الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 94157
تحميل: 6036


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 94157 / تحميل: 6036
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 9

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

على أنّ سياق الآية الكريمة أقرب إلى إفادة هذا الوجه الثاني منه إلى الوجه الأوّل، وخاصّـة بالنظر إلى قوله:( وإنّى جار لكم ) وقوله:( حتّى إذا تراءت الفئتان نكص على عقبيه ) وقوله:( إنّى أرى ما لا ترون ) الآية فإنّ إرجاع معنى قوله:( إنّى أرى ) الخ مثلاً إلى الخواطر النفسانيّـة بنوع من العناية الاستعاريّـة بعيد جدّاً.

قوله تعالى: ( إذ يقول المنافقون والّذين في قلوبهم مرض غرّ هؤلاء دينهم ) إلى آخر الآية، أي يقول المنافقون وهم الّذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، والّذين في قلوبهم مرض وهم الضعفاء في الإيمان ممّن لا يخلو نفسه من الشكّ والارتياب. يقولون - مشيرين إلى المؤمنين إشارة تحقير واستذلال -: غرّ هؤلاء دينهم إذ لو لا غرور دينهم لم يقدموا على هذه المهلكة الظاهرة، وهم شرذمة أذلّاء لا عدّة لهم ولاُعدّة، وقريش على ما بهم من العدّة والقوّة والشوكة.

قوله تعالى: ( ومن يتوكّل على الله فإنّ الله عزيز حكيم ) في مقام الجواب عن قولهم وإبانة غرورهم أنفسهم. وقوله:( فإنّ الله عزيز حكيم ) من وضع السبب موضع المسبّـب، والمعنى: وقد أخطأ هؤلاء المنافقون والّذين في قلوبهم مرض في قولهم فإنّ المؤمنين توكّلوا على الله ونسبوا حقيقة التأثير إليه وضمّوا أنفسهم إلى قوّته وحوله، ومن يتوكّل أمره على الله فإنّ الله يكفيه لأنّه عزيز ينصر من استنصره حكيم لا يخطأ في وضع كلّ أمر موضعه الّذى يليق به.

وفي الآية دليل على حضور جمع من المنافقين وضعفاء الإيمان ببدر حين تلاقى الفئتين.

أمّا المنافقون وهم الّذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر فلا معنى لكونهم بين المشركين فلم يكونوا إلّا بين المسلمين لكنّ الشأن في العامل الّذى اوجب منهم الثبات واليوم يوم شديد.

وأمّا الضعفاء الإيمان أو لشاكّون في حقّـيّـة الإسلام فمن الممكن أن يكونوا بين المومنين أو في فئة المشركين وقد قيل: إنّهم كانوا فئة من قريش أسلموا بمكّة واحتبسهم آباؤهم، واضطرّوا إلى الخروج مع المشركين إلى بدر حتّى إذا حضروها وشاهدوا ما

١٠١

عليه المسلمون من القلّة والذلّة قالوا: مساكين هؤلاء غرّهم دينهم، وسيجئ في البحث الروائيّ التالى إن شاء الله تعالى.

وعلى أيّ حال ينبغى إمعان النظر في البحث عمّا تفيده هذه الآية من حضور جمع من المنافقين والّذين في قلوبهم مرض يوم بدر عند القتال، واستخراج حقيقة السبب الّذى أوجب لهؤلاء المنافقين والضعفاء حضور هذه الغزوة، والوقوف في ذلك الموقف الصعب الهائل الّذى لا يساعد عليه الأسباب العاديّـة ولا يقف فيه إلّا رجال الحقيقة الّذين امتحن الله قلوبهم للإيمان. وأنّهم لماذا حضروها؟ وكيف ولماذا صبروا مع الصابرين من فئة الإسلام؟ ولعلّنا نوفّق لبعض البحث في ذلك فيما سيوافى من آيات سورة التوبة في شأن المنافقين والّذين في قلوبهم مرض إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( ولو ترى إذ يتوفّى الّذين كفروا الملائكة ) إلى تمام الآيتين. التوفّى أخذ الحقّ بتمامه، ويستعمل في كلامه تعالى كثيراً بمعنى قبض الروح، ونسبة قبض أرواحهم إلى الملائكة مع ما في بعض الآيات من نسبته إلى ملك الموت، وفي بعض آخر إلى الله سبحانه كقوله:( قل يتوفّاكم ملك الموت الّذى وكلّ بكم ) الم السجدة: ١١، وقوله:( الله يتوفّى الأنفس حين موتها ) الزمر: ٤٢ دليل على أنّ لملك الموت أعواناً يتولّون قبض الأرواح هم بمنزلة الأيدى العمّالة له يصدرون عن إذنه ويعملون عن أمره، كما أنّه يصدر عن إذن من الله ويعمل عن أمر منه، وبذلك يصحّ نسبة التوفّى إلى الملائكة الأعوان، وإلى ملك الموت، وإلى الله سبحانه.

وقوله:( يضربون وجوههم وأدبارهم ) ظاهره أنّهم يضربون مقاديم أبدانهم وخلاف ذلك فيكنّى به عن إحاطتهم واستيعاب جهاتهم بالضرب، وقيل: إنّ الأدبار كناية عن الأستاه فبالمناسبة يكون المراد بوجوههم مقدّم رؤوسهم، وضرب الوجوه والأدبار بهذا المعنى يراد به الإزراء والإذلال.

وقوله:( وذوقوا عذاب الحريق ) أي يقول لهم الملائكة: ذوقوا عذاب الحريق وهو النار.

وقوله:( ذلك بما قدّمت أيديكم ) تتمّة لقولهم المحكىّ أو إشاره إلى مجموع

١٠٢

ما يفعل بهم وما يقول لهم الملائكة، والمعنى إنّما نذيقكم عذاب الحريق بما قدّمت أيديكم أو: نضرب وجوهكم وأدباركم ونذيقكم عذاب الحريق بما قدّمت أيديكم.

وقوله:( وأنّ الله ليس بظلّام للعبيد ) معطوف على موضع قوله( ما قدّمت ) أي وذلك بأنّ الله ليس بظلّام للعبيد أي لا يظلم أحداً من عبيده فإنّه تعالى على صراط مستقيم لا تخلّف ولا اختلاف في فعله فلو ظلم أحداً لظلم كلّ أحد، ولو كان ظالماً لكان ظلّاماً للعبيد فافهم ذلك.

وسياق الآيات يشهد على أنّ المراد بهؤلاء الّذين يصفهم الله سبحانه بأنّ الملائكة يتوفّـاهم ويعذّبهم هم المقتولون ببدر من مشركي قريش.

