الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 94139
تحميل: 6036


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 94139 / تحميل: 6036
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 9

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من آخر ذى الحجّة إلى عشر تخلو من ربيع الأوّل(١) ثمّ عهد لهم وآذن الناس كلّهم بالقتال إلى أن يموتوا.

وإذا كان هذا هو الحال فما معنى قوله: (بهتان صريح مخالف لجميع الروايات

في مسأله عمليّـة عرفها العامّ والخاصّ )؟ فإن كان يعنى: عرفها العامّ والخاصّ في عصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّن شاهد الأمر أو سمع ذلك ممّن شاهده ووصفه فما ذا ينفعنا ذلك؟.

وإن كان يعنى: أنّ العامّ والخاصّ ممّن يلى عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو يلى من يليه عرفا ذلك ولم يشكّ أحد في ذلك فهذا حال الروايات المنقولة عنهم لا يجتمع على كلمة.

منها ما يحكى أنّ عليّـاً اختص بتأدية براءة واُخرى تدلّ على أنّ أبابكر شاركه فيه واُخرى تدلّ على أنّ أبا هريره شاركه في التأدية ورجال آخرون لم يسمّوا في الروايات.

ومنها ما يدلّ على أنّ الآيات كانت تسع آيات واُخرى عشراً واُخرى ستّ عشره واُخرى ثلاثين واُخرى ثلاثاً وثلاثين واُخرى سبعاً و ثلاثين واُخرى أربعين واُخرى سورة براءة.

ومنها ما يدلّ على أنّ أبابكر ذهب لوجهه أميراً على الحاجّ واُخرى على أنّه رجع حتّى أوّله بعضهم كابن كثير أنّه رجع بعد اتمام الحجّ وآخرون أنّه رجع ليسأل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن سبب عزله وفي روايه أنس الآتية أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث أبابكر ببراءة ثمّ دعاه فأخذها منه.

ومنها ما يدلّ على أنّ الحجّة وقعت في ذى الحجّة وأنّ يوم الحجّ الأكبر تمام أيّـام تلك الحجّة أو يوم عرفه أو يوم النحر أو اليوم التالى ليوم النحر أو غير ذلك و اُخرى أنّ أبابكر حجّ في تلك السنه في ذى القعدة.

ومنها ما يدلّ على أنّ أشهر السياحه تأخذ من شوّال واُخرى من ذى القعدة واُخرى من عاشر ذى الحجّة واُخرى من الحادى عشر من ذى الحجّة وغير ذلك.

ومنها ما يدلّ على أنّ الأشهر الحرم هي ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم من

____________________

(١) كذا.

١٨١

تلك السنة واُخرى على أنّها أشهر السياحه تبتدئ من يوم التبليغ أو يوم النزول.

فهذا حال اختلاف الروايات ومع ذلك كيف يستقيم دعوى أنّه أمر عرفه العامّ والخاصّ وبعض المحتملات السابقة و إن كان قولاً من مفسّري السلف إلّا إنّ المفسّرين يعاملون أقوالهم معاملة الروايات الموقوفة.

وأمّا قوله: والحقّ أنّ عليّـاً كان مكلّفاً بتبليغ أمر خاصّ و كان في تلك الحجّة تابعاً لأبي بكر في إمارته إلى آخر ما قال فلا ريب أنّ الّذى بعث به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّـاً من الأحكام كان أمراً خاصّاً وهو تلاوة آيات براءة وسائر ما يلحق بها من الاُمور الأربعة المتقدّمة غير أنّ الكلام في أنّ كلمة الوحى: ( لا يؤدّى عنك إلّا أنت أو رجل منك ) لا تختصّ في دلالتها بتأدية آيات براءة على ما تقدّم بيانه فلا ينبغى الخلط بين ما يدلّ عليه الكلمة وبين ما اُمر به علىّ في خصوص تلك السفرة.

وأمّا قوله: وكان في تلك الحجّة تابعاً الخ فأمر استفاده من كلام أبى هريره وما يشبهه وقد عرفت الكلام فيه.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن أبى شيبه وأحمد والترمذيّ وحسّـنه وأبوالشيخ وابن مردويه عن أنس قال: بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببراءة مع أبى بكر - ثمّ دعاه فقال لا ينبغى لأحد أن يبلّغ هذا - إلّا رجلٌ من أهلي فدعا عليّـاً فأعطاه إيّـاه.

أقول: ذكر صاحب المنار في بعض كلامه أنّ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( أو رجل منّى ) في روايه السدّىّ قد فسّرتها الروايات الاُخرى عند الطبريّ وغيره بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو رجل من أهل بيتى وهذا النصّ الصريح يبطل تأويل كلمة ( منّى ) بأنّ معناها أنّ نفس علىٍّ كنفس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّه مثله وأنّه أفضل من كلّ أصحابه انتهى.

و الّذى أشار إليه من الروايات هو ما رواه قبلاً بقوله: وأخرج أحمد بسند حسن عن أنس أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث ببراءة مع أبى بكر فلمّا بلغ ذا الحليفه قال: لا يبلغها إلّا أنا أو رجل من أهل بيتى فبعث بها مع علىّ.

١٨٢

وهذه بعينها - على ما لا يخفى - هي الرواية السابقة الّتى أوردناها عن أنس وقد وقع فيها ( أو رجل من أهلي ) وإن اختلف لفظا الروايتين بما عملت فيهما يد النقل بالمعنى.

وأوّل ما في كلامه: أنّ اللفظ: ( أو رجل منّى ) لم يقع إلّا في روايه واحدة موقوفة هي روايه السدّىّ الّتى استضعفها قبيل ذلك بل الأصل في ذلك كلمة الوحى الّتى أثبتتها معظم الروايات الصحيحه على بلوغ كثرتها. والروايات الاُخر المشتملة على قوله: ( من أهل بيتى ) وهو يستكثرها إنّما هي رواية أنس - على ما عثرنا عليها - وقد وقع في بعض ألفاظها قوله ( من أهلي ) مكان ( من أهل بيتى ).

والثانى: أنّ الرواية - كما اتّضح لك - منقولة بالمعنى ومع ذلك لا يصلح ما وقع فيها من بعض الألفاظ لتفسير ما اتّفقت عليه معظم الروايات الصحيحه الواردة من طرق الفريقين من لفظ الوحى المنقول فيها.

