الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 97197 / تحميل: 6780
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

والمراد من «الوازرة» من يتحمّل الوزر(١) .

ولمزيد الإيضاح يضيف القرآن قائلا :( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) (٢) .

«السعي» في الأصل معناه السير السريع الذي لا يصل مرحلة الركض ، إلّا أنّه يستعمل غالبا في الجدّ والمثابرة ، لأنّ الإنسان يؤدّي حركات سريعة في جدّه ومثابرته سواء كان ذلك في الخير أو الشرّ!

والذي يسترعي الانتباه أنّ القرآن لا يقول : وان ليس للإنسان إلّا ما أدّى من عمل بل يقول : إلّا ما سعى. وهذا التعبير إشارة إلى أنّ على الإنسان أن يجدّ ويثابر فذلك هو المطلوب منه وإن لم يصل إلى هدفه ، فالعبرة بالنيّة ، فإذا نوى خيرا أعطاه الله ثوابه ، لأنّ الله يتقبّل النيّات والمقاصد لا الأعمال المؤدّاة فحسب.

أمّا الآية التالية فتقول :( وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ) فالإنسان لا يرى غدا نتائج أعماله التي كانت في مسير الخير أو الشرّ فحسب ، بل سيرى أعماله نفسها يوم الحساب ، كما نجد التصريح بذلك في الآية (٣٠) من سورة آل عمران :( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ) .

كما ورد التصريح بمشاهدة الأعمال الصالحة والطالحة عند القيامة في سورة الزلزلة الآيتين (٧) و٨) :( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ! أمّا الآية الأخيرة من الآيات محل البحث فتقول :( ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى ) (٣) .

والمراد من «الجزاء الأوفى» هو الجزاء الذي يكون طبقا للعمل. وبالطبع هذا

__________________

(١) أتت لفظ الوازرة لكونه وصفا للنفس المحذوفة في الآية ومثلها تأنيث اخرى.

(٢) كلمة «ما» في «ما سعى» مصدرية.

(٣) نائب الفاعل في يجزاه ضمير يعود على الإنسان والهاء في يجزاه تعود على العمل (مع حذف حرف الجرّ) وتقدير الآية هكذا ثمّ يجزى الإنسان بعمله أو على عمله الجزاء الأوفى يقول الزمخشري في الكشّاف : يمكن أن لا يكون هناك حرف مقدّر لأنّه يقال يجزى العبد سعيه إلّا أنّه ينبغي الالتفات إلى أنّه يقال مثلا جزاه الله على عمله ويندر أن يقال جزاه الله عمله ، والجزاء الأوفى يمكن أن يكون مفعولا ثانيا أو مفعولا مطلقا.

٢٦١

لا ينافي لطف الله وتفضّله بأن يضاعف الجزاء على الأعمال الصالحة عشرة أضعاف أو عشرات الأضعاف ومئاتها وإلى ما شاء الله! وما فسّره بعضهم بأنّ «الجزاء الأوفى» معناه الجزاء الأكثر في شأن الحسنات ، لا يبدو صحيحا ، لأنّ كلام هذه الآية يشمل الذنوب والأعمال الطالحة ، بل الكلام فيها أساسا على الوزر والذنب «فلاحظوا بدقّة»!

* * *

بحوث

١ ـ ثلاثة اصول إسلامية مهمّة

أشير في الآيات ـ آنفة الذكر ـ إلى ثلاثة اصول من الأصول الإسلامية ، وقد أكّدت عليها الكتب السماوية السابقة وهي :

أ ـ كلّ إنسان مسئول عن ذنبه ووزره.

ب ـ ليس للإنسان في آخرته إلّا سعيه.

ج ـ يجزي الله كلّ إنسان على عمله الجزاء الأوفى.

وهكذا فإنّ القرآن يشجب الكثير من الأوهام والخرافات التي يهتمّ بها عامّة الناس أو السائدة بينهم وكأنّها مذهب عقائدي!

والقرآن لا ينفي ـ عن هذا الطريق ـ عقيدة العرب المشركين الذين يعتقدون أنّ بإمكان الإنسان أن يتحمّل وزر الآخر فحسب! بل ينفي الإعتقاد الذي كان سائدا ـ ولا يزال ـ بين المسيحيين ، وهو أنّ الله أرسل ابنه المسيح ليصلب ويذوق العذاب والألم ويحمل على عاتقه ذنوب المذنبين!.

وكذلك يحكم على جماعة من القسسة والرهبان بقبح عملهم لما كانوا يبيعونه من صكوك الغفران ومنح قطع الأراضي في الجنّة لمن يشاءون ، والعفو عن المخطئين!! فكلّ هذه الأمور باطلة.

٢٦٢

ومنطق العقل أيضا يقتضي أنّ كلّا مسئول عن عمله ، ويعود عليه عمله بالنفع أو الضرر.

وهذا المبدأ الإسلامي يؤدّي إلى أن يسعى الإنسان إلى الخير وأن يجتهد بدلا من الالتجاء إلى الخرافات أو أن يتحمّل آثامه غيره! وأن يتجنّب الذنب ويتّقي الله ، وإذا ما اتّفق له أن عثرت قدمه في معصية ، فعليه أن يبادر إلى التوبة ويجبر ذلك بالاستغفار والعمل الصالح!

وتأثير هذه العقيدة التربوية في الناس واضح تماما ولا يقبل الإنكار ، كما أنّ أثر تلك المعتقدات الجاهلية الفاسدة ـ المخرّب لا يخفى على أحد.

وصحيح أنّ هذه الآيات ناظرة إلى السعي والمثابرة والعمل للآخرة ورؤية الثواب في الآخرة! إلّا أنّ الملاك والمعيار الأصلي له يتجلّى في الدنيا أيضا أي أنّ الأفراد المؤمنين لا ينبغي لهم أن يتوقّعوا من الآخرين أن يعملوا لهم ويحلّوا مشاكلهم الاجتماعية ، بل عليهم أنفسهم أن ينهضوا ويجدّوا ويثابروا أبدا.

ويستفاد من هذه الآيات أصل حقوقي في المسائل الجزائية أيضا ، وهو أنّ الجزاء أو العقاب إنّما ينال المذنب الحقيقي ، وليس لأحد أن يجعل إثم غيره في ذمّته!

٢ ـ سوء الاستفادة من مفاد الآية :

كما بيّنا آنفا ، فإنّ هذه الآيات بقرينة الآيات التي قبلها والآيات التي بعدها ناظرة إلى سعي الإنسان لأمور الآخرة ، إلّا أنّه مع هذه الحال ـ لما كان ذلك على أساس حكم عقلي مسلّم به فيمكن تعميم السعي والجدّ حتّى يشمل السعي لأمور الدنيا ويشمل أيضا الجزاء الدنيوي ، إلّا أنّ ذلك لا يعني أن يتأثّر بعضهم بالمذاهب الاشتراكية فيقول : إنّ مفهوم الآية أنّ المالكية إنّما تحصل عن طريق العمل فحسب ، وبذلك يخطّي قانون الإرث والمضاربة والإجارة وأمثالها!

٢٦٣

والعجب أنّه ينادي بالإسلام ويستدلّ بآيات القرآن أيضا مع أنّ مسألة الإرث من الأصول الإسلامية القطعية ، وكذلك الخمس والزكاة! علما بأنّه لم يسع الوارث إلى إرثه ولا مستحقّو الزكاة أو الخمس إليهما ، ولم يقع سعي في مواطن النذر والوصايا ومع كلّ ذلك فإنّ القرآن الكريم ذكر هذه الأمور.

وبتعبير آخر أنّ هذا هو الأصل ، إلّا أنّه غالبا ما يوجد استثناء أمام كلّ أصل ، فمثلا الولد يرث أباه هذا أصل إسلامي ، لكن متى قتل الولد أباه أو خرج عن الإسلام حرم حقّ الإرث.

وكذلك نتيجة سعي كلّ شخص تعود عليه أو إليه ، هذا هو الأصل ، إلّا أنّه لا مانع من أن يعطي مقدار من المال للآخر طبقا لقرار الإجارة بين الطرفين ، وهو أصل قرآني(١) كذلك ، أو أن ينتقل المال عن طريق النذر أو الوصية ، كما صرّح به القرآن الكريم.

٣ ـ الجواب على سؤالين

يرد هنا سؤالان وينبغي أن نجيب عليها :

أوّلا : إذا كان ما يناله الإنسان يوم القيامة هو نتيجة سعيه ، فما معنى الشفاعة إذا؟!

والثّاني : إنّنا نقرأ في الآية (٢١) من سورة الطور في شأن أهل الجنّة :( أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) ! مع أنّ الذريّة لم تسع في هذا المضمار ، ثمّ إنّنا نجد في الرّوايات الإسلامية أنّ الإنسان إذا عمل عملا صالحا فإنّ نتيجة ذلك تنعكس على أبنائه أيضا.

والجواب على هذه الأسئلة جملة واحدة وهي أنّ القرآن يقول أنّ الإنسان

__________________

(١) جاء هذا الأصل في قصّة موسى وشعيب في سورة القصص الآية (٢٧).

٢٦٤

ليس له أن يأخذ أكثر من سعيه وعمله ، إلّا أنّه لا يمنع أن ينال بعض الناس اللائقين نعما أخر عن طريق اللطف والتفضّل الإلهي.

فالاستحقاق شيء ، والتفضّل شيء آخر! كما أنّ الله يضاعف الحسنات عشرات المرّات بل مئات المرّات وآلافها أحيانا.

ثمّ ـ الشفاعة ـ كما ذكرنا في محلّه ـ ليست اعتباطا ـ بل هي بحاجة إلى السعي والجدّ وإيجاد العلاقة بالشافع أيضا ، وكذلك الأمر في شأن ذريّة الأشخاص الصالحين ، فإنّ القرآن يقول أيضا :( وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ ) !.

٤ ـ صحف إبراهيم وموسى

«الصحف» جمع صحيفة ، وتطلق هذه الكلمة على كلّ شيء واسع كما يقال مثلا صحيفة الوجه ، ثمّ استعملوا هذه الكلمة على صفحات الكتاب.

فالمراد من صحف موسى هي التوراة النازلة عليه وأمّا صحف إبراهيم فما نزل عليه من كتاب سماوي أيضا.

ينقل المرحوم الطبرسي في مجمع البيان حديثا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير سورة الأعلى وخلاصته ما يلي.

يسأل أبو ذرّ النّبي : يا رسول الله كم عدد الأنبياء؟

فيجيبه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهم مائة الف نبي وأربعة وعشرون ألفا.

