الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 97200 / تحميل: 6780
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

المراد بالمعذّرين هم أهل العذر كالّذى لا يجد نفقه ولا سلاحاً بدليل قوله:( وقعد الّذين كذبوا ) الآية، والسياق يدلّ على أنّ في الكلام قياساً لإحدى الطائفتين إلى الاُخرى ليظهر به لؤم المنافقين وخسّتهم وفساد قلوبهم وشقاء نفوسهم، حيث إنّ فريضة الجهاد الدينيّـة والنصرة لله ورسوله هيّج لذلك المعذّرين من الأعراب وجاؤوا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستأذنونه، ولم يؤثّر في هؤلاء الكاذبين شيئاً.

قوله تعالى: ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الّذين لا يجدون ما ينفقون حرج ) المراد بالضعفاء بدلالة سياق الآية: الّذين لا قوّة لهم على الجهاد بحسب الطبع كالزمني كما أنّ المرضى لا قوّة لهم عليه بحسب عارض مزاجيّ، والّذين لا يجدون ما ينفقون لا قوّة لهم عليه من جهة فقد المال ونحوه.

فهؤلاء مرفوع عنهم الحرج والمشقّة أي الحكم بالوجوب الّذى لو وضع كان حكماً حرجيّاً، وكذا ما يستتبعه الحكم من الذمّ والعقاب على تقرير المخالفة.

وقد قيّد الله تعالى رفع الحرج عنهم بقوله:( إذا نصحوا لله ورسوله ) وهو ناظر إلى الذمّ العقاب على المخالفة والقعود فإنّما يرفع الذمّ والعقاب عن هؤلاء المعذورين إذا نصحوا لله ورسوله، وأخلصوا من الغشّ والخيانة ولم يجروا في قعودهم على ما يجرى عليه المنافقون المتخلّفون من تقليب الاُمور وإفساد القلوب في مجتمع المؤمنين، وإلّا فيجرى عليهم ما يجرى على المنافقين من الذمّ والعقاب.

وقوله:( ما على المحسنين من سبيل ) في مقام التعليل لنفى الحرج عن الطوائف المذكورين بشرط أن ينصحوا لله ورسوله أي لأنّهم يكونون حينئذ محسنين وما على المحسنين من سبيل فلا سبيل يتسلّط عليهم يؤتون منه فيصابون بما يكرهونه.

ففى السبيل كناية عن كونهم في مأمن ممّا يصيبهم من مكروه كأنّهم في حصن حصين لا طريق إلى داخله يسلكه الشرّ إليهم فيصيبهم، والجملة عامّة بحسب المعنى وإن كان مورد التطبيق خاصّاً .

قوله تعالى: ( ولا على الّذين إذا ما أتوك لتحمّلهم قلت ) الآية قال في المجمع: الحمل إعطاء المركوب من فرس أو بعير أو غير ذلك تقول: حمله يحمله حملاً إذا أعطاه

٣٨١

ما يحمل عليه قال:

ألا فتى عنده خفّان يحملنى

عليهما إنّنى شيخ على سفر

قال: والفيض الجرى عن امتلاء من قولهم: فاض الإناء بما فيه، والحزن ألم في القلب لفوت أمر مأخوذ من حزن الأرض وهى الأرض الغليظة المسلك. انتهى.

وقوله:( ولا على الّذين ) الآية. موصول صلته قوله:( تولّوا ) الآية، وقوله:( إذا ما أتوك لتحملهم ) كالشرك والجزاء والمجموع ظرف لقوله:( تولّوا ) وحزناً مفعول له،( وأن لا يجدوا ) منصوب بنزع الخافض.

والمعنى: ولا حرج على الفقراء الّذين إذا ما أتوك لتعطيهم مركوباً يركبونه وتصلح سائر ما يحتاجون إليه من السلاح وغيره قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولّوا والحال أنّ أعينهم تمتلئ وتسكب دموعاً للحزن من أن لا يجدوا - أو لأن لا يجدوا - ما ينفقونه في سبيل الله للجهاد مع أعدائه.

وعطف هذا الصنف على ما تقدّمه من عطف الخاصّ على العامّ عناية بهم لأنّهم في أعلى درجة من النصح وإحسانهم ظاهر.

قوله تعالى: ( إنّما السبيل على الّذين يستأذنوك وهم أغنياء ) الآية، القصر للإفراد والمعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم ) إلى آخر الآية. خطاب الجمع للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين جميعاً، وقوله:( لن نؤمن لكم ) أي لن نصدّقكم على ما تعتذرون به بناء على تعدية الإيمان باللام كالباء - أو لن نصدّق تصديقاً ينفعكم - بناء على كون اللام للنفع - والجملة تعليل لقوله:( لا تعتذروا ) كما أنّ قوله:( قد نبّأنا الله من أخباركم ) تعليل لهذه الجملة.

والمعنى يعتذر المنافقون إليكم عند رجوعكم من الغزوة إليهم قل يا محمّـد لهم: لا تعتذروا إلينا لأنّا لن نصدّقكم فيما تعتذرون به لأنّ الله قد أخبرنا ببعض أخباركم ممّا يظهر به نفاقكم وكذبكم فيما تعتذرون به، وسيظهر عملكم ظهور شهود لله ورسوله ثمّ تردّون إلى الله الّذى يعلم الغيب والشهادة يوم القيامة فيخبركم بحقائق أعمالكم.

٣٨٢

وفي قوله:( وسيرى الله عملكم ورسوله ) الخ في إيضاحه كلام سيمرّ بك عن قريب.

قوله تعالى: ( سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم ) الآية أي لتعرضوا عنهم فلا تتعرّضوا لهم بالعتاب والتقريع وما يتعقّب ذلك فأعرضوا عنهم لا تصديقاً لهم فيما يحلفون له من الأعذار بل لأنّهم رجس ينبغى أن لا يقترب منهم ومأواهم جهنّم جزاء بما كانوا يكسبون.

قوله تعالى: ( يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإنّ الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ) أي هذا الحلف منهم كما كان للتوسّل إلى صرفكم عنهم ليأمنوا الذمّ والتقريع كذلك هو للتوسّل إلى رضاكم عنهم أمّا الإعراض فافعلوه لأنّهم رجس لا ينبغى لنزاهة الإيمان وطهارته أن تتعرّض لرجس النفاق والكذب وقذارة الكفر والفسق، وأمّا الرضى فاعلموا أنّكم إن ترضوا عنهم فإنّ الله لا يرضى عنهم لفسقهم والله لا يرضى عن القوم الفاسقين.

فالمراد أنّكم إن رضيتم عنهم فقد رضيتم عمّن لم يرض الله عنه أي رضيتم بخلاف رضى الله، ولا ينبغى لمؤمن أن يرضى عمّا يسخط ربّه فهو أبلغ كناية عن النهى عن الرضا عن المنافقين.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور في قوله تعالى:( فرح المخلفون ) الآية أخرج ابن أبى حاتم عن جعفر بن محمّـد عن أبيه -عليهما‌السلام - قال: كانت غزوة تبوك آخر غزوة غزاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهى غزوة الحرّ( قالوا لا تنفروا في الحرّ ) وهى غزوة العسرة.

وفيه أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم وابن مردويه عن ابن عبّـاس ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر الناس أن ينبعثوا معه وذلك في الصيف فقال رجال: يا رسول الله إنّ الحرّ شديد ولا نستطيع الخروج فلا تنفروا في الحرّ فقال الله( قل نار جهنّم أشدّ حرّاً لو كانوا يفقهون ) فأمره بالخروج.

٣٨٣

أقول: ظاهر الآية أنّهم إنّما قالوه ليخذلوا الناس عن الخروج، وظاهر الحديث أنّهم إنّما قالوه إشارة فلا يتطابقان.

وفيه أخرج ابن جرير عن محمّـد بن كعب القرظىّ وغيره قالوا: خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حرّ شديد إلى تبوك فقال رجل من بنى سلمة: لا تنفروا في الحرّ فأنزل الله:( قل نار جهنّم أشدّ حرّاً ) الآية.

أقول: تقدّمت أخبار في قوله تعالى:( ومنهم من يقول ائذن لى ولا تفتنّي ) الآية أنّ القائل لقوله:( لا تنفروا في الحرّ ) هو جدّ بن قيس.

وفي الدرّ المنثور أيضاً في قوله تعالى:( ولا تصلّ على أحد منهم ) الآية أخرج البخاريّ ومسلم وابن أبى حاتم وابن المنذر وأبوالشيخ وابن مردويه والبيهقيّ في الدلائل عن ابن عمر قال: لمّا توفّى عبدالله بن اُبىّ بن سلول أتى ابنه عبدالله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسأله أن يعطيه قميصه ليكفنّه فيه فأعطاه ثمّ سأله أن يصلّى عليه فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقام عمر بن الخطّاب فأخذ ثوبه فقال: يا رسول الله أتصلّى عليه وقد نهاك الله أن تصلّى على المنافقين؟ فقال: إنّ ربّى خيّرنى وقال: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرّة فلن يغفر الله لهم، وسأزيد على السبعين فقال: إنّه منافق فصلّى عليه فأنزل الله تعالى:( ولا تصلّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره ) فترك الصلاة عليهم.

أقول: وفي هذا المعنى روايات اُخرى رواها أصحاب الجوامع ورواة الحديث عن عمر بن الخطّاب وجابر وقتادة، وفي بعضها أنّه كفّنه في قميصه ونفث في جلده ونزل في قبره.

وفيه أخرج أحمد والبخاريّ والترمذيّ والنسائيّ وابن أبى حاتم والنحّـاس وابن حبّان وابن مردويه وابو نعيم في الحلية عن ابن عبّـاس قال: سمعت عمر يقول: لمّا توفّى عبدالله بن اُبىّ دعى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للصلاة عليه فقام عليه فلمّا وقف قلت: أتصلّى على عدوّ الله عبدالله بن اُبىّ القائل كذا وكذا والقائل كذا وكذا - اُعدّد أيّـامه - ورسول

٣٨٤

الله يتبسّم حتّى إذا أكثرت قال: يا عمر أخّر عنّى إنّى قد خيّرت قد قيل لى: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرّة، فلو أعلم أنّى إن زدت على السبعين غفر له لزدت عليها ثمّ صلّى عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومشى معه حتّى قام على قبره حتّى فرغ منه.

فعجبت لى ولجرأتي على رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلّم)، والله ورسوله أعلم فو الله ما كان إلّا يسيراً حتّى نزلت هاتان الآيتان:( ولا تصلّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره ) فما صلّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على منافق بعده حتّى قبضه الله عزّوجلّ.

وفيه أخرج ابن أبى حاتم عن الشعبىّ أنّ عمر بن الخطّاب قال: لقد اُصبت في الإسلام هفوة ما اُصبت مثلها قطّ أراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصلّى على عبدالله بن اُبىّ فأخذت بثوبه فقلت: والله ما أمرك الله بهذا. لقد قال الله:( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرّة فلن يغفر الله لهم ) فقال رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلّم): قد خيّرنى ربّى فقال( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ) .

فقعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على شفير القبر فجعل الناس يقولون لابنه، يا حباب افعل كذا يا حباب افعل كذا فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الحباب اسم شيطان أنت عبدالله.