على أنّ قوله: ( من أهل بيتى ) في هذه لو صلح لتفسير ما وقع في سائر الروايات من لفظ ( رجل منك ) أو ( رجل منّى ) لكان الواقع في روايه في روايه أبى سعيد الخدرىّ السابقة من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( يا علىّ إنّه لا يؤدّى عنّى إلّا أنا أو أنت ) مفسّراً لما في روايه أنس: ( إلّا رجل من أهل بيتى ) أو ( إلّا رجل من أهلي ) و ما في سائر الروايات: ( إلّا رجل منك ) أو ( إلّا رجل منّى ).

فيعود هذه الألفاظ كناية عن شخص علىّعليه‌السلام بل الكناية بما لها من المعنى مشيرة إلى أنّه من نفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و من أهله ومن أهل بيته جميعاً وهذا عين ما فرّ منه وزيادة.

والثالث: أنّ استفادة كونهعليه‌السلام بمنزلة نفسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليست بمستندة إلى مجرّد قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( رجل منّى ) كما حسبه فإنّ مجرّد قول القائل: فلان منّى لا يدلّ على تنزيله منزلته في جميع شؤون وجوده ومماثلته إيّـاه وإنّما يدلّ على نوع من الاتّصال والاتّباع كما في قول ابراهيمعليه‌السلام :( فمن تبعني فإنّه منّى ) ابراهيم - ٣٦ إلّا بنوع من القرينه الدالّة على عناية كلاميّـة كقوله تعالى:( ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم ) .

١٨٣

بل إنّما استفيد ذلك من قوله: ( رجل منّى ) أو ( رجل منك ) بمعونة قوله: (لا يؤدّى عنك إلّا أنت ) على البيان الّذى تقدّم وعلى هذا فلو كان هناك قوله: ( لا يؤدّى عنّى إلّا رجل من أهلي أو رجل من أهل بيتى ) لاستفيد منه عين ما استفيد من قوله: ( لا يؤدّى عنك إلّا أنت أو رجل منك ) وقوله: ( لا يؤدّى عنّى إلّا أنا أو رجل منّى ) مضافاً(١) إلى أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدّه منه في خطابه أبابكر وهو أيضاً منه بالاتّباع.

والرابع: أنّه أهمل في البحث الروايات الصحيحة المستفيضة أو المتواترة الّتى تدلّ على أن أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم علىّ وفاطمة والحسنان على ما تقدّم في أخبار آية المباهلة وسيجيئ معظمها في أخبار آية التطهير إن شاء الله تعالى.

ولا رجل في أهل بيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا علىّعليه‌السلام فيؤول الأمر إلى كون اللفظ كناية عن علىّعليه‌السلام فيرجع إلى ما تقدّم من الوجه.

وأمّا ما احتمله من المعنى فهو أنّ المراد بأهل بيته عامّة أقربائه من بنى هاشم أو بنو هاشم ونساؤه فينزّل اللفظ منزلة عاديّـة من غير أن يحمل شيئاً من المزيّـة والمعنى لا يؤدّى نبذ العهد عنّى إلّا رجل من بنى هاشم والقوم يرجعون غالباً في مفاهيم أمثال هذه الألفاظ إلى ما يعطيه العرف اللغوىّ في ذلك من غير توجّه إلى ما اعتبره الشرع وقد تقدّم نظير ذلك في معنى الابن والبنت حيث حسبوا أنّ كون ابن البنت ابناً للرجل و عدمه مرجعه إلى بحث لغوىّ يعيّن كون الابن يصدق بحسب الوضع اللغوىّ على ابن البنت مثلاً أو لا يصدق عليه وجميع ذلك يرجع إلى الخلط بين الأبحاث اللفظيّـة والأبحاث المعنويّـة وكذا الخلط بين الأنظار الاجتماعيّـة والأنظار الدينيّـة السماويّـة على ما تقدّمت الإشارة إليه.

وأعجب من الجميع قوله: وهذا النصّ الصريح يبطل تأويل كلمة ( منّى ) فإنّ مراده بدلالة السياق أنّ كلمة ( من أهل بيتى ) نصّ صريح في أنّ المراد برجل منّى

____________________

(١) وفي رواية الحاكم الاتية عن مصعب بن عبدالرحمان عم أبيه عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما قاله لاهل الطائف: والّذى نفسي بيده لتقيمنّ الصلاة ولتؤتنّ الزكاة أو لأبعثنّ عليكم رجلاً منّى أو كنفسي فليضربنّ أعناق مقاتلهم وليسبينّ ذراريهم. فرأى الناس أنّه يعنى أبابكر أو عمر فأخذ بيد علىّعليه‌السلام فقال: (هذا) دلالة علي هذا الفهم من جهة مافيها من الترديد

١٨٤

رجل من بنى هاشم ولا ندرى أيّ نصوصيّـة أو صراحة لكلمة (أهل البيت) في بنى هاشم بعد ما تكاثرت الروايات أنّ أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم علىّ وفاطمة والحسنانعليه‌السلام ثمّ في قوله: (أهل بيتى) بمعنى بنى هاشم أنّ المراد بكلمة (منّى) هو ذلك!!.

وفي تفسير العيّـاشيّ عن زرارة وحمران ومحمّـد بن مسلم عن أبى جعفر وأبى عبداللهعليهم‌السلام :( فسيحوا في الأرض أربعة اشهر ) - قال عشرين من ذى الحجّة والمحرّم و صفر - وشهر ربيع الأوّل وعشراً من ربيع الآخر.

أقول: وقد استفاضت الروايات من طرق الشيعة عن أئمّـة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ المراد من الأربعة الأشهر هو ذلك روى ذلك الكلينيّ والصدوق والعيّـاشيّ والقمّىّ وغيرهم في كتبهم وروى ذلك من طرق أهل السنّة وهناك روايات اُخرى من طرقهم في غير هذا المعنى حتّى وقع في بعضها أنّ أبابكر حجّ بالناس عام تسع في شهر ذى القعدة وهى غير متأيّدة ولذلك أغمضنا عنها.

وفي تفسير العيّـاشيّ عن حكيم بن جبير عن علىّ بن الحسينعليه‌السلام : في قوله تعالى:( و أذان من الله ورسوله ) قال: الأذان أميرالمؤمنينعليه‌السلام .

أقول: وروى هذا المعنى أيضاً عن حريز عن أبى عبداللهعليه‌السلام وعن جابر عن جعفر بن محمّـد وأبى جعفرعليهم‌السلام ورواه القمّىّ عن ابيه عن فضالة عن أبان بن عثمان عن حكيم بن جبير عن علىّ بن الحسينعليه‌السلام قال: وفي حديث آخر قال: كنت أنا الأذان في الناس، ورواه الصدوق أيضاً بإسناده عن حكيم عنهعليه‌السلام ، ورواه في الدرّ المنثور عن ابن أبى حاتم عن حكيم بن حميد عن علىّ بن الحسينعليه‌السلام ، وقال في تفسير البرهان: قال السدّىّ وأبومالك وابن عبّـاس وزين العابدين: الأذان هو علىّ بن أبى طالب فاُدىّ به.