فيسأله ثانية عن الرسل منهم : كم المرسلون؟

فيجيبه النبي : ثلاثمائة وثلاثة عشر وبقيّتهم أنبياء «والرّسول هو المأمور بالإنذار والإبلاغ في حين أنّ النّبي أعمّ منه مفهوما».

ويسأل أبو ذرّ مرّة اخرى : كان آدم نبيّا؟!

فيجيب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم ، كلّمه الله وخلقه بيده.

فيسأله أبو ذرّ : كم أنزل الله من كتاب؟ فيجيب النبي : مائة وأربعة كتب أنزل الله

٢٦٥

منها على آدم عشر صحف ، وعلى شيث خمسين صحيفة وعلى أخنوخ وهو «إدريس» ثلاثين صحيفة ، وهو أوّل من خطّ بالقلم ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان»(١) .

٥ ـ المسؤولية عن الأعمال في كتب السابقين

الذي يلفت النظر أنّ التّوراة الحالية أوردت المضمون الذي ذكرته الآيات محلّ البحث في كتاب حزقيل إذ جاء فيه :

«الجاني الذي يذنب سيموت ، والابن لا يحمل عبء أبيه والأب لا يحمل ذنب ابنه»(٢) .

وجاء هذا المعنى ذاته أيضا في مورد القتل في سفر التثنية من التوراة.

«لا يقتل الآباء عوضا عن الأبناء ولا يقتل الأبناء عوضا عن الآباء ، فكلّ يقتل بذنبه»(٣) .

وبالطبع فإنّ كتب الأنبياء الأصلية ليست في متناول اليد ، وإلّا لكان من الممكن أن نعثر على موارد أكثر في شأن هذا الأصل وأمثاله.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٧٦ وذكر هذا الحديث في روح البيان أيضا ، ج ٩ ، ص ٢٤٦.

(٢) كتاب حزقيل ، الفصل ١٨ ص ٢٠.

(٣) التوراة ، سفر التثنية ، باب ٢٤ الرقم ١٦.

٢٦٦

الآيات

( وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) )

التّفسير

كلّ شيء ينتهى إليه :

في هذه الآيات تتجلّى بعض صفات الله التي ترشد الإنسان إلى مسألة التوحيد وكذلك المعاد أيضا.

ففي هذه الآيات وإكمالا للبحوث الواردة في شأن جزاء الأعمال يقول القرآن :( وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى ) .

وليس الحساب والثواب والجزاء في الآخرة بيد قدرته فحسب ، فإنّ الأسباب والعلل جميعها تنتهي سلسلتها إلى ذاته المقدّسة ، وجميع تدبيرات هذا العالم تنشأ من تدبيراته ، وأخيرا فإنّ ابتداء هذا العالم والموجودات وانتهاؤها كلّها

٢٦٧

منه وإليه ، وتعود إلى ذاته المقدّسة.

ونقرأ في بعض الرّوايات في تفسير هذه الآية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا»(١) .

أي لا تتكلّموا في ذات الله فإنّ العقول تحار فيه ولا تصل إلى حدّ فإنّه لا يمكن للعقول المحدودة أن تفكّر في ما هو غير محدود لأنّه مهما فكّرت العقول فتفكيرها محدود وحاشا لله أن يكون محدودا.

وبالطبع فإنّ هذا التّفسير يبيّن مفهوما آخر لهذه الآية ولا ينافي ما ذكرناه آنفا ويمكن الجمع بين المفهومين في الآية.

ثمّ يضيف القرآن في الآية التالية مبيّنا حاكمية الله في أمر ربوبيته وانتهاء امور هذا العالم إليه فيقول :( وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ) (٢) ( مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى ) !

وهذه الآيات الأربع وما قبلها في الحقيقة هي بيان جامع وتوضيح طريف لمسألة انتهاء الأمور إليه وتدبيره وربوبيته ، لأنّها تقول : إنّ موتكم وحياتكم بيده واستمرار النسل عن طريق الزوجين بيده ، وكلّ ما يحدث في الحياة فبأمره ، فهو يضحك ، وهو يبكي ، وهو يميت ، وهو يحيي ، وهكذا فإنّ أساس الحياة والمعوّل عليه من البداية حتّى النهاية هو ذاته المقدّسة.

وقد جاء في بعض الأحاديث ما يوسع مفهوم الضحك والبكاء في هذه الآية ففسّرت بأنّه سبحانه : أبكى السماء بالمطر وأضحك الأرض بالنبات(٣) .

وقد أورد بعض الشعراء هذا المضمون في شعره فقال :

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم طبقا لما جاء في نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٧٠.

(٢) هذه الأفعال وإن جاءت بصيغة الماضي إلّا أنّها تعطي معنى الفعل المضارع أيضا والدلالة على الدوام (فلاحظوا بدقّة).

(٣) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٧٢.

٢٦٨

انّ فصل الربيع فصل جميل

تضحك الأرض من بكاء السماء

وما يسترعي النظر أنّ القرآن أشار إلى صفتي الضحك والبكاء دون سائر أفعال الإنسان ، لأنّ هاتين الصفتين خاصّتان بالإنسان وغير موجودتين في الحيوانات الاخر أو نادرتان جدّا.

أمّا تصوير انفعالات الإنسان عند الضحك أو البكاء وعلاقتهما بالتغيّرات في نفس الإنسان وروحه فانّها غريبة وعجيبة جدّا ، وكلّ هذه الأمور في مجموعها يمكن أن تكون آية واضحة من آيات المدبّر الحقّ ، بالإضافة إلى التناسب الموجود بين الضحك والبكاء والحياة والفناء!

وعلى كلّ حال ، فانتهاء جميع الأمور إلى تدبير الله وربوبيته لا ينافي أصل الإختيار وحرية إرادة الإنسان ، لأنّ الإختيار وحرية الإرادة في الإنسان أيضا من قبل الله وتدبيره وتنتهي إليه!.

وبعد ذكر الأمور المتعلّقة بالربوبية والتدبير من قبل الله يتحدّث القرآن عن موضوع المعاد فيقول :( وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى ) .

«النشأة» : معناها الإيجاد والتربية ، و «النشأة الاخرى» ليست شيئا سوى القيامة!

والتعبير بـ «عليه» من جهة أنّ الله لمّا خلق الناس وحمّلهم الوظائف والمسؤوليات وأعطاهم الحرية وكان بينهم المطيعون وغير المطيعون والظلمة والمظلومون ولم يبلغ أي من هؤلاء جزاءه النهائي في هذا العالم ، اقتضت حكمته أن تكون نشأة اخرى للتحقّق العدالة.

أضف إلى ذلك فإنّ الحكيم لا يخلق هذا العالم الواسع لأيّام أو سنوات محدودة بما فيها من مسائل غير منسجمة ، فلا بدّ أن يكون مقدّمة لحياة أوسع تكمن فيها قيمة هذا الخلق الواسع ، وبتعبير آخر إذا لم تكن هناك نشأة اخرى فإيجاد هذا العالم لا يبلغ هدفه النهائي!

٢٦٩

وممّا ينبغي الالتفات إليه أنّ الله سبحانه جعل هذا الوعد لعباده وعدا محتوما على نفسه ، وصدق كلام الله يوجب أن لا يخلف وعده.

ثمّ يضيف القرآن في الآية التالية قائلا :( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى ) فالله سبحانه لم يرفع حاجات الإنسان المادية عنه بلطفه العميم فحسب ، بل أولاده غنى يرفع عنه حاجاته المعنوية من امور التربية والتعليم والتكامل عن طريق إرسال الرسل إليه وإنزال الكتب السماوية وإعطائه المواهب العديدة.

«وأغنى» : فعل مشتق من غني ومعناه عدم الحاجة.

«وأقنى» : فعل مشتقّ من قنية على وزن جزية ، ومعناها الأموال التي يدّخرها الإنسان(١) .

فيكون معنى الآية على هذا النحو : هو أغنى أي رفع الحاجات الفعلية ، وأقنى معناه إيلاء المواهب التي تدخّر سواء في الأمور المادية كالحائط أو البستان والأملاك وما شاكلها ، أو الأمور المعنوية كرضا الله سبحانه الذي يعدّ أكبر «رأس مال» دائم!

وهناك تفسير آخر لأقنى ، وهو أنّه ما يقابل أغنى ، أي أنّ الغنى والفقر بيد قدرته ، نظير ذلك ما جاء في الآية (٢٦) من سورة الرعد :( اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ) .

إلّا أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع ما ورد عن «أقنى» من معنى في كتب اللغة والآية المذكورة في هذا الصدد لا يمكن أن تكون «شاهدا» على هذا التّفسير.

أمّا آخر آية من الآيات محلّ البحث فتقول :( وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى ) .

والتعويل في القرآن على «الشعرى» النجم المعروف في السماء بالإضافة إلى أنّه أكثر النجوم لمعانا ويطّلع عند السحر في مقربة من الجوزاء ممّا يلفت النظر

__________________

(١) راجع المفردات للراغب ، مادّة قني.

٢٧٠

تماما هذا التعويل والتصريح به لأنّ طائفة من المشركين العرب كانت تعبده ، فالقرآن يشير إلى أنّ الأولى بالعبادة هو الله لأنّه ربّ الشعرى «وربّكم».

وينبغي الالتفات ـ ضمنا ـ أنّ هناك نجمين معروفين باسم الشعرى أحدهما إلى الجنوب ويدعى بنجم الشعرى اليماني «لأنّ اليمن جنوب الجزيرة العربية» والآخر نجم الشعرى الشامي الواقع في الجهة الشمالية «والشام شمال الجزيرة أيضا» إلّا أنّ المعروف والمشهور هو الشعرى اليماني.

وهناك لطائف ومسائل خاصّة في هذا النجم «الشعرى» سنتحدّث عنه بعد قليل.

* * *

بحوث

١ ـ كلّ الدلائل تشير إليه

إنّ ما تثيره هذه الآيات في الحقيقة إشارة إلى هذا المعنى ، وهو أنّ أي نوع من أنواع التدبير في هذا العالم إنّما يعود إلى ذات الله المقدّسة ، بدءا من مسألة الموت والحياة ، إلى خلق الإنسان من نطفة لا قيمة لها ، وكذلك الحوادث المختلفة التي تقع في حياة الإنسان فتضحكه تارة وتبكيه اخرى ، كلّ ذلك من تدبير الله سبحانه.

والنجوم والكواكب المشرقة في السماء تطلع وتغيب بأمره وتحت ربوبيته.

وفي الأرض الغنى وعدم الحاجة وما يقتنيه الإنسان كلّ ذلك يعود إلى ذاته المقدّسة.

وبالطبع فإنّ النشأة الاخرى بأمره أيضا ، لأنّها حياة جديدة وامتداد لهذه الحياة واستمرارها.

