الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 94165
تحميل: 6036


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 94165 / تحميل: 6036
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 9

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

كون الأسرى بأيديهم استعارة لتسلّطهم عليهم تمام التسلّط كالشئ يكون في يد الإنسان يقلّبه كيف يشاء.

وقوله:( إن يعلم الله في قلوبكم خيراً ) كناية عن الإيمان أو اتّباع الحقّ الّذى يلازمه الإيمان فإنّه تعالى يعدهم في آخر الآية بالمغفرة، ولا مغفرة مع شرك قال تعالى:( إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) النساء: ٤٨.

ومعنى الآية: يا أيّها النبيّ قل لمن في أيديكم من الأسرى الّذين تسلّطتم عليهم وأخذت منهم. الفداء: إن ثبت في قلوبكم الإيمان وعلم الله منكم ذلك - ولا يعلم إلّا ما ثبت وتحقّق - يؤتكم خيراً ممّا اُخذ منكم من الفداء ويغفر لكم والله غفور رحيم.

قوله تعالى: ( وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم ) الخ أمكنه منه أي أقدره عليه، وإنّما قال أوّلاً:( خيانتك ) ثمّ قال:( خانوا الله ) لأنّهم أرادوا بالفدية أن يجمعوا الشمل ثانياُ ويعودوا إلى محاربتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا خيانتهم لله من قبل فهى كفرهم وإصرارهم على أن يطفؤوا نور الله وكيدهم ومكرهم.

ومعنى الآية: إن آمنوا بالله وثبت الإيمان في قلوبهم آتاهم الله خيراً ممّا أخذ منهم وغفر لهم، وإن أرادوا خيانتك والعود إلى ما كانوا عليه من العناد والفساد فإنّهم خانوا الله من قبل فأمكنك منهم وأقدرك عليهم وهو قادر على أن يفعل بهم ذلك ثانياً، والله عليم بخيانتهم لو خانوا حكيم في إمكانك منهم.

( بحث روائي)

في المجمع في قوله تعالى:( ما كان لنبىّ أن يكون له أسرى ) الخ قال كان: القتلى من المشركين يوم بدر سبعين قتل منهم علىّ بن أبى طالبعليه‌السلام سبعة وعشرين(١) ، وكان الأسرى أيضاً سبعين، ولم يؤسر أحد من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجمعوا الاُسارى، وقرنوهم في الحبال، وساقوهم على أقدامهم، وقتل من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسعة رجال منهم

____________________

(١) لم يأسر أحداً على ما في الروايات.

١٤١

سعد بن خيثمة وكان من النقباء من الأوس.

قال: وعن محمّـد بن إسحاق قال: استشهد من المسلمين يوم بدر أحد عشر رجلاً: أربعة من قريش، وسبعة من الأنصار، وقيل: ثمانية، وقتل من المشركين بضعة وأربعون رجلاً(١) .

قال: وعن ابن عبّـاس: قال: لمّا أمسى اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدرو الناس محبوسون بالوثاق بات ساهراً أوّل الليلة فقال له أصحابه: ما لك لا تنام؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سمعت أنين عمّى العبّـاس في وثاقه، فأطلقوه فسكت فنام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال: وروى عبيدة السلمانىّ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لأصحابه يوم بدر في الاُسارى: إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم - واستشهد منكم بعدّتهم، وكانت الاُسارى سبعين فقالوا: بل نأخذ الفداء فنستمتع به ونتقوّى به على عدوّنا، وليستشهد منّا بعدّتهم قال عبيدة طلبوا الخيرتين كلتيهما(٢) فقتل منهم يوم اُحد سبعون.

وفي كتاب علىّ بن ابراهيم: لمّا قتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النضر بن الحارث وعقبة بن أبى معيط خافت الأنصار أن يقتل الاُسارى فقالوا: يا رسول الله قتلنا سبعين وهم قومك واُسرتك أتجذّ أصلهم فخذ يا رسول الله منهم الفداء، وقد كانوا أخذوا ما وجدوه من الغنائم في عسكر قريش فلمّا طلبوا إليه وسألوه نزلت الآية:( ما كان لنبىّ أن يكون له أسرى ) الآيات فأطلق لهم ذلك.

وكان أكثر الفداء أربعة آلاف درهم وأقلّه ألف درهم فبعثت قريش بالفداء أوّلاً فأوّلاً فبعثت زينب بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فداء زوجها أبى العاص بن الربيع، وبعثت قلائد لها كانت خديجة جهّزتها بها، وكان أبوالعاص ابن اُخت خديجة، فلمّا رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلك القلائد قال: رحم الله خديجة هذه قلائد هي جهّزتها بها فأطلقه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشرط أن يبعث إليه زينب، ولا يمنعها من اللحوق به فعاهده على ذلك و وفى له.

____________________

(٢) وهؤلاء هم الّذين ضبط علماء الاثار أسماءهم غير من لم يضبط اسمه.

(٣) لكن قوله تعالى في عتابهم (تريدون عرض الدنيا) يخطئ عبيدة في قوله.

١٤٢

قال: وروى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كره أخذ الفداء حتّى رأى سعد بن معاذ كراهية ذلك في وجهه فقال: يا رسول الله هذا أوّل حرب لقينا فئة المشركين، والإثخان في القتل أحبّ إلى من استبقاء الرجال، وقال عمر بن الخطّاب: يا رسول الله كذّبوك وأخرجوك فقدّمهم واضرب أعناقهم، ومكّن عليّـاً من عقيل فيضرب عنقه، ومكّنّى من فلان أضرب عنقه فإنّ هؤلاء أئمّـة الكفر، وقال أبوبكر: أهلك وقومك استأن بهم واستبقهم وخذ منهم فدية فيكون لنا قوّة على الكفّـار قال ابن زيد فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو نزل عذاب من السماء ما نجا منكم أحد غير عمر وسعد بن معاذ.