وفي تفسير البرهان عن الصدوق بإسناده عن الفضيل بن عياض عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن الحجّ الأكبر فقال: عندك فيه شئ؟ فقلت: نعم كان ابن عبّـاس يقول: الحجّ الأكبر يوم عرفة يعنى أنّه من أدرك يوم عرفة إلى طلوع الشمس من يوم النحر فقد أدرك الحجّ، ومن فاته ذلك فاته الحجّ فجعل ليلة عرفة لما قبلها ولما بعدها والدليل

١٨٥

على ذلك أنّه من أدرك ليلة النحر إلى طلوع الفجر فقد أدرك الحجّ و أجزي عنه من عرفة.

فقال أبوعبداللهعليه‌السلام : قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام الحجّ الأكبر يوم النحر واحتجّ بقول الله عزّوجلّ:( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) فهى عشرون من ذى الحجّة والمحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشر من شهر ربيع الآخر، ولو كان الحجّ الأكبر يوم عرفة لكان السيح أربعة أشهر ويوماً واحتجّ بقوله عزّوجلّ:( وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحجّ الأكبر ) وكنت أنا الأذان في الناس.

قلت: فما معنى هذه اللفظة: الحجّ الأكبر؟ فقال: إنّما سمّى الأكبرلأنّها كانت سنة حجّ فيها المسلمون و المشركون، ولم يحجّ المشركون بعد تلك السنة.

وفيه عنه بإسناده عن معاوية بن عمّار قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن يوم الحجّ الأكبر فقال: يوم النحر والأصغر العمرة.

أقول: وفي الرواية مضافاً إلى تفسير اليوم بيوم النحر إشارة إلى وجه تسمية الحجّ بالأكبر، وقد أطبقت الروايات عن أئمّـة أهل البيتعليهم‌السلام إلّا ما شذّ على أنّ المراد بيوم الحجّ الأكبر في الآية هو يوم الأضحى عاشر ذى الحجّة وهو يوم النحر ورووا ذلك عن علىّعليه‌السلام .

و روى هذه الرواية الكلينيّ في الكافي عن علىّ بن ابراهيم عن ابيه عن ابن أبى عمير عن معاوية بن عمّار عن أبى عبداللهعليه‌السلام وروى ذلك أيضاً بإسناده عن ذريح عنهعليه‌السلام وكذا الصدوق بإسناده إلى ذريح عنهعليه‌السلام ورواه العيّـاشيّ عن عبد الرحمن و ابن اُذينه والفضيل بن عياض عنهعليه‌السلام .

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن أبى أوفى عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه قال يوم الأضحى هذا يوم الحجّ الأكبر.

وفيه أيضاً أخرج البخاريّ تعليقاً وأبو داود وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبوالشيخ وابن مردويه وابو نعيم في الحلية عن ابن عمر أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجّة الّتى حجّ فقال: أيّ يوم هذا؟

١٨٦

قالوا: يوم النحر قال: هذا يوم الحجّ الأكبر.

أقول: وروى ذلك بطرق مختلفة عن علىّعليه‌السلام وابن عبّـاس ومغيرة بن شعبة وأبى جحيفة وعبدالله بن أبى أوفى وقد روى بطرق مختلفة اُخرى عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه يوم عرفة و كذا روى ذلك عن علىّ وابن عبّـاس وابن الزبير وروى عن سعيد بن المسيّب أنّه اليوم التالى ليوم النحر وروى أنّه أيّـام الحجّ كلّها وروى أنّه الحجّ في العامّ الّذى حجّ فيها أبوبكر، وهذا الوجه الأخير لا يأبى الانطباق على ما تقدّم من الحديث عن الصادقعليه‌السلام : أنّه سمّى الحجّ الأكبر لما حجّ في تلك السنة المسلمون والمشركون جميعاً.

وفي تفسير العيّـاشيّ عن زرارة عن أبى جعفرعليه‌السلام : في قول الله:( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) قال: هي يوم النحر إلى عشر مضين من شهر ربيع الآخر.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى:( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ) أخرج الحاكم وصحّحه عن مصعب بن عبد الرحمان عن ابيه قال: افتتح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة ثمّ انصرف إلى الطائف فحاصرهم ثمانية أو سبعة ثمّ ارتحل غدوة وروحة ثمّ نزل ثمّ هجر.

ثمّ قال: أيّها الناس إنّى لكم فرط، وإنّى اُوصيكم بعترتي خيراً موعدكم الحوض، والّذى نفسي بيده لتقيمنّ الصلاة ولتؤتنّ الزكاة أو لأبعثنّ عليكم رجلاً منّى أو كنفسي فليضربنّ أعناق مقاتلهم وليسبينّ ذراريهم. فرأى الناس أنّه يعنى أبابكر أو عمر فأخذ بيد علىّعليه‌السلام فقال: هذا.

أقول: يعنىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به الكفر.

وفي تفسير العيّـاشيّ في حديث جابر عن أبى جعفرعليه‌السلام :( فإن تابوا ) يعنى فإن آمنوا فإخوانكم في الدين.

وفي تفسير القمّىّ في قوله تعالى:( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره ) الآية قال: قال: إقرء عليه وعرّفه ثمّ لا تتعرّض له حتّى يرجع إلى مامنه.

١٨٧

وفي تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب عن تفسير القشيرىّ: إنّ رجلاً قال لعلىّ يابن أبى طالب - فمن أراد منّا أن يلقى رسول الله في بعض الأمر من بعد انقضاء الأربعة فليس له عهد؟ قال علىّ: بلى لأنّ الله قال:( وأن أحد من المشركين استجارك فأجره ) الآية.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى:( وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ) الآية. أخرج ابن أبى شيبه وابن أبى حاتم وأبوالشيخ وابن مردويه عن حذيفه أنّهم ذكروا عنده هذه الآية فقال: ما قوتل أهل هذه الآية بعد.

وفيه أخرج ابن أبى شيبه والبخاريّ وابن مردويه عن زيد بن وهب في قوله:( فقاتلوا أئمّـة الكفر ) قال: كنّا عند حذيفة فقال: ما بقى من أصحاب هذه الآية إلّا ثلاثة - ولا من المنافقين الا أربعة. فقال: أعرابيّ: إنّكم أصحاب محمّـد تخبروننا باُمور لا ندرى ما هي؟ فما بال هؤلاء الّذين يبقرون بيوتنا ويسرقون أعلاقنا؟ قال: اُولئك الفسّاق، أجل لم يبق منهم إلّا أربعة أحدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده.

