الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 97212 / تحميل: 6781
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

كون الأسرى بأيديهم استعارة لتسلّطهم عليهم تمام التسلّط كالشئ يكون في يد الإنسان يقلّبه كيف يشاء.

وقوله:( إن يعلم الله في قلوبكم خيراً ) كناية عن الإيمان أو اتّباع الحقّ الّذى يلازمه الإيمان فإنّه تعالى يعدهم في آخر الآية بالمغفرة، ولا مغفرة مع شرك قال تعالى:( إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) النساء: ٤٨.

ومعنى الآية: يا أيّها النبيّ قل لمن في أيديكم من الأسرى الّذين تسلّطتم عليهم وأخذت منهم. الفداء: إن ثبت في قلوبكم الإيمان وعلم الله منكم ذلك - ولا يعلم إلّا ما ثبت وتحقّق - يؤتكم خيراً ممّا اُخذ منكم من الفداء ويغفر لكم والله غفور رحيم.

قوله تعالى: ( وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم ) الخ أمكنه منه أي أقدره عليه، وإنّما قال أوّلاً:( خيانتك ) ثمّ قال:( خانوا الله ) لأنّهم أرادوا بالفدية أن يجمعوا الشمل ثانياُ ويعودوا إلى محاربتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا خيانتهم لله من قبل فهى كفرهم وإصرارهم على أن يطفؤوا نور الله وكيدهم ومكرهم.

ومعنى الآية: إن آمنوا بالله وثبت الإيمان في قلوبهم آتاهم الله خيراً ممّا أخذ منهم وغفر لهم، وإن أرادوا خيانتك والعود إلى ما كانوا عليه من العناد والفساد فإنّهم خانوا الله من قبل فأمكنك منهم وأقدرك عليهم وهو قادر على أن يفعل بهم ذلك ثانياً، والله عليم بخيانتهم لو خانوا حكيم في إمكانك منهم.

( بحث روائي)

في المجمع في قوله تعالى:( ما كان لنبىّ أن يكون له أسرى ) الخ قال كان: القتلى من المشركين يوم بدر سبعين قتل منهم علىّ بن أبى طالبعليه‌السلام سبعة وعشرين(١) ، وكان الأسرى أيضاً سبعين، ولم يؤسر أحد من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجمعوا الاُسارى، وقرنوهم في الحبال، وساقوهم على أقدامهم، وقتل من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسعة رجال منهم

____________________

(١) لم يأسر أحداً على ما في الروايات.

١٤١

سعد بن خيثمة وكان من النقباء من الأوس.

قال: وعن محمّـد بن إسحاق قال: استشهد من المسلمين يوم بدر أحد عشر رجلاً: أربعة من قريش، وسبعة من الأنصار، وقيل: ثمانية، وقتل من المشركين بضعة وأربعون رجلاً(١) .

قال: وعن ابن عبّـاس: قال: لمّا أمسى اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدرو الناس محبوسون بالوثاق بات ساهراً أوّل الليلة فقال له أصحابه: ما لك لا تنام؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سمعت أنين عمّى العبّـاس في وثاقه، فأطلقوه فسكت فنام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال: وروى عبيدة السلمانىّ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لأصحابه يوم بدر في الاُسارى: إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم - واستشهد منكم بعدّتهم، وكانت الاُسارى سبعين فقالوا: بل نأخذ الفداء فنستمتع به ونتقوّى به على عدوّنا، وليستشهد منّا بعدّتهم قال عبيدة طلبوا الخيرتين كلتيهما(٢) فقتل منهم يوم اُحد سبعون.

وفي كتاب علىّ بن ابراهيم: لمّا قتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النضر بن الحارث وعقبة بن أبى معيط خافت الأنصار أن يقتل الاُسارى فقالوا: يا رسول الله قتلنا سبعين وهم قومك واُسرتك أتجذّ أصلهم فخذ يا رسول الله منهم الفداء، وقد كانوا أخذوا ما وجدوه من الغنائم في عسكر قريش فلمّا طلبوا إليه وسألوه نزلت الآية:( ما كان لنبىّ أن يكون له أسرى ) الآيات فأطلق لهم ذلك.

وكان أكثر الفداء أربعة آلاف درهم وأقلّه ألف درهم فبعثت قريش بالفداء أوّلاً فأوّلاً فبعثت زينب بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فداء زوجها أبى العاص بن الربيع، وبعثت قلائد لها كانت خديجة جهّزتها بها، وكان أبوالعاص ابن اُخت خديجة، فلمّا رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلك القلائد قال: رحم الله خديجة هذه قلائد هي جهّزتها بها فأطلقه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشرط أن يبعث إليه زينب، ولا يمنعها من اللحوق به فعاهده على ذلك و وفى له.

____________________

(٢) وهؤلاء هم الّذين ضبط علماء الاثار أسماءهم غير من لم يضبط اسمه.

(٣) لكن قوله تعالى في عتابهم (تريدون عرض الدنيا) يخطئ عبيدة في قوله.

١٤٢

قال: وروى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كره أخذ الفداء حتّى رأى سعد بن معاذ كراهية ذلك في وجهه فقال: يا رسول الله هذا أوّل حرب لقينا فئة المشركين، والإثخان في القتل أحبّ إلى من استبقاء الرجال، وقال عمر بن الخطّاب: يا رسول الله كذّبوك وأخرجوك فقدّمهم واضرب أعناقهم، ومكّن عليّـاً من عقيل فيضرب عنقه، ومكّنّى من فلان أضرب عنقه فإنّ هؤلاء أئمّـة الكفر، وقال أبوبكر: أهلك وقومك استأن بهم واستبقهم وخذ منهم فدية فيكون لنا قوّة على الكفّـار قال ابن زيد فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو نزل عذاب من السماء ما نجا منكم أحد غير عمر وسعد بن معاذ.

وقال أبوجعفر الباقرعليه‌السلام : كان الفداء يوم بدر كلّ رجل من المشركين بأربعين أوقيّـة، والاُوقيّـة أربعون مثقالاً إلّا العبّـاس فإنّ فداءه كان مائة أوقيّـة، وكان أخذ منه حين أسر عشرون أوقيّـة ذهباً فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ذلك غنيمة ففاد نفسك وابنى أخيك نوفلاً وعقيلاً فقال: ليس معى شئ. فقال: أين الذهب الّذى سلّمته إلى أمّ الفضل وقلت: إن حدث بى حدث فهو لك وللفضل وعبدالله وقثم. فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: الله تعالى فقال: أشهد أنّك رسول الله والله ما اطّلع على هذا أحد إلّا الله تعالى.

أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق الفريقين تركنا إيرادها إيثاراً للاختصار.

وفي قرب الأسناد للحميريّ عن عبدالله بن ميمون عن جعفر عن أبيهعليه‌السلام قال: اُوتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمال دراهم فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للعبّـاس: يا عبّـاس ابسط رداءً وخذ من هذا المال طرفاً فبسط رداءً وأخذ منه طائفة ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عبّـاس هذا من الّذى قال الله تبارك وتعالى:( يا أيّها النبيّ قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيراً ممّا أخذ منكم ) قال: نزلت في العبّـاس ونوفل وعقيل.

وقال: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى يوم بدر أن يقتل أحد من بنى هاشم وأبوالبخترىّ فاُسروا عليّـاً فقال: انظر من ههنا من بنى هاشم؟ قال: فمرّ على عقيل بن أبى طالب فحاد عنه قال فقال له: يابن أمّ علىّ أما والله لقد رأيت مكاني.

قال: فرجع إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: هذا أبوالفضل في يد فلان، وهذا عقيل في

١٤٣

يد فلان، وهذا نوفل في يد فلان يعنى نوفل بن الحارث فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى انتهى إلى عقيل فقال: يا أبا يزيد قتل أبوجهل ! فقال: إذاً لا تنازعوا في تهامة. قال: إن كنتم أثخنتم القوم وإلّا فاركبوا أكتافهم.

قال: فجئ بالعبّـاس فقيل له: افد نفسك وافد ابن [ ابني ظ ] أخيك فقال: يا محمّـد تتركني أسأل قريشاً في كفّى؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له: أعط ممّا خلّفت عند اُمّ الفضل وقلت لها إن أصابني شئ في وجهى فأنفقيه على ولدك ونفسك. قال: يا ابن أخى من أخبرك بهذا؟ قال: أتانى به جبرئيل. فقال: ومحلوفة ما علم بهذا إلّا أنا وهى. أشهد أنّك رسول الله. قال: فرجع الاُسارى كلّهم مشركين إلّا العبّـاس وعقيل ونوفل ابن الحارث، وفيهم نزلت هذه الآية:( قل لمن في أيديكم من الأسرى ) . الآية.

أقول: وروى في الدرّ المنثور هذه المعاني بطرق مختلفه عن الصحابة وروى نزول الآية في العبّـاس وابنى أخيه عن ابن سعد وابن عساكر عن ابن عبّـاس، وروى مقدار الفدية الّتى فدى بها عن كلّ رجل من الاُسارى، وقصّة فدية العبّـاس عنه وعن ابني أخيه الطبرسيّ في مجمع البيان عن الباقرعليه‌السلام كما في الحديث.

١٤٤

( سورة الانفال آيه ٧٢ - ٧٥)

إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِن وَلاَيَتِهِم مِن شَيْ‏ءٍ حَتّى‏ يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدّينِ فَعَلَيْكُمُ النّصْر إِلّا عَلَى‏ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ( ٧٢) وَالّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ( ٧٣) وَالّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُم مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ( ٧٤) وَالّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنكُمْ وأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى‏ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ( ٧٥)

( بيان)

الآيات تختم السورة، ويرجع معناها نوع رجوع إلى ما افتتحت به السورة وفيها إيجاب الموالاة بين المؤمنين إلّا إذا اختلفوا بالمهاجرة وعدمها وقطع موالاة الكافرين.

قوله تعالى: ( إنّ الّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا - إلى قوله -أولياء بعض ) المراد بالّذين آمنوا وهاجروا: الطائفة الاُولى من المهاجرين قبل نزول السورة بدليل ما سيذكر من المهاجرين في آخر الآيات، والمراد بالّذين آووا ونصروا: هم الأنصار الّذين آووا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين المهاجرين ونصروا الله ورسوله، وكان ينحصر المسلمون يومئذ في هاتين الطائفتين إلّا قليل ممّن آمن بمكّة ولم يهاجر.

وقد جعل الله بينهم ولاية بقوله:( اُولئك بعضهم أولياء بعض ) والولاية أعمّ من

١٤٥

ولاية الميراث وولاية النصرة ولاية الأمن، فمن آمن منهم كافراً كان نافذاً عند الجميع، فالبعض من الجميع ولىّ البعض من الجميع كالمهاجر هو ولىّ كلّ مهاجر وأنصاريّ، والأنصاريّ ولىّ كلّ أنصارى ومهاجر، كلّ ذلك بدليل إطلاق الولاية في الآية.

فلا شاهد على صرف الآية إلى ولاية الإرث بالمواخاة الّتى كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعلها في بدء الهجره بين المهاجرين والأنصار وكانوا يتوارثون بها زماناً حتّى نسخت.

قوله تعالى: ( والّذين آمنوا ولم يهاجروا ) إلى آخر الآية، معناه واضح وقد نفيت فيها الولاية بين المؤمنين المهاجرين والأنصار وبين المؤمنين غير المهاجرين إلّا ولاية النصرة إذا استنصروهم بشرط أن يكون الاستنصار على قوم ليس بينهم وبين المؤمنين ميثاق.

قوله تعالى: ( والّذين كفروا بعضهم أولياء بعض ) أي إنّ ولايتهم بينهم لا تتعدّاهم إلى المؤمنين فليس للمؤمنين أن يتولّوهم، وذلك أنّ قوله ههنا في الكفّـار:( بعضهم أولياء بعض ) كقوله في المؤمنين:( اُولئك بعضهم أولياء بعض ) إنشاء وتشريع في صورة الأخبار، وجعل الولاية بين الكفّـار أنفسهم لا يحتمل بحسب الاعتبار إلّا ما ذكرناه من نفى تعدّيه عنهم إلى المؤمنين.

