الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 94114
تحميل: 6035


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 94114 / تحميل: 6035
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 9

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

تقوم بالفاعل المباشر للحركة كالقتل والأسر والإحياء والإماتة والإعطاء والإحسان والإكرام ونظائر ذلك فإنّها تنسب إلى الفاعل القريب والبعيد على السويّـة بل ربّما كانت نسبتها إلى الفاعل البعيد أقوى منها إلى الفاعل القريب كما إذا كان الفاعل البعيد أقوى وجوداً وأشدّ سلطة وإحاطة.

فهذا ما ينتجه البحث العقليّ ويجرى عليه الإنسان بفهمه الغريزىّ، والقرآن الكريم يصدّق ذلك أوضح تصديق كقوله تعالى في الآيات السابقة:( قاتلوهم يعذّبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ) الآيتان. حيث نسب التعذيب الّذى تباشره أيدى المؤمنين إلى نفسه بجعل أيديهم بمنزلة الآلة.

ونظيره قوله تعالى:( والله خلقكم وما تعملون ) الصافّات: ٩٦ فإنّ المراد بما تعملون إمّا الأصنام الّتى كانوا يعملونها من الحجارة أو الأخشاب أو الفلزّات فإنّما اُريد به المادّة بما عليها من عمل الإنسان ففيه نسبة الخلق إلى الأعمال كنسبته إلى فواعلها، وأمّا نفس الأعمال فالأمرأوضح.

ويقرب من ذلك قوله تعالى:( وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ) الزخرف ١٢، ففيه نسبة الخلق إلى الفلك والفلك بما هي من عمل الإنسان.

هذا فيما نسب فيه الخلق إلى الأعمال الصادرة عن الشعور والإرادة، وأمّا الأفعال الّتى لا تتوقّف في صدورها على شعور وإرادة كالأفعال الطبيعيّـة فقد ورد نسبتها إلى الله سبحانه في آيات كثيرة جدّاً لا حاجة إلى إحصائها كإحياء الأرض وإنبات النبات وإخراج الحبّ وإمطار السماء وإجراء الأنهار وتسيير الفلك الّتى تجرى في البحر بأمره إلى غير ذلك.

ولا منافاة في جميع هذه الموارد بين انتساب الأمر إليه تعالى وانتسابه إلى غيره من الأسباب والعلل الطبيعيّـة وغيرها إذ ليست النسبة عرضيّة تزاحم إحدى النسبتين الاُخرى بل هي طوليّـة لا محذور في تعلّقها بأزيد من طرف واحد.

وقد تقدّم في مطاوى أبحاثنا السابقة دفع ما اشتبه على المادّيّـين من إسناد الحوادث العامّة كالسيول والزلازل والجدب والوباء والطاعون إلى الله سبحانه مع الحصول على

٢٠١

أسبابها الطبيعيّـة اليوم حيث خلطوا بين العلل والأسباب العرضيّـة والطوليّـة، وحسبوا أنّ استنادها إلى عللها الطبيعيّـة يبطل ما أثبته الكتاب العزيز وأذعن به الإلهيّـون من استنادها إلى مسبّب الأسباب الّذى إليه يرجع الأمر كلّه.

وللأشاعرة والمعتزلة بحث غريب في الآية السابقة:( قاتلوهم يعذّبهم الله بأيديكم ) وما يناظرها من الآيات، أورده الرازيّ في تفسيره نورده ملخّصاً.

قال: استدلّت الأشاعرة بقوله تعالى:( قاتلوهم يعذّبهم الله بأيديكم ) الآية على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله، وأنّ الناس مجبرون في أفعالهم غير مختارين فإنّ الله سبحانه يخبر فيها أنّه هو الّذى يعذّب المشركين بقتل بعضهم وجرح آخرين بأيدى المؤمنين ويدلّ ذلك على أنّ أيدى المؤمنين كسيوفهم ورماحهم آلات محضة لا تأثير لها أصلاً وإنّما الفعل لله سبحانه، وأنّ الكسب الّذى يعدّ مناطاً للتكليف اسم لا مسمّى له.

وهذه الآية أقوى دلالة على المطلوب من دلالة مثل قوله تعالى:( وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى ) إذ فيه إثبات الرمى على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وإن كان مع ذلك نفى عنه - وإثبات لإسناده إلى الله سبحانه لكنّ الآية أعنى قوله:( قاتلوهم يعذّبهم الله بأيديكم ) إثبات للتعذيب على الله سبحانه وجعل أيدى المؤمنين الّتى لهم آلات في الفعل لا تأثير لها وفيها أصلاً.

وأجاب عنه الجبّائىّ من المعتزلة: بأنّه لو جاز أن يقال: إنّ الله يعذّب الكافرين بأيدى المؤمنين بحقيقة ما ادّعى له من المعنى لجاز أن يقال: إنّه يعذّب المؤمنين بأيدى الكافرين، وإنّه تعالى يكذّب أنبياءه بألسنتهم، ويلعن المؤمنين ويسبّهم بأفواههم لأنّه تعالى خالق لذلك كلّه، وإذ لم يجز ذلك علمنا أنّه تعالى لم يخلق أعمال العباد، وإنّما أعمالهم خلق أنفسهم.

وبذلك يعلم أنّ إسناد التعذيب في الآية إليه تعالى بنوع من التوسّع لأنّه إنّما تحقّق عن أمره ولطفه كما أنّه تعالى ينسب جميع الطاعات والحسنات إلى نفسه لتحقّقها عن أمره وتوفيقه.

وأجاب عنه الرازيّ بأنّ أصحابنا يلتزمون جميع ما ألزم به الجبّائىّ وأصحابه

٢٠٢

من لزوم إسناد القبائح إليه تعالى ويعتقدون به لبّاً وإن كانوا لا ينطقون به لساناً أدباً مع الله سبحانه، انتهى ملخّصاً.

والأبحاث الّتى قدّمناها في هذا الكتاب حول هذه المعاني تكفى لإيضاح الحقّ وإنارته في هذا المقام، والكشف عمّا وقع فيه الفريقان جميعاً.