وفي قرب الإسناد للحميريّ: حدّثنى عبد الحميد وعبد الصمد بن محمّـد جميعاً عن حنّان بن سدير قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: دخل علىّ اُناس من أهل البصرة فسألوني عن طلحة والزبير فقلت لهم: كانوا(١) من أئمّـة الكفر إنّ عليّـاً يوم البصرة لمّا صفّ الخيل قال لأصحابه لا تعجلوا على القوم حتّى أعذر فيما بينى وبين الله وبينهم.

فقام إليهم فقال: يا أهل البصرة هل تجدون علىّ جوراً في حكم؟ قالوا: لا. قال: فحيفاً في قسم؟ قالوا: لا. قال: فرغبه في دنيا أخذتها لى ولأهل بيتى دونكم فنقمتم علىّ فنكثتم بيعتى؟ قالوا: لا. قال: فأقمت فيكم الحدود و عطّلتها في غيركم؟ قالوا: لا. قال: فما بال بيعتى تنكث وبيعه غيرى لا تنكث إنّى ضربت الأمر أنفه وعينه فلم أجد إلّا الكفر أو السيف.

ثمّ ثنّى إلى أصحابه فقال إنّ الله تبارك وتعالى يقول في كتابه:( وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمّة الكفر إنّهم لا إيمان لهم لعلّهم ينتهون )

____________________

(١) كانا ظ.

١٨٨

فقال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : والّذى فلق الحبّة وبرء النسمة واصطفى محمّـداً بالنبوّة إنّهم لأصحاب هذه الآية وما قوتلوا مذنزلت.

أقول: ورواه العيّـاشيّ عن حنّان بن سدير عنهعليه‌السلام .

وفي أمالى المفيد بإسناده عن أبى عثمان مؤذّن بنى قصىّ قال: سمعت علىّ بن أبى طالبعليه‌السلام حين خرج طلحة والزبير على قتاله: عذرني الله من طلحة والزبير، بايعانى طائعين غير مكرهين ثمّ نكثا بيعتى من غير حدث أحدثته ثمّ تلا هذه الآية:( وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمّة الكفر إنّهم لا أيمان لهم لعلّهم ينتهون ) .

أقول: ورواه العيّـاشيّ في تفسيره عن أبى عثمان المؤذّن وأبى الطفيل والحسن البصريّ مثله، ورواه الشيخ في أماليه عن أبى عثمان المؤذّن. وفي حديثه قال بكير: فسألت عنها أباجعفرعليه‌السلام فقال: صدق الشيخ هكذا قال علىّ. هكذا كان.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن اسحاق والبيهقيّ في الدلائل عن مروان بن الحكم والمسوّر بن مخرمة قالا: كان في صلح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الحديبيّـة بينة وبين قريش أنّ من شاء أن يدخل في عقد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعهده دخل فيه، ومن شاء أن يدخل في عهد قريش وعقدهم دخل فيه فتواثبت خزاعة فقالوا: ندخل في عهد محمّـد وعقده. وتواثبت بنو بكر فقالوا: ندخل في عقد قريش وعهدهم فمكثوا في تلك الهدنة نحو السبعة عشر أو الثمانية عشر شهراً.

ثمّ إنّ بنى بكر الّذين كانوا دخلوا في عقد قريش وعهدهم وثبوا على خزاعة الّذين دخلوا في عقد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعهده ليلاً بماء لهم يقال له: الوتير قريب من مكّة فقالت قريش ما يعلم بنا محمّـد وهذا الليل وما يرانا أحد فأعانوهم عليهم بالكراع والسلاح فقاتلوهم معهم للضغن على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وركب عمرو بن سالم عند ما كان من أمر خزاعة وبنى بكر بالوتير حتّى قدم المدينة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأبيات أنشده إيّـاها:

١٨٩

يا ربّ(١) إنّـى ناشـدٌ محمّـدا

حلـف أبـينا وأبيـه الأ تلدا

قـد كـنتم ولـدا وكـنّـا والدا

ثمّت أسلـمنا فلم ننزع يدا

فانصر هداك الله نصراً أعتدا

وادع عـبدالله يأتـوا مـددا

فيهـم رسـول الله قـد تجـرّدا

إن سيـم خسفاً وجهه تربّدا

في فيلق كالبحر يجرى مزُبدا

إنّ قريشاً أخلفـوك الموعدا

ونقضـوا مـيـثاقـك المـؤكّدا

وجعلوا لى في كداء رُصّدا

وزعموا أن لستُ أدعـو أحدا

و هـم أذلّ و أقـلّ عـددا

هم بيّـتـونا بالـوتـير هـُجّدا

وقـتّلونا رُكّعـا وسُـجّدا(٢)

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نصرت يا عمرو بن سالم فما برح حتّى مرّت غمامة في السماء فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ هذه السحابة لتشهد(٣) بنصر بنى كعب، وأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس بالجهاد وكتمهم مخرجه، وسأل الله ان يعمى على قريش خبره حتّى يبغتهم في بلادهم.

أقول: أورد الرواية في الدرّ المنثور بعد ما روى بطرق عن مجاهد وعكرمة أنّ قصّة نقض قريش عهد الحديبيّـة وإعانتهم بنى بكر على خزاعة حلفاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان هو السبب لنزول قوله تعالى:( ألا تقاتلون قوماً - إلى قوله -ويشف صدور قوم مؤمنين ) وهم خزاعة.

ولو كان الأمر على ما ذكروا كانت الآية:( ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم ) - إلى تمام ثلاث آيات بل أربع - على ما يعطيه السياق ممّا نزل قبل فتح مكّة فتكون نازلة قبل آيات براءة لا محالة.

لكن القصّة الّتى رواها ابن اسحاق والبيهقيّ على اعتبارها لمكان لمسور بن مخرمة لا تصرّح بنزول الآيات في ذلك، وما رواها مجاهد وعكرمة لا اعتماد عليه لمكان الوقف والانقطاع، وسياق الآيات لا يأبى نزولها مع ما تقدّم عليها واتّصالها بها على ما لا يخفى.

____________________

(١) في الدرّ المنثور: لاهم.

(٢) الابيات منقولة على ما يطابق نسخة السيرة لابن هشام لكثرة الغلط في نسخة الدرّ المنثور.

(٣) لتستهل. نسخة سيرة النبيّ.

