الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 97213 / تحميل: 6781
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ان علق الامر بزوال علة النهى... إلى غير ذلك (والتحقيق) أنه لا مجال للتشبث بموارد الاستعمال فانه قل مورد منها يكون خاليا عن قرينة على الوجوب أو الاباحة أو التبعية، ومع فرض التجريد عنها لم يظهر بعد كون عقيب الحظر موجبا لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه غاية الامر يكون موجبا لاجمالها غير ظاهرة في واحد منها الا بقرينة أخرى كما أشرنا (المبحث الثامن) الحق أن صيغة الامر مطلقا لا دلالة لها على المرة ولا التكرار، فان المنصرف عنها ليس الا طلب إيجاد الطبيعة المأمور بها فلا دلالة لها على أحدهما لا بهيئتها ولا بمادتها، والاكتفاء بالمرة فانما هو

______________________________

(قوله: إن علق النهي بزوال) كما في قوله تعالى: فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين، وقوله تعالى: فإذا تطهرن فأتوهن، وقوله تعالى: وإذا حللتم فاصطادوا (قوله: لا مجال للتشبث) اشارة إلى إبطال استدلال بعضهم على مدعاه ببعض موارد الاستعمال كالايات المتقدمة (وحاصله) أن الكلام في المقام في أن وقوع الامر عقيب الحظر هل هو من القرائن العامة التي لا يجوز العدول عن مقتضاها إلا بدليل الموجبة لظهور الصيغة في الاباحة مطلقا أو الوجوب أو رجوع الحكم السابق على النهي أو غير ذلك ؟ والاستعمال لا يدل على شئ من ذلك لامكان استناد الظهور فيه إلى قرينة خاصة غير الوقوع عقيب الحظر فلا يصح الاستناد إليه في اثبات الدعوى (قوله: ومع فرض) يعني لو فرض التجريد عن القرائن الخاصة لم يظهر أن الوقوع عقيب الحظر من القرائن الموجبة لظهور الصيغة في غير الوجوب الذي تكون ظاهرة فيه لولا الوقوع عقيب الحظر (قوله: لاجمالها) وعليه فلا تحمل على الوجوب بناء على وضعها له الا بناء على كون حجية أصالة عدم القرينة من باب التعبد لا من باب حجية الظهور

المرة والتكرار

(قوله: مطلقا) يعنى حيث لا يقيد بمرة أو تكرار (قوله: على المرة والتكرار) سيأتي منه شرحهما (قوله: لا بهيئتها ولا بمادتها) إذ

١٨١

لحصول الامتثال بها في الامر بالطبيعة كما لا يخفى (ثم) لا يذهب عليك أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا يدل الا على الماهية - على ما حكاه السكاكي - لا يوجب كون النزاع ههنا في الهيئة - كما في الفصول - فانه غفلة وذهول عن أن كون المصدر كذلك لا يوجب الاتفاق على أن مادة الصيغة لا تدل إلا على الماهية، ضرورة أن المصدر ليس مادة لسائر المشتقات بل هو صيغة مثلها

______________________________

الهيئة موضوعة وضع الحروف للنسبة الخاصة والمادة موضوعة لصرف الماهية لا بشرط، وكل من المرة والتكرار خارج عن مدلولهما (قوله: لحصول الامتثال) إذ الامتثال يحصل بوجود المأمور به فإذا كان المأمور به صرف الطبيعة وكان يتحقق بالمرة كانت امتثالا للامر، ومنه يظهر بطلان استدلال القائل بالمرة بصدق الامتثال بها (قوله: لا يذهب عليك) قال في الفصول: الحق أن هيئة الامر لا دلالة لها على مرة ولا على تكرار... إلى أن قال: وانما حررنا النزاع في الهيئة لنص جماعة عليه، ولان الاكثر حرروا النزاع في الصيغة وهي ظاهرة بل صريحة فيها، ولانه لا كلام في أن المادة وهي المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا تدل الا على الماهية من حيث هي على ما حكى السكاكي وفاقهم عليه... الخ فأشكل عليه المصنف (ره) بان الاتفاق على عدم دلالة المصدر المجرد الا على الماهية لا يدل على كون النزاع في المقام في الهيئة لا في المادة إذ المصدر ليس مادة للمشتقات التي منها صيغة الامر بل هو مشتق مثلها، والمادة هي الامر المشترك بينه وبينها حسبما حققه (أقول): ما في الفصول يرجع إلى أمرين أحدهما أن المصدر مادة للمشتقات وثانيهما ان الاتفاق على عدم دلالته على المرة والتكرار يقتضي الاتفاق على عدم دلالة مادة (افعل) عليه ويكون النزاع في مدلول الهيئة أما الاول فيمكن أن يكون جاريا على المشهور، وأما الثاني فلا غبار عليه لان المصدر إذا لم يدل على المرة والتكرار دل ذلك عدم دلالة مادته عليهما فيصح الاستدلال به على عدم دلالة مادة (افعل) عليهما فيلزم الاتفاق على الاول الاتفاق على الاخير (قوله: غفلة وذهول) قد عرفت أنه في محله (قوله: ضرورة أن)

١٨٢

كيف وقد عرفت في باب المشتق مباينة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنى ؟ فكيف بمعناه يكون مادة لها ؟ فعليه يمكن دعوى اعتبار المرة أو التكرار في مادتها كما لا يخفى (إن قلت): فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلا في الكلام (قلت): - مع أنه محل الخلاف - معناه أن الذى وضع اولا بالوضع الشخصي ثم بملاحظته وضع نوعيا أو شخصيا ساير الصيغ التى تناسبه مما جمعه معه مادة لفظ متصورة في كل منها ومنه بصورة ومعنى كذلك، هو المصدر أو الفعل فافهم (ثم) المراد بالمرة والتكرار هل هو الدفعة والدفعات أو الفرد والافراد ؟ والتحقيق أن يقعا بكلا المعنيين محل النزاع

______________________________

هذا لا يثبت الاشكال على الفصول إلا من جهة ظهور كلامه في كون المصدر مادة للمشتقات، وقد عرفت إمكان حمله على الاصطلاح المشهوري (قوله: فعليه يمكن) قد عرفت أنه لا يمكن (قوله: مع أنه محل) هذا لا دخل له في دفع السؤال إذ قول الكوفيين: ان الفعل هو الاصل في الاشتقاق أءكد في توجه الاشكال فتأمل (قوله: معناه أن) إذا كان هذا معنى كلامهم فليكن هو معنى كلام الفصول (قوله: جمعه معه) الضمير الاول راجع إلى (ما) التي هي عبارة عن سائر الصيغ والثاني راجع إلى (الذي) ويمكن العكس (قوله: ومعنى) معطوف على قوله: لفظ، يعني ومادة معنى متصورة في كل منها ومنه (قوله: هو المصدر) خبر أن (قوله: أو الفعل فافهم) لعله اشارة إلى وجوب حمل كلامهم على ما ذكر بقرينة دعوى الكوفيين ان الفعل هو الاصل إذ لا يراد منه أن الفعل مادة للمشتقات بالمعنى الحقيقي " ثم " ان الموجود في بعض النسخ الضرب على لفظة: وهو أولى (قوله: الدفعة والدفعات) الفرق بين الدفعة والفرد أن الدفعة تصدق على الافراد المتعددة الموجودة في وقت واحد ولا يصدق عليها أنها فرد واحد، وأن الفرد الموجود تدريجا مثل الكلام الممتد المتصل فرد واحد وليس دفعة فبينهما عموم من وجه كما بين الافراد والدفعات ايضا (قوله: والتحقيق أن يقعا) الذي استظهره في الفصول أن النزاع

١٨٣

وان كان لفظهما ظاهرا في المعنى الاول (وتوهم) أنه لو أريد بالمرة الفرد لكان الانسب بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمة للمبحث الآتي من أن الامر هل يتعلق بالطبيعة أو بالفرد ؟ فيقال عند ذلك: وعلى تقدير تعلقه بالفرد هل يقتضي التعلق بالفرد الواحد أو المتعدد أو لا يقتضي شيئا منهما ؟ ولم يحتج إلى إفراد كل منهما بالبحث - كما فعلوه - وأما لو أريد بها الدفعة فلا علقة بين المسألتين كما لا يخفى (فاسد) لعدم العلقة بينهما لو أريد بها الفرد أيضا فان الطلب - على القول بالطبيعة - إنما يتعلق بها باعتبار وجودها في الخارج ضرورة أن الطبيعة من حيث هي

______________________________

*

فيهما بالمعنى الاول، ونسب إلى القوانين كونه فيهما بالمعنى الثاني، والظاهر ان مراد المصنف (ره) امكان كون النزاع فيهما بالمعنيين لا تحقق النزاع فيهما بهما معا إذ ليس له وجه ظاهر (قوله: وان كان لفظهما) هذا من القرائن التي اعتمد عليها في الفصول لاثبات ما استظهره (قوله: وتوهم انه لو أريد) هذا التوهم للفصول والباعث له عليه ظهور لفظ الفرد المذكور في المسألتين بمعنى واحد وهو ما يقابل الطبيعة (قوله: فاسد لعدم العلقة) حاصله أن المراد بالفرد هنا غير المراد به في تلك المسألة إذ المراد به في تلك المسألة ما يتقوم بالخصوصية المميزة له عن بقية الافراد والمراد به هنا الوجود الواحد للمأمور به فان كان المأمور به هو الطبيعة يقع النزاع في أن صيغة الامر تدل على وجوب وجود واحد للطبيعة أو وجود متعدد لها أو مطلق وجودها فيتأتى النزاع على القول بتعلق الامر بالطبيعة بعين ما يتأتى به على القول بتعلقه بالفرد، والقرينة على إرادة هذا المعنى من الفرد جعله في قبال الدفعة (قوله: باعتبار وجودها) هذا ذكره المصنف (رحمه الله) تمهيدا لتأتي النزاع على القولين لا ردا على الفصول إذ لم يتوهم خلافه في الفصول كما يشهد به دعواه تأتي النزاع على القولين بناء على كون المراد الدفعة إذ لا يخفى أن القائل بالطبيعة لو كان مراده الطبيعة من حيث هي لا معنى لتأتى النزاع في المقام بكل معنى (قوله: ضرورة ان الطبيعة من) قد يقال: الماهية

١٨٤

ليست الا هي لا مطلوبة ولا غير مطلوبة، وبهذا الاعتبار كانت مرددة بين المرة والتكرار بكلا المعنيين فيصح النزاع في دلالة الصيغة على المرة والتكرار بالمعنيين وعدمها، أما بالمعنى الاول فواضح، وأما بالمعنى الثاني فلوضوح أن المراد من الفرد أو الافراد وجود واحد أو وجودات، وإنما عبر بالفرد لان وجود الطبيعة في الخارج هو الفرد غاية الامر خصوصيته وتشخصه - على القول بتعلق الامر بالطبايع - يلازم المطلوب وخارج عنه بخلاف القول بتعلقه بالافراد فانه مما يقومه (تنبيه) لا إشكال - بناء على القول بالمرة - في الامتثال وأنه لا مجال للاتيان بالمأمور به ثانيا على أن يكون أيضا به الامتثال فانه من الامتثال بعد الامتثال (وأما) على المختار من دلالته على طلب الطبيعة من دون دلالة على المرة ولا على التكرار فلا يخلو الحال إما أن لا يكون هناك إطلاق الصيغة في مقام البيان بل في مقام الاهمال أو الاجمال

______________________________

من حيث هي ليست الا هي، ويراد منه معنى أن كل ما هو خارج عنها فليس هو هي لا عينها ولا جزؤها، وبهذا المعنى يقال: الماهية من حيث هي لا موجودة ولا معدومة ولا واحد ولا كثير ولا غيرها، وقد يقال ذلك بمعنى أن الخارج عنها ليس عارضا لها بما هي هي بل بشرط الوجود، ويختص النفي بعوارض الوجود كالكتابة والحركة وبهذا المعنى يقال: الماهية من حيث هي لا كاتبة ولا متحركة ولا لا كاتبة ولا لا متحركة، فان الكتابة لما كانت في الرتبة اللاحقة للوجود كان نقيضها هو العدم في الرتبة اللاحقة له أيضا لوحدة رتبة النقيضين فجاز ارتفاع النقيضين في غير تلك الرتبة وحيث أن الطلب ليس من عوارض الماهية من حيث هي بل بشرط الوجود صح أن يقال: الماهية من حيث هي لا مطلوبة ولا لا مطلوبة فتأمل (قوله: وبهذا الاعتبار) أي اعتبار الوجود (قوله: في الامتثال) يعني يتحقق بالمرة (قوله: من الامتثال بعد الامتثال) يعني وهو ممتنع لان الامتثال فعل المأمور به وبالامتثال الاول يسقط الامر فلا يكون فعله ثانيا امتثالا وسيجئ له

