الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 94124
تحميل: 6036


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 94124 / تحميل: 6036
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 9

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الهداية على وجوه الناس، والتحفّظ على حرّيّـة الناس في حياتهم وأعمالهم الحيويّـة، والإغماض في طريقة عن كلّ حكم حتميّ وعزيمة قاطعة ليهلك من هلك عن بيّـنة ويحيى من حىّ عن بيّـنة، ولا يكون للناس على الله حجّة بعد الرسل.

وثامناً: أنّ الآية - كما قيل - تدلّ على أنّ الاعتقاد بأصل الدين يجب أن يكون عن علم يقينيّ لا يداخله شكّ ولا يمازجه ريب ولا يكفى فيه غيره ولو كان الظنّ الراجح، وقد ذمّ الله تعالى اتّباع الظنّ، وندب إلى اتّباع العلم في آيات كثيرة كقوله تعالى:( ولا تقف ما ليس لك به علم ) أسرى: ٣٦ وقوله:( إن يتّبعون إلّا الظنّ وإنّ الظنّ لا يغنى من الحقّ شيئاً ) النجم: ٢٨ وقوله:( ما لهم بذلك من علم إن هم إلّا يخرصون ) الزخرف: ٢٠.

ولو كفى في أصل الدين الاعتقاد التقليديّ لم يستقم الحكم بإجارة من استجار لتفهّم أصول الدين ومعارفة لجواز أن يكلّف بالتقليد والكفّ عن البحث عن أنّه حقّ أو باطل هذا.

ولكنّ المقدار الواجب في ذلك أن يكون عن علم قطعيّ سواء كان حاصلاً عن الاستدلال بطرق فنّـيّـة أو بغير ذلك من الوجوه المفيدة للعلم ولو على سبيل الاتّفاق، وهذا غير القول بأنّ الاستدلال على اُصول المعارف لا يصحّ إلّا من طريق العقل فإنّ صحّة الاستدلال أمر، وجواز الاعتماد على العلم بأىّ طريق حصل أمر آخر.

قوله تعالى: ( كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ) الآية، تبيين وتوضيح لما مرّ إجمالاً من الحكم بنقض عهد المشركين ممّن لا وثوق بوفائه بعهده، وقتلهم إلى أن يؤمنوا بالله ويخضعوا لدين التوحيد، واستثناء من لم ينقض العهد وبقى على الميثاق حتّى ينقضى مدّة عهدهم.

فالآية وما يتلوها إلى تمام ستّ آيات تبيّـن ذلك وتوضح الحكم واستثناء ما استثنى منه والغاية والمغيّى جميعاً.

فقوله:( كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ) استفهام في مقام الإنكار، وقد بادرت الآية إلى استثناء الّذين عاهدوهم من المشركين عند المسجد الحرام

١٦١

لكونهم لم ينقضوا عهداً ولم يساهلوا فيما واثقوا به بدليل قوله تعالى:( فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ) وذلك أنّ الاستقامة لمن استقام والسلم لمن يسالم من لوازم التقوى الدينىّ، ولذلك علّل قوله ذلك بقوله:( إنّ الله يحبّ المتّقين ) كما جاء مثله بعينه في الآية السابقة:( فأتمّوا إليهم عهدهم إلى مدّتهم إنّ الله يحبّ المتّقين ) .

قوله تعالى: ( كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلّاً ولا ذمّة ) إلى آخر الآية، قال الراغب في المفردات: الإلّ كلّ حالة ظاهرة من عهدحلف، وقرابةٌ تئلّ: تلمع فلا يمكن إنكاره، قال تعالى: لا يرقبون في مؤمن إلّاً ولا ذمّة، وألّ الفرس: أسرع، حقيقته لمع، وذلك استعارة في باب الإسراع نحو برق وطار. انتهى.

وقال أيضاً: الذمام - بكسر الذال - ما يذمّ الرجل على إضاعته من عهد، وكذلك الذمّة والمذمّة، وقيل: لى مذمّة فلا تهتكها، وأذهب مذمّـتهم بشئ: أي اعطهم شيئاً لما لهم من الذمام. انتهى. وهو ظاهر في أنّ الذمّة مأخوذة من الذمّ بالمعنى الّذى يقابل المدح.

ولعلّ إلقاء المقابلة في الآية بين الإلّ والذمّة للدلالة على أنّهم لا يحفظون في المؤمنين شيئاً من المواثيق الّتى يجب رقوبها وحفظها سواء كانت مبنيّـة على اُصول واقعيّـة تكوينيّـة كالقرابة الّتى توجب بوجه على القريب رعاية حال قريبه، أو على الجعل والاصطلاح كالعهود والمواثيق المعقودة بحلف ونحوه.

وقد كرّرت لفظة( كيف ) للتأكيد ولرفع الإبهام في البيان الناشي من تخلّل قوله:( إلّا الّذين عاهدتم ) الآية بطولها بين قوله:( كيف يكون للمشركين ) الآية وقوله:( وإن يظهروا عليكم ) الآية.

فمعنى الآية: كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله والحال أنّهم إن يظهروا عليكم ويغلبوكم على الأمر لا يحفظوا ولا يراعوا فيكم قرابة ولا عهداً من العهود يرضونكم بالكلام المدلّس والقول المزوّق، ويأبى ذلك قلوبهم، وأكثرهم فاسقون.

ومن هنا ظهر أنّ قوله:( يرضونكم بأفواههم ) من المجاز العقليّ نسب فيه الإرضاء إلى الأفواه وهو في الحقيقة منسوب إلى القول والكلام الخارج من الأفواه المكوّن فيها.

١٦٢

وقوله:( يرضونكم ) الآية تعليل لإنكار وجود العهد للمشركين ولذلك جئ به بالفصل، والتقدير: كيف يكون لهم عهد وهم يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون.

وأمّا قوله:( وأكثرهم فاسقون ) ففيه بيان أنّ أكثرهم ناقضون للعهد والميثاق بالفعل من غير أن ينتظروا ظهورهم جميعاً عليكم فالآية توضح حال آحادهم وجميعهم بأنّ أكثرهم فاسقون بنقض العهد من غير أن يرقبوا في مؤمن إلّاً ولا ذمّة، ولو أنّهم ظهروا عليكم جميعاً لم يرقبوا فيكم الإلّ والذمّة.

قوله تعالى: ( اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً ) إلى آخر الآيتين، بيان وتفسير لقوله في الآية السابقة:( وأكثرهم فاسقون ) وكان قوله:( اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً ) إلى آخر الآية توطئة وتمهيد لقوله في الآية الثانية:( لا يرقبون في مؤمن إلّاً ولا ذمّة ) .

وبذلك يظهر أنّ الأقرب أنّ المراد بالفسق الخروج عن العهد والذمّة دون الفسق بمعنى الخروج عن زىّ عبوديّـة الله سبحانه وإن كان الأمر كذلك.