قوله تعالى: ( كدأب آل فرعون والّذين من قبلهم كفروا بآيات الله ) إلى آخر الآية. الدأب والديدن: العادة وهى العمل الّذى يدوم ويجرى عليه الإنسان، والطريقة الّتى يسلكها والمعنى كفر هؤلاء يشبه كفر آل فرعون والّذين من قبلهم من الاُمم الخالية الكافرة كفروا بآيات الله وأذنبوا بذلك فأخذهم الله بذنوبهم إنّ الله قوىّ لا يضعف عن أخذهم شديد العقاب إذا أخذ.

قوله تعالى: ( ذلك بأنّ الله لم يك مغيّـراً نعمة أنعمها على قوم حتّى يغيّـروا ما بأنفسهم ) الخ أي إنّ العقاب الّذى يعاقب به الله سبحانه إنّما يعقّب نعمة إلهيّـة سابقة بسلبها واستخلافها، ولا تزول نعمة من النعم الإلهيّـة ولا تتبدّل نقمة وعقاباً إلّا مع تبدّل محلّه وهو النفوس الإنسانيّـة، فالنعمة الّتى أنعم بها على قوم إنّما اُفيضت عليهم لمّا استعدّوا لها في أنفسهم، ولا يسلبونها ولا تتبدّل بهم نقمة وعقاباً إلّا لتغييرهم ما بأنفسهم من الاستعداد وملاك الإفاضة وتلبّسهم باستعداد العقاب.

وهذا ضابط كلّىّ في تبدّل النعمة إلى النقمة والعقاب، وأجمع منه قوله تعالى:( إنّ الله لا يغيّـر ما بقوم حتّى يغيّـروا ما بأنفسهم ) الرعد: ١١ وإن كان ظاهره أظهر انطباقاً على تبدّل النعمة إلى النقمة.

وكيف كان فقوله:( ذلك بأنّ الله لم يك مغيّـراً ) الخ من قبيل التعليل بأمر عامّ وتطبيقه على مورده الخاصّ أي أخذ مشركي قريش بذنوبهم، وعقابهم بهذا العقاب الشديد، وتبديل نعمة الله عليهم عقاباً شديداً إنّما هو فرع من فروع سنّة جارية إلهيّـة هي أنّ الله لا يغيّـر

١٠٣

نعمة أنعمها على قوم حتّى يغيّـروا ما بأنفسهم.

وقوله:( وأنّ الله سميع عليم ) تعليل آخر بعد التعليل بقوله:( ذلك بأنّ الله لم يك مغيّـراً ) الخ وظاهره - بمقتضى إشعار السياق - أنّ المراد به: وذلك بأنّ الله سميع لدعواتكم عليم بحاجاتكم سمع استغاثتكم وعلم بحاجتكم فاستجاب لكم فعذّب أعداءكم الكافرين بآيات الله، ويحتمل أن يكون المراد: ذلك بأنّ الله سميع لأقوالهم عليم بأفعالهم فعذّبهم على ذلك، ويمكن الجمع بين المحتملين.

قوله تعالى: ( كدأب آل فرعون والّذين من قبلهم كذّبوا بآيات ربّهم فأهلكناهم بذنوبهم ) الخ كرّر التنظير السابق لمشابهة الفرض مع ما تقدّم فقوله:( كدأب آل فرعون ) الخ السابق تنظير لقوله:( ذلك بما قدّمت أيديكم وأنّ الله ليس بظلّام للعبيد ) كما أنّ قوله:( كدأب آل فرعون - إلى قوله -وكلّ كانوا ظالمين ) ثانياً تنظير لقوله:( ذلك بأنّ الله لم يك مغيّـراً نعمة ) الخ.

غير أنّ التنظير الثاني يشتمل على نوح من الالتفات في قوله:( فأهلكناهم بذنوبهم ) وقد وقع بحذائه في التنظير الأوّل:( فأخذهم الله بذنوبهم ) من غير التفات ولعلّ الوجه فيه أنّ التنظير الثاني لمّا كان مسبوقاً بإفادة أنّ الله هو المفيض بالنعم على عباده ولا يغيّـرها إلّا عن تغييرهم ما بأنفسهم، وهذا شأن الربّ بالنسبة إلى عبيده اقتضى ذلك أن يعدّ هؤلاء عبيداً غير جارين على صراط عبوديّـة ربّهم و لذلك غير بعض سياق التنظير فقال في الثاني:( كذّبوا بآيات ربّهم ) وقد كان بحذائه في الأوّل قوله:( كفروا بآيات الله ) ولذلك التفت ههنا من الغيبة إلى التكلّم مع الغير فقال:( فأهلكناهم بذنوبهم ) للدلالة على أنّه سبحانه هو ربّهم وهو مهلكهم، وقد أخذ المتكلّم مع الغير للدلالة على عظمة الشأن وجلالة المقام، وأنّ له وسائط يعملون بأمره ويجرون بمشيّـتة.

وقوله:( وأغرقنا آل فرعون ) أظهر المفعول ولم يقل: وأغرقناهم ليؤمن الالتباس برجوع الضمير إلى آل فرعون والّذين من قبلهم جميعاً.

وقوله تعالى:( وكلّ كانوا ظالمين ) أي جميع هؤلاء الّذين أخذهم العذاب الإلهىّ من كفّـار قريش وآل فرعون والّذين من قبلهم كانوا ظالمين في جنب الله.

١٠٤

وفيه بيان أنّ الله سبحانه لا يأخذ بعقابه الشديد أحداً، ولا يبدّل نعمته على أحد نقمة إلّا إذا كان ظالماً ظلماً يبدّل نعمة الله كفراً باياته فهو لا يعذّب بعذابه إلّا مستحقّه.

( بحث روائي)

في الكافي عن علىّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبى عمير عن الحسين بن عثمان عن سماعة قال: سألت أباالحسنعليه‌السلام عن الخمس فقال: في كلّ ما أفاد الناس من قليل أو كثير.

وفيه عن علىّ بن ابراهيم عن أبيه عن حمّـاد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح قال: الخمس في خمسة أشياء: من الغنائم والغوص ومن الكنوز ومن المعادن والملاحة يؤخذ من كلّ هذه الصنوف الخمس فيجعل لمن جعل الله له، ويقسم أربعة أخماس بين من قاتل عليه وولىّ ذلك.