١٨٥

فالمرجع هو الاصل، وإما أن يكون اطلاقها في ذاك المقام فلا اشكال في الاكتفاء بالمرة في الامتثال، وإنما الاشكال في جواز ان لا يقتصر عليها فان لازم اطلاق الطبيعة المأمور بها هو الاتيان بها مرة أو مرارا لا لزوم الاقتصار على المرة كما لا يخفى (والتحقيق) أن قضية الاطلاق انما هو جواز الاتيان بها مرة في ضمن فرد أو افراد فيكون ايجادها في ضمنها نحوا من الامتثال كايجادها في ضمن الواحد لا جواز الاتيان بها مرة ومرات فانه مع الاتيان بها مرة لا محالة يحصل الامتثال ويسقط به الامر فيما إذا كان امتثال الامر علة تامة لحصول الغرض الاقصى بحيث يحصل بمجرده فلا يبقى معه مجال لاتيانه ثانيا بداعي امتثال آخر أو بداعي أن يكون الاتيانان امتثالا واحدا لما عرفت من حصول الموافقة باتيانها وسقوط الغرض معها وسقوط الامر بسقوطه فلا يبقى مجال لامتثاله أصلا، وأما إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض

______________________________

تتمة (قوله: فالمرجع هو الاصل) يعني الاصل العملي فلو تردد الامر بين الطبيعة والتكرار فالاصل البراءة عن وجوب الزائد على المرة مع تعدد الوجود أما مع اتصاله - بناء على تحقق التكرار به - فاستصحاب الوجوب هو المرجع، ولو تردد بين الطبيعة والمرة فلا أثر للشك، ولو تردد بين المرة والتكرار والطبيعة فالحكم كما لو تردد بين الطبيعة والتكرار، وكذا لو تردد بين المرة والتكرار، وربما يختلف الاصل باختلاف تفسير المرة من حيث كونها لا بشرط أو بشرط لا فلاحظ (قوله: في ذاك المقام) أي في مقام البيان (قوله: في الاكتفاء بالمرة) لصدق الطبيعة على المرة (قوله: في جواز ان لا يقتصر) يعني في جواز الاتيان ثانيا بقصد امتثال الامر لا مجرد الاتيان ثانيا بلا قصد الامر فانه لا ريب في جوازه (قوله: أو مرارا) فيجوز الاتيان ثانيا وثالثا بقصد الامتثال (قوله: فرد أو أفراد) يعني افرادا دفعية (قوله: فانه مع الاتيان بها) هذا تعليل لعدم كون مقتضى الاطلاق جواز الاتيان زائدا على المرة، ومرجعه إلى ابداء المانع العقلي عن ثبوت

١٨٦

كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضأ فأتى به ولم يشرب أو لم يتوضأ فعلا فلا يبعد صحة تبديل الامتثال باتيان فرد آخر أحسن منه بل مطلقا كما كان له ذلك قبله على ما يأتي بيانه في الاجزاء (المبحث التاسع) الحق انه لا دلالة للصيغة

______________________________

اطلاق المذكور لان الوجود الاول إذا كان علة تامة لسقوط الغرض كان علة تامة لسقوط الامر ايضا فيمتنع كون الوجود اللاحق موضوعا للامر كي يجوز الاتيان به بقصد امتثال الامر، وإذا امتنع كون الاتيان الثاني موضوعا للامر امتنع ان يكون اطلاق الصيغة شاملا للمرة والمرات " أقول ": يمكن منع الاطلاق المذكور مع قطع النظر عن المانع العقلي وذلك لان اطلاق المادة يقتضي أن يكون المراد بها صرف الوجود الصادق على القليل والكثير وهو لا ينطبق على الوجود اللاحق فانه وجود بعد وجود لا صرف الوجود الذي هو بمعنى خرق العدم فتأمل، وأما المانع الذي ذكره فهو يتوقف على امتناع التخيير بين الاقل والاكثر بكل وجه، وسيأتي الكلام فيه (قوله: كما إذا امر بالماء ليشرب) الغرض من الامر باحضار الماء: تارة يكون مجرد تمكن الآمر من شربه ولا ريب في حصوله بمجرد احضاره، واخرى يكون هو الشرب الفعلي فيشكل الامتثال ثانيا من جهة امتناع بقاء الامر مع حصول موضوعه الذي هو صرف الاحضار، فلا بد اما من الالتزام بأن موضوع الامر ليس مطلق الاحضار بل الاحضار المترتب عليه الشرب، والباعث على هذا الالتزام لزوم المساواة عقلا بين الغرض وموضوع الامر سعة وضيقا لامتناع التفكيك بينهما، وعليه فلا يتعين الاحضار الحاصل لان يكون مأمورا به الا بعد ترتب الغرض عليه، ولازمه ان المكلف في مقام الامتثال انما يأتي بالاحضار الاول رجاء كونه مأمورا به لا بقصد ذلك، وحينئذ فللمكلف الاتيان ثانيا وثالثا بهذا القصد بعينه ولا يكون فرق بين الوجود الاول وبقية الوجودات اللاحقة في كيفية الامتثال لكن لازم ذلك القول بالمقدمة الموصلة، واما من الالتزام بأن الغرض كما يبعث إلى الامر اولا بالاحضار يبعث ثانيا إلى صرف الاحضار المنطبق على بقاء الفرد الاول واحضار فرد آخر إذ لا يتعين للدخل في

١٨٧

لا على الفور ولا على التراخي (نعم) قضية إطلاقها جواز التراخي والدليل عليه تبادر طلب ايجاد الطبيعة منها بلا دلالة على تقيدها باحدهما فلا بد في التقييد من دلالة أخرى كما ادعي دلالة غير واحد من الآيات على الفورية، وفيه منع الضرورة أن سياق آية: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) وكذا آية: (واستبقوا الخيرات) انما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة والاستباق إلى الخير من دون استتباع تركهما للغضب والشر ضرورة أن تركهما لو كان مستتبعا للغضب والشر كان البعث بالتحذير عنهما أنسب كما لا يخفى " فافهم " مع لزوم كثرة تخصيصه في المستحبات وكثير من الواجبات بل أكثرها فلا بد من حمل الصيغة فيهما على خصوص الندب أو مطلق الطلب ولا يبعد دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق وكان ما ورد من الآيات والروايات في مقام البعث نحوه ارشادا إلى ذلك كالآيات والروايات الواردة في البعث على اصل الاطاعة فيكون الامر فيها لما يترتب على المادة بنفسها ولو لم يكن

______________________________

الغرض الفرد الاول بخصوصه بمجرد وجوده بل كما لم يتعين أولا قبل وجوده لم يتعين بعد وجوده، ولازم ذلك الالتزام باوامر طولية بحسب الزمان مادام الغرض باقيا ويكون المراد من بقاء الامر هذا المعنى لا بقاء الامر الشخصي بحدوده لامتناع بقائه بحصول موضوعه فتأمل جيدا.

الفور والتراخى

(قوله: لا على الفور ولا على) كما هو المشهور وعن الشيخ (ره) وجماعة القول بالفور، وعن السيد (ره) الاشتراك بين الفور والتراخي، وعن آخرين التوقف، والتحقيق الاول ويظهر ذلك بملاحظة ما تقدم في المرة والتكرار (قوله: قضية اطلاقها) يعني اطلاق المادة بالاضافة إلى الزمان (قوله: تبادر طلب) يعني ولو كان الوجه في التبادر مقدمات الاطلاق (قوله: ضرورة ان تركهما) يعني أن ظاهر تعليق المسارعة والاستباق بالمغفرة والخير كون تركهما

١٨٨

هناك أمر بها كما هو الشأن في الاوامر الارشادية " فافهم " (تتمة) بناء على القول بالفور فهل قضية الامر الاتيان فورا ففورا بحيث لو عصى لوجب عليه الاتيان به فورا ايضا في الزمان الثاني أولا ؟ وجهان مبنيان على أن مفاد الصيغة - على هذا القول - هو وحدة المطلوب

______________________________

لا ينافي تحقق المغفرة والخير كما هو الحال في كل فعل متعلق بمفعوله، ولازم ذلك عدم وجوب المسارعة والاستباق والا كان تركهما موجبا للغضب والشر كما هو شأن ترك الواجب وهو خلف، بل كان الانسب حينئذ أن يقال: احذروا من الغضب والشر بالمسارعة والاستباق، لا التعبير بما في الآية، إلا أن يقال: ان الغضب الحاصل بترك المسارعة لا يضاد المغفرة التي هي موضوع المسارعة فوجوب المسارعة لا ينافي كون تركها لا يؤدي إلى الغضب بل إلى المغفرة، وكذا الحال في الآية الاخرى، ولكن هذا لو سلم لا ينافي ظهور السياق فيما ذكره المصنف (ره) فتأمل جيدا (والاولى) أن يقال: المغفرة في الآية الاولى يراد منها سببها وهو الاطاعة وكما يمتنع اخذ الاطاعة قيدا للواجب الشرعي يمتنع أخذ المسارعة إليها كذلك وكما أن الامر بالاطاعة ارشادي كذلك الامر بالمسارعة فيها، مع أن الآية على تقدير دلالتها على وجوب المسارعة لا تدل على تقييد الواجب بالفورية بل هي على خلاف ذلك أدل لان مادة المسارعة إلى الشئ إنما تكون فيما هو موسع كما لا يخفى، وكذا الحال في الآية الاخرى على تقدير كون المراد من الخيرات الخيرات الاخروية كما هو الظاهر، ولعله إلى بعض ما ذكرنا اشار بقوله: فافهم (قوله: الارشادية فافهم) لعله اشارة إلى لزوم الالتزام به لما عرفت، (قوله: فهل قضية الامر) ينبغي ان يجعل الاحتمال ثلاثي الاطراف فيقال: هل ظاهر الامر الاتيان به فورا فلو تركه عصى وسقط الامر أو الاتيان به فورا على نحو لو تركه في الزمان الاول عصى في ترك الفورية وبقي الامر بصرف الطبيعة أو الاتيان به فورا ففورا فلو تركه في الزمان الاول عصى ووجب الاتيان به بعد ذلك

١٨٩

أو تعدده ولا يخفى أنه لو قيل بدلالتها على الفورية لما كان لها دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدده فتدبر جيدا

الفصل الثالث

الاتيان بالمأمور به على وجهه يقتضى الاجزاء في الجملة بلا شبهة، وقبل الخوض في تفصيل المقام وبيان النقض والابرام ينبغي تقديم أمور (أحدها) الظاهر ان المراد من (وجهه) في العنوان هو النهج الذى ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعا

______________________________

فورا أيضا... وهكذا، ومبنى الاحتمال الاول ان الفورية في الزمان الاول مقومة لاصل المصلحة فتفوت بفوتها وهذا هو المراد من وحدة المطلوب، ومبنى الثاني ان يكون مصلحتان احداهما قائمة بذات الفعل مطلقا والاخرى قائمة بالفورية في الزمان الاول لا غير، ومبنى الثالث كذلك الا ان مصلحة الفورية ذات مراتب مختلفة يكون ترك الفورية في كل زمان مفوتا لمرتبة من مصلحتها لا لاصلها كما هو مبنى الثاني (قوله: أو تعدده) قد عرفت ان تعدده على نحوين يكونان مبنيين لاحتمالين (قوله: لو قيل بدلالتها على) اما لو كان الدليل على الفورية غير الصيغة فيختلف باختلاف تلك الادلة، وفي المعالم بنى القول بالسقوط على الاستناد لغير الآيتين والقول بعدمه على الاستناد اليهما، ولا يخلو من تأمل ليس هذا محل ذكره والله سبحانه اعلم، ثم انه حيث كان اطلاق يعتمد عليه في نفي الفور والتراخي فلا اشكال واما إذا لم يكن اطلاق كذلك فالمرجع الاصل فلو كان التردد بين الفور والتراخي فالواجب الجمع بين الوظيفتين للعلم الاجمالي بالتكليف باحدهما، ولو كان بين الفور والطبيعة فالمرجع اصل البراءة لو كان وجوب الفورية على نحو تعدد المطلوب ولو كان بنحو وحدة المطلوب فالحكم هو الحكم مع الشك بين الاقل والاكثر، وكذا الحكم لو كان التردد بين الطبيعة والتراخي والله سبحانه أعلم

