الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 94117
تحميل: 6035


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 94117 / تحميل: 6035
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 9

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فالذنب في اللّغة كلّ عمل يستتبع ضرراً أو فوت منفعه أو مصلحة، مأخوذ من ذنب الدابّة وليس مرادفاً للمعصيه بل أعمّ منها والإذن المعفوّ عنه قد استتبع فوت المصلحة المنصوصة في الآية وهى تبيّن الّذين صدقوا والعلم بالكاذبين، وقد قال تعالى:( إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ) الآية: الفتح - ٢.

ثمّ ذكر في كلام له طويل أنّ ذلك كان اجتهاداً منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما لا وحى فيه من الله وهو جائز وواقع من الأنبياءعليه‌السلام وليسوا بمعصومين من الخطاء فيه و إنّما العصمة المتّفق عليها خاصّه بتبليغ الوحى ببيانه والعمل به فيستحيل على الرسول أن يكذب أو يخطئ فيما يبلّغه عن ربّه أو يخالفه بالعمل.

ومنه ما تقدّم في سورة الأنفال من عتابه تعالى لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أخذ الفدية من اُسارى بدر حيث قال:( ما كان لنبىّ أن يكون له أسرى حتّى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ) الأنفال - ٦٧ ثمّ بيّن أنّه كان مقتضياً لنزول عذاب أليم لو لا كتاب من الله سبق فكان مانعاً انتهى كلامه بنوع من التلخيص.

و ليت شعرى ما الّذى زاد في كلامه على ما تفصّى به الرازيّ وغيره حيث ذكروا أنّ ذلك من ترك الأولى ولا يسمّونه ذنباً في عرف المتشرّعين وهو الّذى يستتبع عقاباً وذكر هو أنّه من ترك الأصلح وسمّاه ذنباً لغة.

على أنّك قد عرفت فيما تقدّم أنّه لم يكن ذنباً لا عرفاً ولا لغة بدلالة ناصّة من الآيات على أنّ عدم خروجهم كان هو الأصلح لحال جيش المسلمين لتخلّصهم بذلك عن غائلة وقوع الفتنة واختلاف الكلمة وكانت هذه العلّة بعينها موجودة لو لم يأذن لهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وظهر منهم ما كانوا أبطنوه من الكفر والخلاف وأنّ الّذى ذكره الله بقوله:( ولو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدّة ) أنّ عدم إعدادهم العدّة كان يدلّ على عدم إرادتهم الخروج كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجلّ من أن يخفى عليه ذلك وهم بمرئى منه ومسمع.

مضافاً إلى أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعرفهم في لحن القول كما قال تعالى:( ولتعرفنّهم في لحن القول ) سوره محمّـد - ٣٠ وكيف يخفى على من سمع من أحدهم مثل قوله:( ائذن لى

٣٠١

ولا تفتنّي ) أو يقول للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( هو اُذن ) أو يلمزه في الصدقات ولا ينصح لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ ذلك من طلائع النفاق يطلع منهم وما وراءه إلّا كفر وخلاف.

فقد كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتوسّم منهم النفاق والخلاف ويعلم بما في نفوسهم، ومع ذلك فعتابهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه لم لم يكفّ عن الإذن ولم يستعلم حالهم ولم يميّزهم من غيرهم؟ ليس إلّا عتاباً غير جدّىّ للغرض الّذى ذكرناه.

وأمّا قوله:( إنّ الإذن المعفوّ عنه قد استتبع فوت المصلحة المنصوصة في الآية وهى تبيّن الّذين صدقوا والعلم بالكاذبين ) ففيه أنّ الّذى تشتمل عليه الآية من المصلحة هو تبيّن الّذين صدقوا للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلمه هو بالكاذبين لا مطلق تبيّنهم ولا مطلق العلم بالكاذبين وقد ظهر ممّا تقدّم أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يخفى عليه ذلك وأنّ حقيقه المصلحة إنّما كانت في الإذن وهى سدّ باب الفتنة و اختلاف الكلمة فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعلم من حالهم أنّهم غير خارجين البتّة سواء أذن لهم في القعود أم لم يأذن فبادر إلى الإذن حفظاً على ظاهر الطاعة ووحدة الكلمة.

وليس لك أن تتصوّر أنّه لو بان نفاقهم يومئذ وظهر خلافهم بعدم إذن النبيّ لهم بالقعود لتخلّص الناس من تفتينهم وإلقائهم الخلاف لما في الإسلام يومئذ - وهو يوم خروج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى غزوة تبوك من الشوكة والقوّة ولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من نفوذ الكلمة.

فإنّ الإسلام يومئذ إنّما كان يملك القوّة والمهابة في أعين الناس من غير المسلمين كانوا يرتاعون شوكته ويعظّمون سواد أهله ويخافون حدّ سيوفهم وأمّا المسلمون في داخل مجتمعهم وبين أنفسهم فلم يخلصوا بعد من النفاق ومرض القلوب ولم يستول عليهم بعد وحدة الكلمة وجدّ الهمّة و العزيمة والدليل على ذلك نفس هذه الآيات وما يتلوها إلى آخر السورة تقريباً.

وقد كانوا تظاهروا بمثل ذلك يوم اُحد وقد هجم عليهم العدوّ في عقر دارهم فرجع ثلث الجيش الإسلاميّ من المعركة ولم يؤثّر فيهم عظّة ولا إلحاح حتّى قالوا: لو نعلم قتالاً لاتّبعناكم، فكان ذلك أحد الأسباب العاملة في انهزام المسلمين.

وأمّا قوله: ومن عتابه تعالى لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطائه في اجتهاده ما تقدّم في سورة

٣٠٢

الأنفال من عتابه في أخذ الفدية من اُسارى بدر حيث قال:( ما كان لنبىّ أن يكون له أسرى حتّى يثخن في الأرض ) الآية.