وفيه أخرج الطبرانيّ وابن مردويه والبيهقيّ في الدلائل عن ابن عبّـاس ان ابن عبدالله بن اُبىّ قال له أبوه: اطلب لى ثوباً من ثياب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكفّنّي فيه ومره أن يصلّى علىّ قال: فأتاه فقال: يا رسول الله قد عرفت شرف عبدالله وهو يطلب إليك ثوباً من ثيابك نكفّنه فيه وتصلّى عليه.

فقال عمر: يا رسول الله قد عرفت عبدالله ونفاقه أتصلّى عليه وقد نهاك الله أن تصلّى عليه؟ فقال: وأين؟ فقال:( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرّة فلن يغفر الله لهم ) قال: فإنّى سأزيد على سبعين فأنزل الله:( ولا تصلّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره ) الآية قال: فأرسل إلى عمر فأخبره بذلك، وإنزل الله:( سواء عليهم

٣٨٥

استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ) .

أقول: وقد ورد استغفار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعبدالله بن اُبىّ وصلاته عليه في بعض المراسيل من روايات الشيعة أيضاً أوردها العيّـاشيّ والقمّىّ في تفسيريهما، وقد تقدّم خبر القمّىّ.

وهذه الروايات على ما فيها من بعض التناقض والتدافع واشتمالها على التعارض فيما بينها يدفعها الآيات الكريمة دفعاً بيّناً لا مرية فيه:

أمّا أوّلاً فلظهور قوله تعالى:( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرّة فلن يغفر الله لهم ) ظهوراً بيّنا في أنّ المراد بالآية بيان لغويّة الإستغفار للمنافقين دون التخيير، وأنّ العدد جيئ به لمبالغة الكثرة لا لخصوصيّة في السبعين بحيث ترجى المغفرة مع الزائد على السبعين.

والنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجلّ من أن يجهل هذه الدلالة فيحمل الآية على التخيير ثمّ يقول سأزيد على سبعين ثمّ يذكره غيره بمعنى الآية فيصرّ على جهله حتّى ينهاه الله عن الصلاة وغيرها بآية اُخرى ينزّلها عليه.

على أنّ جميع هذه الآيات المتعرّضة للاستغفار للمنافقين والصلاة عليهم كقوله:( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ) وقوله:( سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ) وقوله:( ولا تصلّ على أحد منهم مات أبداً ) تعلّل النهى واللغويّة بكفرهم وفسقهم، حتّى قوله تعالى في النهى عن الاستغفار للمشركين:( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اُولى قربى من بعد ما تبيّن لهم أنّهم أصحاب الجحيم ) آية: ١١٣ من السورة ينهى عن الاستغفار معلّلاً ذلك بالكفر وخلود النار، وكيف يتصوّر مع ذلك جواز الاستغفار لهم والصلاة عليهم؟

وثانياً: أنّ سياق الآيات الّتى منها قوله:( ولا تصلّ على أحد منهم مات أبداً ) الآية صريح في أنّ هذه الآية إنّما نزلت والنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفره إلى تبوك ولمّا يرجع إلى المدينة، وذاك في سنة ثمان، وقد وقع موت عبدالله بن اُبىّ بالمدينة سنة تسع من الهجرة كلّ ذلك مسلّم من طريق النقل.

٣٨٦

فما معنى قوله في هذه الروايات: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى على عبدالله وقام على قبره ثمّ أنزل الله عليه:( ولا تصلّ على أحد منهم مات أبداً ) الآية؟

وأعجب منه ما وقع في بعض الروايات السابقة أنّ عمر قال للنبىّ (صلّى الله عليه و آله و سلّم): أتصلّى عليه وقد نهاك عن الصلاة للمنافقين فقال: إنّ ربّى خيّرنى ثمّ أنزل الله:( ولا تصلّ على أحد منهم ) الآية.

وأعجب منه ما في الرواية الأخيرة من نزول قوله:( سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ) الآية، والآية من سورة المنافقون وقد نزلت بعد غزاة بنى المصطلق وكانت في سنة خمس وعبدالله بن اُبىّ حىّ عندئذ وقد حكى في السورة قوله: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ.

وقد اشتمل بعض هذه الروايات وتعلّق به بعض من انتصر لها على أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما استغفر وصلّى على عبدالله ليستميل قلوب رجال منافقين من الخزرج إلى الإسلام، وكيف يستقيم ذلك؟ وكيف يصحّ أن يخالف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النصّ الصريح من الآيات استمالة لقلوب المنافقين ومداهنة معهم؟ وقد هدّده الله على ذلك بأبلغ التهديد في مثل قوله:( إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف المماة ) الآية أسرى: ٧٥. فالوجه أنّ هذه الروايات موضوعة يجب طرحها بمخالفة الكتاب.

وفي الدرّ المنثور في قوله:( رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ) الآية أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبى وقّـاص أنّ علىّ بن أبى طالب خرج مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى جاء ثنيّة الوداع يريد تبوك، وعلىّ يبكى ويقول: تخلّفنى مع الخوالف؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا ترضى أن تكون منّى بمنزلة هارون من موسى إلّا النبوّة.

أقول: والرواية مرويّة بطرق كثيرة من طرق الفريقين.

وفي تفسير العيّـاشيّ عن جابر عن أبى جعفرعليه‌السلام في قوله:( رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ) قال: مع النساء.

وفي الدرّ المنثور أخرج عبد الرزّاق في المصنف وابن أبى شيبة وأحمد والبخاريّ وأبوالشيخ وابن مردويه عن أنس أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا قفل من غزوة تبوك

٣٨٧

فأشرف على المدينة قال: لقد تركتم بالمدينة رجالاً ما سرتم في مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم وادياً إلّا كانوا معكم فيه. قالوا: يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر.

وفي المجمع في قوله تعالى:( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ) الآيتين قيل: إنّ الآية الاُولى نزلت في عبدالله بن زائدة وهو ابن اُمّ مكتوم وكان ضرير البصر جاء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا نبىّ الله إنّى شيخ ضرير خفيف الحال نحيف الجسم وليس لى قائد فهل لى رخصة في التخلّف عن الجهاد؟ فسكت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله الآية. عن الضحّاك، وقيل: نزلت في عائذ بن عمرو وأصحابه. عن قتادة.

والآية الثانية نزلت في البكّائين وهم سبعة نفر منهم: عبد الرحمن بن كعب وعلبة بن زيد و عمرو بن ثعلبة بن غنمة وهؤلاء من بنى النجّار، وسالم بن عمير وهرمىّ بن عبدالله وعبدالله بن عمرو بن عوف [ أ ] وعبدالله بن مغفّل من مزينة جاؤوا إلى رسول الله فقالوا يا رسول الله احملنا فإنّه ليس لنا ما نخرج عليه فقال: لا أجد ما أحملكم عليه عن أبى حمزة الثمالىّ.

وقيل: نزلت في سبعة من قبائل شتّى أتوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا له: احملنا على الخفاف والنعال. عن محمّـد بن كعب وابن إسحاق.

وقيل: كانوا جماعة من مزينة. عن مجاهد، وقيل: كانوا سبعة من فقراء الأنصار فلمّا بكوا حمل عثمان منهم رجلين، والعبّـاس بن عبدالمطّلب رجلين، ويامين ابن كعب النضرىّ ثلاثة عن الواقديّ قال: وكان الناس بتبوك مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثين ألفاً منهم عشرة آلاف فارس.

أقول: والروايات في أسماء البكّائين مختلفة اختلافاً شديداً.

وفي تفسير القمّىّ قال: قال: وإنّما سأل هؤلاء البكّاؤن نعلاً يلبسونها.

وفي المعاني بإسناده عن ثعلبة عن بعض أصحابنا عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ:( عالم الغيب والشهادة ) فقال: الغيب ما لم يكن والشهادة ما قد كان.

أقول: وهو من باب إراءة بعض المصاديق واللّفظ أعمّ.

٣٨٨

وفي تفسير القمّىّ قال: ولمّا قدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تبوك كان أصحابه المؤمنون يتعرّضون المنافقين ويؤذونهم فأنزل الله:( سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم ) إلى آخر الآيتين.

وفي المجمع قيل: نزلت الآيات في جدّ بن قيس ومعتّب بن قشير وأصحابهما من المنافقين وكانوا ثمانين رجلاً، ولمّا قدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة راجعاً عن تبوك قال: لا تجالسوهم ولا تكلّموهم. عن ابن عبّـاس.

٣٨٩

( سورة التوبة آيه ٩٧ - ١٠٦)  

الْأَعْرَابُ أَشَدّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَاأَنْزَلَ اللّهُ عَلَى‏ رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٩٧ ) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتّخِذُ مَايُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبّصُ بِكُمُ الدّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السّوءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٩٨ ) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتّخِذُ مَايُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرّسُولِ أَلاَ إِنّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( ٩٩ ) وَالسّابِقُونَ الْأَوّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدَاً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١٠٠ ) وَمِمّنْ حَوْلَكُم مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النّفَاقِ لاَتَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذّبُهُم مَرّتَيْنِ ثُمّ يُرَدّونَ إِلَى‏ عَذَابٍ عَظِيمٍ ( ١٠١ ) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( ١٠٢ ) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِم بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ١٠٣ ) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الْصّدَقَاتِ وَأَنّ اللّهَ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ ( ١٠٤ ) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدّونَ إِلَى‏ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ١٠٥ ) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللّهِ إِمّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١٠٦ )

٣٩٠

( بيان)

الكلام جار على الغرض السابق يبيّن به حال الأعراب في كفرهم ونفاقهم وإيمانهم وفي خلال الآيات آية الصدقة.

قوله تعالى: ( الأعراب أشدّ كفراً ونفاقاً وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ) الآية، قال الراغب في المفردات: العرب ولد إسماعيل، والأعراب جمعه في الأصل، وصار ذلك اسماً لسكّان البادية:( قالت الأعراب آمنّا. والأعراب أشدّ كفراً ونفاقاً. ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ) ، وقيل في جمع الأعراب أعاريب، قال الشاعر:

أعاريب ذوو فخر بإفك

وألسنة لطاف في المقال

والأعرابيّ في التعارف صار اسماً للمنسوب إلى سكّان البادية، والعربيّ المفصح والإعراب البيان، انتهى موضع الحاجة. يبيّن تعالى حال سكّان البادية وأنّهم أشدّ كفراً ونفاقاً لأنّهم لبعدهم عن المدنيّـة والحضارة، وحرمانهم من بركات الإنسانيّـة من العلم والأدب أقسى وأجفى، فهم أجدر وأحرى أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله من المعارف الأصليّة والأحكام الشرعيّـة من فرائض وسنن وحلال وحرام.

قوله تعالى: ( ومن الأعراب من يتّخذ ما ينفق مغرماً ويتربّص بكم الدوائر ) الآية، قال في المجمع: المعرم الغرم وهو نزول نائبة بالمال من غير خيانة، وأصله لزوم الأمر، ومنه قوله: إنّ عذابها كان غراماً، وحبّ غرام أي لازم، والغريم يقال لكلّ واحد من المتداينين للزوم أحدهما الآخر وغرمته كذا أي ألزمتة إيّاه في ماله، انتهى.

والدائرة الحادثة وتغلب في الحوادث السوء كأنّ الحوادث السوء تدور بين الناس فتنزل كلّ يوم بقوم فتربّص الدوائر بالمؤمنين انتظار نزول الحوادث السوء عليهم للتخلّص من سلطتهم والرجوع إلى رسوم الشرك والضلال.

