الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 97223 / تحميل: 6781
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

فترْك الواجبات: كترْك الصلاة والصيام والحجّ والزكاة ونحوها مِن الواجبات. وطريق التوبة منها بالاجتهاد في قضائها وتلافيها جُهدَ المستطاع.

وأمّا فعل المحرّمات: كالزنا وشرب الخمر والقمار وأمثالها مِن المحرّمات، وسبيل التوبة منها بالندم على اقترافها، والعزم الصادق على تركها.

ومِن الذنوب: ما تكون جرائرها بين المرء والناس، وهي أشدّها تبعةً ومسؤوليّة، وأعسرها تلافياً، كغصبِ الأموال، وقتل النفوس البريئة المحرّمة، وهتك المؤمنين بالسبِّ والضرب والنمّ والاغتياب.

والتوبة منها بإرضاء الخصوم، وأداء الظُّلامات إلى أهلها، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فإنْ عجَز عن ذلك فعليه بالاستغفار، وتوفير رصيد حسَنَاته، والتضرّع إلى الله عزَّ وجل أنْ يرضيهم عنه يوم الحساب.

قبول التوبة:

لا ريب أنّ التوبة الصادقة الجامعة الشرائط مقبولة بالإجماع، لدلالة القرآن والسنّة عليها:

قال تعالى:( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ) ( الشورى: ٢٥ ).

وقال تعالى:( غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ) ( غافر: ٣ ).

وقد عرضنا في فضائل التوبة طرفاً مِن الآيات والأخبار الناطقة بقبول التوبة، وفوز التائبين بشرف رضوان اللّه تعالى، وكريم عفوه، وجزيل آلائه.

٢٦١

وأصدَقُ شاهدٍ على ذلك ما جاء في معرض حديث للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال: ( لولا أنّكم تذنبون فتستغفرون اللّه، لخلق اللّه خلقاً، حتّى يذنبوا ثمّ يستغفروا اللّه فيغفر لهم، إنّ المؤمن مفتنٌ توّاب، أما سمِعت قول اللّه:( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) )( البقرة: ٢٢٢ )(١) .

أشواق التوبة:

تََتلخّص النصائح الباعثة على التوبة والمشوّقة إليها فيما يلي:

١ - أنْ يتذكّر المُذنب ما صوَّرته الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، مِن غوائل الذنوب، ومآسيها الماديّة والروحيّة، في عاجل الحياة وآجلها، وما توعّد اللّه عليها مِن صنوف التأديب وألوان العِقاب.

٢ - أن يستعرض فضائل التوبة ومآثر التائبين، وما حباهم اللّه به من كريم العفو، وجزيل الأجر، وسمو العناية واللطف، وقد مرّ ذلك في بداية هذا البحث.

وكفى بهاتين النصيحتين تشويقاً إلى التوبة، وتحريضاً عليها، ولا يرغب عنها إلا أحمق بليد، أو ضعيف الايمان والبصيرة.

_____________________

(١) البحار م ٣ ص ١٠٣ عن الكافي.

٢٦٢

محاسبة النفس ومراقبتها

المحاسبة هي: محاسبة النفس كلّ يوم عمّا عمِلته مِن الطاعات والمبرّات، أو اقترفته من المعاصي والآثام، فإنْ رجُحت كفّة الطاعات على المعاصي، والحسَنات على السيّئات، فعلى المحاسِب أنْ يشكُر اللّه تعالى على ما وفّقه إليه وشرّفه به مِن جميل طاعته وشرف رضاه.

وإنْ رجُحت المعاصي، فعليه أنْ يؤدّب نفسه بالتأنيب والتقريع على شذوذها وانحرافها عن طاعة اللّه تعالى.

وأمّا المراقبة: فهي ضبطُ النفس وصيانتها عن الإخلال بالواجبات ومقارفة المحرّمات.

وجديرٌ بالعاقل المُستنير بالإيمان واليقين، أنْ يروّض نفسه على المحاسبة والمراقبة فإنّها ( أمّارة بالسوء ): متى أُهمِلَت زاغت عن الحقّ، وانجرفت في الآثام والشهَوات، وأودَت بصاحبها في مهاوي الشقاء والهلاك، ومتى أُخِذَت بالتوجيه والتهذيب، أشرقت بالفضائل، وازدهرت بالمكارم، وسمت بصاحبها نحو السعادة والهناء:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) ( الشمس: ٧ - ١٠ ).

٢٦٣

هذا إلى أنّ للمحاسبة، والمراقبة أهميّة كُبرى في تأهّب المؤمن، واستعداده لمواجهة حساب الآخرة، وأهواله الرهيبة، ومِن ثمّ اهتمامه بالتزوّد مِن أعمال البِر والخير الباعثة على نجاته وسعادة مآبه.

لذلك طفِقَت النصوص تُشوّق، وتحرّض على المحاسبة والمراقبة بأساليبها الحكيمة البليغة:

قال الإمام الصادقعليه‌السلام : ( إذا أراد أحدكم أنْ لا يسأل ربَّه شيئاً إلاّ أعطاه، فلِيَيأس مِن الناس كلّهم، ولا يكون له رجاء إلاّ مِن عند اللّه تعالى، فإذا علِم اللّه تعالى ذلك مِن قلبهِ لم يسأل شيئاً إلاّ أعطاه، فحاسبوا أنفسكم قبل أنْ تُحاسَبوا عليها، فإنّ للقيامة خمسين موقفاً، كلّ موقفٍ مقام ألف سنة، ثمّ تلا:( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) ( المعارج: ٤ )(١) .

وقال الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام : ( ليس منّا مَن لم يُحاسِب نفسه في كل ّيوم، فإنْ عمِل حسنةً استزاد اللّه تعالى، وإنْ عمِل سيّئةً استغفر اللّه تعالى منها وتاب إليه )(٢).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( إنّ رجُلاً أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له: يا رسول اللّه، أوصني.

فقال له رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فهل أنت مستوصٍ إنْ أنا أوصيتك ؟ حتّى قال له ذلك ثلاثاً، وفي كلّها يقول له الرجل: نعم

_____________________

(١) الوافي الجزء الثالث ص ٦٢ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٦٢ عن الكافي.

٢٦٤

يا رسول اللّه.

فقال له رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فإنّي أوصيك، إذا أنت همَمْتَ بأمرٍ فتدبّر عاقبته، فإنْ يكُ رُشداً فأمضِه، وإنْ يكُ غيّاً فانته عنه )(١) .

وقال الصادقعليه‌السلام لرجلٍ: ( إنّك قد جُعلتَ طبيب نفسك، وبُيّن لك الدَّاء، وعُرّفت آية الصحّة، ودُلِلْتَ على الدواء، فانظر كيف قياسك على نفسك )(٢) .

وعن موسى بن جعفرعليه‌السلام عن آبائهعليهم‌السلام قال:

( قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث سريّة، فلمّا رجعوا قال: مرحباً بقومٍ قضوا الجهاد الأصغر، وبقيَ عليهم الجهاد الأكبر.

قيل: يا رسول اللّه، وما الجهاد الأكبر ؟ قال: جهاد النفس. ثمّ قال: أفضل الجهاد مَن جاهد نفسه التي بين جنبيه )(٣).

دستور المحاسبة:

لقد ذكر المعنيّون بدراسة الأخلاق دستور المحاسبة والمراقبة بأُسلوب مفصّل، ربّما يشقّ على البعض تنفيذه، بيد أنّي أعرضه مُجملاً ومُيسّراً في

_____________________

(١)، (٢) الوافي ج ٣ ص ٦٢ عن الكافي.

(٣) البحار م ١٥ ج ٢ ص ٤٠ عن معاني الأخبار وأمالي الصدوق.

٢٦٥

أمرين هامّين:

١ - أوّل ما يجدر محاسبةُ النفس عليه، أداء الفرائض التي أوجَبها اللّه تعالى على الناس، كالصلاة والصيام والحجِّ والزكاة ونحوها من الفرائض، فإنْ أدّاها المرء على الوجه المطلوب، شكَر اللّه تعالى على ذلك ورجّى نفسه فيما أعدَّ اللّه للمطيعين مِن كرَم الثواب وجزيل الأجر.

وإنْ أغفلها وفرّط في أدائها خوّف نفسه بما توعّد اللّه العُصاة والمتمرّدين عن عباده بالعقاب الأليم، وجدّ في قضائها وتلافيها.

٢ - محاسبة النفس على اقتراف الآثام واجتراح المنكرات، وذلك: بزجرها زجراً قاسياً، وتأنيبها على ما فرّط مِن سيّئاتها، ثمّ الاجتهاد بملافاة ذلك بالندم عليه، والتوبة الصادقة منه.

ولقد ضرب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أرفع مثَل لمحاسبة النفس، والتحذير مِن صغائر الذنوب ومحُقَّراتها:

قال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ رسول اللّه نزَل بأرضٍ قَرعاء، فقال لأصحابه: ائتونا بحطب. فقالوا: يا رسول اللّه، نحن بأرضٍ قَرعاء ما بها من حطب. قال: فليأت كلّ إنسانٍ بما قدَر عليه، فجاءوا به حتّى رموا بين يدَيه بعضه على بعض، فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : هكذا تجتمع الذنوب.

ثمّ قال: إيّاكم والمحقّرات مِن الذنوب، فإنّ لكلّ شيء طالباً، ألا وأنّ طالبها يكتب:

٢٦٦

(... مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) )( يس: ١٢ )(١) .

وكان بعض الأولياء يُحاسب نفسه بأُسلوبٍ يستثير الدهشة والإكبار:

من ذلك ما نُقِل عن توبة بن الصمّة، وكان مُحاسباً لنفسه في أكثر أوقات ليله ونهاره، فحسب يوماً ما مضى مِن عمره، فإذا هو ستّون سنة، فحسِب أيّامها فكانت إحدى وعشرين ألف يوم وخمسمِئة يوم، فقال: يا ويلتاه !!، ألقى مالكاً بإحدى وعشرين ألف ذنب، ثمّ صُعِق صَعقةً كانت فيها نفسه(٢).