وقوله:( واُولئك هم المعتدون ) كالتفسير لجميع ما مرّ من أحوالهم الروحيّـة وأعمالهم الجسميّـة، وتفيد الجملة مع ذلك جواباً عن سؤال مقدّر أو ما يجرى مجراه والمعنى: إذا كان هذا حالهم وهذه أفعالهم فلا تحسبوا أن لو نقضتم عهدهم اعتديتم عليهم فاُولئك هم المعتدون عليكم لما أضمروه من العداوة والبغضاء ولما أظهره أكثرهم في مقام العمل من الصدّ عن سبيل الله، وعدم رعاية قرابة ولا عهد في المؤمنين.

قوله تعالى: ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة ) إلى آخر الآيتين، الآيتان بيان تفصيليّ لقوله فيما تقدّم:( فإن تبتم فهو خير لكم وإن تولّيتم فاعلموا أنّكم غير معجزى الله ) .

والمراد بالتوبه بدلالة السياق الرجوع إلى الإيمان بالله وآياتة، ولذلك لم يقتصر على التوبة فقط بل عطف عليها إقامة الصلاة الّتى هي أظهر مظاهر عبادة الله، وإيتاء الزكاة الّذى هو أقوى أركان المجتمع الدينىّ، وقد أشير بهما إلى نوع الوظائف الدينيّـة الّتى بإتيانها يتمّ الإيمان بآيات الله بعد الإيمان بالله عزّ اسمه فهذا معنى قوله:( تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ) .

١٦٣

وأمّا قوله:( فإخوانكم في الدين ) فالمراد به بيان التساوى بينهم وبين سائر المؤمنين في الحقوق الّتى يعتبرها الإسلام في المجتمع الإسلاميّ: لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.

وقد عبّر في الآية عن ذلك بالاُخوّة في الدين، وقال في موضع آخر:( إنّما المؤمنون إخوة ) الحجرات: ١٠ اعتباراً بما بينهم من التساوى في الحقوق الدينيّـة فإنّ الأخوين شقيقان اشتقّـا من مادّة واحدة وهما لذلك متساويان في الشؤون الراجعة إلى ذلك في مجتمع المنزل عند والدهما الّذى هو ربّ البيت، وفي مجتمع القرابة عند الأقرباء والعشيرة.

واذ كان لهذا المعنى المسمّى بلسان الدين أحكام اُخوّة وآثار شرعيّـة اعتنى بها قانون الإسلام فهو اعتبار حقيقة لنوع من الاُخوّة بين أفراد المجتمع الإسلاميّ لها آثار مترتّبة كما أنّ الاُخوّة الطبيعيّـة فيما اعتبرها الإسلام لها آثار مترتّبة عقلائيّـة ودينيّـة وليست تسمية ذلك اُخوّة مجرّد استعارة لفظيّـة عن عناية مجازية، وفيما نقل عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قوله المؤمنون إخوة يسعى بذمّـتهم أدناهم، وهم يد واحدة على من سواهم.

وقوله:( وإن نكثوا إيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمّـة الكفر إنّهم لا أيمان لهم ) الآية يدلّ السياق أنّهم غير المشركين الّذين أمر الله سبحانه في الآية السابقة بنقض عهدهم وذكر أنّهم هم المعتدون لا يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمّة فإنّهم ناكثون للأيمان ناقضون للعهد، فلا يستقيم فيهم الاشتراط الّذى ذكره الله سبحانه بقوله:( وإن نكثوا أيمانهم ) الآية.

فهؤلاء قوم آخرون لهم مع ولىّ الأمر من المسلمين عهود وأيمان ينكثون أيمانهم من بعد عهدهم، أي ينقضون عهودهم من بعد عقدها فأمر الله سبحانه بقتالهم وألغى أيمانهم وسمّاهم أئمّـة الكفر لأنّهم السابقون في الكفر بآيات الله يتّبعهم غيرهم ممّن يليهم، يقاتلون جميعاً لعلّهم ينتهون عن نكث الأيمان ونقض العهود.

قوله تعالى: ( ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول ) الآية وما بعدها إلى تمام أربع آيات تحريض للمؤمنين وتهييج لهم على قتال المشركين ببيان ما

١٦٤

أجرموا به في جنب الله وخانوا به الحقّ والحقيقة، وعدّ خطاياهم وطغياناتهم من نكث الإيمان والهمّ بإخراج الرسول والبدء بالقتال أوّل مرّة.

ثمّ بتعريف المؤمنين أنّ لازم إيمانهم بالله الّذى يملك كلّ خير وشرّ ونفع وضرّ أن لا يخشوا إلّا إيّـاه إن كانوا مؤمنين به ففى ذلك تقوية لقلوبهم وتشجيعهم عليهم، وينتهى إلى بيان أنّهم ممتحنون من عند الله بإخلاص الإيمان له والقطع من المشركين حتّى يؤجروا بما يؤجر به المؤمن المتحقّق في إيمانه.

قوله تعالى: ( قاتلوهم يعذّبهم الله بأيديكم ) إلى آخر الآيتين. أعاد الأمر بالقتال لأنّه صار من جهة ما تقدّم من التحريض والتحضيض أوقع في القبول فإنّ الأمر الأوّل كان ابتدائيّـاً غير مسبوق بتمهيد وتوطئة بخلاف الأمر الثاني الوارد بعد اشتداد الاستعداد وكمال التهيّؤ من المأمورين.

على أنّ ما اُتبع به الأمر من قوله:( يعذّبهم الله بأيديكم ويخزهم - إلى قوله -ويذهب غيظ قلوبهم ) يؤكّد الأمر ويغرى المأمورين على امتثاله وإجرائه على المشركين فإنّ تذكّرهم أنّ قتل المشركين عذاب إلهىّ لهم بأيدى المؤمنين، وأنّ المؤمنين أياد مجرية لله سبحانه وأنّ في ذلك خزياً للمشركين ونصرة من الله للمؤمنين عليهم وشفاء لصدور قوم مؤمنين وإذهاباً لغيظ قلوبهم، يجرّئهم للعمل وينشّطهم ويصفّى إرادتهم.

وقوله:( ويتوب الله على من يشاء ) الآية بمنزلة الاستثناء لئلّا يجرى حكم القتال على إطلاقه.

قوله تعالى: ( أم حسبتم أن تتركوا ولمّا يعلم الله الّذين جاهدوا منكم ) إلى آخر الآية بمنزلة تعليل آخر لوجوب قتالهم لينتج تحريضهم على القتال وفيه بيان حقيقة الأمر، ومحصّله أنّ الدار دار الامتحان والابتلاء فإنّ نفوس الآدميّـين تقبل الخير والشرّ والسعادة والشقاوة فهى في أوّل كينونتها ساذجة مبهمة، ومراتب القرب والزلفى إنّما تبذل بإزاء الإيمان الخالص بالله وآياته، ولا يظهر صفاء الإيمان إلّا بالامتحان الّذى يورد المؤمن مقام العمل، ليميز الله بذلك الطيّـب من الخبيث، والصافى الإيمان ممّن ليس عنده إلّا مجرّد الدعوى أو المزعمة.