وقوله:( يتّخذ ما ينفق مغرماً ) أي يفرض الإنفاق غرماً أو المال الّذى ينفقه

٣٩١

مغرماً - على أن يكون ما مصدريّة أو موصولة - والمراد الإنفاق في الجهاد أو أيّ سبيل من سبل الخير على ما قيل، ويمكن أن يكون المراد الإنفاق في خصوص الصدقات ليكون الكلام كالتوطئة لما سيجئ بعد عدّة آيات من حكم أخذ الصدقة من أموالهم، ويؤيّده ما في الآية التالية من قوله:( ويتّخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ) فإنّه كالتوطئة لقوله في آية الصدقة:( وصلّ عليهم إنّ صلاتك سكن لهم ) .

فمعنى الآية: ومن سكّان البادية من يفرض الإنفاق في سبيل الخير أو في خصوص الصدقات غرماً وخسارة وينتظر نزول الحوادث السيّـئة بكم، عليهم دائرة السوء - قضاء منه تعالى أو دعاء عليهم - والله سميع للأقوال عليم بالقلوب.

قوله تعالى: ( ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتّخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ) الخ، الظاهر أنّ قوله:( صلوات الرسول ) عطف على قوله:( ما ينفق ) وأنّ الضمير في قوله:( ألا إنّها قربة ) عائد إلى ما ينفق وصلوات الرسول.

ومعنى الآية: ومن الأعراب من يؤمن بالله فيوحّده من غير شرك ويؤمن باليوم الآخر فيصدّق الحساب الجزاء ويتّخذ إنفاق المال لله وما يتبعه من صلوات الرسول ودعواته بالخير والبركة، كلّ ذلك قربات عند الله وتقرّبات منه إليه ألا إنّ هذا الإنفاق وصلوات الرسول قربة لهم، والله يعدهم بأنّه سيدخلهم في رحمته لأنّه غفور للذنوب رحيم بالمؤمنين به والمطيعين له.

قوله تعالى: ( والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والّذين اتّبعوهم بإحسان ) الخ القراءة المشهورة( والأنصار ) بالكسر عطفاً على( المهاجرين ) والتقدير: السابقون الأوّلون من المهاجرين والسابقون الأوّلون من الأنصار والّذين اتّبعوهم بإحسان، وقرء يعقوب: والأنصار بالرفع فالمراد به جميع الأنصار دون السابقين الأولين منهم فحسب.

وقد اختلفت الكلمة في المراد بالسابقين الأوّلين فقيل: المراد بهم من صلّى إلى القبلتين، وقيل: من بايع بيعة الرضوان وهى بيعة الحديبية، وقيل: هم أهل بدر خاصّـة،

٣٩٢

وقيل: هم الّذين أسلموا قبل الهجرة، وهذه جميعاً وجوه لم يوردوا لها دليلاً من جهة اللفظ.

والّذى يمكن أن يؤيّده لفظ الآية بعض التأييد هو أنّ بيان الموضوع - السابقون الأوّلون - بالوصف بعد الوصف من غير ذكر أعيان القوم وأشخاصهم يشعر بأنّ الهجرة والنصرة هما الجهتان اللّتان روعى فيهما السبق والأوّليّة.

ثمّ الّذى عطف عليهم من قوله:( والّذين اتّبعوهم بإحسان ) ، يذكر قوماً ينعتهم بالاتّباع ويقيّده بأن يكون بإحسان والّذى يناسب وصف الاتّباع أن يترتّب عليه هو وصف السبق دون الأوّليّة فلا يقال: أوّل وتابع وإنّما يقال: سابق وتابع، وتصديق ذلك قوله تعالى:( للفقراء المهاجرين الّذين اُخرجوا من ديارهم وأموالهم - إلى أن قال -والّذين تبوّؤا الدار والإيمان من قبلهم - إلى أن قال -والّذين جاءوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الّذين سبقونا بالإيمان ) الآيات الحشر: ١٠.

فالمراد بالسابقين هم السابقون إلى الإيمان من بين المسلمين من لدن طلوع الإسلام إلى يوم القيامة.

ولكون السبق ويقابله اللحوق والاتّباع من الاُمور النسبيّـة، ولازمه كون مسلمى كلّ عصر سابقين في الإيمان بالقياس إلى مسلمى ما بعد عصرهم كما أنّهم لاحقون بالنسبة إلى من قبلهم قيّد( السابقون ) بقوله:( الأوّلون ) ليدلّ على كون المراد بالسابقين هم الطبقة الاُولى منهم.

وإذ ذكر الله سبحانه ثالث الأصناف الثلاثة بقوله:( والّذين اتّبعوهم بإحسان ) ولم يقيّده بتابعي عصر دون عصر ولا وصفهم بتقدّم وأوّليّة ونحوهما وكان شاملاً لجميع من يتّبع السابقين الأوّلين كان لازم ذلك أن يصنّف المؤمنون غير المنافقين من يوم البعثة إلى يوم البعث في الآية ثلاثة أصناف: السابقون الأوّلون من المهاجرين، و السابقون الأوّلون من الأنصار، والّذين اتّبعوهم بإحسان، والصنفان الأوّلان فاقدان لوصف التبعيّة وإنّما هما إمامان متبوعان لغيرهما والصنف الثالث ليس متبوعاً إلّا بالقياس.

وهذا نعم الشاهد على أنّ المراد بالسابقين الأوّلين هم الّذين أسّسوا أساس الدين

٣٩٣

ورفعوا قواعده قبل أن يشيد بنيانه ويهتزّ راياته صنف منهم بالإيمان واللحوق بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصبر على الفتنة والتعذيب، والخروج من ديارهم وأموالهم بالهجرة إلى الحبشة والمدينة، وصنف بالإيمان ونصرة الرسول وإيوائه وإيواء من هاجر إليهم من المؤمنين والدفاع عن الدين قبل وقوع الوقائع.

وهذا ينطبق على من آمن بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الهجرة ثمّ هاجر قبل وقعة بدر الّتى منها ابتدء ظهور الإسلام على الكفر أو آمن بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآواه وتهيّأ لنصرته عند ما هاجر إلى المدينة.

ثمّ إنّ قوله:( والّذين اتّبعوهم بإحسان ) قيّد فيه اتّباعهم بإحسان ولم يرد الاتّباع في الاحسان بأن يكون المتبوعون محسنين ثمّ يتبعهم التابعون في إحسانهم ويقتدوا بهم فيه - على أن يكون الباء بمعنى في - ولم يرد الاتّباع بواسطة الإحسان - على أن يكون الباء للسببيّـة أو الآليّة - بل جئ بالإحسان منكّراً، والأنسب له كون الباء بمعنى المصاحبة فالمراد أن يكون الاتّباع مقارناً لنوع مّا من الإحسان مصاحباً له، وبعبارة اُخرى يكون الإحسان وصفاً للاتّباع.

وإنّا نجده تعالى في كتابه لا يذمّ من الاتّباع إلّا ما كان عن جهل وهوى كاتّباع المشركين آباءهم، واتّباع أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم وأسلافهم عن هوى واتّباع الهوى واتّباع الشيطان فمن اتّبع شيئاً من هؤلاء فقد أساء في الاتّباع ومن اتّبع الحقّ لا لهوى متعلّق بالأشخاص وغيرهم فقد أحسن في الاتّباع، قال تعالى:( الّذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه اُولئك الّذين هداهم الله ) الزمر: ١٨ ومن الإحسان في الاتّباع كمال مطابقة عمل التابع لعمل المتبوع ويقابله الإساءة فيه.

فالظاهر أنّ المراد بالّذين اتّبعوهم بإحسان أن يتّبعوهم بنوع من الإحسان في الاتّباع وهو أن يكون الاتّباع بالحقّ - وهو اتّباعهم لكون الحقّ معهم - ويرجع إلى اتّباع الحقّ بالحقيقة بخلاف اتّباعهم لهوى فيهم أو في اتّباعهم، وكذا مراقبة التطابق.

هذا ما يظهر من معنى الاتّباع بإحسان، وأمّا ما ذكروه من أنّ المراد كون الاتّباع مقارناً لإحسان في المتّبع عملاً بأن يأتي بالأعمال الصالحة والأفعال الحسنة فهو

٣٩٤

لا يلائم كلّ الملائمة التنكير الدالّ على النوع في الإحسان، وعلى تقدير التسليم لا مفرّ فيه من التقييد بما ذكرنا فإنّ الاتّباع للحقّ وفي الحقّ يستلزم الإتيان بالأعمال الحسنة الصالحة دون العكس وهو ظاهر.

فقد تلخّص أنّ الآية تقسم المؤمنين من الاُمّة إلى ثلاثة أصناف: صنفان هما السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار، والصنف الثالث هم الّذين اتّبعوهم بإحسان.

وظهر ممّا تقدّم أوّلاً: أنّ الآية تمدح الصنفين الأوّلين، بالسبق إلى الإيمان والتقدّم في إقامة صلب الدين ورفع قاعدته، و تفضيلهم على غيرهم على ما يفيده السياق.

وثانياً: أنّ( من ) في قوله:( من المهاجرين والأنصار ) تبعيضيّة لا بيانيّة لما تقدّم من وجه فضلهم، ولما أنّ الآية تذكر أنّ الله رضى عنهم ورضوا عنه، والقرآن نفسه يذكر أنّ منهم من في قلبه مرض ومنهم سمّاعون للمنافقين، ومنهم من يسمّيه فاسقاً، ومنهم من تبرّأ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عمله ولا معنى لرضي الله عنهم، والله لا يرضى عن القوم الفاسقين.

وثالثاً: أنّ الحكم بالفضل ورضى الله سبحانه في الآية مقيّد بالإيمان والعمل الصالح على ما يعطيه السياق فإنّ الآية تمدح المؤمنين في سياق تذمّ فيه المنافقين بكفرهم وسيّئات أعمالهم ويدلّ على ذلك سائر المواضع الّتى مدحهم الله فيها أو ذكرهم بخير ووعدهم وعداً جميلاً فقد قيّد جميع ذلك بالإيمان والعمل الصالح كقوله تعالى:( للفقراء المهاجرين الّذين اُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله ) إلى آخر الآيات الثلاث الحشر: ٨.

وقوله فيما حكاه من دعاء الملائكة لهم:( ويستغفرون للّذين آمنوا ربّنا وسعت كلّ شئ رحمة وعلماً فاغفر للّذين تابوا واتّبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربّنا وأدخلهم جنّات عدن الّتى وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرّيّاتهم ) المؤمن: ٨.

وقوله:( محمّـد رسول الله والّذين معه أشدّاء على الكفّـار رحماء بينهم - إلى أن قال -وعد الله الّذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً ) الفتح: ٢٩.

٣٩٥

وقوله:( والّذين آمنوا واتّبعتهم ذرّيّتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرّيّتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ كلّ امرء بما كسب رهين) الطور: ٢١ انظر إلى موضع قوله:( بإيمان ) وقوله: كلّ امرء الخ.

ولو كان الحكم في الآية غير مقيّد بقيد الإيمان والعمل الصالح وكانوا مرضيّين عند الله مغفوراً لهم أحسنوا أو أساؤوا واتّقوا أو فسقوا كان ذلك تكذيباً صريحاً لقوله تعالى:( فإنّ الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ) التوبة: ٩٦، وقوله:( والله لا يهدى القوم الفاسقين ) التوبة: ٨٠، وقوله:( والله لا يحبّ الظالمين ) آل عمران: ٥٧ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالّة مطابقة أو التزاماً أنّ الله لا يرضى عن الظالم والفاسق وكلّ من لا يطيعه في أمر أو نهى، وليست الآيات ممّا يقبل التقييد أو النسخ.