هذا البيان ـ يبرز خطّ التوحيد من جهة ومن ـ جهة اخرى ـ خطّ المعاد ، لأنّ خالق الإنسان من نطفة لا قيمة لها في الرحم قادر على تجديد حياته أيضا.

٢٧١

وبتعبير آخر ، إنّ جميع هذه الأمور كاشفة عن توحيد أفعال الله وتوحيد ربوبيته أجل كلّ هذي الأصداء من إيحائه!

٢ ـ عجائب نجم الشعرى :

«نجم الشعرى» كما أشرنا إليه آنفا من أشدّ النجوم في السماء لمعانا وإشراقا وهو معروف بنجم الشعرى اليماني ، لأنّه يقع في جهة جنوب الجزيرة العربية ، وحيث أنّ اليمن في جنوب الجزيرة أيضا فقد أطلق عليه «باليماني»!

وكانت طائفة من العرب كقبيلة «خزاعة» تقدّس هذا النجم وتعبده وتعتقد أنّه مبدأ الموجودات على الأرض فتأكيد القرآن على أنّ الله ربّ الشعرى هو لإيقاظ هذه القبيلة وأمثالها من غفوتها ، لئلّا يشتبه المخلوق بالخالق ويجعل المربوب مكان الربّ كما كانت القبيلة آنفة الذكر عليه.

هذا النجم العجيب الخلقة لإشراقه الكثير عدّ ملك النجوم وله أسرار وعجائب نشير إليها في هذا البحث مع ملاحظة أنّ هذه الحقائق كانت في ذلك العصر مجهولة عند العرب وغيرهم عن الشعرى فإنّ تأكيد القرآن على هذا الموضوع ذو معنى غزير!

أ ـ طبقا للتحقيقات التي أجريت في المراصد المعروفة في العالم عن «الشعرى» ظهر أنّ حرارة هذا النجم تبلغ ١٢٠ ألف درجة سانتيغراد!.

مع العلم أنّ حرارة سطح الشمس لا تتجاوز ٦٥٠٠ درجة سانتيغراد وهذا التفاوت بين الحرارتين يبيّن مدى حرارة الشعرى بالنسبة إلى الشمس.

ب ـ الجرم المخصوص لهذا النجم أثقل وزنا من الماء بمقدار خمسين ألف مرّة تقريبا ، أي أنّ وزن الليتر من الماء على الشعرى يعادل خمسين طنّا على سطح الأرض! مع أنّ من بين مجموع المنظومة الشمسية يعدّ كوكب عطارد أكثر الأجرام في وزنه النوعي ولا يتجاوز وزنه النوعي ستّة أضعاف الوزن النوعي للماء!

٢٧٢

فينبغي أن نعرف بهذا الوصف كم هذا النجم مثير للدهشة والعجب ، ومن أي عنصر يتألّف حتّى صار مضغوطا بهذا المستوى؟!

ج ـ يظهر نجم الشعرى ـ في قرننا ـ عند فصل الشتاء إلّا أنّ هذا النجم أو الكوكب كان يظهر في عصر منجمّي مصر في الصيف! وهو كوكب كبير يعادل عشرين ضعفا من كوكب الشمس ، ومسافته تبعد عن الأرض أكثر من مسافة الشمس بمقدار كبير وقد ذكروا أنّ مسافة بين الشعرى والأرض تعادل مليون مرّة المسافة بيننا وبين الشمس.

ونعرف أنّ سرعة النور في الثانية ٣٠٠ ألف ألف متر (ثلاثمائة ألف كيلومتر) وأنّ نور الشمس يصل إلينا خلال ثماني دقائق وثلاث عشرة ثانية مع أنّها تبعد عنّا مسافة خمسة عشر مليون كيلو «مترا» في حين أنّ شعاع الشعرى لا يصلنا إلّا بعد عشر سنين ، والآن قدّروا كم هي الفاصلة بين الشعرى والأرض!

د ـ لكوكب الشعرى نجم تابع له يدور حوله وهو من نجوم السماء الغامضة.

وأوّل من اكتشفه عالم يدعى بسل Besell عام ١٨٤٤ م إلّا أنّه رؤي عام ١٨٦٢ بالمجهر «التلسكوب» ويكمل هذا النجم دورته حول الشعرى في ٥٠ عاما(١) .

كلّ هذا يدلّ أنّ تعابير القرآن إلى أيّ مدى عميقة وذات معنى غزير ، وفي طيّات تعابيره حقائق كامنة إذا لم يقدّر لها أن تعرف في عصر نزولها فإنّها تتجلّى بمرور الزمان.

٣ ـ حديث عميق المحتوى عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

جاء في بعض الأحاديث أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ بقوم يضحكون فقال : لو تعلمون

__________________

(١) دائرة المعارف الإسلامية مادّة ، شعرى.

٢٧٣

ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا فنزل عليه جبرئيل فقال : إنّ الله هو أضحك وأبكى فرجع النّبي إليهم وقال ما خطوت أربعين خطوة حتّى أتاني جبرئيل فقال : ائت هؤلاء ، فقل لهم : إنّ الله أضحك وأبكى(١) .

وفي ذلك إشارة إلى أنّ المؤمن لا يلزمه أن يبكي دائما ، فالبكاء من خوف الله في محلّه مطلوب ، والضحك في محلّه مطلوب أيضا ، لأنّهما من الله!

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه التعابير لا تنافي أصل الإختيار وحرية الإرادة في الإنسان ، لأنّ الهدف هو بيان علّة العلل وخالق هذه الغرائز والإحساسات!

وعند ما نقرأ في الآية ٨٢ من سورة التوبة قوله تعالى :( فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) فهذا الأمر وارد في المنافقين ، لأنّ الآيات التي قبل هذه الآية وبعدها تشهد بذلك!

الذي يلفت النظر أنّ القرآن يقسم في بداية السورة بالنجم فيقول :( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ) وفي الآية محلّ البحث يقول في بيان صفات الله :( وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى ) فإذا جمعنا الآيتين جنبا إلى جنب فهمنا لم لا يصحّ عبادة الشعرى ، لأنّ كوكب الشعرى يأفل أيضا ، وهو أسير في قبضة قوانين الخلق!

* * *

__________________

(١) تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٣٠.

٢٧٤

الآيات

( وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) )

التّفسير

ألا تكفي دروس العبرة هذه؟!

هذه الآيات ـ كالآيات المتقدّمة ـ تستكمل المسائل المذكورة في الصحف الاولى وما جاء في صحف إبراهيم وموسى.

وكانت الآيات المتقدّمة قد ذكرت عشر مسائل ضمن فصلين :

الأوّل : كان ناظرا إلى مسئولية كلّ إنسان عن أعماله.

الثاني : ناظر إلى انتهاء جميع الخطوط والحوادث إلى الله سبحانه! أمّا الآيات محلّ البحث فتتحدّث عن مسألة واحدة ـ وإن شئت قلت ـ تتحدّث عن موضوع واحد ذلك هو مجازاة أربع امم من الأمم المنحرفة الظالمة وإهلاكهم ، وفي ذلك إنذار لأولئك الذين يلوون رؤوسهم عن طاعة الله ولا يؤمنون بالمبدأ والمعاد(١) .

__________________

(١) ينبغي الالتفات بأنّ هذه المسائل أو المواضيع المشار إليها في القرآن في أحد عشر فصلا ، كلّها بدأت بأنّ : فأوّلها جاء

٢٧٥

فتبدأ الآية الاولى من الآيات محلّ البحث فتقول :( وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى ) وصف عاد بـ «الاولى» إمّا لقدمها حتّى أنّ العرب تطلق على كلّ قديم أنّه «عاديّ» أو لوجود امّتين في التاريخ باسم «عاد» والامّة المعروفة التي كانت نبيّها هودعليه‌السلام تدعى بـ «عاد الاولى»(١) .

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا :( وَثَمُودَ فَما أَبْقى ) .

ويقول في شأن قوم نوح :( وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى ) .

لأنّ نبيّهم نوحا عاش معهم زمانا طويلا ، وبذل قصارى جهده في إبلاغهم ونصحهم ، فلم يستجب لدعوته إلّا قليل منهم ، وأصرّوا على شركهم وكفرهم وعتوّهم واستكبار هم وإيذائهم نبيّهم نوحا وتكذيبهم إيّاه وعبادة الأوثان بشكل فظيع كما سنعرض تفصيل ذلك في تفسير سورة نوح إن شاء الله.

وأمّا رابعة الأمم فهي «قوم لوط» المشار إليهم بقوله تعالى :( وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى ) .

والظاهر أنّ زلزلة شديدة أصابت حيّهم وقريتهم فقذفت عماراتهم نحو السماء بعد اقتلاعها من الأرض وقلبتها على الأرض ، وطبقا لبعض الرّوايات كان جبرئيل قد اقتلعها بإذن الله وجعل عاليها سافلها ودمّرها تدميرا( فَغَشَّاها ما غَشَّى ) (٢) .

أجل لقد أمطروا بحجارة من السماء ، فغشّت حيّهم وعماراتهم المنقلبة ودفنتها عن آخرها.

وبالرغم من أنّ التعبير في هذه الآية والآية السابقة لم يصرّح بقوم لوط ، إلّا

__________________

في الآية ٣٨ ألا تزر وازرة وزر اخرى وآخرها وأنّه أهلك عادا الاولى.

(١) مجمع البيان وروح المعاني ، وتفسير الرازي.

(٢) «ما» في ما غشّى يمكن أن تكون مفعولا به أو فاعلا نظير والسماء وما بناها إلّا أنّ الاحتمال الأوّل أكثر انسجاما مع ظاهر الآية وعلى كلّ حال فإنّ هذا التعبير يأتي للتهويل!

٢٧٦

أنّ المفسّرين فهموا منه كما فهموا من الآية ٧٠ من سورة التوبة والآية ٩ من سورة الحاقة هذا المعنى من عبارة المؤتفكات ، وقد احتمل بعضهم أنّه هذا التعبير يشمل كلّ المدن المقلوبة والنازل عليها العذاب من السماء ، إلّا أنّ آيات القرآن الاخر تؤيّد ما ذهب إليه المشهور بين المفسّرين!.

وقد جاء في الآية (٨٢) من سورة هود :( فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ) !

وجاء في تفسير علي بن إبراهيم أنّ المؤتفكة «المدينة المقلوبة» هي «البصرة»! لأنّه ورد في رواية أنّ أمير المؤمنين عليا خاطب أهلها بالقول : يا أهل البصرة ويا أهل المؤتفكة ويا جند المرأة وأتباع البهيمة!