١٩٠

وعقلا مثل أن يؤتى به بقصد التقرب في العبادة، لا خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا فانه عليه يكون (على وجهه) قيدا - توضيحيا - وهو بعيد - مع أنه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع بناء على المختار كما تقدم من ان قصد القربة من كيفيات الاطاعة عقلا لا من قيود المأمور به شرعا، ولا الوجه المعتبر عند بعض الاصحاب فانه - مع عدم اعتباره عند المعظم، وعدم اعتباره عند من اعتبره إلا في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات، لا وجه لاختصاصه به بالذكر على تقدير الاعتبار فلا بد من ارادة ما يندرج فيه من المعنى وهو ما ذكرناه كما لا يخفى

______________________________

الكلام في الاجزاء

(قوله: مثل ان يؤتى به) بيان للنهج اللازم عقلا بناء على خروج قصد التقرب عن موضوع الامر (قوله: لا خصوص) معطوف على النهج وفيه تعريض بما قد يظهر من عبارة التقريرات فتأملها (قوله: قيدا توضيحيا) لان ذكر المأمور به يغني عنه ثم إن كون القيد توضيحيا لازم للقائلين بأن قصد التقرب داخل في المأمور به (قوله: مع انه يلزم خروج) إذ لا إشكال في عدم الاجزاء لو كان المأمور به في العبادات فاقدا لقصد التقرب وان كان واجدا لجميع ما يعتبر فيه شرعا (قوله: بناء على المختار) أما على القول بكون قصد التقرب قيدا للمأمور به فهي داخلة في محل النزاع لدخولها في العنوان ويكون عدم الاجزاء مع فقد التقرب لعدم الاتيان بالمأمور به شرعا (قوله: ولا الوجه المعتبر) يعني الوجوب والندب (قوله: عند المعظم) فلا وجه لذكره في العنوان في كلام المعظم إلا أن يكون المقصود من ذكره الاحتياط في ذكر القيود لكنه بعيد (قوله: لا مطلق الواجبات) فلا وجه لاخذه قيدا في دعوى الاجزاء مطلقا (قوله: لاختصاصه) يعني من دون سائر القيود المعتبرة في الاطاعة مثل التقرب والتمييز إلا أن يدعى الاكتفاء به عنهما على بعض

١٩١

(ثانيها) الظاهر ان المراد من الاقتضاء ههنا الاقتضاء بنحو العلية والتأثير لا بنحو الكشف والدلالة، ولذا نسب إلى الاتيان لا إلى الصيغة (ان قلت): هذا إنما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره وأما بالنسبة إلى أمر آخر كالاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري أو الظاهرى بالنسبة إلى الامر الواقعي فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره بنحو يفيد الاجزاء أو بنحو آخر لا يفيده (قلت): نعم لكنه لا ينافى كون النزاع فيها كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدم غايته ان العمدة في سبب الاختلاف فيهما انما هو الخلاف في دلالة دليلهما هل انه على نحو يستقل العقل بان الاتيان به موجب للاجزاء ويؤثر فيه وعدم دلالته، ويكون النزاع فيه صغرويا أيضا بخلافه في الاجزاء بالاضافة إلى أمره فانه لا يكون الا كبرويا لو كان هناك نزاع

______________________________

التقادير فتأمل (قوله: المراد من الاقتضاء ههنا) الواقع في القوانين والفصول وغيرهما في تحرير العنوان قولهم: الامر بالشئ هل يقتضي الاجزاء أولا ؟، وحيث أن ظاهر الاقتضاء فيه الكشف والدلالة كما في قولهم: الامر يقتضي الوجوب، والنهي يقتضي التحريم، نبه المصنف (ره) على ان الاقتضاء في العنوان المذكور في المتن ليس بمعنى الكشف والدلالة بل بمعنى العلية والتأثير كما في قولهم: الامر بالشئ يقتضي النهي عن ضده، والوجه في ذلك نسبة الاقتضاء في عنوان المتن إلى الاتيان وفي عنوان غيره إلى الامر وحيث أنه لا معنى لتأثير الامر في الاجزاء وجب حمله على الدلالة يعني يدل الامر على أن موضوعه واف بتمام المصلحة بخلاف الاتيان فان تأثيره في الاجزاء ظاهر إذ لولا كونه علة لحصول الغرض لما كان مامورا به (قوله: هذا إنما يكون) يعني أن حمل الاقتضاء على العلية إنما يصح بالاضافة إلى نفس الامر المتعلق بالماتي فان إجزاءه يلازم سقوط امره لا بالنسبة إلى الامر المتعلق بغيره إذ النزاع في الحقيقة يكون في دلالة الدليل فالاقتضاء فيه بمعنى الدلالة (قوله: نعم) يعني كما ذكرت من أن النزاع في دلالة الدليل (قوله: صغرويا) صورة القياس في المقام هكذا: المأمور به

١٩٢

كما نقل عن بعض (فافهم) (ثالثها) الظاهر ان الاجزاء ههنا بمعناه لغة وهو الكفاية وان كان يختلف ما يكفى عنه فان الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي يكفى فيسقط به التعبد به ثانيا، وبالامر الاضطراري أو الظاهرى الجعلي فيسقط به القضاء لا انه يكون ههنا اصطلاحا بمعنى اسقاط التعبد أو القضاء فانه بعيد جدا

______________________________

*

بالامر الاضطراري مأمور به بالامر الواقعي - ولو تنزيلا - والمامور به بالامر الواقعي يقتضي الاجزاء، ينتج: المأمور به بالامر الاضطراري يقتضي الاجزاء. والنزاع في هذه المسألة بالنسبة إلى الامر الواقعي في الكبرى وبالنسبة إلى الامر الاضطراري في الصغرى بالنسبة إلى الامر الواقعي، وفي الكبرى بالنسبة إلى أمر نفسه والمحكم في الكبرى مطلقا العقل والمحكم في الصغرى الدليل الشرعي فإذا كان الاقتضاء في الكبرى بمعنى العلية كان في النتيجة كذلك، ومنه يظهر أن إثبات الاجزاء في الفعل الاضطراري والظاهري بالنسبة إلى الامر الواقعي يتوقف على إثبات الصغرى والكبرى معا، وفي الفعل الواقعي على اثبات نفس الكبرى لانه عينها (قوله: فافهم) يمكن ان يكون اشارة إلى ان النزاع في مثل هذه الصغرى ليس نزاعا في المسألة الاصولية لان شأن المسائل الاصولية تنقيح الكبريات وأما الصغريات فوضيفة الفقيه، ولذا لم يتعرض في هذا المبحث لصغريات الافعال الاضطرارية والظاهرية تفصيلا فلاحظ (قوله: الظاهر ان الاجزاء) قد تضمنت جملة من العبارات كون الاجزاء له معنيان (احدهما) إسقاط التعبد بالفعل ثانيا (وثانيهما) إسقاط القضاء، وأن المراد هنا أي المعنيين ؟ وقد دفع المصنف (ره) ذلك - تبعا للتقريرات - بان لفظ الاجزاء لم يستعمل في المقام إلا بمعناه اللغوي وهو الكفاية غاية الامر أن ما يكفي عند الماتي به تارة يكون هو التعبد به ثانيا فيكون مسقطا للتعبد به واخرى الامر به قضاء فيكون مسقطا للقضاء لا أن له معنى اصطلاحيا ليتردد في أنه إسقاط التعبد أو إسقاط القضاء (قوله: يكفي فيسقط) يعنى يكفي في حصول الغرض فلا يحتاج إلى التعبد به ثانيا لتحصيله (قوله: فيسقط به) يعنى يكفي أيضا في حصول

١٩٣

(رابعها) الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار لا يكاد يخفى، فان البحث ههنا في ان الاتيان بما هو المأمور به يجزئ عقلا بخلافه في تلك المسألة فانه في تعيين ما هو المأمور به شرعا بحسب دلالة الصيغة بنفسها أو بدلالة اخرى (نعم) كان التكرار عملا موافقا لعدم الاجزاء لكنه لا بملاكه، وهكذا الفرق بينها وبين مسألة تبعية القضاء للاداء فان البحث في تلك المسألة في دلالة الصيغة على التبعية وعدمها بخلاف هذه المسألة فانه كما عرفت في ان الاتيان بالمأمور يجزئ عقلا عن اتيانه ثانيا اداء أو

______________________________

*

الغرض فلا يثبت الامر بالقضاء ثم إن إجزاء المأمور به الواقعي لما كان بلحاظ الامر به ناسب التعبير باسقاط التعبد به ثانيا وإجزاء المأمور به بالامر الاضطراري والظاهري لما كان بلحاظ الامر به قضاء ناسب التعبير باسقاط القضاء (قوله: الفرق بين هذه) قد يتوهم أن القول بالمرة قول بالاجزاء والقول بالتكرار قول بعدم الاجزاء (قوله: بما هو المأمور به) يعني بعد الفراغ عن تعيين تمام المأمور به (قوله: فانه في تعيين) وحينئذ فيكون النزاع في الاجزاء مترتبا على النزاع في المرة والتكرار لا أن النزاع فيهما نزاع في الموضوع والنزاع فيه نزاع في الحكم (قوله: بحسب دلالة) يعني فيكون النزاع في أمر لفظي (قوله: عملا) متعلق بقوله: موافقا، يعني هما من حيث العمل سواء لكنه موقوف على أن المراد بالتكرار فعل كل فرد ممكن بعد آخر أما لو كان المراد ما يشمل تكرار الصلاة اليومية وصوم رمضان كما يقتضيه استدلال بعضهم فلا ملازمة بينهما عملا ثم إن هذا بالنسبة إلى أمره أما بالنسبة إلى أمر غيره فلا مجال للتوهم ولا للموافقة عملا (قوله: لا بملاكه) إذ ملاك عدم الاجزاء عدم وفاء المأمور به بالغرض المقصود منه وملاك التكرار عدم حصول تمام المأمور به (قوله: وهكذا الفرق) يعني قد يتوهم أن القول بعدم الاجزاء عين القول بتبعية القضاء للاداء، والقول بالاجزاء قول بعدم تبعية القضاء للاداء (قوله: فان البحث حينئذ) يعني أن البحث في تبعية القضاء للاداء بحث في ان الامر بشئ في وقت

١٩٤

قضاء أولا يجزئ فلا علقة بين المسألة والمسئلتين اصلا (إذا) عرفت هذه الامور فتحقيق المقام يستدعي البحث والكلام في موضعين (الاول) أن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي بل بالامر الاضطراري أو الظاهري أيضا يجزئ عن التعبد به ثانيا، لاستقلال العقل بانه لا مجال مع موافقة الامر باتيان المأمور به على وجهه لاقتضائه التعبد به ثانيا. نعم لا يبعد ان يقال بأنه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبد به ثانيا بدلا عن التعبد به أولا لا منضما إليه كما اشرنا إليه في المسألة السابقة، وذلك فيما علم ان مجرد امتثاله لا يكون علة تامة لحصول الغرض وان كان وافيا به لو اكتفى

______________________________

*

هل يدل على لزوم فعله في خارج الوقت على تقدير عدم الاتيان به في الوقت بحيث يرجع إلى الامر به مطلقا لكونه في الوقت أولا يدل ؟ فيكون النزاع في تعيين المأمور به من حيث دلالة الامر، وأين هو من النزاع في المسألة ؟ (قوله: فلا علقة بين) أولا من جهة أن إحداهما متضمنة لتعيين نفس المأمور به والاخرى متضمنة لتعيين مقتضاه (وثانيا) من جهة أن النزاع في إحداهما لفظي وفى الاخرى عقلي " وثالثا " من جهة ان القول بعدم الاجزاء انما في ظرف الاتيان بالمأمور به والقول بالتبعية انما هو في ظرف عدم الاتيان به (قوله: بالامر الاضطراري) يعني بالاضافة إلى أمره (قوله: أو الظاهري) يعني بالاضافة إلى أمره (قوله: لاستقلال العقل بأنه) قد عرفت أن الامر الحقيقي لابد ان يكون حاكيا عن الارادة وأن الارادة حدوثا وبقاء تتوقف على العلم بالمصلحة المعبر عنها بالداعي تارة وبالغرض أخرى فالماتي به في الخارج إما أن لا يترتب عليه الغرض فلا يكون مامورا به فهو خلف أو يترتب عليه الغرض فبقاء الامر حينئذ إن كان بلا غرض فهو مستحيل كما عرفت وان كان عن غرض آخر غير الغرض الحاصل من الماتي به أولا فيلزمه أن يكون المأمور به فردين في الخارج يترتب على كل منهما غرض خاص فيكون الامر منحلا إلى أمرين يسقط كل منهما بالاتيان بمتعلقه وهو عين الاجزاء المدعى غاية الامر أنه لا يكون فعل أحدهما مسقطا لامر الآخر ومجزئا عنه ولكنه غير محل الكلام إذ الكلام - كما عرفت - في أن فعل المأمور به مجزئ عن الامر به ثانيا (قوله: لا منضما إليه)

