الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 94152
تحميل: 6036


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 94152 / تحميل: 6036
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 9

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المراد بالمعذّرين هم أهل العذر كالّذى لا يجد نفقه ولا سلاحاً بدليل قوله:( وقعد الّذين كذبوا ) الآية، والسياق يدلّ على أنّ في الكلام قياساً لإحدى الطائفتين إلى الاُخرى ليظهر به لؤم المنافقين وخسّتهم وفساد قلوبهم وشقاء نفوسهم، حيث إنّ فريضة الجهاد الدينيّـة والنصرة لله ورسوله هيّج لذلك المعذّرين من الأعراب وجاؤوا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستأذنونه، ولم يؤثّر في هؤلاء الكاذبين شيئاً.

قوله تعالى: ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الّذين لا يجدون ما ينفقون حرج ) المراد بالضعفاء بدلالة سياق الآية: الّذين لا قوّة لهم على الجهاد بحسب الطبع كالزمني كما أنّ المرضى لا قوّة لهم عليه بحسب عارض مزاجيّ، والّذين لا يجدون ما ينفقون لا قوّة لهم عليه من جهة فقد المال ونحوه.

فهؤلاء مرفوع عنهم الحرج والمشقّة أي الحكم بالوجوب الّذى لو وضع كان حكماً حرجيّاً، وكذا ما يستتبعه الحكم من الذمّ والعقاب على تقرير المخالفة.

وقد قيّد الله تعالى رفع الحرج عنهم بقوله:( إذا نصحوا لله ورسوله ) وهو ناظر إلى الذمّ العقاب على المخالفة والقعود فإنّما يرفع الذمّ والعقاب عن هؤلاء المعذورين إذا نصحوا لله ورسوله، وأخلصوا من الغشّ والخيانة ولم يجروا في قعودهم على ما يجرى عليه المنافقون المتخلّفون من تقليب الاُمور وإفساد القلوب في مجتمع المؤمنين، وإلّا فيجرى عليهم ما يجرى على المنافقين من الذمّ والعقاب.

وقوله:( ما على المحسنين من سبيل ) في مقام التعليل لنفى الحرج عن الطوائف المذكورين بشرط أن ينصحوا لله ورسوله أي لأنّهم يكونون حينئذ محسنين وما على المحسنين من سبيل فلا سبيل يتسلّط عليهم يؤتون منه فيصابون بما يكرهونه.

ففى السبيل كناية عن كونهم في مأمن ممّا يصيبهم من مكروه كأنّهم في حصن حصين لا طريق إلى داخله يسلكه الشرّ إليهم فيصيبهم، والجملة عامّة بحسب المعنى وإن كان مورد التطبيق خاصّاً .

قوله تعالى: ( ولا على الّذين إذا ما أتوك لتحمّلهم قلت ) الآية قال في المجمع: الحمل إعطاء المركوب من فرس أو بعير أو غير ذلك تقول: حمله يحمله حملاً إذا أعطاه

٣٨١

ما يحمل عليه قال:

ألا فتى عنده خفّان يحملنى

عليهما إنّنى شيخ على سفر

قال: والفيض الجرى عن امتلاء من قولهم: فاض الإناء بما فيه، والحزن ألم في القلب لفوت أمر مأخوذ من حزن الأرض وهى الأرض الغليظة المسلك. انتهى.

وقوله:( ولا على الّذين ) الآية. موصول صلته قوله:( تولّوا ) الآية، وقوله:( إذا ما أتوك لتحملهم ) كالشرك والجزاء والمجموع ظرف لقوله:( تولّوا ) وحزناً مفعول له،( وأن لا يجدوا ) منصوب بنزع الخافض.

والمعنى: ولا حرج على الفقراء الّذين إذا ما أتوك لتعطيهم مركوباً يركبونه وتصلح سائر ما يحتاجون إليه من السلاح وغيره قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولّوا والحال أنّ أعينهم تمتلئ وتسكب دموعاً للحزن من أن لا يجدوا - أو لأن لا يجدوا - ما ينفقونه في سبيل الله للجهاد مع أعدائه.