١٦٥

فمن الواجب أن يمتحن هؤلاء المدّعون أنّهم باعوا أنفسهم وأموالهم لله بأنّ لهم الجنّـة، ويبتلوا بمثل القتال الّذى يميّـز به الصادق من الكاذب ويفصل الّذى قطع روابط المحبّـة والصلة من أعداء الله سبحانه ممّن في قلبه بقايا من ولايتهم ومودّتهم حتّى يحيى هؤلاء ويهلك اُولئك.

فعلى المؤمنين أن يمتثلوا أمر القتال بل يتسارعوا إليه ويتسابقوا فيه ليظهروا بذلك صفاء جوهرهم وحقيقة إيمانهم ويحتجّوا به على ربّهم يوم لا نجاح فيه إلّا بحجّة الحقّ.

فقوله:( أم حسبتم أن تتركوا ) أي بل ظننتم أن تتركوا على ما أنتم عليه من الحال ولمّا تظهر حقيقة صدقكم في دعوى الإيمان بالله وبآياته.

وقوله:( ولمّا يعلم الله ) الآية أي ولمّا يظهر في الخارج جهادكم وعدم اتّخاذكم من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة فإنّ تحقّق الأشياء علم منه تعالى بها وقد مرّ نظير الكلام مع بسط مّا في تفسير قوله تعالى:( أم حسبتم أن تدخلوا الجنّـة ولمّا يعلم الله الّذين جاهدوا منكم ) الآية آل عمران: ١٤٢ في الجزء الرابع من الكتاب. ومن الدليل على هذا الّذى ذكرنا في معنى العلم قوله في ذيل الآية:( والله خبير بما تعملون ) .

والوليجة على ما في مفردات الراغب كلّ ما يتّخذه الإنسان معتمداً عليه وليس من أهله.

( بحث روائي)

في تفسير القمّىّ في قوله تعالى:( براءة من الله ورسوله ) حدّثنى أبى عن محمّـد بن الفضل عن ابن أبى عمير عن أبى الصباح الكنانىّ عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: نزلت هذه الآية بعد ما رجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غزوة تبوك في سنة تسع من الهجرة.

قال: وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا فتح مكّة لم يمنع المشركين الحجّ في تلك السنة، وكان سنّة من العرب في الحجّ أنّه من دخل مكّة وطاف البيت في ثيابه لم يحلّ له إمساكها، وكانوا يتصدّقون بها ولا يلبسونها بعد الطواف فكان من وافى مكّة يستعير ثوباً ويطوف فيه ثمّ يردّه، ومن لم يجده عارية ولا كرى و لم يكن له إلّا ثوب واحد طاف بالبيت عرياناً.

١٦٦

فجاءت امرأة من العرب وسيمة جميلة فطلبت ثوباً عارية أو كرى فلم تجده فقالوا لها: إن طفت في ثيابك احتجت إن تتصدّقى بها فقالت: كيف أتصدّق وليس لى غيرها؟ فطافت بالبيت عريانة وأشرف لها الناس فوضعت إحدى يديها على قبلها والاُخرى على دبرها وقالت شعراً:

اليوم يبدو بعضه أو كلّه

فما بدا منه فلا اُحلّه

فلمّا فرغت من الطواف خطبها جماعة فقالت: إنّ لى زوجاً.

وكانت سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل نزول سورة براءة أن لا يقاتل إلّا من قاتله ولا يحارب إلّا من حاربه وأراده، وقد كان اُنزل على( في ) ذلك( فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً ) فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يقاتل أحداً قد تنحّى عنه واعتزله حتّى نزلت عليه سورة براءة وأمره بقتل المشركين من اعتزله ومن لم يعتزله إلّا الّذين قد عاهدهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم فتح مكّة إلى مدّة: منهم صفوان بن اُميّـة وسهيل بن عمرو فقال الله عزّوجلّ:( براءة من الله ورسوله إلى الّذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) ثمّ يقتلون حيثما وجدوا بعدُ. هذه أشهر السياحة: عشرين من ذى الحجّة والمحرّم وصفرو شهر ربيع الأوّل وعشراً من ربيع الآخر.

فلمّا نزلت الآيات من سورة براءة دفعها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أبى بكرو أمره أن يخرج إلى مكّة ويقرأها على الناس بمنى يوم النحر فلمّا خرج أبوبكر نزل جبرئيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا محمّـد لا يؤدّى عنك إلّا رجل منك.

فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أميرالمؤمنينعليه‌السلام في طلب ابى بكر فلحقه بالروحاء وأخذ منه الآيات فرجع أبوبكر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله: أنزل الله فيّ شيئاً؟ فقال: لا إنّ الله أمرنى أن لا يؤدّى عنّى إلّا أنا أو رجل منّى.

وفي تفسير العيّـاشيّ عن حرير عن أبى عبداللهعليه‌السلام أن رسول الله بعث أبا بكر مع براءة إلى الموسم ليقرأها على الناس فنزل جبرئيل فقال: لا يبلّغ عنك إلّا على فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّـاً وأمر أن يركب ناقته العضباء، وأمره أن يلحق أبا بكر فيأخذ منه براءة ويقرأها على الناس بمكّة فقال أبوبكر: أسخط؟ فقال: لا إلّا أنّه أنزل عليه أنّه لا

١٦٧

يبلّغ إلّا رجل منك.

فلمّا قدم على مكّة وكان يوم النحر بعد الظهر وهو يوم الحجّ الأكبر قام ثمّ قال: إنّى رسول رسول الله إليكم فقرأها عليهم:( براءة من الله ورسوله إلى الّذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) عشرين من ذى الحجّة والمحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشراً من شهر ربيع الآخر، وقال: لا يطوف بالبيت عريان ولا عريانة ولا مشرك بعد هذا العام، ومن كان له عهد عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمدّته إلى هذه الأربعة أشهر.

أقول: المراد تعيين المدّة للعهود الّتى لا مدّة لها بقرينة ما سيأتي من الرواية، وأمّا العهود الّتى لها مدّة فاعتبارها إلى مدّتها مدلول لنفس الآيات الكريمة.

وفي تفسيرى العيّـاشيّ والمجمع عن أبى بصير عن أبى جعفرعليه‌السلام قال: خطب علىّعليه‌السلام بالناس واخترط سيفه وقال: لا يطوفنّ بالبيت عريان، ولا يحجّنّ بالبيت مشرك، ومن كانت له مدّة فهو إلى مدّته، ومن لم يكن له مدّة فمدّته أربعة أشهر، وكان خطب يوم النحر، وكانت عشرون من ذى الحجة والمحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشر من شهر ربيع الآخر، وقال: يوم النحر يوم الحجّ الأكبر.

أقول: والروايات من طرق أئمّـة أهل البيتعليهم‌السلام في هذه المعاني فوق حدّ الإحصاء.