أمّا ما ذكرته الأشاعرة والتزموا به فإنّما أوقعهم في ذلك ما ذهبوا إليه من نفى رابطة العلّيّة والمعلوليّة من بين الأشياء وقصرها فيما بينه تعالى وبين خلقه عامة فلا سبب في الوجود لا استقلالاً ولا بالوساطة غيره تعالى، وأمّا رابطة السببيّـة الّتى بين الأشياء أنفسها فإنّما هي سببيّـة بالاسم فقط لا بالحقيقة، وإنّما هي العادة الإلهيّـة جرت بإيجاد ما نسمّيها مسبّبات عقيب ما نسمّيها أسباباً فما بينها وبينه تعالى سببيّـة حقيقيّـة، وما بينها أنفسها يعود إلى الاتّفاق الدائم أو الأكثرىّ.

ولازم ذلك إبطال العلّيّة والسببيّـة من أصلها، و ببطلانها يبطل ما أثبتوه من انحصار السببيّـة فيه تعالى إذ لو جاز أن يكون نسبة كلّ شئ إلى كلّ شئ نسبة واحدة من غير اختلاف بالتأثير والتأثّر لم يبق للإنسان ما يتنبّه به لأصل معنى السببيّـة فلا سبيل له إلى إثبات سببيّـته تعالى لكلّ شئ.

على أن الإنسان يترقّب حوادث من حوادث اُخرى، ويقطع بالنتائج عن مقدّماتها ويبنى حياته على التعليم والتربية، وعلى تقديم الأسباب طمعاً في مسبّـباتها سواء اعترف بالصانع أو لم يعترف، ولا يتمّ له شئ من ذلك إلّا عن إذعان فطريّ بأصل العلّيّة والمعلوليّة، ولو أجازت الفطرة الإنسانيّـة بطلان ذلك وجريان الحوادث على مجرّد الاتّفاق اختلّ نظام حياته ببطلان سعيه الفكريّ والعمليّ، وانسدّ طريق إثبات سببٍ ما فوق طبيعة الحوادث.

على أنّ الكتاب العزيز يجري في بياناته على تصديق أصل العلّيّة والمعلوليّة، وينسب كلّ حسنة إليه تعالى وينفي استناد السيّـآت والمعاصي إليه ويسمّيه بكلّ اسم أحسن ويصفه بكلّ وصف جميل، وينفي عنه كلّ هزل وعبث ولغو ولهو وجزاف، ولا يتمّ

٢٠٣

شئ من ذلك إلّا على أصل العلّيّة والمعلوليّة، وقد تقدّم في الأبحاث السابقة ما يتبيّن به ذلك كلّه.

وقد ذهب طائفة من المادّيّين وخاصّـة أصحاب المادّيّة المتحوّلة إلى عين ما ذهب إليه الأشاعرة من ثبوت الجبر ونفي الاختيار عن الأفعال الإنسانيّـة، وإنّما الفارق بين قولى الطائفتين هو أنّ الأشاعرة بنوا ذلك على سببيّـة الواجب تعالى المنحصرة واستنتجوا من ذلك بطلان السببيّـة الاختياريّة وانتفاءها عن الإنسان، والمادّيّون بنوه على معلوليّة الأفعال الإنسانيّـة لمجموع الحوادث الحتفّة بالفعل الّتى هي علّة حدوثه، ولا معنى للعلّيّة إلّا بالإيجاب، فالإنسان موجب في فعله مجبر عليه.

وقد فات منهم أنّ الّذي نسبة المعلول إليه بالإيجاب إنّما هو العلّة التامّة، وهى مجموع الحوادث المتقدّمة على المعلول الّتى لا يتوقّف هو في وجوده على شئ وراءها، وبوجودها جميعاً لا يبقى له إلّا أن يوجد، وأمّا بعض أجزاء العلّة التامّة فإنّما نسبة المعلول إليه بالإمكان لا بالوجوب لتوقّف وجوده على أشياء اُخر وراءه فلا يتحقّق بوجود الجزء المفروض جميع ما يتوقّف عليه وجوده حتّى يعود واجباً وجوده.

والأفعال الإنسانيّـة يتوقّف في وجودها على الإنسان وإرادته وعلى اُمور غير محصورة اُخرى من المادّة والشرائط الزمانيّة والمكانيّة فهى إذا نسبت إليها جميعاً كانت النسبة الحأصلة نسبة الوجوب والضرورة، وأمّا إذا نسبت إلى الإنسان وحده أو إلى الإنسإن المريد فقد نسبت إلى جزء العلّة التامّة وعادت النسبة إلى الإمكان دون الوجوب، فالأفعال الإرادية الإنسانيّـة اختياريّة أي إنّه يمكنه أن يفعل وأن لا يفعل فإن فعل فبمشيّـته وإرادته، وإن لم يفعل فلم يختره ولم يرده وإنّما اختار وأراد شيئاً آخر، لكنّها لا تقع في الخارج إلّا واجبة لاستنادها حينئذ إلى جميع أجزاء عللها.

فهؤلاء خلطوا في كلامهم بين النسبتين فوضعوا النسبة الوجوبيّـة الّتى للفعل إلى مجموع أجزاء علّتها التامّه موضع النسبة الإمكانيّة الّتى للفعل إلى بعض أجزاء علّته التامّة وهى الّتى تسمّى في الإنسان بالاختيار على نحو من العناية.

وأمّا ما ذكره المعتزلة أنّه لو جاز كونه تعالى هو الفاعل للفعل الّذى أتى به المؤمنون

٢٠٤

وهو التعذيب، وليس لهم إلّا مقام الآليّة المحضة من غير تأثير لجاز إسناد تعذيب الكفّـار للمؤمنين وتكذيبهم للأنبياء ولعنهم المؤمنين أيضاً إليه، وهو باطل قطعاً فأفعال العباد مخلوقة لهم لا صنع لله تعالى فيها.

ففيه أنّ لملازمة حقّة لكن بطلان التالى لا يستلزم كون الأفعال مخلوقة لهم لا نسبة لها إلى الله سبحانه أصلاً لجواز كونها منسوبة إليه تعالى بعين ما ينتسب به إليهم فإنّهم فاعلون لها وهو فاعل الفاعلين فينتسب إليهم بالصدور عن الفاعل المباشر، و ينتسب إليه بالصدور عن الفاعل الّذى هو فاعله والنسبتان في الحقيقة نسبة واحدة مختلفة بالقرب والبعد وانتفاء الواسطة وثبوتها، ولا يستلزم ذلك اجتماع فاعلين مستقلّين على فعل واحد لكونهما طوليّـين لا عرضيّـين.