ويقسّم بينهم الخمس على ستّة أسهم: سهم لله، وسهم لرسوله، وسهم لذى القربى وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل فسهم الله وسهم رسوله لاُولى الأمر من بعد رسول الله وراثة فله ثلاثة أسهم: سهمان وراثة، وسهم مقسوم له من الله فله نصف الخمس كلّاً، ونصف الخمس الثاني بين أهل بيتة: فسهم ليتاماهم، وسهم لمساكينهم، وسهم لأبناء سبيلهم يقسّم بينهم على الكتاب والسنّة ما يستغنون به في سنتهم فإن فضل منهم شئ فهو للوالى، وإن عجز أو نقص عن استغنائهم كان على الوالى أن ينفق من عنده ما يستغنون به، وإنّما صار عليه أن يمونهم لأنّ له ما فضل عنهم، وإنّما جعل الله هذا الخمس خاصّـة لهم دون مساكين الناس وأبناء سبيلهم عوضاً لهم عن صدقات الناس تنزيهاً من الله لقرابتهم من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكرامة من الله لهم من أوساخ الناس فجعل لهم خاصّـة من عنده وما يغنيهم به، أن يصيّرهم في موضع الذلّ والمسكنة، ولا بأس بصدقة بعضهم على بعض.

وهؤلاء الّذين جعل الله لهم الخمس هم قرابة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذين ذكرهم الله فقال:

١٠٥

( وأنذر عشيرتك الأقربين ) وهم بنو عبدالمطّلب أنفسهم الذكر منهم والاُنثى ليس فيهم من أهل بيوتات قريش ولا من العرب أحد، ولا فيهم ولا منهم في هذا الخمس من مواليهم، وقد تحلّ صدقات الناس لمواليهم، وهم والناس سواء.

ومن كانت اُمّه من بنى هاشم وأبوه من سائر قريش فإنّ الصدقات تحلّ له، وليس له من الخمس شئ لأنّ الله يقول،( ادعوهم لآبائهم ) .

وفي التهذيب بإسناده عن علىّ بن مهزيار قال: قال لى علىّ بن راشد: قلت له: أمرتنى بالقيام بأمرك وأخذ حقّك فأعلمت مواليك بذلك فقال لى بعضهم: وأىّ شئ حقّه؟ فلم أدر ما اُجيبه ! فقال: يجب عليهم الخمس فقلت: ففى أيّ شئ؟ فقال: في أمتعتهم وضياعهم قلت: والتاجر عليه والصانع بيده؟ فقال: ذلك إذا أمكنهم بعد مؤنتهم.

وفيه بإسناده عن زكريّـا بن مالك الجعفيّ عن أبى عبداللهعليه‌السلام أنّه سأل عن قول الله:( واعلموا أنّ ما غنمتم من شئ فأنّ لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ) فقال: خمس الله عزّوجلّ للإمام، وخمس الرسول للإمام، وخمس ذى القربى لقرابة الرسول للإمام، واليتامى يتامى آل الرسول، والمساكين منهم، وأبناء السبيل منهم فلا يخرج منهم إلى غيرهم.

وفيه بإسناده عن أحمد بن محمّـد بن أبى نصر عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: قال له ابراهيم بن أبى البلاد: وجب عليك زكاة؟ قال: لا ولكن يفضل ونعطى هكذا، وسئل عن قول الله عزوجل:( واعلموا أنّ ما غنمتم من شئ فأنّ لله خمسه وللرسول ولذي القربى ) فقيل له: فما كان لله فلمن هو؟ قال: للرسول، وما كان للرسول فهو للإمام. قيل: أفرأيت إن كان صنف أكثر من صنف، وصنف أقلّ من صنف؟ فقال: ذلك للإمام. قيل أفرأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف يصنع؟ قال: إنّما كان يعطى على ما يرى هو وكذلك الإمام.

أقول: والأخبار عن أئمّـه أهل البيتعليهم‌السلام متواترة في اختصاص الخمس بالله ورسوله والإمام من أهل بيته ويتامى قرابته ومساكينهم وأبناء سبيلهم لا يتعدّاهم إلى غيرهم، وأنّه يقسّم ستّة أسهم على ما مرّ في الروايات، وأنّه لا يختصّ بغنائم الحرب بل يعمّ

١٠٦

كلّ ما كان يسمّى غنيمة لغة من أرباح المكاسب والكنوز والغوص والمعادن والملاحة، وفي رواياتهم - كما تقدّم - أنّ ذلك موهبة من الله لأهل البيت بما حرّم عليهم الزكوات والصدقات.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن أبى شيبة وابن المنذر من وجه آخر عن ابن عبّـاس رضى الله عنهما: أنّ نجدة الحروريّ أرسل يسأله عن سهم ذى القربى الّذين ذكر الله فكتب إليه: إنّا كنّا نرى أنّاهم فأبى ذلك علينا قومنا، وقالوا: ويقول لمن تراه؟ فقال ابن عبّـاس رضى الله عنهما: هو لقربي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسّمه لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضاً رأيناه دون حقّنا فرددناه عليه وأبينا أن نقبله. وكان عرض عليهم أن يعين ناكحهم، وأن يقضى عن غارمهم، وأن يعطى فقيرهم، وأبى أن يزيدهم على ذلك.

أقول: وقوله في الرواية: (قالوا ويقول لمن تراه) معناه: قال الّذين أرسلهم نجدة الحروريّ لابن عبّـاس: ويقول نجدة لمن ترى الخمس أي يسألك عن فتواك فيمن يصرف إليه الخمس.

وقوله: هو لقربي رسول الله قسّمها لهم (الخ) ظاهره أنّه فسّر ذى القربى بأقرباء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وظاهر الروايات السابقة عن أئمّـة أهل البيتعليهم‌السلام أنّهم فسّروا ذى القربى بالإمام من أهل البيت، وظاهر الآية يؤيّد ذلك حيث عبّر بلفظ المفرد !

وفيه أخرج ابن المنذر عن عبد الرحمان بن أبى ليلى قال: سألت عليّـاًعليه‌السلام فقلت: يا أميرالمؤمنين أخبرني كيف كان صنع أبى بكر وعمر عنهما في الخمس نصيبكم؟ فقال: أمّا أبوبكر عنه فلم يكن في ولايته أخماس، وأمّا عمر عنه فلم يزل يدفعه إلىّ في كلّ خمس حتّى كان خمس السوس وجند نيسابور فقال وأنا عنده، هذا نصيبكم أهل البيت من الخمس وقد اُحلّ ببعض المسلمين واشتدّت حاجتهم. فقلت، نعم، فوثب العبّـاس بن عبدالمطّلب فقال، لا تعرّض في الّذى لنا. فقلت، ألسنا من أرفق المسلمين، وشفع اميرالمؤمنين، فقبضه فو الله ما قبضناه ولا قدرت عليه في ولاية عثمان .

١٠٧

ثمّ أنشأ علىّعليه‌السلام يحدّث فقال: إنّ الله حرّم الصدقة على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعوّضه سهماً من الخمس عوضاً ممّا حرّم عليه، وحرّمها على أهل بيته خاصّـة دون اُمّـته فضرب لهم مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سهماً عوضاً ممّا حرّم عليهم.