وكذا أمثال قوله تعالى خطاباً للمؤمنين:( ليس بأمانيّكم ولا أمانّي أهل الكتاب من يعمل سوءً يجز به ) النساء: ١٢٣.

على أنّ لازم عدم تقييد الحكم في هذه الآية تقييد جميع الآيات الدالّة على الجزاء والمشتملة على الوعيد والتهديد، وهى آيات جمّة في تقييدها اختلال نظام الوعد والوعيد وإلغاء معظم الأحكام والشرائع، وبطلان الحكمة، ولا فرق في ذلك بين أن نقول بكون( من ) تبعيضيّة والفضل لبعض المهاجرين والأنصار أو بيانيّة والفضل للجميع والرضى الإلهىّ للكلّ، وهو ظاهر.

وقوله تعالى:( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) الرضى منّا موافقة النفس لفعل من الأفعال من غير تضادّ وتدافع يقال: رضى بكذا أي وافقه ولم يمتنع منه، ويتحقّق بعدم كراهته إيّاه سواء أحبّه أو لم يحبّه ولم يكرهه فرضى العبد عن الله هو أن لا يكره بعض ما يريده الله ولا يحبّ بعض ما يبغضه ولا يتحقّق إلّا إذا رضى بقضائه تعالى وما يظهر من أفعاله التكوينيّـة، وكذا بحكمه وما أراده منه تشريعاً، وبعبارة اُخرى إذا سلّم له في التكوين والتشريع وهو الإسلام والتسليم لله سبحانه.

وهذا بعينه شاهد آخر على ما تقدّم أنّ الحكم في الآية مقيّد بالإيمان والعمل الصالح بمعنى أنّ الله سبحانه إنّما يمدح من المهاجرين والأنصار والتابعين من آمن به

٣٩٦

وعمل صالحاً، ويخبر عن رضاه عنه وإعداده له جنّات تجرى تحتها الأنهار.

وليس مدلول الآية أنّ من صدق عليه أنّه مهاجر أو أنصاريّ أو تابع فإنّ الله قد رضى عنه رضاً لا سخط بعده أبداً وأوجب في حقّه المغفرة والجنّـة سواء أحسن بعد ذلك أو أساء، اتّقى أو فسق.

وأمّا رضاه تعالى فإنّما هو من أوصافه الفعليّـة دون الذاتيّة فإنّه تعالى لا يوصف لذاته بما يصير معه معرضاً للتغيير والتبدّل كأن يعرضه حال السخط إذا عصاه ثمّ الرضى إذا تاب إليه، وإنّما يرضى ويسخط بمعنى أنّه يعامل عبده معاملة الراضي من إنزال الرحمة وإيتاء النعمة أو معاملة الساخط من منع الرحمة وتسليط النقمة والعقوبة.

ولذلك كان من الممكن أن يحدث له الرضى ثمّ يتبدّل إلى السخط أو بالعكس غير أنّ الظاهر من سياق الآية أنّ المراد بالرضى هو الرضى الّذى لا سخط بعده فإنّه حكم محمول على طبيعة أخيار الاُمّة من سابقيهم وتابعيهم في الإيمان والعمل الصالح، وهذا أمر لا مداخلة للزمان فيه حتّى يصحّ فرض سخط بعد رضى وهو بخلاف قوله تعالى:( لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ) الآية الفتح: ١٨ فإنّه رضى مقيّد بزمان خاصّ يصلح لنفسه لأن يفرض بعده سخط.

قوله تعالى: ( وممّن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة ) الآية حول الشئ ما يجاوره من المكان من أطرافه وهو ظرف، والمرد العتوّ والخروج عن الطاعة، والممارسة والتمرين على الشرّ وهو المعنى المناسب لقوله في الآية:( مردوا على النفاق ) أي مرّنوا عليه ومارسوا حتّى اعتادوه.

ومعنى الآية: وممّن في حولكم أو حول المدينة من الأعراب الساكنين في البوادى منافقون مرّنوا على النفاق ومن أهل المدينة أيضاً منافقون معتادون على النفاق لا تعلمهم أنت يا محمّـد نحن نعلمهم سنعذّبهم مرّتين ثمّ يردّون إلى عذاب عظيم.

وقد اختلفت كلماتهم في المراد من تعذيبهم مرّتين. ما هما المرّتان؟ فقيل: يعنى مرّة في الدنيا بالسبي والقتل ونحوهما ومرّة بعذاب القبر، وقيل: في الدنيا بأخذ الزكاة وفي الآخرة بعذاب القبر، وقيل بالجوع مرّتين وقيل مرّة عند الاحتضار ومرّة في القبر،

٣٩٧

وقيل: بإقامة الحدود وعذاب القبر، وقيل: مرّة بالفضيحة في الدنيا ومرّة بالعذاب في القبر، وقيل غير ذلك، ولا دليل على شئ من هذه الأقوال، وإن كان ولا بدّ فأوّلها أولاها.

قوله تعالى: ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً ) الآية، أي ومن الأعراب جماعة آخرون مذنبون لا ينافقون مثل غيرهم بل اعترفوا بذنوبهم لهم عمل صالح وعمل آخر سيّئ خلطوا هذا بذلك من المرجوّ أن يتوب الله عليهم إنّ الله غفور رحيم.

وفي قوله:( عسى الله أن يتوب عليهم ) إيجاد الرجاء في نفوسهم لتكون نفوسهم واقعة بين الخوف والرجاء من غير أن يحيط بها اليأس والقنوط، وفي قوله:( إنّ الله غفور رحيم ) ترجيح جانب الرجاء.

قوله تعالى: ( خذ من أموالهم صدقة تطهّرهم وتزكّيهم بها وصلّ عليهم إنّ صلاتك سكن لهم والله سميع عليم ) التطهير إزالة الأوساخ والقذارات من الشئ ليصفى وجوده ويستعدّ للنشوء والنماء وظهور آثاره وبركاته، والتزكية إنماؤه وإعطاء الرشد له بلحوق الخيرات وظهور البركات كالشجرة بقطع الزوائد من فروعها فتزيد في حسن نموّها وجودة ثمرتها فالجمع بين التطهير والتزكية في الآية من لطيف التعبير.

فقوله:( خذ من أموالهم صدقة ) أمر للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأخذ الصدقة من أموال الناس ولم يقل: من مالهم ليكون إشارة إلى أنّها مأخوذة من أصناف المال، وهى النقدان: الذهب والفضّة، والأنعام الثلاثة: الإبل والبقر والغنم، والغلّات الأربع: الحنطة والشعير والتمر والزبيب.

وقوله:( تطهّرهم وتزكّيهم بها ) خطاب للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليس وصفاً لحال الصدقة، والدليل عليه ضمير بها الراجع إلى الصدقة أي خذ يا محمّـد من أصناف أموالهم صدقة تطهّرهم أنت وتزكّيهم بتلك الصدقة أي أخذها.

وقوله:( وصلّ عليهم ) الصلاة عليهم هي الدعاء لهم والسياق يفيد أنّه دعاء لهم ولأموالهم بالخير والبركة وهو المحفوظ من سنّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان يدعو لمعطى الزكاة ولماله بالخير والبركة.

٣٩٨

وقوله:( إنّ صلاتك سكن لهم ) السكن ما يسكن إليه الشئ والمراد به أنّ نفوسهم تسكن إلى دعائك وتثق به وهو نوع شكر لسعيهم في الله كما أنّ قوله تعالى في ذيل الآية:( والله سميع عليم ) سكن يسكن إليه نفوس المكلّفين ممّن يسمع الآية أو يتلوها.

والآية تتضمّن حكم الزكاة الماليّـة الّتى هي من أركان الشريعة والملّة على ما هو ظاهر الآية في نفسها، وقد فسّرتها بذلك اخبار متكاثرة من طرق أئمّـة أهل البيتعليهم‌السلام وغيرهم.

قوله تعالى: ( ألم يعلموا أنّ الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأنّ الله هو التوّاب الرحيم ) استفهام إنكارىّ بداعي تشويق الناس إلى إيتاء الزكاة وذلك أنّهم إنّما يؤتون الصدقة لله وإنّما يسلّمونها إلى الرسول أو إلى عامله وجابيه بما أنّه مأمور من قبل الله في أخذها فإيتاؤه إيتاء لله، وأخذه أخذ من الله فالله سبحانه هو الآخذ لها بالحقيقة، وقد قال تعالى في أمثاله:( إنّ الّذين يبايعونك إنّما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم ) الفتح: ١٠ وقال:( وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى ) الأنفال: ١٧ وقال قولاً عاماً:( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) النساء: ٨٠.

فإذا ذكر الناس بمثل قوله:( ألم يعلموا أنّ الله ) الآية، انبعثت رغباتهم واشتاقوا أن يعاملوا ربّهم فيصافحوه ويمسّوا بأيديهم يده تنزّه عن عوأرض الأجسام وتعالى عن ملابسة الحدثان.

ومقارنته الصدقة بالتوبة لما أنّ التوبة تطهّر وإيتاء الصدقة تطهّر فالتصدّق بصدقة توبة ماليّـة كما أنّ التوبة بمنزلة الصدقة في الأعمال والحركات، ولذلك عطف على صدر الآية قوله ذيلاً:( وأنّ الله هو التوّاب الرحيم ) فذكّر عباده باسميه التوّاب والرحيم، وجمع فيهما التوبه والتصدّق.

وقد بان من الآية أنّ التصدّق وإيتاء الزكاة نوع من التوبة.

قوله تعالى: ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) الآية، الآية على ظاهر اتّصالها بما قبلها كأنّها تخاطب المؤمنين وتسوقهم وتحرّضهم إلى إيتاء الصدقات.

٣٩٩

غير أنّ لفظها مطلق لا دليل على تخصيص خطابها بالمتصدّقين من المؤمنين ولا بعامة المؤمنين بل هي تشمل كلّ ذى عمل من الناس من الكفّـار والمنافقين والمؤمنين ولا أقلّ من شمولها للمنافقين والمؤمنين جميعاً.

إلّا أنّ نظير الآية الّذى مرّ أعنى قوله في سياق الكلام على المنافقين:( وسيرى الله عملكم ورسوله ثمّ تردّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبّؤكم بما كنتم تعملون ) التوبة: ٩٤ حيث ذكر الله ورسوله في رؤية عملهم ولم يذكر المؤمنين لا يخلو من إيماء إلى أنّ الخطاب في الآية الّتى نحن فيها للمؤمنين خاصّـة فإنّ ضمّ إحدى الآيتين إلى الاُخرى يخطر بالبال أنّ حقيقة أعمال المنافقين أعنى مقاصدهم من أعمالهم لمّا كانت خفيّة على ملإ الناس فإنّما يعلم بها الله ورسوله بوحى من الله تعالى، وأمّا المؤمنون فحقائق أعمالهم أعنى مقاصدهم منها وآثارها وفوائدها الّتى تتفرّع عليها وهى شيوع التقوى وإصلاح شؤون المجتمع الإسلاميّ وإمداد الفقراء في معايشهم وزكاة الأموال ونماؤها يعلمها الله تعالى ورسوله ويشاهدها المؤمنون فيما بينهم.