فان قلت: فيبقى محذور استناد الحسنات والسيّآت والإيمان والكفر إليه تعالى في محلّه.

قلت: كلّا وإنّما ينتسب إليه أصل وجودها، وأمّا عنوان الفعل الّذى يشير إلى جهة قيام الحركة والسكون بالموضوع المتحرّك كالنكاح والزنا والأكل المحرّم والمحلّل فإنّما ينسب إلى الإنسان لكونه هو الموضوع المادّىّ الّذى يتحرّك بهذه الحركات: وأمّا الّذى يوجد هذا المتحرّك الّذى من جملة آثاره حركته وليس بنفسه متحرّكاً بها وإنّما يوجدها إيجاداً إذا تمّت شرائطها وأسبابها فلا يتّصف بأنواع هذه الحركات حتّى يتّصف بفعل النكاح أو الزنا أو أيّ فعل قائم بالإنسان.

نعم هناك عناوين عامّة لا تستتبع معنى الحركة والمادّة، لا مانع من إسنادها إلى الإنسان وإليه سبحانه إذا لم يستلزم محذوراً كالهداية والإضلال إذا لم يكن إضلالاً ابتدائيّـاً، وكالتعذيب والابتلاء، فقتل المؤمن للكافر تعذيب إلهىّ للكافر، وقتل الكافر للمؤمن بلاء حسن للمؤمن يستوجب به أجراً حسناً عند الله، وعلى هذا القياس.

على أنّ الّذى ذهب إليه المعتزلة يوقعهم فيما وقعت فيه الأشاعرة وهو انسداد طريق إثبات الصانع عليهم فإنّه لو جاز أن يوجد في العالم حادث من الحوادث عن سبب له وينقطع عمّا وراء سببه ذلك انقطاعاً تامّاً لا تأثير له فيه جاز في كلّ ما فرض من الحوادث

٢٠٥

أن يستند إلى ما يليه من غير أن يرتبط بشئ آخر وراءه، ومن الجائز أن يفنى الفاعل ويبقى أثره فمن الجائز أن يستند كلّ ما فرض معلولاً إلى فاعل له غير واجب الوجود ومن الجائز أن يستند كلّ عالم مفروض إلى عالم قبله هو فاعله وقد فنى قبله على ما هو المشهود من حوادث هذا العالم المولّد بعضها بعضاً: والمتولّد بعضها من بعض، ولا يلزم محذور التسلسل لعدم تحقّق سلسلة ذات أجزاء في وقت من الأوقات إلّا في الذهن.

وفي كلامهم مفاسد كثيرة اُخرى مبيّـنة في المحل المربوط به، وقد تقدّم في الكلام على نسبة الخلق إليه تعالى في الجزء السابع من الكتاب ما ينفع في هذا المقام.

وكيف يسع لمسلم موحّد أن يثبت مع الله سبحانه خالقاً آخر بحقيقة معنى الخلق والإيجاد وقد قال الله سبحانه:( ذلكم الله ربّكم خالق كلّ شئ لا إله إلّا هو ) المؤمن: ٦٢ وقد كرّر ذلك في كلامه، وليس في تجاهة إلّا نسبة أفعال الإنسان إليه من غير قطع رابطتها إليه تعالى بل مع إثبات النسبة بدليل آيات القدر ودلالة العقل على أنّ لفعل الفاعل نسبة إلى فاعل فاعله بحسب ما يليق بساحته.

فالحقّ أنّ للأفعال الإنسانيّـة نسبة إلى فواعلها بالمباشرة، ونسبة إليه تعالى بما يليق بساحة قدسه، قال تعالى:( كلّاً نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربّك وما كان عطاء ربّك محظوراً ) أسرى: ٢٠.

٢٠٦

( سورة التوبة آيه ١٧ - ٢٤)

مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللّهِ شَاهِدِينَ عَلَى‏ أَنْفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النّارِ هُمْ خَالِدُونَ ( ١٧ ) إِنّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصّلاَةَ وَآتَى الزّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلّا اللّهَ فَعَسَى‏ أُولئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ( ١٨ ) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَيَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَيَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ ( ١٩ ) الّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدَوا فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ٢٠ ) يُبَشّرُهُمْ رَبّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ( ٢١ ) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( ٢٢ ) يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَتَتّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلّهُم مِنكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ( ٢٣ ) قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبّ إِلَيْكُم مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبّصُوا حَتّى‏ يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَيَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( ٢٤ )

( بيان)

آيات تبيّن أنّ الأعمال إنّما تكون حيّة مرضيّة إذا صدرت عن حقيقة الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر وإلّا فإنّما هي حبط لا تهدى صاحبها إلى سعادة، وأنّ من لوازم

٢٠٧

الإيمان بحقيقته قصر الولاية والحبّ والوداد في الله ورسوله.

وهى ظاهرة الاتّصال والارتباط فيما بينها أنفسها، وأمّا اتّصالها بما تقدّمها من الآيات فليس بذاك الوضوح، وما ذكره بعض المفسّرين في وجه اتّصالها بما قبلها لا يخلو من تكلّف.

قوله تعالى: ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ) العمارة ضدّ الخراب يقال: عمر الأرض إذا بنى بها بناء، وعمر البيت إذا أصلح ما أشرف منها على الفساد، والتعمير بمعناه ومنه العمر لأنّه عمارة البدن بالروح، والعمرة بمعنى زيارة البيت الحرام لأنّ فيها تعميره.

والمسجد اسم مكان بمعنى المحل الّذى يتعلّق به السجدة كالبيت الّذى يبنى ليسجد فيه الله تعالى، وأعضاء السجدة الّتى تتعلّق بها السجدة نوع تعلّق وهى الجبهة والكفّان والركبتان و رؤوس إبهامى القدمين.

وقوله:( ما كان للمشركين ) الآية لنفى الحقّ والملك فإنّ اللام للملك والحقّ، والنفى الحالىّ للكون السابق يفيد أنّه لم يتحقّق منهم سبب سابق يوجب لهم أن يملكوا هذا الحقّ وهو حقّ أن يعمروا مساجد الله ويرمّوا ما استرمّ منها أو يزوروها كقوله تعالى:( ما كان لنبىّ أن يكون له أسرى ) الأنفال: ٦٧ وقوله:( وما كان لنبىّ أن يغلّ ) آل عمران: ١٦١.