١٩٠

والّذى ذكر فيها من قوله:( ونكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أوّل مرّة ) وإن كان يشير إلى صفات قريش الخاصّـة بهم لكن من الجائز أن تكون الآية مشيرة إلى حلفاء قريش وجيرانهم ممّن لم يؤمنوا بعد فتح مكّة وهم لاتّحادهم مع قريش واتّصالهم بهم وصفوا بما يوصف به قريش بالأصالة.

واعلم أنّ هناك روايات متفرّقة من طرق أهل البيتعليهم‌السلام تطبّق الآيات على ظهور المهدىّعليه‌السلام ، وهى من الجرى.

( كلام في معنى العهد وأقسامه وأحكامه)

قدّمنا في أوائل الجزء السادس من الكتاب كلاماً في معنى العقد والعهد ونستأنف البيان ههنا في معنى ما تقدّم وما يستتبعه من الأقسام والأحكام بتقرير آخر في فصول:

١ - قد لاح لك من تضاعيف الأبحاث المتقدّمة في هذا الكتاب أنّ الإنسان في مسير حياته لا يزال يصوّر أعماله وما يتعلّق به أعماله من المادّة تصوّر الاُمور الكونيّـة ويمثّلها بها ويجرى بينها أحكام الاُمور الكونيّـة وآثارها من القوانين العامّـة الجارية في الكون بحسب ما يناسب أغراضه الحيويّـة كما أنّه يأخذ مثلاً أصواتاً متفرّقة هي الزاى والياء والدال، ويؤلّفها بشكل مخصوص ويعمل لفظ (زيد) ثمّ يفترض أنّه زيد الإنسان الخارجيّ فيسمّيه به ثمّ كلّما أراد أن يحضر زيداً في ذهن مخاطبه ألقى إليه لفظ (زيد) فكان ممثّلاً لعين زيد عنده، وحصل بذلك غرضه.

وإذا أراد أن يدير أمراً لا يدور إلّا بعمل عدّة مؤتلفة من الناس اختار جماعة وافترضهم واحداً كالإنسان الواحد، وفرض واحداً منهم للباقين كما يفرض الرأس لبدن الإنسان ويسمّيه رئيساً، وفرض كلّاً من الباقين كما يفرض العضو من البدن ذى الأعضاء ويسمّيه عضواً ثمّ يرتّب على الرأس أحكام الرأس الخارجيّ، وعلى العضو آثار العضو الخارجيّ وعلى هذا القياس.

١٩١

وإلى هذا يؤول جميع أفكار الإنسان الاجتماعيّـة بلا واسطه أو بواسطة أو وسائط من التصوّرات والتصديقات إذا حلّلت تحليلاً صحيحاً كما تؤول إليه أنظاره الفرديّـة فيما يرتبط بأعماله وأفعاله.

الإنسان شديد الاهتمام بعقد العقود وتمثيل العهود وما يرتبط بها من الحلف واليمين والبيعة ونحو ذلك، والعامل الأوّلىّ في ذلك أنّ الإنسان لا همّ له إلّا التحفّظ على حياته والوصول إلى مزاياها والتمتّع بالسعادة الّتى تستعقبها لو جرت على حقيقة مجراها.

فأىّ بغية من مبتغياته وجدها وسلّط عليها أخذ في التمتّع منها بما يناسبها من التمتّع كالأكل والشرب وغيرهما بما جهّز به من أدوات التمتّع، ودفع كلّ ما يمنعه من التمتّع لو عرض هناك مانع عأرض ورأى أنّه إنّما وفّق لذلك في ضوء ما اُوتيه من السلطة.

وقد اُوتى الإنسان سلعة الفكر وبذلك يدبّر أمر حياته ويصلح شأن معاشه فيعمل ليومه ويمهّد لغده، وأعماله الّتى هي تصرّفات منه في المادّة أو عائدة إلى ذلك في عين أنّها جميعاً متوقّفة على انبساط سلطته على الفعل وإحاطته بكلّ ما يتعلّق به عمله، مختلفة في أنّ بعضها يتمّ بالسلطة المقصورة على الفعل مقدار زمانه كمن صادف غذاء وهو جوعان فتناوله فأكله، فإنّه لا يتوقّف على سلطة أوسع من زمان العمل، ولا على تمهيد وتقدّمة.

وبعضها - وهو جلّ الأعمال الإنسانيّـة الاجتماعيّـة - يتوقّف على سلطة وسيعة تنبسط على العمل في وقته وعلى زمان قبله فقط أو على زمان قبله وبعده، لحاجته إلى مقدّمات يمهّدها له، وتدبير سابق يقدّمه لوجوده، فما كلّ عمل يعمله الإنسان بصدفة، بل جلّ الاُمور الحيويّـة من شأنها ان يتهيّـأ الإنسان له قبل أوانه.

ومن التهيّؤ له أن يتهيّـأ لجمع أسبابه ونظم الوسائل الّتى يتوسّل بها إليه وان يتهيّـأ لرفع موانعه الّتى من شأنها أن تزاحمه في وجوده وعند حصوله، فالإنسان لا يوفّق

١٩٢

لعمل ولا ينجح في مسعاه إلّا إذا كان في أمن من أن تفوته الأسباب أو تعارضه الموانع والمزاحمات.

والتنبّـه لهذه الحقيقة هو الّذى بعث الإنسان إلى أن يأخذ أمناً من رقبائه في الحياة: أن يعينوه فيما يحتاج من الاُمور إلى معين مشارك، أو أن لا يمانعوه من العمل فيما يتوقّف إلى ارتفاع الموانع وزوالها.

فالإنسان وهو يريد أن يتّخذ لباساً يلبسه من مادّة بسيطة كالقطن أو الصوف، والأمر متوقّف على أعمال كثيرة يعملها الغزّال والنسّاج والخيّاط ومن يصنع لهم أدوات الغزل والنسج والخياطة، لا يتمّ له ما يريده من اتّخاذ اللّباس ولا ينجح سعيه إلّا إذا كان في أمن من ناحية هؤلاء الرقباء: أن يعملوا على ما يريده ولا يخلّوه وحده فيخيب سعيه ويخسر في عمله.

وكذا الإنسان القاطن في أرض أو الساكن في دار لا يتمّ له سكناه إلّا مع الأمن من ممانعة الناس ومزاحمتهم له في سكناه والتصرّف فيه بما يصلح به لذلك.

وهذا هو الّذى هدى الإنسان إلى اعتبار العقد وإبرام العهد، فهو يأخذ ما يريده من العمل ويربطه بما يعينه عليه من عمل غيره ويعقدهما: يمثّل به عقد الحبال الّذى يفيد اتّصال بعض أجزائها ببعض وعدم تخلّف بعضها عن بعض، ومثله العهد الّذى يعهده إليه غيره أن يساعده في ما يريده من الأمر أو أن لا يمانعه في ذلك.

