الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 97042 / تحميل: 6726
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

عن الحكم الشرعيّ فلا حجّـيّة شرعيّـة فيها.

وأمّا الحجّـيّة العقليّـة أعنى العقلائيّـة فلا مسرح لها بعد توافر الدسّ والجعل في الأخبار سيّما أخبار(١) التفسير والقصص إلّا ما تقوم قرائن قطعيّـة يجوز التعويل عليها على صحّه متنه، ومن ذلك موافقة متنه لظواهر الآيات الكريمة.

فالّذي يهمّ الباحث عن الروايات غير الفقهيّـة أن يبحث عن موافقتها للكتاب فإن وافقتها فهى الملاك لاعتبارها ولو كانت مع ذلك صحيحة السند فإنّما هي زينة زيّـنت بها وإن لم توافق فلا قيمة لها في سوق الاعتبار.

وأمّا ترك البحث عن موافقة الكتاب، والتوغّل في البحث عن حال السند - إلّا ما كان للتوسّل إلى تحصيل القرائن - ثمّ الحكم باعتبار الرواية بصحّة سندها ثمّ تحميل ما يدلّ عليه متن الرواية على الكتاب، واتّخاذه تبعاً لذلك كما هو دأب كثير منهم فممّا لا سبيل إليه من جهة الدليل.

وأمّا ما ذكره من رجحان رواية النعمان على غيرها من جهة المتن مبيّـناً ذلك بأنّ الآيات تدلّ على أنّ موضوع المساواة أو المفاضلة كان بين خدمة البيت أو حجابته وهى من أعمال البرّ البدنيّـة الهيّـنة المستلذّة، وبين الإيمان والجهاد والهجرة وهى من أعمال البرّ النفسيّـة والبدنيّـة الشاقّة، والآيات تتضمّن الردّ عليها كلّها. انتهى.

ففيه أوّلاً: أنّ الّذى ذكره من مدلول الآيات مشترك بين جميع ما أورده من الروايات:

أمّا رواية ابن عبّـاس الّتى مضمونها وقوع الكلام في المساواة أو المفاضلة حين اُسر العبّـاس يوم بدر بين العبّـاس وبين المسلمين حيث عيّروه فقد ذكر فيها صريحاً المقايسة بين الإسلام والهجرة والجهاد وبين سقاية الحاجّ وعمارة المسجد وفكّ العانى، وهناك روايات اُخر في معناه.

وأمّا رواية ابن سيرين الدالّة على وقوع النزاع بين علىّ والعبّـاس بمكّة حين دعاه إلى الهجرة واللحوق بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأجابه بأنّ له عمارة المسجد الحرام وحجابة

____________________

(١) وقد اعترف في مواضع من كلامه ونقل عن احمد انه قال: لا أصل لها.

٢٢١

البيت وقد روى هذا المعنى ابن مردويه عن الشعبىّ وفيها: أنّ العبّـاس قال لعلىّ: أنا عمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنت ابن عمّه، وإلىّ سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام، فأنزل الله:( أجعلتم سقاية الحاجّ ) الآية.

ورواه أيضاً ابن أبى شيبة وأبوالشيخ وابن مردويه عن عبدالله بن عبيدة وفيها: أنّ العبّـاس قال لعلىّ: أو لست في أفضل من الهجرة؟ ألست أسقى الحاجّ وأعمر المسجد الحرام فنزلت هذه الآية.

وعلى أيّ حال فالواقع في هذه الرواية أيضاً المقايسة بين السقاية والعمارة وبين الهجرة وما يترتّب عليها ممّا يستلزمه اللحوق بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كالجهاد وغيره من الأعمال الشريفة الدينيّـة.

وأمّا رواية القرظىّ وما في معناها كالّذى رواه الحاكم وصحّحه، وما رواه عبد الرزّاق عن الحسن قال: نزلت في علىّ والعبّـاس وعثمان وشيبة(١) تكلّموا في ذلك، وكذا رواية النعمان الّتى تقدّمت فكون المنازعة فيها في السقاية والعمارة والإيمان والجهاد ظاهر فإذا كان الحال هذا الحال فأىّ مزيّة في رواية النعمان بن بشير توجب اختصاصها بموافقة الكتاب من بين سائر الروايات.

وثانياً: أنّ قوله: إنّ موضوع المفاضلة هي أعمال البرّ الهيّـنة المستلذّة كالسقاية والحجابة وأعمال البرّ الشاقّة كالإيمان والهجرء والجهاد لا يوافق ما يدلّ عليه الآيات فإنّها كما تقدّم ظاهرة الدلالة على أنّ المقايسة كانت بينهم بين أجساد الأعمال الخالية عن روح الإيمان وليست من البرّ حينئذ وبين أعمال حيّة بولوج روح الإيمان فيها كالهجرة والجهاد عن إيمان بالله و اليوم الآخر.

فالآيات تدلّ على أنّهم كانوا يسوّون أو يفضّلون غير أعمال البرّ كالسقاية والعمارة من غير إيمان على أعمال البرّ كالجهاد عن إيمان وهجرة و الهجرة عن إيمان فأين ما ذكره من أعمال البرّ الهيّـنة قبال أعمال البرّ الشاقّة(٢) ؟

____________________

(١) ابن شيبة ظ.

(٢) نعم زعم هو أن السقاية والعمارة من العبّـاس في حال شركه من أعمال البرّ كما زعمه العبّـاس غير أن الآيات بنزولها نبهت العبّـاس انّه كان قد اخطأ فى مزعمته كما يشعر به ذيل رواية اابن عبّـاس ولم يتنبّه هو لما تنبّه له العبّـاس .

٢٢٢

ودلالة الآيات - بما فيها من القيود المأخوذة - على ذلك بمكان من الظهور والجلاء فقد قيّد الجهاد فيها بالإيمان بالله واليوم الآخر، وأطلق السقاية و العمارة من غير تقييد بالإيمان ثمّ قال تعالى:( لا يستوون عند الله ) ثمّ زاد:( والله لا يهدى القوم الظالمين ) وحاشا أن يكون الآتى بأعمال البرّ عند الله من القوم الظالمين المحرومين عن نعمة الهداية الإلهيّـة.

حتّى لو فرض أنّ المراد بالظالمين اُولئك المسوّون أو المفضّلون من المؤمنين للسقاية والعمارة على الجهاد فإنّ المؤمن على إيمانه إذا حكم بمثل هذا الحكم فإنّما هو خاط يهتدى إذا دُلّ على الصواب لا ظالم محروم من الهداية فافهم ذلك.

وثالثاً: ما تقدّم من أنّ قوله:( كمن آمن بالله ) الآية وقوله:( لا يستوون ) الآية دليل على أنّ للشخص دخلاً فيما تتضمّن الآيات من الحكم.

والتدبّر في الآيات الكريمة والتأمّل فيما ذكرناه هنا وهناك يوضح للباحث الناقد أنّ أضعف الروايات وأبعدها من الانطباق على مضمون الآيات هي رواية النعمان بن بشير فإنّها لا تقبل الانطباق على الآيات الكريمة بما فيها من القيود المأخوذة.

ويليها في الضعف رواية ابن سيرين وما في معناها من الروايات فإنّ ظاهرها أنّ العبّـاس إنّما دعى إلى الهجرة وهو مسلم فافتخر بالسقاية والحجابة والآيات لا تساعد على ذلك كما مرّ.

على أنّ الواقع في رواية ابن سيرين ذكر العبّـاس للسقاية وحجابة البيت ولم يكن له حجابة إنّما هي السقاية.

ويليها في الضعف رواية ابن عبّـاس فظاهرها أنّ المقايسة إنّما كانت بين الأعمال فقط والآية لا تساعد على ذلك.

على أنّ فيها أنّ العبّـاس ذكر فيما ذكر سقاية الحاجّ وعمارة المسجد وفكّ العانى وهو الأسير. ولو كان لذكر في الآية، وقد وقع في رواية ابن جرير وأبى الشيخ عن الضحّاك في هذا المعنى قال: اقبل المسلمون على العبّـاس وأصحابه الّذين اُسروا يوم بدر يعيّرونهم بالشرك. فقال العبّـاس: أما والله لقد كنّا نعمر المسجد الحرام، ونفكّ العانى، ونحجب

٢٢٣

البيت ونسقى الحاجّ فأنزل الله:( أجعلتم سقاية الحاجّ ) الآية، والكلام في فكّ العانى وحجابة البيت الواقعين فيها كالكلام في سابقها.

فأسلم الروايات في الباب وأقربها إلى الانطباق على الآيات مضموناً رواية القرظىّ وما في معناها كرواية الحاكم في المستدرك ورواية عبدالرزّاق عن الحسن ورواية أبى نعيم وابن عساكر عن أنس الآتية، وقد تقدّم توضيح ذلك.

وفي الدرّ المنثور أخرج أبو نعيم في فضائل الصحابة وابن عساكر عن أنس قال: قعد العبّـاس وشيبة صاحب البيت يفتخران فقال العبّـاس: أنا أشرف منك أنا عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصىّ أبيه، وساقى الحجيج، فقال شيبة: أنا أشرف منك أنا أمين الله على بيته وخازنه أفلا ائتمنك كما ائتمننى؟

فاطّلع عليهما علىّ فأخبراه بما قالا فقال علىّ: أنا أشرف منكما أنا أوّل من آمن وهاجر فانطلق ثلاثتهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبروه فما أجابهم بشئ فانصرفوا فنزل عليه الوحى بعد أيّـام فأرسل إليهم فقرأ عليهم:( أجعلتم سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام ) إلى آخر العشر.

وفي تفسير القمّىّ عن أبيه عن صفوان عن ابن مسكان عن أبى بصير عن أبى جعفرعليه‌السلام : قال: نزلت في علىّ والعبّـاس وشيبة. قال العبّـاس: أنا أفضل لأنّ سقاية الحاجّ بيدى، وقال شيبة: أنا أفضل لأنّ حجابة البيت بيدى، وقال علىّ: أنا أفضل فإنّى آمنت قبلكما ثمّ هاجرت وجاهدت فرضوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله:( أجعلتم سقاية الحاجّ - إلى قوله -إنّ الله عنده أجر عظيم ) .

أقول: ورواه العيّـاشيّ عن أبى بصير عن أبى عبداللهعليه‌السلام مثله، وفيه عثمان بن أبى شيبة مكان شيبة.