١٩٥

به كما إذا اتى بماء امر به مولاه ليشربه فلم يشربه بعد فان الامر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد ولذا لو اهرق الماء واطلع عليه العبد وجب عليه اتيانه ثانيا كما لم يأت به أولا ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه والا لما اوجب حدوثه فحينئذ يكون له الاتيان بماء آخر موافق للامر كما كان له قبل اتيانه الاول بدلا عنه. نعم فيما كان الاتيان علة تامة لحصول الغرض فلا يبقى موقع التبديل كما إذا أمر باهراق الماء في فمه لرفع عطشه فاهرقه، بل لو لم يعلم أنه من أي القبيل فله التبديل باحتمال ان لا يكون علة فله إليه السبيل، ويؤيد ذلك بل يدل عليه ما ورد من الروايات في باب اعادة من صلى فرادى جماعة وان الله تعالى يختار احبهما إليه (الموضع الثاني) وفيه مقامان (المقام الاول) في ان الاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري هل يجزئ عن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي ثانيا بعد رفع الاضطرار في الوقت اعادة وفى خارجه قضاء أولا يجزئ ؟ تحقيق الكلام فيه يستدعي التكلم فيه (تارة) في بيان ما يمكن ان يقع عليه الامر الاضطراري من الانحاء وبيان ما هو قضية كل منها من الاجزاء وعدمه (وأخرى) في تعيين ما وقع عليه فاعلم انه يمكن

______________________________

*

قد يمكن أن يكون منضما إليه كما في الافراد الدفعية التى تكون امتثالا واحدا لعدم المرجح. فتأمل (قوله: وجب عليه) يعني بعين وجوبه أولا كما تقدم الكلام فيه (قوله: بدلا عنه) قد عرفت أنه يمكن أن يكون منضما إليه (قوله: فلا يبقى موقع) إذ الثاني مما يعلم بعدم ترتب الاثر عليه (قوله: ما ورد من الروايات) كرواية أبي بصير قلت لابي عبد الله (عليه السلام): أصلي ثم أدخل المسجد فتقام الصلاة وقد صليت فقال (عليه السلام): صل معهم يختار الله أحبهما إليه، ورواية هشام عنه (عليه السلام): في الرجل يصلي الصلاة وحده ثم يجد جماعة قال (عليه السلام): يصلي معهم ويجعلها الفريضة انشاء الله، ونحوها رواية حفص، وفي مرسلة الصدوق: يحسب له أفضلهما وأتمهما

١٩٦

ان يكون التكليف الاضطراري في حال الاضطرار كالتكليف الاختياري في حال الاختيار وافيا بتمام المصلحة وكافيا فيما هو المهم والغرض ويمكن ان لا يكون وافيا به كذلك بل يبقى منه شئ امكن استيفاؤه أو لا يمكن، وما أمكن كان بمقدار يجب تداركه أو يكون بمقدار يستحب، ولا يخفى انه ان كان وافيا به فيجزئ فلا يبقى مجال اصلا للتدارك لا قضاء ولا اعادة، وكذا لو لم يكن وافيا ولكن لا يمكن تداركه ولا يكاد يسوغ له البدار في هذه الصورة الا لمصلحة كانت فيه لما فيه من نقض الغرض وتفويت مقدار من المصلحة لولا مراعاة ما هو فيه من الاهم فافهم

______________________________

الامر الاضطراري

(قوله: ان يكون التكليف) يعني موضوعه (قوله: كالتكليف الاختياري) يعني كموضوعه (قوله: وما أمكن كان) يعني أن المقدار الباقي من المصلحة الذي يمكن استيفاؤه قسمان فانه تارة يكون واجب التدارك وأخرى يكون مستحب التدارك (أقول): ما لا يمكن استيفاؤه ايضا قسمان تارة يكون محرم التفويت وأخرى لا يكون كذلك فالاقسام خمسة وإنما لم يتعرض للقسمين المذكورين لعدم اختلافهما في الاجزاء وإن كانا يختلفان في جواز البدار وعدمه (قوله: ولا يخفى) شروع في حكم الاقسام من حيث الاجزاء (قوله: اصلا للتدارك) لان التدارك إنما يكون في ظرف الفوت والمفروض عدمه (قوله: ولا يكاد يسوغ) يعني حيث يكون الفائت مما يحرم تفويته أما إذا لم يكن فلا تحريم للبدار كما أن نسبة التحريم إلى البدار لا تخلو من مسامحة إذ المحرم هو تفويت ذلك المقدار والبدار ليس تفويتا ولا مقدمة له وإنما هو ملازم له فلا ينسب إليه التحريم إلا بالعرض والمجاز ولذا لم تفسد العبادة، ولعله إلى هذا اشار بقوله: فافهم (قوله: إلا لمصلحة) يعني إذا كانت مصلحة في البدار تصلح لمزاحمة المقدار الفائت لم يحرم التفويت الملازم للبدار حينئذ (قوله: لما فيه من)

١٩٧

(لا يقال): عليه فلا مجال لتشريعه ولو بشرط الانتظار لامكان استيفاء الغرض بالقضاء (فانه يقال): هذا كذلك لولا المزاحمة بمصلحة الوقت، وأما تسويغ البدار أو ايجاب الانتظار في الصورة الاولى فيدور مدار كون العمل بمجرد الاضطرار مطلقا أو بشرط الانتظار أو مع اليأس عن طرؤ الاختيار ذا مصلحة ووافيا بالغرض، وان لم يكن وافيا وقد امكن تدارك الباقي في الوقت أو مطلقا ولو بالقضاء خارج

______________________________

تعليل لعدم جواز البدار لكن عرفت أن البدار لا تفويت فيه لغرض المولى وإنما هو يلازم التفويت (قوله: فلا مجال لتشريعه) يعني إذا كان البدل الاضطراري غير واف بمصلحة المبدل الاختياري كيف جاز تشريعه ولو في آخر الوقت ؟ لان في تشريعه تفويتا للمصلحة (قوله: هذا كذلك) (أقول): تشريع الاضطراري إنما جاز لاشتماله على المصلحة مع عدم كونه مقدمة للتفويت فالمنع عن تشريعه غير ظاهر الوجه الا ان يكون المراد من تشريعه الامر بفعله في الوقت أو الاذن كذلك الملازمين للاذن في التفويت (قوله: لولا المزاحمة) يعنى انما يكون تفويت التشريع ممنوعا عنه حيث يؤدي إلى تفويت المصلحة مع عدم مزاحمتها بمصلحة أخرى وإلا فلو فرض كون خصوصية الفعل في الوقت مشتملة على مصلحة تزاحم المقدار الفائت لم يكن مانع عن تشريعه كما تقدم مثل ذلك في جواز البدار ثم إنه حيث كان في خصوصية الوقت مصلحة يتدارك بها ما يفوت جاز البدار أول الوقت إذا علم الاضطرار في تمام الوقت ولا موجب للانتظار فتأمل (قوله: في الصورة الاولى) وهي ما كان الاضطراري فيها وافيا بتمام المصلحة (قوله: الاضطرار مطلقا) وعليه يجوز البدار مطلقا (قوله: أو بشرط الانتظار) وعليه فلا يجوز البدار (قوله: أو مع اليأس) فلا يجوز البدار الا مع اليأس ثم إن هذه الاقسام لا تختص بالصورة الاولى بل تجري في الثانية أيضا إذ قد تكون خصوصية الوقت مطلقا ذات مصلحة تزاحم المقدار الفائت. وقد تكون بشرط الانتظار، وقد تكون بشرط اليأس وقد يكون بغير ذلك فيتبع كلا حكمه (قوله: وان لم يكن وافيا)

١٩٨

الوقت فان كان الباقي مما يجب تداركه فلا يجزئ فلا بد من ايجاب الاعادة أو القضاء وإلا فاستحبابه ولا مانع عن البدار في الصورتين غاية الامر يتخير في الصورة الاولى بين البدار والاتيان بعملين العمل الاضطراري في هذا الحال والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار أو الانتظار والاقتصار باتيان ما هو تكليف المختار، وفي الصورة الثانية يتعين عليه استحباب البدار واعادته بعد طروء الاختيار. هذا كله فيما يمكن أن يقع عليه الاضطراري من الانحاء، وأما ما وقع عليه فظاهر إطلاق دليله مثل قوله تعالى: (فان لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) وقوله (عليه السلام): (التراب أحد الطهورين ويكفيك عشر سنين) هو الاجزاء وعدم وجوب الاعادة أو القضاء ولا بد في ايجاب الاتيان به ثانيا من دلالة دليل بالخصوص (وبالجملة):

______________________________

*

معطوف على قوله: إن كان وافيا (قوله: فلا بد من ايجاب) لاجل تدارك الباقي (قوله: والا فاستحبابه) الظاهر أن أصل العبارة: والا فيجزئ، بمعنى عدم وجوب الاعادة والقضاء وان كان يستحب (قوله: ولا مانع عن) إذ لا تفويت فيهما (قوله: في الصورة الاولى) وهي ما يكون الباقي فيها مما يجب تداركه (قوله: وفى الصورة الثانية) وهي ما كان الباقي فيها مما يستحب تداركه (قوله: استحباب البدار) هذا الاستحباب بنحو الكلية غير ظاهر الوجه إلا أن يستند فيه إلى مثل آيتي المسارعة والاستباق فتأمل (قوله: وأما ما وقع عليه) التعرض لذلك ينبغي أن يكون في الفقه لا هنا إذ ليس لدليله ضابطة كلية فقد يختلف الدليل باختلاف قرينة الحال أو المقال من حيث الدلالة على الوفاء وعدمه وكأن مقصود المصنف (ره) الاشارة إلى ما يكون كالانموذج لادلة البدل الاضطراري (قوله: هو الاجزاء) أما اقصاء ما كان بلسان البدلية مثل: أحد الطهورين، ونحوه فظاهر، فان اطلاق البدلية يقتضي قيام البدل مقام المبدل منه بلحاظ جميع الآثار والخواص فلا بد من أن يفى بما يفي به المبدل من المصلحة بمرتبتها ويترتب عليه الاجزاء " فان قوله ": هذا الاطلاق

١٩٩

وان كان ثابتا الا انه معارض باطلاق دليل المبدل منه فانه يقتضي تعينه في جميع الاحوال ولازمه وجوب حفظ القدرة عليه الكاشف عن عدم وفاء البدل بمصلحته والا جاز تفويت القدرة عليه، وكما يمكن الجمع بينهما برفع اليد عن اطلاق دليل المبدل فيحمل على تعينه في ظرف القدرة عليه جاز رفع اليد عن اطلاق دليل البدل فيحمل على وفائه ببعض مراتب المصلحة التي يفي بها المبدل واذ لا مرجح يرجع إلى الاصل ويسقط الاطلاق عن المرجعية " قلت ": نسبة دليل البدل إلى دليل المبدل منه نسبة الحاكم إلى المحكوم لانه ناظر إليه موسع لموضوعه فيجب تقديمه عليه وجوب تقديم الحاكم على المحكوم. هذا كله بالنظر إلى طبع الكلام نفسه أما بملاحظة كون البدلية في حال الاضطرار فلا يبعد كون مقتضى الجمع العرفي كون البدل من قبيل الميسور للتام ولاجل ذلك نقول: لا يجوز تعجيز النفس اختيارا لانه تفويت للتام، فتأمل جيدا. وأما ما كان بلسان الامر فقد يشكل اطلاقه المقتضي للاجزاء إذ الامر انما يدل على وفاء موضوعه بمصلحة مصححة للامر به أما أنها عين مصلحة المبدل أو بعضها فلا يدل عليه الامر ولا يصلح لنفي وجوب الاعادة أو القضاء. نعم لو كان المتكلم في مقام بيان تمام ما له دخل في حصول الغرض المترتب على الاختياري مع عدم الامر بالاعادة أو القضاء أمكن الحكم بالاجزاء حينئذ اعتمادا على هذا الاطلاق المقامي المقدم على اطلاق دليل المبدل للحكومة، أو كون الامر واردا مورد جعل البدل فيجري فيه ما تقدم، اللهم إلا أن يقال: دليل المبدل ظاهر في التعيين في حال التمكن وعدمه ودليل البدل ظاهر في تعينه في حال عدم التمكن من المبدل وهما متنافيان للعلم بعدم تعينهما معا فيدور الامر (بين) رفع اليد عن ظهور دليل البدل في التعيين ودليل المبدل فيه بالاضافة إلى بعض مراتب المصلحة ولازمه الحكم بتعين المبدل في تحصيل تمام مرتبة الغرض والتخيير بينه وبين البدل في تحصيل بعضها ويترتب عليه عدم الاجزاء (وبين) رفع اليد عن اطلاق دليل المبدل بالاضافة إلى حالتي التمكن وعدمه وحيث أن الثاني أقرب يكون هو المتعين ولازم ذلك اشتراط وجوب المبدل بحال التمكن فيترتب

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

ويسدّ طريق الحكومة الدينيّـة العادلة دون البلوغ إلى غرضها من إصلاح الناس وتكوين مجتمع حىّ فعّال بما يليق بالإنسان الفطريّ المتوجّه إلى سعادته الفطريّة.