وفي الدرّ المنثور أخرج عبدالله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند وأبوالشيخ وابن مردويه عن علىّ قال: لمّا نزلت عشر آيات من براءة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا أبا بكر ليقرأها على أهل مكّة ثمّ دعاني فقال لى: أدرك أبابكر فحيثما لقيته فخذ الكتاب منه.

ورجع أبوبكر فقال: يا رسول الله نزل فيّ شئ؟ قال: لا ولكن جبرئيل جاءني فقال: لا يؤدّى عنك إلّا أنت أو رجل منك.

وفيه أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبى وقّـاص أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث أبابكر ببراءة إلى أهل مكّة ثمّ بعث عليّـاًعليه‌السلام على أثره فأخذها منه فكأنّ أبابكر وجد في نفسه فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أبابكر إنّه لا يؤدّى عنّى إلّا أنا أو رجل منّى.

١٦٨

وفيه أخرج ابن مردويه عن أبى رافع قال: بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبابكر ببراءة إلى الموسم فأتى جبرئيلعليه‌السلام فقال: إنّه لا يؤدّيها إلّا أنت أو رجل منك فبعث عليّـاًعليه‌السلام على أثره حتّى لحقه بين مكّة والمدينة فأخذها فقرأها على الناس في الموسم.

وفيه أخرج ابن حبّان وابن مردويه عن أبى سعيد الخدرىّ قال: بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبابكر يؤدّى عنه براءة فلمّا أرسله بعث إلى علىّعليه‌السلام فقال: يا علىّ لا يؤدّى عنّى إلّا أنا أو أنت، فحمله على ناقته العضباء فسار حتّى لحق بأبى بكر فأخذ منه براءة.

فأتى أبوبكر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد دخله من ذلك مخافة أن يكون قد اُنزلت فيه شئ فلمّا أتاه قال: ما لى يا رسول الله؟ قال: خير أنت أخى وصاحبى في الغار وأنت معى على الحوض غير أنّه لا يبلغ عنّى إلّا رجل منّى.

أقول: وهناك روايات اُخرى في معنى ما تقدّم، وقد نقل في تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب أنّه رواه الطبرسيّ، والبلاذريّ، والترمذيّ، والواقدىّ، والشعبىّ، والسدّىّ، والثعلبيّ، والواحديّ، والقرطبىّ، والقشيريّ، والسمعانيّ، وأحمد بن حنبل، وابن بطّة، ومحمّـد بن اسحاق، وأبو يعلى الموصلي، والأعمش، وسماك بن حرب في كتبهم عن عروة بن الزبير، وأبى هريرة، وأنس، وأبى رافع، وزيد بن نفيع، وابن عمر، وابن عبّـاس، واللّفظ له: إنّه لمّا نزل:( براءة من الله ورسوله ) إلى تسع آيات أنفذ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبابكر إلى مكّة لأدائها فنزل جبرئيل وقال: إنّه لا يؤدّيها إلّا أنت أو رجل منك فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأميرالمؤمنين: اركب ناقتي العضباء والحقّ أبابكر وخذ براءة من يده.

قال: ولمّا رجع أبوبكر إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جزع وقال: يا رسول الله إنّك أهّـلتنى لأمر طالت الأعناق فيه فلمّا توجّهت إليه رددتني منه؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الأمين هبط إلى عن الله تعالى: أنّه لا يؤدّى عنك إلّا أنت أو رجل منك، وعلىّ منّى ولا يؤدّى عنّى إلّا علىّ.

١٦٩

وفيما نقلناه من الروايات وما تركناه منها وهو أكثر وفيما سيجئ في هذا الباب نكتتان أصليّـتان.

إحداهما: أنّ بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّـاً ببراءة وعزله أبابكر إنّما كان بأمر من ربّه بنزول جبرئيل:( إنّه لا يؤدّى عنك إلّا أنت أو رجل منك ) ولم يقيّد الحكم في شئ من الروايات ببراءة أو نقض العهد فلم يرد في شئ منها: لا يؤدّى براءة أو لا ينقض العهد إلّا أنت أو رجل منك فلا دليل على تقييده ببراءة على ما وقع في كثير من التفاسير، ويؤيّد الإطلاق ما سيأتي.

وثانيتهما: أنّ عليّـاًعليه‌السلام كما كان ينادى ببراءة، كذلك كان ينادى بحكم آخر وهو أنّ من كان له مدّة فهو إلى مدّته ومن لم يكن له مدّة فمدّته أربعة أشهر: وهذا أيضاً ممّا يدلّ عليه آيات براءة.

وبحكم آخر وهو أنّه لا يطوفنّ بالبيت عريان، وهو أيضاً حكم إلهىّ مدلول عليه بقوله تعالى:( يا بنى آدم خذوا زينتكم عند كلّ مسجد ) الأعراف: ٣١ وقد ورد في بعض الروايات ذكر الآية مع الحكم كما سيجئ.

وحكم آخر أنّه لا يطوف أو لا يحجّ البيت مشرك بعد هذا العام وهو مدلول قوله تعالى:( يا أيّها الّذين آمنوا إنّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) التوبه: ٢٨.

وهناك أمر خامس ذكر في بعض روايات الباب أنّهعليه‌السلام كان ينادى به وهو أنّه لا يدخل الجنّة إلّا مؤمن وهذا وإن لم يذكر في سائر الروايات، والاعتبار لا يساعد على ذلك لنزول آيات كثيرة مكّيّـة ومدنيّـة في ذلك وخفاء الأمر في ذلك على المشركين إلى سنة تسع من الهجرة كالمحال عادة لكن ذلك أيضاً مدلول للآيات الكريمة(١) ، وعلى أيّ حال لم تكن رسالة علىّعليه‌السلام مقصوراً على تأدية آيات براءة بل لها ولتبليغ ثلاثة أو أربعة أحكام قرآنيّـة اُخرى، والجميع مشمول لما اُنزل به جبرئيل عن الله سبحانه على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه لا يؤدّى عنك إلّا أنت أو رجل منك، إذ لا دليل على تقييد الكلام

____________________

(١) وأمّا على ما في بعضها بدلا من ذلك:( لا يدخل الكعبة - أو البيت - الّا مومن) فالحكم المستفاد منه نظير الحكم بأنه لا يطوفنّ بالبيت مشرك حكم ابتدائي.

١٧٠

على إطلاقه أصلاً.

وفى الدرّ المنثور أخرج الترمذيّ وحسّنه وابن أبى حاتم والحاكم وصحّحه وابن مردويه والبيهقيّ في الدلائل عن ابن عبّـاس أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث أبابكر وأمره أن ينادى بهؤلاء الكلمات ثمّ أتبعه عليّـاًعليه‌السلام وأمره أن ينادى بها فانطلقا فحجّا فقام علىّعليه‌السلام في أيّـام التشريق فنادى: أنّ الله برئ من المشركين ورسوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ولا يحجّنّ بعد العام مشرك، ولا يطوفنّ بالبيت عريان، ولا يدخل الجنّـة إلّا مؤمن فكان علىّعليه‌السلام ينادى بها.