لكن ظهور الأعمال بحقائق آثارها وعامّة فوائدها أو مضرّاتها في محيط كينونتها وتبدّلها بأمثالها وتصوّرها في أطوارها زماناً بعد زمان وعصراً بعد عصر ممّا لا يختصّ بعمل قوم دون عمل قوم، ولا مشاهدتها والتأثّر بها بقوم دون قوم.

فلو كان المراد من رؤية المؤمنين أعمالاً لعاملين ظهور آثارها ونتائجها وبعبارة اُخرى ظهور أنفسها في ألبسة نتائجها لهم لم يختصّ المشاهدة بقوم دون قوم ولا بعمل قوم دون عمل قوم فما بال الأعمال يراها المؤمنون ولا يراها المنافقون وهم أهل مجتمع واحد؟ وما بال أعمال المنافقين لا يشاهدها المؤمنون وقد كونت في مجتمعهم وداخلت أعمالهم؟

وهذا مع ما في الآية من خصوص السياق ممّا يقرّب الذهن أن يفهم من الآية معنى آخر فإنّ قوله:( وثمّ تردّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبّؤكم بما كنتم تعملون ) يدلّ أوّلاً على أنّ قوله:( فسيرى الله عملكم ) الآية ناظر إلى ما قبل البعث وهى الدنيا لمكان قوله:( وثمّ تردّون ) فإنّه يشير إلى يوم البعث وما قبله هو الدنيا.

وثانياً: أنّهم إنّما يوقفون على حقيقة أعمالهم يوم البعث وأمّا قبل ذلك فإنّما

٤٠٠

يرون ظاهرها، وقد نبّهنا على هذا المعنى كراراً في أبحاثنا السابقة، وإذ قصر علمهم بحقائق أعمالهم على إنبائه تعالى إيّاهم بها يوم القيامة وذكر رؤية الله ورسوله والمؤمنين أعمالهم قبل يوم البعث في الدنيا وقد ذكر الله مع رسوله وغيره وهو عالم بحقائقها وله أن يوحى إلى نبيّه بها كان المراد بها مشاهدة الله سبحانه ورسوله والمؤمنون حقيقة أعمالهم، وكان المراد بالمؤمنين شهداء الأعمال منهم لا عامّة المؤمنين كما يدلّ عليه أمثال قوله تعالى( وكذلك جعلناكم اُمّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ) البقرة: ١٤٣ وقد مرّ الكلام فيه في الجزء الأوّل من الكتاب.

وعلى هذا فمعنى الآية: وقل يا محمّـد اعملوا ما شئتم من عمل خيراً أو شرّاً فسيشاهد الله سبحانه حقيقة عملكم ويشاهدها رسوله والمؤمنون - وهم شهداء الأعمال - ثمّ تردّون إلى الله عالم الغيب والشهادة يوم القيامة فيريكم حقيقة عملكم.

وبعبارة اُخرى: ما عملتم من عمل خير أو شرّ فإنّ حقيقته مرئيّة مشهودة لله عالم الغيب والشهادة ثمّ لرسوله والمؤمنين في الدنيا ثمّ لكم أنفسكم معاشر العاملين يوم القيامة.

فالآية مسوقة لندب الناس إلى مراقبة أعمالهم بتذكيرهم أنّ لأعمالهم من خير أو شرّ حقائق غير مستورة بستر، وأنّ لها رقباء شهداء سيطّلعون عليها ويرون حقائقها وهم رسول الله وشهداء الأعمال من المؤمنين والله من ورائهم محيط فهو تعالى يراها وهم يرونها، ثمّ إنّ الله سبحانه سيكشف عنها الغطاء يوم القيامة للعاملين أنفسهم كما قال:( لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ) ق: ٢٢ ففرق عظيم بين أن يأتي الإنسان بعمل في الخلوة لا يطّلع عليه أحد، وبين أن يعمل ذلك العمل بعينه بين ملإ من الناظرين جلوه وهو يرى أنّه كذلك.

هذا في الآية الّتى نحن فيها، وأمّا الآية السابقة:( يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا قد نبّأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثمّ تردّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبّؤكم بما كنتم تعملون ) فإنّ وجه الكلام فيها إلى أشخاص من المنافقين بأعيانهم يأمر الله فيها نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يردّ إليهم اعتذارهم، ويذكر لهم أوّلاً أنّ

٤٠١

الله قد نبّأهم أي النبيّ والّذين معه من المؤمنين في جيش الإسلام أخبارهم بنزول هذه الآيات الّتى تقصّ أخبار المنافقين وتكشف عن مساوى أعمالهم.

ثمّ يذكر لهم أنّ حقيقة أعمالهم غير مستورة عن الله سبحانه ولا خفيّة عليه وكذلك رسوله وحده ولم يكن معه أحد من شهداء الأعمال ثمّ الله يكشف لهم أنفسهم عن حقيقة أعمالهم يوم القيامة.

فهذا هو الفرق بين الآيتين مع اتّحادهما في ظاهر السياق حيث ذكر في الآية الّتى نحن فيها: الله ورسوله والمؤمنون، وفي الآية السابقة: الله ورسوله، واقتصر على ذلك. فهذا ما يعطيه التدبّر في معنى الآية ومن لم يقنع بذلك ولم يرض دون أن يصوّر للآية معنى ظاهريّاً فليقل إنّ ذكره تعالى( الله ورسوله ) في خطاب المنافقين إنّما هو لأجل أنّهم إنّما يريدون أن يكيدوا الله ورسوله ولا همّ لهم في المؤمنون، وأمّا ذكره تعالى:( الله ورسوله والمؤمنين ) في الخطاب العامّ فإنّما الغرض فيه تحريضهم على العمل الصالح في مشهد من الملإ الصالح ولم يعبأ بحال غيرهم من الكفّـار والمنافقين. فتدبّر.

قوله تعالى: ( وآخرون مرجون لأمر الله إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم والله عليم حكيم ) الإرجاء التأخير والآية معطوفة على قوله:( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) ومعنى إرجائهم إلى أمر الله أنّهم لا سبب عندهم يرجّح لهم جانب العذاب أو جانب المغفرة فأمرهم يؤول إلى أمر الله ما شاء وأراد فيهم فهو النافذ في حقّهم.

و هذه الآية تنطبق بحسب نفسها على المستضعفين الّذين هم كالبرزخ بين المحسنين و المسيئين، وإن ورد في أسباب النزول أنّ الآية نازلة في الثلاثة الّذين خلّفوا ثمّ تابوا فأنزل الله توبتهم على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيجئ إن شاء الله تعالى.

وكيف كان فالآية تخفى ما يؤول إليه عاقبه أمرهم وتبقيها على إبهامها حتّى فيما ذيّلت به من الاسمين الكريمين: العليم والحكيم الدالّين على أنّ الله سبحانه يحكم فيهم بما يقتضيه علمه وحكمته، وهذا بخلاف ما ذيّل قوله:( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) حيث قال:( عسى الله أن يتوب عليهم ان الله غفور رحيم ) .

٤٠٢

( بحث روائي)

في تفسير العيّـاشيّ عن داود بن الحصين عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله:( ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخرو يتّخذ ما ينفق قربات عند الله ) أيثيبهم عليه؟ قال: نعم.

وفيه عن أبى عمرو الزبيريّ عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ الله سبّق بين المؤمنين كما سبّق بين الخيل يوم الرهان.

قلت: أخبرني عمّا ندب الله المؤمن من الإسباق إلى الإيمان. قال: قول الله تعالى( سابقوا إلى مغفرة من ربّكم وجنّـة عرضها كعرض السماء والأرض اُعدّت للّذين آمنوا بالله ورسله ) وقال:( السابقون السابقون اُولئك المقرّبون ) .

وقال:( والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصارو الّذين اتّبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ) فبدأ بالمهاجرين الأوّلين على درجة سبقهم ثمّ ثنّى بالأنصار ثمّ ثلّث بالتابعين وأمر [هم] بإحسان فوضع كلّ قوم على قدر درجاتهم ومنازلهم عنده.

وفي تفسير البرهان عن مالك بن أنس عن أبى صالح عن ابن عبّـاس قال:( والسابقون الأوّلون ) نزلت في أميرالمؤمنينعليه‌السلام وهو أسبق الناس كلّهم بالإيمان وصلّى على القبلتين، وبايع البيعتين بيعة بدر وبيعة الرضوان، وهاجر الهجرتين مع جعفر من مكّة إلى الحبشة ومن الحبشة إلى المدينة.

أقول: وفي معناها روايات اُخر.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن مردويه من طريق الأوزاعيّ حدّثنى يحيى بن كثير والقاسم ومكحول وعبدة بن أبى لبابة وحسّان بن عطيّـة أنّهم سمعوا جماعة من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقولون: لمّا اُنزلت هذه الآية:( والسابقون الأوّلون - إلى قوله -ورضوا عنه ) قال رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلّم): هذا لاُمّتي كلّهم، وليس بعد الرضا سخط.

أقول: معناه أنّ من رضي الله عنهم ورضوا عنه هم الّذين جمعتهم الآية لا أنّ الآية

٤٠٣

تدلّ على رضاه تعالى عن الاُمّة كلّهم فهذا ممّا يدفعه الكتاب بالمخالفة القطعيّـة، وكذا قوله:( وليس بعد الرضا سخط ) مراده ليس بعد الرضا المذكور في الآية سخط، وقد قرّرناه فيما تقدّم لا أنّه ليس بعد مطلق رضى الله سخط فهو ممّا لا يستقيم البتّـة.

وفيه أخرج أبوالشيخ وابن عساكر عن أبى صخر حميد بن زياد قال: قلت لمحمّـد بن كعب القرظىّ: أخبرني عن أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنّما اُريد الفتن. فقال: إنّ الله قد غفر لجميع أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوجب لهم الجنّـة في كتابه محسنهم ومسيئهم. قلت: وفي أيّ موضع أوجب الله لهم الجنّـة في كتابه؟ قال: ألا تقرأ:( والسابقون الأوّلون ) الآية أوجب لجميع أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الجنّـة والرضوان، وشرط على التابعين شرطاً لم يشترطه فيهم.

قلت: وما اشترط عليهم؟ قال: اشترط عليهم أن يتّبعوهم بإحسان يقول: يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة، ولا يقتدون بهم في غير ذلك. قال أبو صخر: فوالله لكأنّى لم أقرأها قبل ذلك، وما عرفت تفسيرها حتّى قرأها على محمّـد بن كعب.

أقول: هو - كما ترى - يسلّم أنّ في أعمالهم حسنة وسيّـئة وطاعة وفسقاً غير أنّ الله رضى عنهم في جميع ذلك وغفرها لهم فلا يجازيهم بالسيّـئة سيّـئة، وهو الّذى ذكرنا في البيان المتقدّم أنّ مقتضاه تكذيب آيات كثيرة قرآنيّـة تدلّ على أنّ الله لا يرضى عن القوم الفاسقين والظالمين وأنّه لا يحبّهم ولا يهديهم، وتقيد آيات أكثر من ذلك وهى أكثر الآيات القرآنيّـة الدالّة على عموم جزاء الحسنة بالحسنة والسيّـئة بالسيّـئة من غير مقيّد وعليها تعتمد آيات الأمر والنهى وهى آيات الأحكام بجملتها.