ولذا خصّ بالذكر من مفاسد عدم تديّنهم بدين الحقّ ما هو العمدة في إفساد المجتمع الصالح، وهو صدّهم عن سبيل الله ومنعهم الناس عن أن يسلكوه بما قدروا عليه من طرقه الظاهرة والخفيّة، ولا يزالون مصرّين على هذه السليقة منذ عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى اليوم.

قوله تعالى: ( والّذين يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم ) قال الراغب: الكنز جعل المال بعضه على بعض وحفظه، وأصله من كنزت التمر في الوعاء، وزمن الكناز وقت ما يكنز فيه التمر، وناقة كناز مكتنزة اللحم، وقوله:( والّذين يكنزون الذهب والفضّة ) أي يدّخرونها، انتهى.

ففى مفهوم الكنز حفظ المال المكنوز وادّخاره ومنعه من ان يجرى بين الناس في وجوه المعاملات فينمو نماءً حسناً، ويعمّ الانتفاع به في المجتمع فينتفع به هذا بالأخذ، وذاك بالردّ، وذلك بالعمل عليه وقد كان دأبهم قبل ظهور البنوك والمخازن العامّة أن يدفنوا الكنوز في الأرض ستراً عليها من أن تقصد بسوء.

والآية وإن اتّصلت في النظم اللفظىّ بما قبلها من الآيات الذمّة لأهل الكتاب والموبّخة لأحبارهم ورهبانهم في أكلهم أموال الناس بالباطل والصدّ عن سبيل الله إلّا أنّه لا دليل من جهة اللفظ على نزولها فيهم واختصاصها بهم البتّـة.

فلا سبيل إلى القول بأنّ الآية إنّما نزلت في أهل الكتاب وحرّمت الكنز عليهم، وأمّا المسلمون فهم وما يقتنون من ذهب وفضّة يصنعون بأموالهم ما يشاؤون من غير بأس عليهم.

والآية توعد الكانزين إيعاداً شديداً، ويهدّدهم بعذاب شديد غير أنّها تفسّر الكنز المدلول عليه بقوله:( الّذين يكنزون الذهب والفضّة ) بقوله:( ولا ينفقونها في سبيل الله ) فتدلّ بذلك على أنّ الّذى يبغضه الله من الكنز ما يلازم الكفّ عن إنفاقة في سبيل الله إذا كان هناك سبيل.

٢٦١

وسبيل الله على ما يستفاد من كلامه تعالى هو ما توقّف عليه قيام دين الله على ساقه وأن يسلم من انهدام بنيانه كالجهاد وجميع مصالح الدين الواجب حفظها، وشؤون مجتمع المسلمين الّتى ينفسخ عقد المجتمع لو انفسخت، والحقوق الماليّـة الواجبة التى أقام الدين بها صلب المجتمع الدينىّ، فمن كنز ذهباً أو فضّة والحاجة قائمة والضرورة عاكفة فقد كنز الذهب والفضّة ولم ينفقها في سبيل الله فليبشر بعذاب أليم فإنّه آثر نفسه على ربّه وقدّم حاجة نفسه أو ولده الاحتماليّـة على حاجة المجتمع الدينىّ القطعيّـة.

ويستفاد هذا ممّا في الآية التالية من قوله:( هذا ما كنزتم لأنفسكم ) فإنّه يدلّ على أنّ توجّه العتاب عليهم لكونهم خصّوه بأنفسهم وآثروها فيما خافوا حاجتها إليه على سبيل الله الّذى به حياة المجتمع الإنسانيّ في الدنيا والآخرة، وقد خانوا الله ورسوله في ذلك من جهة اُخرى وهى الستر والتغييب إذ لو كان ظاهراً جارياً على الأيدى كان من الممكن أن يامره ولىّ الأمر بإنفاقه في حاجة دينيّـة قائمة لكن إذا كنز كنزاً وأخفى عن الأنظار لم يلتفت إليه، وبقيت الحاجة الضروريّـة قائمة في جانب والمال المكنوز الّذى هو آلوسيلة الوحيدة لرفع الحاجة في جانب مع عدم حاجة من كنزه إليه.

فالآية إنّما تنهى عن الكنز لهذه الخصيصة الّتى هي إيثار الكانز نفسه بالمال من غير حاجة إليه على سبيل الله مع قيام الحاجة إليه، وناهيك أنّ الإسلام لا يحدّ أصل الملك من جهة الكمّـيّة بحدّ فلو كان لهذا الكانز أضعاف ما كنزه من الذهب والفضّة ولم يدّخرها كنزاً بل وضعها في معرض الجريان يستفيد به لنفسه اُلوفاً واُلوفاً، ويفيد غيره ببيع أو شراء أو عمل وغير ذلك لم يتوجّه إليه نهى دينىّ لأنّه حيث نصبها على أعين الناس وأجراها في مجرى النماء الصالح النافع لم يخفها ولم يمنعها من أن يصرف في سبيل الله فهو وإن لم ينفقها في سبيل الله إلّا أنّه بحيث لو أراد ولىّ أمر المسلمين لأمره بالإنفاق فيما يرى لزوم الإنفاق فيه فليس هو إذا لم ينفق وهو بمرأى ومسمع من ولىّ الأمر بخائن ظلوم.

فالآية ناظرة إلى الكنز الّذى يصاحبه الامتناع عن الإنفاق في الحقوق الماليّـة الواجبة لا بمعنى الزكاة الواجبة فقط بل بمعنى يعمّها وغيرها من كلّ ما يقوم عليه ضرورة

٢٦٢

المجتمع الدينىّ من الجهاد وحفظ النفوس من الهلكة ونحو ذلك.

وأمّا الانفاق المستحبّ كالتوسعة على العيال، وإعطاء المال وبذله على الفقراء في الزائد على ضرورة حياتهم فهو وإن أمكن أن يطلق عليه فيما عندنا الإنفاق في سبيل الله إلّا أنّ نفس أدلّته المبيّنة لاستحبابه تكشف عن أنّه ليس من هذا الإنفاق في سبيل الله المذكور في هذه الآية فكنز المال وعدم إنفاقه إنفاقاً مندوباً مع عدم سبيل ضروريّ ينفق فيه ليس من الكنز المنهىّ عنه في هذه الآية فهذا ما تدلّ عليه الآية الكريمة، وقد طال فيها - لما يتعلّق بها من بعض الأبحاث الكلاميّـة - المشاجرة بين المفسّرين، وسنورد فيه كلاماً بعد الفراغ عن البحث الروائيّ المتعلّق بالآيات إن شاء الله تعالى.

وقوله في ذيل الآية:( فبشّرهم بعذاب أليم ) إيعاد بالعذاب يدلّ على تحريمه الشديد.

قوله تعالى: ( يوم يحمى عليها في نار جهنّم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ) إلى آخر الآية. إحماء الشئ جعله حارّاً في الإحساس، والإحماء عليه الإيقاد ليتسخّن والإحماء فوق التسخين، والكىّ إلصاق الشئ الحارّ بالبدن.

والمعنى: أنّ ذلك العذاب المبشّر به في يوم يوقد على تلك الكنوز في نار جهنّم فتكون محماة بالنار فتلصق بجباههم وجنوبهم وظهورهم، ويقال لهم عند ذلك:( هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ) : فقد عاد عذاباً عليكم تعذّبون به.

ولعلّ تخصيص الجباه والجنوب والظهور لأنّهم خضعوا لها وهو السجدة الّتى تكون بالجباه ولاذوا إليها واللواذ بالجنوب، واتّكؤوا عليها والإتّكاء بالظهور، وقيل غير ذلك والله أعلم.

( بحث روائي)

في الكافي بإسناده عن حفص بن غياث عن أبى عبداللهعليه‌السلام - في حديث الأسياف الّذى ذكره عن أبيه قال: وأمّا السيوف الثلاثة المشهورة فسيف على مشركي العرب، قال الله

٢٦٣

عزّوجلّ:( اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) .

قال: والسيف الثاني على أهل الذمّة قال الله عزّوجلّ:( وقولوا للناس حسناً ) نزلت هذه الآية في أهل الذمّة ثمّ نسخها قوله عزّوجلّ:( قاتلوا الّذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الّذين اُوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) فمن كان منهم في دار الإسلام فلن يقبل منه إلا الجزية أو القتل وما لهم فئ وذراريهم سبى، وإذا قبلوا الجزية على انفسهم حرم علينا سبيهم، وحرمت أموالهم، وحلّت لنا مناكحتهم.

ومن كان منهم في دار الحرب حلّ لنا سبيهم وأموالهم ولم يحلّ مناكحتهم، ولم يقبل إلّا الدخول في دار الإسلام أو الجزية أو القتل.

وفيه بإسناده عن طلحة بن زيد عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: جرت السنّة أن لا تؤخذ الجزية من المعتوه ولا من المغلوب على عقله.

وفيه بإسناده عن أبى يحيى الواسطيّ عن بعض أصحابنا قال: سأل أبوعبداللهعليه‌السلام عن المجوس أكان لهم شئ؟ فقال: نعم أما بلغك كتاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أهل مكّة: أن أسلموا و إلّا نابذتكم بحرب فكتبوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أن خذ منّا الجزية ودعنا على عبادة الأوثان. فكتب إليهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّى لست آخذ الجزية إلّا من أهل الكتاب.

فكتبوا إليه - يريدون بذلك تكذيبه -: زعمت أنّك لا تأخذ الجزية إلّا من أهل الكتاب ثمّ أخذت الجزية من مجوس هجر. فكتب إليهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ لمجوس كان لهم نبىّ فقتلوه وكتاب أحرقوه. أتاهم نبيّهم بكتابهم في اثنى عشر ألف جلد ثور.

أقول: وفي هذه المعاني روايات اُخرى مودعة في جوامع الحديث واستيفاء الكلام في مسائل الجزية والخراج وغيرهما في الفقه.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن عساكر عن أبى اُمامة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: القتال قتالان: قتال المشركين حتّى يؤمنوا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وقتال الفئة الباغية حتّى تفئ إلى أمر الله فإذا فاءت اُعطيت العدل.

٢٦٤

وفيه أخرج ابن أبى شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبوالشيخ والبيهقيّ في سننه عن مجاهد في قوله:( قاتلوا الّذين لا يؤمنون بالله ) الآية قال: نزلت هذه حين اُمر محمّـدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه بغزوة تبوك.

أقول: وقد تقدّمت الروايات في ذيل آية المباهلة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقرّ الجزية على نصارى نجران، وكان ذلك على ما دلّ عليه أمثل الروايات سنة ستّ من الهجرة قبل غزوة تبوك بسنين، وكذا دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملوك الروم ومصر والعجم وهم من أهل الكتاب كانت سنة ستّ.

وفيه أخرج ابن أبى شيبة عن الزهريّ قال: أخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الجزية من مجوس أهل هجر ومن يهود اليمن ونصاراهم من كلّ حالم دينار.

وفيه أخرج مالك والشافعيّ وأبوعبيد في كتاب الأموال وابن أبى شيبة عن جعفر عن أبيه أنّ عمر بن الخطّاب استشار الناس في المجوس في الجزية فقال عبد الرحمن ابن عوف سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب.

وفيه أخرج عبد الرزّاق في المصنف عن علىّ بن أبى طالب: أنّه سأل عن أخذ الجزية من المجوس فقال: والله ما على الأرض اليوم أحد أعلم بذلك منّى إنّ لمجوس كانوا أهل كتاب يعرفونه، وعلم يدرسونه فشرب أميرهم الخمر فسكر فوقع على اُخته فرآه نفر من المسلمين فلمّا أصبح قالت اُخته: إنّك قد صنعت بها كذا وكذا، وقد رآك نفر لا يسترون عليك فدعا أهل الطمع ثمّ قال لهم قد علمتم أنّ آدمعليه‌السلام قد أنكح بنيه بناته.