أقول: والخبر قريب المضمون ممّا استفدناه من الروايات.

وفيه أخرج عبد الرّزاق وابن المنذر وابن أبى حاتم من طريق سعيد بن المسيّب عن أبى هريرة أن أبابكر أمره أنّ يؤذن ببراءة في حجّة أبى بكر.

قال أبوهريره: ثمّ أتبعنا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّـاًعليه‌السلام أمره أن يؤذن ببراءة وأبوبكر على الموسم كما هو - أو قال: على هيئته -.

أقول: وقد ورد في عدّة من طرق أهل السنّة: أنّ النبيّ استعمل أبابكر على الحجّ عامه ذلك فكان هو أمير الحاجّ وعلىّ ينادى ببراءة وقد روت الشيعة أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استعمل للإمارة عليّـاًعليه‌السلام كما أنّه حمله تأدية آيات براءة وقد ذكر ذلك الطبرسيّ في مجمع البيان ورواه العيّـاشيّ عن زرارة عن أبى جعفرعليه‌السلام ، وربّما تأيّد ذلك بما ورد أنّ عليّـاًعليه‌السلام كان يقضى في سفره ذلك، وأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا له في ذلك إذ من المعلوم أنّ مجرّد الرسالة بتأدية براءة لا تتضمّن الحكم بالقضاء بين الناس، وأوفق ما يكون ذلك في تلك الأيّـام بالإمارة، والرواية ما سيأتي.

في تفسير العيّـاشيّ عن الحسن عن علىّعليه‌السلام أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين بعثه ببراءة قال: يا نبىّ الله إنّى لست بلسن ولا بخطيب قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يأبى الله ما بى إلّا أن أذهب بها أو تذهب أنت قال: فإن كان لا بدّ فسأذهب أنا قال: فانطلق فإنّ الله يثبّـت لسانك ويهدي قلبك ثمّ وضع يده على فمه فقال: انطلق واقرأها على الناس، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الناس

١٧١

سيتقاضون الهك قإذا أتاك الخصمان فلا تقض لواحد حتّى تسمع الآخر فإنّه أجدر أن تعلم الحقّ.

أقول: وهذا المعنى مروي من طرق أهل السنّة كما في الدرّ المنثور عن أبي الشيخ عن علىّ قال: بعثنى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اليمن ببراءة فقلت: يا رسول الله تبعثني وأنا غلام حديث السنّ واُسأل عن القضاء ولا أدرى ما اُجيب؟ قال: ما بدّ من أن تذهب بها أو أذهب بها. قلت: إن كان لابدّ أنا أذهب، قال: انطلق فإنّ الله يثبّت لسانك ويهدى قلبك، ثمّ قال: انطلق واقراها على الناس.

إلّا أنّ اشتمال الرواية على لفظ اليمن يسئ الظنّ بها إذ من البيّـن من لفظ آيات براءة أنّها مقرّوة على أهل مكّة يوم الحجّ الأكبر بمكّة وأين ذلك من اليمن وأهلها وكأنّ لفظ الرواية كان: (إلى مكّة) فوضع موضعه (إلى اليمن) تصحيحاً لما اشتملت عليه من حديث القضاء.

وفى الدرّ المنثور أخرج أحمد والنسائيّ وابن المنذر وابن مردويه عن أبى هريرة قال: كنت مع علىّعليه‌السلام حين بعثه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بعث عليّـاًعليه‌السلام بأربع: لا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم، ومن كان بينه وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد فهو إلى عهده، وأنّ الله ورسوله برئ من المشركين.

أقول: وهذا المعنى مروىّ عن أبى هريرة بعدّة طرق بألفاظ مختلفة لا تخلو من شئ في متنها - على ما سيجئ - وأمتن الروايات متناً هذه الّتى أوردناها.

وفيه أخرج أحمد والنسائيّ وابن المنذر وابن مردويه عن أبى هريرة قال: كنت مع علىّ حين بعثه رسول الله إلى اهل مكّة ببراءة فكنّا ننادى أنّه لا يدخل الجنّـة إلّا مؤمن، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد فإنّ أمره أو أجله إلى أربعة أشهر فإذا مضت الأربعة أشهر فإنّ الله برئ من المشركين ورسوله ولا يحجّ هذا البيت بعد العام مشرك.

أقول: وفي متن الرواية اضطراب بيّـن، أمّا أوّلاً: فلاشتمالها على النداء بأنّه لا يدخل الجنّـة إلّا مؤمن، وقد سبق أنّه نزلت في معناه آيات كثيرة مكّـيّـة ومدنيّـة منذ سنين

١٧٢

وقد سمعها الحضرىّ والبدويّ والمشرك والمؤمن فأىّ حاجة متصوّرة إلى إبلاغها أهل الجمع.

وأمّا ثانياً: فلأنّ النداء الثاني أعنى قوله: ومن كان بينه وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد الخ، لا ينطبق لا على مضامين الآيات ولا على مضامين الروايات المتظافرة السابقة، على أنّه قد جعل فيه البراءة بعد مضىّ أربعة أشهر.

وأمّا ثالثاً: فلمّا سنذكره ذيلاً.

وفيه أخرج البخاريّ ومسلم وابن المنذر وابن مردويه والبيهقيّ في الدلائل عن أبى هريرة قال: بعثنى أبوبكر في تلك الحجّة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لا يحجّ بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ثمّ أردف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعلىّ بن أبى طالبعليه‌السلام فأمره أن يؤذن ببراءة فأذن معنا علىّ في أهل منى يوم النحر ببراءة، وأن لا يحجّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.

وفي تفسير المنارعن الترمذيّ عن ابن عبّـاس أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث أبابكر - إلى أن قال - فقام علىّ أيّـام التشريق فنادى: ذمّة الله وذمّة رسوله بريئة من كلّ مشرك فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، ولا يحجّنّ بعد العام مشرك، ولا يطوفنّ بالبيت عريان ولا يدخل الجنّـة إلّا كلّ مؤمن فكان علىّ ينادى بها فإذا بحّ قام أبو هريرة فنادى بها.

وفيه أيضاً عن أحمد والنسائيّ - من طريق محرز بن أبى هريرة عن أبيه قال: كنت مع علىّ حين بعثه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مكّة ببراءة فكنّا ننادى أن لا يدخل الجنّـة إلّا كلّ نفس مسلمة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد فعهده إلى مدّته، ولا يحجّ بعد العام مشرك فكنت اُنادى حتّى صحل صوتي.

أقول: قد عرفت أنّ الّذى وقع في الروايات على كثرتها في قصّة بعث علىّ وعزل أبى بكر من كلمة الوحى الّذى نزل به جبرئيل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو قوله:( لا يؤدّى عنك إلّا أنت أو رجل منك ) وكذا ما ذكره النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين أجاب أبابكر لمّا سأله عن سبب عزله، إنّما هو متن ما أوحى إليه الله سبحانه، أو قوله - وهو في معناه -:( لا يؤدّى عنى إلّا أنا أو رجل منّى ) .