ففيه أوّلاً: أنّه من سوء الفهم فمن البيّن الّذى لا يرتاب فيه أنّ الآية بلفظها لا تعاتب على أخذ الفدية من الأسرى وإنّما تعاتب على نفس أخذ الأسرى - ما كان لنبىّ أن يكون له أسرى - ولم تنزل آيه ولا وردت رواية في أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أمرهم بالأسر بل روايات القصّة تدلّ على أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أمر بقتل بعض الأسرى خاف الناس أن يقتلهم عن آخرهم فكلّموه وألحّوا عليه في أخذ الفدية منهم ليتقوّوا بذلك على أعداء الدين وقد ردّ الله عليهم ذلك بقوله:( تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ) .

وهذا من أحسن الشواهد على أنّ العتاب في الآية متوجّه إلى المؤمنين خاصّة من غير أن يختصّ به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو يشاركهم فيه وأنّ أكثر ما ورد من الأخبار في هذا المعنى موضوعة أو مدسوسة.

وثانياً: أنّ العتاب في الآية لو اختصّ بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو شمله وغيره لم يكن من العتاب على ما ذكره على الذنب بمعناه اللغوىّ وهو تفويت المصلحة بوجه فإنّ هذا العتاب مذيّل بقوله تعالى في الآية التاليه:( لو لا كتاب من الله سبق لمسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) الأنفال - ٦٨ فلا يرتاب ذو لبّ في أنّ التهديد بالعذاب العظيم لا يتأتّى إلّا مع كون المهدّد عليه من المعصية المصطلحة بل ومن كبائر المعاصي وهذا أيضاً من الشواهد على أنّ العتاب في الآية متوجّه إلى غير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( لا يستأذنك الّذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ) إلى آخر الآيتين تذكر الآيتان أحد ما يعرف به المنافق ويتميّز به من المؤمن وهو الاستيذان في التخلّف عن الجهاد في سبيل الله.

وقد بيّن الله سبحانه ذلك بأنّ الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس من لوازم الإيمان بالله واليوم الآخر بحقيقه الإيمإن لما يورثه هذا الإيمان من صفة التقوى والمؤمن لمّا كان على تقوى من قبل الإيمان بالله واليوم الآخر كان على بصيرة من وجوب الجهاد في سبيل الله بماله ونفسه ولا يدعه ذلك أن يتثاقل عنه فيستأذن في القعود لكنّ

٣٠٣

المنافق لعدم الإيمان بالله واليوم الآخر فقد صفة التقوى فارتاب قلبه ولا يزال يتردّد في ريبه فيحبّ التطرّف ويستأذن في التخلّف والقعود عن الجهاد.

قوله تعالى: ( ولو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدّة ) إلى آخر الآية العدّة الاُهبة و الانبعاث - على ما في المجمع - الانطلاق بسرعة في الأمر والتثبيط التوقيف عن الأمر بالتزهيد فيه.

والآية معطوفة على ما تقدّم من قوله:( والله يعلم إنّهم لكاذبون ) بحسب المعنى أي هم كاذبون في دعواهم عدم استطاعتهم الخروج بل ما كانوا يريدونه ولو أرادوه لأعدّوا له عدّة لأنّ من آثار من يريد أمراً من الاُمور أن يتأهّب له بما يناسبه من العدّة والاُهبة ولم يظهر منهم شئ من ذلك.

وقوله:( ولكن كره الله انبعاثهم فثبّطهم ) أي جزاء بنفاقهم وامتناناً عليك وعلى المؤمنين لئلّا يفسدوا جمعكم ويفرّقوا كلمتكم بالتفتين وإلقاء الخلاف.

وقوله:( وقيل اقعدوا مع القاعدين ) أمر غير تشريعيّ لا ينافى الأمر التشريعيّ بالنفر والخروج فقد أمرهم الله بلسان نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنفر والخروج - وهو أمر تشريعيّ - وأمرهم من ناحية سريرتهم الفاسدة والريب المتردّد في قلوبهم وسجاياهم الباطنيّة الخبيثة بالقعود - وهو أمر غير تشريعيّ - ولا تنافى بينهما.

ولم ينسب قول:( اقعدوا مع القاعدين ) إلى نفسه تنزيهاً لنفسه عن الأمر بما لا يرتضيه وهناك أسباب متخلّله آمرة بذلك كالشيطان والنفس وإنّما ينسب إليه تعالى بالواسطة لانطباق معنى الجزاء والامتنان على المؤمنين عليه.

وليتوافق الأمران المتخالفان صورة في السياق أعني قوله:( قيل لكم انفروا في سبيل الله ) وقوله:( قيل اقعدوا مع القاعدين ) .

قوله تعالى: ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلّا خبالاً و لأوضعوا خلالكم ) الآية الخبال هو الفساد واضطراب الرأى، والإيضاع: الإسراع في الشرّ، والخلال: البين، والبغى هو الطلب فمعنى يبغونكم الفتنة أي يطلبون لكم أو فيكم الفتنة على ما قيل، والفتنة هي المحنة كالفرقة واختلاف الكلمة على ما يناسب الآية من معانيها، والسمّاع

٣٠٤

السريع الإجابة والقبول.

والآية في مقام التعليل لقوله:( ولكن كره الله انبعاثهم فثبّطهم ) امتناناً ولذا جئ بالفصل من غير عطف والمعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلّبوا لك الاُمور حتّى جاء الحقّ وظهر أمر الله وهم كارهون ) أي اُقسم لقد طلبوا المحنة و اختلاف الكلمة وتفرّق الجماعة من قبل هذه الغزوة - وهى غزوة تبوك - كما في غزوة اُحد حين رجع عبدالله بن اُبىّ بن سلول بثلث القوم وخذل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قلّبوا لك الاُمور بدعوة الناس إلى الخلاف وتحريضهم على المعصية وخذلانهم عن الجهاد وبعث اليهود والمشركين على قتال المؤمنين والتجسّس وغير ذلك حتّى جاء الحقّ - وهو الحقّ الّذى يجب أن يتّبع - وظهر أمر الله - وهو الّذى يريده من الدين - وهم كارهون لجميع ذلك.