وفي الكافي عن أبى علىّ الأشعريّ عن محمّـد بن عبد الجبّار عن صفوان بن يحيى عن ابن مسكان عن أبى بصير عن أحدهماعليهما‌السلام في قول الله:( أجعلتم سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر ) نزلت في حمزة وعلىّ وجعفر والعبّـاس وشيبة، إنّهم فخروا بالسقاية والحجابة فأنزل الله عزّ ذكره:( أجعلتم سقاية الحاجّ و

٢٢٤

عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر ) وكان علىّ وحمزة وجعفر هم الّذين آمنوا بالله واليوم الآخر وجاهدوا في سبيل الله.لا يستوون عند الله.

أقول: ورواه أيضاً العيّـاشيّ في تفسيره عن أبى بصير عن أحدهماعليهما‌السلام مثله.

والرواية لا تلائم ما يثبته النقل القطعيّ فقد كان حمزة من المهاجرين الأوّلين لحقّ برسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ استشهد في غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة، وقد كان جعفر هاجر إلى الحبشة قبل هجرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ رجع إلى المدينة أيّـام فتح خيبر وقد استشهد حمزة قبل ذلك بمدّة فلو كان من الخمسة اجتماع على التفاخر فقد كان قبل الهجرة النبويّـة وحينئذ فما معنى ما وقع في الرواية: (وكان علىّ وحمزة وجعفر هم الّذين آمنوا بالله واليوم الآخر وجاهدوا في سبيل الله)؟

وإن كإن لمراد بالنزول فيهم انطباق الآية عليهم على سبيل الجرى فقد كان العبّـاس مثلهم فإنّه آمن يوم اُسر ببدر ثمّ حضر بعض غزوات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي تفسير البرهان عن الجمع بين الصحاح الستّة للعبدىّ في الجزء الثاني من صحيح النسائيّ بإسناده قال: افتخر طلحة بن شيبة من بنى عبدالدار والعبّـاس بن عبدالمطّلب وعلىّ بن أبى طالب فقال طلحة: بيدى مفتاح البيت ولو أشاء بتّ فيه، وقال العبّـاس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها ولو أشاء بتّ في المسجد، وقال على: ما أدرى ما تقولان؟ لقد صلّيت إلى القبلة ستّة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد فأنزل الله:( أجعلتم سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام ) الآية.

أقول: المراد بالصلاة ستّة أشهر قبل الناس التقدّم في الإيمان بالله على ما تعرّضت له الآية وإلّا كان من الواجب أن تذكر في الآية، وقد ذكر ثالث القوم طلحة بن شيبة، وقد تقدّم في بعضها أنّه شيبة، وفي بعضها أنّه عثمان بن أبى شيبة.

وفي تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب عن أبى حمزة عن أبى جعفرعليه‌السلام في قوله تعالى:( يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبّوا الكفر على الإيمان ) قال: الإيمان ولاية علىّ بن أبى طالب.

أقول: هو من باطن القرآن مبنىّ على تحليل معنى الإيمان إلى مراتب كماله.

٢٢٥

وفي تفسير القمّىّ: لمّا أذن اميرالمؤمنين أن لا يدخل المسجد الحرام مشرك بعد ذلك جزعت قريش جزعاً شديداً، وقالوا: ذهبت تجارتنا وضاعت عيالنا وخربت دورنا فأنزل الله في ذلك:( قل - يا محمّـد - إن كان آباؤكم وابناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم - إلى قوله -والله لا يهدى القوم الفاسقين ) .

أقول: وعلى هذا كان من الجرىّ أن يفسّر قوله في الآية:( حتّى يأتي الله بأمره ) بتدارك ما ينزل بهم من الكساد وفتح باب الرزق عليهم من وجه آخر كما وقع مثله في قوله تعالى في ضمن الآيات التالية:( يا أيّها الّذين آمنوا إنّما المشركون نجس فلا يدخلوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إنّ الله عليم حكيم ) التوبة: ٢٨.

بل اتّحد حينئذ موردا الآيتين، ولسان الرفق وكرامة الخطاب بمثل قوله:( يا أيّها الّذين آمنوا ) يأبى أن يكون الخطاب بقوله:( إن كان آباؤكم وأبناؤكم ) الآية متوجّهاً إليهم بأعيانهم على ما في آخرها من الخشونة في قوله:( والله لا يهدى القوم الفاسقين ) .

على أنّ الآية تذكر حبّ الآباء والإخوان والعشيرة والأموال الّتى اقترفوها، ولم يذكر شئ منها في الرواية، ولا حسبت قريش ضيعة بالنسبة إليها فما معنى ذكرها في الآية والتهديد على اختيار حبّها على حبّ الله ورسوله؟ وما معنى ذكر الجهاد في سبيله في الآية؟ فافهم ذلك.

وفى الدرّ المنثور أخرج أحمد والبخاريّ عن عبدالله بن هشام قال: كنّا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطّاب فقال: والله لأنت يا رسول الله أحبّ إلىّ من كلّ شئ إلّا من نفسي. فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يؤمن أحدكم حتّى أكون احبّ إليه من نفسه.

٢٢٦

( سورة التوبة آيه ٢٥ - ٢٨)  

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍوَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمّ وَلّيْتُم مُدْبِرِينَ ( ٢٥ ) ثُمّ أَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى‏ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذّبَ الّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ( ٢٦ ) ثُمّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذلِكَ عَلَى‏ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( ٢٧ ) يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٢٨ )

( بيان)

تشير الآيات إلى قصّة غزوة حنين وتمتنّ بما نصر الله فيه المؤمنين كسائر المواطن من الغزوات الّتى نصرهم الله بعجيب نصرته على ضعفهم وقلّتهم، وأظهر أعاجيب آياته بتأييد نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنزال جنود لم يروها وإنزال السكينة على رسوله والمؤمنين وتعذيب الكافرين بأيدى المؤمنين.

وفيها الآية الّتى تحرّم على المشركين أن يدخلوا المسجد الحرام بعد عام تسع من الهجرة، وهى العام الّذى أذن فيه علىّعليه‌السلام ببراءة، ومنع طواف البيت عرياناً، ودخول المشركين في المسجد الحرام.

قوله تعالى: ( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين - إلى قوله -ثمّ ولّيتم مدبرين ) المواطن جمع موطن وهو الموضع الّذى يسكنه الإنسان ويتوطّن فيه. وحنين إسم واد بين مكّة والطائف وقع فيه غزوة حنين قاتل فيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هوازن وثقيف

٢٢٧

وكان يوماً شديداً على المسلمين انهزموا أوّلاً ثمّ أيّدهم الله بنصره فغلبوا.

والإعجاب الإسرار والعجب سرور النفس بما يشاهده نادراً، والرحب السعة في المكان وضدّه الضيق.

وقوله:( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ) ذكر لنصرته تعالى لهم في مواطن كثيرة ومواضع متعدّدة يدلّ السياق على أنّها مواطن الحروب كوقائع بدر وأحد والخندق وخيبر وغيرها، ويدلّ السياق أيضاً أنّ الجملة كالمقدّمة الممهّدة لقوله:( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم ) الآية فإنّ الآيات الثلاث مسوقة لتذكير قصّة وقعة حنين، وعجيب ما أفاض الله عليهم من نصرته وخصّهم به من تأييده فيها.

وقد استظهر بعض المفسّرين كون الآية وما يتلوها إلى تمام الآيات الثلاث تتمّة لقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أمره ربّه أن يواجه به المؤمنين في قوله:( قل إن كان آباؤكم ) الآية وتكلّف في توجيه الفصل الّذى في قوله:( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ) .

ولا دليل من جهة اللفظ على ذلك بل الدليل على خلافه فإنّ قصّة حنين وما يشتمل عليه من الامتنان بنصر الله وإنزال السكينة وإنزال الجنود وتعذيب الكافرين والتوبة على من يشاء أمر مستقلّ في نفسه ذو أهمّـيّة في ذاته وهو أهمّ هدفاً من قوله تعالى:( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم ) الآية أو هو مثله لا يقصر عنه فلا معنى لإتباعه إيّـاه وعطفه عليه في المعنى.

وحينئذ لو كان ممّا يجب أن يخاطب به القوم لكان من الواجب أن يقال:( وقل لهم لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ) الآية، على ما جرى عليه القرآن في نظائره كقوله تعالى:( قل إنّما أنا بشر مثلكم يوحى إلىّ أنّما إلهكم إله واحد - إلى أن قال -قل أئنّكم لتكفرون بالّذى خلق الأرض في يومين ) حم السجدة: ٩ وغيره من الموارد.

على أنّ سياق الآيات وما يجب أن تشتمل عليه من الالتفات وغيره - لو كانت الآيات مقولة للقول - لا تلائم كونها مقولة للقول السابق.

والخطاب في قوله:( لقد نصركم الله ) وما يتلوه من قوله:( إذ أعجبتكم كثرتكم ) الآية، للمسلمين وهم الّذين يؤلّفون مجتمعاً إسلاميّـاً واحداً حضروا بوحدتهم هذه الوحدة

٢٢٨

أمثال وقائع بدر واُحد والخندق وخيبراُ وحنيناُ وغيرها.

وهؤلاء فيهم المنافقون والضعفاء في الإيمان والمؤمنون صدقاُ على اختلافهم في المنازل إلّا أنّ الخطاب متوجّه إلى الجميع باعتبار اشتماله على من يصحّ أن يخاطب بمثل قوله:( إذ اعجبتكم كثرتكم ) إلى آخر الآية.

وقوله:( ويوم حنين ) أي ويوماً وقعت فيه القتال بينكم وبين أعدائكم بوادي حنين، وإضافة اليوم إلى أمكنة الوقائع العظيمة شائع في العرف كما يقال: يوم بدر ويوم اُحد ويوم الخندق نظير إضافته إلى الجماعة المتلبّسين بذلك كيوم الأحزاب ويوم تميم، وإضافته إلى نفس الحادثة كيوم فتح مكّة.

وقوله:( إذ أعجبتكم كثرتكم ) أي أسرّتكم الكثرة الّتي شاهدتموها في أنفسكم فانقطعتم عن الاعتماد بالله والثقة بأيده وقوّته واستندتم إلى الكثرة فرجوتم أن ستدفع عنكم كيد العدوّ وتهزم جمعهم، وإنّما هو سبب من الأسباب الظاهريّـة لا أثر فيها إلّا ما شاء الله الّذي إليه تسبيب الأسباب.