وما أحلى هذا البيت:

إذا المرء أعطى نفسه كلَّ شهوةٍ

ولم ينهها تاقت إلى كلِّ باطلٍ

اغتنام فرصة العمر:

لو وازن الإنسان بين جميع مُتَع الحياة ومباهجها، وبين عمره وحياته لوَجد أنّ العمر أغلى وأنفس منها جميعاً، وأنّه لا يعدله شيء مِن نفائس الحياة وأشواقها الكُثر، إذ من المُمكن اكتسابها أو استرجاع ما نفَر منها.

أمّا العمر فإنّه الوقت المُحدّد الذي لا يستطيع الإنسان إطالة أمده، وتمديد أجلِه المقدّر المحتوم:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ( الأعراف: ٣٤ ).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٦٨ عن الكافي.

(٢) سفينة البحار ج ١ ص ٤٨٨.

٢٦٧

كما يستحيل استرداد ما تصرّم مِن العمر، ولو بذَل المرء في سبيل ذلك جميع مقتنيات الحياة.

وحيث كان الإنسان غفولاً عن قِيَم العمر وجلالة قدره، فهو يُسرِف عابثاً في تَضييعه وإبادته، غير آبهٍ لما تصرّم منه، ولا مُغتنِم فرصته السانحة.

مِن أجل ذلك جاءت توجيهات آل البيتعليهم‌السلام موضّحة نفاسة العمر، وضرورة استغلاله وصرفه فيما يوجِب سعادة الإنسان ورخائه في حياته العاجلة والآجلة.

قال سيّد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله في وصيّته لأبي ذر: ( يا أبا ذر، كُن على عمرك أشحّ منك على درهمك ودينارك )(١) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( إنّما الدنيا ثلاثة أيّام: يومٌ مضى بما فيه فليس بعائد، ويومٌ أنت فيه فحقّ عليك اغتنامه، ويومٌ لا تدري أنت مِن أهله، ولعلك راحل فيه.

أمّا اليوم الماضي فحكيم مُؤدّب، وأمّا اليوم الذي أنت فيه فصديقٌ مودّع، وأمّا غد فإنّما في يديك منه الأمل ).

وقالعليه‌السلام : ( ما مِن يومٍ يمرُّ على ابن آدم، إلاّ قال له ذلك اليوم: أنا يومٌ جديد، وأنا عليك شهيد، فقل فيّ خيراً، واعمل

_____________________

(١) الوافي قسم المواعظ في وصيّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي ذر.

٢٦٨

فيّ خيراً، أشهد لك به يوم القيامة، فإنّك لنْ تراني بعد هذا أبداً )(١).

وروي أنّه جاء رجلٌ إلى عليّ بن الحسينعليهما‌السلام يشكو إليه حاله، فقال: ( مسكينٌ ابن آدم، له في كلّ يومٍ ثلاث مصائب لا يعتبر بواحدةٍ منهنّ، ولو اعتبَر لهانت عليه المصائب وأمر الدنيا:

فأمّا المصيبة الأُولى: فاليوم الذي ينقص من عمره. قال: وإنْ ناله نُقصان في ماله اغتمّ به، والدهر يخلف عنه والعمر لا يردّه شيء.

والثانية: أنّه يستوفي رزقه، فإنْ كان حلالاً حُوسِبَ عليه، وإنْ كان حراماً عوقِب.

قال: والثالثة أعظم من ذلك.

قيل: وما هي ؟ قال: ما مِن يومٍ يمسي إلاّ وقد دنا مِن الآخرة مرحلة، لا يدري على جنّةٍ أم على نار ).

وقال: ( أكبر ما يكون ابن آدم اليوم الذي يولد مِن أمّه ).

( قالت الحُكَماء ما سبَقه إلى هذا أحد )(٢) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( اصبروا على طاعة اللّه، وتصبّروا عن معصية اللّه، فإنّما الدنيا ساعة، فما مضى فلستَ تجِد له سروراً ولا حزناً، وما لم يأتِ فلستَ تعرفه، فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها فكأنّك قد اغتبطت )(٣).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( لا يغرّنك الناس من نفسك،

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٣ عن الفقيه.

(٢) عن كتاب الاختصاص المنسوب للشيخ المفيد.

(٣) الوافي ج ٣ ص ٦٣ عن الكافي.

٢٦٩

فإنّ الأمر يصل إليك دونهم، ولا تقطع نهارك بكذا وكذا، فإنّ معك مَن يحفِظ عليك عملك، فأحسن فإنّي لم أرَ شيئاً أحسن درَكاً، ولا أسرَع طلَباً، مِن حسنةٍ محدّثة لذنب قديم )(١) .

وعن جعفر بن محمّد، عن آبائهعليهم‌السلام قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( بادر بأربَع قبل أربَع، بشبابك قبل هرَمك، وصحّتك قبل سقمك، وغِناك قَبل فقرك، وحياتك قَبل موتك )(٢).

وعن الباقرعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: ( لا يزولُ قدمَ ( قدما ) عبدٍ يوم القيامة مِن بين يدَي اللّه، حتّى يسأله عن أربَع خِصال: عمرك فيما أفنيته، وجسدك فيما أبليته، ومالك مِن أين اكتسبته وأين وضَعته، وعن حبّنا أهل البيت ؟)(٣).

وقال بعض الحكماء: إنّ الإنسان مسافر، ومنازله ستّة، وقد قطع منها ثلاثة وبقي ثلاثة:

فالتي قطعها: -

١ - مِن كتم العدَم إلى صُلب الأب وترائب الأُم.

٢ - رحِم الأُم.

٣ - مِن الرحم إلى فضاء الدنيا.

وأمّا التي لم يقطعها: -

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٢ عن الكافي.

(٢) البحار م ١٥ ص ١٦٥ عن كتاب كمال الدين للصدوق.

(٣) البحار م ٧ ص ٣٨٩ عن مجالس الشيخ المفيد.

٢٧٠

فأوّلها القبر. وثانيها فضاء المحشَر. وثالثها الجنّة أو النار.

ونحن الآن في قطع مرحلة المنزل الثالث، ومدّة قطعها مدّة عمرنا، فأيّامنا فراسخ، وساعاتنا أميال، وأنفاسنا خُطوات.

فكم مِن شخصٍ بقي له فراسخ، وآخر بقيَ له أميال، وآخر بقيَ له خُطوات.

وما أروع قول الشاعر:

دقّات قلبِ المرء قائلةٌ له

إنّ الحياةَ دقائقٌ وثَواني

٢٧١

العمل الصالح

لقد عرَفت في البحث السالِف نَفاسَة الوقت، وجلالة العُمر، وأنّه أعزَّ ذخائر الحياة وأنفسها.

وحيثُ كان الوقت كذلك، وجَب على العاقل أنْ يستغلّه فيما يليق به، ويكافئه عزةً ونفاسة مِن الأعمال الصالحة، والغايات السامية، الموجِبة لسعادته ورخائه المادّي والروحي، الدنيوي والأُخروي، كما قال سيّد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ليس ينبغي للعاقل أن يكون شاخصاً إلا في ثلاث: مرمّة لمعاش، أو تزوّد لمعاد، أو لذّة في غير محرم )(١) .

فهذه هي الأهداف السامية، والغايات الكريمة التي يجدر صَرْف العمر النفيس في طلبها وتحقيقها.

_____________________

(١) الوافي قسم المواعظ في وصيّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّعليه‌السلام .

٢٧٢

وحيث كان الإنسان مدفوعاً بغرائزه وأهدافه وأهوائه إلى كسب المعاش، ونيل المُتَع واللذائذ الماديّة، والتهالك عليها، ممّا يصرفه ويُلهيه عن الأعمال الصالحة، والتأهّب للحياة الآخرة، وتوفير موجبات السعادة والهناء فيها. لذلك جاءت الآيات والأخبار مشوّقة إلى الاهتمام بالآخرة، والتزوّد لها مِن العمل الصالح.

قال تعالى:( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ( الزلزلة: ٧ - ٨ ).

وقال تعالى:( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( النحل: ٩٧ ).

وقال تعالي:( وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) ( غافر: ٤٠ ).

وقال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) ( الجاثية: ١٥ ).

وقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( يا أبا ذر، إنّك في ممرِّ الليل والنهار، في آجالٍ منقوصة، وأعمالٍ محفوظة، والموت يأتي بغتة، ومَن يزرع خيراً يوشَك أنْ يحصِد خيراً، ومَن يزرع شرَّاً يوشِك أنْ يحصدَ ندامة، ولكلّ زارعٍ مثل ما زرَع )(١).

وقال قيس بن عاصم: وفدت مع جماعة مِن بني تميم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقلت: يا نبيّ اللّه، عِظنا موعظةً ننتفع بها، فإنّا قومٌ

_____________________

(١) الوافي في موعظة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي ذر.

٢٧٣

نعمّر في البرّية.

فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( يا قيس، إنّ مع العزِّ ذُلاًّ، وإنّ مع الحياة موتاً، وإنّ مع الدنيا آخرة، وإنّ لكلّ شيء حسيباً، وعلى كلِّ شيءٍ رقيباً، وإنّ لكلّ حسنة ثواباً، ولكلّ سيّئة عقاباً، ولكلِّ أجلٍ كتاباً. وإنّه لا بدَّ لك يا قيس من قرينٍ يُدفَن معك وهو حيّ، وتدفَنُ معه وأنت ميّت، فإنّ كان كريماً أكرمك، وإنْ كان لئيماً أسلمك، ثمّ لا يحشر إلاّ معك، ولا تُبعث إلاّ معه، ولا تُسأل إلاّ عنه، فلا تجعله إلاّ صالحاً، فإنّه إنْ صلُح أُنست به، وإنْ فسُد لم تستوحش إلاّ منه، وهو فعلك )(١).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( إنّ العبد إذا كان في آخر يوم مِن أيّام الدنيا، وأوّل يوم مِن أيّام الآخرة، مُثّل له، ماله، وولده، وعمله، فيلتفت إلى ماله، فيقول: واللّه إنّي كنت عليك حريصاً شحيحاً فمالي عندك ؟ فيقول: خذ منّي كفنك.

قال: فيلتفت إلى ولده فيقول: واللّه إنّي كنت لكم محبّاً، وإنّي كنت عليكم محامياً، فمالي عندكم ؟ فيقولون: نؤدّيك إلى حفرتك فنواريك فيها

قال: فيلتفت إلى عمله فيقول: واللّه إنّي كنت فيك لزاهداً، وإنّك كنت عليّ لثقيلاً، فمالي عندك ؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك، ويوم

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٦٣ عن معاني الأخبار والخِصال وأمالي الصدوق.