والمراد بالعمارة في قوله:( أن يعمروا ) إصلاح ما أشرف على الخراب من البناء ورم ما استرّم منه دون عمارة المسجد بالزيارة فإنّ المراد بمساجد الله هي المسجد الحرام وكلّ مسجد لله ولا عمرة في غير المسجد الحرام، والدخول في المساجد للعبادة فيها وإن أمكن أن يسمّى عمارة وزيارة لكنّ التعبير المعهود من القرآن فيه الدخول.

على أنّ في قوله في الآية الآتية:( أجعلتم سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام ) تأييداً مّا لكون المراد بالعمارة هو إصلاح البناء دون زيارة البيت الحرام.

والمراد بمساجد الله بيوت العبادة المبنيّـة لله لكنّ السياق يدلّ على أنّ المراد نفى جواز عمارتهم للمسجد الحرام، ويؤيّده قراءة من قرأ( أن يعمروا مسجد الله ) بالإفراد.

٢٠٨

ولا ضير في التعبير بالجمع والمقصود الأصيل بيان حكم فرد خاصّ من أفراده لأنّ الملاك عامّ، والتعليل الوارد في الآية غير مقيّد بخصوص المسجد الحرام فالكلام في معنى: ما كان لهم أن يعمروا المسجد الحرام لأنّه مسجد و المساجد من شأنها ذلك.

وقوله:( شاهدين على أنفسهم بالكفر ) المراد بالشهادة أداؤها وهو الاعتراف إمّا قولاً كمن يعترف بالكفر لفظاً، وإمّا فعلاً كمن يعبد الأصنام ويتظاهر بكفره فكلّ ذلك من الشهادة والملاك واحد.

فمعنى الآية: لا يحقّ ولا يجوز للمشركين أن يرموّا ما استرمّ من المسجد الحرام كسائر مساجد الله والحال أنّهم معترفون بالكفر بدلالة قولهم أو فعلهم.

قوله تعالى: ( اُولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون ) في مقام التعليل لما اُفيد من الحكم في قوله:( ما كان ) الخ ولذلك جئ به بالفصل دون الوصل.

والمراد بالجملة الاُولى بيان بطلان الأثر وارتفاعه عن أعمالهم، والعمل إنّما يؤتى به للتوسّل به إلى أثر مطلوب، وإذ كانت أعمالهم حابطة لا أثر لها لم يكن ما يجوّز لهم الإتيان بها، والأعمال العباديّـة كعمارة مساجد الله إنّما تقصد لما يطمع فيه و يرجى من أثرها وهو السعادة والجنّـة، والعمل الحابط لا يتعقّب سعادة ولا جنّـة البتّـة.

والمراد بالجملة الثانية بيان ظرفهم الّذى يستقرّون فيه لولا السعادة و الجنّـة وهو النار فكأنّه قيل: اُولئك لا يهديهم أعمالهم العباديّـة إلى الجنّـة بل هم في النار الخالدة، ولا تفيد لهم سعادة بل هم في الشقاوة المؤبّدة.

وفي الآية دلالة على أصلين لطيفين من اُصول التشريع:

أحدهما: أنّ تشريع الجواز بالمعنى الأعمّ الشامل للواجبات والمستحبّات والمباحات يتوقّف على أثر في الفعل ينتفع به فاعله فلا لغو مشروعاً في الدين، وهذا أصل يؤيّده العقل، وهو منطبق على الناموس الجارى في الكون: أن لا فعل إلّا لنفع عائد إلى فاعله.

و ثانيهما: أنّ الجواز في جميع موارده مسبوق بحقّ مجعول من الله لفاعله في أن يأتي بالفعل من غير مانع.

٢٠٩

قوله تعالى: (إنّما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر) الآية السياق كاشف عن أنّ الحصر من قبيل قصر الإفراد كأنّ متوهّماً يتوهّم أنّ للمشركين والمؤمنين جميعاً أن يعمروا مساجد الله فاُفرد وقصر ذلك في المؤمنين، ولازم ذلك أن يكون المراد بقوله:( يعمر ) إنشاء الحقّ والجواز في صورة الإخبار دون الإخبار، وهو ظاهر.

وقد اشترط سبحانه في ثبوت حقّ العمارة وجوازها أن يتّصف العامر بالإيمان بالله واليوم الآخر قبال ما نفى عن المشركين أن يكون لهم ذلك ولم يقنع بالإيمان بالله وحده لأنّ لمشركين يذعنون به تعالى بل شفّع ذلك بالإيمان باليوم الآخر لأنّ لمشركين ما كانوا مؤمنين به، وبذلك يختصّ حقّ العمارة وجوازها بأهل الدين السماويّ من المؤمنين.

ولم يقنع بذلك أيضاً بل ألحقّ به قوله:( وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلّا الله ) لأنّ المقام مقام بيان من ينتفع بعمله فيحقّ له بذلك أن يقترفه، ومن كان تاركاً للفروع المشروعة في الدين وخاصّـة الركنين: الصلاة والزكاة فهو كافر بآيات الله لا ينفعه مجرّد الإيمان بالله واليوم الآخر وإن كان مسلماً، إذا لم ينكرها بلسانه، ولو أنكرها بلسانه أيضاً كان كافراً غير مسلم.

وقد خصّ من بينها الصلاة والزكاة بالذكر لكونهما الركنين الّذين لا غنى عنهما في حال من الأحوال.

وبما ذكرنا من اقتضاء المقام يظهر أنّ المراد بقوله:( ولم يخش إلّا الله ) الخشية الدينيّـة وهى العبادة دون الخشية الغريزيّـة الّتى لا يسلم منها إلّا المقربون من أولياء الله كالأنبياء قال تعال:( الّذين يبلّغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلّا الله ) الأحزاب: ٣٩.

والوجه في التكنية عن العبادة بالخشية أنّ الأعرف عند الإنسان من علل اتّخاذ الإله للعبادة الخوف من سخطه أو الرجاء لرحمته، ورجاء الرحمة أيضاً يعود بوجه إلى الخوف من انقطاعها وهو السخط فمن عبدالله سبحانه أو عبد شيئاً من الأصنام فقد دعاه إلى ذلك إمّا الخوف من شمول سخطه أو الخوف من انقطاع نعمته ورحمته فالعبادة ممثّله

٢١٠

للخوف والخشية مصداق لها لتمثيلها إيّـاها، وبينهما حالة الاستلزام، ولذلك كنّى بها عنها، فالمعنى - والله أعلم - ولم يعبد أحداً من دون الله من الآلهة.