وقال أبوجعفر الباقرعليه‌السلام : كان الفداء يوم بدر كلّ رجل من المشركين بأربعين أوقيّـة، والاُوقيّـة أربعون مثقالاً إلّا العبّـاس فإنّ فداءه كان مائة أوقيّـة، وكان أخذ منه حين أسر عشرون أوقيّـة ذهباً فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ذلك غنيمة ففاد نفسك وابنى أخيك نوفلاً وعقيلاً فقال: ليس معى شئ. فقال: أين الذهب الّذى سلّمته إلى أمّ الفضل وقلت: إن حدث بى حدث فهو لك وللفضل وعبدالله وقثم. فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: الله تعالى فقال: أشهد أنّك رسول الله والله ما اطّلع على هذا أحد إلّا الله تعالى.

أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق الفريقين تركنا إيرادها إيثاراً للاختصار.

وفي قرب الأسناد للحميريّ عن عبدالله بن ميمون عن جعفر عن أبيهعليه‌السلام قال: اُوتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمال دراهم فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للعبّـاس: يا عبّـاس ابسط رداءً وخذ من هذا المال طرفاً فبسط رداءً وأخذ منه طائفة ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عبّـاس هذا من الّذى قال الله تبارك وتعالى:( يا أيّها النبيّ قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيراً ممّا أخذ منكم ) قال: نزلت في العبّـاس ونوفل وعقيل.

وقال: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى يوم بدر أن يقتل أحد من بنى هاشم وأبوالبخترىّ فاُسروا عليّـاً فقال: انظر من ههنا من بنى هاشم؟ قال: فمرّ على عقيل بن أبى طالب فحاد عنه قال فقال له: يابن أمّ علىّ أما والله لقد رأيت مكاني.

قال: فرجع إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: هذا أبوالفضل في يد فلان، وهذا عقيل في

١٤٣

يد فلان، وهذا نوفل في يد فلان يعنى نوفل بن الحارث فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى انتهى إلى عقيل فقال: يا أبا يزيد قتل أبوجهل ! فقال: إذاً لا تنازعوا في تهامة. قال: إن كنتم أثخنتم القوم وإلّا فاركبوا أكتافهم.

قال: فجئ بالعبّـاس فقيل له: افد نفسك وافد ابن [ ابني ظ ] أخيك فقال: يا محمّـد تتركني أسأل قريشاً في كفّى؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له: أعط ممّا خلّفت عند اُمّ الفضل وقلت لها إن أصابني شئ في وجهى فأنفقيه على ولدك ونفسك. قال: يا ابن أخى من أخبرك بهذا؟ قال: أتانى به جبرئيل. فقال: ومحلوفة ما علم بهذا إلّا أنا وهى. أشهد أنّك رسول الله. قال: فرجع الاُسارى كلّهم مشركين إلّا العبّـاس وعقيل ونوفل ابن الحارث، وفيهم نزلت هذه الآية:( قل لمن في أيديكم من الأسرى ) . الآية.

أقول: وروى في الدرّ المنثور هذه المعاني بطرق مختلفه عن الصحابة وروى نزول الآية في العبّـاس وابنى أخيه عن ابن سعد وابن عساكر عن ابن عبّـاس، وروى مقدار الفدية الّتى فدى بها عن كلّ رجل من الاُسارى، وقصّة فدية العبّـاس عنه وعن ابني أخيه الطبرسيّ في مجمع البيان عن الباقرعليه‌السلام كما في الحديث.

١٤٤

( سورة الانفال آيه ٧٢ - ٧٥)

إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِن وَلاَيَتِهِم مِن شَيْ‏ءٍ حَتّى‏ يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدّينِ فَعَلَيْكُمُ النّصْر إِلّا عَلَى‏ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ( ٧٢) وَالّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ( ٧٣) وَالّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُم مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ( ٧٤) وَالّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنكُمْ وأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى‏ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ( ٧٥)

( بيان)

الآيات تختم السورة، ويرجع معناها نوع رجوع إلى ما افتتحت به السورة وفيها إيجاب الموالاة بين المؤمنين إلّا إذا اختلفوا بالمهاجرة وعدمها وقطع موالاة الكافرين.

قوله تعالى: ( إنّ الّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا - إلى قوله -أولياء بعض ) المراد بالّذين آمنوا وهاجروا: الطائفة الاُولى من المهاجرين قبل نزول السورة بدليل ما سيذكر من المهاجرين في آخر الآيات، والمراد بالّذين آووا ونصروا: هم الأنصار الّذين آووا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين المهاجرين ونصروا الله ورسوله، وكان ينحصر المسلمون يومئذ في هاتين الطائفتين إلّا قليل ممّن آمن بمكّة ولم يهاجر.

وقد جعل الله بينهم ولاية بقوله:( اُولئك بعضهم أولياء بعض ) والولاية أعمّ من

١٤٥

ولاية الميراث وولاية النصرة ولاية الأمن، فمن آمن منهم كافراً كان نافذاً عند الجميع، فالبعض من الجميع ولىّ البعض من الجميع كالمهاجر هو ولىّ كلّ مهاجر وأنصاريّ، والأنصاريّ ولىّ كلّ أنصارى ومهاجر، كلّ ذلك بدليل إطلاق الولاية في الآية.

فلا شاهد على صرف الآية إلى ولاية الإرث بالمواخاة الّتى كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعلها في بدء الهجره بين المهاجرين والأنصار وكانوا يتوارثون بها زماناً حتّى نسخت.

قوله تعالى: ( والّذين آمنوا ولم يهاجروا ) إلى آخر الآية، معناه واضح وقد نفيت فيها الولاية بين المؤمنين المهاجرين والأنصار وبين المؤمنين غير المهاجرين إلّا ولاية النصرة إذا استنصروهم بشرط أن يكون الاستنصار على قوم ليس بينهم وبين المؤمنين ميثاق.