وفيه أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عبّـاس رضى الله عنهما قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رغبت لكم عن غسالة الأيدى لأنّ لكم في خمس الخمس مايغنيكم أو يكفيكم.

أقول: وهو مبنىّ على كون سهم أهل البيت هو مالذى القربى فحسب.

وفيه أخرج ابن أبى شيبة عن جبير بن مطعم رضى الله عنه قال: قسّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سهم ذى القربى على بنى هاشم وبنى المطّلب. قال: فمشيت أنا وعثمان بن عفّان حتّى دخلنا عليه فقلنا: يا رسول الله هؤلاء إخوانك من بنى هاشم لا ينكر فضلهم لمكانك الّذى وضعك الله به منهم. أ رأيت إخواننا من بنى المطّلب أعطيتهم دوننا، وإنّما نحن وهم بمنزلة واحدة في النسب؟ فقال: إنّهم لم يفارقونا في الجاهليّـة والإسلام.

وفيه أخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم رضى الله عنه قال: آل محمّـد الّذين أعطوا الخمس: آل علىّ وآل عبّـاس وآل جعفر وآل عقيل.

أقول: والروايات في هذا الباب كثيرة من طرق أهل السنّة وقد اختلفت الروايات الحاكية لعمل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرقهم بين ما مضمونه أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقسّم الخمس على أربعة أسهم وبين ما مضمونه التقسيم على خمسة أسهم.

غير أنّه يقرب من المسلّم فيها أنّ من سهام الخمس ما يختصّ بقرابة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم المعنيّـون بذى القربى في آية الخمس على خلاف ما في الروايات المرويّـة عن أئمّـه أهل البيتعليهم‌السلام .

وممّا يقرب من المسلّم فيها أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقسّمه بين المطّلبيّـين مادام حيّـاً، وأنّه انقطع عنهم على هذا الوصف في زمن الخلفاء الثلاث ثمّ جرى على ذلك الأمر بعدهم.

ومن المسلّم فيها أيضاً أنّ الخمس يختصّ بغنائم الحرب - على خلاف ما عليه

١٠٨

الروايات من طرق أئمّـه أهل البيتعليهم‌السلام - ولا يتعدّاها إلى كلّ ما يصدق عليه اسم الغنيمة لغة.

وما يتعلّق بالآية من محصّل البحث التفسيرىّ هو الّذى قدّمناه وهناك أبحاث اُخر كلاميّـة أو فقهيّـة خارجة عن غرضنا. وهناك بحث حقوقيّ اجتماعيّ في ما يؤثّره الخمس من الأثر في المجتمع الإسلاميّ سيوافيك في ضمن الكلام على الزكاة.

بقى الكلام فيما تتضمّنه الروايات أنّ الله سبحانه أراد بتشريع الخمس إكرام أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واُسرته وترفيعهم من أن يأخذوا أوساخ الناس في أموالهم، والظاهر أنّ ذلك مأخوذ من قوله تعالى في آية الزكاة خطاباً لنبيّـهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( خذ من أموالهم صدقة تطهّرهم وتزكّيهم بها وصلّ عليهم إنّ صلاتك سكن لهم ) التوبه: ١٠٣ فإنّ التطهير والتزكية إنّما يتعلّق بما لا يخلو من دنس ووسخ ونحوهما ولم يقع في آية الخمس ما يشعر بذلك.

وفي الدرّ المنثور أخرج عبد الرزاق وابن جرير عن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال: اُمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقتل في آى من القرآن فكان أوّل مشهد شهده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدراً، وكان رئيس المشركين يومئذ عتبة بن ربيعة بن عبد شمس فالتقوا يوم الجمعة ببدر لسبع أو ستّ عشرة ليلة مضت من رمضان، وأصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاث مأة وبضعة عشر رجلاً، والمشركون بين الألف والتسعمأة، وكان ذلك يوم الفرقان يوم فرّق الله بين الحقّ والباطل فكان أوّل قتيل قتل يومئذ مهجع مولى عمرو رجل من الأنصار، وهزم الله يومئذ المشركين فقتل منهم زيادة على سبعين رجلاً، وأسر منهم مثل ذلك.

وفيه أخرج ابن مردويه عن علىّ بن أبى طالبعليه‌السلام قال: كانت ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان في صبيحتها ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان.

أقول: وروى مثل ذلك عن ابن جرير عن الحسن بن علىّ وعن ابن أبى شيبة عن جعفر عن أبيه، وأيضاً عنه عن أبى بكر عن عبد الرحمان بن هشام، وعنه عن عامر بن ربيعة البدرىّ مثله لكن فيه: كان يوم بدر يوم الاثنين لسبع عشرة من رمضان.

وربّما اُطلق في بعض أخبار أئمّـة أهل البيتعليهم‌السلام على التسعة عشر من رمضان

١٠٩

يوم يلتقى الجمعان لما عدّ ليلته في أخبارهم من ليلة القدر، وهذا معنى آخر غير ما اُريد في الآية من( يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ) ففى تفسير العيّـاشيّ عن إسحاق بن عمّار عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: في تسعة عشر من شهر رمضان يلتقى الجمعان. قلت: ما معنى قوله: يلتقى الجمعان؟ قال: يجتمع فيها ما يريد من تقديمه وتأخيره وإرادته وقضائه.

وفي تفسير العيّـاشيّ عن محمّـد بن يحيى عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قوله:( والركب أسفل منكم ) قال: أبوسفيان وأصحابه.

وفي تفسير القمّىّ في قوله تعالى:( ليهلك من هلك عن بيّـنة ويحيى من حىّ عن بيّـنة ) الآية قال: قال: يعلم من بقى أنّ الله نصره.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى:( وإذ يريكموهم إذ التقيتم ) الآية أخرج ابن أبى شيبة وابن جرير وأبوالشيخ وابن مردويه عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: لقد قلّلوا في اعيننا يوم بدر حتّى قلت لرجل إلى جنبى: تراهم سبعين؟ قال: لا بل مأة.

وفيه في قوله تعالى:( يا أيّها الّذين آمنوا إذا لقيتم ) الخ أخرج الحاكم وصحّحه عن أبى موسى رضى الله عنه أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يكره الصوت عند القتال.

وفيه أخرج ابن أبى شيبة عن النعمان بن مقرن رضى الله عنه قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا كان عند القتال لم يقاتل أوّل النهار، وأخّره إلى أن تزول الشمس وتهبّ الرياح وتنزل النصر.