١٧٣

وكيفما كان فهو كلام مطلق يشمل تأدية براءة وكلّ حكم إلهىّ احتاج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن يؤدّيه عنه مؤدّ غيره، ولا دليل لا من متون الروايات ولا غيرها يدلّ على اختصاص ذلك ببراءة، وقد اتّضح أنّ المنع عن طواف البيت عرياناً والمنع عن حجّ المشركين بعد ذلك العام وكذا تأجيل من له عهد إلى مدّة أو من غير مدّة كلّ ذلك أحكام إلهيّـة نزل بها القرآن فما معنى إرجاع أمرها إلى أبى بكر أو نداء أبى هريرة بها وحده أو ندائه ببراءة وسائر الأحكام المذكورة في الجمع إذا بحّ علىّعليه‌السلام حتّى يصحل صوته من كثرة النداء؟ ولو جاز لأبي هريرة أن يقوم بها والحال هذه فلم لم يجز لأبي بكرذلك؟

نعم أبدع بعض المفسّرين كابن كثير وأترابه هنا وجهاً وجهوا به ما تتضمّنه هذه الروايات انتصاراً لها وهو أنّ قوله: (لا يؤدّى عنّى إلّا أنا أو رجل منّى) مخصوص بتأدية براءة فقط من غير أن يشمل سائر الأحكام الّتى كان ينادى بها علىّعليه‌السلام ، وأن تعيينهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّـاً بتبليغ آيات براءة أهل الجمع إنّما هو لما كان من عادة العرب أن لا ينقض العهد إلّا عاقده أو رجل من أهل بيته ومراعاة هذه العادة الجارية هي الّتى دعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأخذ براءة - وفيها نقض ما للمشركين من عهد - من أبى بكر ويسلّمها إلى علىّ ليستحفظ بذلك السنّة العربيّـة فيؤدّيها عنه بعض أهل بيته.

قالوا: وهذا معنى قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا سأله أبوبكر قائلاً: يا رسول الله هل نزل فيّ شئ؟ قال: (لا ولكن لا يؤدّى عنّى إلّا أنا أو رجل منّى) ومعناه أنّى إنّما عزلتك ونصبت عليّـاً لذلك لئلّا انقض هذه السنّة العربيّـة الجارية.

ولذلك لم ينفصل أبوبكر من شأنه فقد كان قلّده إمارة الحاجّ وكان لأبي بكر مؤذنون يؤذنون بهذه الأحكام كأبى هريرة وغيره من الرجال الّذين لم يذكر أسماؤهم في الروايات، وكان علىّ أحد من عنده لهذا الشأن، ولذا ورد في بعضها: أنّه خطب بمنى ولمّا فرغ من خطبته التفت إلى علىّ وقال: قم يا علىّ وأدّ رسالة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وهذا ما ذكروه ووجّهوا به الروايات.

والباحث الناقد إذا راجع هذه الآيات والروايات ثمّ تأمّل ما جرت من المشاجرات الكلاميّـة بين الفريقين: أهل السنّة والشيعة في باب الأفضليّـة لم يرتب في أنّهم خلطوا بين

١٧٤

البحث التفسيرىّ الّذى شأنه تحصيل مداليل الآيات القرآنيّـة، والبحث الروائيّ الّذى شأنه نقد معاني الأحاديث وتمييز غثّها من سمينها، وبين البحث الكلاميّ الناظر في أنّ أبابكر أفضل من علىّ أو عليّـاً أفضل من أبى بكر؟ وفي أنّ إمارة الحاجّ أفضل أو الرسالة في تبليغ آيات براءة؟ ولمن كان إمارة الحجّ إذ ذاك لأبي بكر أو لعلىّ؟ أمّا البحث الكلاميّ فلسنا نشتغل به في هذا المقام فهو خارج عن غرضنا، وأمّا البحث الروائيّ أو التفسيرىّ فيما يرتبط به الآيات إلى أسباب نزولها ممّا يتعلّق بمعاني الآيات فالّذي ينبغى أن يقال بالنظر إليه أنّهم أخطؤوا في هذا التوجيه.

فليت شعرى من أين تسلّموا أنّ هذه الجملة الّتى نزل بها جبرئيل:( إنّه لا يؤدّى عنك إلّا أنت أو رجل منك ) مقيّدة بنقض العهد لا يدلّ على أزيد من ذلك، ولا دليل عليه من نقل أو عقل فالجملة ظاهرة أتمّ ظهور في أنّ ما كان على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يؤدّيه لا يجوز أن يؤدّيه إلّا هو أو رجل منه سواه، كان نقض عهد من جانب الله كما في مورد براءة أو حكماً آخر إلهيّـاً على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يؤدّيه ويبلّغه.

وهذا غير ما كان من أقسام الرسالة منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا ليس عليه أن يؤدّيه بنفسه الشريفة كالكتب الّتى أرسل بها إلى الملوك والاُمم والأقوام في الدعوة إلى الإسلام وكذا سائر الرسالات الّتى كان يبعث بها رجالاً من المؤمنين إلى الناس في اُمور يرجع إلى دينهم والإمارات والولايات ونحو ذلك.

ففرق جلّى بين هذه الاُمور وبين براءة ونظائرها فإنّ ما تتضمّنه آيات براءة وأمثال النهى عن الطواف عرياناً، والنهى عن حجّ المشركين بعد العام أحكام إلهيّـة ابتدائيّـة لم تبلّغ بعد ولم تؤدّ إلى من يجب أن تبلّغه، وهم المشركون بمكّة والحجّاج منهم، ولا رسالة من الله في ذلك إلّا لرسوله، وأمّا سائر الموارد الّتى كان يكتفى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببعث الرسل للتبليغ فقد كانت ممّا فرغصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها من أصل التبليغ والتأدية، بتبليغه من وسعه تبليغه ممّن حضر كالدعوة إلى الإسلام وسائر شرائع الدين وكان يقول:( ليبلّغ الشاهد منكم الغائب ) ثمّ إذا مسّت الحاجة إلى تبليغه بعض من لا وثوق عادة ببلوغ الحكم إليه

١٧٥

أو لا أثر لمجرّد البلوغ إلّا أن يعتنى لشانه بكتاب أو رسول أو توسّل عند ذلك إلى رسالة أو كتاب كما في دعوة الملوك.