وإلى ذلك يؤول أمر عامّة العقود لعقد النكاح وعقد البيع والشرى وعقد الإجارة، ويصدق عليها العهد بمعناها العامّ وهو أن يعطى الإنسان لغيره قولاً أو كتاباً أن يعينه على كذا أو أن لا يمنعه من كذا إلى أجل مضروب أولا إلي أجل.

والكلام في المقام في العهد الّذى لم يختصّ باسم خاصّ كعقد البيع والنكاح وغيرهما من عقود المعاملات فهى خارجة من غرضنا ولها في المجتمعات الإنسانيّـة أحكام خاصّـة وآثار وخواصّ مخصوصة بل الكلام في العهد بمعنى ما يعقده الإنسان لغيره من الإعانة أو عدم الممانعة في متفرّقات المقاصد الاجتماعيّـة، وما يجعله لذلك من الآثار كمن يعاهد غيره أن يعطيه كلّ سنة كذا مالاً ليستعين به على حوائجه، ويأخذ منه كذا مالاً

١٩٣

أو نفعاً، أو يعاهده أن لا يزاحمه في عمله أو لا يمانعه في مسيره إلى أجل كذا أو لا إلى أجل، وهو نوع إحكام وإبرام لا ينتقض إلّا بنقض أحد الطرفين أو بنقضهما معاً.

وربّما زيد على إحكام العهد بالحلف وهو أن يقيّد المعاهد ما يعطيه من العهد ويربطه بأمر عظيم شأنه يقدّسه ويحترمه كأنّه يجعل ما له من الحرمة والعزّة رهناً يرهن به عهده يمثّل به أنّه لو نقضه فقد أذهب حرمته يقول المعاهد: والله لا أخوننّك، ولعمري لاُساعدنّك، وأقسم لأنصرنّك، يمثّل به أنّه لو أخلف وعده ونقض عهده فقد أبطل حرمة ربّه، أو حرمة عمره أو حرمة قسمه فلا مروّة له.

وربّما اُبرم العهد والميثاق بالبيعة والصفقة: يضع المعاهد يده في يد معاهده يمثّل به أنّه اُعطاه يده الّتى بها يفعل ما يفعل فلا يفعل ما يكره معاهده لأنّ يده قبضة يده.

٢ - العهود والمواثيق كما تمسّها حياة الإنسان الّذى هو فرد المجتمع كذلك تمسّها حياة المجتمع فليس المجتمع إلّا المجتمع من أفراد الإنسان، حياته مجموع حياة أجزائه، وأعماله الحيويّـة مجموع أعمال أجزائه وله من الخير والشرّ والنفع والضرّ والصحّة والسقم والنشوء والرشد والاستقامة والانحراف والسعادة والشقاوة والبقاء والزوال مجموع ما لأجزائه من ذلك.

فالمجتمع إنسان كبير له من مقاصد الحياة ما للإنسان الصغير، ونسبة المجتمع إلى المجتمع تقرب من نسبة الإنسان الفرد إلى الإنسان الفرد فهو يحتاج في ركوب مقاصده وإتيان أعماله من الأمن والسلامة إلى مثل ما يحتاج إليه الإنسان الفرد بل الحاجة فيه أشدّ وأقوى لأنّ العمل يعظم بعظمة فاعله وعظمة غرضه، والمجتمع في حاجة إلى الأمن والسلام من قبل أجزائه لئلّا يتلاشى ويتفرّق، وإلى الأمن والسلام من قبل رقبائه من سائر المجتمعات.

وعلى هذا جرى ديدن المجتمعات الإنسانيّـة على ما بأيدينا من تاريخ الاُمم والأقوام الماضية، وما نسمعه أو نشاهده من الملل الحاضرة فلم يزل ولا يزال المجتمع من المجتمعات الإنسانيّـة في حاجة قائمة إلى أن يعاهد غيره في بعض شؤون حياته السياسيّـة والاقتصاديّـة

١٩٤

أو الثقافيّـة أو غيرها، فلا يصفو الجوّ للإقدام على شئ من مقاصد الحياة أو التقدّم في شئ من مآربها إلّا بالاعتضاد بالأعضاد والأمن من معأرضة الموانع.

٣ - الإسلام بما أنّه متعرّض لأمر المجتمع كالفرد، ويهتمّ بإصلاح حياة الناس العامّة كاهتمامة بإصلاح حياة الفرد الخاصّـة قنّن فيه كلّيات ما يرجع إلى شؤون الحياة الاجتماعيّـة كالجهاد والدفاع ومقاتلة أهل البغى والنكث والصلح والسلم والعهود والمواثيق وغير ذلك.

والعهد الّذى نتكلّم فيه قد اعتبره اعتباراً تامّاً وأحكمه إحكاماً يعدّ نقضه من طرف أهله من أكبر الإثم إلّا أن ينقضه المعاهد الآخر فيقابل بالمثل فإنّ الله سبحانه أمر بالوفاء بالعهود، والعقود وذمّ نقض العهود والمواثيق ذمّاً بالغاً في آيات كثيرة جدّاً قال تعالى:( يا أيّها الّذين آمنوا أوفوا بالعقود ) المائدة: ١، وقال:( والّذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه - إلى أن قال -اُولئك لهم اللّعنة ولهم سوء الدار ) الرعد: ٢٥، وقال:( وأوفوا بالعهد إنّ العهد كان مسؤولاً ) أسرى: ٣٤ إلى غير ذلك.

ولم يبح نقض العهود والمواثيق إلّا فيما يبيحه حقّ العدل وهو أن ينقضه المعاهد المقابل نقضاً بالبغى والعتوّ أو لا يؤمن نقضه لسقوطه عن درجة الاعتبار، وهذا ممّا لا اعتراض فيه لمعترض ولا لوم للائم، قال تعالى:( وإمّا تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إنّ الله لا يحبّ الخائنين ) الأنفال: ٥٨ فأجاز نقض العهد عند خوف الخيانة ولم يرض بالنقض من غير إخبارهم به واغتيالهم وهم غافلون دون أن قال:( فانبذ إليهم على سواء ) فأوجب أن يخبروهم بالنقض المتقابل احترازاً من رذيلة الخيانة.

وقال:( براءة من الله ورسوله إلى الّذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) براءة: ٢ فلم يرض بالبراءة دون أن وسّع عليهم أربعة أشهر حتّى يكونوا على مهل من التفكّر في أمرهم والتروّى في شأنهم فيروا رأيهم على حرّيّة من الفكر فإن شاؤا آمنوا ونجوا وإن لم يشاؤا قتلوا وفنوا، وقد كان من حسن أثر هذا التأجيل أن آمنوا فلم يفنوا.