قوله تعالى: ( والّذين كفروا بعضهم أولياء بعض ) أي إنّ ولايتهم بينهم لا تتعدّاهم إلى المؤمنين فليس للمؤمنين أن يتولّوهم، وذلك أنّ قوله ههنا في الكفّـار:( بعضهم أولياء بعض ) كقوله في المؤمنين:( اُولئك بعضهم أولياء بعض ) إنشاء وتشريع في صورة الأخبار، وجعل الولاية بين الكفّـار أنفسهم لا يحتمل بحسب الاعتبار إلّا ما ذكرناه من نفى تعدّيه عنهم إلى المؤمنين.

قوله تعالى: ( إلّا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفسادٌ كبيرٌ ) إشارة إلى مصلحة جعل الولاية على النحو الّذى جعلت، فإنّ الولاية ممّا لا غنى عنها في مجتمع من المجتمعات البشريّـة سيّما المجتمع الإسلاميّ الّذى اُسّس على اتّباع الحقّ وبسط العدل الإلهىّ كما أنّ تولّى الكفّـار وهم أعداء هذا المجتمع يوجب الاختلاط بينهم فيسرى فيه عقائدهم وأخلاقهم، وتفسد سيرة الإسلام المبنيّـة على الحقّ بسيرهم المبنيّـة على اتّباع الهوى وعبادة الشيطان، وقد صدّق جريان الحوادث في هذه الآونة ما أشارت إليه هذه الآية.

قوله تعالى: ( والّذين آمنوا وهاجروا ) إلى آخر الآية اثبات لحقّ الإيمان على من اتّصف بآثاره اتّصافاً حقّاً، ووعد لهم بالمغفرة والرزق الكريم.

قوله تعالى: ( والّذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فاُولئك منكم ) خطاب للمهاجرين الأوّلين والأنصار وإلحاق من آمن وهاجر وجاهد معهم بهم فيشاركونهم في الولاية.

١٤٦

قوله تعالى: ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) إلى آخر الآية. جعل للولاية بين اُولى الأرحام والقرابات، وهى ولاية الإرث فإنّ سائر أقسام الولاية لا ينحصر فيما بينهم.

والآية تنسخ ولاية الإرث بالمواخاة الّتى أجراها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المسلمين في أوّل الهجرة، وتثبت الإرث بالقرابة سواء كان هناك ذو سهم أو لم يكن أو كان عصبة أو لم يكن فالآية مطلقة كما هو ظاهر.

( بحث روائي)

في المجمع عن الباقرعليه‌السلام أنّهم كانوا يتوارثون بالمواخاة.

أقول: ولا دلالة فيه على أنّ الآية نزلت في ولاية الاُخوّة.

في الكافي بإسناده عن أبى بصير عن أبى جعفرعليه‌السلام قال: الخال والخالة يرثان إذا لم يكن معهما أحد إنّ الله يقول:( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) .

أقول: ورواه العيّـاشيّ عن أبى بصير عنه مرسلاً.

وفي تفسير العيّـاشيّ عن زرارة عن أبى جعفرعليه‌السلام ، في قول الله:( واُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) أنّ بعضهم أولى بالميراث من بعض لأنّ أقربهم إليه أولى به. ثمّ قال أبوجعفرعليه‌السلام ، إنّهم أولى بالميّت، وأقربهم إليه أمّـه وأخوه واُخته لاُمّـه وابنه أليس الاُمّ أقرب إلى الميّت من إخوانه وأخواته؟

وفيه عن ابن سنان عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: لمّا اختلف علىّ بن أبى طالبعليه‌السلام وعثمان بن عفّان في الرجل يموت وليس له عصبة يرثونه وله ذوو قرابة لا يرثونه: ليس له بينهم مفروض، فقال علىّعليه‌السلام ميراثه لذوى قرابته لأنّ الله تعالى يقول:( واُولوا الأرحام بعضهم اُولى ببعض في كتاب الله ) وقال عثمان أجعل ميراثه في بيت مال المسلمين ولا يرثه أحد من قرابته.

أقول: والروايات في نفى القول بالعصبة والاستناد في ذلك إلى الآية كثيرة من أئمّـة أهل البيتعليه‌السلام .

١٤٧

وفي الدرّ المنثور أخرج الطيالسيّ والطبرانيّ وأبوالشيخ وابن مردويه عن ابن عبّـاس قال: آخى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أصحابه وورّث بعضهم من بعض حتّى نزلت هذه الآية( واُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) فتركوا ذلك وتوارثوا بالنسب.

وفي المعاني بإسناد فيه رفع عن موسى بن جعفرعليهم‌السلام : فيما جرى بينه وبين هارون وفيه: قال هارون: فلم ادّعيتم أنّكم ورثتم رسول الله والعمّ يحجب ابن العمّ، وقبض رسول الله وقد توفّى أبو طالب قبله والعبّـاس عمّه حىّ - إلى أن قال - فقلت: إنّ النبيّ لم يورث من لم يهاجر ولا أثبت له ولاية حتّى يهاجر فقال: ما حجّـتك فيه؟ قلت: قول الله تبارك وتعالى:( والّذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتّى يهاجروا ) وإنّ عمّى العبّـاس لم يهاجر فقال: إنّى سائلك يا موسى هل أفتيت بذلك أحداً من أعدائنا أم أخبرت أحداً من الفقهاء في هذه المسألة بشئ؟ فقلت: اللّهمّ لا وما سألني عنها إلّا أميرالمؤمنين. الحديث.

أقول: ورواه المفيد في الاختصاص.