و الآية تستشهد على الآية السابقة بذكر الأمثال كما يستدلّ على الأمر بمثله و توجيه الخطاب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة بعد عمومه في الآية السابقة لاختصاص الأمر فيه بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعني تقليب الاُمور عليه بخلاف ما في الآية السابقة من خروجهم في الناس.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور في قوله تعالى:( إن لا تنصروه فقد نصره الله ) الآية أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عبّـاس قال: لمّا خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الليل لحق بغار ثور. قال: وتبعه أبوبكر فلمّا سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسّه خلفه خاف أن يكون الطلب فلمّا رأى ذلك أبوبكر تنحنح فلمّا سمع ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرفه فقام له حتّى تبعه فأتيا الغار.

فأصبحت قريش في طلبه فبعثوا إلى رجل من قافه بنى مدلج فتبع الأثر حتّى انتهى إلى الغار وعلى بابه شجرة فبال في أصلها القائف ثمّ قال: ما جاز صاحبكم الّذى تطلبون

٣٠٥

هذا المكان قال: فعند ذلك حزن أبوبكر فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تحزن إنّ الله معنا.

قال: فمكث هو وأبوبكر في الغار ثلاثه أيّـام يختلف إليهم بالطعام عامر بن فهيرة وعلىّ يجهّزهم فاشتروا ثلاثة أباعر من إبل البحرين واستأجر لهم دليلاً فلمّا كان بعض الليل من الليلة الثالثة أتاهم علىّ بالإبل والدليل فركب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم راحلته وركب أبوبكر اُخرى فتوجّهوا نحو المدينة، وقد بعثت قريش في طلبه.

وفيه أخرج ابن سعد عن ابن عبّـاس وعلىّ وعائشة بنت أبى بكر وعائشة بنت قدامة وسراقة بن جعشم - دخل حديث بعضهم في بعض - قالوا: خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و القوم جلوس على بابه فأخذ حفنة من البطحاء فجعل يذرّها على رؤوسهم ويتلو:( يس والقرآن الحكيم ) الآيات ومضى.

فقال لهم قائل ما تنتظرون؟ قالوا: محمّـداً. قال: قد والله مرّ بكم قالوا: والله ما أبصرناه وقاموا ينفضون التراب من رؤوسهم، وخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبوبكر إلى غار ثور فدخلاه وضربت العنكبوت على بابه بعشاش بعضها على بعض.

وطلبته قريش أشدّ الطلب حتّى انتهوا إلى باب الغار فقال بعضهم: إنّ عليه لعنكبوتاً قبل ميلاد محمّـد.

وفي إعلام الورى - في حديث سراقة بن جعشم مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - قال: الّذى اشتهر في العرب يتقاولون فيه الأشعار ويتفاوضونه في الديار أنّه تبعه وهو متوجّه إلى المدينة طالباً لغرّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليحظى بذلك عند قريش، حتّى إذا أمكنته الفرصة في نفسه، وأيقن أن قد ظفر ببغيته ساخت قوائم فرسه حتّى تغيّبت بأجمعها في الأرض وهو بموضع جدب وقاع صفصف فعلم أنّ الّذى أصابه أمر سماويّ فنادى يا محمّـد: ادع ربّك يطلق لى فرسى وذمّه الله أن لا أدلّ عليك أحداً ، فدعا له فوثب جواده كأنّه أفلت من اُنشوطه وكان رجلاً داهيه، وعلم بما رأى أنّه سيكون له نبأ فقال: اكتب لى أماناً فكتب له وانصرف.

قال محمّـد بن إسحاق: إنّ أبا جهل قال في أمر سراقة أبياتاً فأجابه سراقة نظماً:

أبا حكم واللات(١) لو كنت شاهداً

لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه

____________________

(١) والله

٣٠٦

عجبت و لم تشكك بأنّ محمّـداً

نـبىّ ببرهان فمن ذا يكاتمه؟

عليـك بكفّ الناس عنـه فإنّني

أرى أمره يوماً ستبدوا معالمه

أقول: ورواه في الكافي بإسناده عن معاوية بن عمّار عن أبى عبداللهعليه‌السلام وفي الدرّ المنثور بعدّة طرق، وأورده الزمخشريّ في ربيع الأبرار.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن سعد وابن مردويه عن ابن مصعب قال: أدركت أنس بن مالك وزيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة فسمعتهم يتحدّثون: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة الغار أمر الله شجرة فنبتت في وجه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسترته وأمر الله العنكبوت فنسجت في وجه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسترته وأمر الله حمامتين وحشيّـتين فوقفتا بفم الغار.

وأقبل فتيان قريش من كلّ بطن رجل بعصيّهم وأسيافهم و هراويهم حتّى إذا كانوا من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدر أربعين ذراعاً فعجّل بعضهم فنظر في الغار فرجع إلى أصحابه فقالوا: ما لك لم تنظر في الغار؟ فقال: رأيت حمامتين بفم الغار فعرفت أن ليس فيه أحد. الحديث.

وفي الدرّ المنثور أخرج عبد الرزّاق وابن المنذر عن الزهريّ في قوله:( إذ هما في الغار ) قال: الغار الّذى في الجبل الّذى يسمّى ثوراً.

أقول: وقد استفاضت الروايات بكون الغار المذكور في القرآن الكريم هو غار جبل ثور، وهو على أربعة فراسخ من مكّة تقريباً.

وفي إعلام الورى وقصص الأنبياء، وبقى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغار ثلاثة أيّـام ثمّ أذن الله تعالى له بالهجرة، وقال: أخرج من مكّة يا محمّـد فليس لك بها ناصر بعد أبى طالب فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وأقبل راع لبعض قريش يقال له: ابن اُريقط فدعاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له: يا ابن اُريقط أءتمنك على دمى؟ فقال: إذن والله أحرسك وأحفظك ولا أدلّ عليك، فأين تريد يا محمّـد؟ قال: يثرب. قال: لأسلكنّ بك مسلكاً لا يهتدى فيها أحد فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ائت عليّـاً و بشّره بأنّ الله قد أذن لى في الهجرة فهيّئ لى زاداً وراحله.

