٠

( بحث روائي)

في المجمع قال ابن عبّـاس: لمّا كان يوم بدر واصطفّ القوم للقتال قال أبوجهل: اللّهمّ أولانا بالنصر فانصره، واستغاث المسلمون فنزلت الملائكة ونزل قوله:( إذ تستغيثون ربّكم ) إلى آخره.

وقيل: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا نظر إلى كثرة عدد المشركين وقلّة عدد المسلمين استقبل القبلة وقال: اللّهمّ أنجز لي ما وعدتني اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض فما زال يهتف ربّه مادّاً يديه حتّى سقط رداؤه من منكبيه فأنزل الله:( إذ تستغيثون ربّكم ) الآية: عن عمر بن الخطّاب والسدّيّ وأبي صالح وهو المرويّ عن أبي جعفرعليه‌السلام .

قال: ولمّا أمسى رسول الله وجنّه اللّيل ألقى الله على أصحابه النعاس وكانوا قد نزلوا في موضع كثير الرمل لا تثبت فيه قدم فأنزل الله عليهم المطر رذاذاً حتّى لبّد الأرض وثبت أقدامهم وكان المطر على قريش مثل العزالى، وألقى الله في قلوبهم الرّعب كما قال الله تعالى:( ساُلقي في قلوب الّذين كفروا الرعب ) .

أقول: لفظ الآية :( إذ تستغيثون ربّكم ) الخ لا يلائم نزولها يوم بدر عقيب استغاثتهم بل السياق يدلّ على نزولها مع قوله تعالى:( يسألونك عن الأنفال ) والآيات التالية له وهي تدلّ على حكاية حال ماضية وامتنانه تعالى على المسلمين. بما أنزل عليهم من آيات النصر وتفاريق النعم ليشكروا له ويطيعوه فيما يأمرهم وينهاهم.

ولعلّ المراد من ذكر نزول الآية بعد ذكر استغاثتهم انطباق مضمون الآية على الواقعة، وهو كثير النظير في الروايات المشتملة على أسباب النزول.

وفي تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العريش: اللّهمّ إنّك إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد بعد هذا اليوم فنزل:( إذ تستغيثون ربّكم ) فخرج يقول: سيهزم الجمع ويولّون الدبر فأيّده الله بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين، وكثّرهم في أعين المشركين، وقلّل المشركين في أعينهم فنزل:( وهم بالعدوة القصوى ) من الوادي

٢١

خلف العقنقل والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعدوة الدنيا عند القليب.

أقول: والكلام فيه كالكلام في سابقه.

وفي المجمع: ذكر البلخيّ عن الحسن أنّ قوله:( وإذ يعدكم الله ) الآية نزلت قبل قوله:( كما أخرجك ربّك من بيتك بالحقّ ) وهي في القراءة بعدها.

أقول: وتقدّم مدلول إحدى الآيتين على مدلول الاُخرى بحسب الوقوع لا يلازم سبقها نزولاً، ولا دليل من جهة السياق يدلّ على ما ذكره.

وفي تفسير العيّـاشيّ عن محمّـد بن يحيى الخثعميّ عن ابى عبداللهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنّها لكم وتودّون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) ، فقال: الشوكة الّتي فيها القتال.

أقول: وروى مثله القمّىّ في تفسيره.

وفي المجمع قال أصحاب السير وذكر أبوحمزة وعليّ بن ابراهيم في تفسيرهما - دخل حديث بعضهم في بعض - أقبل أبوسفيان بعير قريش من الشام وفيها أموالهم وهي اللطيمة، وفيها أربعون راكباً من قريش فندب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه للخروج إليها ليأخذوها، وقال: لعلّ الله أن ينفلكموها فانتدب الناس فخفّ بعضهم وثقل بعضهم، ولم يظنّوا أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلقى كيداً ولا حرباً فخرجوا لا يريدون إلّا أباسفيان والركب لا يرونها إلّا غنيمة لهم.

فلمّا سمع أبوسفيان بمسير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استأجر ضمضم بن عمرو الغفاريّ فبعثه إلى مكّة، وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم ويخبرهم أنّ محمّـداً قد تعرّض لعيرهم في أصحابه فخرج ضمضم سريعاً إلى مكّة.

وكانت عاتكة بنت عبدالمطّلب رأت فيما يرى النائم قبل مقدم ضمضم بن عمرو بثلاث ليال أنّ رجلاً أقبل على بعير له ينادى يا آل غالب اغدوا إلى مصارعكم ثمّ وافى بجمله على أبي قبيس فأخذ حجراً فدهدهه من الجبل فما ترك داراً من دور قريش إلّا أصابته منه فلذة فانتبهت فزعة من ذلك وأخبرت العبّـاس بذلك فأخبر العبّـاس عتبة بن ربيعة فقال عتبة: هذه مصيبة تحدث في قريش، وفشت الرؤيا فيهم وبلغ ذلك أباجهل فقال: هذه

٢٢

نبيّـة ثانية في بني عبدالمطّلب، واللّات والعزّى لننظرنّ ثلاثة أيّـام فإن كان ما رأت حقّاً وإلّا لنكتبنّ كتاباً بيننا: أنّه ما من أهل بيت من العرب أكذب رجالاً ونساءً من بني هاشم.

فلمّا كان اليوم الثالث أتاهم ضمضم يناديهم بأعلى الصوت: يا آل غالب يا آل غالب. اللطيمة اللطيمة.العير العير. أدركوا وما أراكم تدركون إنّ محمّـداً والصباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرّضون لعيركم فتهيّـأوا للخروج، وما بقي أحد من عظماء قريش إلّا أخرج مالاً لتجهيز الجيش، وقالوا من لم يخرج نهدم داره، وخرج معهم العبّـاس بن عبدالمطّلب، ونوفل بن الحارث بن عبدالمطّلب، وعقيل بن ابي طالب، وأخرجوا معهم القيان يضربن الدفوف.

وخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ثلاثمأة وثلاثة عشر رجلاً فلمّا كان بقرب بدر أخذ عيناً للقوم فأخبره بهم، وفي حديث أبى حمزة : بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً عيناً له على العير اسمه عدىّ فلمّا قدم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره أين فارق العير نزل جبرائيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره بنفير المشركين من مكّة فاستشار أصحابه في طلب العير وحرب النفير فقام أبوبكر فقال: يا رسول الله إنّها قريش وخيلاؤها ما آمنت منذ كفرت، ولا ذلّت منذ عزّت، ولم نخرج على هيئه الحرب، وفي حديث أبي حمزة: أنا عالم بهذا الطريق فارق عديّ العير بكذا وكذا، وساروا وسرنا فنحن والقوم على ماء بدر يوم كذا وكذا كأنّا فرسا رهان فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اجلس فجلس. ثمّ قام عمر بن الخطّاب فقال : مثل ذلك فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اجلس فجلس.