٢٧٤

نشرك، حتّى أُعرض أنا وأنت على ربّك )(١).

قال: ( فإنْ كان للّه وليّاً، أتاه أطيب الناس ريحاً، وأحسنهم منظراً وأحسنهم رياشاً، فقال: أبشر بروح وريحان، وجنّة نعيم، ومقدمك خير مقدم، فيقول له: مَن أنت ؟ فيقول: أنا عملُك الصالح، ارتحل مِن الدنيا إلى الجنّة...)(٢) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا وضع الميت في قبره، مُثّل له شخص، فقال له: يا هذا، كنّا ثلاثة: كان رزقك فانقطع بانقطاع أجلك، وكان أهلك فخلّوك وانصرفوا عنك، وكنت عملك فبقيت معك أما إني كنت أهون الثلاثة عليك )(٣).

وعن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن أحسَن فيما بقي من عمره، لم يُؤخَذ بما مضى من ذنبه، ومن أساء فيما بقي من عمره أخذ بالأول والآخر ).

وقد أحسن الشاعر بقوله:

والناس همهم الحياة ولا أرى

طول الحياة يزيد غير خيال

وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد

ذخراً يدوم كصالح الأعمال

_____________________

(١) الوافي ج ١٣ ص ٩٢ عن الفقيه.

(٢) الوافي ج ١٣ ص ٩٢ عن الكافي.

(٣) الوافي ج ١٣ ص ٩٤ عن الكافي.

٢٧٥

طاعة اللّه وتقواه:

الإنسان عنصر أصيل مِن عناصر هذا الكون، ونمط مثالي رفيع بين أنماطه الكثُر، بل هو أجلّها قدراً، وأرفعها شأناً، وذلك بما حباه اللّه عزّ وجل، وشرّفه بصنوف الخصائص والهِبات التي ميّزته على سائر الخلق:( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) (الإسراء: ٧٠ ).

وكان مِن أبرز مظاهر العناية الإلهيّة بالإنسان، ودلائل تكريمه له: أنْ استخلفه في الأرض، واصطفى مِن عيون نوعه وخاصّتهم رُسُلاً وأنبياءً، بعثهم إلى العباد بالشرائع والمبادئ الموجِبة لتنظيم حياتهم، وإسعادهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة.

ولكنّ أغلب البشر، وا أسفاه ! تستعبدهم الأهواء والشهَوات، وتطفي عليهم نوازع التنكّر والتمرّد على النُظُم الإلهيّة، وتشريعها الهادف البنّاء، فيتيهون في مجاهل العصيان، ويتعسّفون طُرُق الغواية والضلال، ومِن ثمّ يعانون ضروب الحيرة والقلق والشقاء، ولو أنّهم استجابوا لطاعة اللّه تعالى، وساروا على هدي نظمه ودساتيره، لسعدوا وفازوا فوزاً عظيماً:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ

٢٧٦

السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ).

أرأيت كيف انتظم الكون، واتّسقت عناصره، واستتبّ نظامه ملايين الأجيال والأحقاب ؟! بخضوعه للّه عزَّ وجل، وسيره على مقتضيات دساتيره وقوانينه ؟!

أرأيت كيف ازدهرت حياة الأحياء، واستقامت بجريها على وفق مشيئة اللّه تعالى، وحكمة نظامه وتدبيره ؟!!.

أرأيت كيف يُطبِّق الناس وصايا وتعاليم مخترعي الأجهزة الميكانيكيّة ليضمنوا صيانتها واستغلالها على أفضل وجه ؟!

أرأيت كيف يخضع الناس لنصائح الأطباء، ويعانون مشقّة العلاج ومرارة الحمية، توخّياً للبرء والشفاء ؟!.

فلِمَ لا يطيع الإنسان خالقه العظيم، ومدبّره الحكيم، الخبير بدخائله وأسراره، ومنافعه ومضارّه ؟!.

إنّه يستحيل على الإنسان أنْ ينال ما يَصبو إليه مِن سعادة وسلام، وطمأنينة ورخاء، إلاّ بطاعة اللّه تعالى، وانتهاج شريعته وقوانينه.

أنظر كيف يشوّق اللّه عزّ وجل، عباده إلى طاعته وتقواه، ويحذّرهم مغبّة التمرّد والعصيان، وهو الغنيّ المُطلق عنهم.

قال تعالى:( وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ) ( الأحزاب: ٦١ ).

وقال سُبحانه:( وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً ) ( الفتح: ١٧ ).

٢٧٧

وأمّا التقوى، فقد علّق اللّه خير الدنيا والآخرة، وأناط بها أعزَّ الأماني والآمال، وإليك بعضها:

١ - المحبّة مِن اللّه تعالى، فقال سُبحانه:( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) ( التوبة: ٤ ).

٢ - النجاة مِن الشدائد وتهيئة أسباب الارتزاق، فقال:( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) ( الطلاق: ٢ - ٣ ).

٣ - النصر والتأييد، قال تعالى:( إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ) ( النحل: ١٢٨ ).

٤ - صلاح الأعمال وقبولها، فقال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) ( الأحزاب: ٧٠ - ٧١ )

وقال:( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ).

٥ - البشارة عند الموت، قال تعالى:( الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ *، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) ( يونس:٦٣ - ٦٤ ).

٦ - النجاة من النار، قال تعالى:( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا ) ( مريم: ٧٢ ).

٧ - الخلود في الجنّة، قال تعالى:( أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) ( آل عمران: ١٣٣).

فتجلّى مِن هذا العرض، أنّ التقوى هي الكنز العظيم، الحاوي لصنوف الأماني والآمال الماديّة والروحيّة، الدينيّة والدنيويّة.

٢٧٨

حقيقة الطاعة والتقوى:

والطاعة: هي الخضوع للّه عزّ وجل، وامتثال أوامره ونواهيه.

والتقوى: مِن الوقاية، وهي صيانة النفس عمّا يضرّها في الآخرة، وقصرها على ما ينفعها فيها.

وهكذا تواترت أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام حاثّة ومرغّبةً على طاعة اللّه تعالى وتقواه، ومحذّرة مِن عِصيانه ومخالفته.

قال الإمام الحسن الزكيعليه‌السلام في موعظته الشهيرة لجُنادة: ( اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً، وإذا أردت عزّاً بلا عشيرة، وهيبةً بلا سلطان، فاخرج مِن ذُلّ معصية اللّه إلى عزِّ طاعة اللّه عزَّ وجل ).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( اصبروا على طاعة اللّه، وتصبّروا عن معصية اللّه، فإنّما الدنيا ساعة، فما مضى فلستَ تجد له سروراً ولا حزناً، وما لم يأتِ فلستَ تعرفه، فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها، فكأنّك قد اغتبطت )(١).

وقالعليه‌السلام : ( إذا كان يوم القيامة يقوم عنُقٌ مِن الناس، فيأتون باب الجنّة فيضربونه، فيُقال لهم: مَن أنتم ؟ فيقولون: نحن أهل الصبر، فيُقال لهم: على ما صبرتم ؟ فيقولون: كنّا نصبر على طاعة اللّه

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٣ عن الكافي.

٢٧٩

ونصبر عن معاصي اللّه. فيقول اللّه عزَّ وجل: صدقوا، أدخلوهم الجنّة، وهو قول اللّه عزّ وجل:( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) )( الزمر: ١٠)(١).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( إذا أردت أنْ تعلم أنّ فيك خيراً، فانظر إلى قلبِك، فإنْ كان يُحبُّ أهل طاعة اللّه عزّ وجل، ويَبغض أهل معصيته ففيك خير، واللّه يُحبُّك.

وإنْ كان يَبغض أهل طاعة اللّه، ويُحِبّ أهل معصيته فليس فيك خير، واللّه يبغضك، والمرء مع مَن أحب )(٢).

وقالعليه‌السلام : ما عرَف اللّه مَن عصاه، وأنشد:

تَعصي الإله وأنتَ تُظهر حُبّه

هذا لعمرك في الفِعال بديعُ

لو كان حُبّك صادقاً لأطَعته

إنّ المحبّ لِمن أحبّ مطيع

وعن الحسن بن موسى الوّشا البغدادي قال: كنت بخُراسان مع عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام في مجلسه، وزيد بن موسى حاضر، وقد أقبل على جماعة في المجلس يفتخر عليهم ويقول: نحن ونحن، وأبو الحسن مُقبلٌ على قومٍ يحدّثهم، فسمِع مقالة زيد، فالتفت إليه.

فقال: ( يا زيد، أغرّك قولُ بقّاليّ الكوفة، إنّ فاطمة أحصنت فرجها، فحرّم اللّه ذرّيتها على النار، واللّه ما ذلك إلاّ للحسن والحسين، وولد بطنها خاصّة، فأمّا أنْ يكون موسى بن جعفر يطيع اللّه، ويصوم نهاره، ويقوم ليله،

_____________________

(١) البحار م ٥ ص ٢ ص ٤٩ عن الكافي.

(٢) البحار م ١٥ ج ١ ص ٢٨٣ عن علل الشرائع والمحاسن للبرقي والكافي.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ٧٢ ) يَا أَيّهَا النّبِيّ جَاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ٧٣ ) يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِن يَتَوَلّوْا يُعَذّبْهُمُ اللّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الْدّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِن وَلِيّ وَلاَنَصِيرٍ ( ٧٤ )

( بيان)

تذكر الآيات شأناً آخر من شؤون المنافقين، وتكشف عن سوأة اُخرى من سوءاتهم ستروا عليها بالنفاق، وكانوا يحذرون أن تظهر عليهم وتنزل فيها سورة تقصّ ما همّوا به منها.

والآيات تنبئ عن أنّهم كانوا جماعة ذوي عدد كما يدلّ عليه قوله:( إن نعف عن طائفة منكم نعذّب طائفة ) وأنّه كان لهم بعض الاتّصال والتوافق مع جماعة آخرين من المنافقين كما في قوله:( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ) الآية وأنّهم كانوا على ظاهر الإسلام والإيمان حتّى اليوم وإنّما نافقوا يومئذ أي تفوّهوا بكلمة الكفر فيما بينهم وأسرّوا بها يومئذ كما في قوله:( قد كفرتم بعد إيمانكم ) .