وبالنظر إلى هذا المعنى أردف قوله:( إذ أعجبتكم كثرتكم ) بقوله:( فلم تغن عنكم شيئاً ) أي اتّخذتموها سبباً مستقلّاً دون الله فأنساكم الاعتماد بالله، وركنتم إليها فبان لكم ما في وسع هذا السبب الموهوم وهو أن لا غنى عنده حتّى يغنيكم فلم يغن عنكم شيئاً لا نصراً ولا شيئاً آخر.

وقوله:( وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ) أي مع ما رحبت، وهو كناية عن إحاطة العدوّ بهم إحاطة لا يجدون مع ذلك مأمناً من الأرض يستقرّون فيه ولا كهفاً يأوون إليه فيقيهم من العدوّ، أي فررتم فراراً لا تلوون على شئ.

فهو قريب المعنى من قوله تعالى في قصّة الحزاب:( إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنّون بالله الظنّونا ) الأحزاب: ١٠.

وقول بعضهم: أي ضاقت عليكم الأرض فلم تجدوا موضعاً تفرّون إليه. غير سديد.

٢٢٩

وقوله:( ثم ولّيتم مدبرين ) أي جعلتم العدوّ يلي أدباركم وهو كناية عن الانهزام وهذا هو الفرار من الزحف ساقهم إليه اطمئنانهم بكثرتهم والانقطاع من ربّهم، قال تعالى:( يا أيّها الّذين آمنوا إذا لقيتم الّذين كفروا زحفاً فلا تولّوهم الأدبار ومن يولّهم يومئذ دبره - إلى أن قال -فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنّم وبئس المصير ) الأنفال: ١٦ وقال أيضاً:( ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولّون الأدبار وكان عهد الله مسؤولاً ) الأحزاب: ١٥.

فهذا كلّه أعني ضيق الأرض عليهم بما رحبت ثمّ انهزامهم وفرارهم من الزحف على ما فيه من كبير الإثم، ووقوفهم هذا الموقف الّذى يستتبع العتاب من ربّهم إنّما ساقهم إليه اعتمادهم واطمئنانهم إلى هذه الأسباب السرابيّـة الّتى لا تغنى عنهم شيئاً.

والله سبحانه بسعة رحمته وعظم منّه امتنّ عليهم بنصره وإنزال سكينته وإنزال جنود لم يروها، وتعذيب الكافرين، ووعد مجمل بمغفرته: وعداً ليس بالمقطوع وجوده حتّى تبطل به صفة الخوف من قلوبهم ولا بالمقطوع عدمه حتّى تزول صفة الرجاء من نفوسهم بل وعداً يحفظ فيهم الاعتدال والتوسّط بين صفتي الخوف والرجاء، ويربّيهم تربية حسنة تعدّهم وتهيّئهم للسعادة الواقعيّـة.

وقد أغرب بعض المفسّرين في تفسير الآية مستظهراً بما جمع به بين الروايات على اختلافها فأصرّ على ما ملخّصه أنّ المسلمين لم يفرّوا على جبن، وإنّما انكشفوا عن موضعهم لما فاجأهم من شدّ كتائب ثقيف وهوازن عليهم شدّ رجل واحد فاضطربوا اضطرابة زلزلتهم وكشفتهم عن موضعهم دفعة واحدة وهذا أمر طبيعي في الإنسان إذا فاجأه الخطر ودهمته بليّـة دفعة ومن غير مهل اضطربت نفسه وخلّى عن موضعه.

ويشهد به نزول السكينة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليهم جميعاً فقد كان الاضطراب شمله وإيّـاهم جميعاً، غير أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصابه ما أصابه من الاضطراب والقلق حزناً وأسفاً ممّا وقع، والمسلمون شملهم ذلك لما فوجئوا به من حملة الكتائب حملة رجل واحد.

ومن الشواهد أنّهم بمجرّد ما سمعوا نداء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونداء العبّـاس بن عبد

٢٣٠

المطّلب رجعوا من فورهم وهزموا الكفّـار بالسكينة النازلة عليهم من عند الله تعالى.

ثمّ ذكر ما نزل من الآيات في صفة الصحابة كآية بيعة الرضوان، وقوله تعالى:( محمّـد رسول الله والّذين معه أشدّاء على الكفّـار ) الآية، وقوله:( إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّـة ) الآية، وما ورد من طريق الرواية في مدح صحابة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .انتهى.

والّذى أورده من الخلط بين البحث التفسيرىّ الّذى لا همّ له إلّا الكشف عمّا يدلّ عليه الآيات الكريمة، وبين البحث الكلاميّ الّذى يرام به إثبات ما يدعيه المتكلّم في شئ من المذاهب من أيّ طريق أمكن من عقل أو كتاب أو سنّة أو إجماع أو المختلط منها والبحث التفسيرىّ لا يبيح لباحثه شيئاً من ذلك، ولا تحميل أيّ نظر من الأنظار العلميّـة على الكتاب الّذى أنزله الله تبياناً.

أمّا قوله: إنّهم لم يفرّوا جبناً ولا خذلاناً للنبىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنّما كان انكشافاً لأمر فاجأهم فاضطربوا وزلزلوا ففرّوا ثمّ كرّوا فهذا ممّا لا يندفع به صريح قوله تعالى:( ثمّ ولّيتم مدبرين ) مع اندراج هذا الفعل منهم تحت كلّـيّة قوله تعالى في آية تحريم الفرار من الزحف:( فلا تولّوهم الأدبار ومن يولّهم يومئذ دبره - إلى ان قال -فقد باء بغضب من الله ) الآية.

ولم يقيّد سبحانه النهى عن تولية الأدبار بأنّه يجب أن يكون عن جبن أو لغرض الخذلان، ولا استثنى من حكم التحريم كون الفرار عن اضطراب مفاجئ، ولا أورد في استثنائه إلّا ما ذكره بقوله:( إلّا متحرّفاً لقتال أو متحيّـزاً إلى فئة ) وليس هذان المستثنيان في الحقيقة من الفرار من الزحف.

ولم يورد تعالى أيضاً فيما حكى من عهدهم شيئاً من الاستثناء إذ قال:( ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولاً ) الأحزاب: ١٥.

وأمّا استشهاده على ذلك بأنّ الإضطراب كان مشتركاً بينهم وبين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واستدلاله على ذلك بقوله تعالى:( ثمّ انزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) حيث إنّ نزول السكينة بعد انكشافهم بزمان - على ما تدلّ عليه كلمة ثمّ - يلازم نزول

٢٣١

الاضطراب عند ذلك على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كان عن حزن وأسف إذ لا يتصوّر في حقّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التزلزل في ثباته وشجاعته.

فلننظر فيما اعتبره للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الحزن والأسف هل كان ذلك حزناً وأسفاً على ما وقع من الأمر من انهزام المسلمين وما ابتلاهم الله به من الفتنة والمحنة جزاءً لما أعجبوا من كثرة عددهم، وبالجملة حزناً مكروهاً عند الله؟ فقد نزّهه الله عن ذلك وأدّبه بما نزّل عليه من كتابه وعلّمه من علمه، وقد اُنزل عليه مثل قوله عزّ من قائل:( ليس لك من الأمر شئ ) آل عمران: ١٢٨، وقال:( سنقرؤك فلا تنسى ) الأعلى: ٦.

ولم يرد في شئ من روايات القصّة أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زال عن مكانه يومئذ أو اضطرب اضطراباً ممّا نزل على المسلمين من الوهن والانهزام.

وإن كان ذلك حزناً وأسفاً على المسلمين لما أصابهم من ناحية خطاهم في الاعتماد بغير الله والركون إلى سراب الأسباب الظاهرة، والذهول عن الاعتصام بالله سبحانه حتّى أوقعهم في خطيئة الفرار من الزحف لما كان هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه من الرأفة والرحمة بالمؤمنين فهذا أمر يحبّه الله سبحانه وقد مدح رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به إذ قال:( بالمؤمنين رؤوف رحيم ) التوبة: ١٢٨.

وليس يزول مثل هذا الأسف والحزن بنزول السكينة عليه، ولا أنّ السكينة لو فرض نزولها لأجله ممّا حدث بعد وقوع الانهزام حتّى يكون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خالياً عنها قبل ذلك بل كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بيّـنة من ربّه منذ بعثه الله إلى أن قبضه إليه، وكانت السكينة بهذا المعنى نازلة عليه حيناً بعد حين.

ثمّ السكينة الّتى نزلت على المؤمنين ما هي؟ وما ذا يحسبها؟ أكانت هي الحالة النفسانيّـة الّتى تحصّل من السكون والطمأنينة كما فسّرها بها واستشهد عليه بقول صاحب المصباح: إنّها تطلق على الرزانة والمهابة والوقار حتّى كانت ثبات الكفّـار وسكونهم في مواقفهم الحربيّـة عن سكينة نازلة إليهم؟ فإن كانت السكينة هي هذه فقد كانت في أوّل الوقعة عند كفّـار هوازن وثقيف خصماء المسلمين ثمّ تركتهم ونزلت على عامّة جيش المسلمين من مؤمن ثبت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن مؤمن لم يثبت واختار الفرار على القرار،

٢٣٢

ومن منافق ومن ضعيف الإيمان مريض القلب فإنّهم جميعاً رجعوا ثانياً إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وثبتوا معه حتّى هزموا العدوّ فهم جميعاً أصحاب السكينة أنزلها الله إليهم فما باله تعالى يقصر إنزال السكينة على رسوله وعلى المؤمنين إذ يقول: (ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين)؟

على أنّه إن كانت السكينة هي هذه، وهى مبتذلة مبذولة لكلّ مؤمن وكافر فما معنى ما امتنّ الله به على المؤمنين بما ظاهره أنّها عطيّـة خاصّـة غير مبتذلة؟ ولم يذكرها في كلامه إلّا في موارد معدودة - بضعة موارد - لا تبلغ تمام العشرة.