قوله تعالى: ( إلّا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفسادٌ كبيرٌ ) إشارة إلى مصلحة جعل الولاية على النحو الّذى جعلت، فإنّ الولاية ممّا لا غنى عنها في مجتمع من المجتمعات البشريّـة سيّما المجتمع الإسلاميّ الّذى اُسّس على اتّباع الحقّ وبسط العدل الإلهىّ كما أنّ تولّى الكفّـار وهم أعداء هذا المجتمع يوجب الاختلاط بينهم فيسرى فيه عقائدهم وأخلاقهم، وتفسد سيرة الإسلام المبنيّـة على الحقّ بسيرهم المبنيّـة على اتّباع الهوى وعبادة الشيطان، وقد صدّق جريان الحوادث في هذه الآونة ما أشارت إليه هذه الآية.

قوله تعالى: ( والّذين آمنوا وهاجروا ) إلى آخر الآية اثبات لحقّ الإيمان على من اتّصف بآثاره اتّصافاً حقّاً، ووعد لهم بالمغفرة والرزق الكريم.

قوله تعالى: ( والّذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فاُولئك منكم ) خطاب للمهاجرين الأوّلين والأنصار وإلحاق من آمن وهاجر وجاهد معهم بهم فيشاركونهم في الولاية.

١٤٦

قوله تعالى: ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) إلى آخر الآية. جعل للولاية بين اُولى الأرحام والقرابات، وهى ولاية الإرث فإنّ سائر أقسام الولاية لا ينحصر فيما بينهم.

والآية تنسخ ولاية الإرث بالمواخاة الّتى أجراها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المسلمين في أوّل الهجرة، وتثبت الإرث بالقرابة سواء كان هناك ذو سهم أو لم يكن أو كان عصبة أو لم يكن فالآية مطلقة كما هو ظاهر.

( بحث روائي)

في المجمع عن الباقرعليه‌السلام أنّهم كانوا يتوارثون بالمواخاة.

أقول: ولا دلالة فيه على أنّ الآية نزلت في ولاية الاُخوّة.

في الكافي بإسناده عن أبى بصير عن أبى جعفرعليه‌السلام قال: الخال والخالة يرثان إذا لم يكن معهما أحد إنّ الله يقول:( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) .

أقول: ورواه العيّـاشيّ عن أبى بصير عنه مرسلاً.

وفي تفسير العيّـاشيّ عن زرارة عن أبى جعفرعليه‌السلام ، في قول الله:( واُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) أنّ بعضهم أولى بالميراث من بعض لأنّ أقربهم إليه أولى به. ثمّ قال أبوجعفرعليه‌السلام ، إنّهم أولى بالميّت، وأقربهم إليه أمّـه وأخوه واُخته لاُمّـه وابنه أليس الاُمّ أقرب إلى الميّت من إخوانه وأخواته؟

وفيه عن ابن سنان عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: لمّا اختلف علىّ بن أبى طالبعليه‌السلام وعثمان بن عفّان في الرجل يموت وليس له عصبة يرثونه وله ذوو قرابة لا يرثونه: ليس له بينهم مفروض، فقال علىّعليه‌السلام ميراثه لذوى قرابته لأنّ الله تعالى يقول:( واُولوا الأرحام بعضهم اُولى ببعض في كتاب الله ) وقال عثمان أجعل ميراثه في بيت مال المسلمين ولا يرثه أحد من قرابته.

أقول: والروايات في نفى القول بالعصبة والاستناد في ذلك إلى الآية كثيرة من أئمّـة أهل البيتعليه‌السلام .

١٤٧

وفي الدرّ المنثور أخرج الطيالسيّ والطبرانيّ وأبوالشيخ وابن مردويه عن ابن عبّـاس قال: آخى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أصحابه وورّث بعضهم من بعض حتّى نزلت هذه الآية( واُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) فتركوا ذلك وتوارثوا بالنسب.

وفي المعاني بإسناد فيه رفع عن موسى بن جعفرعليهم‌السلام : فيما جرى بينه وبين هارون وفيه: قال هارون: فلم ادّعيتم أنّكم ورثتم رسول الله والعمّ يحجب ابن العمّ، وقبض رسول الله وقد توفّى أبو طالب قبله والعبّـاس عمّه حىّ - إلى أن قال - فقلت: إنّ النبيّ لم يورث من لم يهاجر ولا أثبت له ولاية حتّى يهاجر فقال: ما حجّـتك فيه؟ قلت: قول الله تبارك وتعالى:( والّذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتّى يهاجروا ) وإنّ عمّى العبّـاس لم يهاجر فقال: إنّى سائلك يا موسى هل أفتيت بذلك أحداً من أعدائنا أم أخبرت أحداً من الفقهاء في هذه المسألة بشئ؟ فقلت: اللّهمّ لا وما سألني عنها إلّا أميرالمؤمنين. الحديث.

أقول: ورواه المفيد في الاختصاص.

١٤٨

( سورة التوبة مدنيّـة وهى مائة وتسع وعشرون آية)

( سورة التوبة آيه ١ - ١٦)

بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الّذِينَ عَاهَدْتُم مِنَ الْمُشْرِكِينَ( ١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ( ٢) وَأَذَانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الْأَكْبَرِ أَنّ اللّهَ بَرِي‏ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِن تَوَلّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشّرِ الّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ( ٣) إِلّا الّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى‏ مُدّتِهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتّقِينَ( ٤) فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الْصّلاَةَ وَآتَوُا الزّكَاةَ فَخَلّوا سَبِيلَهُمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ( ٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى‏ يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاَيَعْلَمُونَ( ٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلّا الّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتّقِينَ( ٧) كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَيَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلاَ ذِمّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى‏ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ( ٨) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدّوا عَن سَبِيلِهِ إِنّهُمْ سَاءَ مَاكَانُوا يَعْمَلُونَ( ٩) لاَيَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلاَ ذِمّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ( ١٠) فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصّلاَةَ وَآتَوُا الزّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَنُفَصّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ( ١١) وَإِن نَكَثُوا أَيْمَانَهُم

١٤٩

مِن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمّةَ الْكُفْرِ إِنّهُمْ لاَأَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلّهُمْ يَنتَهُونَ ( ١٢ ) أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمّوا بِإِخْرَاجِ الرّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ ( ١٣ ) قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ( ١٤ ) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى‏ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١٥ ) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتّخِذُوا مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ١٦ )

( بيان)

الآيات مفتتح قبيل من الآيات سمّوها سورة التوبة أو سورة البراءة، وقد اختلفوا في كونها سورة مستقلّة أو جزءً من سورة الأنفال، واختلاف المفسّرين في ذلك ينتهى إلى اختلاف الصحابة ثمّ التابعين فيه، وقد اختلف في ذلك الحديث عن أئمّـة أهل البيتعليهم‌السلام غير أنّ الأرجح بحسب الصناعة ما يدلّ من حديثهم على أنّها ملحقة بسورة الأنفال.

والبحث عن معاني آياتها وما اشتملت عليه من المضامين لا يهدى إلى غرض واحد متعيّـن على حدّ سائر السور المشتملة على أغراض مشخّصة تؤمّها أوائلها وتنعطف إليها أواخرها، فأوّلها آيات تؤذن بالبراءة وفيها آيات القتال مع المشركين، والقتال مع أهل الكتاب، وشطر عظيم منها يتكلّم في أمر المنافقين، وآيات في الاستنهاض على القتال وما يتعرّض لحال المخلّفين، وآيات ولاية الكفّـار، وآيات الزكاة وغير ذلك، ومعظمها ما يرجع إلى قتال الكفّـار وما يرجع إلى المنافقين.

١٥٠

وعلى أيّ حال لا يترتّب من جهة التفسير على هذا البحث فائدة مهمّة وإن أمكن ذلك من جهة البحث الفقهىّ الخارج عن غرضنا.

قوله تعالى: ( براءة من الله ورسوله إلى الّذين عاهدتم من المشركين ) قال الراغب: أصل البرء والبراء والتبرّى: التفصّى ممّا يكره مجاورته، ولذلك قيل: برأت من المرض وبرأت من فلان وتبرّأت، وأبرأته من كذا وبرّأته، ورجل برئ وقوم برآء وبريؤون قال تعالى: براءة من الله ورسوله.انتهى.

والآية بالنسبة إلى الآيات التالية كالعنوان المصدرّ به الكلام المشير إلى خلاصة القول على نهج سائر السور المفصّلة الّتى تشير الآية والآيتان من أوّلها على إجمال الغرض المسرود لأجل بيانه آياتها.

والخطاب في الآية للمؤمنين أو للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولهم على ما يدلّ عليه قوله:( عاهدتم ) وقد أخذ الله تعالى ومنه الخطاب ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو الواسطة، والمشركون وهم الّذين اُريدت البراءة منهم، ووجّه الخطاب ليبلغ إليهم جميعاً في الغيبة، وهذه الطريقة في الأحكام والفرامين المراد إيصالها إلى الناس نوع تعظيم لصاحب الحكم والأمر.

والآية تتضمّن إنشاء الحكم والقضاء بالبراءة من هؤلاء المشركين وليس بتشريع محض بدليل تشريكه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في البراءة فإنّ دأب القرآن أن ينسب الحكم التشريعيّ المحض إلى الله سبحانه وحده، وقد قال تعالى:( ولا يشرك في حكمه أحداً ) الكهف: ٢٦ ولا ينسب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا الحكم بالمعنى الّذى في الولاية والسياسة وقطع الخصومة.

فالمراد بالآية القضاء برفع الأمان عن الّذين عاهدوهم من المشركين وليس رفعاً جزافيّـاً وإبطالاً للعهد من غير سبب يبيح ذلك فإنّ الله تعالى سيذكر بعد عدّة آيات أنّهم لا وثوق بعهدهم الّذى عاهدوه وقد فسق أكثرهم ولم يراعوا حرمة العهد ونقضوا ميثاقهم، وقد أباح تعالى عند ذلك إبطال العهد بالمقابلة نقضاً بنقض حيث قال:( وإمّا تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إنّ الله لا يحبّ الخائنين ) الأنفال: ٥٨ فأباح إبطال العهد عند مخافة الخيانة ولم يرض مع ذلك إلّا بإبلاغ النقض إليهم لئلّا يؤخذوا على الغفلة

١٥١

فيكون ذلك من الخيانة المحظورة.

ولو كان إبطالاً لعهدهم من غير سبب مبيح لذلك من قبل المشركين لم يفرّق بين من دام على عهده منهم وبين من لم يدم عليه، وقد قال تعالى مستثنياً:( إلّا الّذين عاهدتم من المشركين ثمّ لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتمّوا إليهم عهدهم إلى مدّتهم إنّ الله يحبّ المتقين ) .

ولم يرض تعالى بنقض عهد هؤلاء المعاهدين الناقضين لعهدهم دون أن ضرب لهم أجلاً ليفكّروا في أمرهم ويرتاؤا رأيهم ولا يكونوا مأخوذين بالمباغتة والمفاجأة.

فمحصّل الآية الحكم ببطلان العهد ورفع الأمان عن جماعة من المشركين كانوا قد عاهدوا المسلمين ثمّ نقضه أكثرهم ولم يبق إلى من بقى منهم وثوق تطمئنّ به النفس إلى عهدهم وتعتمد على يمينهم وتأمن شرّهم وأنواع مكرهم.

قوله تعالى: ( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنّكم غير معجزى الله وأنّ الله مخزي الكافرين ) السياحة هي السير في الأرض والجرى ولذلك يقال للماء الدائم الجرية في ساحة: السائح.

وأمرهم بالسياحة أربعة أشهر كناية عن جعلهم في مأمن في هذه البرهة من الزمان وتركهم بحيث لا يتعرّض لهم بشرّ حتّى يختاروا ما يرونه أنفع بحالهم من البقاء أو الفناء مع ما في قوله:( واعلموا أنّكم غير معجزى الله وأنّ الله مخزي الكافرين ) من إعلامهم أنّ الأصلح بحالهم رفض الشرك، والإقبال إلى دين التوحيد، وموعظتهم أن لا يهلكوا أنفسهم بالاستكبار والتعرّض للخزى الإلهىّ.