وأنّهم تواطؤوا على أمر دبّروه فيما بينهم فأظهروا عند ذلك كلمة الكفر وهمّوا على أمر عظيم فحال الله بينهم وبينه فخاب سعيهم ولم يؤثّر كيدهم كما في قوله:( ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهمّوا بما لم ينالوا ) .

وأنّه ظهر ممّا همّوا به بعض ما يستدلّ عليه من الآثار والقرائن فسألوا عن ذلك فاعتذروا بما هو مثله قبحاً وشناعة كما في قوله:( ولئن سألتهم ليقولنّ إنّما كنّا نخوض

٣٤١

ونلعب ) والآيات التالية لهذه الآيات في سياق متّصل منسجم تدلّ على أنّ هذه الوقعة أيّاً مّا كانت وقعت بعد خروج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى غزوة تبوك ولمّا يرجع إلى المدينة كما يدلّ عليه قوله:( فإن رجعك الله إلى طائفة منهم ) الآية آية ٨٣ من السورة: وقوله:( سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم ) آية ٩٥ من السورة.

فيتلخّص من الآيات أنّ جماعة ممّن خرج مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تواطؤوا على أن يمكروا بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأسرّوا عند ذلك فيما بينهم بكلمات كفروا بها بعد إسلامهم ثمّ همّوا أن يفعلوا ما اتّفقوا عليه بفتك أو نحوه فأبطل الله كيدهم وفضحهم وكشف عنهم فلمّا سئلوا عن ذلك قالوا: إنّما كنّا نخوض ونلعب فعاتبهم الله بلسان رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه استهزاء بالله وآياته ورسوله، وهدّدهم بالعذاب إن لم يتوبوا، وأمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجاهدهم ويجاهد الكافرين.

فالآيات - كما ترى - أوضح انطباقاً على حديث العقبة منها على غيره من القصص الّتى تتضمّنها الروايات الاُخر الواردة في بيان سبب نزول الآيات، وسنورد جلّها في البحث الروائيّ الآتى إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( يحذر المنافقون أن تنزّل عليهم سورة تنبّؤهم بما في قلوبهم ) إلى آخر الآية. كان المنافقون يشاهدون أن جلّ ما يستسرّون به من شؤون النفاق، ويناجى به بعضهم بعضاً من كلمة الكفر ووجوه الهمز واللّمز والاستهزاء أو جميع ذلك لا يخفى على الرسول، ويتلى على الناس في آيات من القرآن يذكر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه من وحى الله، ولا محالة كانوا لا يؤمنون بأنّه وحى نزل به الروح الأمين على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويقدّرون أنّ ذلك ممّا يتجسّسه المؤمنون فيخبرون به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيخرجه لهم في صورة كتاب سماويّ نازل عليهم وهم مع ذلك كانوا يخافون ظهور نفاقهم وخروج ما خبوه في سرائرهم الخبيثة لأنّ السلطنة والظهور كانت للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم يجرى فيهم ما يأمر به ويحكم عليه.

فهم كانوا يحذرون نزول سورة يظهر بها ما أضمروه من الكفر وهمّوا به من تقليب الاُمور على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقصده بما يبطل به نجاح دعوته وتمام كلمته فأمر الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٣٤٢

أن يبلّغهم أنّ الله عالم بما في صدورهم مخرج ما يحذرون خروجه وظهوره بنزول سورة من عنده أي يخبرهم بأنّ الله منزل سورة هذا نعتها.

وبهذا يستنير معنى الآية فقوله:( يحذر المنافقون أن تنزّل عليهم سورة ) الخطاب للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووجه الكلام إليه، وهو يعلم بتعليم الله أنّ هذا الكلام الّذى يتلوه على الناس كلام إلهىّ وقرآن منزّل من عنده فيصف سبحانه الكلام الّذى يخاف منه المنافقون بما له من الوصف عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو أنّه سورة منزّلة من الله على الناس ومنهم المنافقون لا على ما يراه المنافقون أنّه كلام بشرىّ يدّعى كونه كلام الله.

فهم كانوا يحذرون أن يتلو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم وعلى الناس كلاماً هذا نعته الواقعيّ وهو أنّه سورة منزّلة عليهم بما أنّها متوجّهة بمضمونها إليهم قاصدة نحوهم ينبّؤهم هذه السورة النازلة بما في قلوبهم فيظهر على الناس ويفشو بينهم ما كانوا يسرّونه من كفرهم وسوء نيّاتهم، وهذا الظهور في الحقيقة هو الّذى كانوا يحذرونه من نزول السورة.

وقوله:( قل استهزؤا إنّ الله مخرج ما تحذرون ) كأنّ المراد بالاستهزاء هو نفاقهم وما يلحق به من الآثار فإنّ الله سمّى نفاقهم استهزاء حاكياً في ذلك قولهم حيث قال:( وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مستهزؤون ) البقرة: ١٤ فالمراد بالاستهزاء هو ستر ما يحذرون ظهوره، والأمر تعجيزىّ أي دوموا على نفاقكم وستركم ما تحذرون خروجه من عندكم إلى مرئى الناس ومسمعهم فإنّ الله مخرج ذلك وكاشف عن وجهه الغطاء، ومظهر ما أخفيتموه في صدوركم.

فصدر الآية وإن كان يذكر أنّهم يحذرون تنزيل سورة كذا وكذا لكنّهم إنّما كانوا يحذرونها لما فيها من الأنباء الّتى يحذرون أن يطّلع عليها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتنجلى للناس، وهذا هو الّذى يذكر ذيلها أنّهم يحذرونه فالكلام بمنزلة أن يقال: يحذر المنافقون تنزيل سورة قل إنّ الله منزّلها، أو يقال: يحذر المنافقون انكشاف باطن أمرهم وما في قلوبهم قل استهزؤوا إنّ الله سيكشف ذلك وينبئ عمّا في قلوبكم.

وبما تقدّم يظهر سقوط ما اُشكل على الآية أوّلاً: بأنّ المنافقين لكفرهم في الحقيقة

٣٤٣

لم يكونوا يرون أنّ القرآن كلام منزّل من عند الله فكيف يصحّ القول إنّهم يحذرون أن تنزّل عليهم سورة؟

وثانياً: أنّهم لمّا لم يكونوا مؤمنين في الواقع فكيف يصحّ أن يطلق أنّ سورة قرآنيّـة نزّلت عليهم ولا تنزّل السورة إلّا على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو على المؤمنين؟

وثالثاً: أنّ حذرهم نزول السورة وهو حال داخليّ جدّىّ فيهم لا يجامع كونه استهزاء.

ورابعاً: أنّ صدر الآية يذكر أنّهم يحذرون أن تنزّل سورة وذيلها يقول: إنّ الله مخرج ما تحذرون فهو في معنى أن يقال: إنّ الله مخرج سورة أو مخرج تنزيل سورة.

وقد يجاب عن الإشكال الأوّل بأنّ قوله: يحذر المنافقون الخ إنشاء في صورة خبر أي ليحذر المنافقون أن تنزّل عليهم سورة الخ.

وهو ضعيف إذ لا دليل عليه أصلاً على أنّ ذيل الآية لا يلائم ذلك إذ لا معنى لقولنا: ليحذر المنافقون كذا قل استهزؤوا إنّ الله مخرج ما تحذرون أي ما يجب عليكم حذره. وهو ظاهر.

وقد يجاب عنه بأنّهم إنّما كانوا يظهرون الحذر استهزاءً لا جدّاً وحقيقة. وفيه أنّ لازمه أنّهم كانوا على ثقة بأنّ ما في قلوبهم من الأنباء وما أبطنوه من الكفر والفسوق لا سبيل للظهور والإنجلاء إليه، ولا طريق لأحد إلى الاطّلاع عليه، ويكذّبه آيات كثيرة في القرآن الكريم تقصّ ما عقدوا عليه القلوب من الكفر والفسوق وهمّوا به من الخدعة والمكيدة كالآيات من سورة البقرة وسورة المنافقين وغيرهما، وإذ كانوا شاهدوا ظهور أنبائهم ومطويّات قلوبهم عياناً مرّة بعد مرّة فلا معنى لثقتهم بأنّها لا تنكشف أصلاً وإظهارهم الحذر استهزاءً لا جدّاً، وقد قال تعالى:( يحسبون كلّ صيحة عليهم ) المنافقون: ٤.

وقد يجاب عنه بأنّ أكثر المنافقين كانوا على شكّ من صدق الدعوة النبويّـة من غير أن يستيقنوا كذبه، وهؤلاء كانوا يجوّزون تنزيل سورة تنبّؤهم بما في قلوبهم احتمالاً عقليّاً، وهذا الحذر والإشفاق كما ذكروه أثر طبيعيّ للشكّ والارتياب فلو كانوا موقنين بكذب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما خطر لهم هذا الخوف على بال، ولو كانوا موقنين بصدقه لما كان هناك

٣٤٤

محلّ لهذا الخوف والحذر لأنّ قلوبهم مطمئنّة بالإيمان.

وهذا الجواب - وهو الّذى اعتمد عليه جمهور المفسّرين - وإن كان بظاهره لا يخلو عن وجه غير أنّ فيه أنّه إنّما يحسم مادّة الإشكال لو كان الواقع من التعبير في الآية نحواً من قولنا: يخاف المنافقون إن تنزّل عليهم سورة، ولذا قرّروا الجواب بأنّ الخوف يناسب الشكّ دون اليقين.

لكنّ الآية تعبّر عن شأنهم بالحذر، ويخبر أنّهم يحذرون أن تنزّل عليهم سورة الخ والحذر فيه شئ من معنى الاحتراز والاتّقاء، ولا يتمّ ذلك إلّا بالتوسّل إلى أسباب ووسائل تحفظ الحاذر ممّا يحذره ويحترز منه، وتصونه من شرّ مقبل إليه من ناحية ما يخافة.