غير أنّه من المعلوم أنّ هذا التعبير في كلام الإمام عليعليه‌السلام هو من باب التطبيق والمصداق ، لا التّفسير ، لاحتمال أن يكون أهل البصرة يومئذ فيهم شبه بأهل المؤتفكة من الناحية الأخلاقية وما ابتلي به قوم لوط من عذاب الله!

وفي ختام هذا البحث يشير القرآن إلى مجموع النعم الوارد ذكرها في الآيات المتقدّمة ويلمح إليها بصورة استفهام إنكاري قائلا :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى ) ؟

فهل تشّك وتتردّد بنعم الله ، كنعمة الحياة أو أصل نعمة الخلق والإيجاد ، أو نعمة أنّ الله هذه لا يأخذ أحدا بوزر أحد ، وما جاء في الصحف الاولى وأكّده القرآن؟!

وهل من شاكّ بهذه النعمة ، وهي أنّ الله أبعدكم عن البلاء الذي عمّ الأمم السابقة بكفرهم وشملكم بعفوه ورحمته؟!

أو هل هناك شكّ في نعمة نزول القرآن وموضوع الرسالة والهداية؟

صحيح أنّ المخاطب بالآية هو شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ مفهومها شامل لجميع المسلمين ، بل الهدف الأصلي من هذه الآية إفهام الآخرين.

٢٧٧

«تتمارى»(١) مشتقّ من تماري ومعناه المحاجة والمجادلة المقرونة بالشكّ والتردّد!

«آلاء» جمع : ألأ ، أو إلي ـ على وزن فعل ـ والألئ معناها النعمة وبالرغم من أنّ بعض ما جاء في الآيات المتقدّمة ومن ضمنها إهلاك الأمم السابقة وتعذيبهم ليس مصداقا للنعمة إلّا أنّه من جهة كونه درسا للعبرة «للآخرين» ولأنّ الله لم يعذّب المسلمين وحتّى الكفّار المعاصرين لهم بذلك العذاب يمكن اعتبار ذلك نعمة عظيمة.

* * *

__________________

(١) بالرغم من أنّ باب التفاعل في اللغة العربية يدلّ على اشتراك طرفين في الفعل ، إلّا أن تتمارى هنا مخاطب به شخص واحد ، وهو أمّا لتعدّد الحالات أو للتأكيد «فلاحظوا بدقّة».

٢٧٨

الآيات

( هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢) )

التّفسير

اسجدوا له جميعا

تعقيبا على الآيات المتقدّمة التي كانت تتحدث عن إهلاك الأمم السالفة لظلمهم ، تتوجّه هذه الآيات ـ محلّ البحث ـ إلى المشركين ، والكفّار ومنكري دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتخاطبهم بالقول :( هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى ) أي النّبي أو القرآن نذير كمن سبقه من المنذرين.

وقوله عن «القرآن أو النّبي «هذا نذير من النذر الاولى» يعني أنّ رسالة محمّد وكتابه السماوي لم يكن (أي منهما) موضوعا لم يسبق إليه ، فقد أنذر الله أمما بمثله في ما مضى من القرون ، فعلام يكون ذلك مثار تعجّبكم؟

وقال بعض المفسّرين إنّ المراد من( هذا نَذِيرٌ ) هو الإشارة إلى الإخبار

٢٧٩

الوارد في الآيات المتقدّمة عن نهاية الأمم السالفة ، لأنّ هذا الإخبار بنفسه نذير أيضا ، إلّا أنّ التّفسيرين السابقين أنسب كما يبدو.

ومن أجل أن يلتفت المشركون والكفّار إلى الخطر المحدق بهم ويهتّموا به أكثر يضيف القرآن قائلا :( أَزِفَتِ الْآزِفَةُ ) .

أجل ، فقد اقترب وعد القيامة فأعدّوا أنفسكم للحساب ، والتعبير بـ «الآزفة» عن القيامة هو لاقترابها وضيق وقتها ، لأنّ الكلمة هذه مأخوذة من الأزف على وزن نجف. ومعناه ضيق الوقت ، وبالطبع فإنّ مفهومه يحمل الاقتراب أيضا

وتسمية القيامة بالآزفة في القرآن بالإضافة إلى هذه الآية محلّ البحث ، واردة في الآية ١٨ من سورة غافر أيضا وهو تعبير بليغ وموقظ ، وهذا المعنى جاء بتعبير آخر في سورة القمر (الآية الاولى)( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ) ، وعلى كلّ حال فإنّ اقتراب القيامة مع الأخذ بنظر الإعتبار عمر الدنيا المحدود والقصير يمكن إدراكه بوضوح ، خاصّة ما ورد أنّ من يموت تقوم قيامته الصغرى.

ثمّ يضيف القرآن قائلا : أنّ المهمّ هو أنّه لا أحد غير الله بإمكانه إغاثة الناس في ذلك اليوم والكشف عمّا بهم من شدائد :( لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ ) (١) .

«الكاشفة» هنا معناه مزيحة الشدائد. إلّا أنّ بعضهم فسّرها بأنّها العامل لتأخير القيامة ، وبعضهم فسّرها بأنّها الكاشفة عن تاريخ وقوع يوم القيامة ، إلّا أنّ المعنى الأوّل أنسب ظاهرا.

وعلى كلّ حال ، فالحاكم والمالك وصاحب القدرة في ذلك الحين وكلّ حين هو الله سبحانه ، فإذا أردت النجاة فالتجئوا إليه وإلى لطفه وإذا طلبتم الدّعة والأمان فاستظلّوا بالإيمان به.

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا :( أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ) .

__________________

(١) الضمير في لها يعود على الآزفة وتأنيث الكاشفة ، لأنّها صفة للنفس المحذوفة ، وقال آخرون هي تاء المبالغة كالتاء في العلامة.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

فالذنب في اللّغة كلّ عمل يستتبع ضرراً أو فوت منفعه أو مصلحة، مأخوذ من ذنب الدابّة وليس مرادفاً للمعصيه بل أعمّ منها والإذن المعفوّ عنه قد استتبع فوت المصلحة المنصوصة في الآية وهى تبيّن الّذين صدقوا والعلم بالكاذبين، وقد قال تعالى:( إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ) الآية: الفتح - ٢.

ثمّ ذكر في كلام له طويل أنّ ذلك كان اجتهاداً منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما لا وحى فيه من الله وهو جائز وواقع من الأنبياءعليه‌السلام وليسوا بمعصومين من الخطاء فيه و إنّما العصمة المتّفق عليها خاصّه بتبليغ الوحى ببيانه والعمل به فيستحيل على الرسول أن يكذب أو يخطئ فيما يبلّغه عن ربّه أو يخالفه بالعمل.

ومنه ما تقدّم في سورة الأنفال من عتابه تعالى لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أخذ الفدية من اُسارى بدر حيث قال:( ما كان لنبىّ أن يكون له أسرى حتّى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ) الأنفال - ٦٧ ثمّ بيّن أنّه كان مقتضياً لنزول عذاب أليم لو لا كتاب من الله سبق فكان مانعاً انتهى كلامه بنوع من التلخيص.

و ليت شعرى ما الّذى زاد في كلامه على ما تفصّى به الرازيّ وغيره حيث ذكروا أنّ ذلك من ترك الأولى ولا يسمّونه ذنباً في عرف المتشرّعين وهو الّذى يستتبع عقاباً وذكر هو أنّه من ترك الأصلح وسمّاه ذنباً لغة.

على أنّك قد عرفت فيما تقدّم أنّه لم يكن ذنباً لا عرفاً ولا لغة بدلالة ناصّة من الآيات على أنّ عدم خروجهم كان هو الأصلح لحال جيش المسلمين لتخلّصهم بذلك عن غائلة وقوع الفتنة واختلاف الكلمة وكانت هذه العلّة بعينها موجودة لو لم يأذن لهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وظهر منهم ما كانوا أبطنوه من الكفر والخلاف وأنّ الّذى ذكره الله بقوله:( ولو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدّة ) أنّ عدم إعدادهم العدّة كان يدلّ على عدم إرادتهم الخروج كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجلّ من أن يخفى عليه ذلك وهم بمرئى منه ومسمع.

مضافاً إلى أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعرفهم في لحن القول كما قال تعالى:( ولتعرفنّهم في لحن القول ) سوره محمّـد - ٣٠ وكيف يخفى على من سمع من أحدهم مثل قوله:( ائذن لى

٣٠١

ولا تفتنّي ) أو يقول للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( هو اُذن ) أو يلمزه في الصدقات ولا ينصح لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ ذلك من طلائع النفاق يطلع منهم وما وراءه إلّا كفر وخلاف.

فقد كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتوسّم منهم النفاق والخلاف ويعلم بما في نفوسهم، ومع ذلك فعتابهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه لم لم يكفّ عن الإذن ولم يستعلم حالهم ولم يميّزهم من غيرهم؟ ليس إلّا عتاباً غير جدّىّ للغرض الّذى ذكرناه.

وأمّا قوله:( إنّ الإذن المعفوّ عنه قد استتبع فوت المصلحة المنصوصة في الآية وهى تبيّن الّذين صدقوا والعلم بالكاذبين ) ففيه أنّ الّذى تشتمل عليه الآية من المصلحة هو تبيّن الّذين صدقوا للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلمه هو بالكاذبين لا مطلق تبيّنهم ولا مطلق العلم بالكاذبين وقد ظهر ممّا تقدّم أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يخفى عليه ذلك وأنّ حقيقه المصلحة إنّما كانت في الإذن وهى سدّ باب الفتنة و اختلاف الكلمة فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعلم من حالهم أنّهم غير خارجين البتّة سواء أذن لهم في القعود أم لم يأذن فبادر إلى الإذن حفظاً على ظاهر الطاعة ووحدة الكلمة.

وليس لك أن تتصوّر أنّه لو بان نفاقهم يومئذ وظهر خلافهم بعدم إذن النبيّ لهم بالقعود لتخلّص الناس من تفتينهم وإلقائهم الخلاف لما في الإسلام يومئذ - وهو يوم خروج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى غزوة تبوك من الشوكة والقوّة ولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من نفوذ الكلمة.

فإنّ الإسلام يومئذ إنّما كان يملك القوّة والمهابة في أعين الناس من غير المسلمين كانوا يرتاعون شوكته ويعظّمون سواد أهله ويخافون حدّ سيوفهم وأمّا المسلمون في داخل مجتمعهم وبين أنفسهم فلم يخلصوا بعد من النفاق ومرض القلوب ولم يستول عليهم بعد وحدة الكلمة وجدّ الهمّة و العزيمة والدليل على ذلك نفس هذه الآيات وما يتلوها إلى آخر السورة تقريباً.