وعطف هذا الصنف على ما تقدّمه من عطف الخاصّ على العامّ عناية بهم لأنّهم في أعلى درجة من النصح وإحسانهم ظاهر.

قوله تعالى: ( إنّما السبيل على الّذين يستأذنوك وهم أغنياء ) الآية، القصر للإفراد والمعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم ) إلى آخر الآية. خطاب الجمع للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين جميعاً، وقوله:( لن نؤمن لكم ) أي لن نصدّقكم على ما تعتذرون به بناء على تعدية الإيمان باللام كالباء - أو لن نصدّق تصديقاً ينفعكم - بناء على كون اللام للنفع - والجملة تعليل لقوله:( لا تعتذروا ) كما أنّ قوله:( قد نبّأنا الله من أخباركم ) تعليل لهذه الجملة.

والمعنى يعتذر المنافقون إليكم عند رجوعكم من الغزوة إليهم قل يا محمّـد لهم: لا تعتذروا إلينا لأنّا لن نصدّقكم فيما تعتذرون به لأنّ الله قد أخبرنا ببعض أخباركم ممّا يظهر به نفاقكم وكذبكم فيما تعتذرون به، وسيظهر عملكم ظهور شهود لله ورسوله ثمّ تردّون إلى الله الّذى يعلم الغيب والشهادة يوم القيامة فيخبركم بحقائق أعمالكم.

٣٨٢

وفي قوله:( وسيرى الله عملكم ورسوله ) الخ في إيضاحه كلام سيمرّ بك عن قريب.

قوله تعالى: ( سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم ) الآية أي لتعرضوا عنهم فلا تتعرّضوا لهم بالعتاب والتقريع وما يتعقّب ذلك فأعرضوا عنهم لا تصديقاً لهم فيما يحلفون له من الأعذار بل لأنّهم رجس ينبغى أن لا يقترب منهم ومأواهم جهنّم جزاء بما كانوا يكسبون.

قوله تعالى: ( يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإنّ الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ) أي هذا الحلف منهم كما كان للتوسّل إلى صرفكم عنهم ليأمنوا الذمّ والتقريع كذلك هو للتوسّل إلى رضاكم عنهم أمّا الإعراض فافعلوه لأنّهم رجس لا ينبغى لنزاهة الإيمان وطهارته أن تتعرّض لرجس النفاق والكذب وقذارة الكفر والفسق، وأمّا الرضى فاعلموا أنّكم إن ترضوا عنهم فإنّ الله لا يرضى عنهم لفسقهم والله لا يرضى عن القوم الفاسقين.

فالمراد أنّكم إن رضيتم عنهم فقد رضيتم عمّن لم يرض الله عنه أي رضيتم بخلاف رضى الله، ولا ينبغى لمؤمن أن يرضى عمّا يسخط ربّه فهو أبلغ كناية عن النهى عن الرضا عن المنافقين.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور في قوله تعالى:( فرح المخلفون ) الآية أخرج ابن أبى حاتم عن جعفر بن محمّـد عن أبيه -عليهما‌السلام - قال: كانت غزوة تبوك آخر غزوة غزاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهى غزوة الحرّ( قالوا لا تنفروا في الحرّ ) وهى غزوة العسرة.

وفيه أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم وابن مردويه عن ابن عبّـاس ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر الناس أن ينبعثوا معه وذلك في الصيف فقال رجال: يا رسول الله إنّ الحرّ شديد ولا نستطيع الخروج فلا تنفروا في الحرّ فقال الله( قل نار جهنّم أشدّ حرّاً لو كانوا يفقهون ) فأمره بالخروج.