وقد وجّه في الآية الخطاب إليهم بالإلتفات من الغيبة إلى الخطاب لمافى توجيه الخطاب القاطع والإرادة الجازمة إلى الخصم من الدلالة على بسط الاستيلاء والظهور عليه واستذلاله واستحقار ما عنده من قوّة وشدّة.

وقد اختلفت أقوال المفسّرين في المراد بقوله:( أربعة أشهر ) والّذى يدلّ عليه السياق ويؤيّده اعتبار إصدار الحكم وضرب الأجل ليكونوا في فسخة لاختيار ما وجدوه من الحياة أو الموت أنفع بحالهم: أن تبتدئ الأربعة الأشهر من يوم الحجّ الأكبر الّذى

١٥٢

يذكره الله تعالى في الآية التالية فإنّ يوم الحجّ الأكبر هو يوم الإبلاغ والإيذان والأنسب بضرب الأجل الّذى فيه نوع من التوسعة للمحكوم عليهم وإتمام الحجّـة، أن تبتدئ من حين الإعلام والإيذان.

وقد اتّفقت كلمة أهل النقل أنّ الآيات نزلت سنة تسع من الهجرة فإذا فرض أنّ يوم الحجّ الأكبر هو يوم النحر العاشر من ذى الحجّة كانت الأربعة الأشهر هي عشرون من ذى الحجّة والمحرّم وصفر وربيع الأوّل وعشرة أيّـام من ربيع الآخر.

وعند قوم أنّ الأربعة الأشهر تبتدء من يوم العشرين من ذى القعدة وهو يوم الحجّ الأكبر عندهم فالأربعة الأشهر هي عشرة أيّـام من ذى القعدة وذو الحجّة والمحرّم وصفر وعشرون من ربيع الأوّل، وسيأتى ما فيه.

وذكر آخرون: أنّ الآيات نزلت أوّل شوّال سنة تسع من الهجرة فتكون الأربعة الأشهر هي شوال وذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم فتنقضى بإنقضاء الأشهر الحرم، وقد حداهم إلى ذلك القول بأنّ المراد بقوله تعالى فيما سيأتي:( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا ) الأشهر الحرم المعروفة: ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم فيوافى انسلاخ الأشهر الحرم انقضاء الأربعة الأشهر، وهذا قول بعيد عن الصواب لا يساعد عليه السياق وقرينة المقام كما عرفت.

قوله تعالى: ( وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحجّ الأكبر أنّ الله برئ من المشركين ورسوله ) الاذان هو الإعلام، وليست الآية تكراراً لقوله تعالى السابق( براءة من الله ورسوله ) فإنّ الجملتين وإن رجعتا إلى معنى واحد وهو البراءة من المشركين إلّا أنّ الآية الاُولى إعلام البراءة وإبلاغه إلى المشركين بدليل قوله في ذيل الآية:( إلى الّذين عاهدتم من المشركين ) بخلاف الآية الثانية فإنّ وجه الخطاب فيه إلى الناس ليعلموا براءة الله ورسوله من المشركين، ويستعدّوا ويتهيّؤوا لإنفاذ أمر الله فيهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم بدليل قوله:( إلى الناس ) وقوله تفريعاً:( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) إلى آخر الآية.

وقد اختلفوا في تعيين المراد بيوم الحجّ الأكبر على أقوال:

١٥٣

منها: أنّه يوم النحر من سنة التسع من الهجرة لأنّه كان يوماً اجتمع فيه المسلمون والمشركون ولم يحجّ بعد ذلك العام مشرك، وهو المؤيّد بالأحاديث المرويّـة عن أئمّـة أهل البيتعليهما‌السلام والأنسب بأذان البراءة، والاعتبار يساعد عليه لأنّه كان أكبر يوم اجتمع فيه المسلمون والمشركون من أهل الحجّ عامّة بمنى وقد ورد من طرق أهل السنّة روايات في هذا المعنى غير أنّ مدلول جلّها أنّ الحجّ الأكبر اسم يوم النحر فيتكرّر على هذا كلّ سنة ولم يثبت من طريق النقل تسمية على هذا النحو.

ومنها: أنّه يوم عرفة لأنّ فيه الوقوف، والحجّ الأصغر هو الّذى ليس فيه وقوف وهو العمرة، وهو استحسان لا دليل عليه، ولا سبيل إلى تشخيص صحّـته.

ومنها: أنّه اليوم الثاني ليوم النحر لأنّ الإمام يخطب فيه وسقم هذا الوجه ظاهر.

ومنها: أنّه جميع أيّـام الحجّ كما يقال: يوم الجمل، ويوم صفّين، ويوم بغاث، ويراد به الحين والزمان، وهذا القول لا يقابل سائر الأقوال كلّ المقابلة فإنّه إنّما يبيّن أنّ المراد باليوم جميع أيّـام الحجّ، وأمّا وجه تسمية هذا الحجّ بالحجّ الأكبر فيمكن أن يوجّه ببعض ما في الأقوال السابقة كما في القول الأوّل.

وكيف كان فالاعتبار لا يساعد على هذا القول لأنّ وجود يوم بين أيّـام الحجّ يجتمع فيه عامّة أهل الحجّ يتمكّن فيه من أذان براءة كلّ التمكّن كيوم النحر يصرف قوله:( يوم الحجّ الأكبر ) إلى نفسه، ويمنع شموله لسائر أيّـام الحجّ الّتى لا يجتمع فيها الناس ذاك الإجتماع.

ثمّ التفت سبحانه إلى المشركين ثانياً وذكّرهم أنّهم غير معجزين لله ليكونوا على بصيرة من أمرهم كما ذكّرهم بذلك في الآية السابقة بقوله:( واعلموا أنّكم غير معجزى الله وأنّ الله مخزي الكافرين ) غير أنّه زاد عليه في هذه الآية قوله:( فإن تبتم فهو خير لكم ) ليكون تصريحاً بما لوّح إليه في الآية السابقة فإنّ التذكير بأنّهم غير معجزى الله إنّما كان بمنزلة العظة وبذل النصح لهم لئلّا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة باختيار البقاء على الشرك والتولّى عن الدخول في دين التوحيد ففى الترديد تهديد ونصيحة وعظة.

١٥٤

ثمّ التفت سبحانه إلى رسوله فخاطبه أن يبشّر الّذين كفروا بعذاب أليم فقال:( وبشّر الّذين كفروا بعذاب أليم ) والوجه في الالتفات الّذى في قوله:( فإن تبتم فهو خير لكم ) الخ ما تقدّم في قوله:( فسيحوا في الأرض ) الخ، وفي الالتفات الّذى في قوله:( وبشّر الّذين كفروا ) الخ أنّه رسالة لا تتمّ إلّا من جهة مخاطبة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( إلّا الّذين عاهدتم من المشركين ثمّ لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً ) الخ، استثناء من عموم البراءة من المشركين، والمستثنون هم المشركون الّذين لهم عهد لم ينقضوه لا مستقيماً ولا غير مستقيم فمن الواجب الوفاء بميثاقهم وإتمام عهدهم إلى مدّتهم.

وقد ظهر بذلك أنّ المراد من إضافة قولة:( ولم يظاهروا عليكم أحداً ) إلى قوله:( لم ينقصوكم شيئاً ) استيفاء قسمي النقض وهما النقض المستقيم كقتلهم بعض المسلمين، والنقض غير المستقيم نظير مظاهرتهم بعض أعداء المسلمين عليهم كإمداد مشركي مكّة بنى بكر على خزاعة بالسلاح، وكانت بنوبكر في عهد قريش وخزاعة في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحاربوا فأعانت قريش بنى بكر على خزاعة ونقضت بذلك عهد حديبيّـة الّذى عقدوه بينهم وبين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان ذلك من أسباب فتح مكّة سنة ثمان.

وقوله تعالى: ( إنّ الله يحبّ المتقين ) في مقام التعليل لوجوب الوفاء بالعهد مالم ينقضه المعاهد المشرك، وذلك يجعل احترام العهد وحفظ الميثاق أحد مصاديق التقوى المطلق الّذى لا يزال يأمر به القرآن وقد صرّح به في نظاهر هذا المورد كقوله تعالى:( ولا يجر منّكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) المائدة: ٨ وقوله:( ولا يجر منّكم شنآن قوم أن صدّوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم العدوان واتّقوا الله ) المائدة: ٢.

وبذلك يظهر ما في قول بعضهم: أنّ المراد بالمتّقين الّذين يتّقون نقض العهد من غير سبب، وذلك أنّ التقوى بمعنى الورع عن محارم الله عامّة كالحقيقة الثانية في القرآن فيحتاج إرادة خلافه إلى قرينة صارفة.

قوله تعالى: ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم

١٥٥

وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كلّ مرصد ) أصل الانسلاخ من سلخ الشاة وهو نزع جلدها عنها، وانسلاخ الشهر نوع كناية عن خروجه، والحصر هو المنع من الخروج عن محيط، والمرصد اسم مكان من الرصد بمعنى الاستعداد للرقوب.

قال الراغب: الرصد الاستعداد للترقّب يقال: رصد له وترصّد وأرصدته له، قال عزّوجلّ:( وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل ) ، وقوله عزّوجلّ:( إنّ ربّك لبالمرصاد ) تنبيهاً أنّه لا ملجأ ولا مهرب، والرصد يقال للراصد الواحد والجماعة الراصدين وللمرصود واحداً كان أو جمعاً، وقوله تعالى:( يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ) يحتمل كلّ ذلك، والمرصد موضع الرصد.

انتهى.

والمراد بالأشهر الحرم هي الأربعة الأشهر: أشهر السياحة الّتى ذكرها الله سبحانه في قوله:( فسيحوا في الأرض أربعه أشهر ) وجعلها أجلاً مضروباً للمشركين لا يتعرّض فيها لحالهم وأمّا الأشهر الحرم المعروفة أعنى ذاالقعدة وذاالحجة والمحرّم فإنها لا تنطبق على أذان براءة الواقع في يوم النحر عاشر ذى الحجّة بوجه كما تقدّمت الإشارة إليه.

وعلى هذا فاللّام في الأشهر الحرم للعهد الذكرىّ أي إذا انسلخ هذه الأشهر الّتى ذكرناها حرّمناها للمشركين لا يتعرّض لحالهم فيها فاقتلوا المشركين الخ.

ويظهر بذلك أن لا وجه لحمل قوله:( فإذا انسلخ الأشهر الحرم ) على انسلاخ ذى القعدة وذى الحجّة والمحرّم بأن يكون انسلاخ الأربعة الأشهر بانسلاخ الأشهر الثلاثة منطبقاً عليه أو يكون انسلاخ الأشهر الحرم مأخوذاً على نحو الإشارة إلى انقضاء الأربعة الأشهر وإن لم ينطبق الأشهر على الأشهر فإنّ ذلك كلّه ممّا لا سبيل إليه بحسب السياق وإن كان لفظ الأشهر الحرم في نفسه ظاهراً في شهور رجب وذى القعدة وذى الحجّة والمحرّم.

وقوله:( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) محقّق للبراءة منهم ورفع الاحترام عن نفوسهم بإهدار الدماء فلا مانع من أيّ نازلة نزلت بهم، وفي قوله:( حيث وجدتموهم ) تعميمٌ للحكم فلا مانع حاجب عن وجوب قتلهم حيثما وجدوا في حلّ أو حرم بل ولو ظفر بهم في الشهر الحرام - بناء على تعميم( حيث ) للزمان والمكان كليهما فيجب على

١٥٦

المسلمين كائنين من كانوا إذا ظفروا بهم أن يقتلوهم، كان ذلك في الحلّ أو الحرم في الشهر الحرام أو غيره.

وإنّما أمر بقتلهم حيث وجدوا للتوسّل بذلك إلى إيرادهم مورد الفناء والانقراض، وتطييب الأرض منهم، وإنجاء الناس من مخالطتهم ومعاشرتهم بعد ما سمح واُبيح لهم ذلك في قوله:( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) .

ولازم ذلك أن يكون كلّ من قوله:( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) وقوله:( وخذوهم ) وقوله:( واحصروهم ) وقوله:( واقعدوا لهم كلّ مرصد ) بياناً لنوع من آلوسيلة إلى إفناء جمعهم وإنفاد عددهم، ليتفصّى المجتمع من شرّهم.