ثمّ قام المقداد فقال: يا رسول الله إنّها قريش وخيلاؤها، وقد آمنّا بك وصدّقنا وشهدنا أنّ ما جئت به حقّ، والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس لخضناه، معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون ولكنّا نقول: إمض لأمر ربّك فإنّا معك مقاتلون، فجزاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيراً على قوله ذاك.

ثمّ قال: أشيروا عليّ أيّها الناس وإنّما يريد الأنصار لأنّ أكثر الناس منهم،

٢٣

ولأنّهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: إنّا برآء من ذمّتك حتّى تصل إلى دارنا ثمّ أنت في ذمّتنا نمنعك ممّا نمنع أبناءنا ونساءنا، فكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتخوّف أن لا يكون الأنصار ترى عليها نصرته إلّا على من دهمه بالمدينة من عدوّ، وأن ليس عليهم أن ينصروه خارج المدينة.

فقام سعد بن معاذ فقال: بأبي أنت واُمّي يا رسول الله كأنك أردتنا. فقال: نعم. قال: بأبي أنت واُمّي يا رسول الله إنّا قد آمنّا بك وصدّقناك وشهدنا أنّ ما جئت به حقّ من عند الله فمرنا بما شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، واترك منها ما شئت، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك ولعلّ الله عزّوجلّ أن يريك منّا ما تقرّ به عينك فسر بنا على بركة الله.

ففرح بذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال: سيروا على بركة الله فإنّ الله عزّوجلّ قد وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف الله وعده، والله لكأنّى أنظر إلى مصرع أبى جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وفلان وفلان(١) .

وأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرحيل، وخرج إلى بدر وهو بئر، وفي حديث أبي حمزة الثمالى: بدرٌ رجل من جهينة والماء ماؤه فإنّما سمّى الماء باسمه، وأقبلت قريش وبعثوا عبيدها ليستقوا من الماء فأخذهم أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا لهم: من أنتم؟ قالوا: نحن عبيد قريش. قالوا: فأين العير؟ قالوا: لا علم لنا بالعير فأقبلوا يضربونهم، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّى فانفتل من صلاته وقال: إن صدقوكم ضربتموهم وإن كذّبوكم تركتموهم، فأتوه بهم فقال لهم: من أنتم؟ قالوا: يا محمّـد نحن عبيد قريش، قال: كم القوم؟ قالوا: لا علم لنا بعددهم، قال: كم ينحرون في كلّ يوم من جزور؟ قالوا: تسعة إلى عشرة، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : القوم تسعمأة إلى ألف رجل، وأمرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهم فحبسوا وبلغ ذلك قريشاً ففزعوا وندموا على مسيرهم.

ولقى عتبة بن ربيعة أبا البخترىّ بن هشام فقال: أما ترى هذا البغى والله ما اُبصر موضع قدمى خرجنا لنمنع عيرنا وقد أفلتت فجئنا بغياً وعدواناً، والله ما أفلح قوم بغوا قطّ، ولوددت أنّ ما في العير من أموال بني عبد مناف ذهبت ولم نسر هذا المسير، فقال له أبوالبخترىّ: إنّك

____________________

(١) وقد كان صلى الله عليه وآله يشير بذلك إلى لقاء النفير وهم يرجون لقاء العير.

٢٤

سيّد من سادات قريش فسر في الناس وتحمّل العير الّتى أصابها محمّـد وأصحابه بنخلة(١) ودم ابن الحضرميّ فإنّه حليفك. فقال له: علىّ ذلك، وما على أحد منّا خلاف إلّا ابن الحنظليّـة يعنى أباجهل فصر إليه وأعلمه أنّى حملت العيرودم ابن الحضرميّ وهو حليفي وعلىّ عقله.

قال: فقصدت خباءه وأبلغته ذلك، فقال : إنّ عتبة يتعصّب لمحمّـد فإنّه من بنى عبد مناف وابنه معه يريد أن يخذل بين الناس لا واللّات والعزّى حتّى نقحم عليهم يثرب أو نأخذهم اُسارى فندخلهم مكّة وتتسامع العرب بذلك، وكان أبوحذيفة بن عتبة مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وكان أبوسفيان لمّا جاز بالعير بعث إلى قريش: قد نجّى الله عيركم فارجعوا ودعوا محمّـداً والعرب، وادفعوه بالراح ما اندفع، وإن لم ترجعوا فردّوا القيان فلحقهم الرسول في الجحفة، فأراد عتبة أن يرجع فأبى أبوجهل وبنو مخزوم وردّوا القيان من الجحفة.

قال: وفزع أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا بلغهم كثرة قريش، واستغاثوا وتضرّعوا، فأنزل الله عزّوجلّ:( إذ تستغيثون ربّكم ) وما بعده.

قال الطبرسيّ: ولمّا أصبح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر عبّأ أصحابه، فكان في عسكره فرسان: فرس للزبير بن عوّام، وفرس للمقداد بن الأسود، وكان في عسكره سبعون جملاً كانوا يتعاقبون عليها، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّ بن أبى طالبعليه‌السلام ومرثد بن أبى مرثد الغنوىّ يتعاقبون على جمل لمرثد بن أبى مرثد، وكان في عسكر قريش أربعمأة فرس، وقيل: مأتا فرس.

فلمّا نظرت قريش إلى قلّة أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال أبوجهل: ما هم إلّا اُكلة رأس لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذاً باليد، فقال عتبة بن ربيعة: أترى لهم كميناً أو مدداً؟ فبعثوا عمير بن وهب الجمحىّ وكان فارساً شجاعاً فجال بفرسه حتّى طاف على عسكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ رجع فقال: ليس لهم كمين ولا مدد ولكن نواضح يثرب قد حملت

____________________

(١) وقد تقدّمت الرويات في قصته في الجزء الثاني من الكتاب في ذيل قوله تعالى:( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ) الآية، البقرة - ٢١٧.