وبذلك يظهر أنّ السكينة أمر وراء السكون والثبات لا أنّ لها معنى في اللغة أو العرف وراء مفهوم الحالة النفسانيّـة الحاصلة من السكون والطمأنينة بل بمعنى أنّ الّذى يريده تعالى من السكينة في كلامه له مصداق غير المصداق الّذى نجده عند كلّ شجاع باسل له نفس ساكنة وجاش مربوط، وإنّما هي نوع خاصّ من الطمأنينة النفسانيّـة له نعت خاصّ وصفة مخصوصة.

كيف؟ وكلّما ذكرها الله سبحانه في كلامه امتناناً بها على رسوله وعلى المؤمنين خصّها بالإنزال من عنده فهى حالة إلهيّـة لا ينسى العبد معها مقام ربّه لا كما عليه عامّة الشجعان اُولوا الشدّة والبسالة المعجبون ببسالتهم المعتمدون على أنفسهم.

وقد احتفّت في كلامه بأوصاف وآثار لا تعمّ كلّ وقار وطمأنينة نفسانيّـة كما قال في حقّ رسوله:( إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ الله معنا فانزل الله سكينته عليه وأيّده بجنود لم تروها ) التوبه: ٤٠ وقال تعالى في المؤمنين( لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم ) الفتح: ١٨ فذكر أنّه إنّما أنزل السكينة عليهم لما علمه من قلوبهم فنزولها يحتاج إلى حالة قلبيّـة طاهرة سابقة يدلّ السياق على أنها الصدق ونزاهة القلب عن إبطان نيّـة الخلاف.

وقال أيضاً:( هو الّذى أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض ) الفتح: ٤ فذكر أنّ من أثرها زيادة الإيمان مع الإيمان وقال أيضاً:( إذ جعل الّذين كفروا في قلوبهم الحميّـة حميّـة الجاهليّـة فأنزل الله سكينته

٢٣٣

على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحقّ بها وأهلها ) الفتح: ٢٦، والآية - كما ترى - تذكر أنّ نزول السكينة من عنده تعالى مسبوق باستعداد سابق وأهليّـة وحقّـيّـة قبليّـة وهو الّذى اُشير إليه في الآية السابقة بقوله:( فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة ) . وتذكر أنّ من آثارها لزوم كلمة التقوى، وطهارة ساحة الإنسان عن مخالفة الله ورسوله باقتراف المحارم وورود المعاصي.

وهذا كالمفسّر يفسّر قوله في الآية الاُخرى:( ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ) فازدياد الإيمان مع الإيمان بنزول السكينة هو أن يكون الإنسان على وقاية إلهيّـة من اقتراف المعاصي وهتك المحارم مع إيمان صادق بأصل الدعوة الحقّة.

وهذا نعم الشاهد يشهد أوّلاً: أنّ المراد بالمؤمنين في قوله في الآية المبحوث عنها( ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) غير المنافقين وغير مرضى القلوب وضعفاء الإيمان، ولا يبقى إلّا من ثبت من المؤمنين مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم ثلاثة أو أربعة أو تسعة أو عشرة أو ثمانون أو دون المائة على اختلاف الروايات في إحصائهم، ومن فرّ وانكشف عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّلاً ثمّ رجع وقاتل ثانياً وفيهم جلّ أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعدّة من خواصّهم.

فهل المراد بالمؤمنين الّذين نزلت عليهم، جميع من ثبت مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن فرّ أولاً ثمّ رجع ثانياً، أو أنّهم هم الّذين ثبتوا معه من المؤمنين حتّى نزل النصر؟

الّذى يستفاد من آيات السكينة أنّ نزولها متوقّف على طهارة قلبيّـه وصفاء نفسيّ سابق حتّى يقرّها الله تعالى بالسكينه، وهؤلاء كانوا مقترفين لكبيرة الفرار من الزحف آثمين قلوباً، ولا محلّ لنزول السكينة على من هذا شأنه فإن كانوا ممّن نزلت عليهم السكينة كان من الواجب أن يندموا على ما فعلوا، ويتوبوا إلى ربّهم توبة نصوحاً بقلوب صادقة حتّى يعلم الله ما في قلوبهم فينزل السكينة عليهم فيكونون أذنبوا أوّلاً ثمّ تابوا ورجعوا ثانياً، فأنزل الله سكينته عليهم ونصرهم على عدوّهم، ولعلّ هذا هو الّذى يشير إليه التراخي المفهوم من قوله تعالى( ثمّ أنزل الله سكينته عليهم ) حيث عبّر بـ( ثم ) . هذا

لكن يبقى عليه أوّلاً، أنّه كان من اللّازم على هذا أن يتعرّض في الكلام لتوبتهم

٢٣٤

فيختصّ حينئذ قوله:( ثمّ يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم ) على الكفّـار الّذين أسلموا بعد منهم، ولا أثر من ذلك في الكلام ولا قرينة تخصّ قوله:( ثمّ يتوب الله ) الخ بالكافرين الّذين أسلموا بعد، فافهم ذلك.

وثانياً: أنّ في ذلك غمضاً عن جميل المسعى والمحنة الحسنة الّتى امتحنّ بها اُولئك النفر القليل الّذين ثبتوا مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين تركه جموع المسلمين بين الأعداء وانهزموا فارّين لا يلوون على شئ، ومن المستبعد من دأب القرآن أن يهمل أمر من تحمّل محنة في ذات الله، وألقى نفسه في أشقّ المهالك ابتغاء مرضاته - وهو شاكر عليم - فلا يحمده ولا يشكر سعيه.

والمعهود من دأب القرآن أنّه إذا عمّ قوماً بعتاب أو توبيخ وذمّ، وفيهم من هو برئ من استحقاق اللوم أو العتاب أو طاهر من دنس الإثم والخطيئة ان يستثنيه منهم ويخصّه بجميل الذكر، ويحمده على عمله وإحسانه كما نراه كثيراً في الخطابات الّتى تعمّم اليهود أو النصارى عتاباً أو ذمّاً وتوبيخاً فإنّه تعالى يخاطبهم بما يخاطب ويوبّخهم وينسب إليهم الكفر باياته والتخلّف عن أوامره ونواهيه، ثمّ يمدح منهم الأقلّين الّذين آمنوا به وبآياته وأطاعوه فيما أراد منهم.

وأوضح من ذلك ما يتعرّض من الآيات لوقعة اُحد وتمتنّ على المؤمنين بما أنزل الله عليهم من النصرة والكرامة، ويعاتبهم على ما أظهروه من الوهن والفشل ثمّ يستثنى الثابتين منهم على أقدام الصدق، ويعدهم وعداً حسناً إذ قال مرّة بعد مرّة:( وسيجزى الله الشاكرين ) آل عمران: ١٤٤،( وسنجزي الشاكرين ) آل عمران: ١٤٥.

ونجد مثله في ما يذكره الله سبحانه من أمر وقعة الأحزاب فإنّ في كلامه عتاباً شديداً لجمع من المؤمنين، وتوبيخاً وذمّاً للمنافقين والّذين في قلوبهم مرض حتّى قال فيما قال:( ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولاً ) الأحزاب: ١٥، ثمّ إنّه تعالى ختم القصّة بمثل قوله:( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً ) الأحزاب: ٢٣.

فما باله تعالى لم يتعرّض لحالهم في قصّة حنين، وليست باهون من غيرها، ولا

٢٣٥

خصّهم بشئ من الشكر، ولا حمدهم بما يمتنّون به من لطيف حمده تعالى كغيرهم في غيرها.

فهذا الّذى ذكرناه ممّا يقرّب إلى الاعتبار أن يكون المراد بالمؤمنين الّذين ذكر نزول السكينة عليهم هم الّذين ثبتوا مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا سائر المؤمنين ممّن رجع بعد الانكشاف فهم تحت شمول قوله:( ثمّ يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم ) يشمل من شملته العناية منهم كما يشمل من شملته العناية والتوفيق من كفّـار هوازن وثقيف ومن الطلقاء والّذين في قلوبهم مرض. هذا ما يهدى إليه البحث التفسيرىّ، وأمّا الروايات فلها شأنها وسيأتى طرف منها.

وأمّا ما ذكره من شهادة رجوعهم من فورهم حين سمعوا نداء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونداء العبّـاس فذلك ممّا لا يبطل ما قدّمناه من ظهور قوله تعالى:( ثمّ ولّيتم مدبرين ) إذا انضمّ إلى قوله:( إذا لقيتم الّذين كفروا زحفاً فلا تولّوهم الأدبار ) الآية في أنّ ما ظهر منهم في الوقعة من الفعل كان فراراً من الزحف فعلوه عن جبن أو تعمّد في خذلان أو عن قلق واضطراب وتزلزل.

وأمّا ما ذكره من الآيات الّتى تمدحهم وتذكر رضى الربّ عنهم واستحقاقهم جزيل الأجر من ربّهم. ففيه أنّ هذه المحامـد مقيّدة فيها بقيود لا يتحتّم معها لهم الأمر فإنّ الآيات إنّما تحمد من تحمده منهم لما به من نعوت العبوديّـة كالإيمان والإخلاص والصدق والنصيحة والمجاهدة الدينيّـة فالحمد باق ما بقيت الصفات، والوعد الحسن على اعتباره ما لبثت فيهم النعوت والأحوال الموجبه له فإذا زالت لحادثة أو خطيئة زال بتبعه.

وليس ما عندهم من مبادئ الخير والبركات بأعظم ولا أهمّ ممّا عند الأنبياء من صفة العصمة يستحيل معها صدور الذنب منهم، وقد قال الله تعالى بعد ثناء طويل عليهم:( ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ) الأنعام: ٨٨.

وقد قال تعالى قبال ما ظنّوا أنّهم مصونون عن ما يكرهونه من أقسام المجازاة كرامة لإسلامهم كما ظنّ نظيره أهل الكتاب:( ليس بأمانيّكم ولا أمانىّ أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به ) النساء: ١٢٣.

٢٣٦

والّذى ورد في بيعة الرضوان من قوله:( لقد رضى الله ) فإنّما رضاه تعالى من صفاته الفعليّـة الّتى هي عين أفعاله الخارجيّـة منتزعة منها فهو عين ما أفاض عليهم من الحالات الطاهرة النفسيّـة الّتى تستعقب بطباعها جزيل الجزاء وخير الثواب إن بقيت أعمالهم على ما هي عليها وإن تغيّرت تغيّر الرضى سخطاً والنعمة نقمة ولم ياخذ أحد عليه تعالى عهداً أن لا يخلف عهده فيحمله على السعادة والكرامة أحسن أو أساء، أطاع أو عصى، آمن أو كفر.