١٤٨

( سورة التوبة مدنيّـة وهى مائة وتسع وعشرون آية)

( سورة التوبة آيه ١ - ١٦)

بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الّذِينَ عَاهَدْتُم مِنَ الْمُشْرِكِينَ( ١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ( ٢) وَأَذَانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الْأَكْبَرِ أَنّ اللّهَ بَرِي‏ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِن تَوَلّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشّرِ الّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ( ٣) إِلّا الّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى‏ مُدّتِهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتّقِينَ( ٤) فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الْصّلاَةَ وَآتَوُا الزّكَاةَ فَخَلّوا سَبِيلَهُمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ( ٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى‏ يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاَيَعْلَمُونَ( ٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلّا الّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتّقِينَ( ٧) كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَيَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلاَ ذِمّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى‏ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ( ٨) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدّوا عَن سَبِيلِهِ إِنّهُمْ سَاءَ مَاكَانُوا يَعْمَلُونَ( ٩) لاَيَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلاَ ذِمّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ( ١٠) فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصّلاَةَ وَآتَوُا الزّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَنُفَصّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ( ١١) وَإِن نَكَثُوا أَيْمَانَهُم

١٤٩

مِن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمّةَ الْكُفْرِ إِنّهُمْ لاَأَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلّهُمْ يَنتَهُونَ ( ١٢ ) أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمّوا بِإِخْرَاجِ الرّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ ( ١٣ ) قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ( ١٤ ) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى‏ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١٥ ) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتّخِذُوا مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ١٦ )

( بيان)

الآيات مفتتح قبيل من الآيات سمّوها سورة التوبة أو سورة البراءة، وقد اختلفوا في كونها سورة مستقلّة أو جزءً من سورة الأنفال، واختلاف المفسّرين في ذلك ينتهى إلى اختلاف الصحابة ثمّ التابعين فيه، وقد اختلف في ذلك الحديث عن أئمّـة أهل البيتعليهم‌السلام غير أنّ الأرجح بحسب الصناعة ما يدلّ من حديثهم على أنّها ملحقة بسورة الأنفال.

والبحث عن معاني آياتها وما اشتملت عليه من المضامين لا يهدى إلى غرض واحد متعيّـن على حدّ سائر السور المشتملة على أغراض مشخّصة تؤمّها أوائلها وتنعطف إليها أواخرها، فأوّلها آيات تؤذن بالبراءة وفيها آيات القتال مع المشركين، والقتال مع أهل الكتاب، وشطر عظيم منها يتكلّم في أمر المنافقين، وآيات في الاستنهاض على القتال وما يتعرّض لحال المخلّفين، وآيات ولاية الكفّـار، وآيات الزكاة وغير ذلك، ومعظمها ما يرجع إلى قتال الكفّـار وما يرجع إلى المنافقين.

١٥٠

وعلى أيّ حال لا يترتّب من جهة التفسير على هذا البحث فائدة مهمّة وإن أمكن ذلك من جهة البحث الفقهىّ الخارج عن غرضنا.

قوله تعالى: ( براءة من الله ورسوله إلى الّذين عاهدتم من المشركين ) قال الراغب: أصل البرء والبراء والتبرّى: التفصّى ممّا يكره مجاورته، ولذلك قيل: برأت من المرض وبرأت من فلان وتبرّأت، وأبرأته من كذا وبرّأته، ورجل برئ وقوم برآء وبريؤون قال تعالى: براءة من الله ورسوله.انتهى.

والآية بالنسبة إلى الآيات التالية كالعنوان المصدرّ به الكلام المشير إلى خلاصة القول على نهج سائر السور المفصّلة الّتى تشير الآية والآيتان من أوّلها على إجمال الغرض المسرود لأجل بيانه آياتها.

والخطاب في الآية للمؤمنين أو للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولهم على ما يدلّ عليه قوله:( عاهدتم ) وقد أخذ الله تعالى ومنه الخطاب ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو الواسطة، والمشركون وهم الّذين اُريدت البراءة منهم، ووجّه الخطاب ليبلغ إليهم جميعاً في الغيبة، وهذه الطريقة في الأحكام والفرامين المراد إيصالها إلى الناس نوع تعظيم لصاحب الحكم والأمر.

والآية تتضمّن إنشاء الحكم والقضاء بالبراءة من هؤلاء المشركين وليس بتشريع محض بدليل تشريكه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في البراءة فإنّ دأب القرآن أن ينسب الحكم التشريعيّ المحض إلى الله سبحانه وحده، وقد قال تعالى:( ولا يشرك في حكمه أحداً ) الكهف: ٢٦ ولا ينسب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا الحكم بالمعنى الّذى في الولاية والسياسة وقطع الخصومة.

فالمراد بالآية القضاء برفع الأمان عن الّذين عاهدوهم من المشركين وليس رفعاً جزافيّـاً وإبطالاً للعهد من غير سبب يبيح ذلك فإنّ الله تعالى سيذكر بعد عدّة آيات أنّهم لا وثوق بعهدهم الّذى عاهدوه وقد فسق أكثرهم ولم يراعوا حرمة العهد ونقضوا ميثاقهم، وقد أباح تعالى عند ذلك إبطال العهد بالمقابلة نقضاً بنقض حيث قال:( وإمّا تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إنّ الله لا يحبّ الخائنين ) الأنفال: ٥٨ فأباح إبطال العهد عند مخافة الخيانة ولم يرض مع ذلك إلّا بإبلاغ النقض إليهم لئلّا يؤخذوا على الغفلة

١٥١

فيكون ذلك من الخيانة المحظورة.

ولو كان إبطالاً لعهدهم من غير سبب مبيح لذلك من قبل المشركين لم يفرّق بين من دام على عهده منهم وبين من لم يدم عليه، وقد قال تعالى مستثنياً:( إلّا الّذين عاهدتم من المشركين ثمّ لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتمّوا إليهم عهدهم إلى مدّتهم إنّ الله يحبّ المتقين ) .

ولم يرض تعالى بنقض عهد هؤلاء المعاهدين الناقضين لعهدهم دون أن ضرب لهم أجلاً ليفكّروا في أمرهم ويرتاؤا رأيهم ولا يكونوا مأخوذين بالمباغتة والمفاجأة.

فمحصّل الآية الحكم ببطلان العهد ورفع الأمان عن جماعة من المشركين كانوا قد عاهدوا المسلمين ثمّ نقضه أكثرهم ولم يبق إلى من بقى منهم وثوق تطمئنّ به النفس إلى عهدهم وتعتمد على يمينهم وتأمن شرّهم وأنواع مكرهم.