وقوله:( فعسى اُولئك أن يكونوا من المهتدين ) أي اُولئك الّذين آمنوا بالله واليوم الآخر ولم يعبدوا أحداً غير الله سبحانه يرجى في حقّهم أن يكونوا من المهتدين، وهذا الرجاء قائم بأنفسهم أو بأنفس المخاطبين بالآية، وأمّا هو تعالى فمن المستحيل أن يقوم به الرجاء الّذى لا يتمّ إلّا مع الجهل بتحقّق الأمر المرجوّ الحصول.

وإنّما اُخذ الاهتداء مرجوّ الحصول لا محقّق الوقوع مع أنّ من آمن بالله واليوم الآخر حقيقةً وحقّقه أعماله العباديّـة فقد اهتدى حقيقةً لأنّ حصول الاهتداء مرّة أو مرّات لا يستوجب كون العامل من المهتدين، واستقرار صفة الاهتداء ولزومها له، فالتلبّس بالفعل الواقع مرّة أو مرّات غير التلبّس بالصفة اللازمة فاُولئك حصول الاهتداء لهم محقّق، وأمّا حصول صفة المهتدين فهو مرجوّ التحقّق لا محقّق.

وقد تحصّل من الآية أنّ عمارة المساجد لا تحقّ ولا تجوز لغير المسلم أمّا المشركون فلعدم إيمانهم بالله واليوم الآخر، وأمّا أهل الكتاب فلأنّ القرآن لا يعدّ إيمانهم بالله إيماناً قال تعالى:( إنّ الّذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتّخذوا بين ذلك سبيلاً اُولئك هم الكافرون حقّاً ) النساء: ١٥١، وقال أيضاً في آية ٢٩ من السورة:( قاتلوا الّذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الّذين اُوتوا الكتاب ) الآية.

قوله تعالى: ( أجعلتم سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله ) الآية، السقاية كالحكاية والجناية والنكاية مصدر يقال: سقى يسقى سقاية.

والسقاية أيضاً الموضع الّذى يسقى فيه الماء، والإناء الّذى يسقى به قال تعالى:( جعل السقاية في رحل أخيه ) يوسف: ٧٠، وقد رووا في الآثار أنّ سقاية الحاجّ كانت إحدى الشؤونات الفاخرة والمآثر الّتى يباهى بها في الجاهليّـة، وأنّ السقاية كانت حياضاً من أدم على عهد قصّى بن كلاب أحد أجداد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توضع بفناء الكعبة، ويستقى فيها

٢١١

الماء العذب من الآبار على الإبل، ويسقى الحاجّ فجعل قصّى أمر السقاية عند وفاته لابنه عبد مناف ولم يزل في ولده حتّى ورثه العبّـاس بن عبدالمطّلب.

وسقاية العبّـاس هو الموضع الّذى كان يسقى فيه الماء في الجاهليّـة والإسلام وهو في جهة الجنوب من زمزم بينهما أربعون ذراعاً، وقد بنى عليه بناء هو المعروف اليوم بسقاية العبّـاس.

والمراد بالسقاية في الآية - على أيّ حال - معناها المصدرىّ وهو السقى، ويؤيّده مقابلتها في الآية عمارة المسجد الحرام والمراد بها المعنى المصدرىّ قطعاً بمعنى الشغل.

وقد قوبل في الآية سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام بمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، ولا معنى لدعوى المساواة بين الإنسان وبين عمل من الأعمال كالسقاية والعمارة أو نفيها فالمعادلة والمساواة إمّا بين عمل وعمل أو بين إنسان ذى عمل وإنسان ذى عمل.

ولذلك اضطرّ المفسّرون إلى القول بأنّ تقدير الكلام: أجعلتم أهل سقاية الحاجّ وأهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر حتّى يستقيم السياق.

وأوجب منه النظر في قيود الكلام المأخوذة في الآية الكريمة فقد اُخذ في أحد الجانبين سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام وحدهما من غير أيّ قيد زائد، وفي الجانب الآخر الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله وإن شئت فقل: الجهاد في سبيل الله مع اعتبار الإيمان معه.

وهو يدلّ على أنّ المراد السقاية والعمارة خاليتين من الإيمان، ويؤيّده قوله تعالى في ذيل الآية:( والله لا يهدى القوم الظالمين ) على تقدير كونه تعريضاً لأهل السقاية والعمارة لا تعريضاً لمن يسوّى بينهما كما يتبادر من السياق.

وهذا يكشف أوّلاً عن أنّ هؤلاء الّذين كانوا يسوّون بين كذا وكذا وبين كذا إنّما كانوا يسوّون بين عمل جاهليّ خال عن الإيمان بالله واليوم الآخر كالسقاية والعمارة من غير أن يكون عن إيمان، وبين عمل دينىّ عن إيمان بالله واليوم الآخر كالجهاد في سبيل الله عن إيمان، أي كانوا يسوّون بين جسد عمل لا حياة فيه وبين عمل حىّ طيّـب

٢١٢

نفعه فأنكره الله عليهم.

وثانياً: أنّ هؤلاء المسوّين كانوا من المؤمنين يسوّون بين عمل من غير إيمان، كان صدر عنهم قبل الإيمان أو صدر عن مشرك غيرهم، وبين عمل صدر عن مؤمن بالله عن محض الإيمان حال إيمانه كما يشهد به سياق الإنكار وبيان الدرجات في الآيات.

بل يشعر بل يدلّ ذكر نفس السقاية والعمارة من غير ذكر صاحبهما على أنّ صاحبيهما كانا من أهل الإيمان عند التسوية فلم يذكرا حفظاً لكرامتهما وهما مؤمنان حين الخطاب ووقاية لهما بالنظر إلى التعريض الظاهر الّذى في آخر الآية من أن يسميّا ظالمين.