فجاء اُولئك الّذين رأوه فقالوا: ويل للأبعد إنّ في ظهرك حدّ الله فقتلهم اُولئك الّذين كانوا عنده ثمّ جاءت امرأة فقالت له: بلى قد رأيتك فقال لها: ويحاً لبغىّ بنى فلان قالت: أجل والله قد كانت بغيّة ثمّ تابت فقتلها، ثمّ أسرى على ما في قلوبهم وعلى كتبهم فلم يصبح عندهم شئ.

وفي تفسير العيّـاشيّ في قوله تعالى:( وقالت اليهود عزير ابن الله ) الآية عن عطيّـة العوفىّ عن أبى سعيد الخدرىّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اشتدّ غضب الله على اليهود حين قالوا: عزير ابن الله، واشتدّ غضب الله على النصارى حين قالوا: المسيح ابن الله: واشتدّ

٢٦٥

غضب الله على من أراق دمى وآذاني في عترتي.

وفي الدرّ المنثور أخرج البخاريّ في تاريخه عن أبى سعيد الخدرىّ قال: لمّا كان يوم اُحد شجّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وجهه وكسرت رباعيّـته فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يومئذ رافعاً يديه يقول: إنّ الله عزّوجلّ اشتدّ غضبه على اليهود أن قالوا: عزير ابن الله، واشتدّ غضبه على النصارى أن قالوا المسيح ابن الله وإنّ الله اشتدّ غضبه على من أراق دمى وآذاني في عترتي.

أقول: وقد روى في الدرّ المنثورو غيره عن ابن عبّـاس وكعب الأحبار والسدّىّ وغيرهم روايات في قصّة عزير هي أشبه بالإسرائيليّـات، والظاهر أنّ الجميع تنتهى إلى كعب.

وفي الاحتجاج للطبرسيّ عن علىّعليه‌السلام قال:( قاتلهم الله أنّى يؤفكون ) أي لعنهم الله أنّى يؤفكون فسمّى اللعنة قتالاً، وكذلك:( قتل الإنسان ما أكفره ) أي لعن الإنسان.

أقول: وروى ذلك من طرق أهل السنّة عن ابن عبّـاس وهو على أيّ حال تفسير يلازم المعنى لا بالمراد اللفظىّ.

وفي الكافي بإسناده عن أبى بصير، عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: قلت له:( اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) فقال: أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً فعبدوهم من حيث لا يشعرون.

أقول: وروى هذا المعنى البرقىّ في المحاسن ورواه العيّـاشيّ في تفسيره عن أبى بصير وعن جابر جميعاً عن أبى عبداللهعليه‌السلام وعن حذيفة، ورواه في الدرّ المنثور عن عدّة من أصحاب الطرق عن حذيفة.

وفي تفسير القمّىّ قال: وفي رواية أبى الجارود عن أبى جعفرعليه‌السلام في قوله:( اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) قال: أمّا المسيح فبعض عظّموه

٢٦٦

في أنفسهم حتّى زعموا أنّه إله وأنّه ابن الله، وطائفة منهم قالوا: ثالث ثلاثة، وطائفة منهم قالوا: هو الله.

وأمّا قوله:( أحبارهم ورهبانهم ) فإنّهم أطاعوا وأخذوا بقولهم، واتّبعوا ما أمروهم به، ودانوا بما دعوهم إليه فاتّخذوهم أرباباً بطاعتهم لهم وتركهم أمر الله وكتبه ورسله فنبذوه وراء ظهورهم، وما أمرهم به الأحبار والرهبان اتّبعوهم وأطاعوهم وعصوا الله. الحديث.

وفي تفسير البرهان عن المجمع قال: وروى الثعلبيّ بإسناده عن عدىّ بن حاتم قال: أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال لى: يا عدىّ اطرح هذا الربق.

وفي تفسير البرهان عن الصدوق بإسناده عن أبى بصير قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام في قوله عزّوجلّ:( هو الّذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ) الآية والله ما نزل تأويلها بعد ولا ينزل تأويلها حتّى يخرج القائم فإذا خرج القائم لم يبق كافر بالله ولا مشرك بالإمام إلّا كره خروجه حتّى لو كان الكافر في بطن صخرة قالت: يا مؤمن في بطني كافر فاكسرني واقتله.

أقول: وروى ما في معناه العيّـاشيّ عن أبى المقدام عن أبى جعفرعليه‌السلام وعن سماعة عن أبى عبداللهعليه‌السلام ، وكذا الطبرسيّ مثله عن أبى جعفرعليه‌السلام ، وفي تفسير القمّىّ أنّها نزلت في القائم من آل محمّـد (عليه السلام )، ومعنى نزولها فيه كونه تأويلها كما يدلّ عليه روايه الصدوق.

وفي الدرّ المنثور أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقيّ في سننه عن جابر في قوله:( ليظهره على الدين كلّه ) قال: لا يكون ذلك حتّى لا يبقى يهودىّ ولا نصرانيّ صاحب ملّة إلّا الإسلام حتّى تأمن الشاة الذئب، والبقرة الأسد، والإنسان الحيّة، وحتّى لا تقرض فأرة جراباً، وحتّى يوضع الجزية ويكسر الصليب ويقتل الخنزير، وذلك إذا نزل عيسى بن مريمعليه‌السلام .

أقول: والمراد بوضع الجزية أن تصير متروكة لا حاجة إليها لعدم الموضوع بقرينة

٢٦٧

صدر الحديث، وما دلّت عليه هذه الروايات من عدم بقاء كفر ولا شرك يومئذ يؤيّدها روايات اُخرى، وهناك روايات اُخرى تدلّ على وضع المهدىّعليه‌السلام الجزية على أهل الكتاب بعد ظهوره.

وربّما أيّده قوله تعالى في أهل الكتاب:( وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ) المائدة: ٦٤،( فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ) المائدة: ١٤، وما في معناه من الآيات فإنّها لا تخلو من ظهور مّا في بقائهم إلى يوم القيامة إن لم تكن كناية عن ارتفاع المودّة بينهم ارتفاعاً أبديّـاً، وقد تقدّم في ذيل الآيات بعض الكلام في هذا المعنى.

وفي الدرّ المنثور أيضاً أخرج ابن الضريس عن علباء بن أحمر أنّ عثمان بن عفّان لمّا أراد أن يكتب المصاحف أرادوا أن يلقوا الواو الّتى في براءة:( والّذين يكنزون الذهب والفضّة ) قال اُبىّ: لتلحقنّها أو لأضعنّ سيفى على عاتقي فألحقوها.

وفى أمالى الشيخ قال: أخبرنا جماعة عن أبى المفضّل وساق إسناده قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا نزلت هذه الآية:( والّذين يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم ) كلّ ما يؤدّى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكلّ مال لا يؤدّى زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض.

أقول: وروى ما في معناه في الدرّ المنثورعن ابن عدىّ والخطيب عن جابر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذا بطرق اُخرى عن ابن عبّـاس وغيره.

وفيه أيضاً بإسناده عن أبى عبداللهعليه‌السلام عن أبيه أبى جعفرعليه‌السلام أنّه سأل عن الدنانير والدراهم وما على الناس.

فقال أبوجعفرعليه‌السلام : هي خواتيم الله في أرضه جعلها الله مصلحة لخلقه، وبها يستقيم شؤونهم ومطالبهم فمن أكثر له منها فقام بحقّ الله تعالى فيها أدّى زكاتها فذاك الّذى طلبه، وخلص له، ومن أكثر له منها فبخل بها ولم يؤدّ حقّ الله فيها واتّخذ منها الأبنية فذاك الّذى حقّ عليه وعيد الله عزّوجلّ في كتابه يقول الله تعالى( يوم يحمى عليها في نار جهنّم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ) .

٢٦٨

أقول: والرواية تؤيّد ما استفدناه سابقاً من الآية.

وفي تفسير القمّىّ قال: كان أبوذرّ الغفاريّ يغدو كلّ يوم وهو في الشام فينادى بأعلى صوته: بشّر أهل الكنوز بكىّ في الجباه، وكىّ في الجنوب، وكىّ في الظهور حتّى يتردّد الحرّ في أجوافهم.

أقول: وقد استفاد الطبرسيّ في المجمع من الرواية الوجه في تخصيص الجباه والجنوب والظهور من بين أعضاء الإنسان بالذكر في الآية، وأنّ الغرض من تعذيبهم بهذا الوجه إيراد حرّ النار في أجوافهم وهى داخل الرؤوس فتكوى جباههم وداخل الصدور والبطون فتكوى جنوبهم وظهورهم.

ويمكن تتميم ما ذكره بأنّهم يكبّون على وجوههم ورؤوسهم منكوسة على ما يشعر به الأخبار وبعض الآيات ثمّ تكوى أعضاؤهم من فوق فينتج ذلك كىّ الجباه والجنوب والظهور.

وفي الدرّ المنثور أخرج عبد الرزّاق في المصنّف عن أبى ذرّ قال: بشّر أصحاب الكنوز بكىّ في الجباه وفي الجنوب وفي الظهور.

وفيه أخرج ابن سعد وابن أبى شيبة والبخاريّ وابن أبى حاتم وأبوالشيخ وابن مردويه عن زيد بن وهب قال: مررت على أبى ذرّ بالربذة فقلت: ما أنزلك بهذه الأرض؟ قال: كنّا بالشام فقرأت:( والّذين يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم ) فقال معاوية: ما هذه فينا هذه في أهل الكتاب. قلت أنا: إنّها لفينا وفيهم.

وفيه أخرج مسلم وابن مردويه عن الأحنف بن قيس قال: جاء أبوذرّ فقال: بشّر الكانزين بكىّ من قبل ظهورهم يخرج من جنوبهم، وكىّ من جباههم يخرج من أقفائهم، فقلت: ماذا؟ قال: ما قلت إلّا ما سمعت من نبيّهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفيه أخرج أحمد في الزهد عن أبى بكر المنكدر قال: بعث حبيب بن سلمة إلى أبى ذرّ وهو أمير الشام بثلاثمائة دينار، وقال: استعن بها على حاجتك، فقال أبوذرّ: ارجع بها إليه أما وجد أحداً أغرّ بالله منّا ما لنا إلّا الظلّ نتوارى به، وثلاثة من غنم

٢٦٩

تروح علينا، ومولاة لنا تصدّق علينا بخدمتها ثمّ إنّى لأنا أتخوّف الفضل.

وفيه أخرج البخاريّ ومسلم عن الأحنف بن قيس قال: جلست إلى ملإ من قريش فجاء رجل خشن الشعر والثياب والهيئة حتّى قام عليهم فسلّم ثمّ قال: بشّر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنّم ثمّ يوضع على حلمة ثدى أحدهم حتّى يخرج من نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتّى يخرج من حلمة ثديه فيتدلدل.

ثمّ ولّى وجلس إلى سارية فتبعته وجلست إليه وأنا لا أدرى من هو؟ فقلت: لا أرى القوم إلّا قد كرهوا ما قلت، قال: إنّهم لا يعقلون شيئاً قال لى خليلي. قلت: من خليلك؟ قال: النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أتبصر اُحداً؟ قلت: نعم. قال: ما اُحبّ أن يكون لى مثل اُحد ذهباً اُنفقه كلّه إلّا ثلاثة دنانير وإنّ هؤلاء لا يعقلون إنّما يجمعون للدنيا والله لا أسألهم دنيا، ولا أستفتيهم عن دين حتّى ألقى الله عزّوجلّ.

وفي تاريخ الطبريّ عن شعيب عن سيف عن محمّـد بن عوف عن عكرمة عن ابن عبّـاس أنّ أباذرّ دخل على عثمان وعنده كعب الأحبار فقال لعثمان: لا ترضوا من النّاس بكفّ الّذى حتّى يبذلوا المعروف، وقد ينبغى لمؤدّى الزكاة أن لا يقتصر عليها حتّى يحسن إلى الجيران والإخوان ويصل القرابات.

فقال: كعب من أدّى الفريضة فقد قضى ما عليه، فرفع أبوذرّ محجنه فضربه فشجّه فاستوهبه عثمان فوهبه له، وقال: يا أباذرّ اتّق الله واكفف يدك ولسانك، وقد كان قال له: يابن اليهوديّة ما أنت وما ههنا؟

أقول: وقصص أبى ذرّ واختلافه مع عثمان ومعاوية معروفة مضبوطة في كتب التاريخ والتدبّر فيما مرّ من أحاديثه وما قاله لمعاوية إنّ الآية لا تختصّ بأهل الكتاب وما خاطب به عثمان وواجه به كعباً يدلّ على أنّه إنّما فهم من الآية ما قدّمناه أنّها توعد على الكفّ عن الإنفاق في السبيل الواجب.