فإن ظفر بهم وأمكن قتلهم قتلوا، وإن لم يمكن ذلك قبض عليهم واُخذوا، وإن لم يمكن أخذهم حصروا وحبسوا في كهفهم ومنعوا من الخروج إلى الناس ومخالطتهم وإن لم يعلم محلّهم قعد لهم في كلّ مرصد ليظفر بهم فيقتلوا أو يؤخذوا.

ولعلّ هذا المعنى هو مراد من قال: إنّ المراد: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم أو خذوهم واحصروهم على وجه التخيير في اعتبار الأصلح من الأمرين، وإن كان لا يخلو عن تكلّف من جهة اعتبار الأخذ والحصر والقعود في كلّ مرصد أمراً واحداً في قبال القتل، وكيف كان فالسياق إنّما يلائم ما قدّمناه من المعنى.

وأمّا قول من قال: إنّ في قوله:( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم ) ، تقديماً وتاخيراً، والتقدير: فخذوا المشركين حيث وجدتموهم واقتلوهم فهو من التصرّف في معنى الآية من غير دليل مجوّز، والآية وخاصّـة ذيلها يدفع ذلك سياقاً.

ومعنى الآية: فإذا انسلخ الأشهر الحرم وانقضى الأربعة الأشهر الّتى أمهلناهم بها بقولنا:( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) فأفنوا المشركين بأىّ وسيلة ممكنة رأيتموها أقرب وأوصل إلى إفناء جمعهم وإمحاء رسمهم من قتلهم أينما وجدتموهم من حلّ أو حرم ومتى ما ظفرتم بهم في شهر حرام أو غيره، ومن أخذهم أو حصرهم أو القعود لهم في كلّ مرصد حتّى يفنوا عن آخرهم.

قوله تعالى: ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم إنّ الله

١٥٧

غفور رحيم ) اشتراط في معنى الغاية للحكم السابق، والمراد بالتوبة معناها اللغوىّ وهو الرجوع أي إن رجعوا من الشرك إلى التوحيد بالإيمان ونصبوا لذلك حجّة من أعمالهم وهى الصلاة والزكاة والتزموا أحكام دينكم الراجعة إلى الخالق جميعاً فخلّوا سبيلهم.

وتخلية السبيل كناية عن عدم التعرّض لسالكيه وإن عادت مبتذلة بكثرة التداول كأنّ سبيلهم مسدودة مشغولة بتعرّض المتعرّضين فإذا خلّى عنها كان ذلك ملازماً أو منطبقاً على عدم التعرّض لهم.

وقوله:( إنّ الله غفور رحيم ) تعليل لقوله:( فخلّوا سبيلهم ) إمّا من جهة الأمر الّذى يدلّ عليه بصورته أو من جهة المأمور به الّذى يدلّ عليه بمادّته أعني تخلية سبيلهم:

والمعنى على الأوّل: وإنّما أمر الله بتخلية سبيلهم لأنّه غفور رحيم يغفر لمن تاب إليه ويرحمه.

وعلى الثاني: خلّوا سبيلهم لأنّ تخليتكم سبيلهم من المغفرة والرحمة، وهما من صفات الله العليا فتتّصفون بذلك بصفة ربّكم، وأظهر الوجهين هو الأوّل.

قوله تعالى: ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتّى يسمع كلام الله ) إلى آخر الآية، الآية تتضمّن حكم الإجارة لمن استجار من المشركين لأن يسمع كلام الله، وهى بما تشتمل عليه من الحكم وإن كانت معترضة أو كالمعترضة بين ما يدلّ على البراءة ورفع الأمان عن المشركين إلّا أنّها بمنزلة دفع الدخل الواجب الّذى لا يجوز إهماله فإنّ أساس هذه الدعوة الحقّة وما يصاحبها من الوعد والوعيد والتبشير والإنذار، وما يترتّب عليه من عقد العقود وإبرام العهود أو النقض والبراءة وأحكام القتال كلّ ذلك إنّما هو لصرف الناس عن سبيل الغىّ والضلال إلى صراط الرشد والهدى، وإنجائهم من شقاء الشرك إلى سعادة التوحيد.

ولازم ذلك الاعتناء التامّ بكلّ طريق يرجى فيه الوصول إلى هداية ضالّ والفوز بإحياء حقّ وإن كان يسيراً قليلاً فإنّ الحقّ حقّ وإن كان يسيراً والمشرك غير المعاهد وإن أبرء الله منه الذمّة وأهدر دمه ورفع الحرمة عن كلّ ما يعود إليه من مال وعرض لكنّه تعالى إنّما فعل به ذلك ليحيى حقّ ويبطل باطل فإذا رجى منه الخير منع ذلك من أيّ

١٥٨

قصد سيّئ يقصد به حتّى يحصل اليأس من هدايته وإنجائه.

فإذا استجار المشرك لينظر فيما تندب إليه الدعوة الحقّة ويتّبعها إن اتّضحت له كان من الواجب إجارته حتّى يسمع كلام الله ويرتفع عنه غشاوة الجهل وتتمّ عليه الحجّة فإذا تمادى بعد ذلك في ضلاله وأصرّ في استكباره صار ممّن ارتفع عنه الأمان وبرأت منه الذمّة ووجب تطييب الأرض من قذارة وجوده بأيّة وسيلة أمكنت وأىّ طريق كان أقرب وأسهل وهذا هو الّذى يفيده قوله تعالى:( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتّى يسمع كلام الله ثمّ أبلغه مأمنه ذلك بأنّهم قوم لا يعلمون ) الآية بما يكتنف به من الآيات.

فمعنى الآية: إن طلب منك بعض هؤلاء المشركين الّذين رفع عنهم الأمان أن تأمنه في جوارك ليحضر عندك ويكلّمك فيما تدعو إليه من الحقّ الّذى يتضمّنه كلام الله فأجره حتّى يسمع كلام الله ويرتفع عنه غشاوة الجهل ثمّ أبلغه مأمنة حتّى يملك منك أمناً تامّاً كاملاً، وإنّما شرع الله هذا الحكم وبذل لهم هذا الأمن التامّ لأنّهم قوم جاهلون ولا بأس على جاهل إذا رجى منه الخير بقبول الحقّ لو وضح له.

وهذا غاية ما يمكن مراعاته من اُصول الفضيلة وحفظ الكرامة ونشر الرحمة والرأفة وشرافة الإنسانيّـة اعتبره القرآن الكريم، وندب إليه الدين القويم.

وقد بان بما قدّمناه أوّلاً: أنّ الآية مخصّصة لعموم قوله في الآية السابقة:( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) .

وثانياً: أنّ قوله:( حتّى يسمع كلام الله ) غاية للاستجارة والإجارة فيتغيّـا به الحكم، فالاستئمان إنّما كان لسمع كلام الله واستفسار ما عند الرسول من موادّ الرسالة فيتقدّر الأمان الّذى يعطاه المستجير المستأمن بقدره فإذا سمع من كلام الله ما يتبيّـن به الرشد من الغىّ ويتميّز به الهدى من الضلال انتهت مدّة الإستجارة وحان أن يردّ المستجير إلى مأمنه والمكان الخاصّ به الّذى هو في أمن فيه، لا يهدّده فيه سيوف المسلمين ليرجع إلى حاله الّذى فارقه، ويختار لنفسه ما يشاء على حرّيّـة من المشيّـة والإرادة.

وثالثاً: أنّ المراد بكلام الله مطلق آيات القرآن الكريم، نعم يتقيّـد بما ينفع

١٥٩

المستجير من الآيات الّتى توضح له اُصول المعارف الإلهيّـة ومعالم الدين والجواب عمّا يختلج في صدره من الشبهات كلّ ذلك بدلالة المقام والسياق.

وبذلك يظهر فساد ما قيل: إنّ المراد بكلام الله آيات التوحيد من القرآن، وكذا ما قيل إنّ المراد به سورة براءة أو خصوص ما بلّغوه في الموسم من آيات صدر السورة فإنّ ذلك كلّه تخصيص من غير مخصّص.

ورابعاً: أنّ المراد بسمع كلام الله الوقوف على أصول الدين ومعالمه وإن أمكن أن يقال: إنّ لاستماع نفس كلام الله فيما إذا كان لمستجير عربيّـاً يفهم الكلام الإلهىّ دخلاً في ذلك أمّا إذا كان غير عربيّ ولا يفهم الكلام العربيّ فالمستفاد من السياق أنّ الغاية في حقّه مجرّد تفقّه اُصول الدين ومعالمه.

وخامساً: أنّ الآية محكمة غير منسوخة ولا قابلة له لأنّ من الضرورىّ البيّـن من مذاق الدين، وظواهر الكتاب والسنّة أن لا مؤاخذة قبل تمام الحجّة، ولا تشديد أيّ تشديد كان إلّا بعد البيان فالجاهل السالك في سبيل الفحص أو المستعلم للحقّ المستفهم للحقيقة لا يردّ خائباً ولا يؤخذ غافلاً فعلى الإسلام والمسلمين أن يعطوا كلّ الأمان لمن استأمنهم ليستحضر معارف الدين ويستعلم اصول الدعوة حتّى يتّبعها إن لاحت له فيها لوائح الصدق، وهذا أصل لا يقبل بطلاناً ولا تغييراً مادام الإسلام إسلاماً فالآية محكمة غير قابلة للنسخ إلى يوم القيامة.

ومن هنا يظهر فساد قول من قال: إنّ قوله:( وإن أحد من المشركين استجارك فاجره حتّى يسمع كلام الله ) الآية منسوخة بالآية الاتية:( وقاتلوا المشركين كافّة كما يقاتلونكم كافّة ) الآية.

وسادساً: أنّ الآية إنّما توجب إجارة المستجير إذا استجار لامر دينىّ يرجى فيه خير الدين، وأمّا مطلق الاستجارة لا لغرض دينىّ ولا نفع عائد إليه فلا دلالة لها عليه أصلاً بل الآيات السابقة الآمرة بالتشديد عليهم في محلّها.

وسابعاً: أنّ قوله في تتميم الأمر بالإجارة:( ثمّ أبلغه مأمنه ) مع تمام قوله:( فأجره حتّى يسمع ) بدونه في الدلالة على المقصد يدلّ على كمال العناية بفتح باب

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ان علق الامر بزوال علة النهى... إلى غير ذلك (والتحقيق) أنه لا مجال للتشبث بموارد الاستعمال فانه قل مورد منها يكون خاليا عن قرينة على الوجوب أو الاباحة أو التبعية، ومع فرض التجريد عنها لم يظهر بعد كون عقيب الحظر موجبا لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه غاية الامر يكون موجبا لاجمالها غير ظاهرة في واحد منها الا بقرينة أخرى كما أشرنا (المبحث الثامن) الحق أن صيغة الامر مطلقا لا دلالة لها على المرة ولا التكرار، فان المنصرف عنها ليس الا طلب إيجاد الطبيعة المأمور بها فلا دلالة لها على أحدهما لا بهيئتها ولا بمادتها، والاكتفاء بالمرة فانما هو

______________________________

(قوله: إن علق النهي بزوال) كما في قوله تعالى: فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين، وقوله تعالى: فإذا تطهرن فأتوهن، وقوله تعالى: وإذا حللتم فاصطادوا (قوله: لا مجال للتشبث) اشارة إلى إبطال استدلال بعضهم على مدعاه ببعض موارد الاستعمال كالايات المتقدمة (وحاصله) أن الكلام في المقام في أن وقوع الامر عقيب الحظر هل هو من القرائن العامة التي لا يجوز العدول عن مقتضاها إلا بدليل الموجبة لظهور الصيغة في الاباحة مطلقا أو الوجوب أو رجوع الحكم السابق على النهي أو غير ذلك ؟ والاستعمال لا يدل على شئ من ذلك لامكان استناد الظهور فيه إلى قرينة خاصة غير الوقوع عقيب الحظر فلا يصح الاستناد إليه في اثبات الدعوى (قوله: ومع فرض) يعني لو فرض التجريد عن القرائن الخاصة لم يظهر أن الوقوع عقيب الحظر من القرائن الموجبة لظهور الصيغة في غير الوجوب الذي تكون ظاهرة فيه لولا الوقوع عقيب الحظر (قوله: لاجمالها) وعليه فلا تحمل على الوجوب بناء على وضعها له الا بناء على كون حجية أصالة عدم القرينة من باب التعبد لا من باب حجية الظهور