وفي تفسير البرهان في قوله تعالى:( وإذ زيّن لهم الشيطان أعمالهم ) الآية بإسناده عن يحيى بن الحسن بن فرات قال: حدّثنا أبوالمقدم ثعلبة بن زيد الأنصاري قال: سمعت جابر بن عبدالله بن حرام الأنصاريّ رحمه الله يقول: تمثّل إبليس في أربع صور:

تمثّل يوم بدر في صورة سراقة بن مالك بن جشعم المدلجىّ فقال لقريش: لا غالب لكم اليوم من الناس وإنّى جار لكم فلمّا تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إنّى برئ منكم.

وتصوّر يوم العقبة في صورة منبّه بن الحجّاج فنادى: إنّ محمّـداً والصباة معه عند العقبة فأدركوهم. قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأنصار: لا تخافوا فإنّ صوته لن يعدوه.

١١٠

وتصوّر في يوم اجتماع قريش في دار الندوة في صورة شيخ من أهل نجد وأشار عليهم في أمرهم فأنزل الله تعالى:( وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) .

وتصوّر في يوم قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صورة المغيرة بن شعبة فقال: أيّها الناس لا تجعلوا كسروانيّـة ولا قيصرانيّـة وسّعوها تتّسع فلا تردّوا إلى بنى هاشم فينظر بها الحبالى.

وفي المجمع قيل: إنّهم لمّا التقوا كان إبليس في صفّ المشركين أخذ بيده الحارث بن هشام فنكص على عقبيه فقال له الحارث بن هشام: يا سراقة إلى أين؟ أتخذلنا في هذه الحالة؟ فقال: إنّى أرى ما لا ترون، فقال: والله ما نرى إلّا جعاميس يثرب فدفع في صدر الحارث وانطلق وانهزم الناس.

فلمّا قدموا مكّة قالوا: هزم الناس سراقة فبلغ ذلك سراقة فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتّى بلغني هزيمتكم فقالوا: إنّك أتيتنا يوم كذا فحلف لهم فلمّا أسلموا علموا أنّ ذلك كان الشيطان. قال: وروى ذلك عن أبى جعفر وأبى عبداللهعليهم‌السلام .

أقول: وروى مثله ابن شهر آشوب عنهماعليهم‌السلام ، وفي معنى هاتين الروايتين روايات كثيرة من طرق أهل السنّة عن ابن عبّـاس وغيره.

وقد مرّ في البيان المتقدّم استبعاد بعض المفسّرين ذلك وتضعيفه ما ورد فيه من الروايات، وهى إنّما تثبت أمراً ممكناً غير مستحيل، والاستبعاد الخالى لا يبنى عليه في الأبحاث العلميّـة، والتمثّلات البرزخيّـة ليست بشاذّة نادرة فلا موجب للإصرار على النفى كما أنّ الإثبات كذلك غير أنّ ظاهر الآية أوفق للإثبات.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى:( وإذ زيّن لهم الشيطان ) الآيتين أخرج ابن أبى حاتم عن ابن إسحاق في قوله:( إذ يقول المنافقون والّذين في قلوبهم مرض ) قال: هم الفئة الّذين خرجوا مع قريش احتبسهم آباؤهم فخرجوا وهم على الارتياب فلمّا رأوا قلّة أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالوا: غرّ هؤلاء دينهم حين قدموا على ما قدموا عليه من قلّة عددهم وكثرة عدوّهم.

١١١

وهم فئة من قريش مسمّون خمسة: قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبوقيس بن الفاكه بن المغيرة المخزوميّـان، والحارث بن زمعة، وعلىّ بن اُميّـة بن خلف، والعاصي بن منبّـه.

أقول: وهذا يقبل الانطباق بوجه على قوله تعالى:( والّذين في قلوبهم مرض ) فحسب، وفي بعض التفاسير أنّ القائل:( غرّ هؤلاء دينهم ) هم المنافقون والّذين في قلوبهم مرض من أهل المدينة، ولم يخرجوا مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسياق الآية الظاهر في حضورهم وقولهم ذلك عند التقاء الفئتين يأبى ذلك.

وفي رواية أبى هريرة - على ما رواه في الدرّ المنثور عن الطبرانيّ في الأوسط عنه - ما لفظه، وقال عتبة بن ربيعة وناس معه من المشركين يوم بدر:( غرّ هؤلاء دينهم ) فأنزل الله:( إذ يقول المنافقون والّذين في قلوبهم مرض غرّ هؤلاء دينهم ) . والّذى ذكره لا ينطبق على الآية البتّـة فالقرآن الكريم لا يسمّى المشركين منافقين ولا الّذين في قلوبهم مرض.

وفي تفسير العيّـاشيّ عن أبى علىّ المحمودىّ عن أبيه رفعه في قول الله:( يضربون وجوههم وأدبارهم ) قال: إنّما أراد أستاههم. إنّ الله كريم يكنّى.

وفي تفسير الصافى عن الكافي عن الصادقعليه‌السلام : أنّ الله بعث نبيّـاً من أنبيائه إلى قومه، وأوحى إليه: أن قل لقومك: إنّه ليس من أهل قرية ولا ناس كانوا على طاعتي فأصابهم فيها سرّاء فتحوّلوا عمّا اُحبّ إلى ما أكره إلّا تحوّلت لهم عمّا يحبّون إلى ما يكرهون، وإنّه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على معصيتى فأصابهم فيها ضرّاء فتحوّلوا عمّا أكره إلى ما اُحبّ إلّا تحوّلت لهم عمّا يكرهون إلى ما يحبّون.

وفيه أيضاً عنهعليه‌السلام أنّه قال: كان أبى يقول: إنّ الله عزّوجلّ قضى قضاءً حتماً: لا ينعم على العبد بنعمه فيسلبها إيّـاه حتّى يحدّث العبد ذنباً يستحقّ بذلك النقمة.

١١٢

( سورة الانفال آيه ٥٥ - ٦٦)

إِنّ شَرّ الدّوَابّ عِنْدَ اللّهِ الّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لاَيُؤْمِنُونَ ( ٥٥ ) الّذِينَ عَاهَدتّ مِنْهُمْ ثُمّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلّ مَرّةٍ وَهُمْ لاَيَتّقُونَ ( ٥٦ ) فَإِمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِم مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ ( ٥٧ ) وَإِمّا تَخَافَنّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى‏ سَوَاءٍ إِنّ اللّهَ لاَيُحِبّ الْخَائِنِينَ ( ٥٨ ) وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنّهُمْ لاَيُعْجِزُونَ ( ٥٩ ) وَأَعِدّوا لَهُم مَااستَطَعْتُم مِن قُوّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَتَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْ‏ءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَتُظْلَمُونَ ( ٦٠ ) وَإِن جَنَحُوا لِلسّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ إِنّهُ هُوَ الْسّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٦١ )

١١٣

( بيان)

أحكام ودستورات في الحرب والسلم والمعاهدات ونقضها وغير ذلك، وصدر الآيات يقبل الانطباق على طوائف اليهود الّتى كانت في المدينة وحولها وقد كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاهدهم بعد هجرته إلى المدينة أن لا يضرّوه ولا يغدروا به ولا يعينوا عليه عدوّاً ويقرّوا على دينهم ويأمنوا في أنفسهم فنقضوا العهد نقضاً بعد نقض حتّى أمر الله سبحانه بقتالهم فآل أمرهم إلى ما آل إليه، وسيجئ بعض أخبارهم في البحث الروائيّ التالى إن شاء الله تعالى.