وليس رضى الربّ من صفاته الذاتيّـة الّتى يتّصف بها في ذاته فلا يعرضه تغيّر أو تبدّل ولا يطرء عليه زوال أو دثور.

قوله تعالى: ( ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) إلى آخر الآية السكينة - كما تقدّم - حالة قلبيّـة توجب سكون النفس وثبات القلب ملازمة لإزدياد الإيمان مع الإيمان ولكلمة التقوى الّتى تهدى إلى الورع عن محارم الله على ما تفسّرها الآيات.

وهى غير العدالة الّتى هي ملكة نفسانيّـة تردع عن ركوب الكبائر والإصرار على الصغائر فإنّ السكينة تردع عن الصغائر والكبائر جميعاً.

وقد نسب الله السكينة في كتابه إلى نفسه نسبة تشعر بنوع من الاختصاص كما نسب الروح إلى نفسه دون العدالة ووصفها بالإنزال فلها اختصاص عنديٌّ به تعالى بل ربّما يشعر بعض الآيات بأنّه عدّها من جنوده كقوله تعالى:( هو الّذى أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض ) الفتح: ٤.

وفي غير واحد من الآيات المشتملة على ذكر السكينة ذكر الجنود كقوله:( فأنزل الله سكينته عليه وأيّده بجنود لم تروها ) التوبة: ٤٠، وكما في الآية المبحوث عنها :( ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها ) .

والّذى يفهم من السياق أنّ هذه الجنود هي الملائكة النازلة إلى المعركة، أو أن يقال من جملتها الملائكة النازلة والّذى ينتسب إلى السكينة والملائكة أن يعذّب بهم الكفّـار ويسدّد ويسعد بهم المؤمنون كما اشتملت عليه آيات آل عمران القاصّة قصّة اُحد، و

٢٣٧

آيات في أوّل سورة الفتح فراجعها حتّى يتبيّن لك حقيقة الحال إن شاء الله تعالى.

وقد تقدّم في قوله تعالى:( فيه سكينة من ربّكم ) البقرة: ٢٤٨ في الجزء الثاني من الكتاب بعض ما يتعلّق بالسكينة الإلهيّـة من الكلام ممّا لا يخلو من نفع في هذا المقام.

قوله تعالى: ( ثمّ يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم ) قد تقدّم مراراً أنّ التوبة من الله سبحانه هي الرجوع إلى عبده بالعناية والتوفيق أوّلاً ثمّ بالعفو والمغفرة ثانياً، ومن العبد الرجوع إلى ربّه بالندامة والاستغفار، ولا يتوب الله على من لا يتوب إليه.

والإشارة في قوله:( من بعد ذلك ) على ما يعطيه السياق إلى ما ذكره في الآيتين السابقتين من خطيئتهم بالركون إلى غير الله سبحانه ومعصيتهم بالفرار والتولّى ثمّ إنزال السكينة وإنزال الجنود وتعذيب الّذين كفروا.

والملائم لذلك أن يكون الموصول في( من يشاء ) شاملاً للمسلمين والكافرين جميعاً فقد ذكر من الفريقين جميعاً ما يصلح لأن يتوب الله عليهم فيه إن تابوا، وهو من الكفّـار كفرهم ومن المسلمين خطيئتهم ومعصيتهم، ولا وجه لتخصيص التوبة على بعضهم مع ما في آيات التوبة من عموم الحكم وسعته ولم يقيّد في هذه الآية المبحوث عنها بما يوجب اختصاصها بأحد الفريقين: المسلمين أو الكافرين مع وجود المقتضى فيهما جميعاً.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما فسّر به بعضهم الآية مع قصر الإشارة على التعذيب إذ قال: إنّ معناها ثمّ يتوب الله تعالى بعد هذا التعذيب الّذى يكون في الدنيا على من يشاء من الكافرين فيهديهم إلى الإسلام وهم الّذين لم يحط بهم خطيئات جهالة الشرك وخرافاته من جميع جوانب انفسهم، ولم يختم على نفوسهم بالاصرار على الجحود والتكذيب أو الجمود على ما ألفوا بمحض التقليد. انتهى.

وقد عرفت أنّ تخصيص الآية بما ذكر والتصرّف في سائر قيوده كقصر الإشارة على التعذيب وغير ذلك ممّا لا دليل عليه البتّـة.

والوجه في التعبير بالاستقبال في قوله:( ثمّ يتوب الله ) الإشارة إلى انفتاح باب التوبة دائماً، وجريان العناية وفيضان العفو والمغفرة الإلهيّـة مستمرّاً بخلاف ما يشير

٢٣٨

إليه قوله:( فأنزل الله سكينته ) الآية، فإنّ ذلك اُمور محدودة غير جارية.

قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا إنّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) قال في المجمع: كلّ مستقذر نجس يقال: رجل نجس وامرأة نجس وقوم نجس لأنّه مصدر، وإذا استعملت هذه اللفظة مع الرجس قيل: رجس نجس - بكسر النون - قال: والعيلة الفقر يقال عال يعيل إذا افتقر. انتهى.

والنهى عن دخول المشركين المسجد الحرام بحسب المتفاهم العرفي يفيد أمر المؤمنين بمنعهم عن دخول المسجد الحرام، وفي تعليله تعالى منع دخولهم المسجد بكونهم نجساً اعتبار نوع من القذارة لهم كاعتبار نوع من الطهارة والنزاهة للمسجد الحرام، وهى كيف كانت أمر آخر وراء الحكم باجتناب ملاقاتهم بالرطوبة وغير ذلك.

والمراد بقوله:( عامهم هذا ) سنة تسع من الهجرة، وهى السنة الّتى أذن فيها علىّعليه‌السلام بالبراءة، ومنع طواف البيت عرياناً، وحجّ المشركين البيت.

وقوله:( وإن خفتم عيلة ) الآية، أي وإن خفتم في إجراء هذا الحكم أن ينقطعوا عن الحجّ، ويتعطّل أسواقكم وتذهب تجارتكم فتفتقروا وتعيلوا فلا تخافوا فسوف يغنيكم الله من فضله، ويؤمنكم من الفقر الّذى تخافونه.

وهذا وعد حسن منه تعالى فيه تطييب نفوس أهل مكّة ومن كان له تجارة هناك بالموسم، وكان حاضر العالم الإسلاميّ يبشّرهم يومئذ بمضمون هذا الوعد فقد كان الإسلام تعلو كلمته، وينتشر صيته حالاً بعد حال، وكانت عامّة المشركين في عتبة الاستئصال بعد إيذان براءة لم يبق لهم إلّا أربعة أشهر إلّا شرذمة قليلة من العرب كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاهدهم عند المسجد الحرام إلى أجل ما بعده من مهل فالجميع كانوا في معرض قبول الإسلام.

٢٣٩

( بحث روائي)

في الكافي عن علىّ بن ابراهيم عن بعض أصحابه ذكره قال: لمّا سمّ المتوكّل نذر إن عوفي أن يتصدّق بمال كثير فلمّا عوفي سأل الفقهاء عن حدّ المال الكثير فاختلفوا عليه فقال بعضهم: مائة ألف، وقال بعضهم: عشرة آلاف فقالوا فيه أقاويل مختلفة فاشتبه عليه الأمر.

فقال رجل من ندمائه يقال له صفوان: ألا تبعث إلى هذا الأسود فاسأله عنه؟ فقال له المتوكّل: من تعنى ويحك؟ فقال: ابن الرضا.

فقال له: وهو يحسن من هذا شيئاً؟ فقال: إن أخرجك من هذا فلى عليك كذا وكذا وإلّا فاضربني مائة مقرعة فقال المتوكّل: رضيت، يا جعفر بن محمود إذهب إلى أبى الحسن علىّ بن محمّـد فاسأله عن حدّ المال الكثير، فسأله فقال له: الكثير ثمانون.

فقال له جعفر بن محمود: يا سيّدى إنّه يسألنى عن العلّة فيه فقال له أبو الحسنعليه‌السلام : إنّ الله عزّوجلّ يقول:( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) فعددنا تلك المواطن فكان ثمانين.

أقول: ورواه القمّىّ أيضاً في تفسيره وبعض أصحابه الّذى ذكر في الرواية أنّه سمّاه هو محمّـد بن عمرو على ما ذكره في التفسير. ومعنى الرواية أنّ الثمانين من مصاديق الكثير بدلالة من الكتاب لا أنّ الكثير معناه الثمانون وهو ظاهر.

وفي المجمع ذكر أهل التفسير وأصحاب السير أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا فتح مكّة خرج منها متوجّها إلى حنين لقتال هوازن وثقيف في آخر شهر رمضان أو في شوّال في سنة ثمان من الهجرة، وقد اجتمع رؤساء هوازن إلى مالك بن عوف النصرىّ، وساقوا معهم أموالهم ونساءهم وذراريهم ونزلوا بأوطاس.

قال: وكان دريد بن الصمة في القوم، وكان رئيس جشم، وكان شيخاً كبيراً قد ذهب بصره من الكبر فقال: بأىّ واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس. قال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس، ولا سهل دهس، ما لى أسمع رغاء البعير ونهيق الحمير وخوار البقر وثغاء الشاة وبكاء

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

التي يحرم منهالعمرة التمتع - ومر بيانها - نعم، إذا كان المكلف في مكة وأراد الإتيان بالعمرة المفردة جاز له أن يحرم من أدنى الحلّ، كالحديبية والجعرانة والتنعيم، ولا يجب عليه الرجوع الى المواقيت والإحرام منها(١) ، ويستثنى من ذلك من أفسد عمرته المفردة بالجماع قبل السعي، فإنه يجب عليه الاحرام للعمرة المعادة من أحد المواقيت، ولايجزيه الاحرام من أدنى الحل على الاحوط، كما مر توضيحه في المسألة ٩٠.

مسألة ٣٩٩: لايجوز دخول مكة بل ولادخول الحرم إلا محرما(٢) ، فمن أراد الدخول فيهما في غير أشهر الحج وجب عليه

____________________

(١) فقد أحرم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد رجوعه من الطائف من الجعرانة.