بل يدلّ قوله تعالى في الآية التالية في مقام بيان أجر هؤلاء المجاهدين في سبيل الله عن إيمان:( الّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله ) على أنّ طرفي التسوية في قوله:( أجعلتم سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام كمن آمن ) الآية كانا من أهل مكّة، وأنّ أهل أحد الطرفين وهو الّذى آمن وجاهد كان ممّن أسلم وهاجر، وأهل الطرف الآخر أسلم ولم يهاجر فإنّ هذا هو الوجه في ذكره تعالى أوّلاً الإيمان والجهاد في الطرفين ثمّ إضافة الهجرة إلى ذلك عند ما اُعيد ثانياً، وقد ذكر تعالى السقاية والعمارة في الجانب الآخر ولم يزد على ذلك شيئاً لا أوّلاً ولا ثانياً فما هذه القيود بلاغية في قوله الفصل.

وهذا كلّه يؤيّد ما ورد في سبب نزول الآية أنّ الآيات نزلت في العبّـاس وشيبة وعلىّعليه‌السلام حين تفاخروا فذكر العبّـاس سقاية الحاجّ، وشيبة عمارة المسجد الحرام، وعلى الإيمان والجهاد في سبيل الله فنزلت الآيات وسيجئ الرواية في البحث الروائيّ المتعلّق بالآيات.

وكيف كان فالآية وما يتلوها من الآيات تبيّن أنّ الزنة والقيمة إنّما هو للعمل إذا كان حيّاً بولوج روح الإيمان فيه وأمّا الجسد الخالى الّذى لا روح فيه ولا حياة له فلا وزن له في ميزان الدين ولا قيمة له في سوق الحقائق فليس للمؤمنين أن يعتبروا مجرّد هياكل

٢١٣

الأعمال، ويجعلوها ملاكات للفضل وأسباباً للقرب منه تعالى إلّا بعد اعتبار حياتها بالإيمان والخلوص.

ومن هذه الجهة ترتبط الآية:( أجعلتم سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام ) وما بعدها من الآيات بالآيتين اللّتين قبلها:( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ) إلى آخر الآيتين.

وبذلك كلّه يظهر أوّلاً أنّ قوله:( والله لا يهدى القوم الظالمين ) جملة حاليّـة تبيّن وجه الإنكار لحكمهم بالمساواة في قوله:( أجعلتم سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام كمن آمن ) الآية.

وثانياً: أنّ المراد بالظلم هو ما كانوا عليه من الشرك في حال السقاية والعمارة لا حكمهم بالمساواة بين السقاية والعمارة وبين الجهاد عن إيمان.

وثالثاً: أنّ المراد نفى أن ينفعهم العمل ويهديهم إلى السعادة الّتى هي عظم الدرجة والفوز والرحمة والرضوان والجنّـة الخالدة.

قوله تعالى: ( الّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ) إلى آخر الآية بيان لحقّ الحكم الّذى عند الله في المسألة بعد إنكار المساواة، وهو أنّ الّذى آمن وهاجر وجاهد في سبيل الله ما استطاع ببذل ما عنده من مال ونفس، أعظم درجة عند الله وإنّما عبّر في صورة الجمع - الّذين آمنوا الخ - إشارة إلى أنّ ملاك الفضل هو الوصف دون الشخص.

وما تقدّم من دلالة الكلام على أنّ الأعمال من غير إيمان بالله لا فضل لها ولا درجة لصاحبها عند الله، قرينة على أن ليس المراد بالقياس الّذى يدلّ عليه أفعل التفضيل في قوله:( اُولئك أعظم درجة ) الخ هو أنّ بين الفريقين اشتراكاً في الدرجات غير أنّ درجة من جاهد عن إيمان أعظم ممّن سقى وعمر.

بل المراد بيان أنّ النسبة بينهما نسبة الأفضل إلى من لا فضل له كالمقايسة المأخوذة بين الأكثر والأقلّ فإنّها تستدعى وجود حدّ متوسّط بينهما يقاسان إليه فهناك ثلاثة اُمور أمر متوسّط يؤخذ مقياساً معدّلاً وآخر يكون أكثر منه، وآخر يكون أقلّ منه فإذا قيس الأكثر من الأقلّ كان الأكثر مقيساً إلى ما لا كثرة فيه أصلاً.

٢١٤

فقوله:( اُولئك أعظم درجة عند الله ) أي بالقياس إلى هؤلاء الّذين لا درجة لهم أصلاً، وهذا نوع من الكناية عن أن لا نسبة حقيقة بين الفريقين لأنّ أحدهما ذو قدم رفيع فيما لا قدم للآخر فيه أصلاً.

ويدلّ على ذلك أيضاً قوله:( واُولئك هم الفائزون ) بما يدلّ على انحصار الفوز فيهم وثبوتها لهم على نهج الاستقرار.

قوله تعالى: ( يبشّرهم ربّهم برحمة منه ورضوان وجنّات ) إلى آخر الآيتين ظاهر السياق أنّ ما يعدّه من الفضل في حقّهم بيان وتفصيل لما ذكر في الآية السابقة من فوزهم جئ به بلسان التبشير.

فالمعنى( يبشّرهم ) أي هؤلاء المؤمنين( ربّهم برحمة منه ) عظيمة لا يقدّر قدرها( ورضوان ) كذلك( وجنّات لهم فيها ) في تلك الجنّات( نعيم مقيم ) لا يزول ولا ينفد حالكونهم( خالدين فيها أبداً ) لا ينقطع خلودهم بأجل ولا أمد.

ثمّ لمّا كان لمقام مقام التعجّب والاستبعاد لكونها بشارة بأمر عظيم لم يعهد في ما نشاهده من أنواع النعيم الّذى في الدنيا، رفع الاستبعاد بقوله:( إنّ الله عنده أجر عظيم ) .

و سيوافيك الكلام في توضيح معنى رحمته تعالى ورضوانه فيما سيمرّ من موضع مناسب وقد تقدّم بعض الكلام فيهما.

قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء ) إلى آخر الآية نهى عن تولّى الكفّـار ولو كانوا آباءً وإخواناً فإنّ الملاك عامّ، والآية التالية تنهى عن تولّى الجميع غير أنّ ظاهر لفظ الآية النهى عن اتّخاذ الآباء والإخوان أولياء إن استحبّوا الكفر ورجّحوه على الإيمان.