وقد كانوا تظاهروا بمثل ذلك يوم اُحد وقد هجم عليهم العدوّ في عقر دارهم فرجع ثلث الجيش الإسلاميّ من المعركة ولم يؤثّر فيهم عظّة ولا إلحاح حتّى قالوا: لو نعلم قتالاً لاتّبعناكم، فكان ذلك أحد الأسباب العاملة في انهزام المسلمين.

وأمّا قوله: ومن عتابه تعالى لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطائه في اجتهاده ما تقدّم في سورة

٣٠٢

الأنفال من عتابه في أخذ الفدية من اُسارى بدر حيث قال:( ما كان لنبىّ أن يكون له أسرى حتّى يثخن في الأرض ) الآية.

ففيه أوّلاً: أنّه من سوء الفهم فمن البيّن الّذى لا يرتاب فيه أنّ الآية بلفظها لا تعاتب على أخذ الفدية من الأسرى وإنّما تعاتب على نفس أخذ الأسرى - ما كان لنبىّ أن يكون له أسرى - ولم تنزل آيه ولا وردت رواية في أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أمرهم بالأسر بل روايات القصّة تدلّ على أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أمر بقتل بعض الأسرى خاف الناس أن يقتلهم عن آخرهم فكلّموه وألحّوا عليه في أخذ الفدية منهم ليتقوّوا بذلك على أعداء الدين وقد ردّ الله عليهم ذلك بقوله:( تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ) .

وهذا من أحسن الشواهد على أنّ العتاب في الآية متوجّه إلى المؤمنين خاصّة من غير أن يختصّ به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو يشاركهم فيه وأنّ أكثر ما ورد من الأخبار في هذا المعنى موضوعة أو مدسوسة.

وثانياً: أنّ العتاب في الآية لو اختصّ بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو شمله وغيره لم يكن من العتاب على ما ذكره على الذنب بمعناه اللغوىّ وهو تفويت المصلحة بوجه فإنّ هذا العتاب مذيّل بقوله تعالى في الآية التاليه:( لو لا كتاب من الله سبق لمسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) الأنفال - ٦٨ فلا يرتاب ذو لبّ في أنّ التهديد بالعذاب العظيم لا يتأتّى إلّا مع كون المهدّد عليه من المعصية المصطلحة بل ومن كبائر المعاصي وهذا أيضاً من الشواهد على أنّ العتاب في الآية متوجّه إلى غير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( لا يستأذنك الّذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ) إلى آخر الآيتين تذكر الآيتان أحد ما يعرف به المنافق ويتميّز به من المؤمن وهو الاستيذان في التخلّف عن الجهاد في سبيل الله.

وقد بيّن الله سبحانه ذلك بأنّ الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس من لوازم الإيمان بالله واليوم الآخر بحقيقه الإيمإن لما يورثه هذا الإيمان من صفة التقوى والمؤمن لمّا كان على تقوى من قبل الإيمان بالله واليوم الآخر كان على بصيرة من وجوب الجهاد في سبيل الله بماله ونفسه ولا يدعه ذلك أن يتثاقل عنه فيستأذن في القعود لكنّ

٣٠٣

المنافق لعدم الإيمان بالله واليوم الآخر فقد صفة التقوى فارتاب قلبه ولا يزال يتردّد في ريبه فيحبّ التطرّف ويستأذن في التخلّف والقعود عن الجهاد.

قوله تعالى: ( ولو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدّة ) إلى آخر الآية العدّة الاُهبة و الانبعاث - على ما في المجمع - الانطلاق بسرعة في الأمر والتثبيط التوقيف عن الأمر بالتزهيد فيه.

والآية معطوفة على ما تقدّم من قوله:( والله يعلم إنّهم لكاذبون ) بحسب المعنى أي هم كاذبون في دعواهم عدم استطاعتهم الخروج بل ما كانوا يريدونه ولو أرادوه لأعدّوا له عدّة لأنّ من آثار من يريد أمراً من الاُمور أن يتأهّب له بما يناسبه من العدّة والاُهبة ولم يظهر منهم شئ من ذلك.

وقوله:( ولكن كره الله انبعاثهم فثبّطهم ) أي جزاء بنفاقهم وامتناناً عليك وعلى المؤمنين لئلّا يفسدوا جمعكم ويفرّقوا كلمتكم بالتفتين وإلقاء الخلاف.

وقوله:( وقيل اقعدوا مع القاعدين ) أمر غير تشريعيّ لا ينافى الأمر التشريعيّ بالنفر والخروج فقد أمرهم الله بلسان نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنفر والخروج - وهو أمر تشريعيّ - وأمرهم من ناحية سريرتهم الفاسدة والريب المتردّد في قلوبهم وسجاياهم الباطنيّة الخبيثة بالقعود - وهو أمر غير تشريعيّ - ولا تنافى بينهما.

ولم ينسب قول:( اقعدوا مع القاعدين ) إلى نفسه تنزيهاً لنفسه عن الأمر بما لا يرتضيه وهناك أسباب متخلّله آمرة بذلك كالشيطان والنفس وإنّما ينسب إليه تعالى بالواسطة لانطباق معنى الجزاء والامتنان على المؤمنين عليه.

وليتوافق الأمران المتخالفان صورة في السياق أعني قوله:( قيل لكم انفروا في سبيل الله ) وقوله:( قيل اقعدوا مع القاعدين ) .

قوله تعالى: ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلّا خبالاً و لأوضعوا خلالكم ) الآية الخبال هو الفساد واضطراب الرأى، والإيضاع: الإسراع في الشرّ، والخلال: البين، والبغى هو الطلب فمعنى يبغونكم الفتنة أي يطلبون لكم أو فيكم الفتنة على ما قيل، والفتنة هي المحنة كالفرقة واختلاف الكلمة على ما يناسب الآية من معانيها، والسمّاع

٣٠٤

السريع الإجابة والقبول.

والآية في مقام التعليل لقوله:( ولكن كره الله انبعاثهم فثبّطهم ) امتناناً ولذا جئ بالفصل من غير عطف والمعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلّبوا لك الاُمور حتّى جاء الحقّ وظهر أمر الله وهم كارهون ) أي اُقسم لقد طلبوا المحنة و اختلاف الكلمة وتفرّق الجماعة من قبل هذه الغزوة - وهى غزوة تبوك - كما في غزوة اُحد حين رجع عبدالله بن اُبىّ بن سلول بثلث القوم وخذل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قلّبوا لك الاُمور بدعوة الناس إلى الخلاف وتحريضهم على المعصية وخذلانهم عن الجهاد وبعث اليهود والمشركين على قتال المؤمنين والتجسّس وغير ذلك حتّى جاء الحقّ - وهو الحقّ الّذى يجب أن يتّبع - وظهر أمر الله - وهو الّذى يريده من الدين - وهم كارهون لجميع ذلك.

و الآية تستشهد على الآية السابقة بذكر الأمثال كما يستدلّ على الأمر بمثله و توجيه الخطاب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة بعد عمومه في الآية السابقة لاختصاص الأمر فيه بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعني تقليب الاُمور عليه بخلاف ما في الآية السابقة من خروجهم في الناس.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور في قوله تعالى:( إن لا تنصروه فقد نصره الله ) الآية أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عبّـاس قال: لمّا خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الليل لحق بغار ثور. قال: وتبعه أبوبكر فلمّا سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسّه خلفه خاف أن يكون الطلب فلمّا رأى ذلك أبوبكر تنحنح فلمّا سمع ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرفه فقام له حتّى تبعه فأتيا الغار.

فأصبحت قريش في طلبه فبعثوا إلى رجل من قافه بنى مدلج فتبع الأثر حتّى انتهى إلى الغار وعلى بابه شجرة فبال في أصلها القائف ثمّ قال: ما جاز صاحبكم الّذى تطلبون

٣٠٥

هذا المكان قال: فعند ذلك حزن أبوبكر فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تحزن إنّ الله معنا.

قال: فمكث هو وأبوبكر في الغار ثلاثه أيّـام يختلف إليهم بالطعام عامر بن فهيرة وعلىّ يجهّزهم فاشتروا ثلاثة أباعر من إبل البحرين واستأجر لهم دليلاً فلمّا كان بعض الليل من الليلة الثالثة أتاهم علىّ بالإبل والدليل فركب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم راحلته وركب أبوبكر اُخرى فتوجّهوا نحو المدينة، وقد بعثت قريش في طلبه.

وفيه أخرج ابن سعد عن ابن عبّـاس وعلىّ وعائشة بنت أبى بكر وعائشة بنت قدامة وسراقة بن جعشم - دخل حديث بعضهم في بعض - قالوا: خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و القوم جلوس على بابه فأخذ حفنة من البطحاء فجعل يذرّها على رؤوسهم ويتلو:( يس والقرآن الحكيم ) الآيات ومضى.

فقال لهم قائل ما تنتظرون؟ قالوا: محمّـداً. قال: قد والله مرّ بكم قالوا: والله ما أبصرناه وقاموا ينفضون التراب من رؤوسهم، وخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبوبكر إلى غار ثور فدخلاه وضربت العنكبوت على بابه بعشاش بعضها على بعض.

وطلبته قريش أشدّ الطلب حتّى انتهوا إلى باب الغار فقال بعضهم: إنّ عليه لعنكبوتاً قبل ميلاد محمّـد.

وفي إعلام الورى - في حديث سراقة بن جعشم مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - قال: الّذى اشتهر في العرب يتقاولون فيه الأشعار ويتفاوضونه في الديار أنّه تبعه وهو متوجّه إلى المدينة طالباً لغرّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليحظى بذلك عند قريش، حتّى إذا أمكنته الفرصة في نفسه، وأيقن أن قد ظفر ببغيته ساخت قوائم فرسه حتّى تغيّبت بأجمعها في الأرض وهو بموضع جدب وقاع صفصف فعلم أنّ الّذى أصابه أمر سماويّ فنادى يا محمّـد: ادع ربّك يطلق لى فرسى وذمّه الله أن لا أدلّ عليك أحداً ، فدعا له فوثب جواده كأنّه أفلت من اُنشوطه وكان رجلاً داهيه، وعلم بما رأى أنّه سيكون له نبأ فقال: اكتب لى أماناً فكتب له وانصرف.

قال محمّـد بن إسحاق: إنّ أبا جهل قال في أمر سراقة أبياتاً فأجابه سراقة نظماً:

أبا حكم واللات(١) لو كنت شاهداً

لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه

____________________

(١) والله

٣٠٦

عجبت و لم تشكك بأنّ محمّـداً

نـبىّ ببرهان فمن ذا يكاتمه؟

عليـك بكفّ الناس عنـه فإنّني

أرى أمره يوماً ستبدوا معالمه

أقول: ورواه في الكافي بإسناده عن معاوية بن عمّار عن أبى عبداللهعليه‌السلام وفي الدرّ المنثور بعدّة طرق، وأورده الزمخشريّ في ربيع الأبرار.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن سعد وابن مردويه عن ابن مصعب قال: أدركت أنس بن مالك وزيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة فسمعتهم يتحدّثون: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة الغار أمر الله شجرة فنبتت في وجه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسترته وأمر الله العنكبوت فنسجت في وجه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسترته وأمر الله حمامتين وحشيّـتين فوقفتا بفم الغار.