وقد تمّم سبحانه هذه الفائدة أحسن إتمام بقوله بعد إعلام البراءة:( وإن أحد من

١٩٥

المشركين استجارك فأجره حتّى يسمع كلام الله ثمّ أبلغه مأمنه ذلك بأنّهم قوم لا يعلمون ) ، التوبة: ٦.

وقال مستثنياً الموفين بعهدهم من المشركين:( كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلّا الّذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إنّ الله يحبّ المتّقين، كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلّا ولا ذمّة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون ) التوبة: ٨ وقد علّل الاستقامة لمن استقام بأنّه من التقوى - ذاك التقوى الّذى لا دعوة في الدين إلّا إليه - وأنّ الله يحبّ المتّقين، وهذا تعليل حىّ إلى يوم القيامة.

وقال تعالى:( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) البقرة: ١٩٤ وقال:( ولا يجرمنّكم شنآن قوم أن صدّوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) المائدة: ٢.

وأمّا النقض الابتدائيّ من غير نقض من العدوّ المعاهد فلا مجوّز له في هذا الدين الحنيف أصلاً، وقد تقدّم قوله تعالى:( فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ) الآية وقال:( ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبّ المعتدين ) البقرة: ١٩٠.

وعلى ذلك جرى عمل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّـام حياته فقد عاهد بنى قينقاع وبنى قريظة وغيرهم من اليهود ولم ينقض إلّا بعد ما نقضوا، وعاهد قريشاً في الحديبيّـة ولم ينقض حتّى نقضوا بإظهار بنى بكر على خزاعة وقد كانت خزاعة في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبنو بكر في عهد قريش.

وأمّا النقض من غير نقض فلا مبيح له في الإسلام وإن كان الوفاء ممّا يفوّت على المسلمين بعض منافعهم، ويجلب إليهم بعض الضرر وهم على قدرة من حفظ منافعهم بالبأس والقوّة أو أمكنهم الاعتذار ببعض ما تصوّر لهم الحجّة ظاهراً وتصرّف عنهم اللّوم والعذل فإنّ مدار الأمر على الحقّ، والحقّ لا يستعقب شرّاً لا ضرّاً إلّا على من انحرف عنه وآوى إلى غيره.

٤ - المجتمعات الإنسانيّـة سيّما الراقية المتمدّنة منها غير المجتمع الدينىّ لا هدف

١٩٦

لاجتماعهم ولا غرض لسننهم الجارية إلّا التمتّع من مزايا الحياة المادّيّة ما قدروا عليه فلا موجب لهم للتحفّظ على شئ أزيد ممّا بأيديهم من القوانين العمليّـة الناظمة لشتات مقاصدهم الحيويّـة.

ومن الضرورىّ أنّ الظرف الّذى هذا شأنه لا قيمة فيها للمعنويّـات إلّا بمقدار ما يوافق المقاصد الحيويّـة المادّيّة فالفضائل والرذائل المعنويّـة كالصدق والفتوّة والمروّة ونشر الرحمة والرأفة والإحسان وأمثال ذلك لا اعتبار لها إلّا بمقدار ما درّت بها منافع المجتمع، ولم يتضرّروا بها لو لم تعتبر، وأمّا فيما ينافى منافع القوم فلا موجب للعمل بها بل الموجب لخلافها.

ولذلك ترى المؤتمرات الرسميّـة وأولياء الاُمور في المجتمعات لا يرون لأنفسهم وظيفة إلّا التحفّظ على منافع المجتمع الحيويّـة، وما يعقد فيها من العهود والمواثيق إنّما يعقد على حسب مصلحة الوقت، ويوزن بزنة ما عليه الدولة المعاهدة من القوّة والعدّة، وما عليه المعاهد المقابل من القوّة والعدّة في نفسه وبما يضاف إليه من سائر المقتضيات المنضمّة إليه المعينة له.

فما كان التوازن على حالة التعادل كان العهد على حاله، وإذا مالت كفّة الميزان للدولة المعاهدة على خصمه أبطلت اعتبار العهد بأعذار مصطنعة واتّهامات مفتعلة للتوسّل إلى نقضه، وإنّما يراد بتقديم الأعذار أن يتحفّظ على ظاهر القوانين العالميّـة الّتى لا عقبى لنقضها والتخلّف عنها إلّا ما يهدّد حياة المجتمع أو بعض منافع حياتهم، ولو لا ذلك لم يكن ما يمنع النقض ولو من غير عذر إذا اقتضته منافع المجتمع القوىّ الحيويّـة.

وأمّا الكذب أو الخيانة أو التعدّي لما يتّخذه الغير منافع لنفسه فليس ممّا يمنع مجتمعاً من المجتمعات من حيازة ما يراه نافعاً لشأنه إذ الأخلاق والمعنويّـات لا أصالة لها عندهم وإنّما تعتبر على حسب ما تقدّره غاية المجتمع وغرضه الحيوىّ وهو التمتّع من الحياة.

وأنت إذا تتبّعت الحوادث العامّة بين المجتمعات سابقها ولاحقها وخاصّـة الحوادث

١٩٧

العالميّـة الجارية في هذا العصر الأخير عثرت على شئ كثير من العهود الموثّقة ونقوضها على ما وصفناه.

وأمّا الإسلام فلم يعدّ حياة الإنسإن المادّيّة حياة له حقيقيّـة، ولا التمتّع من مزاياها سعادة له واقعيّـة، وإنّما يرى حياته الحقيقيّـة حياته الجامعة بين المادّة والمعنى، وسعادته الحقيقيّـة اللّازم إحرازها ما يسعده في دنياه واُخراه.

ويستوجب ذلك أن يبنى قوانين الحياة على الفطرة والخلقة دون ما يعدّه الإنسان صالحاً لحال نفسه، ويؤسّس دعوته الحقّة على اتّباع الحقّ والاهتداء به دون اتّباع الهوى والاقتداء بما يميل إليه الأكثريّة بعواطفهم وإحساساتهم الباطنة قال تعالى:( فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله الّتى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّـم ) الروم: ٣٠ وقال:( هو الّذى أرسل رسوله بالهدى ودين (١) الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون ) التوبه: ٣٣، وقال:( بل أتيناهم بالحقّ ) المؤمنون: ٩٠، وقال:( ولو اتّبع الحقّ أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهنّ ) المؤمنون: ٧١.