ولو كان مجرّد شكّ من غير مشاهدة أثر من الآثار وإصابة شئ ممّا يتّقونه إيّاهم لما صحّ الاحتراز والاتّقاء، فحذرهم يشهد أنّهم كانوا يخافون أن يقع بهم هذه المرّة نظير ما وقع بهم قبل ذلك من جهة آيات البقرة وغيرها، فهذا هو الوجه لحذرهم دون الشكّ والارتياب فالمعتمد في الجواب ما قدّمناه.

وقد يجاب عن الإشكال الثاني بأنّ( على ) في قوله:( أن تنزّل عليهم ) بمعنى: في كما في قوله:( واتّبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ) البقره: ١٠٢، والمعنى: يحذر المنافقون أن تنزّل فيهم أي في شأنهم وبيان حالهم سورة تكشف عمّا في ضمائرهم.

وفيه أنّه لا بأس به لو لا قوله بعده:( تنبّؤهم بما في قلوبهم ) على ما سنوضحه.

وقد يجاب عنه بأنّ الضمير في قوله:( عليهم ) راجع إلى المؤمنين دون المنافقين و المعنى: يحذر المنافقون أن تنزّل على المؤمنين سورة تنبّؤ المنافقين بما في قلوب المنافقين أو تنبّؤ المؤمنين بما في قلوب المنافقين.

وردّ عليه بأنّه يستلزم تفكيك الضمائر. ودفع بأنّ تفكيك الضمائر غير ممنوع ولا أنّه مناف للبلاغه إلّا إذا كان المعنى معه غير مفهوم، وربّما أيّد بعضهم هذا الجواب بأنّه ليس ههنا تفكيك للضمائر فإنّه قد سبق أنّ المنافقين يحلفون للمؤمنين ليرضوهم ثمّ وبّخهم الله بأنّ الله ورسوله أحقّ أن يرضوه إن كانوا مؤمنين فقد بيّن ههنا بطريقة الاستئناف

٣٤٥

أنّهم يحذرون أن تنزّل على المؤمنين سورة تنبّؤهم بما في قلوبهم فتبطل ثقتهم بهم فاُعيد الضمير إلى المؤمنين لأنّ سياق الكلام فيهم فلا أثر من التفكيك.

وفيه أنّ من الواضح الّذى لا يرتاب فيه أنّ موضوع الكلام في هذه الآيات وآيات كثيرة ممّا يتّصل بها من قبل ومن بعد، هم المنافقون، والسياق سياق الخطاب للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا غيره، وإنّما كان خطاب المؤمنين في قوله:( يحلفون بالله لكم ليرضوكم ) خطاباً التفاتيّاً للتنبيه على غرض خاصّ أومأنا إليه ثمّ عاد الكلام إلى سياقها الأصلىّ من خطاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتبدّل خطابهم إلى خطابه فلا معنى لقوله: إنّ سياق الكلام في المؤمنين.

ولو كان السياق هو الّذى ذكره لكان من حقّ الكلام أن يقال: أن تنزّل عليكم سورة تنبّؤكم بما في قلوبهم، فما معنى العدول إلى ضمير الغيبة، ولم يتقدّم في سابق الكلام ذكر لهم على هذا النعت؟

على أنّ قوله: إنّ الآية - يحذر المنافقون - بيان من طريق الاستئناف لسبب حلفهم للمؤمنين ليرضوهم، إخراج لهذه الطائفة من الآيات من استقلال غرضها الأصلىّ الّذى بحثنا عنه في أوّل الكلام، ويختلّ بذلك ما يتراءى من فقرات الآيات من الاتّصال والارتباط.

فالآية - يحذر المنافقون الخ - ليست بياناً لسبب حلفهم المذكور سابقاً بل استئناف مسوق لغرض آخر يهدى إليه مجموع الآيات الإحدى عشرة.

وبالجملة الآيات السابقة على هذه الآية خالية عن ذكر المؤمنين ذكراً يوجب انعطاف الذهن إليه حينما يلقى ضميراً يمكن عوده إليهم وهذا هو التفكيك المذكور، وهو مع ذلك تفكيك ممنوع لإيجابه إبهاماً في البيان ينافى بلاغته.

والحقّ أنّ الضمير في قوله:( أن تنزّل عليهم ) للمنافقين - كما تقدّمت الإشارة إليه - ولا بأس بأن يسمّى تنزيل سورة لبيان حالهم وذكر مثالبهم وتوبيخهم على نفاقهم تنزيلاً للسورة عليهم وهم في جماعة المؤمنين غير متميّزين منهم كما عبّر بنظير التعبير في مورد المؤمنين حيث قال:( واذكروا نعمة الله عليكم وما اُنزل عليكم من الكتاب والحكمة

٣٤٦

يعظكم به ) البقرة: ٢٣١.

وقد أتى سبحانه بنظير هذا التعبير في أهل الكتاب حيث قال:( يسألك أهل الكتاب أن تنزّل عليهم كتاباً من السماء ) النساء: ١٥٣، وفي المشركين حيث حكى عنهم قولهم:( ولن نؤمن لرقيّك حتّى تنزّل علينا كتاباً نقرؤه ) أسرى: ٩٣، وليست نسبة المنافقين وهم في المؤمنين إلى نزول القرآن عليهم بأبعد من نسبة المشركين وأهل الكتاب إلى نزوله عليهم، والنزول والإنزال والتنزيل يقبل التعدّي بإلى بعناية الإنتهاء وبعلى بعناية الاستعلاء والإتيان من العلو، والتعدية بكلّ واحد منهما كثير في تعبيرات القرآن، والمراد بنزول الكتاب إلى قوم وعلى قوم تعرّضه لشؤونهم وبيانه لما ينفعهم في دنياهم واُخراهم.

وقد يجاب عن الإشكال الثالث بأنّ قوله تعالى:( قل استهزؤوا ) دليل على أنّهم كانوا يستهزؤون بالحذر ولم يكن من جدّ الحذر في شئ.

وفيه أنّ الآيات الكثيرة النازلة في سورة البقرة والنساء وغيرها - وكلّ ذلك قبل هذه الآيات نزولاً - المخرجة لكثير من خبايا قلوبهم الكاشفة عن أسرارهم تدلّ على أنّ هذا الحذر كان منهم على حقيقته من غير استهزاء وسخريّة.

على أنّه تعالى وصفهم في سورة المنافقون بمثل قوله:( يحسبون كلّ صيحة عليهم ) المنافقون: ٤، وقال في مثل ضربه لهم وفيهم:( يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت ) البقرة: ١٩ وقد ذكر في الآية التالية.

والحقّ أنّ استهزاءهم إنّما هو نفاقهم وقولهم في الظاهر خلاف ما في باطنهم كما يؤيّده قوله تعالى:( وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مستهزؤون ) البقرة: ١٤.

والجواب عن الإشكال الرابع أنّ الشئ الّذى كانوا يحذرونه في الحقيقة هو ظهور نفاقهم وانكشاف ما في قلوبهم، وإنّما كانوا يحذرون نزول السورة لأجل ذلك فالمحذور الّذى ذكر في صدر الآية والّذى في ذيل الآية أمر واحد، ومعنى قوله( إنّ الله مخرج ما تحذرون ) أنّه مظهر لما أخفيتموه من النفاق ومنبئ لما في قلوبكم.

قوله تعالى: ( ولئن سألتهم ليقولنّ إنّما كنّا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته

٣٤٧

ورسوله كنتم تستهزؤون ) الخوض - على ما في المجمع - دخول القدم فيما كان مائعاً من الماء والطين ثمّ كثر حتّى استعمل في غيره.

وقال الراغب في المفردات: الخوض هو الشروع في الماء والمرور فيه، ويستعار في الاُمور، وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذمّ الشروع فيه. انتهى.

ولم يذكر الله سبحانه متعلّق السؤال وأنّ المسؤول عنه الّذى إن سأل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سأل عنه ما هو؟ غير أنّ قوله:( ليقولنّ إنّما كنّا نخوض ونلعب ) بما له من السياق المصدّر بإنّما يدلّ على أنّه كان فعلاً صادراً منهم له نوع تعلّق بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان أمراً مرئيّاً يسئ الظنّ بهم، ولم يكن في وسعهم أن يعتذروا منه بعد ما تبيّن وانكشف للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا بأنّه إنّما كان منهم خوضاً ولعباً لم يريدوا به غير ذلك.

والخوض واللعب الّذين اعتذروا بهما من الأعمال السيّـئة الّتى لا يعترف بهما الناس في حالهم العادىّ وخاصّـة المؤمنون وسائر المتظاهرين بالإيمان وخاصّـة إذا كان ذلك في أمر يرجع إلى الله ورسوله غير أنّهم لم يجدوا وصفاً يصفون به فعلهم لإخراجه عن ظاهر ما يدلّ عليه، دون أن يعنونوه بأنّه كان خوضاً ولعباً.

ولذا أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يوبّخهم على ما اعتذروا به فقال:( قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون ) ثمّ فسّر عملهم في آخر الآيات بقوله:( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهمّوا بما لم ينالوا ) الآية.

ويتحصّل من مجموع هذه القرائن أنّ المنافقين كانوا أرادوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسوء كالفتك به ومفاجأته بما يهلكه وأقدموا على ما قصدوه وتكلّموا عند ذلك بشئ من الكلام الردىّ لكنّهم أخطؤوا في ما أوقعوه عليه واندفع الشرّ عنه، ولم يصب السهم هدفه فلمّا خاب سعيهم وبان أمرهم سألهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك وما تصدّوه به اعتذروا بأنّهم كانوا يخوضون ويلعبون فوبّخهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله:( أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون ) وردّ الله سبحانه إليهم عذرهم الّذى اعتذروا به وبيّن حقيقة ما قصدوا بذلك.

وبالجملة معنى الآية: واُقسم لئن سألتهم عن فعلهم الّذى شوهد منهم: ما الّذى أرادوا به؟ وكان ظاهره أنّهم همّوا بأمر فيك ليقولنّ: لم يكن قصد سوء ولا بالّذى ظننت

٣٤٨

فأسأت الظنّ بنا، وإنّما كنّا نخوض ونلعب خوض الركب في الطريق لا على سبيل الجدّ ولكن لعباً.