٣٠٧

وقال له أبوبكر: ائت أسماء ابنتى وقل لها تهيّئي لى زاداً وراحلتين وأعلم عامر بن فهيرة أمرنا، وكان من موالى أبى بكر وكان قد أسلم وقل له: ائتنا بالزاد والراحلتين.

فجاء ابن اُريقط إلى علىّعليه‌السلام فأخبره بذلك فبعث علىّ بن أبى طالب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بزاد وراحله. وبعث ابن فهيرة بزاد وراحلتين، و خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الغار وأخذ به ابن اُريقط على طريق نخلة بين الجبال فلم يرجعوا إلى الطريق إلّا بقُدَيد فنزلوا على اُمّ معبد هناك.

قال: وقد كانت الأنصار بلغهم خروج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم وكانوا يتوقّعون قدومه إلى أن وافى مسجد قبا ونزل فخرج الرجال والنساء يستبشرون بقدومه.

أقول: والأخبار في تفاصيل قصص الهجرة بالغة في الكثرة رواها أصحاب النقل وأرباب السير من الشيعة وأهل السنّة وهى على كثرتها متدافعة مضطربة لا يسع نقدها واستخراج الصافى منها مجال هذا الكتاب وللدلالة على إجمال القصّة فيما أوردناه كفاية وهو كالمتّفق عليه بين أخبار الفريقين.

وفي الدرّ المنثور أخرج خيثمه بن سليمان الطرابلسيّ في فضائل الصحابة وابن عساكر عن علىّ بن أبى طالب قال: إنّ الله ذمّ الناس كلّهم ومدح أبابكر فقال: إلّا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الّذين كفروا ثانى اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ الله معنا.

أقول: نقد البحث في مضامين الآيات الحافّة بالقصّة وما ينضمّ إليها من النقل الصحيح يوجب سوء الظنّ بهذه الرواية فإنّ الآيات الّتى تذمّ المؤمنين- أو الناس كلّهم كما في الرواية - وإليها تشير آية الغار بما فيها من قوله:( إلّا تنصروه ) هي قوله تعالى:( يا أيّها الّذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض ) الآية والنقل القطعيّ يدلّ على أنّ التثاقل المذكور لم يكن من عامّة المؤمنين وجميعهم وأنّ كثيراً منهم سارع إلى إجابة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أمر به من النفر وإنّما تثاقل جماعة من الناس من مؤمن و منافق.

٣٠٨

فخطاب( يا أيّها الّذين آمنوا ) الشامل لجميع المؤمنين، والذمّ المتعقّب له إنّما هو من خطاب الجماعة بشأن بعضهم كخطاب اليهود بقوله:( فلم تقتلون أنبياء الله ) البقرة: ٩١ وغيره، وهو كثير في القرآن غير أنّ ديدن القرآن في مثل هذه الموارد أن لا يضيع حقّ الصالحين ولا أجر المحسنين أعني الأقلّين الّذين تعمّهم أمثال هذه الخطابات العامّة بالذمّ والتوبيخ فيتدارك أمرهم و يستثنيهم ويذكرهم بالجميل كما فعل ذلك فيما سيأتي في هذه السورة من الآيات المادحة للمؤمنين الشاكرة لجميل مساعيهم بقوله:( والمؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض ) الآية وغيره.

وإذا كانت الآيات - وقد نزلت في غزوة تبوك - تعمّ المؤمنين جميعاً المسارعين في الخروج والمتثاقلين فيه من غير استثناء فهى تشمل عامّة الصحابة والمؤمنين وفيهم أبوبكر نفسه غير أنّه تعالى تدارك ما لحق بالمسارعين في الطاعة والإجابة منهم في آيات تالية و شكر سعيهم.

فلو كان قوله في الآية:( إلّا تنصروه ) وهو يشير إلى ما تقدّم من حديث التثاقل ويؤمى إليه ذمّاً للناس كلّهم كان ذمّاً لأبي بكر كما هو ذمّ لغيره بعدم نصرتهم للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو تثاقلهم في نصره ومع ذلك لا تسمح الآية بالدلالة على نصر أبى بكر لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما فيها من قوله:( فقد نصره الله إذ أخرجه الّذين كفروا ثانى اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ الله معنا ) بل لو دلّ لدلّ على نصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي بكر حيث طيّـب قلبه وسلّاه بقوله:( لا تحزن إنّ الله معنا ) .

على أنّك قد عرفت في البيان السابق أنّ الآية بمقتضى المقام لا تتعرّض إلّا لنصر الله سبحانه وحده نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعينه وشخصه، قبال ما يفرض من عدم نصر كافّة المؤمنين له وخذلانهم إيّاه فدلالة الآية على أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الغار لم ينصره إلّا الله سبحانه وحده دلالة قطعيّة.

وهذا المعنى في نفسه أدلّ شاهد على أنّ الضمائر في تتمّة جمل الآية:( فأنزل الله سكينته عليه وأيّده بجنود لم تروها وجعل كلمة الّذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا ) للنبىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والجمل مسوقه لبيان قيامه تعالى وحده بنصره نصراً عزيزاً غيبيّاً لا صنع

٣٠٩

فيه لأحد من الناس وهو إنزال السكينه عليه وتأييده بجنود غائبة عن الأبصار وجعلُ كلمة الّذين كفروا السفلى وإعلاء كلمة الحقّ والله عزيز حكيم.

وأمّا غير نصره النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المناقب الّتى يمدح الإنسان عليها فلو كان هناك شئ من ذلك لكان هو ما في قوله:( ثانى اثنين ) وما في قوله:( لصاحبه ) فلنسلّم أنّ كون الإنسان ثانياً لاثنين أحدهما النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكونه صاحباً للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مذكوراً في القرآن بالصحبة من المفاخر الّتى يتنفّس لها لكنّها من المناقب الإجتماعيّـة الّتى تقدّر لها في المجتمعات قيمة ونفاسة وأمّا القرآن الكريم فللقيمة فيه ملاك آخر وللفضل والشرف في منطقه معنى آخر متّكئ على حقيقة هي أعلى من المقاصد الوضعيّة الاجتماعيّـة وهى كرامة العبوديّـة ودرجات القرب والزلفى.