٣٨٣

أقول: ظاهر الآية أنّهم إنّما قالوه ليخذلوا الناس عن الخروج، وظاهر الحديث أنّهم إنّما قالوه إشارة فلا يتطابقان.

وفيه أخرج ابن جرير عن محمّـد بن كعب القرظىّ وغيره قالوا: خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حرّ شديد إلى تبوك فقال رجل من بنى سلمة: لا تنفروا في الحرّ فأنزل الله:( قل نار جهنّم أشدّ حرّاً ) الآية.

أقول: تقدّمت أخبار في قوله تعالى:( ومنهم من يقول ائذن لى ولا تفتنّي ) الآية أنّ القائل لقوله:( لا تنفروا في الحرّ ) هو جدّ بن قيس.

وفي الدرّ المنثور أيضاً في قوله تعالى:( ولا تصلّ على أحد منهم ) الآية أخرج البخاريّ ومسلم وابن أبى حاتم وابن المنذر وأبوالشيخ وابن مردويه والبيهقيّ في الدلائل عن ابن عمر قال: لمّا توفّى عبدالله بن اُبىّ بن سلول أتى ابنه عبدالله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسأله أن يعطيه قميصه ليكفنّه فيه فأعطاه ثمّ سأله أن يصلّى عليه فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقام عمر بن الخطّاب فأخذ ثوبه فقال: يا رسول الله أتصلّى عليه وقد نهاك الله أن تصلّى على المنافقين؟ فقال: إنّ ربّى خيّرنى وقال: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرّة فلن يغفر الله لهم، وسأزيد على السبعين فقال: إنّه منافق فصلّى عليه فأنزل الله تعالى:( ولا تصلّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره ) فترك الصلاة عليهم.

أقول: وفي هذا المعنى روايات اُخرى رواها أصحاب الجوامع ورواة الحديث عن عمر بن الخطّاب وجابر وقتادة، وفي بعضها أنّه كفّنه في قميصه ونفث في جلده ونزل في قبره.

وفيه أخرج أحمد والبخاريّ والترمذيّ والنسائيّ وابن أبى حاتم والنحّـاس وابن حبّان وابن مردويه وابو نعيم في الحلية عن ابن عبّـاس قال: سمعت عمر يقول: لمّا توفّى عبدالله بن اُبىّ دعى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للصلاة عليه فقام عليه فلمّا وقف قلت: أتصلّى على عدوّ الله عبدالله بن اُبىّ القائل كذا وكذا والقائل كذا وكذا - اُعدّد أيّـامه - ورسول

٣٨٤

الله يتبسّم حتّى إذا أكثرت قال: يا عمر أخّر عنّى إنّى قد خيّرت قد قيل لى: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرّة، فلو أعلم أنّى إن زدت على السبعين غفر له لزدت عليها ثمّ صلّى عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومشى معه حتّى قام على قبره حتّى فرغ منه.

فعجبت لى ولجرأتي على رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلّم)، والله ورسوله أعلم فو الله ما كان إلّا يسيراً حتّى نزلت هاتان الآيتان:( ولا تصلّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره ) فما صلّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على منافق بعده حتّى قبضه الله عزّوجلّ.

وفيه أخرج ابن أبى حاتم عن الشعبىّ أنّ عمر بن الخطّاب قال: لقد اُصبت في الإسلام هفوة ما اُصبت مثلها قطّ أراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصلّى على عبدالله بن اُبىّ فأخذت بثوبه فقلت: والله ما أمرك الله بهذا. لقد قال الله:( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرّة فلن يغفر الله لهم ) فقال رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلّم): قد خيّرنى ربّى فقال( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ) .

فقعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على شفير القبر فجعل الناس يقولون لابنه، يا حباب افعل كذا يا حباب افعل كذا فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الحباب اسم شيطان أنت عبدالله.