وإنّما ذكر الآباء والإخوان دون الأبناء والأزواج مع كون القبيلين وخاصّـة الأبناء محبوبين عندهم كالآباء والإخوان لأنّ التولّى يعطى للولىّ أن يداخل اُمور وليّه ويتصرّف في بعض شؤون حياته، وهذا هو المحذور الّذى يستدعى النهى عن تولّى الكفّـار حتّى لا يداخلوا في اُمورهم الداخليّـة ولا يأخذوا بمجامع قلوبهم، ولا يكفّ المؤمنون

٢١٥

ولا يستنكفوا عن الإقدام فيما يسوؤهم ويضرّهم، ومن المعلوم أنّ النساء والذراري لا يترقّب منهم هذا الأثر السيّئ إلّا بواسطة، فلذلك خصّ النهى عن التولّى بالآباء والإخوان فهم الّذين يخاف نفوذهم في قلوب المؤمنين وتصرّفهم في شؤونهم.

وقد ورد النهى عن اتّخاذ الكفّـار أولياء في مواضع من كلامه تقدّم بعضها في سورة المائدة وآل عمران والنساء والأعراف وفيها إنذار شديد وتهديدات بالغة كقوله تعالى:( ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم ) المائدة: ٥١، وقوله:( ويحذّركم الله نفسه ) آل عمران: ٢٨، وقوله:( ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ ) آل عمران: ٢٨، وقوله:( أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً ) النساء: ١٤٤.

وأنذرهم في الآية الّتى نحن فيها بقوله:( ومن يتولّهم منكم فاُولئك هم الظالمون ) ولم يقل:( ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم ) إذ من الجائز أن يتوهّم بعض هؤلاء أنّه منهم لأنّهم آباؤه وإخوانه فلا يؤثّر فيه التهديد أثراً جديداً يبعثه نحو رفض الولاية.

وكيف كان فقوله:( ومن يتولّهم منكم فاُولئك هم الظالمون ) بما في الجملة من المؤكّدات كإسميّـة الجملة، ودخول اللّام على الخبر وضمير الفصل يفيد تحقّق الظلم منهم واستقراره فيهم، وقد كرّر الله في كلامه أنّ الله لا يهدى القوم الظالمين، وقال في نظير الآية من سورة المائدة:( ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم إنّ الله لا يهدى القوم الظالمين ) فهؤلاء محرومون من الهداية الإلهيّـة لا ينفعهم شئ من أعمالهم الحسنة في جلب السعادة إليهم، والسماحة بالفوز والفلاح عليهم.

قوله تعالى: ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم ) إلى آخر الآية التفت من مخاطبتهم إلى مخاطبة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيماءً إلى الإعراض عنهم لما يستشعر من حالهم أنّ قلوبهم مائلة إلى الاشتغال بما لا ينفع معه النهى عن تولّى آبائهم وإخوانهم الكافرين، وإيجاد الداعي في نفوسهم إلى الصدور عن أمر الله ورسوله، وقتال الكافرين جهاداً في سبيل الله وإن كانوا آباءهم وإخوانهم.

والّذى يمنعهم من ذلك هو الحبّ المتعلّق بغير الله ورسوله والجهاد في سبيل الله، وقد عدّ الله سبحانه اُصول ما يتعلّق به الحبّ النفسانيّ من زينة الحياة الدنيا، وهى الآباء

٢١٦

والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة - وهؤلاء هم الّذين يجمعهم المجتمع الطبيعيّ بقرابة نسبيّـة قريبة أو بعيدة أو سببيّـة - والأموال الّتى اكتسبوها وجمعوها، والتجارة الّتى يخشون كسادها والمساكن الّتى يرضونها - وهذه اُصول ما يقوم به المجتمع في المرتبة الثانية -.

وذكر تعالى أنّهم إن تولّوا أعداء الدين، وقدّموا حكم هؤلاء الاُمور على حبّ الله ورسوله والجهاد في سبيله فليتربّصوا ولينتظروا حتّى يأتي الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين.

ومن المعلوم أنّ الشرط أعنى قوله:( إن كان آباؤكم - إلى قوله -في سبيله ) في معنى أن يقال: إن لم تنتهوا عمّا ينهاكم عنه من اتّخاذ الآباء والإخوان الكافرين أولياء باتّخاذكم سبباً يؤدّى إلى خلاف ما يدعوكم إليه، وإهمالكم في أمر غرض الدين وهو الجهاد في سبيل الله.

فقوله في الجزاء:( فتربّصوا حتّى يأتي الله بأمره ) لا محالة إمّا أمر يتدارك به ما عرض على الدين من ثلمة وسقوط غرض في ظرف مخالفتهم، وإمّا عذاب يأتيهم عن مخالفة أمر الله ورسوله والإعراض عن الجهاد في سبيله.

غير أنّ قوله تعالى في ذيل الآية:( والله لا يهدى القوم الفاسقين ) يعرّض لهم أنّهم خارجون حينئذ عن زىّ العبوديّـة، فاسقون عن أمر الله ورسوله فهم بمعزل من أن يهديهم الله بأعمالهم ويوفّقهم لنصرة الله ورسوله، وإعلاء كلمة الدين وإمحاء آثار الشرك.

فذيل الآية يهدى إلى أنّ المراد بهذا الأمر الّذى يأمرهم الله أن يتربّصوا له حتّى يأتي به أمر منه تعالى، متعلّق بنصرة دينه وإعلاء كلمته فينطبق على مثل قوله تعالى في سورة المائدة بعد آيات ينهى فيها عن تولّى الكافرين:( يا أيّها الّذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ) المائدة: ٥٤.

٢١٧

والآية بقيودها وخصوصيّـاتها - كما ترى - تنطبق على ما تفيده الآية الّتى نحن فيها.

فالمراد - والله أعلم - إن اتّخذتم هؤلاء أولياء، واستنكفتم عن إطاعة الله ورسوله والجهاد في سبيل الله فتربّصوا حتّى يأتي الله بأمره، ويبعث قوماً لا يحبّون إلّا الله، ولا يوالون أعداءه ويقومون بنصرة الدين والجهاد في سبيل الله أفضل قيام فإنّكم إذاً فاسقون لا ينتفع بكم الدين، ولا يهدى الله شيئاً من أعمالكم إلى غرض حقّ وسعادة مطلوبة.