ولو كان مدلول الآية هذا الّذى ذكره لكانت الصحابة على عربيّتهم المحضة واتّصالهم بزمان النبوّة ونزول الوحى أحقّ أن يفهموا من الآية ذلك، ولو كانوا فهموا منها ذلك لما عامل بعضهم بعضاً بما ضبطه النقل الصحيح.

وكيف يمكن أن يتحقّق كلّهم بمضمون قوله:( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) ويفهموا ذلك منه ثمّ لا يرضى بعضهم عن بعض وقد رضي الله عنه، والراضي عن الله راض عمّا رضي الله عنه، ولا يندفع هذا الاشكال بحديث اجتهادهم فإنّ ذلك لو سلّم يكون عذراً

٤٠٤

في مقام العمل لا مصحّحاً للجمع بين صفتين متضادّتين وجداناً وهما الرضا عن الله وعدم الرضا عمّا رضي الله عنه والكلام طويل.

وفيه أخرج أبوعبيد وسنيد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن حبيب الشهيد عن عمرو بن عامر الأنصاريّ أنّ عمر بن الخطّاب قرء( والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوهم بإحسان ) فرفع الأنصار ولم يلحق الواو في الّذين فقال له زيد بن ثابت: والّذين فقال عمر: الّذين فقال زيد: أميرالمؤمنين أعلم فقال عمر: ائتونى باُبىّ بن كعب فأتاه فسأله عن ذلك فقال اُبىّ: والّذين فقال عمر: فنعم إذن نتابع اُبيّاً.

أقول: ومقتضى قراءة عمر اختصاص المهاجرين بما يتضمّنه قوله:( والسابقون الأوّلون ) من المنقبة ومنقبة اُخرى وهى كونهم متبوعين للأنصار كما يشير إليه الحديث الآتى.

وفيه أخرج ابن جرير وأبوالشيخ عن محمّـد بن كعب القرظىّ قال: مرّ عمر برجل يقرء( والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار ) فأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا؟ قال: اُبىّ بن كعب. قال: لا تفارقني حتّى أذهب بك إليه فلمّا جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال: نعم قال: وسمعتها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال: نعم. قال: كنت أرى أنّا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا.

فقال اُبىّ: تصديق ذلك في أوّل سورة الجمعة:( وآخرين منهم لمّا يلحقوا بهم ) وفي سورة الحشر:( والّذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الّذين سبقونا بالإيمان ) وفي الأنفال:( والّذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فاُولئك منكم ) .

وفي الكافي بإسناده عن موسى بن بكر عن رجل قال: قال أبو جعفرعليه‌السلام :( الّذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً ) فاُولئك قوم مؤمنون يحدثون في إيمانهم من الذنوب الّتى يعيبها المؤمنون ويكرهونها فاُولئك عسى الله أن يتوب عليهم.

أقول: ورواه العيّـاشيّ عن زرارة عنهعليه‌السلام إلّا أنّ فيه( مذنبون ) مكان( مؤمنون ) .

٤٠٥

وفي المجمع في قوله تعالى:( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) الآية قال: أبوحمزة الثمالىّ: بلغنا أنّهم ثلاثة نفر من الأنصار: أبو كنانة بن عبد المنذر وثعلبة بن وديعة وأوس بن حذام تخلّفوا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند مخرجه إلى تبوك فلمّا بلغهم ما أنزل الله فيمن تخلّف عن نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيقنوا بالهلاك وأوثقوا أنفسهم بسوارى المسجد فلم يزالوا كذلك حتّى قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأل عنهم فذكر له أنّهم أقسموا أن لا يحلّون أنفسهم حتّى يكون رسول الله يحلّهم، وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وأنا اُقسم لا أكون أوّل من حلّهم إلّا أن اُومر فيهم بأمر.

فلمّا نزل:( عسى الله أن يتوب عليهم ) عمد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم فحلّهم فأنطلقوا فجاؤوا بأموالهم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: هذه أموالنا الّتى خلّفتنا عنك فخذها وتصدّق بها عنّا. قال: ما اُمرت فيها، فنزل:( خذ من أموالهم صدقة ) الآيات.

أقول: وفي هذا المعنى روايات اُخرى رواها في الدرّ المنثور بينها اختلاف في أسامي الرجال، وفيها نزول آية الصدقة في خصوص أموالهم، ويضعّفها تظافر الروايات في نزول الآية في الزكاة الواجبة.

وفيه: وروى عن أبى جعفر الباقرعليه‌السلام أنّها نزلت في أبى لبابة ولم يذكر غيره معه وسبب نزولها فيه ما جرى منه في بنى قريظة حين قال: إن نزلتم على حكمه فهو الذبح.

وفي الكافي بإسناده عن عبدالله بن سنان قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : لمّا نزلت هذه الآية:( خذ من أموالهم صدقة تطهّرهم وتزكّيهم بها ) واُنزلت في شهر رمضان فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مناديه فنادى في الناس: إنّ الله فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة ففرض الله عزّوجلّ عليهم من الذهب والفضّة وفرض الصدقة من الإبل والبقر والغنم، ومن الحنطة والشعير والتمر والزبيب فنادى بهم بذلك في شهر رمضان، وعفى لهم عمّا سوى ذلك.

قال: ثمّ لم يفرض لشئ من أموالهم حتّى حال عليه الحول من قابل فصاموا وأفطروا فأمر مناديه فنادى في المسلمين: أيّها المسلمون زكّوا أموالكم تقبل صلاتكم. قال: ثمّ

٤٠٦

وجّه عمّال الصدقة وعمّال الطسوق.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن أبى شيبة والبخاريّ ومسلم وأبو داود والنسائيّ وابن ماجه وابن المنذر وابن مردويه عن عبدالله بن اُبىّ أوفى قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا اُتى بصدقة قال: اللّهمّ صلّ على آل فلان فأتاه أبى بصدقته فقال: اللّهمّ صلّ على آل أبى أوفى.

وفي تفسير البرهان عن الصدوق بإسناده عن سليمان بن مهران عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قوله تعالى:( ويأخذ الصدقات ) قال: يقبلها من اهلها ويثيب عليها.

وفي تفسير العيّـاشيّ عن مالك بن عطيّـة عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: قال علىّ بن الحسينعليه‌السلام : ضمنت على ربّى أنّ الصدقة لا تقع في يد العبد حتّى تقع في يد الربّ، وهو قوله:( هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ) .

اقول: وفي معناه روايات اُخرى مرويّـة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلىّ وأبى جعفر وأبى عبداللهعليهم‌السلام .

وفي بصائر الدرجات بإسناده عن محمّـد بن مسلم عن أبى جعفرعليه‌السلام قال: سألت عن الأعمال هل تعرض على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال: ما فيه شكّ. قال: أرأيت قول الله( اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) فقال: لله شهداء في خلقه.

أقول: وفي معناه روايات متظافرة متكاثرة مرويّـة في جوامع الشيعة عن أئمّـة أهل البيتعليهم‌السلام ، وفي أكثرها: أنّ( المؤمنون ) في الآية هم الأئمّة، وانطباقها على ما قدّمناه من التفسير ظاهر.

وفي الكافي بإسناده عن زرارة عن أبى جعفرعليه‌السلام في قول الله( وآخرون مرجون لأمر الله ) قال: قوم كانوا مشركين فقتلوا مثل حمزة وجعفراً و أشباههما من المسلمين ثمّ إنّهم دخلوا في الإسلام فوحّدوا الله وتركوا الشرك، ولم يعرفوا الإيمان بقلوبهم فيكونوا من المؤمنين فيجب لهم الجنّـة، ولم يكونوا على جحودهم فيكفروا فيجب لهم النار فهم على تلك الحال مرجون لأمر الله إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم.

٤٠٧

أقول: ورواه العيّـاشيّ في تفسيره عن زرارة عنهعليه‌السلام وفي معناه روايات اُخر.

وفي تفسير العيّـاشيّ عن حمران قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن المستضعفين قال: هم ليسوا بالمؤمنين ولا بالكفّـار فهم المرجون لأمر الله.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله:( وآخرون مرجون لأمر الله ) قال: هم الثلاثة الّذين خلّفوا.

أقول: وروى مثله عن مجاهد وقتادة وأنّ أسماءهم هلال بن اُميّة، ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك من الأوس والخزرج، ولا تنطبق قصّتهم على هذه الآية وسيجى، إن شاء الله تعالى.

( كلام في الزكاة وسائر الصدقة)

الابحاث الاجتماعيّـة والاقتصاديّة وسائر الأبحاث المرتبطة بها جعلت اليوم حاجة المجتمع من حيث أنّه مجتمع إلى مال يختصّ به ويصرف لرفع حوائجه العامّة في صفّ البديهيّات الّتى لا يشكّ فيها شاكّ ولا يداخلها ريب فكثير من المسائل الاجتماعيّـة والاقتصاديّة - ومنها هذه المسألة - كانت في الأعصار السالفة ممّا يغفل عنها عامّة الناس ولا يشعرون بها إلّا شعوراً فطريّاً إجماليّاً وهى اليوم من الأبجديّات الّتى يعرفها العامّة والخاصّـة.

غير أنّ الإسلام بحسب ما بيّن من نفسيّـة الإجتماع وهويّته وشرع من الأحكام الماليّـة الراجعة إليها، والأنظمة والقوانين الّتى رتّبها في أطرافها ومتونها له اليد العليا في ذلك.

فقد بيّن القرآن الكريم أنّ الاجتماع يصيغ من عناصر الأفراد المجتمعين صيغة جديدة فيكوّن منهم هويّة جديدة حيّة هي المجتمع، وله من الوجود والعمر والحياة والموت والشعور والإرادة والضعف و القوّة والتكليف والإحسان والإساءة والسعادة والشقاوة أمثال أو نظائر ما للإنسان الفرد وقد نزلت في بيان ذلك كلّه آيات كثيرة قرآنيّـة كرّرنا الإشارة إليها في خلال الأبحاث السابقة.

٤٠٨

وقد عزلت الشريعة الإسلاميّـة سهماً من منافع الأموال وفوائدها للمجتمع كالصدقة الواجبة الّتى هي الزكاة وكالخمس من الغنيمة ونحوها، ولم يأت في ذلك ببدع فإنّ القوانين والشرائع السابقة عليها كشريعة حمورابي وقوانين الروم القديم يوجد فيها أشياء من ذلك بل سائر السنن القوميّـة في أيّ عصر، وبين أيّة طائفة دارت لا يخلو عن اعتبار جهة ماليّـة لمجتمعها فالمجتمع كيفما كان يحسّ بالحاجة الماليّـة في سبيل قيامه ورشده.

غير أنّ الشريعة الإسلاميّـة تمتاز في ذلك من سائر السنن والشرائع باُمور يجب إمعان النظر فيها للحصول على غرضها الحقيقيّ ونظرها المصيب في تشريعها وهى:

أولا: أنّها اقتصرت في وضع هذا النوع من الجهات الماليّـة على كينونة الملك وحدوثه موجوداً ولم يتعدّ ذلك، وبعبارة اُخرى إذا حدثت ماليّـة في ظرف من الظروف كغلّة حاصلة عن زراعة أو ربح عائد من تجارة أو نحو ذلك بادرت فوضعت سهماً منها ملكاً للمجتمع وبقيّة السهام ملكاً لمن له رأس المال أو العمل مثلاً، وليس عليه إلّا أن يردّ مال المجتمع وهو السهم إليه.