ومجرّد الصحابة الجسمانيّة والدخول في العدد لا يدلّ على شئ من ذلك وقد تكرّر في كلامه تعالى أنّ التسمّى بمختلف الأسماء والتلبّس بما يتنفّس فيه عامّة الناس ويستعظمه النظر الإجتماعيّ لا قيمة له عند الله سبحانه وأنّ الحساب على ما في القلوب دون ما يتراءى من ظواهر الأعمال وتقدّمه الأحساب والأنساب.

وقد أفصح عنه في مورد أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وملازميه خاصّة بأبلغ الإفصاح قوله تعالى:( محمّـد رسول الله والّذين معه أشدّاء على الكفّـار رحماء بينهم تراهم رُكّعاً سُجّداً - إلى أن قال -وعد الله الّذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً ) الفتح: ٢٩ فانظر إلى ما في صدر الآية من المدح وما في ذيله من القيد وتدبّر.

هذه نبذة ممّا يتعلّق بالآية والرواية من البحث والزائد على هذا المقدار يخرجنا من البحث التفيسريّ إلى البحث الكلاميّ الّذي هو خارج عن غرضنا.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن أبي حاتم وأبوالشيخ وابن مردويه والبيهقيّ في الدلائل وابن عساكر في تاريخه عن ابن عبّـاس في قوله:( فأنزل الله سكينته عليه ) قال: على أبي بكر لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يزل السكينة معه.

وفيه أخرج الخطيب في تاريخه عن حبيب بن أبي ثابت:( فأنزل الله سكينته عليه ) قال: علي أبي بكر فأمّا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد كانت عليه السكينة.

٣١٠

أقول: قد حقّق فيما تقدّم أنّ الضمير راجع إلى النبيّ (صلّى الله عليه و آله و سلّم) على ما يهدي إليه السياق، والروايتان على ما بهما من الوقف ضعيفتان، ولا حجّـيّة لقول ابن عبّـاس ولا حبيب لغيرهما.

وأمّا الحجّة الّتي أورداهما فيهما وهي أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تزل السكينة معه فمدخولة يدفعها قوله تعالى في قصّة حنين:( ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) الآية: التوبة: ٢٦ ونظيرته آية سورة الفتح المشيرة إلى قصّة الحديبية وهما تصرّحان بنزول السكينة عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خصوص المورد فليكن الأمر على تلك الوتيرة في الغار.

وكأنّ بعضهم(١) أحسّ بالإشكال فحمل قولهما في الروايتين: أنّ السكينة لم تزل مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على معنى آخر وهو كون السكينة ملازمة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغار فيكون قرينة على كون الّتي نزلت فيه إنّما نزلت على صاحبه دونه، ولعلّ رواية حبيب أقرب دلالة على ما ذكره.

قال بعد إيراد رواية ابن عبّـاس ثمّ رواية حبيب: وقد أخذ بهذه الرواية بعض مفسّري اللّغة والمعقول ووضّحوا ما فيها من التعليل بأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يحدث له وقتئذ اضطراب ولا خوف ولا حزن وقوّاها بعضهم بأنّ الأصل في الضمير أن يعود إلى أقرب مذكور. وليس هذا بشئ.

وذهب آخرون إلى أنّ الضمير يعود إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّ إنزال السكينه عليه لا يقتضى أن يكون خائفاً أو مضطرباً أو منزعجاً. وهذا ضعيف لعطف إنزال السكينه على ما قبلها الدالّ على وقوعه بعده وترتّبه عليه، وأنّ نزولها وقع بعد قوله لصاحبه: لا تحزن. انتهى.

أمّا ما ذكروه من عدم طروّ خوف واضطراب عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقتئذ فإن كانوا استفادوه من عدم ذكر شئ من ذلك في الآية أو في رواية معتمد عليها فكلامه تعالى في قصّة حنين والحديبية أيضاً خال عن ذكر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخوف أو حزن أو اضطراب ولم ترد رواية

____________________

(١) صاحب النار في تفسير.

٣١١

معتمد عليها تدلّ على ذلك فكيف استقام ذكر نزول السكينه عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهما!؟

وإن قالوا باستلزام إنزال السكينه الاضطراب والخوف والحزن فهو ممنوع كما تقدّم، كيف؟ ونزول نعمة من النعم الإلهيّـة لا يتوقّف على سبق الاتّصاف بحالة مضادّة لها و نقمة مقابلة لها كنزول الرحمة بعد الرحمة والنعمة بعد النعمة والإيمان و الهداية بعد الإيمان والهدايه وغير ذلك وقد نصّ القرآن الكريم باُمور كثيرة من هذا القبيل.

وأمّا قوله: إنّ رجوع الضمير إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضعيف لعطف إنزال السكينه على ما قبلها الدالّ على وقوعه بعده وترتّبه عليه وأنّ نزولها وقع بعد قوله لصاحبه: لا تحزن. انتهى.

ففيه أنّه لا ريب أنّ فاء التفريع تدلّ على ترتّب ما بعدها على ما قبلها ووقوعه بعده لكن بعديّة رتبيّة لا بعديّة زمانيّة ولم يقل أحد بوجوب كونها زمانيّة دائماً.

فمن الواجب فيما نحن فيه أن يترتّب قوله:( فأنزل الله سكينته عليه وأيّده ) على ما تقدّم عليه من الكلام لا على ما هو أقرب إليه من غيره إلّا على القول بأنّ الأصل في الضمير أن يعود إلى أقرب مذكور، وقد ضعّفه في سابق كلامه.

والّذى يصلح من سابق الكلام ليتعلّق به التفريع المذكور هو قوله: فقد نصره الله في كذا وكذا وقتاً وتفرّع هذه الفروع عليه من قبيل تفرّع التفصيل على الإجمال والسياق على استقامته: فقد نصره الله في وقت كذا فأنزل سكينته عليه وأيّده بجنود لم تروها وجعل كلمة الّذين كفروا السفلى.