٢٥

الموت الناقع أما ترونهم خرساً لا يتكلّمون ويتلمّظون تلمّظ الأفاعى ما لهم ملجأ إلّا سيوفهم، وما أراهم يولّون حتّى يقتلوا، ولا يقتلون حتّى يقتلوا بعددهم فارتأوا رأيكم فقال له أبوجهل: كذبت وجبنت.

فأنزل الله تعالى:( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) فبعث إليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا معشر قريش إنّى أكره أن أبدأ بكم فخلّونى والعرب وارجعوا فقال عتبة: ما ردّ هذا قوم قطّ فأفلحوا، ثمّ ركب جملاً له أحمر فنظر إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يجول بين العسكرين وينهى عن القتال فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن يك عند أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر وإن يطيعوه يرشدوا.

وخطب عتبة فقال في خطبته: يا معشر قريش أطيعونى اليوم واعصوني الدهر إنّ محمّـداً له إلّ وذمّة وهو ابن عمّكم فخلّوه والعرب فإن يك صادقاً فأنتم أعلى عيناً به وإن يك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره فغاظ أباجهل قوله وقال له: جبنت وانتفخ سحرك فقال: يا مصفّر إسته مثلى يجبن؟ وستعلم قريش أيّنا ألأم وأجبن؟ وأيّنا المفسد لقومه.

ولبس درعه وتقدّم هو وأخوه شيبة وابنه الوليد، وقال: يا محمّـد اخرج إلينا أكفاءنا من قريش فبرز إليهم ثلاثة نفر من الأنصار وانتسبوا لهم فقالوا: ارجعوا إنّما نريد الاكفاء من قريش فنظر رسول الله (صلّى الله عيله وآله وسلّم ) إلى عبيدة بن الحارث بن عبدالمطّلب - وكان له يومئذ سبعون سنة - فقال: قم يا عبيدة، ونظر إلى حمزة فقال: قم يا عمّ ثمّ نظر إلى علىّ بن أبى طالب فقال: قم يا علىّ - وكان أصغر القوم - فاطلبوا بحقّكم الّذى جعله الله لكم فقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها تريد أن تطفئ نور الله ويأبى الله إلّا أن يتمّ نوره. ثمّ قال: يا عبيدة عليك بعتبة ابن ربيعة، وقال لحمزة عليك بشيبة، وقال لعليّ: عليك بالوليد.

فمرّوا حتّى انتهوا إلى القوم فقالوا: أكفاء كرام فحمل عبيدة على عتبة فضربه على رأسه ضربة فلقت هامته، وضرب عتبة عبيدة على ساقه فأطنّها فسقطا جميعاً، وحمل شيبة على حمزة فتضاربا بالسيفين حتّى انثلما، وحمل أميرالمؤمنين علىّعليه‌السلام على الوليد فضربه على حبل عاتقه فأخرج السيف من إبطه قال علىّ لقد أخذ الوليد يمينه بيساره فضرب بها هامتي فظننت أنّ السماء وقعت على الأرض.

٢٦

ثمّ اعتنق حمزة وشيبة فقال المسلمون: يا عليّ أما ترى أنّ الكلب قد نهز عمّك فحمل عليه علىّعليه‌السلام ثمّ قال: يا عمّ طأطئ رأسك وكان حمزة أطول من شيبة فأدخل حمزة رأسه في صدره فضربه علىّ فطرح نصفه، ثمّ جاء إلى عتبة وبه رمق فأجهز عليه.

وفي رواية اُخرى أنّه برز حمزة لعتبة، وبرز عبيدة لشيبة وبرز علىّ للوليد فقتل حمزة عتبة، وقتل عبيدة شيبة، وقتل عليّعليه‌السلام الوليد، فضرب شيبة رجل عبيدة فقطعها فاستنقذه حمزة وعلىّ، وحمل عبيدة حمزة وعلىّ حتّى أتيا به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستعبر فقال: يا رسول الله ألست شهيداً؟ قال: بلى أنت أوّل شهيد من أهل بيتى.

وقال أبو جهل لقريش: لا تعجلوا ولا تبطروا كما بطر أبناء ربيعة عليكم بأهل يثرب فاجزروهم جزراً، وعليكم بقريش فخذوهم أخذاً حتّى ندخلهم مكّة فنعرّفهم ضلالتهم الّتى هم عليها.

وجاء إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جشعم فقال لهم: أنا جار لكم ادفعوا إلىّ رايتكم فدفعوا إليه رأية الميسرة، وكانت الراية مع بنى عبد الدار فنظر إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لأصحابه: غضّوا أبصاركم، وعضّوا على النواجذ، ورفع يده فقال: اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد ثمّ أصابه الغشي فُسري عنه وهو يسلك العرق عن وجهه فقال: هذا جبرائيل قد أتاكم بألف من الملائكة مردفين.

وفي الأمالى بإسناده عن الرّضا عن آبائهعليه‌السلام : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سافر إلى بدر في شهر رمضان وافتتح مكّة في شهر رمضان.

أقول: وعلى ذلك أطبق أهل السير والتواريخ، قال اليعقوبيّ في تاريخه: وكانت وقعة بدر يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان بعد مقدمهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - يعنى إلى المدينة - بثمانية عشر شهراً.

وقال الواقديّ: ونزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وادى بدر عشاء ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من شهر رمضان فبعث عليّـاً والزبير وسعد بن أبى وقّـاص وبسبس بن عمرو يتجسّسون على الماء فوجدوا روايا قريش فيها سقاؤهم فأسروهم وأفلت بعضهم وأتوا بهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو قائم يصلّى فسألهم المسلمون فقالوا: نحن سقاء قريش بعثونا نسقيهم

٢٧

من الماء فضربوهم فلمّا أن لقوهم بالضرب قالوا: نحن لأبي سفيان ونحن في العير، وهذا العير بهذا القوز فكانوا إذا قالوا ذلك يمسكون عن ضربهم. فسلّم رسول الله (صلّى الله عليه و آله وسلّم ) من صلاته ثمّ قال: إن صدقوكم ضربتموهم وإن كذبوكم تركتموهم.