قوله تعالى: ( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنّكم غير معجزى الله وأنّ الله مخزي الكافرين ) السياحة هي السير في الأرض والجرى ولذلك يقال للماء الدائم الجرية في ساحة: السائح.

وأمرهم بالسياحة أربعة أشهر كناية عن جعلهم في مأمن في هذه البرهة من الزمان وتركهم بحيث لا يتعرّض لهم بشرّ حتّى يختاروا ما يرونه أنفع بحالهم من البقاء أو الفناء مع ما في قوله:( واعلموا أنّكم غير معجزى الله وأنّ الله مخزي الكافرين ) من إعلامهم أنّ الأصلح بحالهم رفض الشرك، والإقبال إلى دين التوحيد، وموعظتهم أن لا يهلكوا أنفسهم بالاستكبار والتعرّض للخزى الإلهىّ.

وقد وجّه في الآية الخطاب إليهم بالإلتفات من الغيبة إلى الخطاب لمافى توجيه الخطاب القاطع والإرادة الجازمة إلى الخصم من الدلالة على بسط الاستيلاء والظهور عليه واستذلاله واستحقار ما عنده من قوّة وشدّة.

وقد اختلفت أقوال المفسّرين في المراد بقوله:( أربعة أشهر ) والّذى يدلّ عليه السياق ويؤيّده اعتبار إصدار الحكم وضرب الأجل ليكونوا في فسخة لاختيار ما وجدوه من الحياة أو الموت أنفع بحالهم: أن تبتدئ الأربعة الأشهر من يوم الحجّ الأكبر الّذى

١٥٢

يذكره الله تعالى في الآية التالية فإنّ يوم الحجّ الأكبر هو يوم الإبلاغ والإيذان والأنسب بضرب الأجل الّذى فيه نوع من التوسعة للمحكوم عليهم وإتمام الحجّـة، أن تبتدئ من حين الإعلام والإيذان.

وقد اتّفقت كلمة أهل النقل أنّ الآيات نزلت سنة تسع من الهجرة فإذا فرض أنّ يوم الحجّ الأكبر هو يوم النحر العاشر من ذى الحجّة كانت الأربعة الأشهر هي عشرون من ذى الحجّة والمحرّم وصفر وربيع الأوّل وعشرة أيّـام من ربيع الآخر.

وعند قوم أنّ الأربعة الأشهر تبتدء من يوم العشرين من ذى القعدة وهو يوم الحجّ الأكبر عندهم فالأربعة الأشهر هي عشرة أيّـام من ذى القعدة وذو الحجّة والمحرّم وصفر وعشرون من ربيع الأوّل، وسيأتى ما فيه.

وذكر آخرون: أنّ الآيات نزلت أوّل شوّال سنة تسع من الهجرة فتكون الأربعة الأشهر هي شوال وذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم فتنقضى بإنقضاء الأشهر الحرم، وقد حداهم إلى ذلك القول بأنّ المراد بقوله تعالى فيما سيأتي:( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا ) الأشهر الحرم المعروفة: ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم فيوافى انسلاخ الأشهر الحرم انقضاء الأربعة الأشهر، وهذا قول بعيد عن الصواب لا يساعد عليه السياق وقرينة المقام كما عرفت.

قوله تعالى: ( وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحجّ الأكبر أنّ الله برئ من المشركين ورسوله ) الاذان هو الإعلام، وليست الآية تكراراً لقوله تعالى السابق( براءة من الله ورسوله ) فإنّ الجملتين وإن رجعتا إلى معنى واحد وهو البراءة من المشركين إلّا أنّ الآية الاُولى إعلام البراءة وإبلاغه إلى المشركين بدليل قوله في ذيل الآية:( إلى الّذين عاهدتم من المشركين ) بخلاف الآية الثانية فإنّ وجه الخطاب فيه إلى الناس ليعلموا براءة الله ورسوله من المشركين، ويستعدّوا ويتهيّؤوا لإنفاذ أمر الله فيهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم بدليل قوله:( إلى الناس ) وقوله تفريعاً:( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) إلى آخر الآية.

وقد اختلفوا في تعيين المراد بيوم الحجّ الأكبر على أقوال:

١٥٣

منها: أنّه يوم النحر من سنة التسع من الهجرة لأنّه كان يوماً اجتمع فيه المسلمون والمشركون ولم يحجّ بعد ذلك العام مشرك، وهو المؤيّد بالأحاديث المرويّـة عن أئمّـة أهل البيتعليهما‌السلام والأنسب بأذان البراءة، والاعتبار يساعد عليه لأنّه كان أكبر يوم اجتمع فيه المسلمون والمشركون من أهل الحجّ عامّة بمنى وقد ورد من طرق أهل السنّة روايات في هذا المعنى غير أنّ مدلول جلّها أنّ الحجّ الأكبر اسم يوم النحر فيتكرّر على هذا كلّ سنة ولم يثبت من طريق النقل تسمية على هذا النحو.

ومنها: أنّه يوم عرفة لأنّ فيه الوقوف، والحجّ الأصغر هو الّذى ليس فيه وقوف وهو العمرة، وهو استحسان لا دليل عليه، ولا سبيل إلى تشخيص صحّـته.

ومنها: أنّه اليوم الثاني ليوم النحر لأنّ الإمام يخطب فيه وسقم هذا الوجه ظاهر.

ومنها: أنّه جميع أيّـام الحجّ كما يقال: يوم الجمل، ويوم صفّين، ويوم بغاث، ويراد به الحين والزمان، وهذا القول لا يقابل سائر الأقوال كلّ المقابلة فإنّه إنّما يبيّن أنّ المراد باليوم جميع أيّـام الحجّ، وأمّا وجه تسمية هذا الحجّ بالحجّ الأكبر فيمكن أن يوجّه ببعض ما في الأقوال السابقة كما في القول الأوّل.