فظهر أنّ ما أجاب به أخيراً هو عين ما ضعّفه أوّلاً من حديث أصل قرب المرجع من الضمير - ذاك الأصل الّذى لا أصل له - كرّره ثانياً بتغيير مّا في اللفظ.

ومن هنا يظهر جهة المناقشة في رواية اُخرى رواها في الدرّ المنثورعن ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: دخل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبوبكر غار حراء فقال أبوبكر للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو أنّ أحدهم يبصر موضع قدمه لأبصرني وإيّاك فقال: ما ظنّك باثنين الله ثالثهما إنّ الله أنزل سكينته عليك وأيّدنى بجنود لم تروها.

على أنّ الرواية تذكر غار حراء وقد ثبت بالمستفيض المتكاثر من الأخبار أنّ الغار

٣١٢

كان غار ثور لا غار حراء.

على أنّ الرواية مشتملة على تفكيك السياق صريحاً بما فيها من قوله: أنزل سكينته عليك وأيّدنى بجنود الخ.

وقد أورد الآلوسىّ في روح المعاني الرواية هكذا:( إنّ الله أنزل سكينته عليك وأيّدك بجنود لم تروها ) فأرجع الضميرين إلى أبى بكر دون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولا ندرى أيّ اللفظين هو الأصل وأيّهما المحرّف غير أنّه يضاف على رواية( وأيّدك بجنود لم تروها ) إلى ما ذكر من الإشكال آنفاً إشكالات اُخرى تقدّمت في البيان السابق مضافاً إلى إشكال آخر جديد من جهة قوله:( لم تروها ) بخطاب الجمع ولا مخاطب يومئذ جمعاً.

وفي تفسير القمّىّ في قوله تعالى:( لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً ) في رواية أبى الجارود عن أبى جعفرعليه‌السلام : في قوله:( لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً ) يقول: غنيمة قريبة( لاتّبعوك ) .

وفي تفسير العيّـاشيّ عن زرارة وحمران ومحمّـد بن مسلم عن أبى جعفر وأبى عبداللهعليه‌السلام : في قول الله:( لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتّبعوك ) الآية إنّهم يستطيعون وقد كان في علم الله أنّه لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لفعلوا.

أقول: ورواه الصدوق في المعاني بإسناده عن عبد الأعلى بن أعين عن أبى عبداللهعليه‌السلام مثله.

بيان وفي تفسير القمّىّ في قوله تعالى:( ولكن بعدت عليهم الشقّة ) يعنى إلى تبوك وسبب ذلك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يسافر سفراً أبعد منه ولا أشدّ منه.

وكان سبب ذلك أنّ الصيّافة كانوا يقدمون المدينة من الشام ومعهم الدرموك والطعام، وهم الأنباط فأشاعوا بالمدينة أنّ الروم قد اجتمعوا يريدون غزو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عسكر عظيم، وأنّ هرقل قد سار في جمع جنوده، وجلب معهم غسّان وجذام وبهراء وعاملة، وقد قدّم عساكره البلقاء ونزل هو حمص.

فأرسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه إلى تبوك وهى من بلاد البلقاء، وبعث إلى القبائل

٣١٣

حوله، وإلى مكّة، وإلى من أسلم من خزاعة ومزينة وجهينة فحثّهم على الجهاد.

وأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعسكره فضرب في ثنيّة الوداع، وأمر أهل الجدة أن يعينوا من لا قوّة به، ومن كان عنده شئ أخرجه، وحملوا وقوّوا وحثّوا على ذلك.

وخطب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال بعد حمد الله والثناء عليه: أيّها الناس إنّ أصدق الحديث كتاب الله، وأولى القول كلمة التقوى، وخير الملل ملّة إبراهيم، وخير السنن سنّة محمّـد، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الاُمور عزائمها وشرّ الاُمور محدثاتها، وأحسن الهدى هدى الأنبياء، وأشرف القتلى الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى، وخير الأعمال ما نفع، وخير الهدى ما اتّبع، وشرّ العمى عمى القلب واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قلّ وكفى خير ممّا كثر وألهى، وشرّ المعذرة محضر الموت، وشرّ الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلّا نزراً، ومنهم من لا يذكر الله إلّا هجراً، ومن أعظم الخطايا اللسان الكذب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله، وخير ما اُلقى في القلب اليقين، والارتياب من الكفر، والتباعد من عمل الجاهليّـة، والغلول من قيح جهنّم، والسكر جمر النار، والشعر من إبليس، والخمر جماع الإثم، والنساء حبائل إبليس، والشباب شعبة من الجنون، وشرّ المكاسب كسب الربا، وشرّ الأكل أكل مال اليتيم، والسعيد من وعظ بغيره، والشقىّ من شقى في بطن اُمّه، وإنّما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع، والأمر إلى آخره وملاك الأمر خواتيمه، وأربى الربا الكذب، وكلّما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن توكّل على الله كفاه، ومن صبر ظفر، ومن يعف يعف الله عنه، ومن كظم الغيظ آجره الله، ومن يصبر على الرزيّة يعوّضه الله، ومن تبع السمعة يسمّع الله به، ومن يصمّ يضاعف الله له، ومن يعص الله يعذّبه، اللّهمّ اغفر لى ولاُمّـتى. اللّهمّ اغفر لى ولاُمّـتى أستغفر الله لى ولكم.

قال: فرغب الناس في الجهاد لمّا سمعوا هذا من رسول الله، وقدمت القبائل من

٣١٤

العرب ممّن استنفرهم، وقعد عنه قوم من المنافقين وغيرهم، ولقى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الجدّ بن قيس فقال له: يا أبا وهب ألا تنفر معنا في هذه الغزاة؟ لعلّك أن تحتفد من بنات الأصفر فقال يا رسول الله: والله إنّ قومي ليعلمون أن ليس فيهم أشدّ عجباً بالنساء منّى وأخاف إن خرجت معك أن لا أصبر إذا رأيت بنات الأصفر فلا تفتنّي وائذن لى أن اُقيم. وقال للجماعة من قومه: لا تخرجوا في الحرّ.