وفيه أخرج الطبرانيّ وابن مردويه والبيهقيّ في الدلائل عن ابن عبّـاس ان ابن عبدالله بن اُبىّ قال له أبوه: اطلب لى ثوباً من ثياب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكفّنّي فيه ومره أن يصلّى علىّ قال: فأتاه فقال: يا رسول الله قد عرفت شرف عبدالله وهو يطلب إليك ثوباً من ثيابك نكفّنه فيه وتصلّى عليه.

فقال عمر: يا رسول الله قد عرفت عبدالله ونفاقه أتصلّى عليه وقد نهاك الله أن تصلّى عليه؟ فقال: وأين؟ فقال:( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرّة فلن يغفر الله لهم ) قال: فإنّى سأزيد على سبعين فأنزل الله:( ولا تصلّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره ) الآية قال: فأرسل إلى عمر فأخبره بذلك، وإنزل الله:( سواء عليهم

٣٨٥

استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ) .

أقول: وقد ورد استغفار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعبدالله بن اُبىّ وصلاته عليه في بعض المراسيل من روايات الشيعة أيضاً أوردها العيّـاشيّ والقمّىّ في تفسيريهما، وقد تقدّم خبر القمّىّ.

وهذه الروايات على ما فيها من بعض التناقض والتدافع واشتمالها على التعارض فيما بينها يدفعها الآيات الكريمة دفعاً بيّناً لا مرية فيه:

أمّا أوّلاً فلظهور قوله تعالى:( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرّة فلن يغفر الله لهم ) ظهوراً بيّنا في أنّ المراد بالآية بيان لغويّة الإستغفار للمنافقين دون التخيير، وأنّ العدد جيئ به لمبالغة الكثرة لا لخصوصيّة في السبعين بحيث ترجى المغفرة مع الزائد على السبعين.

والنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجلّ من أن يجهل هذه الدلالة فيحمل الآية على التخيير ثمّ يقول سأزيد على سبعين ثمّ يذكره غيره بمعنى الآية فيصرّ على جهله حتّى ينهاه الله عن الصلاة وغيرها بآية اُخرى ينزّلها عليه.

على أنّ جميع هذه الآيات المتعرّضة للاستغفار للمنافقين والصلاة عليهم كقوله:( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ) وقوله:( سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ) وقوله:( ولا تصلّ على أحد منهم مات أبداً ) تعلّل النهى واللغويّة بكفرهم وفسقهم، حتّى قوله تعالى في النهى عن الاستغفار للمشركين:( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اُولى قربى من بعد ما تبيّن لهم أنّهم أصحاب الجحيم ) آية: ١١٣ من السورة ينهى عن الاستغفار معلّلاً ذلك بالكفر وخلود النار، وكيف يتصوّر مع ذلك جواز الاستغفار لهم والصلاة عليهم؟

وثانياً: أنّ سياق الآيات الّتى منها قوله:( ولا تصلّ على أحد منهم مات أبداً ) الآية صريح في أنّ هذه الآية إنّما نزلت والنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفره إلى تبوك ولمّا يرجع إلى المدينة، وذاك في سنة ثمان، وقد وقع موت عبدالله بن اُبىّ بالمدينة سنة تسع من الهجرة كلّ ذلك مسلّم من طريق النقل.

٣٨٦

فما معنى قوله في هذه الروايات: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى على عبدالله وقام على قبره ثمّ أنزل الله عليه:( ولا تصلّ على أحد منهم مات أبداً ) الآية؟

وأعجب منه ما وقع في بعض الروايات السابقة أنّ عمر قال للنبىّ (صلّى الله عليه و آله و سلّم): أتصلّى عليه وقد نهاك عن الصلاة للمنافقين فقال: إنّ ربّى خيّرنى ثمّ أنزل الله:( ولا تصلّ على أحد منهم ) الآية.

وأعجب منه ما في الرواية الأخيرة من نزول قوله:( سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ) الآية، والآية من سورة المنافقون وقد نزلت بعد غزاة بنى المصطلق وكانت في سنة خمس وعبدالله بن اُبىّ حىّ عندئذ وقد حكى في السورة قوله: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ.