وكيف كان فالاعتبار لا يساعد على هذا القول لأنّ وجود يوم بين أيّـام الحجّ يجتمع فيه عامّة أهل الحجّ يتمكّن فيه من أذان براءة كلّ التمكّن كيوم النحر يصرف قوله:( يوم الحجّ الأكبر ) إلى نفسه، ويمنع شموله لسائر أيّـام الحجّ الّتى لا يجتمع فيها الناس ذاك الإجتماع.

ثمّ التفت سبحانه إلى المشركين ثانياً وذكّرهم أنّهم غير معجزين لله ليكونوا على بصيرة من أمرهم كما ذكّرهم بذلك في الآية السابقة بقوله:( واعلموا أنّكم غير معجزى الله وأنّ الله مخزي الكافرين ) غير أنّه زاد عليه في هذه الآية قوله:( فإن تبتم فهو خير لكم ) ليكون تصريحاً بما لوّح إليه في الآية السابقة فإنّ التذكير بأنّهم غير معجزى الله إنّما كان بمنزلة العظة وبذل النصح لهم لئلّا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة باختيار البقاء على الشرك والتولّى عن الدخول في دين التوحيد ففى الترديد تهديد ونصيحة وعظة.

١٥٤

ثمّ التفت سبحانه إلى رسوله فخاطبه أن يبشّر الّذين كفروا بعذاب أليم فقال:( وبشّر الّذين كفروا بعذاب أليم ) والوجه في الالتفات الّذى في قوله:( فإن تبتم فهو خير لكم ) الخ ما تقدّم في قوله:( فسيحوا في الأرض ) الخ، وفي الالتفات الّذى في قوله:( وبشّر الّذين كفروا ) الخ أنّه رسالة لا تتمّ إلّا من جهة مخاطبة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( إلّا الّذين عاهدتم من المشركين ثمّ لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً ) الخ، استثناء من عموم البراءة من المشركين، والمستثنون هم المشركون الّذين لهم عهد لم ينقضوه لا مستقيماً ولا غير مستقيم فمن الواجب الوفاء بميثاقهم وإتمام عهدهم إلى مدّتهم.

وقد ظهر بذلك أنّ المراد من إضافة قولة:( ولم يظاهروا عليكم أحداً ) إلى قوله:( لم ينقصوكم شيئاً ) استيفاء قسمي النقض وهما النقض المستقيم كقتلهم بعض المسلمين، والنقض غير المستقيم نظير مظاهرتهم بعض أعداء المسلمين عليهم كإمداد مشركي مكّة بنى بكر على خزاعة بالسلاح، وكانت بنوبكر في عهد قريش وخزاعة في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحاربوا فأعانت قريش بنى بكر على خزاعة ونقضت بذلك عهد حديبيّـة الّذى عقدوه بينهم وبين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان ذلك من أسباب فتح مكّة سنة ثمان.

وقوله تعالى: ( إنّ الله يحبّ المتقين ) في مقام التعليل لوجوب الوفاء بالعهد مالم ينقضه المعاهد المشرك، وذلك يجعل احترام العهد وحفظ الميثاق أحد مصاديق التقوى المطلق الّذى لا يزال يأمر به القرآن وقد صرّح به في نظاهر هذا المورد كقوله تعالى:( ولا يجر منّكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) المائدة: ٨ وقوله:( ولا يجر منّكم شنآن قوم أن صدّوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم العدوان واتّقوا الله ) المائدة: ٢.

وبذلك يظهر ما في قول بعضهم: أنّ المراد بالمتّقين الّذين يتّقون نقض العهد من غير سبب، وذلك أنّ التقوى بمعنى الورع عن محارم الله عامّة كالحقيقة الثانية في القرآن فيحتاج إرادة خلافه إلى قرينة صارفة.

قوله تعالى: ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم

١٥٥

وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كلّ مرصد ) أصل الانسلاخ من سلخ الشاة وهو نزع جلدها عنها، وانسلاخ الشهر نوع كناية عن خروجه، والحصر هو المنع من الخروج عن محيط، والمرصد اسم مكان من الرصد بمعنى الاستعداد للرقوب.

قال الراغب: الرصد الاستعداد للترقّب يقال: رصد له وترصّد وأرصدته له، قال عزّوجلّ:( وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل ) ، وقوله عزّوجلّ:( إنّ ربّك لبالمرصاد ) تنبيهاً أنّه لا ملجأ ولا مهرب، والرصد يقال للراصد الواحد والجماعة الراصدين وللمرصود واحداً كان أو جمعاً، وقوله تعالى:( يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ) يحتمل كلّ ذلك، والمرصد موضع الرصد.

انتهى.

والمراد بالأشهر الحرم هي الأربعة الأشهر: أشهر السياحة الّتى ذكرها الله سبحانه في قوله:( فسيحوا في الأرض أربعه أشهر ) وجعلها أجلاً مضروباً للمشركين لا يتعرّض فيها لحالهم وأمّا الأشهر الحرم المعروفة أعنى ذاالقعدة وذاالحجة والمحرّم فإنها لا تنطبق على أذان براءة الواقع في يوم النحر عاشر ذى الحجّة بوجه كما تقدّمت الإشارة إليه.

وعلى هذا فاللّام في الأشهر الحرم للعهد الذكرىّ أي إذا انسلخ هذه الأشهر الّتى ذكرناها حرّمناها للمشركين لا يتعرّض لحالهم فيها فاقتلوا المشركين الخ.

ويظهر بذلك أن لا وجه لحمل قوله:( فإذا انسلخ الأشهر الحرم ) على انسلاخ ذى القعدة وذى الحجّة والمحرّم بأن يكون انسلاخ الأربعة الأشهر بانسلاخ الأشهر الثلاثة منطبقاً عليه أو يكون انسلاخ الأشهر الحرم مأخوذاً على نحو الإشارة إلى انقضاء الأربعة الأشهر وإن لم ينطبق الأشهر على الأشهر فإنّ ذلك كلّه ممّا لا سبيل إليه بحسب السياق وإن كان لفظ الأشهر الحرم في نفسه ظاهراً في شهور رجب وذى القعدة وذى الحجّة والمحرّم.