فقال ابنه: ترد على رسول الله وتقول له ما تقول ثمّ تقول لقومك: لا تنفروا في الحرّ والله لينزلنّ الله في هذا قرآناً يقرؤه الناس إلى يوم القيامة فأنزل الله على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك:( ومنهم من يقول ائذن لى ولا تفتنّي ألا في الفتنة سقطوا وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين ) .

ثمّ قال الجدّ بن قيس: أيطمع محمّـد أنّ حرب الروم مثل حرب غيرهم. لا يرجع من هؤلاء أحد أبداً.

أقول: وقد روى هذه المعاني في روايات اُخرى كثيرة من طرق الشيعة وأهل السنّة.

وفي العيون بإسناده عن على بن محمّـد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا علىّ بن موسىعليه‌السلام فقال له: يا ابن رسول الله أليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، فقال له المأمون - فيما سأله - يا أبا الحسن فأخبرني عن قول الله تعالى:( عفا الله عنك لم أذنت لهم ) .

قال الرضاعليه‌السلام : هذا ممّا نزل: إيّاك أعني واسمعي يا جارة، خاطب الله تعالى بذلك نبيّه وأراد به اُمّته، وكذلك قوله عزّوجلّ:( لئن أشركت ليحبطنّ عملك ولتكوننّ من الخاسرين) ، وقوله تعالى:( ولو لا أن ثبّـتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً ) . قال: صدقت يا ابن رسول الله.

أقول: ومضمون الرواية ينطبق على ما قدّمناه في بيان الآية، دون ما ذكروه من كون إذنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم في القعود من قبيل ترك الأولى فإنّه لا يستقيم معه كون الآية

٣١٥

من قبيل( إيّاك أعنى واسمعي يا جارة ) .

وفي الدرّ المنثور أخرج عبدالرزّاق في المصنّف، وابن جرير، عن عمرو بن ميمون الأودىّ قال: اثنتان فعلهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يؤمر فيهما بشئ: إذنه للمنافقين، وأخذه من الاُسارى فأنزل الله:( عفا الله عنك لم أذنت لهم ) الآية.

أقول: وقد تقدّم الكلام على مضمون الرواية.

وفي تفسير القمّىّ في قوله تعالى:( ولو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدّة ) الآية وما بعدها قال: وتخلّف عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل نيّات وبصائر لم يكن يلحقهم شكّ ولا ارتياب ولكنّهم قالوا: نلحق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

منهم أبوخيثمة وكان قويّاً وكان له زوجتان وعريشان، وكانتا زوجتاه قد رشّتا عريشتيه، وبرّدتا له الماء، وهيّأتا له طعاماً فأشرف على عريشتيه فلمّا نظر إليهما قال: لا والله ما هذا بإنصاف، رسول الله قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر قد خرج في الفيح والريح، وقد حمل السلاح يجاهد في سبيل الله، وأبوخيثمة قوىّ قاعد في عريشة وامرأتين حسناوين لا والله ما هذا بإنصاف.

ثمّ أخذ ناقته فشدّ عليها رحله ولحق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنظر الناس إلى راكب على الطريق فأخبروا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كن أباخيثمة فأقبل، وأخبر النبيّ بما كان منه فجزّاه خيراً ودعا له.

وكان أبوذرّ تخلّف عن رسول الله ثلاثة أيّـام وذلك أنّ جمله كان أعجف، فلحق بعد ثلاثة أيّـام به ووقف عليه جمله في بعض الطريق فتركه وحمل ثيابه على ظهره فلمّا ارتفع النهار نظر المسلمون إلى شخص مقبل فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كن أباذرّ فقالوا: هو أبوذرّ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أدركوه فإنّه عطشان فأدركوه بالماء.

ووافى أبوذرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه إداوة فيها ماء فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أباذرّ معك ماء وعطشت؟ قال: نعم يا رسول الله بأبى أنت واُمّى انتهيت إلى صخرة عليها ماء السماء فذقته فإذا هو عذب بارد فقلت: لا أشربه حتّى يشرب رسول الله.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أباذرّ رحمك الله، تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث

٣١٦

وحدك، وتدخل الجنّـة وحدك، يسعد بك قوم من أهل العراق يتولّون غسلك وتجهيزك والصلاة عليك ودفنك.

ثمّ قال: وقد كان تخلّف عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوم من المنافقين وقوم من المؤمنين مستبصرين لم يعثر عليهم في نفاق: منهم كعب بن مالك الشاعر ومُرارة بن الربيع وهلال بن اُميّة الرافعىّ فلمّا تاب الله عليهم قال كعب: ما كنت قطّ أقوى منّى في ذلك الوقت الّذى خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى تبوك، وما اجتمعت لى راحلتان قطّ إلّا في ذلك اليوم، وكنت أقول: أخرج غداً بعد غد فإنّى مقوّى، وتوانيت وثقلت بعد خروج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّـاماً أدخل السوق ولا أقضي حاجة فلقيت هلال بن اُميّة ومرارة بن الربيع وقد كانا تخلّفا أيضاً فتوافقنا أن نبكر إلى السوق، فلم نقض حاجة فما زلنا نقول: نخرج غداً وبعد غد حتّى بلغنا إقبال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فندمنا.

فلمّا وافى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استقبلناه نهنّئه السلامة فسلّمنا عليه فلم يردّ علينا السلام وأعرض عنّا، وسلّمنا على إخواننا فلم يردّوا علينا السلام فبلغ ذلك أهلونا فقطعوا كلامنا، وكنّا نحضر المسجد فلا يسلّم علينا أحد ولا يكلّمنا فجاءت نساؤنا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلن: قد بلغنا سخطك على أزواجنا أفنعتزلهم؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تعتزلنّهم ولكن لا يقربوكنّ.

فلمّا رأى كعب بن مالك وصاحباه ما قد حلّ بهم قالوا: ما يقعدنا بالمدينة ولا يكلّمنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا إخواننا ولا أهلونا؟ فهلمّوا نخرج إلى هذا الجبل فلا نزال فيه حتّى يتوب الله علينا أو نموت.