وأقبل فتيان قريش من كلّ بطن رجل بعصيّهم وأسيافهم و هراويهم حتّى إذا كانوا من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدر أربعين ذراعاً فعجّل بعضهم فنظر في الغار فرجع إلى أصحابه فقالوا: ما لك لم تنظر في الغار؟ فقال: رأيت حمامتين بفم الغار فعرفت أن ليس فيه أحد. الحديث.

وفي الدرّ المنثور أخرج عبد الرزّاق وابن المنذر عن الزهريّ في قوله:( إذ هما في الغار ) قال: الغار الّذى في الجبل الّذى يسمّى ثوراً.

أقول: وقد استفاضت الروايات بكون الغار المذكور في القرآن الكريم هو غار جبل ثور، وهو على أربعة فراسخ من مكّة تقريباً.

وفي إعلام الورى وقصص الأنبياء، وبقى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغار ثلاثة أيّـام ثمّ أذن الله تعالى له بالهجرة، وقال: أخرج من مكّة يا محمّـد فليس لك بها ناصر بعد أبى طالب فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وأقبل راع لبعض قريش يقال له: ابن اُريقط فدعاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له: يا ابن اُريقط أءتمنك على دمى؟ فقال: إذن والله أحرسك وأحفظك ولا أدلّ عليك، فأين تريد يا محمّـد؟ قال: يثرب. قال: لأسلكنّ بك مسلكاً لا يهتدى فيها أحد فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ائت عليّـاً و بشّره بأنّ الله قد أذن لى في الهجرة فهيّئ لى زاداً وراحله.

٣٠٧

وقال له أبوبكر: ائت أسماء ابنتى وقل لها تهيّئي لى زاداً وراحلتين وأعلم عامر بن فهيرة أمرنا، وكان من موالى أبى بكر وكان قد أسلم وقل له: ائتنا بالزاد والراحلتين.

فجاء ابن اُريقط إلى علىّعليه‌السلام فأخبره بذلك فبعث علىّ بن أبى طالب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بزاد وراحله. وبعث ابن فهيرة بزاد وراحلتين، و خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الغار وأخذ به ابن اُريقط على طريق نخلة بين الجبال فلم يرجعوا إلى الطريق إلّا بقُدَيد فنزلوا على اُمّ معبد هناك.

قال: وقد كانت الأنصار بلغهم خروج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم وكانوا يتوقّعون قدومه إلى أن وافى مسجد قبا ونزل فخرج الرجال والنساء يستبشرون بقدومه.

أقول: والأخبار في تفاصيل قصص الهجرة بالغة في الكثرة رواها أصحاب النقل وأرباب السير من الشيعة وأهل السنّة وهى على كثرتها متدافعة مضطربة لا يسع نقدها واستخراج الصافى منها مجال هذا الكتاب وللدلالة على إجمال القصّة فيما أوردناه كفاية وهو كالمتّفق عليه بين أخبار الفريقين.

وفي الدرّ المنثور أخرج خيثمه بن سليمان الطرابلسيّ في فضائل الصحابة وابن عساكر عن علىّ بن أبى طالب قال: إنّ الله ذمّ الناس كلّهم ومدح أبابكر فقال: إلّا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الّذين كفروا ثانى اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ الله معنا.

أقول: نقد البحث في مضامين الآيات الحافّة بالقصّة وما ينضمّ إليها من النقل الصحيح يوجب سوء الظنّ بهذه الرواية فإنّ الآيات الّتى تذمّ المؤمنين- أو الناس كلّهم كما في الرواية - وإليها تشير آية الغار بما فيها من قوله:( إلّا تنصروه ) هي قوله تعالى:( يا أيّها الّذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض ) الآية والنقل القطعيّ يدلّ على أنّ التثاقل المذكور لم يكن من عامّة المؤمنين وجميعهم وأنّ كثيراً منهم سارع إلى إجابة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أمر به من النفر وإنّما تثاقل جماعة من الناس من مؤمن و منافق.

٣٠٨

فخطاب( يا أيّها الّذين آمنوا ) الشامل لجميع المؤمنين، والذمّ المتعقّب له إنّما هو من خطاب الجماعة بشأن بعضهم كخطاب اليهود بقوله:( فلم تقتلون أنبياء الله ) البقرة: ٩١ وغيره، وهو كثير في القرآن غير أنّ ديدن القرآن في مثل هذه الموارد أن لا يضيع حقّ الصالحين ولا أجر المحسنين أعني الأقلّين الّذين تعمّهم أمثال هذه الخطابات العامّة بالذمّ والتوبيخ فيتدارك أمرهم و يستثنيهم ويذكرهم بالجميل كما فعل ذلك فيما سيأتي في هذه السورة من الآيات المادحة للمؤمنين الشاكرة لجميل مساعيهم بقوله:( والمؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض ) الآية وغيره.

وإذا كانت الآيات - وقد نزلت في غزوة تبوك - تعمّ المؤمنين جميعاً المسارعين في الخروج والمتثاقلين فيه من غير استثناء فهى تشمل عامّة الصحابة والمؤمنين وفيهم أبوبكر نفسه غير أنّه تعالى تدارك ما لحق بالمسارعين في الطاعة والإجابة منهم في آيات تالية و شكر سعيهم.

فلو كان قوله في الآية:( إلّا تنصروه ) وهو يشير إلى ما تقدّم من حديث التثاقل ويؤمى إليه ذمّاً للناس كلّهم كان ذمّاً لأبي بكر كما هو ذمّ لغيره بعدم نصرتهم للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو تثاقلهم في نصره ومع ذلك لا تسمح الآية بالدلالة على نصر أبى بكر لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما فيها من قوله:( فقد نصره الله إذ أخرجه الّذين كفروا ثانى اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ الله معنا ) بل لو دلّ لدلّ على نصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي بكر حيث طيّـب قلبه وسلّاه بقوله:( لا تحزن إنّ الله معنا ) .

على أنّك قد عرفت في البيان السابق أنّ الآية بمقتضى المقام لا تتعرّض إلّا لنصر الله سبحانه وحده نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعينه وشخصه، قبال ما يفرض من عدم نصر كافّة المؤمنين له وخذلانهم إيّاه فدلالة الآية على أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الغار لم ينصره إلّا الله سبحانه وحده دلالة قطعيّة.

وهذا المعنى في نفسه أدلّ شاهد على أنّ الضمائر في تتمّة جمل الآية:( فأنزل الله سكينته عليه وأيّده بجنود لم تروها وجعل كلمة الّذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا ) للنبىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والجمل مسوقه لبيان قيامه تعالى وحده بنصره نصراً عزيزاً غيبيّاً لا صنع

٣٠٩

فيه لأحد من الناس وهو إنزال السكينه عليه وتأييده بجنود غائبة عن الأبصار وجعلُ كلمة الّذين كفروا السفلى وإعلاء كلمة الحقّ والله عزيز حكيم.

وأمّا غير نصره النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المناقب الّتى يمدح الإنسان عليها فلو كان هناك شئ من ذلك لكان هو ما في قوله:( ثانى اثنين ) وما في قوله:( لصاحبه ) فلنسلّم أنّ كون الإنسان ثانياً لاثنين أحدهما النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكونه صاحباً للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مذكوراً في القرآن بالصحبة من المفاخر الّتى يتنفّس لها لكنّها من المناقب الإجتماعيّـة الّتى تقدّر لها في المجتمعات قيمة ونفاسة وأمّا القرآن الكريم فللقيمة فيه ملاك آخر وللفضل والشرف في منطقه معنى آخر متّكئ على حقيقة هي أعلى من المقاصد الوضعيّة الاجتماعيّـة وهى كرامة العبوديّـة ودرجات القرب والزلفى.

ومجرّد الصحابة الجسمانيّة والدخول في العدد لا يدلّ على شئ من ذلك وقد تكرّر في كلامه تعالى أنّ التسمّى بمختلف الأسماء والتلبّس بما يتنفّس فيه عامّة الناس ويستعظمه النظر الإجتماعيّ لا قيمة له عند الله سبحانه وأنّ الحساب على ما في القلوب دون ما يتراءى من ظواهر الأعمال وتقدّمه الأحساب والأنساب.

وقد أفصح عنه في مورد أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وملازميه خاصّة بأبلغ الإفصاح قوله تعالى:( محمّـد رسول الله والّذين معه أشدّاء على الكفّـار رحماء بينهم تراهم رُكّعاً سُجّداً - إلى أن قال -وعد الله الّذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً ) الفتح: ٢٩ فانظر إلى ما في صدر الآية من المدح وما في ذيله من القيد وتدبّر.

هذه نبذة ممّا يتعلّق بالآية والرواية من البحث والزائد على هذا المقدار يخرجنا من البحث التفيسريّ إلى البحث الكلاميّ الّذي هو خارج عن غرضنا.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن أبي حاتم وأبوالشيخ وابن مردويه والبيهقيّ في الدلائل وابن عساكر في تاريخه عن ابن عبّـاس في قوله:( فأنزل الله سكينته عليه ) قال: على أبي بكر لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يزل السكينة معه.

وفيه أخرج الخطيب في تاريخه عن حبيب بن أبي ثابت:( فأنزل الله سكينته عليه ) قال: علي أبي بكر فأمّا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد كانت عليه السكينة.

٣١٠

أقول: قد حقّق فيما تقدّم أنّ الضمير راجع إلى النبيّ (صلّى الله عليه و آله و سلّم) على ما يهدي إليه السياق، والروايتان على ما بهما من الوقف ضعيفتان، ولا حجّـيّة لقول ابن عبّـاس ولا حبيب لغيرهما.

وأمّا الحجّة الّتي أورداهما فيهما وهي أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تزل السكينة معه فمدخولة يدفعها قوله تعالى في قصّة حنين:( ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) الآية: التوبة: ٢٦ ونظيرته آية سورة الفتح المشيرة إلى قصّة الحديبية وهما تصرّحان بنزول السكينة عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خصوص المورد فليكن الأمر على تلك الوتيرة في الغار.