وقوله:( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) محقّق للبراءة منهم ورفع الاحترام عن نفوسهم بإهدار الدماء فلا مانع من أيّ نازلة نزلت بهم، وفي قوله:( حيث وجدتموهم ) تعميمٌ للحكم فلا مانع حاجب عن وجوب قتلهم حيثما وجدوا في حلّ أو حرم بل ولو ظفر بهم في الشهر الحرام - بناء على تعميم( حيث ) للزمان والمكان كليهما فيجب على

١٥٦

المسلمين كائنين من كانوا إذا ظفروا بهم أن يقتلوهم، كان ذلك في الحلّ أو الحرم في الشهر الحرام أو غيره.

وإنّما أمر بقتلهم حيث وجدوا للتوسّل بذلك إلى إيرادهم مورد الفناء والانقراض، وتطييب الأرض منهم، وإنجاء الناس من مخالطتهم ومعاشرتهم بعد ما سمح واُبيح لهم ذلك في قوله:( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) .

ولازم ذلك أن يكون كلّ من قوله:( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) وقوله:( وخذوهم ) وقوله:( واحصروهم ) وقوله:( واقعدوا لهم كلّ مرصد ) بياناً لنوع من آلوسيلة إلى إفناء جمعهم وإنفاد عددهم، ليتفصّى المجتمع من شرّهم.

فإن ظفر بهم وأمكن قتلهم قتلوا، وإن لم يمكن ذلك قبض عليهم واُخذوا، وإن لم يمكن أخذهم حصروا وحبسوا في كهفهم ومنعوا من الخروج إلى الناس ومخالطتهم وإن لم يعلم محلّهم قعد لهم في كلّ مرصد ليظفر بهم فيقتلوا أو يؤخذوا.

ولعلّ هذا المعنى هو مراد من قال: إنّ المراد: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم أو خذوهم واحصروهم على وجه التخيير في اعتبار الأصلح من الأمرين، وإن كان لا يخلو عن تكلّف من جهة اعتبار الأخذ والحصر والقعود في كلّ مرصد أمراً واحداً في قبال القتل، وكيف كان فالسياق إنّما يلائم ما قدّمناه من المعنى.

وأمّا قول من قال: إنّ في قوله:( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم ) ، تقديماً وتاخيراً، والتقدير: فخذوا المشركين حيث وجدتموهم واقتلوهم فهو من التصرّف في معنى الآية من غير دليل مجوّز، والآية وخاصّـة ذيلها يدفع ذلك سياقاً.

ومعنى الآية: فإذا انسلخ الأشهر الحرم وانقضى الأربعة الأشهر الّتى أمهلناهم بها بقولنا:( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) فأفنوا المشركين بأىّ وسيلة ممكنة رأيتموها أقرب وأوصل إلى إفناء جمعهم وإمحاء رسمهم من قتلهم أينما وجدتموهم من حلّ أو حرم ومتى ما ظفرتم بهم في شهر حرام أو غيره، ومن أخذهم أو حصرهم أو القعود لهم في كلّ مرصد حتّى يفنوا عن آخرهم.

قوله تعالى: ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم إنّ الله

١٥٧

غفور رحيم ) اشتراط في معنى الغاية للحكم السابق، والمراد بالتوبة معناها اللغوىّ وهو الرجوع أي إن رجعوا من الشرك إلى التوحيد بالإيمان ونصبوا لذلك حجّة من أعمالهم وهى الصلاة والزكاة والتزموا أحكام دينكم الراجعة إلى الخالق جميعاً فخلّوا سبيلهم.

وتخلية السبيل كناية عن عدم التعرّض لسالكيه وإن عادت مبتذلة بكثرة التداول كأنّ سبيلهم مسدودة مشغولة بتعرّض المتعرّضين فإذا خلّى عنها كان ذلك ملازماً أو منطبقاً على عدم التعرّض لهم.

وقوله:( إنّ الله غفور رحيم ) تعليل لقوله:( فخلّوا سبيلهم ) إمّا من جهة الأمر الّذى يدلّ عليه بصورته أو من جهة المأمور به الّذى يدلّ عليه بمادّته أعني تخلية سبيلهم:

والمعنى على الأوّل: وإنّما أمر الله بتخلية سبيلهم لأنّه غفور رحيم يغفر لمن تاب إليه ويرحمه.

وعلى الثاني: خلّوا سبيلهم لأنّ تخليتكم سبيلهم من المغفرة والرحمة، وهما من صفات الله العليا فتتّصفون بذلك بصفة ربّكم، وأظهر الوجهين هو الأوّل.

قوله تعالى: ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتّى يسمع كلام الله ) إلى آخر الآية، الآية تتضمّن حكم الإجارة لمن استجار من المشركين لأن يسمع كلام الله، وهى بما تشتمل عليه من الحكم وإن كانت معترضة أو كالمعترضة بين ما يدلّ على البراءة ورفع الأمان عن المشركين إلّا أنّها بمنزلة دفع الدخل الواجب الّذى لا يجوز إهماله فإنّ أساس هذه الدعوة الحقّة وما يصاحبها من الوعد والوعيد والتبشير والإنذار، وما يترتّب عليه من عقد العقود وإبرام العهود أو النقض والبراءة وأحكام القتال كلّ ذلك إنّما هو لصرف الناس عن سبيل الغىّ والضلال إلى صراط الرشد والهدى، وإنجائهم من شقاء الشرك إلى سعادة التوحيد.