فلمّا أصبحوا عدّل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصفوف وخطب المسلمين فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:

أمّا بعد فإنّى أحثّكم على ما حثّكم الله عليه، وأنهاكم عمّا نهاكم الله عنه فإنّ الله عظيم شأنه، يأمر بالحقّ، ويحبّ الصدق، ويعطى على الخير أهله على منازلهم عنده به يذكرون، وبه يتفاضلون، وإنّكم قد أصبحتم بمنزل من منازل الحقّ لا يقبل الله فيه من أحد إلّا ما ابتغى به وجهه، وإنّ الصبر في مواطن البأس ممّا يفرج الله به الهمّ وينجّى به من الغمّ تدركون به النجاة في الآخرة فيكم نبىّ الله يحذركم ويأمركم فاستحيوا اليوم أن يطلع الله على شئ، من أمركم يمقتكم عليه فإنّه تعالى يقول: لمقت الله أكبر من أنفسكم انظروا في الّذى أمركم به من كتابه، وأراكم من آياته وما أعزّكم به بعد الذلّة فاستكينوا له يرض ربّكم عنكم، وأبلوا ربّكم في هذه المواطن أمراً تستوجبوا به الّذى وعدكم من رحمته ومغفرته فإنّ وعده حقّ، وقوله صدق، وعقابه شديد، وإنّما أنا وأنتم بالله الحىّ القيّـوم، إليه ألجأنا ظهورنا، وبه اعتصمنا، وعليه توكّلنا، وإليه المصير، ويغفر الله لى للمسلمين.

وفي المجمع: ذكر جماعة من المفسّرين كابن عبّـاس وغيره: أنّ جبرائيل قال للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر خذ قبضة من تراب فارمهم بها فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا التقى الجمعان لعليّ: أعطني قبضة من حصا الوادي فناوله كفّاً من حصا عليه تراب فرمى به في وجوه القوم وقال: شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلّا دخل في عينه وفمه ومنخريه منها شئ ثمّ ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، وكانت تلك الرمية سبب هزيمة القوم.

وفي الأمالى بإسناده عن ابن عبّـاس قال: وقف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قتلى بدر فقال: جزاكم الله من عصابة شرّاً لقد كذّبتموني صادقاً وخوّنتم أميناً، ثمّ التفت إلى أبى جهل بن هشام فقال: إنّ هذا أعتى على الله من فرعون إنّ فرعون لمّا أيقن بالهلاك وحّد الله،

٢٨

وإنّ هذا لمّا أيقن بالهلاك دعا باللّات والعزّى.

وفي المغازى للواقديّ: وأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر بالقليب أن تغوّر ثمّ أمر بالقتلى فطرحوا فيها كلّهم إلّا اُميّة بن خلف فإنّه كان مسمناً انتفخ من يومه فلمّا أرادوا أن يلقوه تزايل لحمه فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اُتركوه، فأقرّوه وألقوا عليه من التراب والحجارة ما غيّـبه.

ثمّ وقف على أهل القليب فناداهم رجلاً رجلاً: هل وجدتم ما وعد ربّكم حقّاً فإنّى قد وجدت ما وعدني ربًى حقّاً بئس القوم كنتم لنبيّكم كذّبتموني وصدّقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس. فقالوا يا رسول الله أتنادى قوماً قد ماتوا؟ فقال: لقد علموا أنّ ما وعدهم ربّهم حقّ، وفي رواية اُخرى: فقال رسول الله (صلّى الله عليه و آله وسلّم ): ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوني.

قال: وكان انهزام قريش حين زالت الشمس فأقام رسول الله (صلّى الله عليه و آله وسلّم ) ببدر وأمر عبدالله بن كعب بقبض الغنائم وحملها، وأمر نفراً من أصحابه أن يعينوه فصلّى العصر ببدر ثمّ راح فمرّ بالأثيل قبل غروب الشمس فنزل به وبات، وبأصحابه جراح وليست بالكثيرة، وأمر ذكوان بن عبد قيس أن يحرس المسلمين حتّى كان آخر اللّيل فارتحل.

وفي تفسير القمّىّ في خبر طويل: وخرج أبوجهل من بين الصفّين وقال: اللّهمّ إن محمّـداً أقطعنا للرحم، وأتانا بما لا نعرفه فأحنه الغداة فأنزل الله على رسوله:( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم و إن تعودوا نعد ولن تغنى عنكم فئتكم شيئاُ ولو كثرت و إنّ الله مع المؤمنين ) .

ثمّ أخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كفّاً من حصى ورمى به في وجوه قريش وقال: شاهت الوجوه فبعث الله رياحاً تضرب في وجوه قريش فكانت الهزيمة فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللّهمّ لا يفلتنّ فرعون هذه الاُمّة أبوجهل بن هشام فقتل منهم سبعين، وأسر منهم سبعين.

وألتقى عمرو بن الجموح مع أبى جهل فضرب عمرو أباجهل على فخذه وضرب أبوجهل عمراً على يده فأبانها من العضد فتعلّقت بجلده فاتّكى عمرو على يده برجله ثمّ تراخى إلى

٢٩

السماء حتّى انقطعت الجلدة ورمى بيده.

وقال عبدالله بن مسعود: انتهيت إلى أبى جهل وهو يتشحّط بدمه فقلت: الحمد لله الّذى أخزاك فرفع رأسه فقال: إنّما أخزى الله عبداً، ابن امّ عبد لمن الدبرة ويلك؟ قلت: لله ولرسوله وإنّى قاتلك، ووضعت رجلى على عنقه فقال: ارتقيت مرتقى صعباً يا رويعى الغنم أما إنّه ليس شئ أشدّ من قتلك إيّـاى في هذا اليوم ألا تولّى قتلى رجل من المطّلبيّـين أو رجل من الأحلاف؟ فاقتلعت بيضة كانت على رأسه فقتلته وأخذت رأسه وجئت به إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقلت: يا رسول الله البشرى هذا رأس أبى جهل بن هشام فسجد لله شكراً.

وفي الإرشاد للمفيد ثمّ بارز اميرالمؤمنينعليه‌السلام العاص بن سعيد بن العاص بعد أن أحجم عنه من سواه فلم يلبث أن قتله، وبرز إليه حنظلة بن أبى سفيان فقتله، وبرز إليه بعده طعيمة بن عدىّ فقتله، وقتل بعده نوفل بن خويلد وكان من شياطين قريش، ولم يزل يقتل واحداً منهم بعد واحد حتّى أتى على شطر المقتولين منهم وكانوا سبعين رجلاً، تولّى كافّةُ من حضر بدراً من المسلمين مع ثلاثة آلاف من الملائكة المسوّمين قتل الشطر منهم، وتولّى أميرالمؤمنينعليه‌السلام قتل الشطر الآخر وحده.