المرة والتكرار

(قوله: مطلقا) يعنى حيث لا يقيد بمرة أو تكرار (قوله: على المرة والتكرار) سيأتي منه شرحهما (قوله: لا بهيئتها ولا بمادتها) إذ

١٨١

لحصول الامتثال بها في الامر بالطبيعة كما لا يخفى (ثم) لا يذهب عليك أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا يدل الا على الماهية - على ما حكاه السكاكي - لا يوجب كون النزاع ههنا في الهيئة - كما في الفصول - فانه غفلة وذهول عن أن كون المصدر كذلك لا يوجب الاتفاق على أن مادة الصيغة لا تدل إلا على الماهية، ضرورة أن المصدر ليس مادة لسائر المشتقات بل هو صيغة مثلها

______________________________

الهيئة موضوعة وضع الحروف للنسبة الخاصة والمادة موضوعة لصرف الماهية لا بشرط، وكل من المرة والتكرار خارج عن مدلولهما (قوله: لحصول الامتثال) إذ الامتثال يحصل بوجود المأمور به فإذا كان المأمور به صرف الطبيعة وكان يتحقق بالمرة كانت امتثالا للامر، ومنه يظهر بطلان استدلال القائل بالمرة بصدق الامتثال بها (قوله: لا يذهب عليك) قال في الفصول: الحق أن هيئة الامر لا دلالة لها على مرة ولا على تكرار... إلى أن قال: وانما حررنا النزاع في الهيئة لنص جماعة عليه، ولان الاكثر حرروا النزاع في الصيغة وهي ظاهرة بل صريحة فيها، ولانه لا كلام في أن المادة وهي المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا تدل الا على الماهية من حيث هي على ما حكى السكاكي وفاقهم عليه... الخ فأشكل عليه المصنف (ره) بان الاتفاق على عدم دلالة المصدر المجرد الا على الماهية لا يدل على كون النزاع في المقام في الهيئة لا في المادة إذ المصدر ليس مادة للمشتقات التي منها صيغة الامر بل هو مشتق مثلها، والمادة هي الامر المشترك بينه وبينها حسبما حققه (أقول): ما في الفصول يرجع إلى أمرين أحدهما أن المصدر مادة للمشتقات وثانيهما ان الاتفاق على عدم دلالته على المرة والتكرار يقتضي الاتفاق على عدم دلالة مادة (افعل) عليه ويكون النزاع في مدلول الهيئة أما الاول فيمكن أن يكون جاريا على المشهور، وأما الثاني فلا غبار عليه لان المصدر إذا لم يدل على المرة والتكرار دل ذلك عدم دلالة مادته عليهما فيصح الاستدلال به على عدم دلالة مادة (افعل) عليهما فيلزم الاتفاق على الاول الاتفاق على الاخير (قوله: غفلة وذهول) قد عرفت أنه في محله (قوله: ضرورة أن)

١٨٢

كيف وقد عرفت في باب المشتق مباينة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنى ؟ فكيف بمعناه يكون مادة لها ؟ فعليه يمكن دعوى اعتبار المرة أو التكرار في مادتها كما لا يخفى (إن قلت): فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلا في الكلام (قلت): - مع أنه محل الخلاف - معناه أن الذى وضع اولا بالوضع الشخصي ثم بملاحظته وضع نوعيا أو شخصيا ساير الصيغ التى تناسبه مما جمعه معه مادة لفظ متصورة في كل منها ومنه بصورة ومعنى كذلك، هو المصدر أو الفعل فافهم (ثم) المراد بالمرة والتكرار هل هو الدفعة والدفعات أو الفرد والافراد ؟ والتحقيق أن يقعا بكلا المعنيين محل النزاع

______________________________

هذا لا يثبت الاشكال على الفصول إلا من جهة ظهور كلامه في كون المصدر مادة للمشتقات، وقد عرفت إمكان حمله على الاصطلاح المشهوري (قوله: فعليه يمكن) قد عرفت أنه لا يمكن (قوله: مع أنه محل) هذا لا دخل له في دفع السؤال إذ قول الكوفيين: ان الفعل هو الاصل في الاشتقاق أءكد في توجه الاشكال فتأمل (قوله: معناه أن) إذا كان هذا معنى كلامهم فليكن هو معنى كلام الفصول (قوله: جمعه معه) الضمير الاول راجع إلى (ما) التي هي عبارة عن سائر الصيغ والثاني راجع إلى (الذي) ويمكن العكس (قوله: ومعنى) معطوف على قوله: لفظ، يعني ومادة معنى متصورة في كل منها ومنه (قوله: هو المصدر) خبر أن (قوله: أو الفعل فافهم) لعله اشارة إلى وجوب حمل كلامهم على ما ذكر بقرينة دعوى الكوفيين ان الفعل هو الاصل إذ لا يراد منه أن الفعل مادة للمشتقات بالمعنى الحقيقي " ثم " ان الموجود في بعض النسخ الضرب على لفظة: وهو أولى (قوله: الدفعة والدفعات) الفرق بين الدفعة والفرد أن الدفعة تصدق على الافراد المتعددة الموجودة في وقت واحد ولا يصدق عليها أنها فرد واحد، وأن الفرد الموجود تدريجا مثل الكلام الممتد المتصل فرد واحد وليس دفعة فبينهما عموم من وجه كما بين الافراد والدفعات ايضا (قوله: والتحقيق أن يقعا) الذي استظهره في الفصول أن النزاع

١٨٣

وان كان لفظهما ظاهرا في المعنى الاول (وتوهم) أنه لو أريد بالمرة الفرد لكان الانسب بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمة للمبحث الآتي من أن الامر هل يتعلق بالطبيعة أو بالفرد ؟ فيقال عند ذلك: وعلى تقدير تعلقه بالفرد هل يقتضي التعلق بالفرد الواحد أو المتعدد أو لا يقتضي شيئا منهما ؟ ولم يحتج إلى إفراد كل منهما بالبحث - كما فعلوه - وأما لو أريد بها الدفعة فلا علقة بين المسألتين كما لا يخفى (فاسد) لعدم العلقة بينهما لو أريد بها الفرد أيضا فان الطلب - على القول بالطبيعة - إنما يتعلق بها باعتبار وجودها في الخارج ضرورة أن الطبيعة من حيث هي

______________________________

*

فيهما بالمعنى الاول، ونسب إلى القوانين كونه فيهما بالمعنى الثاني، والظاهر ان مراد المصنف (ره) امكان كون النزاع فيهما بالمعنيين لا تحقق النزاع فيهما بهما معا إذ ليس له وجه ظاهر (قوله: وان كان لفظهما) هذا من القرائن التي اعتمد عليها في الفصول لاثبات ما استظهره (قوله: وتوهم انه لو أريد) هذا التوهم للفصول والباعث له عليه ظهور لفظ الفرد المذكور في المسألتين بمعنى واحد وهو ما يقابل الطبيعة (قوله: فاسد لعدم العلقة) حاصله أن المراد بالفرد هنا غير المراد به في تلك المسألة إذ المراد به في تلك المسألة ما يتقوم بالخصوصية المميزة له عن بقية الافراد والمراد به هنا الوجود الواحد للمأمور به فان كان المأمور به هو الطبيعة يقع النزاع في أن صيغة الامر تدل على وجوب وجود واحد للطبيعة أو وجود متعدد لها أو مطلق وجودها فيتأتى النزاع على القول بتعلق الامر بالطبيعة بعين ما يتأتى به على القول بتعلقه بالفرد، والقرينة على إرادة هذا المعنى من الفرد جعله في قبال الدفعة (قوله: باعتبار وجودها) هذا ذكره المصنف (رحمه الله) تمهيدا لتأتي النزاع على القولين لا ردا على الفصول إذ لم يتوهم خلافه في الفصول كما يشهد به دعواه تأتي النزاع على القولين بناء على كون المراد الدفعة إذ لا يخفى أن القائل بالطبيعة لو كان مراده الطبيعة من حيث هي لا معنى لتأتى النزاع في المقام بكل معنى (قوله: ضرورة ان الطبيعة من) قد يقال: الماهية

١٨٤

ليست الا هي لا مطلوبة ولا غير مطلوبة، وبهذا الاعتبار كانت مرددة بين المرة والتكرار بكلا المعنيين فيصح النزاع في دلالة الصيغة على المرة والتكرار بالمعنيين وعدمها، أما بالمعنى الاول فواضح، وأما بالمعنى الثاني فلوضوح أن المراد من الفرد أو الافراد وجود واحد أو وجودات، وإنما عبر بالفرد لان وجود الطبيعة في الخارج هو الفرد غاية الامر خصوصيته وتشخصه - على القول بتعلق الامر بالطبايع - يلازم المطلوب وخارج عنه بخلاف القول بتعلقه بالافراد فانه مما يقومه (تنبيه) لا إشكال - بناء على القول بالمرة - في الامتثال وأنه لا مجال للاتيان بالمأمور به ثانيا على أن يكون أيضا به الامتثال فانه من الامتثال بعد الامتثال (وأما) على المختار من دلالته على طلب الطبيعة من دون دلالة على المرة ولا على التكرار فلا يخلو الحال إما أن لا يكون هناك إطلاق الصيغة في مقام البيان بل في مقام الاهمال أو الاجمال

______________________________

من حيث هي ليست الا هي، ويراد منه معنى أن كل ما هو خارج عنها فليس هو هي لا عينها ولا جزؤها، وبهذا المعنى يقال: الماهية من حيث هي لا موجودة ولا معدومة ولا واحد ولا كثير ولا غيرها، وقد يقال ذلك بمعنى أن الخارج عنها ليس عارضا لها بما هي هي بل بشرط الوجود، ويختص النفي بعوارض الوجود كالكتابة والحركة وبهذا المعنى يقال: الماهية من حيث هي لا كاتبة ولا متحركة ولا لا كاتبة ولا لا متحركة، فان الكتابة لما كانت في الرتبة اللاحقة للوجود كان نقيضها هو العدم في الرتبة اللاحقة له أيضا لوحدة رتبة النقيضين فجاز ارتفاع النقيضين في غير تلك الرتبة وحيث أن الطلب ليس من عوارض الماهية من حيث هي بل بشرط الوجود صح أن يقال: الماهية من حيث هي لا مطلوبة ولا لا مطلوبة فتأمل (قوله: وبهذا الاعتبار) أي اعتبار الوجود (قوله: في الامتثال) يعني يتحقق بالمرة (قوله: من الامتثال بعد الامتثال) يعني وهو ممتنع لان الامتثال فعل المأمور به وبالامتثال الاول يسقط الامر فلا يكون فعله ثانيا امتثالا وسيجئ له

١٨٥

فالمرجع هو الاصل، وإما أن يكون اطلاقها في ذاك المقام فلا اشكال في الاكتفاء بالمرة في الامتثال، وإنما الاشكال في جواز ان لا يقتصر عليها فان لازم اطلاق الطبيعة المأمور بها هو الاتيان بها مرة أو مرارا لا لزوم الاقتصار على المرة كما لا يخفى (والتحقيق) أن قضية الاطلاق انما هو جواز الاتيان بها مرة في ضمن فرد أو افراد فيكون ايجادها في ضمنها نحوا من الامتثال كايجادها في ضمن الواحد لا جواز الاتيان بها مرة ومرات فانه مع الاتيان بها مرة لا محالة يحصل الامتثال ويسقط به الامر فيما إذا كان امتثال الامر علة تامة لحصول الغرض الاقصى بحيث يحصل بمجرده فلا يبقى معه مجال لاتيانه ثانيا بداعي امتثال آخر أو بداعي أن يكون الاتيانان امتثالا واحدا لما عرفت من حصول الموافقة باتيانها وسقوط الغرض معها وسقوط الامر بسقوطه فلا يبقى مجال لامتثاله أصلا، وأما إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض

______________________________

تتمة (قوله: فالمرجع هو الاصل) يعني الاصل العملي فلو تردد الامر بين الطبيعة والتكرار فالاصل البراءة عن وجوب الزائد على المرة مع تعدد الوجود أما مع اتصاله - بناء على تحقق التكرار به - فاستصحاب الوجوب هو المرجع، ولو تردد بين الطبيعة والمرة فلا أثر للشك، ولو تردد بين المرة والتكرار والطبيعة فالحكم كما لو تردد بين الطبيعة والتكرار، وكذا لو تردد بين المرة والتكرار، وربما يختلف الاصل باختلاف تفسير المرة من حيث كونها لا بشرط أو بشرط لا فلاحظ (قوله: في ذاك المقام) أي في مقام البيان (قوله: في الاكتفاء بالمرة) لصدق الطبيعة على المرة (قوله: في جواز ان لا يقتصر) يعني في جواز الاتيان ثانيا بقصد امتثال الامر لا مجرد الاتيان ثانيا بلا قصد الامر فانه لا ريب في جوازه (قوله: أو مرارا) فيجوز الاتيان ثانيا وثالثا بقصد الامتثال (قوله: فرد أو أفراد) يعني افرادا دفعية (قوله: فانه مع الاتيان بها) هذا تعليل لعدم كون مقتضى الاطلاق جواز الاتيان زائدا على المرة، ومرجعه إلى ابداء المانع العقلي عن ثبوت

١٨٦

كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضأ فأتى به ولم يشرب أو لم يتوضأ فعلا فلا يبعد صحة تبديل الامتثال باتيان فرد آخر أحسن منه بل مطلقا كما كان له ذلك قبله على ما يأتي بيانه في الاجزاء (المبحث التاسع) الحق انه لا دلالة للصيغة

______________________________

اطلاق المذكور لان الوجود الاول إذا كان علة تامة لسقوط الغرض كان علة تامة لسقوط الامر ايضا فيمتنع كون الوجود اللاحق موضوعا للامر كي يجوز الاتيان به بقصد امتثال الامر، وإذا امتنع كون الاتيان الثاني موضوعا للامر امتنع ان يكون اطلاق الصيغة شاملا للمرة والمرات " أقول ": يمكن منع الاطلاق المذكور مع قطع النظر عن المانع العقلي وذلك لان اطلاق المادة يقتضي أن يكون المراد بها صرف الوجود الصادق على القليل والكثير وهو لا ينطبق على الوجود اللاحق فانه وجود بعد وجود لا صرف الوجود الذي هو بمعنى خرق العدم فتأمل، وأما المانع الذي ذكره فهو يتوقف على امتناع التخيير بين الاقل والاكثر بكل وجه، وسيأتي الكلام فيه (قوله: كما إذا امر بالماء ليشرب) الغرض من الامر باحضار الماء: تارة يكون مجرد تمكن الآمر من شربه ولا ريب في حصوله بمجرد احضاره، واخرى يكون هو الشرب الفعلي فيشكل الامتثال ثانيا من جهة امتناع بقاء الامر مع حصول موضوعه الذي هو صرف الاحضار، فلا بد اما من الالتزام بأن موضوع الامر ليس مطلق الاحضار بل الاحضار المترتب عليه الشرب، والباعث على هذا الالتزام لزوم المساواة عقلا بين الغرض وموضوع الامر سعة وضيقا لامتناع التفكيك بينهما، وعليه فلا يتعين الاحضار الحاصل لان يكون مأمورا به الا بعد ترتب الغرض عليه، ولازمه ان المكلف في مقام الامتثال انما يأتي بالاحضار الاول رجاء كونه مأمورا به لا بقصد ذلك، وحينئذ فللمكلف الاتيان ثانيا وثالثا بهذا القصد بعينه ولا يكون فرق بين الوجود الاول وبقية الوجودات اللاحقة في كيفية الامتثال لكن لازم ذلك القول بالمقدمة الموصلة، واما من الالتزام بأن الغرض كما يبعث إلى الامر اولا بالاحضار يبعث ثانيا إلى صرف الاحضار المنطبق على بقاء الفرد الاول واحضار فرد آخر إذ لا يتعين للدخل في

١٨٧

لا على الفور ولا على التراخي (نعم) قضية إطلاقها جواز التراخي والدليل عليه تبادر طلب ايجاد الطبيعة منها بلا دلالة على تقيدها باحدهما فلا بد في التقييد من دلالة أخرى كما ادعي دلالة غير واحد من الآيات على الفورية، وفيه منع الضرورة أن سياق آية: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) وكذا آية: (واستبقوا الخيرات) انما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة والاستباق إلى الخير من دون استتباع تركهما للغضب والشر ضرورة أن تركهما لو كان مستتبعا للغضب والشر كان البعث بالتحذير عنهما أنسب كما لا يخفى " فافهم " مع لزوم كثرة تخصيصه في المستحبات وكثير من الواجبات بل أكثرها فلا بد من حمل الصيغة فيهما على خصوص الندب أو مطلق الطلب ولا يبعد دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق وكان ما ورد من الآيات والروايات في مقام البعث نحوه ارشادا إلى ذلك كالآيات والروايات الواردة في البعث على اصل الاطاعة فيكون الامر فيها لما يترتب على المادة بنفسها ولو لم يكن

______________________________

الغرض الفرد الاول بخصوصه بمجرد وجوده بل كما لم يتعين أولا قبل وجوده لم يتعين بعد وجوده، ولازم ذلك الالتزام باوامر طولية بحسب الزمان مادام الغرض باقيا ويكون المراد من بقاء الامر هذا المعنى لا بقاء الامر الشخصي بحدوده لامتناع بقائه بحصول موضوعه فتأمل جيدا.

الفور والتراخى

(قوله: لا على الفور ولا على) كما هو المشهور وعن الشيخ (ره) وجماعة القول بالفور، وعن السيد (ره) الاشتراك بين الفور والتراخي، وعن آخرين التوقف، والتحقيق الاول ويظهر ذلك بملاحظة ما تقدم في المرة والتكرار (قوله: قضية اطلاقها) يعني اطلاق المادة بالاضافة إلى الزمان (قوله: تبادر طلب) يعني ولو كان الوجه في التبادر مقدمات الاطلاق (قوله: ضرورة ان تركهما) يعني أن ظاهر تعليق المسارعة والاستباق بالمغفرة والخير كون تركهما

١٨٨

هناك أمر بها كما هو الشأن في الاوامر الارشادية " فافهم " (تتمة) بناء على القول بالفور فهل قضية الامر الاتيان فورا ففورا بحيث لو عصى لوجب عليه الاتيان به فورا ايضا في الزمان الثاني أولا ؟ وجهان مبنيان على أن مفاد الصيغة - على هذا القول - هو وحدة المطلوب

______________________________

لا ينافي تحقق المغفرة والخير كما هو الحال في كل فعل متعلق بمفعوله، ولازم ذلك عدم وجوب المسارعة والاستباق والا كان تركهما موجبا للغضب والشر كما هو شأن ترك الواجب وهو خلف، بل كان الانسب حينئذ أن يقال: احذروا من الغضب والشر بالمسارعة والاستباق، لا التعبير بما في الآية، إلا أن يقال: ان الغضب الحاصل بترك المسارعة لا يضاد المغفرة التي هي موضوع المسارعة فوجوب المسارعة لا ينافي كون تركها لا يؤدي إلى الغضب بل إلى المغفرة، وكذا الحال في الآية الاخرى، ولكن هذا لو سلم لا ينافي ظهور السياق فيما ذكره المصنف (ره) فتأمل جيدا (والاولى) أن يقال: المغفرة في الآية الاولى يراد منها سببها وهو الاطاعة وكما يمتنع اخذ الاطاعة قيدا للواجب الشرعي يمتنع أخذ المسارعة إليها كذلك وكما أن الامر بالاطاعة ارشادي كذلك الامر بالمسارعة فيها، مع أن الآية على تقدير دلالتها على وجوب المسارعة لا تدل على تقييد الواجب بالفورية بل هي على خلاف ذلك أدل لان مادة المسارعة إلى الشئ إنما تكون فيما هو موسع كما لا يخفى، وكذا الحال في الآية الاخرى على تقدير كون المراد من الخيرات الخيرات الاخروية كما هو الظاهر، ولعله إلى بعض ما ذكرنا اشار بقوله: فافهم (قوله: الارشادية فافهم) لعله اشارة إلى لزوم الالتزام به لما عرفت، (قوله: فهل قضية الامر) ينبغي ان يجعل الاحتمال ثلاثي الاطراف فيقال: هل ظاهر الامر الاتيان به فورا فلو تركه عصى وسقط الامر أو الاتيان به فورا على نحو لو تركه في الزمان الاول عصى في ترك الفورية وبقي الامر بصرف الطبيعة أو الاتيان به فورا ففورا فلو تركه في الزمان الاول عصى ووجب الاتيان به بعد ذلك

١٨٩

أو تعدده ولا يخفى أنه لو قيل بدلالتها على الفورية لما كان لها دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدده فتدبر جيدا

الفصل الثالث

الاتيان بالمأمور به على وجهه يقتضى الاجزاء في الجملة بلا شبهة، وقبل الخوض في تفصيل المقام وبيان النقض والابرام ينبغي تقديم أمور (أحدها) الظاهر ان المراد من (وجهه) في العنوان هو النهج الذى ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعا

______________________________

فورا أيضا... وهكذا، ومبنى الاحتمال الاول ان الفورية في الزمان الاول مقومة لاصل المصلحة فتفوت بفوتها وهذا هو المراد من وحدة المطلوب، ومبنى الثاني ان يكون مصلحتان احداهما قائمة بذات الفعل مطلقا والاخرى قائمة بالفورية في الزمان الاول لا غير، ومبنى الثالث كذلك الا ان مصلحة الفورية ذات مراتب مختلفة يكون ترك الفورية في كل زمان مفوتا لمرتبة من مصلحتها لا لاصلها كما هو مبنى الثاني (قوله: أو تعدده) قد عرفت ان تعدده على نحوين يكونان مبنيين لاحتمالين (قوله: لو قيل بدلالتها على) اما لو كان الدليل على الفورية غير الصيغة فيختلف باختلاف تلك الادلة، وفي المعالم بنى القول بالسقوط على الاستناد لغير الآيتين والقول بعدمه على الاستناد اليهما، ولا يخلو من تأمل ليس هذا محل ذكره والله سبحانه اعلم، ثم انه حيث كان اطلاق يعتمد عليه في نفي الفور والتراخي فلا اشكال واما إذا لم يكن اطلاق كذلك فالمرجع الاصل فلو كان التردد بين الفور والتراخي فالواجب الجمع بين الوظيفتين للعلم الاجمالي بالتكليف باحدهما، ولو كان بين الفور والطبيعة فالمرجع اصل البراءة لو كان وجوب الفورية على نحو تعدد المطلوب ولو كان بنحو وحدة المطلوب فالحكم هو الحكم مع الشك بين الاقل والاكثر، وكذا الحكم لو كان التردد بين الطبيعة والتراخي والله سبحانه أعلم

١٩٠

وعقلا مثل أن يؤتى به بقصد التقرب في العبادة، لا خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا فانه عليه يكون (على وجهه) قيدا - توضيحيا - وهو بعيد - مع أنه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع بناء على المختار كما تقدم من ان قصد القربة من كيفيات الاطاعة عقلا لا من قيود المأمور به شرعا، ولا الوجه المعتبر عند بعض الاصحاب فانه - مع عدم اعتباره عند المعظم، وعدم اعتباره عند من اعتبره إلا في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات، لا وجه لاختصاصه به بالذكر على تقدير الاعتبار فلا بد من ارادة ما يندرج فيه من المعنى وهو ما ذكرناه كما لا يخفى