وليتأمّل الباحث المنصف قوله:( لا يؤدّى عنك إلّا أنت أو رجل منك ) فقد قيل:( لا يؤدّى عنك إلّا أنت ) ولم يقل:( لا يؤدّى إلّا أنت أو رجل منك ) حتّى يفيد اشتراك الرسالة، ولم يقل:( لا يؤدّى منك إلّا رجل منك ) حتّى يشمل سائر الرسالات الّتى كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقلّدها كلّ من كان من صالحي المؤمنين فإنّما مفاد قوله:( لا يؤدّى عنك إلّا أنت أو رجل منك ) إنّ الاُمور الرساليّـة الّتى يجب عليك نفسك أن تقوم بها لا يقوم بها غيرك عوضاً منك إلّا رجل منك أي لا يخلفك فيما عليك كالتأدية الابتدائيّـة إلّا رجل منك.

ثمّ ليت شعرى ما الّذى دعاهم إلى أن أهملوا كلمة الوحى الّتى هي قول الله نزل به جبرئيل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا يؤدّى عنك إلّا أنت أو رجل منك ) وذكروا مكانها أنّه( كانت السنّة الجارية عند العرب أن لا ينقض العهد إلّا عاقده أو رجل من أهل بيته ) تلك السنّة العربيّـة الّتى لا خبر عنها في أيّـامهم ومغازيهم ولا أثر إلّا ما ذكره ابن كثير ونسبه إلى العلماء عند البحث عن آيات براءة.!

ثمّ لو كانت سنّة عربيّـة جاهليّـة على هذا النعت فما وزنها في الإسلام وما هي قيمتها عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد كان ينسخ كلّ يوم سنّة جاهليّـة وينقض كلّ حين عادة قوميّـة، ولم تكن من جملة الأخلاق الكريمة أو السنن والعادات النافعة بل سليقة قبائليّـة تشبه سلائق الأشراف وقد قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم فتح مكّة عند الكعبة على ما رواه أصحاب السير:( ألا كلّ مأثرة أو دم أو مال يدّعى فهو تحت قدمىّ هاتين إلّا سدانة البيت وسقاية الحاجّ ) .

ثمّ لو كانت سنّة عربيّـة غير مذمومة فهل كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذهل عنها ونسيها حين أسلم الآيات إلى أبى بكر وأرسله، وخرج هو إلى مكّة حتّى إذا كان في بعض الطريق ذكرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما نسيه أو ذكّره بعض من عنده بما أهمله وذهل عنه من أمر كان من الواجب مراعاته؟ وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المثل الأعلى في مكارم الأخلاق واعتبار ما يجب أن يعتبر من الحزم وحسن التدبير، وكيف جاز لهؤلاء المذكّرين أن يغفلوا عن ذلك وليس من الاُمور الّتى يغفل عنها وتخفى عادة فإنّما الذهول عنه كغفلة المقاتل عن سلاحه؟

١٧٦

وهل كان ذلك بوحى من الله إليه أنّه يجب له أن لا يلغى هذه السنّة العربيّـة الكريمة، وأنّ ذلك أحد الأحكام الشرعيّـة في الباب وأنّه يحرم على ولىّ أمر المسلمين أن ينقض عهداً إلّا بنفسه أو بيد أحد من أهل بيته؟ وما معنى هذا الحكم؟

أو أنّه حكم أخلاقيّ اضطرّ إلى اعتباره لما أنّ المشركين ما كانوا يقبلون هذا النقض إلّا بأن يسمعوه من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه أو من أحد من أهل بيته؟ وقد كانت السيطرة يومئذ لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم، والزمام بيده دونهم، والإبلاغ إبلاغ.

أو أنّ المؤمنين المخاطبين بقوله:( عاهدتم ) وقوله:( وأذان من الله ورسوله إلى الناس ) وقوله:( فاقتلوا المشركين ) ما كانوا يعتبرون هذا النقض نقضاً دون أن يسمعوه منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو من واحد من أهل بيته وإن علموا بالنقض إذا سمعوا الآيات من أبى بكر؟

ولو كان كذلك فكيف قبله واعتبره نقضاً من سمعه من أبى هريرة الّذى كان ينادى به حتّى صحل صوته؟ وهل كان أبو هريرة أقرب إلى علىّ وأمسّ به من أبى بكر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالحقّ أنّ هذه الروايات الحاكية لنداء أبى هريرة وغيره غير سديدة لا ينبغى الركون إليها.

قال صاحب المنار في تفسيره: جملة الروايات تدلّ على أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل أبابكر أميراً على الحجّ سنة تسع، وأمره أن يبلّغ المشركين الّذين يحضرون الحج أنّهم يمنعون منه بعد ذلك العام ثمّ أردفه بعلىّ ليبلّغهم عنه نبذ عهودهم المطلقة وإعطاءهم مهلة أربعة أشهر لينظروا في أمرهم، وأنّ العهود الموّقّتة أجلها نهاية وقتها، ويتلو عليهم الآيات المتضمّنة لمسألة نبذ العهود وما يتعلّق بها من أوّل سورة براءة.

وهى أربعون أو ثلاث وثلاثون آية، وما ذكر في بعض الروايات من التردّد بين ثلاثين وأربعين فتعبير بالأعشار مع إلغاء كسرها من زيادة ونقصان.

وذلك لأنّ من عادة العرب أنّ العهود ونبذها إنّما تكون من عاقدها أو أحد عصبته القريبة، وأنّ عليّـاً كان مختصّاً بذلك مع بقاء إمارة الحجّ لأبي بكر الّذى كان يساعده على ذلك ويأمر بعض الصحابة كأبى هريرة بمساعدته. انتهى.

١٧٧

وقال أيضاً: إنّ بعض الشيعة يكبّرون هذه المزيّـة لعلىّعليه‌السلام كعادتهم ويضيفون إليها ما لا تصحّ به رواية، ولا تؤيّده دراية فيستدلّون بها على تفضيله على أبى بكر ما وكونه أحقّ بالخلافه منه، ويزعمون أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عزل أبابكر من تبليغ سورة براءة لأنّ جبرئيل أمره بذلك، وأنّه لا يبلّغ عنه إلّا هو أو رجل منه ولا يخصّون هذا النفى بتبليغ نبذ العهود وما يتعلّق به بل يجعلونه عامّاً لأمر الدّين كلّه.

مع استفاضة الأخبار الصحيحة بوجوب تبليغ الدين على المسلمين كافّة كالجهاد في حمايته والدفاع عنه، وكونه فريضة لا فضيلة فقط ومنها قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجّة الوداع على مسمع الاُلوف من الناس:( ألا فليبلّغ الشاهد الغائب ) وهو مكرّر في الصحيحين وغيرهما، وفي بعض الروايات عن ابن عبّـاس: فو الّذى نفسي بيده إنّها لوصيّـته إلى اُمّـته( فليبلّغ الشاهد الغائب ) الخ وحديث:( بلّغوا عنّى ولو آية ) رواه البخاريّ في صحيحه والترمذيّ، ولو لا ذلك لما انتشر الإسلام ذلك الانتشار السريع في العالم.

بل زعم بعضهم - كما قيل - أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عزل أبابكر من إمارة الحجّ وولّاها عليّـاً، وهذا بهتان صريح مخالف لجميع الروايات في مسألة عمليّـة عرفها الخاصّ والعامّ.