وفي الإرشاد أيضاً: قد أثبتت رواة العامة والخاصّـة معاً أسماء الّذين تولّى اميرالمؤمنينعليه‌السلام قتلهم ببدرمن المشركين على اتّفاق فيما نقلوه من ذلك واصطلاح فكان ممّن سمّوه: الوليد بن عتبة كما قدّمنا وكان شجاعاً جريّاً وقاحاً فتّاكاً تهابه الرجال، والعاص بن سعيد وكان هولاً عظيماً تهابه الأبطال، وهو الّذى حاد عنه عمر بن الخطّاب وقصّته فيما ذكرناه مشهورة نحن نبيّنها فيما نورده، وطعيمة بن عدّى بن نوفل وكان من رؤوس أهل الضلال، ونوفل بن خويلد وكان من أشدّ المشركين عداوة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانت قريش تقدّمه وتعظّمه وتطيعه، وهو الّذى قرن أبابكر وطلحة قبل الهجرة بمكّة وأوثقهما بحبل وعذّبهما يوماً إلى الليل حتّى سئل في أمرهما، ولمّا عرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حضوره بدراً سأل الله أن يكفيه أمره فقال: اللّهمّ اكفني نوفل بن خويلد فقتله اميرالمؤمنينعليه‌السلام .

٣٠

وزمعة بن الأسود(١) ، والحارث بن زمعة، والنضر بن الحارث بن عبد الدار، وعمير بن عثمان بن كعب بن تيم عمّ طلحة بن عبيد الله، وعثمان ومالك ابنا عبيد الله أخوا طلحة بن عبيد الله، ومسعود بن أبى اُميّـة بن المغيرة، وقيس بن الفاكه بن المغيرة وحذيفة بن أبى حذيفة بن المغيرة، و [أبو] قيس(٢) بن الوليد بن المغيرة، وحنظلة بن أبى سفيان، وعمرو بن مخزوم، وأبو منذر بن أبى رفاعة، ومنبّه بن الحجّاج السهمىّ، والعاص بن منبّه، وعلقمة بن كلدة، وأبو العاص بن قيس بن عدىّ ومعاوية بن المغيرة بن أبى العاص، ولوذان بن ربيعة، وعبدالله بن المنذر بن أبى رفاعة، ومسعود بن اُميّة بن المغيرة، وحاجب بن السائب بن عويمر، وأوس بن المغيرة بن لوذان، وزيد بن مليص، وعاصم بن أبى عوف، وسعيد بن وهب حليف بنى عامر، ومعاوية بن [عامر بن] عبد القيس، وعبدالله بن جميل بن زهير بن الحارث بن أسد، والسائب بن مالك، وأبوالحكم بن الأخنس، وهشام بن أبى اُميّة بن المغيرة.

فذلك خمسة وثلاثون رجلاً سوى من اختلف فيه أو شرك اميرالمؤمنينعليه‌السلام فيه غيره وهم اكثر من شطر المقتولين ببدر على ما قدّمناه.

أقول: وذكر غيره كما في المجمع أنّه قتل يوم بدر سبعة وعشرين رجلاً، وذكر الواقديّ: أنّ الّذى اتّفق عليه قول النقلة والرّواة من قتلاه تسعة رجال والباقى مختلف فيه.

لكنّ البحث العميق عن القصّة وما يحتفّ بها من أشعارهم والحوادث المختلفة الّتى حدثت بعدها تسئ الظنّ بهذا الاختلاف، وقد نقل عن محمّـد بن اسحاق أنّ أكثر قتلى المشركين يوم بدر كان لعليّعليه‌السلام .

وقد عدّ الواقديّ فيما ذكره ابن أبى الحديد من قتلى المشركين في وقعة بدر اثنين وخمسين رجلاً ونسب قتل أربعة وعشرين منهم إليهعليه‌السلام ممّن انفرد بقتله أو شارك غيره.

ومن شعر اسيد بن أبى أياس يحرّض مشركي قريش على عليّعليه‌السلام على ما في الإرشاد والمناقب قوله:

في كلّ مجمع غاية أخزاكم

جزعٌ أبرّ على المذاكى القرّح

____________________

(١) في بعض النسخ: وعقيل بن الاسود وفيه فذلك ستة وثلاثون.

(٢) هو أخو خالد بن الوليد، والثلاثة الّذين قتلوا أبناء اعمامه.

٣١

لله درّ كم أ لمّـا تـنـكـروا

قـد ينكر الحرّ الكريم ويستـحى

هذا ابـن فاطـمة الّذى أفناكم

ذبحـاً وقتـلة قعصـة لم تذبـح

اعطـوه خرجاً واتّقوا تضريبه

فعـل الذليـل وبيعــة لم تربح

أين الكهـول و أين كلّ دعامة

في المعظلات وأين زين الأبطح

أفناهم قعصاً و ضربـاً يفترى

بالسيـف يعـمل حـدّه لم يصفح

وفي الإرشاد روى شعبة عن أبى إسحاق عن حارث بن مضرّب قال: سمعت علىّ بن أبى طالبعليه‌السلام يقول: لقد حضرنا بدراً وما فينا فارس غير المقداد بن الأسود، ولقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلّا من نام غير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه كان منتصباً في أصل شجرة يصلّى فيها ويدعو حتّى الصباح.

أقول: والروايات في قصّة بدر كثيرة جدّاً وقد اقتصرنا منها على ما يتّضح به فهم مضامين الآيات، ومن الأخبار ما سيأتي إن شاء الله في تضاعيف البحث عن الآيات التالية المشيرة الى بعض أطراف القصّة.

( فهرس أسماء شهداء بدر. رض)

في البحار عن الواقديّ قال: حدّثنى عبدالله بن جعفر قال: سألت الزّهريّ كم استشهد من المسلمين ببدر؟ قال: أربعة عشر: ستّة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار.

قال: فمن بنى المطّلب بن عبد مناف، عبيدة بن الحارث قتله عتبه وفى غير رواية الواقديّ قتله شيبة فدفنه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصفراء، ومن بنى زهرة عمير بن ابى وقّـاص قتله عمرو بن عبدودّ فارس الأحزاب، وعمير بن عبدودّ ذو الشمالين حليف لبنى زهرة قتله أبو اُسامة الجشمى، ومن بنى عدىّ عاقل بن أبى البكير حليف لهم من بنى سعد قتله مالك بن زهير، ومهجع مولى عمر بن الخطّاب قتله عامر بن الحضرميّ ويقال: إنّ مهجعاً أوّل من قتل من المهاجرين، ومن بنى الحارث بن فهر صفوان بن بيضاء قتله طعيمة بن عدىّ.