وكأنّ بعضهم(١) أحسّ بالإشكال فحمل قولهما في الروايتين: أنّ السكينة لم تزل مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على معنى آخر وهو كون السكينة ملازمة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغار فيكون قرينة على كون الّتي نزلت فيه إنّما نزلت على صاحبه دونه، ولعلّ رواية حبيب أقرب دلالة على ما ذكره.

قال بعد إيراد رواية ابن عبّـاس ثمّ رواية حبيب: وقد أخذ بهذه الرواية بعض مفسّري اللّغة والمعقول ووضّحوا ما فيها من التعليل بأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يحدث له وقتئذ اضطراب ولا خوف ولا حزن وقوّاها بعضهم بأنّ الأصل في الضمير أن يعود إلى أقرب مذكور. وليس هذا بشئ.

وذهب آخرون إلى أنّ الضمير يعود إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّ إنزال السكينه عليه لا يقتضى أن يكون خائفاً أو مضطرباً أو منزعجاً. وهذا ضعيف لعطف إنزال السكينه على ما قبلها الدالّ على وقوعه بعده وترتّبه عليه، وأنّ نزولها وقع بعد قوله لصاحبه: لا تحزن. انتهى.

أمّا ما ذكروه من عدم طروّ خوف واضطراب عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقتئذ فإن كانوا استفادوه من عدم ذكر شئ من ذلك في الآية أو في رواية معتمد عليها فكلامه تعالى في قصّة حنين والحديبية أيضاً خال عن ذكر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخوف أو حزن أو اضطراب ولم ترد رواية

____________________

(١) صاحب النار في تفسير.

٣١١

معتمد عليها تدلّ على ذلك فكيف استقام ذكر نزول السكينه عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهما!؟

وإن قالوا باستلزام إنزال السكينه الاضطراب والخوف والحزن فهو ممنوع كما تقدّم، كيف؟ ونزول نعمة من النعم الإلهيّـة لا يتوقّف على سبق الاتّصاف بحالة مضادّة لها و نقمة مقابلة لها كنزول الرحمة بعد الرحمة والنعمة بعد النعمة والإيمان و الهداية بعد الإيمان والهدايه وغير ذلك وقد نصّ القرآن الكريم باُمور كثيرة من هذا القبيل.

وأمّا قوله: إنّ رجوع الضمير إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضعيف لعطف إنزال السكينه على ما قبلها الدالّ على وقوعه بعده وترتّبه عليه وأنّ نزولها وقع بعد قوله لصاحبه: لا تحزن. انتهى.

ففيه أنّه لا ريب أنّ فاء التفريع تدلّ على ترتّب ما بعدها على ما قبلها ووقوعه بعده لكن بعديّة رتبيّة لا بعديّة زمانيّة ولم يقل أحد بوجوب كونها زمانيّة دائماً.

فمن الواجب فيما نحن فيه أن يترتّب قوله:( فأنزل الله سكينته عليه وأيّده ) على ما تقدّم عليه من الكلام لا على ما هو أقرب إليه من غيره إلّا على القول بأنّ الأصل في الضمير أن يعود إلى أقرب مذكور، وقد ضعّفه في سابق كلامه.

والّذى يصلح من سابق الكلام ليتعلّق به التفريع المذكور هو قوله: فقد نصره الله في كذا وكذا وقتاً وتفرّع هذه الفروع عليه من قبيل تفرّع التفصيل على الإجمال والسياق على استقامته: فقد نصره الله في وقت كذا فأنزل سكينته عليه وأيّده بجنود لم تروها وجعل كلمة الّذين كفروا السفلى.

فظهر أنّ ما أجاب به أخيراً هو عين ما ضعّفه أوّلاً من حديث أصل قرب المرجع من الضمير - ذاك الأصل الّذى لا أصل له - كرّره ثانياً بتغيير مّا في اللفظ.

ومن هنا يظهر جهة المناقشة في رواية اُخرى رواها في الدرّ المنثورعن ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: دخل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبوبكر غار حراء فقال أبوبكر للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو أنّ أحدهم يبصر موضع قدمه لأبصرني وإيّاك فقال: ما ظنّك باثنين الله ثالثهما إنّ الله أنزل سكينته عليك وأيّدنى بجنود لم تروها.

على أنّ الرواية تذكر غار حراء وقد ثبت بالمستفيض المتكاثر من الأخبار أنّ الغار

٣١٢

كان غار ثور لا غار حراء.

على أنّ الرواية مشتملة على تفكيك السياق صريحاً بما فيها من قوله: أنزل سكينته عليك وأيّدنى بجنود الخ.

وقد أورد الآلوسىّ في روح المعاني الرواية هكذا:( إنّ الله أنزل سكينته عليك وأيّدك بجنود لم تروها ) فأرجع الضميرين إلى أبى بكر دون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولا ندرى أيّ اللفظين هو الأصل وأيّهما المحرّف غير أنّه يضاف على رواية( وأيّدك بجنود لم تروها ) إلى ما ذكر من الإشكال آنفاً إشكالات اُخرى تقدّمت في البيان السابق مضافاً إلى إشكال آخر جديد من جهة قوله:( لم تروها ) بخطاب الجمع ولا مخاطب يومئذ جمعاً.

وفي تفسير القمّىّ في قوله تعالى:( لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً ) في رواية أبى الجارود عن أبى جعفرعليه‌السلام : في قوله:( لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً ) يقول: غنيمة قريبة( لاتّبعوك ) .

وفي تفسير العيّـاشيّ عن زرارة وحمران ومحمّـد بن مسلم عن أبى جعفر وأبى عبداللهعليه‌السلام : في قول الله:( لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتّبعوك ) الآية إنّهم يستطيعون وقد كان في علم الله أنّه لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لفعلوا.

أقول: ورواه الصدوق في المعاني بإسناده عن عبد الأعلى بن أعين عن أبى عبداللهعليه‌السلام مثله.

بيان وفي تفسير القمّىّ في قوله تعالى:( ولكن بعدت عليهم الشقّة ) يعنى إلى تبوك وسبب ذلك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يسافر سفراً أبعد منه ولا أشدّ منه.

وكان سبب ذلك أنّ الصيّافة كانوا يقدمون المدينة من الشام ومعهم الدرموك والطعام، وهم الأنباط فأشاعوا بالمدينة أنّ الروم قد اجتمعوا يريدون غزو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عسكر عظيم، وأنّ هرقل قد سار في جمع جنوده، وجلب معهم غسّان وجذام وبهراء وعاملة، وقد قدّم عساكره البلقاء ونزل هو حمص.

فأرسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه إلى تبوك وهى من بلاد البلقاء، وبعث إلى القبائل

٣١٣

حوله، وإلى مكّة، وإلى من أسلم من خزاعة ومزينة وجهينة فحثّهم على الجهاد.

وأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعسكره فضرب في ثنيّة الوداع، وأمر أهل الجدة أن يعينوا من لا قوّة به، ومن كان عنده شئ أخرجه، وحملوا وقوّوا وحثّوا على ذلك.

وخطب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال بعد حمد الله والثناء عليه: أيّها الناس إنّ أصدق الحديث كتاب الله، وأولى القول كلمة التقوى، وخير الملل ملّة إبراهيم، وخير السنن سنّة محمّـد، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الاُمور عزائمها وشرّ الاُمور محدثاتها، وأحسن الهدى هدى الأنبياء، وأشرف القتلى الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى، وخير الأعمال ما نفع، وخير الهدى ما اتّبع، وشرّ العمى عمى القلب واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قلّ وكفى خير ممّا كثر وألهى، وشرّ المعذرة محضر الموت، وشرّ الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلّا نزراً، ومنهم من لا يذكر الله إلّا هجراً، ومن أعظم الخطايا اللسان الكذب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله، وخير ما اُلقى في القلب اليقين، والارتياب من الكفر، والتباعد من عمل الجاهليّـة، والغلول من قيح جهنّم، والسكر جمر النار، والشعر من إبليس، والخمر جماع الإثم، والنساء حبائل إبليس، والشباب شعبة من الجنون، وشرّ المكاسب كسب الربا، وشرّ الأكل أكل مال اليتيم، والسعيد من وعظ بغيره، والشقىّ من شقى في بطن اُمّه، وإنّما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع، والأمر إلى آخره وملاك الأمر خواتيمه، وأربى الربا الكذب، وكلّما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن توكّل على الله كفاه، ومن صبر ظفر، ومن يعف يعف الله عنه، ومن كظم الغيظ آجره الله، ومن يصبر على الرزيّة يعوّضه الله، ومن تبع السمعة يسمّع الله به، ومن يصمّ يضاعف الله له، ومن يعص الله يعذّبه، اللّهمّ اغفر لى ولاُمّـتى. اللّهمّ اغفر لى ولاُمّـتى أستغفر الله لى ولكم.

قال: فرغب الناس في الجهاد لمّا سمعوا هذا من رسول الله، وقدمت القبائل من

٣١٤

العرب ممّن استنفرهم، وقعد عنه قوم من المنافقين وغيرهم، ولقى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الجدّ بن قيس فقال له: يا أبا وهب ألا تنفر معنا في هذه الغزاة؟ لعلّك أن تحتفد من بنات الأصفر فقال يا رسول الله: والله إنّ قومي ليعلمون أن ليس فيهم أشدّ عجباً بالنساء منّى وأخاف إن خرجت معك أن لا أصبر إذا رأيت بنات الأصفر فلا تفتنّي وائذن لى أن اُقيم. وقال للجماعة من قومه: لا تخرجوا في الحرّ.

فقال ابنه: ترد على رسول الله وتقول له ما تقول ثمّ تقول لقومك: لا تنفروا في الحرّ والله لينزلنّ الله في هذا قرآناً يقرؤه الناس إلى يوم القيامة فأنزل الله على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك:( ومنهم من يقول ائذن لى ولا تفتنّي ألا في الفتنة سقطوا وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين ) .

ثمّ قال الجدّ بن قيس: أيطمع محمّـد أنّ حرب الروم مثل حرب غيرهم. لا يرجع من هؤلاء أحد أبداً.

أقول: وقد روى هذه المعاني في روايات اُخرى كثيرة من طرق الشيعة وأهل السنّة.

وفي العيون بإسناده عن على بن محمّـد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا علىّ بن موسىعليه‌السلام فقال له: يا ابن رسول الله أليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، فقال له المأمون - فيما سأله - يا أبا الحسن فأخبرني عن قول الله تعالى:( عفا الله عنك لم أذنت لهم ) .

قال الرضاعليه‌السلام : هذا ممّا نزل: إيّاك أعني واسمعي يا جارة، خاطب الله تعالى بذلك نبيّه وأراد به اُمّته، وكذلك قوله عزّوجلّ:( لئن أشركت ليحبطنّ عملك ولتكوننّ من الخاسرين) ، وقوله تعالى:( ولو لا أن ثبّـتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً ) . قال: صدقت يا ابن رسول الله.