______________________________

الكلام في الاجزاء

(قوله: مثل ان يؤتى به) بيان للنهج اللازم عقلا بناء على خروج قصد التقرب عن موضوع الامر (قوله: لا خصوص) معطوف على النهج وفيه تعريض بما قد يظهر من عبارة التقريرات فتأملها (قوله: قيدا توضيحيا) لان ذكر المأمور به يغني عنه ثم إن كون القيد توضيحيا لازم للقائلين بأن قصد التقرب داخل في المأمور به (قوله: مع انه يلزم خروج) إذ لا إشكال في عدم الاجزاء لو كان المأمور به في العبادات فاقدا لقصد التقرب وان كان واجدا لجميع ما يعتبر فيه شرعا (قوله: بناء على المختار) أما على القول بكون قصد التقرب قيدا للمأمور به فهي داخلة في محل النزاع لدخولها في العنوان ويكون عدم الاجزاء مع فقد التقرب لعدم الاتيان بالمأمور به شرعا (قوله: ولا الوجه المعتبر) يعني الوجوب والندب (قوله: عند المعظم) فلا وجه لذكره في العنوان في كلام المعظم إلا أن يكون المقصود من ذكره الاحتياط في ذكر القيود لكنه بعيد (قوله: لا مطلق الواجبات) فلا وجه لاخذه قيدا في دعوى الاجزاء مطلقا (قوله: لاختصاصه) يعني من دون سائر القيود المعتبرة في الاطاعة مثل التقرب والتمييز إلا أن يدعى الاكتفاء به عنهما على بعض

١٩١

(ثانيها) الظاهر ان المراد من الاقتضاء ههنا الاقتضاء بنحو العلية والتأثير لا بنحو الكشف والدلالة، ولذا نسب إلى الاتيان لا إلى الصيغة (ان قلت): هذا إنما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره وأما بالنسبة إلى أمر آخر كالاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري أو الظاهرى بالنسبة إلى الامر الواقعي فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره بنحو يفيد الاجزاء أو بنحو آخر لا يفيده (قلت): نعم لكنه لا ينافى كون النزاع فيها كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدم غايته ان العمدة في سبب الاختلاف فيهما انما هو الخلاف في دلالة دليلهما هل انه على نحو يستقل العقل بان الاتيان به موجب للاجزاء ويؤثر فيه وعدم دلالته، ويكون النزاع فيه صغرويا أيضا بخلافه في الاجزاء بالاضافة إلى أمره فانه لا يكون الا كبرويا لو كان هناك نزاع

______________________________

التقادير فتأمل (قوله: المراد من الاقتضاء ههنا) الواقع في القوانين والفصول وغيرهما في تحرير العنوان قولهم: الامر بالشئ هل يقتضي الاجزاء أولا ؟، وحيث أن ظاهر الاقتضاء فيه الكشف والدلالة كما في قولهم: الامر يقتضي الوجوب، والنهي يقتضي التحريم، نبه المصنف (ره) على ان الاقتضاء في العنوان المذكور في المتن ليس بمعنى الكشف والدلالة بل بمعنى العلية والتأثير كما في قولهم: الامر بالشئ يقتضي النهي عن ضده، والوجه في ذلك نسبة الاقتضاء في عنوان المتن إلى الاتيان وفي عنوان غيره إلى الامر وحيث أنه لا معنى لتأثير الامر في الاجزاء وجب حمله على الدلالة يعني يدل الامر على أن موضوعه واف بتمام المصلحة بخلاف الاتيان فان تأثيره في الاجزاء ظاهر إذ لولا كونه علة لحصول الغرض لما كان مامورا به (قوله: هذا إنما يكون) يعني أن حمل الاقتضاء على العلية إنما يصح بالاضافة إلى نفس الامر المتعلق بالماتي فان إجزاءه يلازم سقوط امره لا بالنسبة إلى الامر المتعلق بغيره إذ النزاع في الحقيقة يكون في دلالة الدليل فالاقتضاء فيه بمعنى الدلالة (قوله: نعم) يعني كما ذكرت من أن النزاع في دلالة الدليل (قوله: صغرويا) صورة القياس في المقام هكذا: المأمور به

١٩٢

كما نقل عن بعض (فافهم) (ثالثها) الظاهر ان الاجزاء ههنا بمعناه لغة وهو الكفاية وان كان يختلف ما يكفى عنه فان الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي يكفى فيسقط به التعبد به ثانيا، وبالامر الاضطراري أو الظاهرى الجعلي فيسقط به القضاء لا انه يكون ههنا اصطلاحا بمعنى اسقاط التعبد أو القضاء فانه بعيد جدا

______________________________

*

بالامر الاضطراري مأمور به بالامر الواقعي - ولو تنزيلا - والمامور به بالامر الواقعي يقتضي الاجزاء، ينتج: المأمور به بالامر الاضطراري يقتضي الاجزاء. والنزاع في هذه المسألة بالنسبة إلى الامر الواقعي في الكبرى وبالنسبة إلى الامر الاضطراري في الصغرى بالنسبة إلى الامر الواقعي، وفي الكبرى بالنسبة إلى أمر نفسه والمحكم في الكبرى مطلقا العقل والمحكم في الصغرى الدليل الشرعي فإذا كان الاقتضاء في الكبرى بمعنى العلية كان في النتيجة كذلك، ومنه يظهر أن إثبات الاجزاء في الفعل الاضطراري والظاهري بالنسبة إلى الامر الواقعي يتوقف على إثبات الصغرى والكبرى معا، وفي الفعل الواقعي على اثبات نفس الكبرى لانه عينها (قوله: فافهم) يمكن ان يكون اشارة إلى ان النزاع في مثل هذه الصغرى ليس نزاعا في المسألة الاصولية لان شأن المسائل الاصولية تنقيح الكبريات وأما الصغريات فوضيفة الفقيه، ولذا لم يتعرض في هذا المبحث لصغريات الافعال الاضطرارية والظاهرية تفصيلا فلاحظ (قوله: الظاهر ان الاجزاء) قد تضمنت جملة من العبارات كون الاجزاء له معنيان (احدهما) إسقاط التعبد بالفعل ثانيا (وثانيهما) إسقاط القضاء، وأن المراد هنا أي المعنيين ؟ وقد دفع المصنف (ره) ذلك - تبعا للتقريرات - بان لفظ الاجزاء لم يستعمل في المقام إلا بمعناه اللغوي وهو الكفاية غاية الامر أن ما يكفي عند الماتي به تارة يكون هو التعبد به ثانيا فيكون مسقطا للتعبد به واخرى الامر به قضاء فيكون مسقطا للقضاء لا أن له معنى اصطلاحيا ليتردد في أنه إسقاط التعبد أو إسقاط القضاء (قوله: يكفي فيسقط) يعنى يكفي في حصول الغرض فلا يحتاج إلى التعبد به ثانيا لتحصيله (قوله: فيسقط به) يعنى يكفي أيضا في حصول

١٩٣

(رابعها) الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار لا يكاد يخفى، فان البحث ههنا في ان الاتيان بما هو المأمور به يجزئ عقلا بخلافه في تلك المسألة فانه في تعيين ما هو المأمور به شرعا بحسب دلالة الصيغة بنفسها أو بدلالة اخرى (نعم) كان التكرار عملا موافقا لعدم الاجزاء لكنه لا بملاكه، وهكذا الفرق بينها وبين مسألة تبعية القضاء للاداء فان البحث في تلك المسألة في دلالة الصيغة على التبعية وعدمها بخلاف هذه المسألة فانه كما عرفت في ان الاتيان بالمأمور يجزئ عقلا عن اتيانه ثانيا اداء أو

______________________________

*

الغرض فلا يثبت الامر بالقضاء ثم إن إجزاء المأمور به الواقعي لما كان بلحاظ الامر به ناسب التعبير باسقاط التعبد به ثانيا وإجزاء المأمور به بالامر الاضطراري والظاهري لما كان بلحاظ الامر به قضاء ناسب التعبير باسقاط القضاء (قوله: الفرق بين هذه) قد يتوهم أن القول بالمرة قول بالاجزاء والقول بالتكرار قول بعدم الاجزاء (قوله: بما هو المأمور به) يعني بعد الفراغ عن تعيين تمام المأمور به (قوله: فانه في تعيين) وحينئذ فيكون النزاع في الاجزاء مترتبا على النزاع في المرة والتكرار لا أن النزاع فيهما نزاع في الموضوع والنزاع فيه نزاع في الحكم (قوله: بحسب دلالة) يعني فيكون النزاع في أمر لفظي (قوله: عملا) متعلق بقوله: موافقا، يعني هما من حيث العمل سواء لكنه موقوف على أن المراد بالتكرار فعل كل فرد ممكن بعد آخر أما لو كان المراد ما يشمل تكرار الصلاة اليومية وصوم رمضان كما يقتضيه استدلال بعضهم فلا ملازمة بينهما عملا ثم إن هذا بالنسبة إلى أمره أما بالنسبة إلى أمر غيره فلا مجال للتوهم ولا للموافقة عملا (قوله: لا بملاكه) إذ ملاك عدم الاجزاء عدم وفاء المأمور به بالغرض المقصود منه وملاك التكرار عدم حصول تمام المأمور به (قوله: وهكذا الفرق) يعني قد يتوهم أن القول بعدم الاجزاء عين القول بتبعية القضاء للاداء، والقول بالاجزاء قول بعدم تبعية القضاء للاداء (قوله: فان البحث حينئذ) يعني أن البحث في تبعية القضاء للاداء بحث في ان الامر بشئ في وقت

١٩٤

قضاء أولا يجزئ فلا علقة بين المسألة والمسئلتين اصلا (إذا) عرفت هذه الامور فتحقيق المقام يستدعي البحث والكلام في موضعين (الاول) أن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي بل بالامر الاضطراري أو الظاهري أيضا يجزئ عن التعبد به ثانيا، لاستقلال العقل بانه لا مجال مع موافقة الامر باتيان المأمور به على وجهه لاقتضائه التعبد به ثانيا. نعم لا يبعد ان يقال بأنه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبد به ثانيا بدلا عن التعبد به أولا لا منضما إليه كما اشرنا إليه في المسألة السابقة، وذلك فيما علم ان مجرد امتثاله لا يكون علة تامة لحصول الغرض وان كان وافيا به لو اكتفى

______________________________

*

هل يدل على لزوم فعله في خارج الوقت على تقدير عدم الاتيان به في الوقت بحيث يرجع إلى الامر به مطلقا لكونه في الوقت أولا يدل ؟ فيكون النزاع في تعيين المأمور به من حيث دلالة الامر، وأين هو من النزاع في المسألة ؟ (قوله: فلا علقة بين) أولا من جهة أن إحداهما متضمنة لتعيين نفس المأمور به والاخرى متضمنة لتعيين مقتضاه (وثانيا) من جهة أن النزاع في إحداهما لفظي وفى الاخرى عقلي " وثالثا " من جهة ان القول بعدم الاجزاء انما في ظرف الاتيان بالمأمور به والقول بالتبعية انما هو في ظرف عدم الاتيان به (قوله: بالامر الاضطراري) يعني بالاضافة إلى أمره (قوله: أو الظاهري) يعني بالاضافة إلى أمره (قوله: لاستقلال العقل بأنه) قد عرفت أن الامر الحقيقي لابد ان يكون حاكيا عن الارادة وأن الارادة حدوثا وبقاء تتوقف على العلم بالمصلحة المعبر عنها بالداعي تارة وبالغرض أخرى فالماتي به في الخارج إما أن لا يترتب عليه الغرض فلا يكون مامورا به فهو خلف أو يترتب عليه الغرض فبقاء الامر حينئذ إن كان بلا غرض فهو مستحيل كما عرفت وان كان عن غرض آخر غير الغرض الحاصل من الماتي به أولا فيلزمه أن يكون المأمور به فردين في الخارج يترتب على كل منهما غرض خاص فيكون الامر منحلا إلى أمرين يسقط كل منهما بالاتيان بمتعلقه وهو عين الاجزاء المدعى غاية الامر أنه لا يكون فعل أحدهما مسقطا لامر الآخر ومجزئا عنه ولكنه غير محل الكلام إذ الكلام - كما عرفت - في أن فعل المأمور به مجزئ عن الامر به ثانيا (قوله: لا منضما إليه)