وقد اشتمل بعض هذه الروايات وتعلّق به بعض من انتصر لها على أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما استغفر وصلّى على عبدالله ليستميل قلوب رجال منافقين من الخزرج إلى الإسلام، وكيف يستقيم ذلك؟ وكيف يصحّ أن يخالف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النصّ الصريح من الآيات استمالة لقلوب المنافقين ومداهنة معهم؟ وقد هدّده الله على ذلك بأبلغ التهديد في مثل قوله:( إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف المماة ) الآية أسرى: ٧٥. فالوجه أنّ هذه الروايات موضوعة يجب طرحها بمخالفة الكتاب.

وفي الدرّ المنثور في قوله:( رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ) الآية أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبى وقّـاص أنّ علىّ بن أبى طالب خرج مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى جاء ثنيّة الوداع يريد تبوك، وعلىّ يبكى ويقول: تخلّفنى مع الخوالف؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا ترضى أن تكون منّى بمنزلة هارون من موسى إلّا النبوّة.

أقول: والرواية مرويّة بطرق كثيرة من طرق الفريقين.

وفي تفسير العيّـاشيّ عن جابر عن أبى جعفرعليه‌السلام في قوله:( رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ) قال: مع النساء.

وفي الدرّ المنثور أخرج عبد الرزّاق في المصنف وابن أبى شيبة وأحمد والبخاريّ وأبوالشيخ وابن مردويه عن أنس أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا قفل من غزوة تبوك

٣٨٧

فأشرف على المدينة قال: لقد تركتم بالمدينة رجالاً ما سرتم في مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم وادياً إلّا كانوا معكم فيه. قالوا: يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر.

وفي المجمع في قوله تعالى:( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ) الآيتين قيل: إنّ الآية الاُولى نزلت في عبدالله بن زائدة وهو ابن اُمّ مكتوم وكان ضرير البصر جاء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا نبىّ الله إنّى شيخ ضرير خفيف الحال نحيف الجسم وليس لى قائد فهل لى رخصة في التخلّف عن الجهاد؟ فسكت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله الآية. عن الضحّاك، وقيل: نزلت في عائذ بن عمرو وأصحابه. عن قتادة.

والآية الثانية نزلت في البكّائين وهم سبعة نفر منهم: عبد الرحمن بن كعب وعلبة بن زيد و عمرو بن ثعلبة بن غنمة وهؤلاء من بنى النجّار، وسالم بن عمير وهرمىّ بن عبدالله وعبدالله بن عمرو بن عوف [ أ ] وعبدالله بن مغفّل من مزينة جاؤوا إلى رسول الله فقالوا يا رسول الله احملنا فإنّه ليس لنا ما نخرج عليه فقال: لا أجد ما أحملكم عليه عن أبى حمزة الثمالىّ.

وقيل: نزلت في سبعة من قبائل شتّى أتوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا له: احملنا على الخفاف والنعال. عن محمّـد بن كعب وابن إسحاق.

وقيل: كانوا جماعة من مزينة. عن مجاهد، وقيل: كانوا سبعة من فقراء الأنصار فلمّا بكوا حمل عثمان منهم رجلين، والعبّـاس بن عبدالمطّلب رجلين، ويامين ابن كعب النضرىّ ثلاثة عن الواقديّ قال: وكان الناس بتبوك مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثين ألفاً منهم عشرة آلاف فارس.

أقول: والروايات في أسماء البكّائين مختلفة اختلافاً شديداً.

وفي تفسير القمّىّ قال: قال: وإنّما سأل هؤلاء البكّاؤن نعلاً يلبسونها.

وفي المعاني بإسناده عن ثعلبة عن بعض أصحابنا عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ:( عالم الغيب والشهادة ) فقال: الغيب ما لم يكن والشهادة ما قد كان.