(٢) لعدة من النصوص، ففي صحيحة ابن مسلم قال: سألت أبا جعفرعليه‌السلام هل يدخل الرجل الحرم (مكة) بغير إحرام ؟ قال: « لا، إلا مريضا او من به بطن » وفي صحيحة عاصم عنهعليه‌السلام : « يدخل الحرم احد إلا محرما ؟ قال: لا، إلا مريض أو مبطون » وفي مستطرفات السرائر نقلا عن كتاب جميل عن بعض اصحابه عن احدهماعليهما‌السلام في الرجل يخرج من الحرم الى بعض حاجته ثم يرجع من يومه، قال: « لابأس بأن يدخل بغير احرام» وفي مرسلة البختري وابان عن رجل عنهعليه‌السلام في الرجل يخرج

=

٣٦١

أن يحرم للعمرة المفردة، ويستثنى من ذلك من يتكرر منه الدخول والخروج لحاجة كالحطاب والحشاش ونحوهما(١) ، وكذلك من خرج من مكة بعد إتمامه أعمال عمرة التمتع والحج، أو بعد العمرة المفردة فإنه يجوز له العود إليها من دون إحرام قبل مضي الشهر الذي أدى فيه عمرته، وتقدم حكم الخارج من مكة بعد عمرة التمتع وقبل الحج في المسألة ١٠.

* مسألة ٤٠٠: إذا أتى بالعمرة المفردة نيابة عن الغير، وخرج من مكة ورجع قبل مضي الشهر الذي أدى فيه العمرة، فهل يجوز له

____________________

=

في الحاجة من الحرم، قال: « إن رجع في الشهر الذي خرج فيه دخل بغير إحرام، وإن دخل في غيره دخل بإحرام »، وما في المعتمد من أن المراد من دخول الحرم هو دخول مكة لعدم الريب في عدم وجوب الاحرام لمن كانت له حاجة في الحرم ولم يرد النسك، ودعوى أن القدسية والمزية والحرمة لمكة بخصوصها، خلاف ظاهر النصوص وإن القدسية والمزية لمكة أولا وبالذات وللحرم، وإلا ماوجه تسميته بذلك.

(١) كما هو مفاد بعض النصوص.

* اذا تكرر خروجه يوميا أو ثلاث او أربع مرات في الاسبوع لم يلزمه الاحرام للدخول.

٣٦٢

العود من دون إحرام، فيه إشكال والاحوط تجديد الاحرام(١) .

* مسألة ٤٠١: الظاهر أن دخول الحرم أو مكة بلا إحرام حرام حدوثا(٢) لابقاءً، فإذا دخلهما بغير إحرام عمداً او لعذر لايجب عليه الخروج فوراً.

مسألة ٤٠٢: من أتى بعمرة مفردة في أشهر الحج وبقي في مكة إلى يوم التروية وقصد الحج كانت عمرته متعة(٣) ، فيأتي بحج التمتع، ولافرق في ذلك بين الحج الواجب والمندوب.

* لكن كل ذلك بشرط عدم الخروج من مكة - ولو الى جدة - بعد الاتيان بالعمرة المفردة الى يوم التروية، فإذا خرج منها لاتكون متعة.

____________________

(١) اذ الفصل المعتبر بين العمرتين فيما اذا كان عن نفسه، مع امكان واحتمال شمول النصوص الدالة على عدم الحاجة الى الاحرام إذا رجع في نفس الشهر للمقام أيضا.

(٢) اذ هو غاية مايستفاد من النصوص فراجع.

(٣) كما هو مقتضى الروايات وقد مر بعضها.

٣٦٣

أحكام المصدود

مسألة ٤٠٣: المصدود: هو الذي منعه العدو أو نحوه من الوصول الى الاماكن المقدسة لأداء مناسك الحج أو العمرة بعد تلبسه بالإحرام.

مسألة ٤٠٤: المصدود في العمرة المفردة إذا كان سائقا للهدي جاز له التحلل من إحرامه بذبح هديه أو نحره في موضع الصد(١) .

وإذا لم يكن سائقا وأراد التحلل لزمه تحصيل الهدي وذبحه أونحره، ولايتحلل بدونه على الاحوط(٢) .

____________________

(١) ففي موثقة زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: المصدود يذبح حيث صد ويرجع صاحبه فيأتي النساء.

(٢) كما هو مذهب الاكثر كما في المدارك والمفاتيح والذخيرة والرياض، بل في الغنية والمنتهى إجماعنا عليه، لقوله تعالى ( وأتموا الحج والعمرة فان احصرتم فما استيسر من الهدي ) وموثقة زرارة المتقدمة، وفعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لما صده المشركون يوم الحديبية، وذهب والصدوقان وابن إدريس الى التحلل بدونه، لاختصاص الآية بالاحصار وعدم دلالتها صراحة على الوجوب، ومع التنزل يختص ذلك بمن ساق الهدي، وأما

=

٣٦٤

والاحوط لزوما ضم الحلق أو التقصير إلى الذبح أو النحر في كلتا الصورتين(١) .

____________________

=

موثقة زرارة وغيرها فكذلك تقيّد بما اذا ساق الهدي وإلا فيتخير بين الحلق والتقصير، كما يشير إليه مارواه علي بن ابراهيم بسند صحيح من أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه بنحر ماساقوه معهم من الابل وحلق رؤوسهم وأما من لم يسق فخيره بين الحلق والتقصير، فعن الصادقعليه‌السلام قال - في حديث طويل -: فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله تعظيماً للبدن رحم الله المحلّقين، وقال قوم لم يسوقوا البدن: يارسول الله والمقصرين ؟ لان من لم يسق هدياً لم يجب عليه الحلق، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثانياً رحم الله المحلقين الذين لم يسوقوا الهدي، فقالوا يارسول الله والمقصرين، فقال: رحم الله المقصرين»، ولعله منشأ الاحتياط والله العالم.

(١) تبعا للشهيدين في الدروس والروضة والمسالك جمعا بين الاخبار، ففي رواية حمران عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين صدّ بالحديبية قصّر وأحلّ ونحر ثم انصرف منها ولم يجب عليه الحلق حتى يقضي النسك، فأما المحصور فإنما يكون عليه التقصير.

وفي صحيحة رفاعة عن ابي عبد اللهعليه‌السلام قال: خرج الحسينعليه‌السلام معتمرا وقد ساق بدنة حتى انتهى الى السفيا فبرسم فحلق شعر رأسه ونحرها مكانه.

=

٣٦٥

وأما المصدود في عمرة التمتع، فإن كان مصدودا عن الحج ايضا فحكمه ماتقدم، وإلا - كما لو منع من الوصول الى البيت الحرام قبل الوقوفين خاصة - فلا يبعد انقلاب وظيفته الى حج الافراد(١) .

مسألة ٤٠٥: المصدود في حج التمتع إن كان مصدوداً عن الموقفين او عن الموقف بالمشعر خاصة، فالأحوط أن يطوف ويسعى ويحلق رأسه ويذبح شاة فيتحلل من إحرامه(٢) .

____________________

=

وفي موثقة الفضل بن يونس قال: سألته عن رجل عرض له سلطان فأخذه ظالما له يوم عرفة قبل أن يعرف، فبعث به إلى مكة فحبسه، فلما كان يوم النحر خلى سبيله كيف يصنع ؟ فقال: يلحق فيقف بجمع، ثم ينصرف الى منى فيرمي ويذبح ويحلق ولاشيء عليه، قلت: فإن خلى عنه يوم النفر كيف يصنع ؟ قال: هذا مصدود عن الحج إن كان دخل متمتعا بالعمرة الى الحج فليطف بالبيت اسبوعا، ثم يسعى اسبوعا ويحلق رأسه ويذبح شاة، فإن كان مفردا للحج فليس عليه ذبح ولاشيء عليه.

وعن الشيخ في النهاية وظاهر الشرائع والنافع، بل المنسوب الى الاكثر كما في الرياض عدم توقف التحلّل عليهما أصلا قصورا في مقتضى الادلة.

(١) لشمول بعض أدلة الانقلاب له كما لايخفي فراجع.

(٢) كما هو مقتضى موثقة الفضل المتقدمة فانها ظاهرة على التبدل الى العمرة المفردة إذ الطواف والسعي والحلق من اعمالها، ووجوب الذبح لالكونه عمرة مفردة حتى يشكل بعدم القائل وإنما تطبيقا لقولهعليه‌السلام

=

٣٦٦

وإن كان مصدودا عن الطواف والسعي فقط - بأن منع من الذهاب الى المطاف والمسعى - فعندئذ ان لم يكن متمكنا من الاستنابة وأراد التحلل، فالاحوط أن يذبح أو ينحر هديا ويضم إليه الحلق او التقصير(١) .

وإن كان متمكنا من الاستنابة فلا يبعد جواز الاكتفاء بها(٢) ، فيستنيب لطوافه وسعيه ويأتي هو بصلاة الطواف بعد طواف النائب.

وإن كان مصدودا عن الوصول الى منى لأداء مناسكها فوقتئذ إن كان متمكنا من الاستنابة استناب للرمي والذبح او النحر(٣) ، ثم حلق أو قصر ويبعث بشعره الى منى مع الإمكان، ويأتي ببقية المناسك.

____________________

=

في صحيحة زرارة «المصدود يذبح حيث صد»، وحيث ادعي الاجماع واتفاق الاصحاب كما في الجواهر على انه بالخيار بين التحلل بالذبح او البقاء على الاحرام حتى يفوت الموقفان ويتحلل بعمرة مفردة فالاحتياط في محله والله العالم.

(١) لصدق الصد حينئذٍ.

(٢) لحكومة أدلة الاستنابة على الصد كما لايخفي، وذهب في المعتمد الى قصور أدلة النيابة عن الشمول للمقام، مؤكداً كلامه بعدم المورد لعنوان المصدود لو قيل بشمولها، ولعل في كلامه مواضع للنظر والله العالم.

(٣) لتحقق العذر ومعه فعليه الاستنابة.

٣٦٧

وإن لم يكن متمكنا من الاستنابة سقط عنه الذبح والنحر فيصوم بدلا عن الهدي(١) ، كما يسقط عنه الرمي أيضا - وإن كان الاحوط الإتيان به فى السنة القادمة بنفسه إن حج او بنائبه إن لم يحج - ثم يأتي بسائر المناسك من الحلق أو التقصير وأعمال مكة، فيتحلل بعد هذه كلها من جميع مايحرم عليه حتى النساء من دون حاجة الى شيء آخر.