والحقّ أنّ عليّـاً كرّم الله وجهه كان مكلّفاً بتبليغ أمر خاصّ، وكان في تلك الحجّة تابعاً لأبي بكر في إمارته العامّة في إقامة ركن الإسلام الاجتماعيّ العامّ حتّى كان أبوبكر يعيّـن له الوقت الّذى يبلّغ ذلك فيه فيقول: يا علىّ قم فبلّغ رسالة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما تقدّم التصريح به في الروايات الصحيحة كما أمر بعض الصحابة بمساعدته على هذا التبليغ كما تقدّم في حديث أبى هريرة في الصحيحين وغيرهما.

ثمّ ساق الكلام واستدلّ بإمارة أبى بكر في تلك الحجّة - وضمّ إليها صلاته موضع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبيل وفاته - على تقدّمه وأفضليّـته من جميع الصحابة على من سواه انتهى.

أمّا قوله: مع استفاضة الأخبار بوجوب تبليغ الدين على المسلمين كافّة إلى آخر

١٧٨

ما قال فيكشف عن أنّه لم يحصّل معنى كلمة الوحى:( لا يؤدّى عنك إلّا أنت أو رجل منك ) حقّ التحصيل، ولم يفرّق بين قولنا:( لا يؤدّى منك إلّا رجل منك ) وبين قوله:( لا يؤدّى عنك إلّا أنت أو رجل منك ) فزعم أنّ الكلام بإطلاقه يمنع عن كلّ تبليغ دينىّ يتصدّاه غير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو رجل منه فدفع ذلك باستفاضة الأخبار بوجوب تبليغ الدين على المسلمين كافّة وقيّـد به إطلاق قوله:( لا يؤدّى عنك ) الخ فجعله خاصّاً بتبليغ نبذ العهد بعد تحويل الحكم الإلهىّ إلى سنّة عربيّـة جاهليّـة.

وقد ساقه اشتباه معنى الكلمة إلى أن زعم أنّ إبقاء الكلام على إطلاقه منشاؤه الغفلة عن أمر هو كالضروريّ عند عامّة المسلمين أعنى وجوب التبليغ العامّ حتّى استدلّ على ذلك بما في الصحيحين وغيرهما من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فليبلّغ الشاهد الغائب ) ، وقد عرفت ما هو حقّ المعنى لكلمة الوحى.

وأمّا قوله: ( بل زعم بعضهم كما قيل أنّه عزل أبابكر من إمارة الحجّ وولّاها عليّـاًعليه‌السلام وهذا بهتان صريح مخالف لجميع الروايات في مسألة عمليّـة عرفها العامّ والخاصّ ) فليس ذلك زعماً من البعض ولا بهتاناً كما بهته بل رواية روتها الشيعة وقد أوردناها في ضمن الروايات المتقدّمة.

وليس التوغّل في مسألة الإمارة ممّا يهمّـنا في تفهّم معنى قوله:( لا يؤدّى عنك إلّا أنت أو رجل منك ) فإمارة الحاجّ سواء صحّت لأبي بكر أو لعلّى، دلّت على فضل أو لم تدلّ إنّما هي من شعب الولاية الإسلاميّـة العامّة الّتى شأنها التصرّف في اُمور المجتمع الإسلامي الحيويّـة، وإجراء الأحكام والشرائع الدينيّـة، ولا حكومة لها على المعارف الإلهيّـة وموادّ الوحى النازلة من السّماء في أمر الدين.

إنّما هي ولاية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينصب يوماً أبابكر أو عليّـاًعليه‌السلام لإمارة الحاجّ، ويؤمّر يوماً اُسامة على أبى بكر وعامّة الصحابة في جيشه، ويولّى يوماً ابن اُمّ مكتوم على المدينة وفيها من هو أفضل منه، ويولّى هذا مكّة بعد فتحها، وذاك اليمن، وذلك أمر الصدقات، وقد استعملصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا دجانة الساعديّ أو سباع بن عرفطة الغفاريّ على ما في سيرة ابن هشام على المدينة عام حجّة الوداع، وفيها أبوبكر لم يخرج إلى الحجّ على ما

١٧٩

رواه البخاريّ ومسلم وأبوداود والنسائيّ وغيرهم وإنّما تدلّ على إذعانهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصلاحيّـة من نصبه لأمر لتصدّيه وإدارة رحاه.

وأمّا الوحى السماويّ بما يشتمل عليه من المعارف والشرائع فليس للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا لمن دونه صنع فيه، ولا تأثير فيه ممّا له من الولاية العامّة على اُمور المجتمع الإسلاميّ بإطلاق أو تقييد أو إمضاء أو نسخ أو غير ذلك، ولا تحكم عليه سنّة قوميّـة أو عادة جارية حتّى توجب تطبيقه على ما يوافقها أو قيام العصبة مقام الإنسان فيما يهمّه من أمر.

والخلط بين البابين يوجب نزول المعارف الإلهيّـة من أوج علوّها وكرامتها إلى حضيض الأفكار الاجتماعيّـة الّتى لا حكومة فيها إلّا للرسوم والعادات والاصطلاحات، فيعود الإنسان يفسّر حقائق المعارف بما يسعه الأفكار العامّـيّـة ويستعظم ما استعظمه المجتمع دون ما عظّمه الله، ويستصغر ما استصغره الناس حتّى يقول القائل في معنى كلمة الوحى إنّه عادة عربيّـة محترمة.

وأنت إذا تأمّلت هذه القصّة - أخذ آيات براءة من أبى بكر وإعطاءها عليّـاً على ما تقصّها الروايات - وجدت فيها من مساهلة الرواة وتوسّعهم في حفظ القصّة بما لها من الخصوصيات - إن لم يستند إلى غرض آخر - أمراً عجيباً ففى بعضها - وهو الأكثر - أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث أبابكر بالآيات ثمّ بعث عليّـاً وأمره أن يأخذها منه ويتلوها على الناس فرجع أبوبكر الخ، وفي بعضها أنّه بعث أبابكر بإمارة الحجّ ثمّ بعث عليّـاً بعده بآيات براءة، وفي بعضها: أنّ أبابكر أمره بالتبليغ وأمر بعض الصحابة أن يشاركه في النداء حتّى آل الأمر إلى مثل ما رواه الطبريّ وغيره عن مجاهد في قوله تعالى:( براءة من الله ورسوله إلى الّذين عاهدتم من المشركين ) إلى أهل العهد خزاعة ومدلج ومن كان له عهد وغيرهم. أقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تبوك حين فرغ منها فأراد الحجّ ثمّ قال: إنّه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة فلا اُحبّ أن أحجّ حتّى لا يكون ذلك فأرسل أبابكر وعليّـاً فطافا في الناس بذى المجاز وبأمكنتهم الّتى كانوا يبيعون بها وبالموسم كلّه فآذنوا أصحاب العهد أن يأمنوا أربعة أشهر وهى الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات: عشرون

١٨٠