ومن لوازم ذلك أن يراعى حقّ الاعتقاد وفضيلة الخلق وصالح العمل جميعاً فلا غنى للمادّة عن المعنى ولا غنى للمعنى عن المادّة فمن الواجب رعاية جانب الفضائل الإنسانيّـة نفعت أو ضرّت والتجنّب عن الرذائل نفعت أو ضرّت لأنّ ذلك من اتّباع الحقّ، وحاشا أن يضرّ إلّا من انحرف عن ميزانه وتخطّى ما يخطّ له الحقّ.

ومن هنا ما نرى أنّ الله سبحانه ينقض عهد المشركين لنقضهم عهده ويستعمل الرحمة بإمهالهم أربعة أشهر، ويأمر بالاستقامة لمن استقام في عهده من المشركين وقد استذلّهم الحوادث يومئذ وضعفوا دون شوكة الإسلام وكذا يأمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن خاف من قوم خيانة أن ينقض عهدهم لكن يأمره بإعلامهم ذلك ويعلّله بأنّه لا يحبّ الخيانة.

____________________

(١) ظاهر الآية كون الاضافة حقيقة لا من اضافة الموصوف الي صفته.

١٩٨

( كلام في نسبة الأعمال إلى الأسباب طولا)

تقدّم في مواضع من هذا الكتاب أنّ الّذى تنتجه الأبحاث العقليّة أنّ الحوادث كما أنّ لها نسبة إلى أسبابها القريبة المتّصلة بها كذلك لها نسبة إلى أسبابها القصوى الّتى هي أسباب لهذه الأسباب فالحوادث أفعال لها في عين أنّها من أفعال أسبابها القريبة المباشرة للعمل فإنّ الفعل كالحركة مثلاً يتوقّف على فاعله المحرّك ويتوقّف على محرّك محرّكه بعين ما يتوقّف على محرّكه، نظير العجلة المحرّكة للاُخرى المحرّكة لثالثة وليست من الحركة بالعرض.

فللفعل نسبة إلى فاعله، وله انتساب إلى فاعل فاعله بعين هذه النسبة الّتى إلى فاعله لا بنسبة اُخرى منفصلة عنها مستقلّة بنفسها غير أنّه إذا انتسب إلى فاعل الفاعل عاد الفاعل القريب بمنزلة الآلة بالنسبة إلى فاعل الفاعل أي واسطة محضة لا استقلال لها في العمل بمعنى أنّه لا يستغنى في تأثيره عن فاعل الفاعل إذ فرض عدمه يساوق انعدام الفاعل وانعدام أثره.

وليس من شرط الواسطة أن تكون غير ذات شعور بفعلها أو غير مختارة فإنّ الشعور الّذى يؤثّر به الفاعل الشاعر في فعله لم يوجده هو لنفسه وإنّما أوجده فيه فاعله الّذى أوجد الفاعل وشعوره، وكذلك الاختيار لم يوجده الفاعل المختار لنفسه وإنّما أوجده الفاعل الّذى أوجد الفاعل المختار، وكما يتوقّف الفعل في غير موارد الشعور والاختيار إلى فاعله، ويتوقّف بعين هذا التوقّف إلى فاعل فاعله، كذلك يتوقّف الفعل الشعورىّ والفعل الاختياريّ إلى فاعله ويتوقّف بعين هذا التوقّف إلى فاعل فاعله الّذى اوجد لفاعله الشعور والاختيار.

ففاعل الفاعل الشاعر أو المختار أراد من الفاعل الشاعر أو المختار أن يفعل من طريق شعوره فعلاً كذا أو يفعل باختياره فعلاً اختياريّـاً كذا فقد اُريد الفعل من طريق الاختيار لأنّه اُريد الفعل واُهمل الاختيار الّذى ظهر به فاعله فافهم ذلك فلا تزلّ قدم بعد ثبوتها.

١٩٩

وعلى هذه الحقيقة يجرى الناس بحسب فهمهم الغريزىّ فينسبون الفعل إلى السبب البعيد كما ينسبونه إلى السبب القريب المباشر بما أنّه أثر مترشّح منه يقال: بنى فلان داراً، وحفر بئراً وإنّما باشر ذلك البنّاء والحفّار، ويقال: جلد الأمير فلاناً، وقتل فلاناً، وأسر فلاناً، وحارب قوماً كذا، وإنّما باشر الجلد جلّاده، والقتل سيّافه، والأسر جلاوزته، والمحاربة جنده، ويقال، أحرق فلان ثوب فلان، وإنّما أحرقه النار، وشفى فلان مريضاً كذا وإنّما شفاه الدواء الّذى ناوله وأمره بشربه واستعماله.

ففى جميع ذلك يعتبر أمر الأمر أو توسّل المتوسّل تأثيراً منه في الفاعل القريب ثمّ ينسب الفعل المنسوب إلى الفاعل القريب إلى الفاعل البعيد، وليس أصل النسبة إلّا نسبة حقيقة من غير مجاز قطعاً.

ومن قال من علماء الأدب وغيرهم أنّ ذلك كلّه من المجاز في الكلمة لصحّة سلب الفعل عن الفاعل البعيد فإنّ مالك البناء لم يضع لبنة على لبنة وإنّما هو شأن البنّاء الّذى باشر العمل ! إنّما أراد الفعل بخصوصيّـة صدوره عن الفعل المباشر ومن المسلّم أنّ المباشرة إنّما هو شأن الفاعل القريب، ولا كلام لنا فيه، وإنّما الكلام فيما يتصوّر له من الوجود المتوقّف إلى فاعل موجد، وهذا المعنى كما يقوم بالفاعل المباشر كذلك يقوم بعين هذا القيام بفاعل الفاعل.

واعتبار هذه النكتة هو الّذى أوجب لهم أن يميّزوا بين الأعمال وينسبوا بعضها إلى الفاعل القريب والبعيد معاً، ولا ينسبوا بعضها إلّا إلى الفاعل القريب المباشر للعمل فما كان منها يكشف بمفهومه عن خصوصيّـات المباشرة والاتّصال بالعمل كالأكل بمعنى الالتقام والبلع والشرب بمعنى المصّ والتجرّع والقعود بمعنى الجلوس ونحو ذلك لم ينسب إلّا إلى الفاعل المباشر فإذا أمر السيّد خادمه أن يأكل غذاء كذا ويشرب شراباً كذا ويقعد على كرسىّ كذا، قيل: أكل الخادم وشرب وقعد ولا يقال: أكله سيّده وشربه وقعد عليه، وإنّما يقال: تصرّف في كذا إذا استعمل كذا أو أنفق كذا ونحو ذلك لما ذكرناه.

وأمّا الأعمال الّتى لا تعتبر فيها خصوصيّـات المباشرة والحركات المادّيّة الّتى

٢٠٠