أقول: وهو من باب إراءة بعض المصاديق واللّفظ أعمّ.

٣٨٨

وفي تفسير القمّىّ قال: ولمّا قدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تبوك كان أصحابه المؤمنون يتعرّضون المنافقين ويؤذونهم فأنزل الله:( سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم ) إلى آخر الآيتين.

وفي المجمع قيل: نزلت الآيات في جدّ بن قيس ومعتّب بن قشير وأصحابهما من المنافقين وكانوا ثمانين رجلاً، ولمّا قدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة راجعاً عن تبوك قال: لا تجالسوهم ولا تكلّموهم. عن ابن عبّـاس.

٣٨٩

( سورة التوبة آيه ٩٧ - ١٠٦)  

الْأَعْرَابُ أَشَدّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَاأَنْزَلَ اللّهُ عَلَى‏ رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٩٧ ) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتّخِذُ مَايُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبّصُ بِكُمُ الدّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السّوءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٩٨ ) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتّخِذُ مَايُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرّسُولِ أَلاَ إِنّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( ٩٩ ) وَالسّابِقُونَ الْأَوّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدَاً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١٠٠ ) وَمِمّنْ حَوْلَكُم مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النّفَاقِ لاَتَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذّبُهُم مَرّتَيْنِ ثُمّ يُرَدّونَ إِلَى‏ عَذَابٍ عَظِيمٍ ( ١٠١ ) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( ١٠٢ ) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِم بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ١٠٣ ) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الْصّدَقَاتِ وَأَنّ اللّهَ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ ( ١٠٤ ) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدّونَ إِلَى‏ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ١٠٥ ) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللّهِ إِمّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١٠٦ )

٣٩٠

( بيان)

الكلام جار على الغرض السابق يبيّن به حال الأعراب في كفرهم ونفاقهم وإيمانهم وفي خلال الآيات آية الصدقة.

قوله تعالى: ( الأعراب أشدّ كفراً ونفاقاً وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ) الآية، قال الراغب في المفردات: العرب ولد إسماعيل، والأعراب جمعه في الأصل، وصار ذلك اسماً لسكّان البادية:( قالت الأعراب آمنّا. والأعراب أشدّ كفراً ونفاقاً. ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ) ، وقيل في جمع الأعراب أعاريب، قال الشاعر:

أعاريب ذوو فخر بإفك

وألسنة لطاف في المقال

والأعرابيّ في التعارف صار اسماً للمنسوب إلى سكّان البادية، والعربيّ المفصح والإعراب البيان، انتهى موضع الحاجة. يبيّن تعالى حال سكّان البادية وأنّهم أشدّ كفراً ونفاقاً لأنّهم لبعدهم عن المدنيّـة والحضارة، وحرمانهم من بركات الإنسانيّـة من العلم والأدب أقسى وأجفى، فهم أجدر وأحرى أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله من المعارف الأصليّة والأحكام الشرعيّـة من فرائض وسنن وحلال وحرام.

قوله تعالى: ( ومن الأعراب من يتّخذ ما ينفق مغرماً ويتربّص بكم الدوائر ) الآية، قال في المجمع: المعرم الغرم وهو نزول نائبة بالمال من غير خيانة، وأصله لزوم الأمر، ومنه قوله: إنّ عذابها كان غراماً، وحبّ غرام أي لازم، والغريم يقال لكلّ واحد من المتداينين للزوم أحدهما الآخر وغرمته كذا أي ألزمتة إيّاه في ماله، انتهى.

والدائرة الحادثة وتغلب في الحوادث السوء كأنّ الحوادث السوء تدور بين الناس فتنزل كلّ يوم بقوم فتربّص الدوائر بالمؤمنين انتظار نزول الحوادث السوء عليهم للتخلّص من سلطتهم والرجوع إلى رسوم الشرك والضلال.