أقول: ومضمون الرواية ينطبق على ما قدّمناه في بيان الآية، دون ما ذكروه من كون إذنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم في القعود من قبيل ترك الأولى فإنّه لا يستقيم معه كون الآية

٣١٥

من قبيل( إيّاك أعنى واسمعي يا جارة ) .

وفي الدرّ المنثور أخرج عبدالرزّاق في المصنّف، وابن جرير، عن عمرو بن ميمون الأودىّ قال: اثنتان فعلهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يؤمر فيهما بشئ: إذنه للمنافقين، وأخذه من الاُسارى فأنزل الله:( عفا الله عنك لم أذنت لهم ) الآية.

أقول: وقد تقدّم الكلام على مضمون الرواية.

وفي تفسير القمّىّ في قوله تعالى:( ولو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدّة ) الآية وما بعدها قال: وتخلّف عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل نيّات وبصائر لم يكن يلحقهم شكّ ولا ارتياب ولكنّهم قالوا: نلحق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

منهم أبوخيثمة وكان قويّاً وكان له زوجتان وعريشان، وكانتا زوجتاه قد رشّتا عريشتيه، وبرّدتا له الماء، وهيّأتا له طعاماً فأشرف على عريشتيه فلمّا نظر إليهما قال: لا والله ما هذا بإنصاف، رسول الله قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر قد خرج في الفيح والريح، وقد حمل السلاح يجاهد في سبيل الله، وأبوخيثمة قوىّ قاعد في عريشة وامرأتين حسناوين لا والله ما هذا بإنصاف.

ثمّ أخذ ناقته فشدّ عليها رحله ولحق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنظر الناس إلى راكب على الطريق فأخبروا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كن أباخيثمة فأقبل، وأخبر النبيّ بما كان منه فجزّاه خيراً ودعا له.

وكان أبوذرّ تخلّف عن رسول الله ثلاثة أيّـام وذلك أنّ جمله كان أعجف، فلحق بعد ثلاثة أيّـام به ووقف عليه جمله في بعض الطريق فتركه وحمل ثيابه على ظهره فلمّا ارتفع النهار نظر المسلمون إلى شخص مقبل فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كن أباذرّ فقالوا: هو أبوذرّ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أدركوه فإنّه عطشان فأدركوه بالماء.

ووافى أبوذرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه إداوة فيها ماء فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أباذرّ معك ماء وعطشت؟ قال: نعم يا رسول الله بأبى أنت واُمّى انتهيت إلى صخرة عليها ماء السماء فذقته فإذا هو عذب بارد فقلت: لا أشربه حتّى يشرب رسول الله.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أباذرّ رحمك الله، تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث

٣١٦

وحدك، وتدخل الجنّـة وحدك، يسعد بك قوم من أهل العراق يتولّون غسلك وتجهيزك والصلاة عليك ودفنك.

ثمّ قال: وقد كان تخلّف عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوم من المنافقين وقوم من المؤمنين مستبصرين لم يعثر عليهم في نفاق: منهم كعب بن مالك الشاعر ومُرارة بن الربيع وهلال بن اُميّة الرافعىّ فلمّا تاب الله عليهم قال كعب: ما كنت قطّ أقوى منّى في ذلك الوقت الّذى خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى تبوك، وما اجتمعت لى راحلتان قطّ إلّا في ذلك اليوم، وكنت أقول: أخرج غداً بعد غد فإنّى مقوّى، وتوانيت وثقلت بعد خروج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّـاماً أدخل السوق ولا أقضي حاجة فلقيت هلال بن اُميّة ومرارة بن الربيع وقد كانا تخلّفا أيضاً فتوافقنا أن نبكر إلى السوق، فلم نقض حاجة فما زلنا نقول: نخرج غداً وبعد غد حتّى بلغنا إقبال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فندمنا.

فلمّا وافى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استقبلناه نهنّئه السلامة فسلّمنا عليه فلم يردّ علينا السلام وأعرض عنّا، وسلّمنا على إخواننا فلم يردّوا علينا السلام فبلغ ذلك أهلونا فقطعوا كلامنا، وكنّا نحضر المسجد فلا يسلّم علينا أحد ولا يكلّمنا فجاءت نساؤنا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلن: قد بلغنا سخطك على أزواجنا أفنعتزلهم؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تعتزلنّهم ولكن لا يقربوكنّ.

فلمّا رأى كعب بن مالك وصاحباه ما قد حلّ بهم قالوا: ما يقعدنا بالمدينة ولا يكلّمنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا إخواننا ولا أهلونا؟ فهلمّوا نخرج إلى هذا الجبل فلا نزال فيه حتّى يتوب الله علينا أو نموت.

فخرجوا إلى ذباب - جبل بالمدينة - فكانوا يصومون وكان أهلوهم يأتونهم بالطعام فيضعونه ناحية ثمّ يولّون عنهم ولا يكلمونهم.

فبقوا على هذا أيّـاماً كثيرة يبكون بالليل والنهار ويدعون الله أن يغفر لهم فلمّا طال عليهم الأمر قال لهم كعب: يا قوم قد سخط الله علينا ورسوله، وقد سخط علينا أهلونا،

٣١٧

وإخواننا قد سخطوا علينا فلا يكلّمنا أحد فلم لا يسخط بعضنا على بعض؟ فتفرّقوا في الجبل وحلفوا أن لا يكلّم أحد منهم صاحبه حتّى يموت أو يتوب الله عليه فبقوا على ذلك ثلاثة أيّـام، وكلّ واحد منهم في ناحية من الجبل لا يرى أحد منهم صاحبه ولا يكلّمه.

فلمّا كان في الليلة الثالثة، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيت أمّ سلمة نزلت توبتهم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله:( لقد تاب الله بالنبيّ على المهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة ) قال الصادقعليه‌السلام : هكذا نزلت وهو أبوذرّ وأبو خيثمة وعمير بن وهب الّذين تخلّفوا ثمّ لحقوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ قال في هؤلاء الثلاثة:( وعلى الثلاثة الّذين خلّفوا ) فقال العالمعليه‌السلام : إنّما اُنزل: على الثلاثة الّذين خالفوا ولو خلّفوا لم يكن عليهم عيب( حتّى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ) حيث لا يكلّمهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا إخوانهم ولا أهلوهم فضاقت عليهم المدينة حتّى خرجوا منها( وضاقت عليهم أنفسهم ) حيث حلفوا أن لا يكلّم بعضهم بعضاً فتفرّقوا وتاب الله عليهم لما عرف من صدق نيّاتهم.

أقول: وسيأتى الكلام في الآيتين وما ورد فيهما من الروايات.

وفي تفسير العيّـاشيّ عن المغيرة قال: سمعته يقول في قول الله عزّوجلّ:( ولو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدّة ) ، قال: يعنى بالعدّة النيّة يقول:( لو كان لهم نيّة لخرجوا ) .

أقول: الرواية على ضعفها وإرسالها وإضمارها لا تنطبق على لفظ الآية والله أعلم.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن إسحاق وابن المنذر عن الحسن البصريّ قال: كان عبدالله بن اُبىّ وعبدالله بن نبتل ورفاعة بن زيد بن تابوت من عظماء المنافقين، وكانوا ممّن يكيد الإسلام وأهله، وفيهم أنزل الله:( لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلّبوا لك الاُمور ) إلى آخر الآية.

٣١٨

( سورة التوبة آيه ٤٩ - ٦٣)  

وَمِنْهُم مَن يَقُولُ ائْذَن لِي وَلاَ تَفْتِنّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنّ جَهَنّمَ لَُمحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ( ٤٩ ) إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ ( ٥٠ ) قُل لَن يُصِيبَنَا إِلّا مَاكَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( ٥١ ) قُلْ هَلْ تَرَبّصُونَ بِنَا إِلّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبّصُوا إِنّا مَعَكُمْ مُتَرَبّصُونَ ( ٥٢ ) قُلْ أَنفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَن يُتَقَبّلَ مِنكُمْ إِنّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ( ٥٣ ) وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلّا أَنّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصّلاَةَ إِلّا وَهُمْ كُسَالَى‏ وَلاَ يُنفِقُونَ إِلّا وَهُمْ كَارِهُونَ ( ٥٤ ) فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ( ٥٥ ) وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُمْ مِنكُمْ وَلكِنّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ( ٥٦ ) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدّخَلاً لَوَلّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ( ٥٧ ) وَمِنْهُمْ مَن يَلْمِزُكَ فِي الصّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ( ٥٨ ) وَلَوْ أَنّهُمْ رَضُوا مَاآتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ ( ٥٩ ) إِنّمَا الصّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٦٠ ) وَمِنْهُمُ الّذِينَ يُؤْذُونَ النّبِيّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ

٣١٩

قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٦١ ) يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ ( ٦٢ ) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنّ لَهُ نَارَ جَهَنّمَ خَالِداً فِيهَا ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ( ٦٣ )

( بيان)

الآيات تعقّب القول في المنافقين وبيان حالهم وفيها ذكر أشياء من أقوالهم وأفعالهم، والبحث عمّا يكشف عنه من خبائث أوصافهم الباطنة واعتقاداتهم المبنيّـة على الضلال.

قوله تعالى: ( ومنهم من يقول ائذن لى ولا تفتنّي ألا في الفتنة سقطوا ) الآية الفتنة ههنا - على ما يهدى إليه السياق - إمّا الإلقاء إلى ما يفتتن ويغرّ به، وإمّا الإلقاء في الفتنة والبليّة الشاملة.

والمراد على الأوّل: ائذن لى في القعود وعدم الخروج إلى الجهاد، ولا تلقني في الفتنة بتوصيف ما في هذه الغزوة من نفائس الغنائم ومشتهيات الأنفس فأفتتن بها وأضطرّ إلى الخروج، وعلى الثاني ائذن لى ولا تلقني إلى ما في هذه الغزوة من المحنة والمصيبة والبليّة.

فأجاب الله عن قولهم بقولهم:( ألا في الفتنة سقطوا ) ومعناه أنّهم يحترزون بحسب زعمهم عن فتنة مترقّبة من قبل الخروج، وقد أخطؤوا فإنّ الّذى هم عليه من الكفر والنفاق وسوء السريرة، ومن آثاره هذا القول الّذى تفوّهوا به هو بعينه فتنة سقطوا فيها فقد فتنهم الشيطان بالغرور، ووقعوا في مهلكة الكفر والضلال وفتنته.

هذا حالهم في هذه النشأة الدنيويّـة وأمّا في الآخرة فإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444