فخرجوا إلى ذباب - جبل بالمدينة - فكانوا يصومون وكان أهلوهم يأتونهم بالطعام فيضعونه ناحية ثمّ يولّون عنهم ولا يكلمونهم.

فبقوا على هذا أيّـاماً كثيرة يبكون بالليل والنهار ويدعون الله أن يغفر لهم فلمّا طال عليهم الأمر قال لهم كعب: يا قوم قد سخط الله علينا ورسوله، وقد سخط علينا أهلونا،

٣١٧

وإخواننا قد سخطوا علينا فلا يكلّمنا أحد فلم لا يسخط بعضنا على بعض؟ فتفرّقوا في الجبل وحلفوا أن لا يكلّم أحد منهم صاحبه حتّى يموت أو يتوب الله عليه فبقوا على ذلك ثلاثة أيّـام، وكلّ واحد منهم في ناحية من الجبل لا يرى أحد منهم صاحبه ولا يكلّمه.

فلمّا كان في الليلة الثالثة، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيت أمّ سلمة نزلت توبتهم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله:( لقد تاب الله بالنبيّ على المهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة ) قال الصادقعليه‌السلام : هكذا نزلت وهو أبوذرّ وأبو خيثمة وعمير بن وهب الّذين تخلّفوا ثمّ لحقوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ قال في هؤلاء الثلاثة:( وعلى الثلاثة الّذين خلّفوا ) فقال العالمعليه‌السلام : إنّما اُنزل: على الثلاثة الّذين خالفوا ولو خلّفوا لم يكن عليهم عيب( حتّى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ) حيث لا يكلّمهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا إخوانهم ولا أهلوهم فضاقت عليهم المدينة حتّى خرجوا منها( وضاقت عليهم أنفسهم ) حيث حلفوا أن لا يكلّم بعضهم بعضاً فتفرّقوا وتاب الله عليهم لما عرف من صدق نيّاتهم.

أقول: وسيأتى الكلام في الآيتين وما ورد فيهما من الروايات.

وفي تفسير العيّـاشيّ عن المغيرة قال: سمعته يقول في قول الله عزّوجلّ:( ولو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدّة ) ، قال: يعنى بالعدّة النيّة يقول:( لو كان لهم نيّة لخرجوا ) .

أقول: الرواية على ضعفها وإرسالها وإضمارها لا تنطبق على لفظ الآية والله أعلم.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن إسحاق وابن المنذر عن الحسن البصريّ قال: كان عبدالله بن اُبىّ وعبدالله بن نبتل ورفاعة بن زيد بن تابوت من عظماء المنافقين، وكانوا ممّن يكيد الإسلام وأهله، وفيهم أنزل الله:( لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلّبوا لك الاُمور ) إلى آخر الآية.

٣١٨

( سورة التوبة آيه ٤٩ - ٦٣)  

وَمِنْهُم مَن يَقُولُ ائْذَن لِي وَلاَ تَفْتِنّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنّ جَهَنّمَ لَُمحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ( ٤٩ ) إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ ( ٥٠ ) قُل لَن يُصِيبَنَا إِلّا مَاكَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( ٥١ ) قُلْ هَلْ تَرَبّصُونَ بِنَا إِلّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبّصُوا إِنّا مَعَكُمْ مُتَرَبّصُونَ ( ٥٢ ) قُلْ أَنفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَن يُتَقَبّلَ مِنكُمْ إِنّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ( ٥٣ ) وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلّا أَنّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصّلاَةَ إِلّا وَهُمْ كُسَالَى‏ وَلاَ يُنفِقُونَ إِلّا وَهُمْ كَارِهُونَ ( ٥٤ ) فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ( ٥٥ ) وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُمْ مِنكُمْ وَلكِنّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ( ٥٦ ) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدّخَلاً لَوَلّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ( ٥٧ ) وَمِنْهُمْ مَن يَلْمِزُكَ فِي الصّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ( ٥٨ ) وَلَوْ أَنّهُمْ رَضُوا مَاآتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ ( ٥٩ ) إِنّمَا الصّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٦٠ ) وَمِنْهُمُ الّذِينَ يُؤْذُونَ النّبِيّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ

٣١٩

قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٦١ ) يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ ( ٦٢ ) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنّ لَهُ نَارَ جَهَنّمَ خَالِداً فِيهَا ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ( ٦٣ )

( بيان)

الآيات تعقّب القول في المنافقين وبيان حالهم وفيها ذكر أشياء من أقوالهم وأفعالهم، والبحث عمّا يكشف عنه من خبائث أوصافهم الباطنة واعتقاداتهم المبنيّـة على الضلال.

قوله تعالى: ( ومنهم من يقول ائذن لى ولا تفتنّي ألا في الفتنة سقطوا ) الآية الفتنة ههنا - على ما يهدى إليه السياق - إمّا الإلقاء إلى ما يفتتن ويغرّ به، وإمّا الإلقاء في الفتنة والبليّة الشاملة.

والمراد على الأوّل: ائذن لى في القعود وعدم الخروج إلى الجهاد، ولا تلقني في الفتنة بتوصيف ما في هذه الغزوة من نفائس الغنائم ومشتهيات الأنفس فأفتتن بها وأضطرّ إلى الخروج، وعلى الثاني ائذن لى ولا تلقني إلى ما في هذه الغزوة من المحنة والمصيبة والبليّة.

فأجاب الله عن قولهم بقولهم:( ألا في الفتنة سقطوا ) ومعناه أنّهم يحترزون بحسب زعمهم عن فتنة مترقّبة من قبل الخروج، وقد أخطؤوا فإنّ الّذى هم عليه من الكفر والنفاق وسوء السريرة، ومن آثاره هذا القول الّذى تفوّهوا به هو بعينه فتنة سقطوا فيها فقد فتنهم الشيطان بالغرور، ووقعوا في مهلكة الكفر والضلال وفتنته.

هذا حالهم في هذه النشأة الدنيويّـة وأمّا في الآخرة فإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين

٣٢٠