بل ربّما كان المستفاد من أمثال قوله تعالى:( خلق لكم ما في الأرض جميعاً ) البقرة: ٢٩ وقوله:( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم الّتى جعل الله لكم قياماً ) النساء: ٥ أنّ الثروة الحادثة عند حدوثها للمجتمع بأجمعها ثمّ اختصّ سهم منها للفرد الّذى نسمّيه المالك أو العامل، وبقى سهم أعني سهم الزكاة أو سهم الخمس في ملك المجتمع كما كان فلمالك الفرد مالك في طول مالك وهو المجتمع، وقد تقدّم بعض البحث عن ذلك في تفسير الآيتين.

و بالجملة فالّذي وضعته الشريعة من الحقوق الماليّـة كالزكاة والخمس مثلاً إنّما وضعته في الثروة الحادثة عند حدوثها فشرّكت المجتمع مع الفرد من رأس ثمّ الفرد في حريّة من ماله المختصّ به يضعه حيث يشاء من أغراضه المشروعة من غير أن يعترضه في ذلك معترض إلّا أن يدهم المجتمع من المخاطر العامّة ما يجب معه صرف شئ من رؤوس الأموال في سبيل حفظ حياته كعدوّ هاجم يريد أن يهلك الحرث والنسل، والمخمصة

٤٠٩

العامّة الّتى لا تبقى ولا تذر.

وأمّا الوجوه الماليّـة المتعلّقة بالنفوس أو الضياع والعقار أو الأموال التجاريّة عند حصول شرائط أو في أحوال خاصّـة كالعشر المأخوذ في الثغور ونحو ذلك فإنّ الإسلام لا يرى ذلك بل يعدّه نوعاً من الغصب وظلماً يوجب تحديداً في حريّة المالك في ملكه.

ففى الحقيقة لا يأخذ المجتمع من الفرد إلّا مال نفسه الّذى يتعلّق بالغنيمة والفائدة عند أوّل حدوثه ويشارك الفرد في ملكه على نحو يبيّنه الفقه الإسلاميّ مشروحاً، وأمّا إذا انعقد الملك واستقرّ لمالكه فلا اعتراض لمعترض على مالك في حال أو عند شرط، يوجب قصور يده وزوال حرّيتّه.

وثانياً: أنّ الإسلام يعتبر حال الأفراد في الأموال الخاصّـة بالمجتمع كما يعتبر حال المجتمع بل الغلبة في ما يظهر من نظره لحالهم على حاله فإنّه يجعل السهام في الزكاة ثمانية لا يختصّ بسبيل الله منها إلّا سهم واحد وباقى السهام للأفراد كالفقراء والمساكين والعاملين والمؤلّفة قلوبهم وغيرهم، وفي الخمس ستّة لم يجعل لله سبحانه إلّا سهم واحد والباقى للرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.

وذلك أنّ الفرد هو العنصر الوحيد لتكوّن المجتمع، ورفع اختلاف الطبقات الّذى هو من اُصول برنامج الإسلام، وإلقاء التعادل والتوازن بين قوى المجتمع المختلفة وتثبيت الاعتدال في مسيره بأركانه وأجزائه لا يتمّ إلّا بإصلاح حال الأجزاء أعني الأفراد وتقريب أحوالهم بعضهم من بعض.

وأمّا قصر مال المجتمع في صرفه في إيجاد الشوكة العامّة والتزيينات المشتركة ورفع القصور المشيدة العالية والأبنية الرفيعة الفآخرة وتخلية القوىّ والضعيف أو الغنىّ والفقير على حالهما لا يزيدان كلّ يوم إلّا ابتعاداً فلتدلّ التجربة الطويلة القطعيّـة أنّه لا يدفع غائلاً ولا يغنى طائلاً.

وثالثاً: أنّ للفرد من المسلمين أن يصرف ما عليه من الحقّ المالىّ الواجب كالزكاة مثلاً في بعض أرباب السهام كالفقير والمسكين من دون أن يؤدّيه إلى ولىّ الأمر أو

٤١٠

عامله في الجملة فيردّه هو إلى مستحقّيه.

وهذا نوع من الاحترام الاستقلاليّ الّذى اعتبره الإسلام لأفراد مجتمعه نظير إعطاء الذمّة الّذى لكلّ فرد من المسلمين أن يقوم به لمن شاء من الكفّـار المحاربين وليس للمسلمين ولا لولىّ أمرهم أن ينقض ذلك.

نعم لولىّ الأمر إذا رأى في مورد أنّ مصلحة الإسلام والمسلمين في خلاف ذلك أن ينهى عن ذلك فيجب الكفّ عنه لوجوب طاعته.

٤١١

( سورة التوبة آيه ١٠٧ - ١١٠)  

وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى‏ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ١٠٧ ) لاَتَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التّقْوَى‏ مِنْ أَوّلِ يَوْمٍ أَحَقّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبّونَ أَن يَتَطَهّرُوا وَاللّهُ يُحِبّ الْمُطّهّرِينَ ( ١٠٨ ) أَفَمَنْ أَسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى‏ تَقْوَى‏ مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَنْ أَسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى‏ شَفا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنّمَ وَاللّهُ لاَيَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ ( ١٠٩ ) لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلّا أَن تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١١٠ )

( بيان)

تذكر الآيات طائفة اُخرى من المنافقين بنوا مسجد الضرار وتقيس حالهم إلى حال جماعة من المؤمنين بنوا مسجداً لتقوى الله.

قوله تعالى: ( والّذين اتّخذوا مسجداً ضراراً وكفراً ) إلى آخر الآية، الضرار والمضارّة إيصال الضرر، والإرصاد اتّخاذ الرصد والانتظار والترقّب.

وقوله:( والّذين اتّخذوا مسجداً ضراراً ) إن كانت الآيات نازلة مع ما تقدّمها من الآيات النازلة في المنافقين فالعطف على من تقدّم ذكرهم من طوائف المنافقين المذكورين بقوله: ومنهم، ومنهم أي ومنهم الّذين اتّخذوا مسجداً ضراراً.

وإن كانت مستقلّة بالنزول فالوجه كون الواو استئنافيّة وقوله:( الّذين اتّخذوا ) مبتدءً خبره قوله:( لا تقم فيه أبداً ) ويمكن إجراء هذا الوجه على التقدير السابق أيضاً،

٤١٢

وقد ذكر المفسّرون في إعراب الآية وجوهاً اُخرى لا تخلو عن تكلّف تركناها.

وقد بيّن الله غرض هذه الطائفة من المنافقين في اتّخاذ هذا المسجد وهو الضرار بغيرهم والكفر والتفريق بين المؤمنين والإرصاد لمن حارب الله ورسوله، والأغراض المذكورة خاصّـة ترتبط إلى قصّة خاصّـة بعينها، وهى على ما اتّفق عليه أهل النقل أنّ جماعة من بنى عمرو بن عوف بنوا مسجد قُبا وسألوا النبيّ أن يصلّى فيه فصلّى فيه فحسدهم جماعة من بنى غنم بن عوف وهم منافقون فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قبا ليضرّوا به ويفرّقوا المؤمنين منه وينتظروا لأبي عامر الراهب الّذى وعدهم أن يأتيهم بجيش من الروم ليخرجوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المدينة، وأمرهم أن يستعدّوا للقتال معهم.

ولمّا بنوا المسجد أتوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يتجهّز إلى تبوك وسألوه أن يأتيه ويصلّى فيه ويدعو لهم بالبركة فوعدهم إلى الفراغ من أمر تبوك والرجوع إلى المدينة فنزلت الآيات.

فكان مسجدهم لمضارّة مسجد قبا، وللكفر بالله ورسوله، ولتفريق المؤمنين المجتمعين في قبا، ولإرصاد أبى عامر الراهب المحارب لله ورسوله من قبل، وقد أخبر الله سبحانه عنهم أنّهم ليحلفنّ إن أردنا من بناء هذا المسجد إلّا الفعلة الحسنى وهو التسهيل للمؤمنين بتكثير معابد يعبد فيها الله، وشهد تعالى بكذبهم بقوله:( وليحلفنّ إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنّهم لكاذبون ) .

قوله تعالى: ( لا تقم فيه أبداً ) إلى آخر الآية، بدء بنهي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أن يقوم فيه ثمّ ذكر مسجد قبا ورجّح القيام فيه بعد ما مدحه بقوله:( لمسجد اُسّس على التقوى من أوّل يوم أحقّ أن تقوم فيه ) فمدحه بحسن نيّة مؤسّسيه من أوّل يوم وبنى عليه رجحان القيام فيه على القيام في مسجد الضرار.

والجملة وإن لم تفد تعيّـن القيام في مسجد قبا حيث عبّر بقوله: أحقّ، غير أنّ سبق النهى عن القيام في مسجد الضرار يوجب ذلك، وقوله تعالى:( فيه رجال يحبّون أن يتطهّروا ) تعليل للرجحان السابق، وقوله:( والله يحبّ المطّهّرين ) متمّم للتعليل المذكور، وهذا هو الدليل على أنّ المراد بقوله:( لمسجد اُسّس ) الخ هو مسجد قبا لا

٤١٣

مسجد النبيّ أو غيره.

ومعنى الآية: لا تقم أي للصلاة في مسجد الضرار أبداً، اُقسم، لمسجد قُبا الّذى هو مسجد اُسّس على تقوى الله من أوّل يوم أحقّ وأحرى أن تقوم فيه للصلاة وذلك أنّ فيه رجالاً يحبّون التطهّر من الذنوب أو من الأرجاس والأحداث والله يحب المطّهّرين وعليك أن تقوم فيهم.

وقد ظهر بذلك أنّ قوله:( لمسجدٌ اُسّس ) الخ، بمنزلة التعليل لرجحان المسجد على المسجد وقوله:( فيه رجال ) الخ، لإفادة رجحان أهله على أهله، وقوله الآتى:( أفمن اُسّس بنيانه ) الخ، لبيان الرجحان الثاني.

قوله تعالى: ( أفمن أسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير ) إلى آخر الآية شفا البئر طرفه، وجرف الوادي جانبه الّذى انحفر بالماء أصله وهار الشئ يهار فهو هائر وربّما يقال: هارٍ بالقلب وانهار ينهار انهياراً أي سقط عن لين فقوله:( على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنّم ) استعارة تخييليّة شبّه فيها حالهم بحال من بنى بنياناً على نهاية شفير واد لا ثقة بثباتها وقوامها فتساقطت بما بنى عليه من البنيان وكان في أصله جهنّم فوقع في ناره، وهذا بخلاف من بنى بنيانه على تقوى من الله ورضوان منه أي جرى في حياته على اتّقاء عذاب الله وابتغاء رضاه.

وظاهر السياق أنّ قوله:( أفمن أسّس بنيانه على تقوى ) الخ، وقوله:( أم من أسّس بنيانه على شفا جرف ) الخ، مثلاًن يمثّل بهما بنيان حياة المؤمنين والمنافقين وهو الدين والطريق الّذى يجريان عليه فيها فدين المؤمن هو تقوى الله وابتغاء رضوانه عن يقين به، ودين المنافق مبنىّ على التزلزل والشكّ.