ولازم ذلك الاعتناء التامّ بكلّ طريق يرجى فيه الوصول إلى هداية ضالّ والفوز بإحياء حقّ وإن كان يسيراً قليلاً فإنّ الحقّ حقّ وإن كان يسيراً والمشرك غير المعاهد وإن أبرء الله منه الذمّة وأهدر دمه ورفع الحرمة عن كلّ ما يعود إليه من مال وعرض لكنّه تعالى إنّما فعل به ذلك ليحيى حقّ ويبطل باطل فإذا رجى منه الخير منع ذلك من أيّ

١٥٨

قصد سيّئ يقصد به حتّى يحصل اليأس من هدايته وإنجائه.

فإذا استجار المشرك لينظر فيما تندب إليه الدعوة الحقّة ويتّبعها إن اتّضحت له كان من الواجب إجارته حتّى يسمع كلام الله ويرتفع عنه غشاوة الجهل وتتمّ عليه الحجّة فإذا تمادى بعد ذلك في ضلاله وأصرّ في استكباره صار ممّن ارتفع عنه الأمان وبرأت منه الذمّة ووجب تطييب الأرض من قذارة وجوده بأيّة وسيلة أمكنت وأىّ طريق كان أقرب وأسهل وهذا هو الّذى يفيده قوله تعالى:( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتّى يسمع كلام الله ثمّ أبلغه مأمنه ذلك بأنّهم قوم لا يعلمون ) الآية بما يكتنف به من الآيات.

فمعنى الآية: إن طلب منك بعض هؤلاء المشركين الّذين رفع عنهم الأمان أن تأمنه في جوارك ليحضر عندك ويكلّمك فيما تدعو إليه من الحقّ الّذى يتضمّنه كلام الله فأجره حتّى يسمع كلام الله ويرتفع عنه غشاوة الجهل ثمّ أبلغه مأمنة حتّى يملك منك أمناً تامّاً كاملاً، وإنّما شرع الله هذا الحكم وبذل لهم هذا الأمن التامّ لأنّهم قوم جاهلون ولا بأس على جاهل إذا رجى منه الخير بقبول الحقّ لو وضح له.

وهذا غاية ما يمكن مراعاته من اُصول الفضيلة وحفظ الكرامة ونشر الرحمة والرأفة وشرافة الإنسانيّـة اعتبره القرآن الكريم، وندب إليه الدين القويم.

وقد بان بما قدّمناه أوّلاً: أنّ الآية مخصّصة لعموم قوله في الآية السابقة:( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) .

وثانياً: أنّ قوله:( حتّى يسمع كلام الله ) غاية للاستجارة والإجارة فيتغيّـا به الحكم، فالاستئمان إنّما كان لسمع كلام الله واستفسار ما عند الرسول من موادّ الرسالة فيتقدّر الأمان الّذى يعطاه المستجير المستأمن بقدره فإذا سمع من كلام الله ما يتبيّـن به الرشد من الغىّ ويتميّز به الهدى من الضلال انتهت مدّة الإستجارة وحان أن يردّ المستجير إلى مأمنه والمكان الخاصّ به الّذى هو في أمن فيه، لا يهدّده فيه سيوف المسلمين ليرجع إلى حاله الّذى فارقه، ويختار لنفسه ما يشاء على حرّيّـة من المشيّـة والإرادة.

وثالثاً: أنّ المراد بكلام الله مطلق آيات القرآن الكريم، نعم يتقيّـد بما ينفع

١٥٩

المستجير من الآيات الّتى توضح له اُصول المعارف الإلهيّـة ومعالم الدين والجواب عمّا يختلج في صدره من الشبهات كلّ ذلك بدلالة المقام والسياق.

وبذلك يظهر فساد ما قيل: إنّ المراد بكلام الله آيات التوحيد من القرآن، وكذا ما قيل إنّ المراد به سورة براءة أو خصوص ما بلّغوه في الموسم من آيات صدر السورة فإنّ ذلك كلّه تخصيص من غير مخصّص.

ورابعاً: أنّ المراد بسمع كلام الله الوقوف على أصول الدين ومعالمه وإن أمكن أن يقال: إنّ لاستماع نفس كلام الله فيما إذا كان لمستجير عربيّـاً يفهم الكلام الإلهىّ دخلاً في ذلك أمّا إذا كان غير عربيّ ولا يفهم الكلام العربيّ فالمستفاد من السياق أنّ الغاية في حقّه مجرّد تفقّه اُصول الدين ومعالمه.

وخامساً: أنّ الآية محكمة غير منسوخة ولا قابلة له لأنّ من الضرورىّ البيّـن من مذاق الدين، وظواهر الكتاب والسنّة أن لا مؤاخذة قبل تمام الحجّة، ولا تشديد أيّ تشديد كان إلّا بعد البيان فالجاهل السالك في سبيل الفحص أو المستعلم للحقّ المستفهم للحقيقة لا يردّ خائباً ولا يؤخذ غافلاً فعلى الإسلام والمسلمين أن يعطوا كلّ الأمان لمن استأمنهم ليستحضر معارف الدين ويستعلم اصول الدعوة حتّى يتّبعها إن لاحت له فيها لوائح الصدق، وهذا أصل لا يقبل بطلاناً ولا تغييراً مادام الإسلام إسلاماً فالآية محكمة غير قابلة للنسخ إلى يوم القيامة.

ومن هنا يظهر فساد قول من قال: إنّ قوله:( وإن أحد من المشركين استجارك فاجره حتّى يسمع كلام الله ) الآية منسوخة بالآية الاتية:( وقاتلوا المشركين كافّة كما يقاتلونكم كافّة ) الآية.

وسادساً: أنّ الآية إنّما توجب إجارة المستجير إذا استجار لامر دينىّ يرجى فيه خير الدين، وأمّا مطلق الاستجارة لا لغرض دينىّ ولا نفع عائد إليه فلا دلالة لها عليه أصلاً بل الآيات السابقة الآمرة بالتشديد عليهم في محلّها.

وسابعاً: أنّ قوله في تتميم الأمر بالإجارة:( ثمّ أبلغه مأمنه ) مع تمام قوله:( فأجره حتّى يسمع ) بدونه في الدلالة على المقصد يدلّ على كمال العناية بفتح باب

١٦٠