ومن الأنصار ثمّ من بنى عمرو بن عوف، مبشّر بن عبد المنذر قتله أبو ثور، وسعد بن

٣٢

خيثمة قتله عمرو بن عبدودّ، ويقال: طعيمة بن عدىّ، ومن بنى عدىّ بن النجّار حارثة بن سراقة رماه حنان بن العرقة بسهم فأصاب حنجرته فقتله، ومن بنى مالك بن النجّار عوف ومعوذ ابنا عفراء قتلهما أبو جهل، ومن بنى سلمة عمير بن الحمام بن الجموح قتله خالد بن الأعلم، ويقال: إنّه أوّل قتيل قتل من الأنصار وقد روى: أنّ أوّل قتيل منهم حارثة بن سراقة، ومن بنى زريق رافع بن المعلّى قتله عكرمة بن أبى جهل، ومن بنى الحارث بن الخزرج يزيد بن الحارث قتله نوفل بن معاوية فهؤلاء الثمانية من الأنصار.

وروى عن ابن عبّـاس: أنّ أنسة مولى النبيّ (صلّى الله عليه و آله و سلّم ) قتل ببدر، وروى: أنّ معاذ بن ماعص جرح ببدر فمات من جراحته بالمدينة، وابن [ أنّ ظ ] عبيد بن السكن جرح فاشتكى جرحه فمات منه.

٣٣

( سورة الانفال آيه ١٥ - ٢٩)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلّوهُمُ الْأَدْبَارَ ( ١٥ ) وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلّا مُتَحَرّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إِلى‏ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ١٦ ) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنّ اللّهَ رَمَى‏ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَناً إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ١٧ ) ذلِكُمْ وَأَنّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ( ١٨ ) إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ( ١٩ ) يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ( ٢٠ ) وَلاَ تَكُونُوا كَالّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَيَسْمَعُونَ ( ٢١ ) إِنّ شَرّ الدّوَابّ عِندَ اللّهِ الصّمّ الْبُكْمُ الّذِينَ لاَيَعْقِلُونَ ( ٢٢ ) وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ( ٢٣ ) يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للّهِ‏ِ وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( ٢٤ ) وَاتّقُوا فِتْنَةً لاَتُصِيبَنّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصّةً وَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( ٢٥ ) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطّفَكُمُ النّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِنَ الطّيّبَاتِ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ٢٦ ) يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَتَخُونُوا اللّهَ وَالرّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٢٧ ) وَاعْلَمُوا أَنّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( ٢٨ ) يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِن تَتّقُوا اللّهَ يَجْعَل لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( ٢٩ )

٣٤

( بيان)

أوامرٌ ونواه متعلّقة بالجهاد الإسلاميّ ممّا يناسب سوق القصّة، وحثّ على تقوى الله وإنذار وتخويف من مخالفة الله ورسوله والتعرّض لسخطه سبحانه، وفيها إشارة إلى بعض ما جرى في وقعة بدر من منن الله وأياديه على المؤمنين.

قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا إذا لقيتم الّذين كفروا زحفاً فلا تولّوهم الأدبار ) اللّقاء مصدر لقى يلقى من المجرّد ولاقى. يلاقى من المزيد فيه، قال الراغب في مفردات القرآن: اللقاء مقابلة الشئ ومصادفته معاً، وقد يعبّر به عن كلّ واحد منهما يقال: لقيه يلقاه لقاءً ولُـقيّـاً ولُـقية، ويقال ذلك في الإدراك بالحسّ وبالبصر وبالبصيرة قال: لقد كنتم تمنّون الموت من قبل أن تلقوه، وقال: لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً، وملاقاة الله عبارة عن القيامة وعن المصير إليه قال: واعلموا أنّكم ملاقوه، وقال: الّذين يظنّون أنّهم ملاقوا الله، واللّقاء الملاقاة قال: وقال الّذين لا يرجون لقاءنا، وقال: إلى ربّك كدحاً فملاقيه. انتهى.

وقال في المجمع: اللقاء الاجتماع على وجه المقاربة لأنّ الاجتماع قد يكون على غير وجه المقاربة فلا يكون لقاء كاجتماع الأعراض في المحلّ الواحد. انتهى.

وقال فيه: الزحف الدنوّ قليلاً قليلاً، والتزاحف التدانى يقال: زحف يزحف زحفاً وأزحفت للقوم إذا دنوت لقتالهم وثبتّ لهم. قال اللّيث: الزحف جماعة يزحفون إلى عدوّ لهم بمرّة وجمعه زحوف. انتهى.

وتولية الأعداء الأدبار جعلهم يلونها وهو استدبار العدوّ واستقبال جهة الهزيمة.

وخطاب الآية عامّ غير خاصّ بوقت دون وقت ولا غزوة دون غزوة فلا وجه لتخصيصها بغزوة بدر وقصر حرمة الفرار من الزحف بها كما يحكى عن بعض المفسّرين. على أنّك عرفت أنّ ظاهر سياق الآيات أنّها نزلت بعد غزوة بدر لا يومها، وأنّ الآيات ذيل ما في صدر السورة من قوله:( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ) الآية، وللكلام تتمّة ستوافيك في البحث الروائيّ إن شاء الله تعالى.

٣٥

قوله تعالى: ( ومن يولّهم يومئذ دبره إلّا متحرّفاً لقتال أو متحيّـزاً إلى فئة ) إلى آخر الآية. التحرّف: الزوال عن جهة الاستواء إلى جهة الحرف وهو طرف الشئ وهو أن ينحرف وينعطف المقاتل من جهة إلى جهة اُخرى ليتمكّن من عدوّه ويبادر إلى إلقاء الكيد عليه، والتحيّـز هو أخذ الحيّـز وهو المكان، والفئة القطعة من جماعة الناس، والتحيّـز إلى فئة أن ينعطف المقاتل عن الانفراد بالعدوّ إلى فئة من قومه فيلحق بهم ويقاتل معهم.

والبواء الرجوع إلى مكان واستقرار فيه، ولذا قال الراغب: أصل البواء مساواة الاجزاء في المكان خلاف النبوّة الّذى هو منافاة الأجزاء. انتهى فمعنى قوله: باء بغضب من الله أي رجع ومعه غضب من الله.