وعلى هذا فالآيات الأربع الاُول غير نازلة مع ما سبقها من الآيات ولا متّصلة بها كما يعطيه سياقها وأمّا السبع الباقية فليست بواضحة الاتّصال بما قبلها من الآيات الأربع ولا بما قبل ما قبلها.

قوله تعالى: ( إنّ شرّ الدوابّ عند الله الّذين كفروا فهم لا يؤمنون ) الكلام مسوق لبيان كون هؤلاء شرّ جميع الموجودات الحيّـة من غير شكّ في ذلك لمافى تقييد الحكم بقوله:( عند الله ) من الدلالة عليه فإنّ معناه الحكم، وما يحكم ويقضى به الله سبحانه لا يتطرّق إليه خطأ وقد قال تعالى:( لا يضلّ ربّى ولا ينسى ) طه: ٥٢.

وقد افتتح هذه القطعه من الكلام المتعلّق بهم بكونهم شرّ الدوابّ عنده لأنّ مغزى الكلام التحرّز منهم ودفعهم، ومن المغروز في الطباع أنّ الشرّ الّذى لا يرجى معه خير يجب دفعه بأىّ وسيلة صحّت وأمكنت فناسب ما سيأمره في حقّهم بقوله:( فإمّا تثقفنّـهم في الحرب فشرّد بهم من خلفهم ) الخ الافتتاح ببيان كونهم شرّ الدوابّ.

وعقّب قوله:( الّذين كفروا ) بقوله:( فهم لا يؤمنون ) مبتدأ بفاء التفريع أي إنّ من وصفهم الّذى يتفرّع على كفرهم أنّهم لا يؤمنون، ولا يتفرّع عدم الإيمان على الكفر إلّا إذا رسخ في النفس رسوخاً لا يرجى معه زواله فلا مطمع حينئذ في دخول الإيمان في قلب هذا شأنه لمكان المضادّة الّتى بين الكفر والإيمان.

ومن هنا يظهر أنّ المراد بقوله:( الّذين كفروا ) الّذين ثبتوا على الكفر، وعند هذا

١١٤

يرجع معنى هذه الآية إلى نظيرتها السابقة:( إنّ شرّ الدوابّ عند الله الصمّ البكم الّذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولّوا وهم معرضون ) الأنفال: ٢٣.

على أنّ الآيتين لمّا دلّـتا على حصر الشرّ عند الله في طائفة معيّـنة من الدوابّ كانت الآية الاُولى مع دلالتها على كون أهلها ممّن لا يؤمنون البتّـة دالّة على أنّ المراد بقوله في الآية الثانية:( الّذين كفروا فهم لا يؤمنون ) كونهم ثابتين على كفرهم لا يزولون عنه البته.

قوله تعالى: ( الّذين عاهدت منهم ثمّ ينقضون عهدهم في كلّ مرّة وهم لا يتّـقون ) بيان للّذين كفروا في الآية السابقة أو بدل منهم بدل البعض من الكلّ، ويتفرّع عليه أنّ( من ) في قوله:( منهم ) تبعيضيّـة والمعنى: الّذين عاهدتهم من بين الّذين كفروا، وأمّا احتمال أن يكون من زائدة والمعنى: الّذين عاهدتهم، أو بمعنى مع والمعنى: الّذين عاهدت معهم: فليس بشئ.

والمراد بكلّ مرّة مرّات المعاهدة أي ينقضون عهدهم في كلّ مرّة عاهدتهم وهم لا يتّـقون الله في نقض العهد أو لا يتّـقونكم ولا يخافون نقض عهدكم، وفيه دلالة على تكرّر النقض منهم.

قوله تعالى: ( فإمّا تثقفنّـهم في الحرب فشرّد بهم من خلفهم لعلّهم يذكرون ) قال في المجمع الثقف الظفر والإدراك بسرعة، والتشريد التفريق على اضطراب. انتهى، وقوله:( فإمّا تثقفنّهم ) أصله إن تثقفهم دخل( ما ) التأكيد على إن الشرطيّـة ليصحّح دخول نون التأكيد على الشرط والكلام مسوق للتأكيد في ضمن والشرط.

والمراد بتشريد من خلفهم بهم أن يفعل بهم من التنكيل والتشديد ما يعتبر به من خلفهم، ويستولى الرعب والخوف على قلوبهم فيتفرّقوا وينحلّ عقد عزيمتهم واتّحاد إرادتهم على قتال المؤمنين وإبطال كلمة الحقّ.

وعلى هذا فالمراد بقوله:( لعلّهم يذكرون ) رجاء أن يتذكّروا ما لنقض العهد والإفساد في الأرض والمحادّة مع كلمة الحقّ من التبعة السيّـئة والعاقبة المشؤومة فإنّ الله

١١٥

لا يهدى القوم الفاسقين وإنّ الله لا يهدى كيد الخائنين.

ففى الآية إيماء إلى الأمر بقتالهم ثمّ التشديد عليهم والتنكيل بهم عند الظفر بهم وثقفهم، وإيماء إلى أنّ وراءهم من حاله حالهم في نقض العهد وتربّص الدوائر على الحقّ وأهله.

قوله تعالى: ( وإمّا تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إنّ الله لا يحبّ الخائنين ) الخيانة - على ما في المجمع - نقض العهد فيما يؤتمن عليه، وهذا معنى الخيانة في العهود والمواثيق، وأمّا الخيانة بمعناها العامّ فهى نقض ما اُبرم من الحقّ في عهد أو أمانة ، والنبذ هو الإلقاء ومنه قوله:( فنبذوه وراء ظهورهم ) آل عمران: ١٨٧ والسواء بمعنى الاستواء والعدل.

وقوله:( وإمّا تخافنّ ) كقوله في الآية السابقة:( فإمّا تثقفنّهم ) ومعنى الخوف ظهور أمارات تدلّ على وقوع ما يجب التحرّز منه والحذر عنه وقوله:( إنّ الله لا يحبّ الخائنين ) تعليل لقوله:( فانبذ إليهم على سواء ) .