وهذا اعتذار منهم بالاستهزاء بالله وآياته ورسوله فإنّهم يعترفون بأنّهم فعلوا فيك ما فعلوه خوضاً ولعباً فقد استهزؤوا بالله ورسوله فقل: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون أي أتعتذرون عن سيّئ فعلكم بسيّـئة اُخرى هي الاستهزاء بالله وآياته ورسوله، وهو كفر؟

وليس من البعيد أن يكون الغرض الأصيل بيان كونه استهزاء بالرسول، وإنّما ذكر الله وآياته للدلالة على معنى الاستهزاء بالرسول، وأنّه لمّا كان من آيات الله كان الاستهزاء به استهزاء بآيات الله، والاستهزاء بآيات الله استهزاء بالله العظيم فالاستهزاء برسول الله استهزاء بالله وآياته ورسوله.

قوله تعالى: ( لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذّب طائفة ) الآية، قال الراغب في المفردات: الطوف المشى حول الشئ ومنه الطائف لمن يدور حول البيوت حافظاً - إلى أن قال - والطائفة من الناس جماعة منهم ومن الشئ القطعة منه.

وقوله تعالى:( فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ) قال بعضهم: قد يقع ذلك على الواحد فصاعداً، وعلى ذلك قوله:( وإن طائفتان من المؤمنين إذ همّت طائفتان منكم ) .

والطائفة إذا اُريد بها الجمع فجمع طائف، (وإذا اُريد بها الواحد فيصحّ أن يكون جمعاً ويكنّى به عن الواحد، ويصحّ أن يجعل كراوية وعلامة ونحو ذلك. انتهى.

وقد خطّأ بعضهم القول بجواز صدق الطائفة على الواحد والاثنين من الناس كما تصدق على الثلاثة فصاعداً، وبالغ في ذلك حتّى عدّه غلطاً ولا دليل له على ما ذكره، ومادّة اللّفظ لا يستوجب شيئاً معيّـناً من العدد، وإطلاقها على القطعة من الشئ يؤيّد استعمالها في الواحد.

وقوله:( لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ) نهى عن الاعتذار بدعوى أنّه لغو كما

٣٤٩

يدلّ عليه قوله:( قد كفرتم بعد إيمانكم ) فإنّ الاعتذار لا فائدة تترتّب عليه بعد الحكم بكفرهم بعد إيمانهم.

والمراد بإيمانهم هو ظاهر الإيمان الّذى كانوا يتظاهرون به لا حقيقة الإيمان الّذى هو من الهداية الإلهيّـة الّتى لا يعقّبها ضلال، ويؤيّده قوله تعالى في آخر هذه الآيات:( ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ) فبدّل الإيمان إسلاماً وهو ظاهر الشهادتين.

ويمكن أن يقال: إنّ من مراتب الإيمان ما هو اعتقاد واذعان ضعيف غير آب عن الزوال كإيمان الّذين في قلوبهم مرض وقد عدّهم الله من المؤمنين وذكرهم مع المنافقين لامنهم، ولا مانع من أن ينسلخوا هذا الإيمان.

وكيف لا؟ وقد سلخ الله الإيمان ممّن هو أرسخ إيماناً منهم كالّذى يقصّه في قوله:( واتل عليهم نبأ الّذى آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنّه أخلد إلى الأرض واتّبع هواه ) الأعراف: ١٧٦.

وقال أيضاً:( إنّ الّذين آمنوا ثمّ كفروا ثمّ آمنوا ثمّ كفروا ثمّ ازدادوا كفراً ) النساء: ١٣٧ وقد أكثر القرآن الكريم من ذكر الكفر بعد الإيمان فلا مانع من زوال الاعتقاد القلبىّ قبل رسوخه وهو اعتقاد.

نعم الإيمان المستقرّ والاعتقاد الراسخ لا سبيل إلى عروض الزوال له قال تعالى:( من يهدي الله فهو المهتدى ) الأعراف: ١٧٨ وقال:( فإنّ الله لا يهدى من يضلّ ) النحل: ٣٧.

وقوله:( إن نعف عن طائفة منكم نعذّب طائفة ) يدلّ على أنّ هؤلاء المنافقين المذكورين في الآيات كانوا ذوى عدد وكثرة، وأنّ كلمة العذاب وقعت عليهم لا بدّ لهم من العذاب فلو شمل بعضهم عفو إلهىّ لمصلحة في ذلك وقع العذاب على الباقين فهذا معنى الجملة:( إن نعف عن طائفة منكم نعذّب طائفة ) بحسب ما يفهم من نظمه وسياقه.

وبعبارة اُخرى رابطة اللزوم بين الشرط والجزاء بترتّب الجزاء وتفرّعه على الشرط إنّما هي بالتبع وأصله ترتّب الجزاء ههنا على أمر يتعلّق به الشرط وهو أنّ العذاب

٣٥٠

وجب على جماعتهم فإن عفى عن بعضهم تعيّـن الباقون من غير تخلّف.

وقد ظهر بما قدّمناه أوّلاً: وجه ترتّب قوله:( نعذّب طائفة ) على قوله:( إن نعف عن طائفة ) واندفع ما استشكله بعضهم على الآية أنّه لا ملازمة بين العفو عن البعض وعذاب البعض فما معنى الاشتراط؟

والجواب: أنّ اللزوم بحسب الأصل بين وجوب نزول العذاب على الجماعة وبين نزوله على بعضهم ثمّ انتقل إلى ما بين العفو عن البعض وبين نزوله على بعضهم كما قرّرناه.

وثانياً: أنّ المراد بالعفو هو ترك العذاب لمصلحة من مصالح الدين دون العفو بمعنى المغفرة المستندة إلى التوبة إذ لا وجه ظاهراً لمثل قولنا: إن غفرنا لطائفة منكم لتوبتهم نعذّب طائفة لجرمهم مع أنّهم لو تابوا جميعاً لم يعذّبوا قطعاً.

وقد ندب الله إليهم جميعاً أن يتوبوا حيث قال في آخر الآيات:( فإن يتوبوا يك خيراً لهم وإن يتولّوا يعذّبهم الله عذاباً أليما في الدنيا والآخرة ) .

وثالثاً: أنّ العفو في الآية بل والعذاب المذكور فيها هو العفو عن العذاب الدنيويّ وتركها وكذا القول في العذاب فإنّ العفو من العذاب الاُخرويّ على ما تنصّ عليه الآيات القرآنيّـة إنّما يكون لتوبة أو شفاعة، ولا تحقّق لواحد منهما فيما نحن فيه أمّا التوبة فلمّا تبيّن أنّها غير مرادة في الآية، وأمّا الشفاعة فلمّا ثبت بآيات الشفاعة أن الشفاعة لا ينالها في الآخرة إلّا مؤمن مرضىّ الإيمان، وقد استوفينا البحث عنها في الجزء الأوّل من الكتاب.

ورابعاً: أنّه لا مانع من كون الآية أعني قوله:( لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة ) الآية من تتمّة كلام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ المراد بالعفو والعذاب، هو العذاب الدنيويّ بالسياسة وتركه، ولا مانع من نسبتهما إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

لكن ظاهر الآيات التالية هو كونه من قول الله سبحانه خطاباً للمنافقين فيكون التفاتاً من خطاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى خطابهم والنكتة فيه إظهار كمال الغضب واشتداد السخط من صنعهم حتّى كأنّه لا يفى بإيذانه وإعلامه الرسالة فواجههم بنفسه وخاطبهم بشخصه

٣٥١

فهدّدهم بعذاب واقع لا مردّ له ولا مفرّ منه.

قوله تعالى: ( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ) إلى آخر الآيتين، ذكروا أنّه استئناف يتعرّض لحال عامّة المنافقين بذكر أوصافهم العامّة الجامعة وتعريفهم بها وما يجازيهم الله في عاقبة أمرهم ثمّ يتعرّض لحال عامّة المؤمنين ويعرّفهم بصفاتهم الجامعة ويذكر ما ينبّئهم الله به على سبيل المقابلة استتماماً للقسمة، ومن الدليل على هذا الاستيفاء ذكر جزاء الكفّـار مع المنافقين في قوله:( وعد الله المنافقين والمنافقات والكفّـار ) الآية.

والظاهر أنّ الآية في مقام التعليل لقوله في الآية السابقة:( إن نعف عن طائفة منكم نعذّب طائفة ) وسياق مخاطبة المنافقين جار لم ينقطع بعد.

فالآية السابقة لمّا دلّت على أنّه تعالى لا يترك المنافقين حتّى يعذّبهم بإجرامهم فإن ترك بعضاً منهم لحكمة ومصلحة أخذ آخرين منهم بالعذاب كان هناك مظنّة أن يسأل فيقال: ما وجه أخذ البعض إذا ترك غيره؟ وهل هو إلّا كأخذ الجار بجرم الجار فاُجيب ببيان السبب وهو أنّ المنافقين جميعاً بعضهم من بعض لاشتراكهم في خبائث الصفات والأعمال، واشتراكهم في جزاء أعمالهم وعاقبة حالهم.

ولعلّه ذكر المنافقات مع المنافقين مع عدم سبق لذكرهنّ للدلالة على كمال الاتّحاد والاتّفاق بينهم في نفسيّتهم، وليكون تلويحاً على أنّ من النساء أيضاً أجزاء مؤثّرة في هذا المجتمع النفاقىّ الفاسد المفسد.

فمعنى الآية لا ينبغى أن يستغرب أخذ بعض المنافقين إذا ترك البعض الآخر لأنّ المنافقين والمنافقات يحكم عليهم نوع من الوحدة النفسيّـة يوحّد كثرتهم فيرجع بعضهم إلى بعض، فيشرّكهم في الأوصاف والأعمال وما يجازون به بوعد من الله تعالى.

فهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويمسكون عن الإنفاق في سبيل الله وبعبارة اُخرى نسوا الله تعالى بالإعراض عن ذكره لأنّهم فاسقون خارجون عن زىّ العبوديّـة فنسيهم الله فلم يثبهم بما أثاب عباده الذاكرين مقام ربّهم.

ثمّ ذكر ما وعدهم على ذلك فقال:( وعد الله المنافقين والمنافقات والكفّـار - وعطف عليهم

٣٥٢

الكفّـار لأنّهم جميعاً سواء - نار جهنّم خالدين فيها هي حسبهم ) من الجزاء لا يتعدّى فيهم إلى غيرها( ولعنهم الله ) وأبعدهم( ولهم عذاب مقيم ) ثابت لا يزول عنهم البتّـة.