وربّما قيل: أنّ المراد بقوله:( فتربّصوا حتّى يأتي الله بأمره ) الإشارة إلى فتح مكّة، وليس بسديد فإنّ الخطاب في الآية للمؤمنين من المهاجرين والأنصار وخاصّـة المهاجرين، وهؤلاء هم الّذين فتح الله مكّة بأيديهم، ولا معنى لأن يخاطبوا ويقال لهم: إن كان آباؤكم وأبناؤكم الخ أحبّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فواليتموهم واستنكفتم عن اطاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله فتربّصوا حتّى يفتح الله مكّة بأيديكم والله لا يهدى القوم الفاسقين، أو فتربّصوا حتّى يفتح الله مكّة والله لا يهديكم لمكان فسقكم فتأمّل.

( بحث روائي)

في تفسير البرهان في قوله تعالى:( أجعلتم سقاية الحاجّ ) الآية عن أمالى الشيخ بإسناده عن الأعمش عن سالم بن أبى الجعد يرفعه إلى أبى ذرّ - في حديث الشورى - فيما احتجّ به علىّعليه‌السلام على القوم: وقال لهم في ذلك: فهل فيكم أحد نزلت فيه هذه الآية( أجعلتم سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله) غيرى؟ قالوا: لا.

وفي تفسير القمّىّ قال: وفي رواية أبى الجارود عن أبى جعفرعليه‌السلام قال: نزلت هذه الآية في على بن أبى طالبعليه‌السلام :( الّذين آمنوا وهاجروا - إلى قوله -

٢١٨

الفائزون ) ثمّ وصف ما لعلىّعليه‌السلام عنده فقال:( يبشّرهم ربّهم برحمة منه ورضوان وجنّات لهم فيها نعيم مقيم ) .

وفي المجمع روى الحاكم أبوالقاسم الحسكانيّ بإسناده عن أبى بريدة عن أبيه قال: بينما شيبة والعبّـاس يتفاخران إذ مرّ عليهما علىّ بن أبى طالب قال: بما تفتخران؟ قال العبّـاس: لقد اُوتيت من الفضل ما لم يؤت أحد سقاية الحاجّ، وقال شيبة: اُوتيت عمارة المسجد الحرام، وقال علىّ: وأنا أقول لكما لقد اُوتيت على صغرى ما لم تؤتيا فقالا: وما اُوتيت يا علىّ؟ قال: ضربت خراطيمكما بالسيف حتّى آمنتما بالله تبارك وتعالى ورسوله.

فقام العبّـاس مغضباً يجرّ ذيله حتّى دخل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: أما ترى ما استقبلني به علىّ؟ فقال: اُدعوا لى عليّـاً، فدعى له فقال: ما حملك يا علىّ على ما استقبلت به عمّك؟ فقال: يا رسول الله صدقته الحقّ فإن شاء فليغضب، وإن شاء فليرض.

فنزل جبرئيلعليه‌السلام وقال: يا محمّـد ربّك يقرأ عليك السلام ويقول: أتل عليهم:( أجعلتم سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر ) إلى قوله:( إنّ الله عنده أجر عظيم ) .

وفي تفسير الطبريّ بإسناده عن محمّـد بن كعب القرظىّ قال: افتخر طلحة ابن شيبة والعبّـاس وعلىّ بن أبى طالب فقال طلحة: أنا صاحب البيت معى مفتاحه، وقال العبّـاس: وأنا صاحب السقاية والقائم عليها، فقال علىّ: ما أدرى ما تقولان لقد صلّيت إلى القبلة ستّة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد، فأنزل الله:( أجعلتم سقاية الحاجّ ) الآية كلّها.

وفي الدرّ المنثور أخرج الفاريابىّ عن ابن سيرين قال: قدم علىّ بن أبى طالب مكّة فقال للعبّـاس: أي عمّ ألا تهاجر؟ ألا تلحق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ فقال: أعمر المسجد الحرام وأحجب البيت فأنزل الله:( أجعلتم سقاية الحاجّ ) الآية، وقال لقوم قد سمّاهم: ألا تهاجرون؟ ألا تلحقون برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ فقالوا: نقيم مع إخواننا وعشائرنا ومساكننا فأنزل الله تعالى:( قل إن كان آباؤكم ) الآية كلّها.

٢١٩

وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن ابن عبّـاس قال: قال العبّـاس حين اُسر يوم بدر: إن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنّا نعمر المسجد الحرام ونسقى الحاجّ ونفك العانى(١) فأنزل الله:( أجعلتم سقاية الحاجّ ) الآية، يعنى أنّ ذلك كان في الشرك فلا أقبل ما كان في الشرك.

وفيه أخرج مسلم وأبوداود وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن حبّان والطبرانيّ وأبوالشيخ وابن مردويه عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم: ما اُبالى أن لا أعمل لله عملاً بعد الإسلام إلّا أن أسقى الحاجّ، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير ممّا قلتم.

فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك يوم الجمعة، ولكن إذا صلّيتم الجمعة دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل الله:( أجعلتم سقاية الحاجّ ) إلى قوله:( والله لا يهدى القوم الظالمين ) .

أقول: قال صاحب المنار في تفسيره بعد إيراد هذه الروايات الأربع الأخيرة: والمعتمد من هذه الروايات حديث النعمان لصحّة سنده وموافقة متنه لما دلّت عليه الآيات من كون موضوعها في المفاضلة أو المساواة بين خدمة البيت وحجابته - من أعمال البرّ البدنيّـة الهيّـنة المستلذّة - وبين الإيمان والجهاد بالمال والنفس والهجرة، وهى أشقّ العبادات النفسيّـة البدنيّـة الماليّـة، والآيات تتضمّن الردّ عليها كلّها.انتهى.

أمّا ما ذكره من رجحان رواية النعمان على غيرها بصحّة السند ففيه أوّلاً أنّ رواية القرظىّ أيضاً في مضمونها موافقة لرواية الحاكم في المستدرك وقد صحّحها. وثانياً: أنّ روايات التفسير إذا كانت آحاداً لا حجّـيّة لها إلّا ما وافق مضامين الآيات بقدر ما يوافقها على ما بيّن في فنّ الاُصول فإنّ الحجّـيّة الشرعيّـة تدور مدار الآثار الشرعيّـة المترتّبة فتنحصر في الأحكام الشرعيّـة وأمّا ما وراءها كالروايات الواردة في القصص والتفسير الخالى

____________________

(١) العاني: الاسير.

٢٢٠