مسألة ٤٠٦: المصدود من الحج أو العمرة إذا تحلل من إحرامه بذبح الهدي لم يجزئه ذلك عنهما(٢) ، فلو كان قاصداً أداء حجة الإسلام فصُد عنها وتحلّل بذبح الهدي، وجب عليه الإتيان بها لاحقا إذا بقيت استطاعته أو كان الحج مستقراً في ذمته.

مسألة ٤٠٧: إذا صُدّ عن الرجوع إلى منى للمبيت ورمي الجمار لم يضره ذلك بصحة حجه(٣) ، ولايجري عليه حكم المصدود، فيستنيب للرمي إن امكنه في سنته، وإلا قضاه في العام القابل بنفسه إن حج أو بنائبه إن لم يحج على الاحوط الاولى(٤) .

____________________

(١) لاشتراط الذبح في منى، فتنتقل وظيفته الى فاقد الهدي.

(٢) اذ مقتضى ادلة الصدّ هو التحلل لا الاجزاء والاكتفاء والبدلية.

(٣) بلا خلاف في ذلك.

(٤) وقد تقدم فراجع.

٣٦٨

مسألة ٤٠٨: لافرق في الهدي المذكور بين أن يكون بدنة أو بقرة أو شاة، ولو لم يتمكن منه فالاحوط أن يصوم بدلا عنه عشرة أيام(١) .

مسألة ٤٠٩: إذا جامع المحرم للحج امرأته قبل الوقوف بالمزدلفة فوجب عليه إتمامه وإعادته - كما سبق في تروك الإحرام - ثم صُدّ عن الإتمام جرى عليه حكم المصدود(٢) ، ولكن تلزمه كفارة الجماع زائدا على هدي التحلل(٣) .

أحكام المحصور

مسألة ٤١٠: المحصور: هو الذي يمنعه المرض أو نحوه عن

____________________

(١) ففي صحيحة معاوية عنهعليه‌السلام في المحصور ولم يسق الهدي، قال: ينسك ويرجع، قيل: فإن لم يجد هدياً ؟ قال: يصوم » ووجه التوقف أن الصحيحة واردة في المحصور لا المصدود والقول بإشتراكهما في الاحكام مطلقا بحاجة الى دليل، مضافا الى مامر من تقريب عدم وجوب الهدي على المصدود في العمرة المفردة اذا لم يسق الهدي.

(٢) لوجوب إتمام الحجة المرتكب فيها الجرم، سواء قلنا بفسادها او أن الثانية عقوبة عليه.

(٣) عقوبة له.

٣٦٩

الوصول إلى الاماكن المقدّسة لأداء أعمال العمرة أو الحج بعد تلبسه بالإحرام.

مسألة ٤١١: المحصور إذا كان محصوراً في العمرة المفردة أو عمرة التمتع وأراد التحلّل، فوظيفته أن يبعث هدياً أو ثمنه ويواعد أصحابه أن يذبحوه أو ينحره بمكة في وقت معين، فإذا جاء الوقت قصّر أو حلق وتحلل في مكانه(١) .

وإذا لم يكن متمكناً من بعث الهدي أو ثمنه لفقد من يبعثه معه، جاز أن يذبح أو ينحر في مكانه ويتحلل(٢) .

____________________

(١) ففي صحيحة معاوية قال: سألت ابا عبداللهعليه‌السلام عن رجل أحصر فبعث بالهدي، فقال: « يواعد أصحابه ميعاداً، فان كان في حج فمحل الهدي يوم النحر، وإذا كان يوم النحر فليقصر من رأسه، ولايجب عليه الحلق حتى يقضي مناسكه، وإن كان عمرة فلينتظر مقدار دخول أصحابه مكة والساعة التي يعدهم فيها فإذا كان تلك الساعة قصر وأحل » ومثلها دلالة موثقة زرعة.

(٢) لعدة من النصوص التي ظاهرها ذبح الهدي محل الاحصار المحمولة على صورة تعذر بعثه الى مكة او منى، ففي صحيحة رفاعة عن ابي عبداللهعليه‌السلام قال: « خرج الحسينعليه‌السلام معتمراً وقد ساق بدنة حتى انتهى إلى السقيا فبرسم فحلق شعر رأسه ونحرها مكانه » وفي صحيحة

=

٣٧٠

وإن كان محصوراً في الحج، فوظيفته ماتقدم، إلا أن مكان الذبح أو النحر لهديه منى، وزمانه يوم النحر(١) .

وتحلل المحصور في الموارد المتقدمة إنما هو من غير النساء، وأما منها فلا يتحلل إلا بعد الإتيان بالطواف والسعي بين الصفا والمروة في حج أو عمرة(٢) .

مسألة ٤١٢: إذا مرض المعتمر فبعث هدياً ثم خف مرضه وتمكن

____________________

=

معاوية عنهعليه‌السلام في المحصور ولم يسق الهدي، قال: ينسك ويرجع، فإن لم يجد ثمن هدي صام.

(١) كما هو مقتضى صحيحة وموثقة معاوية وزرعة المتقدمتان.

(٢) تشهد له صحيحة معاوية عنهعليه‌السلام قال: « المحصور غير المصدود، وقال: المحصور هو المريض والمصدود هو الذي يرده المشركون كما ردوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس من مرض، والمصدود تحل له النساء والمحصور لاتحل له النساء »، وفي صحيحته الاخرى في حصر الحسينعليه‌السلام قال: أرأيت حين برىء من وجعه قبل أن يخرج الى العمرة حلت له النساء ؟ قال: لاتحل له النساء حتى يطوف بالبيت وبالصفا والمروة، قلت فما بال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين رجع من الحديبية حلّت له النساء ولم يطف بالبيت، قال: ليسا سواء، كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مصدودا والحسين محصوراً.

٣٧١

من مواصلة السير والوصول إلى مكة قبل أن يذبح أو ينحر هديه لزمه ذلك، فإن كان عمرته مفردة فوظيفته إتمامها ولاشيء عليه.

وإن كانت عمرة التمتع، فإن تمكن من اتمام أعمالها قبل زوال الشمس من يوم عرفة فلا إشكال(١) ، وإلا فالظاهر انقلاب حجه إلى الإفرد(٢) .

وكذلك الحال - في كلا الصورتين - لو لم يبعث بالهدي وصبر حتى خفّ مرضه وتمكن من مواصلة السير.

مسألة ٤١٣: إذا مرض الحاج فبعث بهديه، وبعد ذلك خف المرض، فإن ظن إدراك الحج وجب عليه الالتحاق(٣) ، وحينئذ فإن

____________________

(١) تدل عليه صحيحة زرارة عن ابي جعفرعليه‌السلام قال: إن أحصر الرجل بعث بهديه، فإذا أفاق ووجد في نفسه خفة فليمض إن ظن أنه يدرك الناس، فإن قدم مكة قبل أن ينحر الهدي فليقم على إحرامه حتى يفرغ من جميع المناسك، ولينحر هديه، ولاشيء عليه وإن قدم مكة وقد نحر هديه فإن عليه الحج من قابل والعمرة.

(٢) لكون عمرة التمتع مغياة بزوال الشمس يوم عرفة، فإذا لم يتمكن من أدائها قبل ذلك شملته أدلة الانقلاب المتقدمة في المسألة ١٣.

(٣) لوجوب اتمام النسك، والفرض انه متمكن، مضافا الى ظهور صحيحة زرارة المتقدمة.

٣٧٢

أدرك الموقفين أو الوقوف بالمشعر خاصة - حسبما تقدم - فقد أدرك الحج، فيأتي بمناسكه وينحر أو يذبح هديه(١) .

وإلا فإن لم يذبح أو ينحر عنه قبل وصوله انقلب حجه إلى العمرة المفردة(٢) ، وإن ذبح أو نحر عنه، قصر أو حلق وتحلل من غير النساء، وأما منها فلا يتحلل إلا أن يأتي بالطواف والسعي في حج أو عمرة(٣) .

مسألة ٤١٤: إذا أحصر الحاج من الطواف والسعي، بأن منعه المرض أو نحوه من الوصول الى المطاف والمسعى، جاز له أن يستنيب لهما(٤) ويأتي هو بصلاة الطواف بعد طواف النائب.

وإذا أحصر عن الذهاب الى منى وأداء مناسكها استناب للرمي والذبح(٥) ،

____________________

(١) وليس عليه الحج من قابل.

(٢) لعدة من النصوص الدالة على انقلاب الوظيفة الى العمرة المفردة عند عدم ادراك الحج مطلقا.

(٣) وقد مر في المسألة الثانية من الباب فراجع.

(٤) لعدة من النصوص، منها صحيحة حريز عن ابي عبداللهعليه‌السلام قال: المريض المغلوب والمغمى عليه يرمى عنه ويطاف عنه.

(٥) اذ المباشرة في الرمي شرط في ظرف القدرة، أما الذبح فتجوز

=

٣٧٣

ثم حلق أو قصر ويبعث بشعره إلى منى مع إلامكان(١) ، ويأتي بسائر المناسك فيتم حجه.

مسألة ٤١٥: إذا أحصر الرجل فبعث بهديه، ثم آذاه رأسه قبل أن يبلغ الهدي محله، جاز له ان يحلق، فإذا حلق وجب عليه أن يذبح شاة في محله أو يصوم ثلاثة أيام أو يطعم ستة مساكين، لكل مسكين مُدّان(٢) .

مسألة ٤١٦: المحصور في الحج أو العمرة إذا بعث بالهدي وتحلل من إحرامه لم يجزئه ذلك عنهما، فلو كان قاصداً أداء حجة الاسلام فأحصر، فبعث بهديه وتحلل، وجب عليه الإتيان بها لاحقا إذا بقيت الاستطاعة أو كان الحج مستقراً في ذمته(٣) .

____________________

=

الاستنابة مطلقا.

(١) وقد تقدم بيانه فراجع.

(٢) تدل عليه صحيحة زرارة عن ابي عبداللهعليه‌السلام قال: إذا أحصر الرجل فبعث بهديه فآذاه رأسه قبل أن ينحر هديه فانه يذبح شاة في المكان الذي أحصر فيه أو يصوم أو يتصدق على ستة مساكين والصوم ثلاثة أيام والصدقة نصف صاع لكل مسكين.