وقد ظهر بذلك أنّ قوله تعالى:( نسوا الله فنسيهم ) الخ بيان لما تقدّمه من قوله:( يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم ) .

ويتفرّع على ذلك أنّ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والإنفاق في سبيل الله من الذكر.

قوله تعالى: ( كالّذين من قبلكم كانوا أشدّ منكم قوّة وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم ) الخ، قال الراغب: الخلاق ما اكتسبه الإنسان من الفضيلة بخلقه قال تعالى:( وما له في الآخرة من خلاق ) انتهى وفسّره غيره بمطلق النصيب.

والآية من تتمّة مخاطبة المنافقين الّتى في قوله:( لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ) الآية في سياق واحد متّصل وفي الآية تشبيه حال المنافقين بحال من كان قبلهم من الكفّـار والمنافقين وقياسهم إليهم ليستشهد بذلك على ما قيل: أنّ المنافقين والمنافقات بعضهم من بعض وأنّهم جميعاً والكفّـار ذووا طبيعة واحدد في الإعراض عن ذكر الله والإقبال على الاستمتاع بما أوتوا من أعراض الدنيا من أموال وأولاد والخوض في آيات الله ثمّ في حبط أعمالهم في الدنيا والآخرة والخسران.

ومعنى الآية - والله أعلم - أنتم كالّذين من قبلكم كانت لهم قوّة وأموال وأولاد بل أشدّوا أكثر في ذلك منكم، فاستمتعوا بنصيبهم وقد تفرّع على هذه المماثلة أنّكم استمتعتم كما استمتّعوا وخضتم كما خاضوا اُولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة واُولئك هم الخاسرون وأنتم أيضاً أمثالهم في الحبط والخسران ولذا وعدكم النار الخالدة ولعنكم.

وذكر كون قوّة من قبلهم أشدّ وأموالهم وأولادهم أكثر للإيماء إلى أنّهم لم يعجزوا الله بذلك، ولم يدفع ذلك عنهم غائلة الحبط والخسران فكيف بكم وأنتم أضعف قوّة وأقلّ أموالاً وأولاداً؟

٣٥٣

قوله تعالى: ( ألم يأتهم نبأ الّذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات ) الآية رجوع إلى السياق الأوّل وهو سياق مخاطبة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع افتراض الغيبة في المنافقين، وتذكيرٌ لهم بما قصّ عليهم القرآن من قصص الاُمم الماضين.

فذاك قوم نوح عمّهم الله سبحانه بالغرق، وعاد وهم قوم هود أهلكهم بريح صرصر عاتية، وثمود وهم قوم صالح عذّبهم بالرجفة، وقوم إبراهيم أهلك ملكهم نمرود وسلب عنهم النعمة، والمؤتفكات وهى القرى المنقلبات على وجهها - من ائتفكت الأرض إذا انقلبت - قرى قوم لوط جعل عاليها سافلها.

وقوله:( أتتهم رسلهم بالبيّنات ) أي بالواضحات من الآيات والحجج والبراهين وهو بيان إجماليّ لنبأهم أي كان نبأهم أن أتتهم رسلهم بالآيات البيّنة فكذّبوها فانتهى أمرهم إلى الهلاك، ولم يكن من شأن السنّة الإلهيّـة أن يظلمهم لأنّه بيّن لهم الحقّ والباطل، وميّز الرشد من الغىّ، والهدى من الضلال، ولكن كان اُولئك الأقوام والاُمم أنفسهم يظلمون بالاستمتاع من نصيب الدنيا والخوض في آيات الله وتكذيب رسله.

قوله تعالى: ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ) إلى آخر الآية. ثمّ وصف الله سبحانه حال المؤمنين عامّة محاذاة لما وصف به المنافقين فقال:( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ) ليدلّ بذلك على أنّهم مع كثرتهم وتفرّقهم من حيث العدد ومن الذكورة والاُنوثة ذوو كينونة واحدة متّفقة لا تشعّب فيها ولذلك يتولّى بعضهم أمر بعض ويدبّره.

ولذلك كان يأمر بعضهم بعضاً بالمعروف وينهى بعضهم بعضاً عن المنكر فلولاية بعض المجتمع على بعض ولاية سارية في جميع الأبعاض دخل في تصدّيهم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فيما بينهم أنفسهم.

ثمّ وصفهم بقوله:( ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ) وهما الركنان الوثيقان في الشريعة فالصلاة ركن العبادات الّتى هن الرابطة بين الله وبين خلقه، والزكاة في المعاملات

٣٥٤

الّتى هي رابطة بين الناس أنفسهم.

ثمّ وصفهم بقوله:( ويطيعون الله ورسوله ) فجمع في إطاعة الله جميع الأحكام الشرعيّـة الإلهيّـة وجمع في إطاعة رسوله جميع الأحكام الولائيّة الّتى يصدرها رسوله في إداره اُمور الاُمّة وإصلاح شؤونهم كفرامينه في الغزوات، وأحكامه في القضايا وإجراء الحدود وغير ذلك.

على أنّ إطاعه شرائع الله النازلة من السماء من جهة اُخرى منطوية في إطاعة الرسول فإنّ الرسول هو الصادع بالحقّ القائم بالدعوة إلى اُصول الدين وفروعه.

وقوله:( اُولئك سيرحمهم الله ) إخبار عمّا في القضاء الإلهىّ من شمول الرحمة الإلهيّـة لهؤلاء القوم الموصوفين بما ذكر، وكأنّ في هذه الجملة محاذاة لما سرد في المنافقين من قوله تعالى:( نسوا الله فنسيهم ) والظاهر أيضاً أنّ قوله:( إنّ الله عزيز حكيم ) تعليل لما ذكر من الرحمة فلا مانع من رحمته لعزّته، ولا اختلال أو وهناً وجزافاً في حكمته.

قوله تعالى: ( وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنّات تجرى من تحتها الأنهار ) إلى آخر الآية، العدن مصدر بمعنى الإقامة والاستقرار يقال: عدن بالمكان أي أقام فيه واستقرّ ومنه المعدن للأرض الّتى تستقرّ فيه الجواهر والفلزّات المعدنيّة، وعلى هذا فمعنى جنّات عدن جنّات إقامه واستقرار وخلود.

وقوله:( ورضوان من الله اكبر ) أي رضى الله سبحانه عنهم أكبر من ذلك كلّه - على ما يفيده السياق - وقد نكّر( رضوان ) إيماء إلى أنّه لا يقدّر بقدر ولا يحيط به وهم بشر أو لأنّ رضواناً مّا منه ولو كان يسيراً أكبر من ذلك كلّه لا لأنّ ذلك كلّه ممّا يتفرّع على رضاه تعالى ويترشّح منه - وإن كان كذلك في نفسه - بل لأنّ حقيقة العبوديّـة الّتى يندب إليها كتاب الله هي عبوديّته تعالى حبّاً له: لا طمعاً في جنّـة، أو خوفاً من نار، وأعظم السعادة والفوز عند المحبّ أن يستجلب رضى محبوبه دون أن يسعى لإرضاء نفسه.

كأنّه للإشارة إلى ذلك ختم الآية بقوله:( ذلك هو الفوز العظيم ) وتكون في

٣٥٥

الجملة دلالة على معنى الحصر أي أنّ هذا الرضوان هو حقيقة كلّ فوز عظيم حتّى الفوز العظيم بالجنّـة الخالدة إذ لو لا شئ من حقيقة الرضى الإلهىّ في نعيم الجنّـة كان نقمة لا نعمة.

قوله تعالى: ( يا أيّها النبيّ جاهد الكفّـار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنّم وبئس المصير ) جهاد القوم ومجاهدتهم بذل غاية الجهد في مقاومتهم وهو يكون باللّسان وباليد حتّى ينتهى إلى القتال، وشاع استعماله في الكتاب في القتال وإن كان ربّما استعمل في غيره كما في قوله:( والّذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا ) الآية.

واستعماله في قتال الكفّـار على رسله لكونهم متجاهرين بالخلاف والشقاق، وأمّا المنافقون فهم الّذين لا يتظاهرون بكفر ولا يتجاهرون بخلاف، وإنّما يبطنون الكفر ويقلّبون الاُمور كيداً ومكراً ولا معنى للجهاد معهم بمعنى قتالهم ومحاربتهم، ولذلك ربّما يسبق إلى الذهن أنّ المراد بجهادهم مطلق ما تقتضيه المصلحة من بذل غاية الجهد في مقاومتهم فإن اقتضت المصلحة هجروا ولم يخالطوا ولم يعاشروا، وإن اقتضت وعظوا باللسان، وإن اقتضت أخرجوا وشرّدوا إلى غير الأرض أو قتلوا إذا اُخذ عليهم الردّة، أو غير ذلك.

وربّما شهد لهذا المعنى أعني كون المراد بالجهاد في الآية مطلق بذل الجهد تعقيب قوله:( جاهد الكفّـار والمنافقين ) بقوله:( واغلظ عليهم ) أي شدّد عليهم وعاملهم بالخشونة.

وأمّا قوله:( و مأواهم جهنّم وبئس المصير ) فهو عطف على ما قبله من الأمر، ولعلّ الّذى هوّن الأمر في عطف الإخبار على الإنشاء هو كون الجملة السابقة في معنى قولنا:( إنّ هؤلاء الكفّـار والمنافقين مستوجبون للجهاد ) . والله أعلم.

قوله تعالى: ( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهمّوا بما لم ينالوا ) الآية. سياق الآية يشعر بأنّهم أتوا بعمل سيّئ وشفّعوه بقول تفوّهوا به عند ذلك، وأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاتبهم على قولهم مؤاخذاً لهم فحلفوا بالله ما قالوا كما تقدّم في قوله:( ولئن سألتهم ليقولنّ إنّما كنّا نخوض ونلعب ) إلى آخر الآية

٣٥٦

أنّهم كانوا يعتذرون بذلك عن عملهم أنّه كان خوضاً و لعباً لا غير ذلك.

والله سبحانه يكذّبهم في الأمرين جميعاً: أمّا في إنكارهم القول فبقوله:( ولقد قالوا كلمة الكفر ) وفسّره ثانياً بقوله:( وكفروا بعد إسلامهم ) للدلالة على جدّ القول فيتفرّع عليه الكفر بعد الإسلام.