فمعنى الآيتين: يا أيّها الّذين آمنوا إذا لقيتم الّذين كفروا لقاء زحف أو زاحفين للقتال فلا تفرّوا منهم ومن يفرّ منهم يومئذ أي وقتئذ فقد رجع ومعه غضب من الله ومأواه جهنّم وبئس المصير إلّا أن يكون فراره للتحرّف لقتال أو التحيّـز إلى فئة فلا بأس به.

قوله تعالى: ( فلم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى ) إلى آخر الآية، التدبّر في السياق لا يدع شكّاً في أنّ الآية تشير إلى وقعة بدر وما صنعه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من رميهم بكفّ من الحصا، والمؤمنون بوضع السيف فيهم وقتلهم القتل الذريع، وذيل الآية أعنى قوله:( وليبلى المؤمنين منه بلاءً حسناً ) يدلّ على أنّ الكلام جار مجرى الامتنان منه تعالى، وقد أثبت تعالى عين ما نفاه في جملة واحدة أعنى قوله:( وما رميت إذ رميت ) .

فمن جميع هذه الشواهد يتحصّل أنّ المراد بقوله:( فلم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى ) نفى أن تكون وقعة بدر وما ظهر فيها من استئصال المشركين والظهور عليهم والظفر بهم جارية على مجرى العادة والمعروف من نواميس الطبيعة، وكيف يسع لقوم هم شرذمة قليلون ما فيهم على ما روى إلّا فرس أو فرسان وبضعة أدرع وبضعة سيوف، أن يستأصلوا جيشاً مجهّزاً بالأفراس والأسلحة والرجال والزاد والراحلة، هم أضعافهم عدّة ولا يقاسون بهم قوّة وشدّة، وأسباب الغلبة عندهم، وعوامل

٣٦

البأس معهم، والموقف المناسب للتقدّم لهم.

إلّا أنّ الله سبحانه بما أنزل من الملائكة ثبّت أقدام المؤمنين وأرعب قلوب المشركين، وألقى الهزيمة بما رماه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الحصاة عليهم فشملهم المؤمنين قتلاً وأسراً فبطل بذلك كيدهم وخمدت أنفاسهم وسكنت أجراسهم.

فبالحريّ أن ينسب ما وقع عليهم من القتل بأيدى المؤمنين والرمى الّذى شتّت شملهم وألقى الهزيمة فيهم إليه سبحانه دون المؤمنين.

فما في الآية من النفى جار مجرى الدعوى بنوع من العناية، بالنظر إلى استناد القتل بأطرافها إلى سبب إلهىّ غير عادىّ، ولا ينافى ذلك استنادها بما وقع فيها من الوقائع إلى أسبابها القريبة المعهودة في الطبيعة بأن يعدّ المؤمنون قاتلين لمن قتلوا منهم، والنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رامياً لما رماه من الحصاة.

وقوله:( وليبلى المؤمنين منه بلاءً حسناً ) الظاهر أنّ ضمير( منه ) راجع إلى الله تعالى، والجملة لبيان الغاية وهى معطوفة على مقدّر محذوف، والتقدير: إنّما فعل الله ما فعل من قتلهم ورميهم لمصالح عظيمة عنده، وليبلى المؤمنين ويمتحنهم بلاءً وامتحاناً حسناً أو لينعم عليهم بنعمة حسنة، وهو إفناء خصمهم وإعلاء كلمة التوحيد بهم وإغناؤهم بما غنموا من الغنائم.

وقوله:( إنّ الله سميع عليم ) تعليل لقوله:( وليبلى المؤمنين ) أي إنّه تعالى يبليهم لأنّه سميع باستغاثتهم عليم بحالهم فيبليهم منه بلاءً حسناً.

والتفريع الّذى في صدر الآية:( فلم تقتلوهم ) الخ متعلّق بما يتضمّنه الآيات السابقة:( إذ تستغيثون ربّكم ) إلى آخرالآيات من المعنى، فإنّها تعدّ منن الله عليهم من إنزال الملائكة وإمدادهم بهم وتغشيه النعاس إيّـاهم وإمطار السماء عليهم وما اُوحى إلى الملائكة من تأييدهم وتثبيت أقدامهم وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، فلمّا بلغ الكلام هذا المبلغ فرّع عليه قوله:( فلم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى ) .

وعلى هذا فقوله:( يا أيّها الّذين آمنوا إذ القيتم - إلى قوله -و بئس المصير ) معترضة

٣٧

متعلّقة بقوله:( فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كلّ بنان ) أو بمعناه المفهوم من الجمل المسرودة، وقوله:( فلم تقتلوهم ) الخ متّصل بما قبله بحسب النظم.

وربّما يذكر في نظم الآية وجهان آخران:

أحدهما: أنّ الله سبحانه لمّا أمرهم بالقتل في الآية المتقدّمة ذكر عقيبها أنّ ما كان من الفتح يوم بدر وقهر المشركين إنّما كان بنصرته ومعونته تذكيراً للنعمة. ذكره أبو مسلم.

والثانى: أنّهم لمّا اُمروا بالقتال ثمّ كان بعضهم يقول: أنا قتلت فلاناً وأنا فعلت كذا نزلت الآية على وجه التنبيه لهم لئلّا يعجبوا بأعمالهم. وربّما قيل: إنّ الفاء في قوله( فلم تقتلوهم ) لمجرّد ربط الجمل بعضها ببعض. والوجه ما قدّمناه.

قوله تعالى: ( ذلكم وأنّ الله موهن كيد الكافرين ) قال في المجمع:( ذلكم ) موضعه رفع، وكذلك( أنّ الله ) في موضع رفع، والتقدير: الأمر ذلكم والأمر أنّ الله موهن، وكذلك الوجه فيما تقدّم من قوله:( ذلكم فذوقوه وأنّ للكافرين عذاب النار ) ، ومن قال: إنّ( ذلكم ) مبتدء و( فذوقوه ) خبره فقد أخطأ لأنّ ما بعد الفاء لا يكون خبراً لمبتدء، ولا يجوز: زيد فمنطلق، ولا: زيد فاضربه إلّا أن تضمر( هذا ) تريد: هذا زيد فاضربه. انتهى. فمعنى الآية: الأمر ذلكم الّذي ذكرناه والأمر أنّ الله موهن كيد الكافرين.