ومعنى الآية: وإن خفت من قوم بينك وبينهم عهد أن يخونوك وينقضوا عهدهم ولاحت آثار دالّة على ذلك فانبذ وألق إليهم عهدهم وأعلمهم إلغاء العهد لتكونوا أنتم وهم على استواء من نقض عهد أو تكون مستوياً على عدل فإنّ من العدل المعاملة بالمثل والسواء لأنّك إن قاتلتهم قبل إعلام إلغاء العهد كان ذلك منك خيانة والله لا يحبّ الخائنين.

وملخّص الآيتين دستوران إلهيّـان في قتال الّذين لا عهد لهم بالنقض أو بخوفه فإن كان أهل العهد من الكفّـار لا يثبتون على عهدهم بنقضه في كلّ مرّة فعلى ولىّ الأمر أن يقاتلهم ويشدّد عليهم، وإن كانوا بحيث يخاف من خيانتهم ولا وثوق بعهدهم فيُـعلمون إلغاء عهدهم ثمّ يقاتلون ولا يبدأ بقتالهم قبل الإعلام فإنّما ذلك خيانة، وأمّا إن كانوا عاهدوا ولم ينقضوا ولم يخف خيانتهم فمن الواجب حفظ عهدهم واحترام عقدهم وقد قال تعالى:( فأتمّوا إليهم عهدهم إلى مدّتهم ) التوبة: ٤. وقال:( أوفوا بالعقود ) المائدة: ١.

قوله تعالى: ( ولا يحسبنّ الّذين كفروا سبقوا إنّهم لا يعجزون ) القراءة المشهورة( تحسبنّ ) بتاء الخطاب، وهو خطاب للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تطييباً لنفسه وتقوية لقلبه كالخطاب

١١٦

الآتى بعد عدّة آيات:( يا أيّها النبيّ حسبك الله ومن اتّبعك من المؤمنين ) وكالخطاب الملقى بعده لتحريض المؤمنين:( يا أيّها النبيّ حرّض المؤمنين على القتال ) .

والسبق تقدّم الشى على طالب اللحوق به، والإعجاز إيجاد العجز، وقوله:( إنّهم لا يعجزون ) تعليل لقوله:( ولا تحسبنّ ) الخ، والمعنى: يا أيّها النبيّ لا تحسبنّ أنّ الّذين كفروا سبقونا فلا ندركهم، لأنّهم لا يعجزون الله وله القدرة على كلّ شئ.

قوله تعالى: ( وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ) . إلى آخر الآية الإعداد تهيئة الشئ للظفر بشئ آخر وإيجاد ما يحتاج إليه الشئ المطلوب في تحقّقه كإعداد الحطب والوقود للإيقاد وإعداد الإيقاد للطبخ، والقوّة كلّ ما يمكن معه عمل من الأعمال، وهى في الحرب كلّ ما يتمشّى به الحرب والدفاع من أنواع الأسلحة، والرجال المدرّبين والمعاهد الحربيّـة الّتى تقوم بمصلحة ذلك كلّه، والرباط مبالغة في الربط وهو أيسر من العقد يقال: ربطه يربطه ربطاً ورابطه يرابطه مرابطة ورباطاً فالكلّ بمعنى غير أنّ الرباط أبلغ من الربط، والخيل هو الفرس، والإرهاب قريب المعنى من التخويف.

وقوله:( وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ) أمر عامّ بتهيئة المؤمنين مبلغ استطاعتهم من القوى الحربيّـة ما يحتاجون إليه قبال ما لهم من الأعداء في الوجود أو في الفرض والاعتبار فإنّ المجتمع الإنسانيّ لا يخلو من التألّف من أفراد أو أقوام مختلفى الطباع ومتضادّى الأفكار لا ينعقد بينهم مجتمع على سنّة قيّـمة بنافعهم إلّا وهناك مجتمع آخر يضادّه في منافعه، ويخالفه في سنّته، ولا يعيشان معاً برهة من الدهر إلّا وينشب بينهما الخلاف ويؤدّى ذلك إلى التغلّب والقهر.

فالحروب المبيدة والاختلافات الداعية إليها ممّا لا مناص عنها في المجتمعات الإنسانيّـة والمجتمعات هي هذه المجتمعات، ويدلّ على ذلك ما نشاهده من تجهّز الإنسان في خلقه بقوى لا يستفاد منها إلّا للدفاع كالغضب والشدّة في الأبدان، والفكر العامل في القهر والغلبة، فمن الواجب الفطريّ على المجتمع الإسلاميّ أن يتجهّز دائماً بإعداد ما استطاع من قوّة ومن رباط الخيل بحسب ما يفترضه من عدوّ لمجتمعه الصالح.

والّذى اختاره الله للمجتمع الإسلاميّ بما أنزل عليهم من الدين الفطريّ الّذى

١١٧

هو الدين القيّـم هي الحكومة الإنسانيّـة الّتى يحفظ فيها حقوق كلّ فرد من أفراد مجتمعها، ويراعى فيها مصلحة الضعيف والقوىّ والغنىّ والفقير والحرّ والعبد والرجل والمرأة والفرد والجماعة والبعض والكلّ على حدّ سواء دون الحكومة الفرديّـة الاستبداديّـة الّتى لا تسير إلّا على ما تهواه نفس الفرد المتولّي لها الحاكم في دماء الناس وأعراضهم وأموالهم بما شاء وأراد، ولا الحكومة الأكثريّـة الّتى تطابق أهواء الجمهور من الناس وتبطل منافع آخرين وترضى الأكثرين (النصف + واحد) وتضطهد وتسخط الأقلّين (النصف - واحد).

ولعلّ هذا هو السرّ في قوله تعالى:( وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ) حيث وجه الخطاب إلى الناس بعد ما كان الخطاب في الآيات السابقة موجّهاً إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كقوله:( فإمّا تثقفنّهم في الحرب فشرّد بهم من خلفهم ) وقوله:( فانبذ إليهم على سواء ) وقوله:( ولا تحسبنّ الّذين كفروا سبقوا ) وكذا في الآيات التالية كقوله:( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ) إلى غير ذلك.

وذلك أنّ الحكومة الإسلاميّـة حكومة إنسانيّـة بمعنى مراعاة حقوق كلّ فرد وتعظيم إرادة البعض واحترام جانبه أيّ من كان من غير اختصاص الإرادة المؤثّرة بفرد واحد أو بأكثر الأفراد.

فالمنافع الّتى يهدّدها عدوّهم هي منافع كلّ فرد فعلى كلّ فرد أن يقوم بالذبّ عنها، ويعدّ ما استطاع من قوّة لحفظها من الضيعة، والإعداد وإن كان منه ما لا يقوم بأمره إلّا الحكومات بما لهامن الاستطاعة القويّـة والإمكانات البالغة لكن منها ما يقوم بالأفراد بفرديّـتهم كتعلّم العلوم الحربيّـة والتدرّب بفنونها فالتكليف تكليف الجميع.