١٩٥

به كما إذا اتى بماء امر به مولاه ليشربه فلم يشربه بعد فان الامر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد ولذا لو اهرق الماء واطلع عليه العبد وجب عليه اتيانه ثانيا كما لم يأت به أولا ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه والا لما اوجب حدوثه فحينئذ يكون له الاتيان بماء آخر موافق للامر كما كان له قبل اتيانه الاول بدلا عنه. نعم فيما كان الاتيان علة تامة لحصول الغرض فلا يبقى موقع التبديل كما إذا أمر باهراق الماء في فمه لرفع عطشه فاهرقه، بل لو لم يعلم أنه من أي القبيل فله التبديل باحتمال ان لا يكون علة فله إليه السبيل، ويؤيد ذلك بل يدل عليه ما ورد من الروايات في باب اعادة من صلى فرادى جماعة وان الله تعالى يختار احبهما إليه (الموضع الثاني) وفيه مقامان (المقام الاول) في ان الاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري هل يجزئ عن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي ثانيا بعد رفع الاضطرار في الوقت اعادة وفى خارجه قضاء أولا يجزئ ؟ تحقيق الكلام فيه يستدعي التكلم فيه (تارة) في بيان ما يمكن ان يقع عليه الامر الاضطراري من الانحاء وبيان ما هو قضية كل منها من الاجزاء وعدمه (وأخرى) في تعيين ما وقع عليه فاعلم انه يمكن

______________________________

*

قد يمكن أن يكون منضما إليه كما في الافراد الدفعية التى تكون امتثالا واحدا لعدم المرجح. فتأمل (قوله: وجب عليه) يعني بعين وجوبه أولا كما تقدم الكلام فيه (قوله: بدلا عنه) قد عرفت أنه يمكن أن يكون منضما إليه (قوله: فلا يبقى موقع) إذ الثاني مما يعلم بعدم ترتب الاثر عليه (قوله: ما ورد من الروايات) كرواية أبي بصير قلت لابي عبد الله (عليه السلام): أصلي ثم أدخل المسجد فتقام الصلاة وقد صليت فقال (عليه السلام): صل معهم يختار الله أحبهما إليه، ورواية هشام عنه (عليه السلام): في الرجل يصلي الصلاة وحده ثم يجد جماعة قال (عليه السلام): يصلي معهم ويجعلها الفريضة انشاء الله، ونحوها رواية حفص، وفي مرسلة الصدوق: يحسب له أفضلهما وأتمهما

١٩٦

ان يكون التكليف الاضطراري في حال الاضطرار كالتكليف الاختياري في حال الاختيار وافيا بتمام المصلحة وكافيا فيما هو المهم والغرض ويمكن ان لا يكون وافيا به كذلك بل يبقى منه شئ امكن استيفاؤه أو لا يمكن، وما أمكن كان بمقدار يجب تداركه أو يكون بمقدار يستحب، ولا يخفى انه ان كان وافيا به فيجزئ فلا يبقى مجال اصلا للتدارك لا قضاء ولا اعادة، وكذا لو لم يكن وافيا ولكن لا يمكن تداركه ولا يكاد يسوغ له البدار في هذه الصورة الا لمصلحة كانت فيه لما فيه من نقض الغرض وتفويت مقدار من المصلحة لولا مراعاة ما هو فيه من الاهم فافهم

______________________________

الامر الاضطراري

(قوله: ان يكون التكليف) يعني موضوعه (قوله: كالتكليف الاختياري) يعني كموضوعه (قوله: وما أمكن كان) يعني أن المقدار الباقي من المصلحة الذي يمكن استيفاؤه قسمان فانه تارة يكون واجب التدارك وأخرى يكون مستحب التدارك (أقول): ما لا يمكن استيفاؤه ايضا قسمان تارة يكون محرم التفويت وأخرى لا يكون كذلك فالاقسام خمسة وإنما لم يتعرض للقسمين المذكورين لعدم اختلافهما في الاجزاء وإن كانا يختلفان في جواز البدار وعدمه (قوله: ولا يخفى) شروع في حكم الاقسام من حيث الاجزاء (قوله: اصلا للتدارك) لان التدارك إنما يكون في ظرف الفوت والمفروض عدمه (قوله: ولا يكاد يسوغ) يعني حيث يكون الفائت مما يحرم تفويته أما إذا لم يكن فلا تحريم للبدار كما أن نسبة التحريم إلى البدار لا تخلو من مسامحة إذ المحرم هو تفويت ذلك المقدار والبدار ليس تفويتا ولا مقدمة له وإنما هو ملازم له فلا ينسب إليه التحريم إلا بالعرض والمجاز ولذا لم تفسد العبادة، ولعله إلى هذا اشار بقوله: فافهم (قوله: إلا لمصلحة) يعني إذا كانت مصلحة في البدار تصلح لمزاحمة المقدار الفائت لم يحرم التفويت الملازم للبدار حينئذ (قوله: لما فيه من)

١٩٧

(لا يقال): عليه فلا مجال لتشريعه ولو بشرط الانتظار لامكان استيفاء الغرض بالقضاء (فانه يقال): هذا كذلك لولا المزاحمة بمصلحة الوقت، وأما تسويغ البدار أو ايجاب الانتظار في الصورة الاولى فيدور مدار كون العمل بمجرد الاضطرار مطلقا أو بشرط الانتظار أو مع اليأس عن طرؤ الاختيار ذا مصلحة ووافيا بالغرض، وان لم يكن وافيا وقد امكن تدارك الباقي في الوقت أو مطلقا ولو بالقضاء خارج

______________________________

تعليل لعدم جواز البدار لكن عرفت أن البدار لا تفويت فيه لغرض المولى وإنما هو يلازم التفويت (قوله: فلا مجال لتشريعه) يعني إذا كان البدل الاضطراري غير واف بمصلحة المبدل الاختياري كيف جاز تشريعه ولو في آخر الوقت ؟ لان في تشريعه تفويتا للمصلحة (قوله: هذا كذلك) (أقول): تشريع الاضطراري إنما جاز لاشتماله على المصلحة مع عدم كونه مقدمة للتفويت فالمنع عن تشريعه غير ظاهر الوجه الا ان يكون المراد من تشريعه الامر بفعله في الوقت أو الاذن كذلك الملازمين للاذن في التفويت (قوله: لولا المزاحمة) يعنى انما يكون تفويت التشريع ممنوعا عنه حيث يؤدي إلى تفويت المصلحة مع عدم مزاحمتها بمصلحة أخرى وإلا فلو فرض كون خصوصية الفعل في الوقت مشتملة على مصلحة تزاحم المقدار الفائت لم يكن مانع عن تشريعه كما تقدم مثل ذلك في جواز البدار ثم إنه حيث كان في خصوصية الوقت مصلحة يتدارك بها ما يفوت جاز البدار أول الوقت إذا علم الاضطرار في تمام الوقت ولا موجب للانتظار فتأمل (قوله: في الصورة الاولى) وهي ما كان الاضطراري فيها وافيا بتمام المصلحة (قوله: الاضطرار مطلقا) وعليه يجوز البدار مطلقا (قوله: أو بشرط الانتظار) وعليه فلا يجوز البدار (قوله: أو مع اليأس) فلا يجوز البدار الا مع اليأس ثم إن هذه الاقسام لا تختص بالصورة الاولى بل تجري في الثانية أيضا إذ قد تكون خصوصية الوقت مطلقا ذات مصلحة تزاحم المقدار الفائت. وقد تكون بشرط الانتظار، وقد تكون بشرط اليأس وقد يكون بغير ذلك فيتبع كلا حكمه (قوله: وان لم يكن وافيا)

١٩٨

الوقت فان كان الباقي مما يجب تداركه فلا يجزئ فلا بد من ايجاب الاعادة أو القضاء وإلا فاستحبابه ولا مانع عن البدار في الصورتين غاية الامر يتخير في الصورة الاولى بين البدار والاتيان بعملين العمل الاضطراري في هذا الحال والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار أو الانتظار والاقتصار باتيان ما هو تكليف المختار، وفي الصورة الثانية يتعين عليه استحباب البدار واعادته بعد طروء الاختيار. هذا كله فيما يمكن أن يقع عليه الاضطراري من الانحاء، وأما ما وقع عليه فظاهر إطلاق دليله مثل قوله تعالى: (فان لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) وقوله (عليه السلام): (التراب أحد الطهورين ويكفيك عشر سنين) هو الاجزاء وعدم وجوب الاعادة أو القضاء ولا بد في ايجاب الاتيان به ثانيا من دلالة دليل بالخصوص (وبالجملة):

______________________________

*

معطوف على قوله: إن كان وافيا (قوله: فلا بد من ايجاب) لاجل تدارك الباقي (قوله: والا فاستحبابه) الظاهر أن أصل العبارة: والا فيجزئ، بمعنى عدم وجوب الاعادة والقضاء وان كان يستحب (قوله: ولا مانع عن) إذ لا تفويت فيهما (قوله: في الصورة الاولى) وهي ما يكون الباقي فيها مما يجب تداركه (قوله: وفى الصورة الثانية) وهي ما كان الباقي فيها مما يستحب تداركه (قوله: استحباب البدار) هذا الاستحباب بنحو الكلية غير ظاهر الوجه إلا أن يستند فيه إلى مثل آيتي المسارعة والاستباق فتأمل (قوله: وأما ما وقع عليه) التعرض لذلك ينبغي أن يكون في الفقه لا هنا إذ ليس لدليله ضابطة كلية فقد يختلف الدليل باختلاف قرينة الحال أو المقال من حيث الدلالة على الوفاء وعدمه وكأن مقصود المصنف (ره) الاشارة إلى ما يكون كالانموذج لادلة البدل الاضطراري (قوله: هو الاجزاء) أما اقصاء ما كان بلسان البدلية مثل: أحد الطهورين، ونحوه فظاهر، فان اطلاق البدلية يقتضي قيام البدل مقام المبدل منه بلحاظ جميع الآثار والخواص فلا بد من أن يفى بما يفي به المبدل من المصلحة بمرتبتها ويترتب عليه الاجزاء " فان قوله ": هذا الاطلاق

١٩٩

وان كان ثابتا الا انه معارض باطلاق دليل المبدل منه فانه يقتضي تعينه في جميع الاحوال ولازمه وجوب حفظ القدرة عليه الكاشف عن عدم وفاء البدل بمصلحته والا جاز تفويت القدرة عليه، وكما يمكن الجمع بينهما برفع اليد عن اطلاق دليل المبدل فيحمل على تعينه في ظرف القدرة عليه جاز رفع اليد عن اطلاق دليل البدل فيحمل على وفائه ببعض مراتب المصلحة التي يفي بها المبدل واذ لا مرجح يرجع إلى الاصل ويسقط الاطلاق عن المرجعية " قلت ": نسبة دليل البدل إلى دليل المبدل منه نسبة الحاكم إلى المحكوم لانه ناظر إليه موسع لموضوعه فيجب تقديمه عليه وجوب تقديم الحاكم على المحكوم. هذا كله بالنظر إلى طبع الكلام نفسه أما بملاحظة كون البدلية في حال الاضطرار فلا يبعد كون مقتضى الجمع العرفي كون البدل من قبيل الميسور للتام ولاجل ذلك نقول: لا يجوز تعجيز النفس اختيارا لانه تفويت للتام، فتأمل جيدا. وأما ما كان بلسان الامر فقد يشكل اطلاقه المقتضي للاجزاء إذ الامر انما يدل على وفاء موضوعه بمصلحة مصححة للامر به أما أنها عين مصلحة المبدل أو بعضها فلا يدل عليه الامر ولا يصلح لنفي وجوب الاعادة أو القضاء. نعم لو كان المتكلم في مقام بيان تمام ما له دخل في حصول الغرض المترتب على الاختياري مع عدم الامر بالاعادة أو القضاء أمكن الحكم بالاجزاء حينئذ اعتمادا على هذا الاطلاق المقامي المقدم على اطلاق دليل المبدل للحكومة، أو كون الامر واردا مورد جعل البدل فيجري فيه ما تقدم، اللهم إلا أن يقال: دليل المبدل ظاهر في التعيين في حال التمكن وعدمه ودليل البدل ظاهر في تعينه في حال عدم التمكن من المبدل وهما متنافيان للعلم بعدم تعينهما معا فيدور الامر (بين) رفع اليد عن ظهور دليل البدل في التعيين ودليل المبدل فيه بالاضافة إلى بعض مراتب المصلحة ولازمه الحكم بتعين المبدل في تحصيل تمام مرتبة الغرض والتخيير بينه وبين البدل في تحصيل بعضها ويترتب عليه عدم الاجزاء (وبين) رفع اليد عن اطلاق دليل المبدل بالاضافة إلى حالتي التمكن وعدمه وحيث أن الثاني أقرب يكون هو المتعين ولازم ذلك اشتراط وجوب المبدل بحال التمكن فيترتب

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444