و لعلّه قال ههنا:( وكفروا بعد إسلامهم ) وقد قيل سابقاً:( قد كفرتم بعد إيمانكم ) لأنّ القول السابق للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الجارى على ظاهر حالهم وهو الإيمان الّذى كانوا يدّعونه ويتظاهرون به، والقول الثاني لله العالم بالغيب والشهادة فيشهد بأنّهم لم يكونوا مؤمنين ولم يتعدّوا الشهادتين بلسانهم فهم كانوا مسلمين لا مؤمنين، وقد كفروا بقولهم وخرجوا عن الإسلام إلى الكفر، وفي هذا إيماء إلى أنّ قولهم كان كلمة فيه الردّ على الشهادتين أو إحداهما،

أو لأنّ القول الأوّل في قبال عملهم الّذى أرادوا إيقاع الشرّ بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والعمل الخالى من القول وهو لم يصب الغرض لا يضرّ بالإسلام الّذى هو نصيب اللّفظ والشهادة، وإنّما يضرّ بالإيمان الّذى هو نصيب الاعتقاد، والقول الثاني في قبال قولهم الّذى تفوّهوا به، وهو ينافى الإسلام الّذى يكتسب باللّفظ دون الإيمان الّذى هو نوع من الاعتقاد القلبىّ.

وأمّا في إنكارهم العمل السيّئ الّذى أتوا به وتأويلهم إيّاه إلى الخوض واللّعب فبقوله:( وهمّوا بما لم ينالوا ) .

ثمّ قال في مقام ذمّهم وتعييرهم:( وما نقموا إلّا أن أغناهم الله و رسوله من فضله ) أي بسبب أن أغناهم الله ورسوله، أي كان سبب نقمتهم هذه أنّ الله أغناهم من فضله بما رزقهم من الغنائم وبسط عليهم الأمن والرفاهية فمكّنهم من توليد الثروة وإنماء المال من كلّ جهة، وكذا رسوله حيث هداهم إلى عيشة صالحة تفتح عليهم أبواب بركات السماء والأرض، وقسّم بينهم الغنائم وبسط عليهم العدل.

فهو من قبيل وضع الشئ موضع ضدّه: وضع فيه الإغناء وهو بحسب الطبع سبب للرضى والشكر موضع سبب النقمة والسخطة كالظلم والغضب وإن شئت قلت: وضع فيه الإحسان

٣٥٧

موضع الإساءة، ففيه نوع من التهكّم المشوب بالذمّ نظير ما في قوله تعالى:( وتجعلون رزقكم أنّكم تكذّبون ) الواقعة: ٨٢ أي تجعلون رزقكم سبباً للتكذيب بايات الله وهو سبب بحسب الطبع لشكر النعمة والرضا بالموهبة على ما قيل: إنّ المعنى: وتجعلون بدل شكر رزقكم أنّكم تكذّبون.

والضمير في قوله:( من فضله ) راجع إلى الله سبحانه، قال في المجمع: وإنّما لم يقل: من فضلهما لأنّه لا يجمع بين اسم الله واسم غيره في الكناية تعظيماً لله، ولذلك قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمن سمعه يقول:( من أطاع الله ورسوله فقد اهتدى ومن عصاهما فقد غوى ) : بئس خطيب القوم أنت فقال: كيف أقول يا رسول الله؟ قال: قل: ومن يعص الله ورسوله، وهكذا القول في قوله سبحانه:( والله ورسوله أحقّ أن يرضوه ) وقيل: إنّما لم يقل من فضلهما لأنّ فضل الله منه وفضل رسوله من فضله، انتهى كلامه.

وهناك وراء التعظيم أمر آخر قدّمنا القول فيه في تفسير قوله تعالى:( لقد كفر الّذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة ) المائدة: ٧٣ في الجزء السادس من الكتاب، وهو أنّ وحدته تعالى ليست من سنخ الوحدة العدديّة حتّى يصحّ بذلك تأليفها مع وحدة غيره واستنتاج عدد من الأعداد منه.

ثمّ بين الله سبحانه لهؤلاء المنافقين أنّ لهم مع هذه الذنوب المهلكة وصريح كفرهم بالله وهمّهم بما لم ينالوا أن يرجعوا إلى ربّهم، وبيّن عاقبة أمر هذه التوبة وعاقبة التولّى والإعراض عنها فقال:( فإن يتوبوا يك خيراً لهم ) لادّائه إلى المغفرة والجنّـة( وإن يتولّوا ) ويعرضوا عن التوبة( يعذّبهم الله عذاباً أليما في الدنيا ) بالسياسة والنكال أو بإغراء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم أو بالمكر والاستدراج، ولو لم يكن من عذابهم إلّا أنّهم مخالفون بنفاقهم نظام الأسباب المبنىّ على الصدق والإيمان فتقادمهم سلسلة الأسباب وتحطمهم وتفضحهم لكان فيه كفاية، وقد قال الله:( والله لا يهدى القوم الفاسقين ) التوبة: ٢٤( والآخرة ) بعذاب النار.

وقوله تعالى:( وما لهم في الأرض من ولىّ ولا نصير ) معناه أنّ هؤلاء لا ولىّ لهم في الأرض يتولّى أمرهم ويصرف العذاب عنهم، ولا نصير ينصرهم ويمدّهم بما يدفعون به

٣٥٨

العذاب الموعود عن أنفسهم لأنّ سائر المنافقين أيضاً منهم وكلمة الفساد يجمعهم وأصلهم الفاسد منقطع عن سائر الأسباب الكونيّـة فلا ولىّ لهم يتولّى أمرهم ولا ناصر لهم ينصرهم ولعلّ هذه الجملة من الآية إشارة إلى ما أومأنا إليه في معنى عذاب الدنيا.

( بحث روائي)

في المجمع في قوله تعالى:( يحذر المنافقون أن تنزّل عليهم سورة ) الآية: قيل: نزلت في اثنى عشر رجلاً وقفوا على العقبة ليفتكوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند رجوعه من تبوك فأخبر جبرئيل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك، وأمره أن يرسل إليهم ويضرب وجوه رواحلهم.

وعمّار كان يقود دابّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحذيفة يسوقها فقال لحذيفة: اضرب وجوه رواحلهم، فضربها حتّى نحّاهم فلمّا نزل قال لحذيفة: من عرفت من القوم؟ قال: لم أعرف منهم أحداً فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه فلان وفلان حتّى عدّهم كلّهم فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال: أكره أن تقول العرب: لمّا ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم. عن ابن كيسان.

وروى عن أبى جعفر الباقرعليه‌السلام مثله إلّا أنّه قال: ائتمروا بينهم ليقتلوه وقال بعضهم لبعض: إن فطن نقول: إنّما كنّا نخوض ونلعب، وإن لم يفطن نقتله.

وقيل: إنّ جماعة من المنافقين قالوا في غزوة تبوك: يظنّ هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات، فأطلع الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ذلك فقال: احبسوا علىّ الركب، فدعاهم فقال لهم: قلتم كذا وكذا. فقالوا: يا نبىّ الله إنّما كنّا نخوض ونلعب وحلفوا على ذلك فنزلت الآية:( ولئن سألتهم ليقولنّ ) الخ، عن الحسن وقتادة.

وقيل: كان ذلك عند منصرفه من غزوة تبوك إلى المدينة وكان بين يديه أربعة نفر أو ثلاثة يستهزؤون ويضحكون، وأحدهم يضحك ولا يتكلّم فنزل جبرئيل وأخبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك فدعا عمّار بن ياسر وقال: إنّ هؤلاء يستهزؤون بى وبالقرآن أخبرني جبرئيل بذلك، ولئن سألتهم ليقولنّ: كنّا نتحدّث بحديث الركب فاتّبعهم عمّار وقال: ممّ

٣٥٩

تضحكون؟ قالوا: نتحدّث بحديث الركب فقال عمّار: صدق الله ورسوله احترقتم أحرقكم الله، فأقبلوا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعتذرون فأنزل الله تعالى الآيات. عن الكلبىّ وعلىّ بن إبراهيم وأبى حمزة.

وقيل: إنّ رجلاً قال في غزوة تبوك: ما رأيت أكذب لساناً ولا أجبن عند اللّقاء من هؤلاء يعنى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه، فقال له عوف بن مالك: كذبت ولكنّك منافق، وأراد أن يخبر رسول الله بذلك فجاء وقد سبقه الوحى فجاء الرجل معتذراً، وقال: إنّما كنّا نخوض ونلعب ففيه نزلت الآية، عن ابن عمر وزيد بن أسلم ومحمّـد بن كعب.

وقيل: إنّ رجلاً من المنافقين قال: يحدّثنا محمّـد أنّ ناقة فلان بوادي كذا وكذا وما يدريه ما الغيب؟ فنزلت الآية، عن مجاهد.

وقيل: نزلت في عبدالله بن اُبىّ ورهطه، عن الضحّاك.

وفي المجمع أيضاً في قوله تعالى:( يحلفون بالله ما قالوا ) الآية، اختلف في من نزلت فيه هذه الآية فقيل: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان جالساً في ظلّ شجرة فقال: إنّه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعينى الشيطان، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله: ما قالوا فأنزل الله هذه الآية، عن ابن عبّـاس.

وقيل: خرج المنافقون مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى تبوك فكانوا إذا خلا بعضهم ببعض سبّوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه وطعنوا في الدين فنقل ذلك حذيفة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لهم: ما هذا الّذى بلغني عنكم فحلفوا بالله: ما قالوا شيئاً من ذلك. عن الضحّاك.

وقيل: نزلت في جُلاس بن سويد بن الصامت، وذلك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب ذات يوم بتبوك وذكر المنافقين فسمّاهم رجساً وعابهم، فقال الجلاس: والله لئن كان محمّـد صادقاً فيما يقول فنحن شرّ من الحمير فسمعه عامر بن قيس فقال: أجل والله إنّ محمّـداً لصادق وأنتم شرّ من الحمير، فلمّا انصرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قال الجلاس، فقال الجلاس: كذب يا رسول الله.

فأمرهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحلفا عند المنبر فقام الجلاس عند المنبر فحلف بالله ما

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444