وقوله تعالى:( ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) في مقام التعليل لقوله:( وأعدّوا لهم ) أي وأعدّوا لهم ذلك لترهبوا وتخوّفوا به عدوّ الله وعدوّكم، وفي عدّهم عدوّاً لله ولهم جميعاً بيان للواقع وتأكيد في التحريض.

وفي قوله:( وآخرين من دونهم لا تعلمونهم ) دلالة على أنّ المراد بالأوّلين هم الّذين يعرفهم المؤمنون بالعداوة لله ولهم، والمراد بهؤلاء الّذين لا يعلمهم المؤمنون - على ما يعطيه إطلاق اللفظ - كلّ من لا خبرة للمؤمنين بتهديده إيّـاهم بالعداوة من المنافقين الّذين هم

١١٨

في كسوة المؤمنين وصورتهم يصلّون ويصومون ويحجّون ويجاهدون ظاهراً، ومن غير المنافقين من الكفّـار الّذين لم يبتل بهم المؤمنون بعد.

والإرهاب بإعداد القوّة، وإن كان في نفسه من الأغراض الصحيحة الّتى تتفرّع عليها فوائد عظيمة ظاهرة غير أنّه ليس تمام الغرض المقصود من إعداد القوّة، ولذلك أردفه بقوله:( وما تنفقوا من شئ في سبيل الله يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون ) ليدلّ على جماع الغرض.

وذلك أنّ الغرض الحقيقيّ من إعداد القوى هو التمكّن من الدفع مبلغ الاستطاعة، وحفظ المجتمع من العدوّ الّذى يهدّده في نفوسه وأعراضه وأمواله، وباللفظ المناسب لغرض الدين إطفاء نائرة الفساد الّذى يبطل كلمة الحقّ ويهدم بنيان دين الفطرة الّذى به يعبدالله في أرضه ويقوم ملاك العدل في عباده.

وهذا أمر ينتفع به كلّ فرد من أفراد المجتمع الدينىّ فما أنفقه فرد أو جماعة في سبيل الله، وهو الجهاد لإحياء أمره فهو بعينه يرجع إلى نفسه وإن كان في صورة اُخرى فإن أنفق في سبيله مالاً أو جاهاً أو أيّ نعمة من هذا القبيل فهو من الإنفاق في سبيل الضروريّـات الّذى لا يلبث دون أن يرجع إليه نفسه نفعه وما استعقبه من نماء في الدنيا والآخرة، وإن أنفق في سبيله نفساً فهو الشهادة في سبيل الله الّتى تستتبع حياة باقية خالدة حقّة لمثلها فليعمل العاملون لا كما يغرّ به آحاد الفادين في سبيل المقاصد الدنيويّـة ببقاء الاسم وخلود الذكر وتمام الفخر فهؤلاء وإن تنبّـهوا اليوم لهذا التعليم الإسلاميّ، وأنّ المجتمع كنفس واحدة تشترك أعضاؤها فيما يعود إليها من نفع وضرر لكنّـهم خبطوا في مسيرهم واشتبه عليهم الأمر في تشخيص الكمال الإنسانيّ الّذى لأجله تندبه الفطرة وتدعوه إلى الاجتماع، وهو التمتّع من الحياة الدائمة، فحسبوه الحياة الدنيا الدائرة فضاق عليهم المسلك في أمثال التفدية بالنفس لأجل تمتّع الغير بلذائذ المادّة.

وبالجملة فإعداد القوّة إنّما هو لغرض الدفاع عن حقوق المجتمع الإسلاميّ ومنافعة الحيويّـة، والتظاهر بالقوّة المعدّة ينتج إرهاب العدوّ، وهو أيضاً من شعب الدفع ونوع معه، فقوله تعالى:( ترهبون به عدوّ الله ) الخ يذكر فائدة من فوائد الإعداد الراجعة

١١٩

إلى أفراد المجتمع، وقوله:( وما تنفقوا من شئ في سبيل الله يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون ) يذكر أنّ ما أنفقوه في سبيله لا يبطل ولا يفوت بل يرجع إليهم من غير أن يفوت عن ذى حقّ حقّه.

وهذا أعني قوله:( وما تنفقوا من شئ في سبيل الله ) الخ أعمّ فائدة من مثل قوله:( وما تنفقوا من خير يوفّ اليكم ) البقره: ٢٧٢ فإنّ الخير منصرف إلى المال فلا يشمل النفس بخلاف قوله ههنا:( وما تنفقوا من شئ ) .

قوله تعالى: ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكّل على الله إنّه هو السميع العليم ) في المجمع: الجنوح الميل، ومنه جناح الطائر لأنّه يميل به في أحد شقيّـه، ولا جناح عليه أي لا ميل إلى مأثم. انتهى ، والسلم بفتح السين وكسرها الصلح.

وقوله:( وتوكّل على الله ) من تتمّة الأمر بالجنوح فالجميع في معنى أمر واحد، والمعنى: وإن مالوا إلى الصلح والمسالمة فمل إليها وتوكّل في ذلك على الله ولا تخف من أن يضطهدك أسباب خفيّـة عنك على غفلة منك وعدم تهيّؤ لها فإنّ الله هو السميع العليم لا يغفله سبب ولا يعجزه مكر بل ينصرك ويكفيك وهذا هو الّذى يثبته قوله في الآية التالية( وإن يريدوا أن يخدعوك فإنّ حسبك الله ) .

وقد تقدّم فيما أسلفناه من معنى التوكّل على الله أنّه ليس اعتماداً عليه سبحانه بإلغاء الأسباب الظاهريّـة بل سلب الاعتماد القطعيّ على الأسباب الظاهريّـة لأنّ الّذى يبدو للإنسان منها بعض يسير منها دون جميعها، والسبب التامّ الّذى لا يتخلّف عن مسبّـبه هو الجميع الّذى يحمل إرادته سبحانه.

فالتوكّل هو توجيه الثقة والاعتماد إلى الله سبحانه الّذى بمشيّـته يدور رحى الأسباب عامّـة، ولا ينافيه أن يتوسّل المتوكّل بما يمكنه التوسّل به من الأسباب اللآئحة عليه من غير أن يلغى شيئاً منها فيركب مطيّـة الجهل.

قوله تعالى: ( وإن يريدوا أن يخدعوك فإنّ حسبك الله هو الّذى أيّدك بنصره وبالمؤمنين ) الآية متّصلة بما قبلها وهى بمنزلة دفع الدخل، وذلك أنّ الله سبحانه لمّا أمر نبيّـهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجنوح للسلم إن جنحوا له ولم يرض بالخديعة لأنّها من الخيانة في

١٢٠