ويؤيّده تحليل الحال الحاضر يومئذ فقد كان الناس يومئذ انقسموا قسمين وتبعّضوا شطرين عامّة لا يقدرون على قوت اليوم، ولا يجدون ما يستر عورتهم وما لهم إلى

٢٧٠

أوجب حوائجهم سبيل، وخاصّـة أسكرتهم الدنيا بجماع ما فيها من مال ومنال يكنزون مآت الاُلوف واُلوف الاُلوف من عطايا الخلافة وغنائم الحروب ومال الخراج. ويكفيك في التبّصر فيه أن تراجع ما ضبطته التواريخ من أموال الصحابة من نقد ورقيق وضيعة وشامخات القصور وناجمات الدور، وما أحدثه معاوية وسائر بنى اُميّة بالشام وغيره من أزياء قيصرانيّة وكسروانيّة.

والإسلام لا يرتضى شيئاً من ذلك ولا ينفذ هذا الاختلاف لفاحش دون أن تتقارب الطبقات بالإنفاق، وتصلح عامّة الأوضاع بانعطاف الأغنياء على الفقراء، والأقوياء على الضعفاء.

وربّما قيل: إنّ أباذرّ كان يرى باجتهاد منه أنّ الزائد على القدر الواجب من المال الّذى ينفق لسدّ الجوع وستر العورة كنز يجب إنفاقه في سبيل الله أو أنّه كان يدعو إلى الزهد في الدنيا.

لكنّ الّذى يوجد من بعض كلامه في الروايات يكذّبه فإنّه لا يستند في شئ ممّا قاله إلى اجتهاده ورأى نفسه بل بقوله: ما قلت لهم إلّا ما سمعت من نبيّهم، وقال خليلي كذا وكذا، وقد صحّت الرواية واستفاضت من طرق الفريقين عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: (ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء ذا لهجة أصدق من أبىّ ذرّ).

وبذلك يظهر فساد ما ذكره شدّاد بن أوس فيما روى عنه أحمد والطبرانيّ قال: (كان أبوذرّ يسمع عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ يخرج إلى باديته ثمّ يرخّص فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك فيحفظ من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرخصة فلا يسمعها أبوذرّ فيأخذ أبوذرّ بالأمر الأوّل الّذى سمع قبل ذلك).

وذلك أنّ الّذى ذكر من أبى ذرّ إنّما هو قوله: إنّ آية الكنز لا تختصّ بأهل الكتاب بل يعمّهم والمسلمين، وليس هذا مصداقاً لما ذكره في الرواية من العزيمة والرخصة، وكذا قوله: إنّ تأدية الزكاة فحسب لا يكفى في جواز الكنز وعدم إنفاقه في الواجب من سبيل الله، وكيف يتصوّر في حقّه أن لا يكون يسمع أنّ الإنفاق منه

٢٧١

مستحبّ كما أنّ منه واجباً وأن لا يعلم أن أدلّة الإنفاق المندوب أحسن مبيّن لآية الكنز.

وأوهن من ذلك ما تعلّق به الطبريّ في تاريخه فقد روى عن شعيب عن سيف عن عطيّـة عن يزيد الفقعسىّ قال: لمّا ورد ابن السوداء الشام لقى أباذرّ فقال: يا أباذرّ ألا تعجّب إلى معاوية يقول: المال مال الله ألا إنّ كلّ شئ لله؟ كأنّه يريد أن يحتجبه دون المسلمين، ويمحو اسم المسلمين.

فأتاه أبوذرّ فقال: ما يدعوك إلى أن تسمّى مال المسلمين مال الله؟ قال: يرحمك الله يا أباذرّ ألسنا عبدالله والمال ماله والخلق خلقه والأمر أمره؟ قال: فلا تقله، قال: فإنّى لا أقول: إنّه ليس لله، ولكن سأقول: مال المسلمين.

قال: وأتى ابن السوداء أبا الدرداء فقال له: من أنت؟ أظنّك والله يهوديّاً؟ فأتى عبادة بن الصامت فتعلّق به فأتى به معاوية فقال: هذا والله الّذى بعث عليك أباذرّ.

وقام أبوذرّ بالشام وجعل يقول: يا معشر الأغنياء وأسوأ الفقراء بشّر الّذين يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكان من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. الحديث.

ومحصّله أنّ أباذرّ إنّما بادر إلى ما بادر وألحّ عليه بتسويل من ابن السوداء وهذان الّذان روى عنهما الحديث وعنهما يروى جلّ قصص عثمان أعني شعيباً وسيفاً هما من الكذّابين الوضّاعين المشهورين ذكرهما علماء الرجال وقدحوا فيهما.

والّذى اختلقاه من حديث ابن السوداء وهو الّذى سمّوه عبدالله بن سبا، وإليهما ينتهى حديثه، من الأحاديث الموضوعة، وقد قطع المحقّقون من أصحاب البحث أخيراً أنّ ابن السوداء هذا من الموضوعات الخرافيّـة الّتى لا أصل لها.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما من ذى كنز لا يؤدّى حقّه إلّا جئ به يوم القيامة تكوى به جبينه وجبهته، وقيل له: هذا كنزك الّذى بخلت به.

وفيه أخرج الطبرانيّ في الأوسط وأبوبكر الشافعيّ في الغيلانيّات عن علىّ قال:

٢٧٢

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم القدر الّذى يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلّا بما يمنع أغنياؤهم. ألا وإنّ الله يحاسبهم حساباً شديداً أو يعذّبهم عذاباً أليماً.

وفيه أخرج الحاكم وصحّحه وضعّفه الذهبيّ عن أبى سعيد الخدرىّ عن بلال قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا بلال الق الله فقيراً ولا تلقه غنيّاً. قلت: وكيف لى بذلك؟ قال: إذا رزقت فلا تخبأ، وإذا سئلت فلا تمنع، قلت: وكيف لى بذلك؟ قال: هو ذاك وإلّا فالنار.

( كلام في معنى الكنز)

لا ريب أنّ المجتمع الّذى أوجده الإنسان بحسب طبعه الأوّلىّ إنّما يقوم بمبادلة المال والعمل، ولو لا ذلك لم يعش المجتمع الإنسانيّ ولا طرفة عين فإنّما يتزوّد الإنسان من مجتمعه بأن يحرز اُموراً من أوّليّات المادّة الأرضيّـة ويعمل عليها ما يسعه من العمل ثمّ يقتنى من ذلك لنفسه ما يحتاج إليه، ويعوض ما يزيد على حاجته من سائر ما يحتاج إليه ممّا عند غيره من أفراد المجتمع كالخبّاز يأخذ لنفسه من الخبز ما يقتات به ويعوّض الزائد عليه من الثوب الّذى نسجه النسّاج وهكذا فإنّما أعمال المجتمعين في ظرف اجتماعهم بيع وشرى ومبادلة ومعاوضة.

والّذى يتحصّل من الأبحاث الاقتصاديّة أنّ الإنسان الأوّلىّ كان يعوّض في معاملاته العين بالعين من غير أن يكونوا متنبّهين لأزيد من ذلك غير أنّ النسب بين الأعيان كانت تختلف عندهم باشتداد الحاجة وعدمه، وبوفور الأعيان المحتاج إليها وإعوازها فكلّما كانت العين أمسّ بحاجة الإنسان أو قلّ وجودها توفّرت الرغبات إلى تحصيلها، وارتفعت نسبتها إلى غيرها، وكلّما بعدت عن مسيس الحاجة أو ابتذلت بالكثرة ه والوفور انصرفت النفوس عنها وانخفضت نسبتها إلى غيرها، وهذا هو أصل القيمة.

ثمّ إنّهم عمدوا إلى بعض الأعيان العزيزة الوجود عندهم فجعلوها أصلا في القيمة

٢٧٣

تقاس إليه سائر الأعيان الماليّـة بمالها من مختلف النسب كالحنطة والبيضة والملح فصارت مداراً تدور عليها المبادلات السوقيّة، وهذه السليقة دائرة بينهم في بعض المجتمعات الصغيرة في القرى وبين القبائل البدويّة حتّى اليوم.

ولم يزالوا على ذلك حتّى ظفروا ببعض الفلزّات كالذهب والفضّة والنحاس ونحوها فجعلوها أصلاً إليه يعود نسب سائر الأعيان من جهه قيمها، ومقياساً واحداً يقاس إليها غيرها فهى النقود القائمة بنفسها وغيرها يقوم بها.

ثمّ آل الأمر إلى أن يحوز الذهب المقام الأوّل والفضّة تتلوه، ويتلوها غيرهما، وسكّت الجميع بالسكك الملوكيّه أو الدوليّة فصارت ديناراً ودرهماً وفلساً وغير ذلك بما يطول شرحه على خروجه من غرض البحث.

فلم يلبث النقدان حتّى عاداً أصلاً في القيمة بهما يقوّم كلّ شئ، وإليهما يقاس ما عند الإنسان من مال أو عمل، وفيهما يرتكز ارتفاع كلّ حاجة حيويّـة، وهما ملاك الثروة والوجد كالمتعلّق بهما روح المجتمع في حياته يختلّ أمره باختلال أمرهما، إذا جريا في سوق المعاملات جرت المعاملات بجريانهما، وإذا وقفا وقفت.

وقد أوضحت ما عليهما من الوظيفة المحوّلة إليهما في المجتمعات الإنسانيّـة من حفظ قيم الأمتعة والأعمال، وتشخيص نسب بعضها إلى بعض، الأوراق الرسميّة الدائرة اليوم فيما بين الناس كالبوند والدولار وغيرهما والصكوك البنجيّة المنتشرة فإنّها تمثّل قيم الأشياء من غير أن تتضمّن عينيّة لها قيمة في نفسها فهى قيم خالصة مجرّدة تقريباً.

فالتأمّل في مكانة الذهب والفضّة الاجتماعيّـة بما هما نقدان حافظان للقيم ومقياسان يقاس إليهما الأمتعة والأموال بما لها من النسب الدائرة بينها تنوّر أنّهما ممثّلان لنسب الأشياء بعضها إلى بعض، وإذ كانت بحسب الاعتبار ممثّلات للنسب - وإن شئت فقل: نفس النسب - تبطل النسب ببطلان اعتبارها، وتحبس بحبسها ومنع جريانها، وتقف بوقوفها.

وقد شاهدنا في الحربين العالميّين الأخيرين ماذا أوجده بطلان اعتبار نقود بعض الدول؟ كالمنات في الدولة التزاريّة والمارك في الجرمن من البلوى وسقوط الثروة واختلال

٢٧٤

أمر الناس في حياتهم، والحال في كنزهما ومنع جريانهما بين الناس هذا الحال.

وإلى ذلك يشير قول أبى جعفرعليه‌السلام في رواية الأمالى المتقدّمة: (جعلها الله مصلحة لخلقه وبها يستقيم شئونهم ومطالبهم).

ومن هنا يظهر أنّ كنزهما إبطال لقيم الأشياء وإماتة لما في وسع المكنوز منهما من إحياء المعاملات الدائرة وقيام السوق في المجتمع على ساقه، وببطلإن لمعاملات وتعطّل الأسواق تبطل حياة المجتمع، وبنسبة ما لها من الركود والوقوف تقف وتضعف.

لست اُريد خزنهما في مخازن تختصّ بهما فإنّ حفظ نفاس الأموال وكرائم الأمتعة من الضيعة من الواجبات الّتى تهدى إليه الغريزة الإنسانيّـة ويستحسنه العقل السليم فكلّما جرت وجوه النقد في سبيل المعاملات كيفما كان فهو وإذا رجعت فمن الواجب أن تختزن وتحفظ من الضيعة وما يهدّدها من أيادى الغصب والسرقة والغيلة والخيانة.

وإنّما أعنى به كنزهما وجعلهما في معزل عن الجريان في المعاملات السوقيّة والدوران لإصلاح أيّ شأن من شؤون الحياة ورفع الحوائج العاكفة على المجتمع كإشباع جائع وإرواء عطشان وكسوة عريان وربح كاسب وانتفاع عامل ونماء مال وعلاج مريض وفكّ أسير وإنجاء غريم والكشف عن مكروب والتفريج عن مهموم وإجابه مضطرّ والدفع عن بيضة المجتمع الصالح وإصلاح ما فسد من الجوّ الإجتماعيّ.