(٣) لصحيحة البزنطي قال: سألت أبا الحسنعليه‌السلام عن محرم انكسرت ساقه، أي شيء يكون لحاله ؟ وأي شيء عليه ؟ قال: هو حلال من

٣٧٤

مسألة ٤١٧: المحصور إذا لم يجد هديا ولاثمنه صام عشرة أيام بدلا منه(١) .

مسألة ٤١٨: إذا تعذّر على المحرم مواصلة السير إلى الأماكن المقدسة لأداء مناسك العمرة أو الحج لمانع آخر غير الصد والإحصار، فإن كان معتمراً بعمرة مفردة جاز له التحلل في مكانه بذبح هديه مع ضم الحلق أو التقصير إليه على الاحوط.

وكذلك إذا كان معتمراً بعمرة التمتع ولم يمكنه إدراك الحج أيضا، وإلا فالظاهر انقلاب وظيفته إلى حج الإفراد.

وإذا كان حاجا وقد تعذر عليه إدراك الموقفين أو الموقف في المشعر خاصة، فعليه أن يتحلل من إحرامه بعمرة مفردة.

____________________

=

كل شيء... قال: أصلحك الله ماتقول في الحج ؟ قال: لابد أن يحج من قابل » وفي صحيحة حمزة بن حمران أنه سألة أبا عبداللهعليه‌السلام عن الذي يقول: حلني حيث حبستني، فقال: هو حل حيث حبسه، قال أو لم يقل، ولايسقط الاشتراط عنه الحج من قابل » وفي صحيحة رفاعة عنهعليه‌السلام قال: سألته عن الرجل يشترط وهو ينوي المتعة فيحصر هل يجزيه أن لايحج من قابل ؟ قال: يحج من قابل » وغيرها من النصوص، مضافا الى أن أدلة الاحصار وكذا الصد هي للتحلل لا للاجزاء.

(١) لصحيحة معاوية المتقدمة والتي موردها المحصور فراجع.

٣٧٥

وإذا تعذر عليه الوصول الى المطاف والمسعى لأداء الطواف والسعي، أو لم يتمكن من الذهاب إلى منى للاتيان بمناسكها فحكمه ماتقدم في المسألة ٤١٤.

* مسألة ٤١٩: من أصابه عارض صحي اثناء ادائه لطواف العمرة المفردة فأرجع الى بلده، فإن كان بعد إتمام الشوط الرابع فلا يبعد الاجتزاء بالنيابة في بقية الاشواط وكذا في السعي ويأتي هو بصلاة الطواف بعد طواف النائب ويحلق أو يقصر بعد سعيه ويستنيب لطواف النساء ويأتي بصلاته، فيحل من إحرامه تماما، وأما إذا كان قبل ذلك ففي خروجه من الاحرام من دون العود الى مكة والاتيان باعمال عمرته تأمل وإشكال(١) .

* مسألة ٤٢٠: من اصابته سكتة قلبية أثناء ادائه طواف عمرة التمتع فان كان وضعه الصحي لايسمح له بالبقاء في مكة لتكميل مناسك عمرته ولو بالاستنابة ثم الاحرام للحج وادراك الوقوفين بالمقدار الذي يصح به الحج، فالظاهر جريان أحكام المحصور عليه، وإلا فان رجع الى بلده وكان ذلك باختياره فلا يبعد بطلان

____________________

(١) وقد تقدم في المسألة ٤٠ الجزم بوجوب الرجوع واكمال العمرة المفردة لمن تركها.

٣٧٦

إحرامه وإن كان آثما في ذلك(١) ، وأما اذا كان رجوعه من دون ارادته واختياره فالاقرب جريان حكم المصدود عليه.

* مسألة ٤٢١: إذا احرم لعمرة التمتع ثم اغمي عليه فان احتمل أن يفيق من غيبوبته ويدرك الحج - بأن يدرك اختياري المشعر أو اضطراريه مع اختياري عرفة أو اضطراريه - اتخذ الولي من ينوب عنه فى الطواف وصلاته والسعي(٢) ثم يقصر شيئا من شعره فيحل من احرام عمرته، وفي يوم التروية الاحوط أن يحرم عنه الولي - اي يلبي عنه - ويجنبه محرمات الاحرام، ويذهب الى الموقفين فإن افاق هناك فالاحوط أن يجدد الاحرام بنفسه ولو من موضعه ان لم يتمكن من الذهاب الى مكة(٣) ، فإن ادرك الحج - بإدراك ماتقدم - يأتي ببقية مناسكه، وإن عاد الى الغيبوبة قبل الاتيان بها استناب له الولي من

____________________

(١) راجع ماقلناه عند الشروع في كيفية الاحرام.

(٢) لدلالة جملة من النصوص على مشروعية الطواف عن المغمى عليه، وهو وفق مقتضى القاعدة، اذ الحكم الاولي أن يطوف الانسان بالبيت وبين الصفا والمروة بنفسه، فإن لم يقدر فبمعونة الاخرين إعانة ثم حملا، وإن لم يقدر طيف وسعي عنه.

(٣) وقد تقدم فيمن نسى او جهل الاحرام من مكة حتى خرج منها الى عرفات، فراجع.

٣٧٧

يأتي بها عنه، واما اذا لم يفق حتى فات عنه الوقوفان بطل حجه.

* مسألة ٤٢٢: إذا اتى بعمرة التمتع ثم عرض له مايوجب الخوف على نفسه من الاتيان بالحج أو خاف أن يصاب بضرر بليغ، فإن كان خوفه عقلائياً لم يجب عليه الاتمام(١) ، والاحوط ان يجعلها عمرة مفردة فيأتي بطواف النساء.

مسألة ٤٢٣: ذكر جماعة من الفقهاء: أن الحاج او المعتمر إذا لم يكن سائقا للهدي، واشترط في إحرامه على ربه تعالى أن يحله حيث حبسه، فعرض له عارض - من عدو أو مرض أو غيرهما - حبسه عن الوصول الى البيت الحرام أو الموقفين، كان أثر هذا الاشتراط أنه يحل بمجرد الحبس من جميع ما للتحلل من إحرامه، كما لايجب عليه الطواف والسعي للتحلل من النساء إذا كان محصوراً.

وهذا القول وإن كان لايخلو من قوة(٢) ، إلا أن الاحوط لزوما

____________________

(١) السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى اولاد الحسين وعلى اصحاب الحسين.

(٢) بل لعله المتعيّن، وإليه ذهب المرتضى وابن ادريس مع دعوى الاجماع، تمسكاً بصحيحة ذريح عن ابي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن رجل تمتع بالعمرة الى الحج، واحصر بعد ما أحرم، كيف يصنع ؟ قال: فقال:

=

٣٧٨

=

أو اشترط على ربه قبل أن يحرم أن يحله الله عند عارض عرض له من أمر الله؟ فقلت: بل قد اشترط ذلك، قال: فليرجع الى أهله حلالا لا احرام عليه، إن الله أحق من وفي بما اشترط عليه، قلت: افعليه الحج من قابل ؟ قال: لا » فهي دالة على التحلل بمجرد الاحصار بلا تعرض للهدي، إذ لو كان واجبا لذكرهعليه‌السلام لكونه في مقام البيان.

وصحيحة البزنطي قال: سألت ابا الحسنعليه‌السلام عن محرم انكسرت ساقه، أي شيء يكون حاله ؟ وأي شيء عله ؟ قال: هو حلال من كل شيء، فقلت: ومن النساء والثياب والطيب ؟ فقال: نعم من جميع ما يحرم على المحرم، قال: أما بلغك قول أبي عبداللهعليه‌السلام : حلني حيث حبستني لقدرك الذي قدرت عليّ، قلت: أصلحك الله ماتقول في الحج ؟ قال: لابد أن يحج من قابل.

ويويدهما ماورد في جملة من الصحاح في كتاب الاعتكاف من وجوب الاتمام اذا اعتكف يومين إلا اذا اشترط على ربه فله ان يفسخ، كصحيحة محمد بن مسلم وابي ولاد الحناط، وفي صحيحة ابي بصير عنهعليه‌السلام في حديث: وينبغي للمعتكف إذا اعتكف أن يشترط كما يشترط الذي يحرم» وفي صحيحة ابن يزيد عنهعليه‌السلام قال: واشترط على ربّك في اعتكافك كما تشترط في احرامك أن يحلك من اعتكافك عند عارض إن عرض لك من علة تنزل بك من أمر الله تعالى.

وقيل: أن فائدة الاشتراط جواز التحلل من غير تربص الى ان يبلغ الهدي محله، وهو ظاهر المحقق في الشرائح وصريحه في النافع، ويدفعه قوله عليه

=

٣٧٩

مراعاة ماسبق ذكره في المسائل المتقدمة في كيفية التحلل عند الحصر والصد، وعدم ترتيب الأثر المذكور على اشتراط التحلل.

***

إلى هنا فرغنا من واجبات الحج، فلنشرع الان في آدابه، وقد ذكر الفقهاء من الاداب مالاتسعه هذه الرسالة فنقتصر على يسير منها.

وليعلم أن استحباب جملة من المذكورات مبتنٍ على قاعدة

____________________

=

السلام « فليرجع الى أهله حلالا لا إحرام عليه ».

وقيل: أن فائدته سقوط الحج عنه فى العام القابل، وهو المحكي عن الشيخ في يالتهذيب، لذيل الصحيحة المتقدمة، وتقابلها عدة من الصحاح فلابد من رفع اليد عن ذيلها.

وقيل: أن الفائدة ادراك الثواب بذكره في عقد الاحرام، وهو الذي يظهر من الشهيد في المسالك قال: - بعد أن ذكر ان سقوط الهدي في غير السائق، وتعجيل التحلل فمخصوص بالمحصر دون المصدود، وسقوط القضاء فمخصوص بالمتمتع - ومن الجائز كونه تعبداً، أو دعاءً مأمورا به يترتب على فعله الثواب.

وذهب الشيخ وابن الجنيد والعلامة في المختلف والمنتهى الى عدم سقوط الهدي، تمسكا بإطلاق قوله تعالى ( فإن احصرتم فما استيسر من الهدي )، وفيه أنه مقيد بصحيحتي ذريح والبزنطي المتقدمين.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444