ولذلك أعقبه الله تعالى وزاد في بيانه بقوله:( لا يزال بنيانهم ) يعنى المنافقين( الّذى بنوا ريبة ) وشكّاً( في قلوبهم ) لا يتعدّى إلى مرحلة اليقين( إلّا أن تقطّع قلوبهم ) فتتلاشى الريبة بتلاشيها( والله عليم حكيم ) ولذلك يضع هؤلاء ويرفع اُولئك.

٤١٤

( بحث روائي)

في المجمع قال المفسّرون: إنّ بنى عمرو بن عوف اتّخذوا مسجد قبا، وبعثوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأتيهم فأتاهم وصلّى فيه فحسدهم جماعة من المنافقين من بنى غنم بن عوف فقالوا: نبنى مسجداً فنصلّى فيه ولا نحضر جماعة محمّـد، وكانوا اثنى عشر رجلاً، وقيل: خمسة عشر رجلاً، منهم: ثعلبة بن حاطب ومعتّب بن قشيرو نبتل ابن الحارث فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قبا.

فلمّا بنوه أتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يتجهّز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله إنّا قد بنينا مسجداً لذى العلّة والحاجة واللّيلة الممطرة واللّيلة الشاتية، وإنّا نحبّ أن تأتينا فتصلّى فيه لناو تدعو بالبركة فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّى على جناح سفرو لو قدمنا أتيناكم إن شاء الله فصلّينا لكم فيه، فلمّا انصرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تبوك نزلت عليه الآية في شأن لمسجد.

قال: فوجّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند قدومه من تبوك عاصم بن عوف العجلانيّ ومالك بن الدخشم وكان مالك من بنى عمرو بن عوف فقال لهما: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرّقاه، وروى أنّه بعث عمّار بن ياسر ووحشيّاً فحرّقاه، وأمر بأن يتّخذ كناسة يلقى فيها الجيف.

أقول: وفي رواية القمّىّ أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث لذلك مالك بن دخشم الخزاعىّ وعامر بن عدىّ أخا بنى عمرو بن عوف فجاء مالك وقال لعامر: انتظرني حتّى اُخرج ناراً من منزلي، فدخل وجاء بنار وأشعل في سعف النخل ثمّ أشعله في المسجد فتفرّقوا، وقعد زيد بن حارثة حتّى احترقت البنيّة ثمّ أمر بهدم حائطه.

والقصّة مرويّة بطرق كثيرة من طرق أهل السنّة، والروايات متقاربة إلّا أنّ في أسامي من بعثه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اختلافاً.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن المنذر وابن أبى حاتم عن ابن إسحاق قال: كان الّذين بنوا

٤١٥

مسجد الضرار اثنى عشر رجلاً: خذمّ بن خالد بن عبيد بن زيد، وثعلبة بن حاطب وهلال بن أميّة، ومعتّب بن قشير، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعبّاد بن حنيف، وجارية بن عامر وابناه مجمّع وزيد، ونبتل بن الحارث، وبخدج بن عثمان(١) ووديعة بن ثابت.

وفي المجمع في قوله:( وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله ) قال: هو أبو عامر الراهب، قال وكان من قصّته أنّه كان قد ترهّب في الجاهليّـة ولبس المسوح فلمّا قدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة حسده، وحزّب عليه الأحزاب ثمّ هرب بعد فتح مكّة إلى الطائف فلمّا أسلم أهل الطائف لحق بالشام، وخرج إلى الروم وتنصّر وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة الّذى قتل مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم اُحد و كان جنباً فغسلته الملائكة.

وسمّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا عامر الفاسق، وكان قد أرسل إلى المنافق أن استعدّوا وابنوا مسجداً فإنّى أذهب إلى قيصر وآتى من عنده بجنود، وأخرج محمّـداً من المدينة فكان هؤلاء المنافقون يتوقّعون أن يجيئهم أبو عامر فمات قبل أن يبلغ ملك الروم.

أقول: وفي معناه عدّة من الروايات.

وفي الكافي بإسناده عن الحلبيّ عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن المسجد الّذى اُسّس على التقوى فقال: مسجد قبا.

أقول: ورواه العيّـاشيّ في تفسيره، وروى هذا المعنى أيضاً في الكافي بإسناده عن معاوية بن عمّار عنهعليه‌السلام .

وقد روى في الدرّ المنثور بغير واحد من الطرق عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: هو مسجدي هذا، وهو مخالف لظاهر الآية وخاصّـة قوله:( فيه رجال ) الخ، فإنّ الكلام موضوع في القياس بين المسجدين: مسجد قبا ومسجد الضرار والقياس بين أهليهما ولا غرض يتعلّق بمسجد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي تفسير العيّـاشيّ عن الحلبيّ عن الصادقعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله: فيه( رجال يحبّون أن يتطهّروا ) قال: الّذين يحبّون أن يتطهّروا نظف الوضوء وهو الاستنجاء بالماء وقال: قال: نزلت هذه في أهل قبا.

____________________

(١) وفي السيرة: يجاد بن عثمان وهو الصحيح (ب).

٤١٦

وفي المجمع في الآية قال: يحبّون أن يتطهّروا بالماء عن الغائط والبول وهو المروىّ عن السيّدين: الباقر والصادقعليهما‌السلام ، وروى عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لأهل قبا: ما ذا تفعلون في طهركم فإنّ الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء؟ قالوا: نغسل أثر الغائط. فقال: أنزل الله فيكم:( والله يحبّ المطهّرين ) .

وفيه في قراءة قوله:( إلّا أن تقطّع قلوبهم ) وقرء يعقوب وسهل:( إلى أن ) على أنّه حرف الجرّ، وهو قراءة الحسن وقتادة والجحدريّ وجماعة، ورواه البرقىّ عن أبى عبداللهعليه‌السلام .

٤١٧

( سورة التوبة آيه ١١١ - ١٢٣)  

إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنّ لَهُمُ الْجَنّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى‏ بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١١١ ) التّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السّائِحُونَ الرّاكِعُونَ السّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( ١١٢ ) مَا كَانَ لِلنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى‏ مِن بَعْدِ مَاتَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( ١١٣ ) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلّا عَن مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيّاهُ فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أَنّهُ عَدُوّ للّهِ‏ِ تَبَرّأَ مِنْهُ إِنّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوّاهٌ حَلِيمٌ ( ١١٤ ) وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتّى‏ يُبَيّنَ لَهُم مَايَتّقُونَ إِنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ ( ١١٥ ) إِنّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيّ وَلاَنَصِيرٍ ( ١١٦ ) لَقَد تَابَ اللّهُ عَلَى النّبِيّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِمَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ( ١١٧ ) وَعَلَى الثّلاَثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا حَتّى‏ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنّوا أَن لاَمَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلّا إِلَيْهِ ثُمّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنّ اللّهَ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ ( ١١٨ ) يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ ( ١١٩ ) مَاكَانَ لْأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلّفُوا عَن رَسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنّهُمْ لاَيُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ

٤١٨

نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَيَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ وَلاَيَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَيْلاً إِلّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنّ اللّهَ لاَيُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( ١٢٠ ) وَلاَيُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَيَقْطَعُونَ وَادِياً إِلّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَاكَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٢١ ) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ ( ١٢٢ ) يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُم مِنَ الْكُفّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ ( ١٢٣ )

( بيان)

آيات في أغراض متفرّقة يجمعها غرض واحد مرتبط بغرض الآيات السابقة فإنّها تتكلّم حول القتال فمنها ما يمدح المؤمنين ويعدهم وعداً جميلاً على جهادهم في سبيل الله ومنها ما ينهى عن التودّد إلى المشركين و الاستغفار لهم، ومنها ما يدلّ على توبته تعالى للثلاثة المخلّفين عن غزوة تبوك، ومنها ما يفرض على أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يخرجوا مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أراد الخروج إلى قتال ولا يتخلّفوا عنه، ومنها ما يفرض على الناس أن يلازم بعضهم البيضة للتفقّه في الدين ثمّ تبليغه إلى قومهم إذا رجعوا إليهم ومنها ما يقضى بقتال الكفّـار ممّن يلى بلاد الإسلام.

قوله تعالى: ( إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّـة ) إلى آخر الآية، الاشتراء هو قبول العين المبيعة بنقل الثمن في المبايعة.

والله سبحانه يذكر في الآية وعده القطعيّ للّذين يجاهدون في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم بالجنّـة، ويذكر أنّه ذكر ذلك في التوراة والإنجيل كما يذكره في القرآن.

٤١٩

وقد قلبه سبحانه في قالب التمثيل فصوّر ذلك بيعاً، وجعل نفسه مشترياً والمؤمنين بايعين، وأنفسهم وأموالهم سلعة ومبيعاً، والجنّـة ثمناً، والتوراة والإنجيل والقرآن سنداً للمبايعة، وهو من لطيف التمثيل ثمّ يبشّر المؤمنين ببيعهم ذلك، ويهنّئهم بالفوز العظيم.

قوله تعالى: ( التائبون العابدون الحامدون السائحون ) إلى آخر الآية، يصف سبحانه المؤمنين بأجمل صفاتهم، والصفات مرفوعة بالقطع أي المؤمنون هم التائبون العابدون الخ، فهم التائبون لرجوعهم من غير الله إلى الله سبحانه العابدون له ويعبدونه بألسنتهم فيحمدونه بجميل الثناء، وبأقدامهم فيسيحون ويجولون من معهد من المعاهد الدينيّـة ومسجد من مساجد الله إلى غيره، و بأبدانهم فيركعون له ويسجدون له.

هذا شأنهم بالنسبة إلى حال الانفراد وأمّا بالنسبة إلى حال الاجتماع فهم آمرون بالمعروف في السنّة الدينيّـة وناهون عن المنكر فيها ثمّ هم حافظون لحدود الله لا يتعدّونه في حالتى انفرادهم واجتماعهم خلوتهم وجلوتهم، ثمّ يأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يبشّرهم وقد بشّرهم تعالى نفسه في الآية السابقة، وفيه من كمال التأكيد ما لا يقدّر قدره.

وقد ظهر بما قرّرنا أوّلاً: وجه الترتيب بين الأوصاف الّتى عدّها لهم فقد بدء بأوصافهم منفردين وهى التوبة والعبادة والسياحة والركوع والسجود ثمّ ذكر ما لهم من الوصف الخاصّ بهم المنبعث عن إيمانهم مجتمعين وهو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وختم بما لهم من جميل الوصف في حالتى انفرادهم واجتماعهم وهو حفظهم لحدود الله، وفي التعبير بالحفظ مضافاً إلى الدلالة على عدم التعدّي دلالة على الرقوب والاهتمام.

وثانياً: أنّ المراد بالسياحة - ومعناه السير في الأرض - على ما هو الأنسب بسياق الترتيب هو السير إلى مساكن ذكر الله وعبادته كالمساجد، وأمّا القول بأنّ المراد بالسياحة الصيام أو السياحة في الأرض للاعتبار بعجائب قدرة الله وما جرى على الاُمم الماضية ممّا تحكيه ديارهم وآثارهم أو المسافرة لطلب العلم أو المسافرة لطلب الحديث خاصّـة فهى وجوه غير سديدة.

أمّا الأوّل: فلا دليل عليه من جهة اللّفظ البتّـة، وأمّا الوجوه الاُخر فإنّها وإن

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444