وهى موارد لا تحصى واجبة أو مندوبة أو مباحة لا يتعدّى فيها حدّ الاعتدال إلى جانبى الإفراط والتفريط والبخل والتبذير، والمندوب من الإنفاق وإن لم يكن في تركه مأثم ولا إجرام شرعاً ولا عقلاً غير أنّ التسبّب إلى إبطال المندوبات من رأس والاحتيال لرفع موضوعها من أشدّ الجرم والمعصية.

اعتبر ذلك فيما بين يديك من الحياة اليوميّة بما يتعلّق به من شؤون المسكن والمنكح والمأكل والمشرب والملبس تجد أنّ ترك النفل المستحبّ من شؤون الحياة والمعاش والاقتصار دقيقاً على الضرورىّ منها - الّذى هو بمنزلة الواجب الشرعيّ - يوجب اختلال أمر الحياة اختلالاً لا يجبره جابر ولا يسدّ طريق الفساد فيه سادّ.

وبهذا البيان يظهر أنّ قوله تعالى:( والّذين يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقونها

٢٧٥

في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم ) ليس من البعيد أن يكون مطلقاً يشمل الإنفاق المندوب بالعناية الّتى مرّت فإنّ في كنز الأموال رفعاً لموضوع الإنفاق المندوب كالإنفاق الواجب لا مجرّد عدم الإنفاق مع صلاحية الموضوع لذلك.

وبذلك يتبيّن أيضاً معنى ما خاطب به أبوذرّ عثمان بن عفّان لما دخل عليه على ما تقدّم في رواية الطبريّ حيث قال له:( لا ترضوا من الناس بكفّ الأذى حتّى يبذلوا المعروف، وقد ينبغى لمؤدّى الزكاة أن لا يقتصر عليها حتّى يحسن إلى الجيران والإخوان ويصل القرابات ) .

فإنّ لفظه كالصريح أو هو صريح في أنّه لا يرى كلّ إنفاق فيما يفضل من المؤنة بعد الزكاة واجباً، وأنّه يقسّم الإنفاق في سبيل الله إلى ما يجب وما ينبغى غير أنّه يعترض بانقطاع سبيل الإنفاق من غير جهة الزكاة وانسداد باب الخيرات بالكلّـيّة وفي ذلك إبطال غرض التشريع وإفساد المصلحة العامّة المشرّعة.

يقول: ليست هي حكومة استبداديّة قيصرانيّة أو كسروانيّة، لا وظيفة لها إلّا بسط الأمن وكفّ الّذى بالمنع عن إيذاء بعض الناس بعضاً ثمّ الناس أحرار فيما فعلوا غير ممنوعين عن ما اشتهوا من عمل أفرطوا أو فرّطوا، أصلحوا أو أفسدوا، اهتدوا أو ضلّوا وتاهوا، والمتقلّد لحكومتهم حرّ فيما عمل ولا يسأل عمّا يفعل.

وإنّما هي حكومة اجتماعيّـة دينيّـة لا ترضى عن الناس بمجرّد كفّ الأذى بل تسوق الناس في جميع شؤون معيشتهم إلى ما يصلح لهم ويهيّئ لكلّ من طبقات المجتمع من أميرهم ومأمورهم ورئيسهم ومرؤوسهم ومخدومهم وخادمهم وغنيّهم وفقيرهم وقويّهم وضعيفهم ما يسع له من سعادة حياتهم فترفع حاجة الغنىّ بإمداد الفقير وحاجة الفقير بمال الغنىّ وتحفظ مكانة القوىّ باحترام الضعيف وحياة الضعيف برأفة القوىّ ومراقبته، ومصدريّة العالي بطاعة الدانى وطاعة الدانى بنصفة العالي وعدله، ولا يتمّ هذا كلّه إلّا بنشر المبرّات وفتح باب الخيرات، والعمل بالواجبات على ما يليق بها والمندوبات على ما يليق بها وأمّا القصر على القدر الواجب، وترك الإنفاق المندوب من رأس فإنّ فيه هدماً لأساس الحياة الدينيّـة، وإبطالاً لغرض الشارع، وسيراً حثيثاً إلى نظام مختلّ وهرج ومرج

٢٧٦

وفساد عريق لا يصلحه شئ كلّ ذلك عن المسامحة في إحياء غرض الدين، والمداهنة مع الظالمين إلّا تفعلوه تكن فتنه في الأرض وفساد كبير.

وكذلك قول أبى ذرّ لمعاوية فيما تقدّم من رواية الطبريّ: (ما يدعوك إلى أن تسمّى مال المسلمين مال الله؟ قال: يرحمك الله يا أباذرّ ألسنا عبدالله والمال ماله والخلق خلقه والأمر أمره قال: فلا تقله).

فإنّ الكلمة الّتى كان يقولها معاوية وعمّاله ومن بعده من خلفاء بنى اُميّة وإن كانت كلمة حقّ وقد رويت عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويدلّ عليها كتاب الله لكنّهم كانوا يستنتجون منه خلاف ما يريده الله سبحانه فإنّ المراد به أنّ المال لا يختصّ به أحد بعزّة أو قوّة أو سيطرة وإنّما هو لله ينفق في سبيله على حسب ما عيّنه من موارد إنفاقه فإن كان ممّا اقتناه الفرد بكسب أو إرث أو نحوهما فله حكمه، وإن كان ممّا حصّلته الحكومة الإسلاميّـة من غنيمة أو جزيه أو خراج أو صدقات أو نحو ذلك فله أيضاً موارد إنفاق معيّـنة في الدين، وليس في شئ من ذلك لوالى الأمر أن يخصّ نفسه أو واحداً من أهل بيته بشئ يزيد على لازم مؤنته فضلاً أن يكنز الكنوز ويرفع به القصور ويتّخذ الحجاب ويعيش عيشه قيصر وكسرى.

وأمّا هؤلاء فإنّما كانوا يقولونه دفعاً لاعتراض الناس عليهم في صرف مال المسلمين في سبيل شهواتهم وبذله فيما لا يرضى الله، ومنعه أهليه ومستحقّيه إنّ المال للمسلمين تصرّفونه في غير سبيلهم ! فيقولون: إنّ المال مال الله ونحن اُمناؤه نعمل فيه بما نراه فيستبيحون بذلك اللّعب بمال الله كيف شاؤوا ويستنتجون به صحّة عملهم فيه بما أرادوا وهو لا ينتج إلّا خلافه، ومال الله ومال المسلمين بمعنى واحد، وقد أخذوهما لمعنيين اثنين يدفع أحدهما الآخر.

ولو كان مراد معاوية بقوله: (المال مال الله) هو الصحيح من معناه لم يكن معنى لخروج أبى ذرّ من عنده وندائه في الملإ من الناس: بشّر الكانزين بكىّ في الجباه وكىّ في الجنوب وكىّ في الظهور.

على أنّ معاوية قد قال لأبي ذرّ إنّه يرى أنّ آية الكنز خاصّـة بأهل الكتاب و

٢٧٧

ربّما كان من أسباب سوء ظنّه بهم إصرارهم عند كتابة مصحف عثمان أن يحذفوا الواو من قوله:( والّذين يكنزون الذهب ) الخ حتّى هدّدهم اُبىّ بالقتال إن لم يلحقوا الواو فألحقوها وقد مرّت الرواية.

فالقصّة في حديث الطبريّ عن سيف عن شعيب وإن سيقت بحيث تقضى على أبى ذرّ بأنّه كان مخطئاً في ما اجتهد به كما اعترف به الطبريّ في أوّل كلامه غير أنّ أطراف القصّة تقضى بإصابته.

وبالجملة فالآية تدلّ على حرمة كنز الذهب والفضّة فيما كان هناك سبيل لله يجب إنفاقه فيه وضرورة داعية إليه لمستحقّي الزكاة مع الامتناع من تأديتها، والدفاع الواجب مع عدم النفقة وانقطاع سبيل البرّ والإحسان بين الناس.

ولا فرق في تعلّق وجوب الإنفاق بين المال الظاهر الجارى في الأسواق وبين الكنز المدفون في الأرض غير أنّ الكنز يختصّ بشئ زائد وهو خيانة ولىّ الأمر في ستر المال وغروره كما تقدّم ذكره في البيان لمتقدّم.

٢٧٨

( سورة التوبة آيه ٣٦ - ٣٧)  

إِنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّماوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافّةً وَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ ( ٣٦ ) إِنّمَا النّسِي‏ءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا يُحِلّونَهُ عَاماً وَيُحَرّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ مَاحَرّمَ اللّهُ فَيُحِلّوا مَا حَرّمَ اللّهُ زُيّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَيَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( ٣٧ )

( بيان)

في الآيتين بيان حرمة الأشهر الحرم ذى القعدة وذى الحجّة والمحرّم ورجب الفرد وتثبيت حرمتها وإلغاء نسئ الجاهليّـة، وفيها الأمر بقتال المشركين كافّة.

قوله تعالى: ( إنّ عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض ) الشهر كالسنة والاُسبوع ممّا يعرفه عامّة الناس منذ أقدم أعصار الإنسانيّـة، وكأنّ لبعضها تأثيراً في تنبّههم للبعض فقد كان الإنسان يشاهد تحوّل السنين ومرورها بمضيّ الصيف والشتاء والربيع والخريف وتكرّرها بالعود ثمّ العود ثمّ تنبّهوا لانقسامها إلى أقسام هي أقصر منها مدّة حسب ما ساقهم إليه مشاهدة اختلاف أشكال القمر من الهلال إلى الهلال، وينطبق على ما يقرب من ثلاثين يوماً وتنقسم بذلك السنة إلى اثنى عشر شهراً.

والسنة الّتى ينالها الحسّ شمسيّة تتألّف من ثلاثمائة وخمسة وستّين يوماً وبعض يوم لا تنطبق على اثنى عشر شهراً قمريّاً هي ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوماً تقريباً إلّا

٢٧٩

برعاية حساب الكبيسة غير أنّ ذلك هو الّذى يناله الحسّ وينتفع به عامّة الناس من الحاضر والبادى والصغير والكبير والعالم والجاهل.

ثمّ قسموا الشهر إلى الأسابيع وإن كان هو أيضاً لا ينطبق عليها تمام الانطباق لكن الحسّ غلب هناك أيضاً الحساب الدقيق، وهو الّذى أثبت اعتبار الاُسبوع وأبقاه على حاله من غير تغيير مع ما طرء على حساب السنة من الدقّة من جهة الأرصاد، وعلى حساب الشهور من التغيير فبدّلت الشهور القمريّة شمسيّة تنطبق عليها السنة الشمسيّة تمام الانطباق.

وهذا بالنسبة إلى النقاط الاستوائيّة وما يليها من النقاط المعتدلة أو ما يتّصل بها من الأرض إلى عرض سبع وستّين الشماليّ والجنوبىّ تقريباً، وفيها معظم المعمورة وأمّا ما وراء ذلك إلى القطبين الشماليّ والجنوبىّ فيختلّ فيها حساب السنة والشهر والاُسبوع، والسنة في القطبين يوم وليلة، وقد اضطرّ ارتباط بعض أجزاء المجتمع الإنسانيّ ببعض سكّان هذه النقاط - وهم شرذمة قليلون - أن يراعوا في حساب السنة والشهر والاُسبوع واليوم ما يعتبره عامّة سكّان المعمورة فحساب الزمان الدائر بيننا إنّما هو بالنسبة إلى جلّ سكّان المعمورة من الأرض.

على أنّ هذا إنّما هو بالنسبة إلى أرضنا الّتى نحن عليها، وأمّا سائر الكواكب فالسنة - وهى زمان الحركة الانتقاليّة من الكوكب حول الشمس دورة واحدة كاملة - فيها تختلف وتتخلّف عن سنتنا نحن، وكذلك الشهر القمرىّ فيما كان له قمر أو أقمار منها على ما فصّلوه في فنّ الهيئة.

فقوله تعالى:( إنّ عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً ) الخ ناظر إلى الشهور القمريّة الّتى تتألّف منها السنون وهى الّتى لها أصل ثابت في الحسّ وهو التشكّلات القمريّة بالنسبة إلى أهل الأرض.

والدليل على كون المراد بها الشهور القمريّة - أوّلاً - قوله بعد:( منها أربعة حرم ) لقيام الضرورة على أنّ الإسلام لم يحرّم إلّا أربعة من الشهور القمريّة الّتى هي ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ورجب، والأربعة من القمريّة دون الشمسيّة.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444