قوله تعالى: ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) إلى آخر الآية. ظاهر الآية بما تشتمل عليه من الجمل المسرودة كقوله:( وإن تنتهوا فهو خير لكم ) وقوله:( وإن تعودوا نعد ) الخ ان تكون الخطاب فيه للمشركين دون المؤمنين باشتمال الكلام على الالتفات للتهكّم، وهو المناسب لقوله في الآية السابقة:( وأنّ الله موهن كيد الكافرين ) .

فالمعنى: إن طلبتم الفتح وسألتم الله أيّها المشركون أن يفتح بينكم وبين المؤمنين فقد جاءكم الفتح بما أظهر الله من الحقّ يوم بدر فكانت الدائرة للمؤمنين عليكم، وإن تنتهوا عن المكيدة على الله ورسوله فهو خير لكم وإن تعودوا إلى مثل ما كدتم نعد إلى مثل ما أوهنّا به كيدكم، ولن تغنى عنكم جماعتكم شيئاً ولو كثرت كما لم تغن في هذه المرّة وإنّ الله مع المؤمنين ولن يغلب من هو معه.

٣٨

وبهذا يتأيّد ما ورد أنّ أباجهل قال يوم بدر حين اصطفّ الفريقان أو حين التقى الفئتان: اللّهمّ إنّ محمّـداً أقطعنا للرحم وأتانا بما لا نعرف فانصر عليه، وفى بعض الروايات - وهو الأنسب - كما في المجمع عن أبى حمزة : قال أبوجهل: اللّهمّ ربّنا ديننا القديم ودين محمّـد الحديث فأىّ الدينين كان أحبّ إليك وأرضى عندك فانصر أهله اليوم.

وذكر بعضهم: أنّ الخطاب في الآية للمؤمنين، ووجّهوا مضامين جملها بما لا يرتضيه الذوق السليم، ولا جدوى للإطالة بذكرها والمناقشة فيها فمن أراد ذلك فعليه بالمطوّلات.

قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولّوا عنه وأنتم تسمعون ) الضمير على ما يفيده السياق راجع الى الرسول (صلى الله عليه وآله و سلّم )، والمعنى: ولا تولّوا عن الرسول وأنتم تسمعون ما يلقيه اليكم من الدعوة الحقّة وما يأمركم به وينهاكم عنه ممّا فيه صلاح دينكم ودنياكم. ومصبّ الكلام أوامره الحربيّـة وإن كان لفظه أعمّ.

قوله تعالى: ( ولا تكونوا كالّذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ) المعنى ظاهر وفيه نوع تعريض للمشركين إذ قالوا: سمعنا، وهو لا يسمعون، وقد حكى الله عنهم ذلك إذ قال بعد عدّة آيات:( وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ) الأنفال: ٣١، لكنّهم كذّبوا ولم يسمعوا ولو سمعوا لاستجابوا كما قال الله تعالى:( ولهم آذان لا يسمعون بها ) الأعراف: ١٧٩، وقال تعالى حكاية عن أصحاب السعير :( وقالوا لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السعير ) الملك: ١٠ فالمراد بالسمع في الآية الاُولى تلقّى الكلام الحقّ الّذى هو صوت من طريق الاُذن، وفى الآية الثانية الانقياد لما يتضمّنه الكلام الحقّ المسموع.

والآيتان - كما ترى - خطاب متعلّق بالمؤمنين متّصل نوع اتّصال بالآية السابقة عليهما وتعريض للمشركين، فهو تعالى لمّا التفت إلى المشركين فذمّهم وتهكّم عليهم بسؤالهم الفتح، وذكر لهم أنّ الغلبة دائماً لكلمة الإيمان على كلمة الكفر ولدعوة الحقّ على دعوة الباطل، التفت إلى حزبه وهم المؤمنون فأمرهم بالطاعة له ولرسوله، و

٣٩

حذّرهم عن التولّي عنه بعد استماع كلمة الحقّ، وأن يكونوا كاُولئك إذ قالوا: سمعنا وهم لا يسمعون.

ومن الممكن أن يكون في الآية إشارة الى عدّة من أهل مكّة آمنوا بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولمّا تخلّص قلوبهم من الشكّ خرجوا مع المشركين إلى بدر لحرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فابتلوا بما ابتلى به مشركوا قريش، فقد ورد في الخبر: أنّ فئة من قريش اسلموا بمكّة واحتبسهم آباؤهم فخرجوا مع قريش، يوم بدر، وهم قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلىّ بن اُميّة بن خلف، والعاص بن منبّه بن الحجّاج، والحارث بن زمعة، وقيس بن الفاكه بن المغيرة ولمّا رأوا قلّة المسلمين قالوا: مساكين هؤلاء غرّهم دينهم، وسيذكرهم الله بعد عدّة آيات بقوله:( وإذ يقول المنافقون والّذين في قلوبهم مرض غرّ هؤلاء دينهم ) الآية.

وربّما قيل: إنّ المراد بالّذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون هم أهل الكتاب من يهود قريظة والنضير. وهو بعيد.

قوله تعالى: ( أنّ شرّ الدوابّ عند الله الصمّ البكم الّذين لا يعقلون ) إلى آخر الآيتين. تعريض وذمّ للّذين سبق ذكرهم من الكفّـار على ما يعطيه سياق الكلام وما اشتملت عليه الآية من الموصول والضمائر المستعملة في اُولى العقل، وعلى هذا فالظاهر أنّ اللّام في قوله:( الصمّ البكم ) للعهد الذكرىّ، ويؤول المعنى إلى أنّ شرّ جميع ما يدبّ على الأرض من أجناس الحيوان وأنواعها هؤلاء الصمّ البكم الّذين لا يعقلون، وإنّما لم يعقلوا لأنّه لا طريق لهم إلى تلقّى الحقّ لفقدهم السمع والنطق فلا يسمعون ولا ينطقون.

ثمّ ذكر تعالى أنّ الله إنّما ابتلاهم بالصمم والبكمة فلا يسمعون كلمة الحقّ ولا ينطقون بكلمة الحقّ، وبالجملة حرمهم نعمة السمع والقبول، لأنّه تعالى لم يجد عندهم خيراً ولم يعلم به ولو كان لعلم، لكن لم يعلم فلم يوفّقهم للسمع والقبول، ولو أنّه تعالى رزقهم السّمع والحال هذه لم يثبت السّمع والقبول فيهم بل تولّوا عن الحقّ وهم معرضون.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444