وقوله:( يتّخذ ما ينفق مغرماً ) أي يفرض الإنفاق غرماً أو المال الّذى ينفقه

٣٩١

مغرماً - على أن يكون ما مصدريّة أو موصولة - والمراد الإنفاق في الجهاد أو أيّ سبيل من سبل الخير على ما قيل، ويمكن أن يكون المراد الإنفاق في خصوص الصدقات ليكون الكلام كالتوطئة لما سيجئ بعد عدّة آيات من حكم أخذ الصدقة من أموالهم، ويؤيّده ما في الآية التالية من قوله:( ويتّخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ) فإنّه كالتوطئة لقوله في آية الصدقة:( وصلّ عليهم إنّ صلاتك سكن لهم ) .

فمعنى الآية: ومن سكّان البادية من يفرض الإنفاق في سبيل الخير أو في خصوص الصدقات غرماً وخسارة وينتظر نزول الحوادث السيّـئة بكم، عليهم دائرة السوء - قضاء منه تعالى أو دعاء عليهم - والله سميع للأقوال عليم بالقلوب.

قوله تعالى: ( ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتّخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ) الخ، الظاهر أنّ قوله:( صلوات الرسول ) عطف على قوله:( ما ينفق ) وأنّ الضمير في قوله:( ألا إنّها قربة ) عائد إلى ما ينفق وصلوات الرسول.

ومعنى الآية: ومن الأعراب من يؤمن بالله فيوحّده من غير شرك ويؤمن باليوم الآخر فيصدّق الحساب الجزاء ويتّخذ إنفاق المال لله وما يتبعه من صلوات الرسول ودعواته بالخير والبركة، كلّ ذلك قربات عند الله وتقرّبات منه إليه ألا إنّ هذا الإنفاق وصلوات الرسول قربة لهم، والله يعدهم بأنّه سيدخلهم في رحمته لأنّه غفور للذنوب رحيم بالمؤمنين به والمطيعين له.

قوله تعالى: ( والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والّذين اتّبعوهم بإحسان ) الخ القراءة المشهورة( والأنصار ) بالكسر عطفاً على( المهاجرين ) والتقدير: السابقون الأوّلون من المهاجرين والسابقون الأوّلون من الأنصار والّذين اتّبعوهم بإحسان، وقرء يعقوب: والأنصار بالرفع فالمراد به جميع الأنصار دون السابقين الأولين منهم فحسب.

وقد اختلفت الكلمة في المراد بالسابقين الأوّلين فقيل: المراد بهم من صلّى إلى القبلتين، وقيل: من بايع بيعة الرضوان وهى بيعة الحديبية، وقيل: هم أهل بدر خاصّـة،

٣٩٢

وقيل: هم الّذين أسلموا قبل الهجرة، وهذه جميعاً وجوه لم يوردوا لها دليلاً من جهة اللفظ.

والّذى يمكن أن يؤيّده لفظ الآية بعض التأييد هو أنّ بيان الموضوع - السابقون الأوّلون - بالوصف بعد الوصف من غير ذكر أعيان القوم وأشخاصهم يشعر بأنّ الهجرة والنصرة هما الجهتان اللّتان روعى فيهما السبق والأوّليّة.

ثمّ الّذى عطف عليهم من قوله:( والّذين اتّبعوهم بإحسان ) ، يذكر قوماً ينعتهم بالاتّباع ويقيّده بأن يكون بإحسان والّذى يناسب وصف الاتّباع أن يترتّب عليه هو وصف السبق دون الأوّليّة فلا يقال: أوّل وتابع وإنّما يقال: سابق وتابع، وتصديق ذلك قوله تعالى:( للفقراء المهاجرين الّذين اُخرجوا من ديارهم وأموالهم - إلى أن قال -والّذين تبوّؤا الدار والإيمان من قبلهم - إلى أن قال -والّذين جاءوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الّذين سبقونا بالإيمان ) الآيات الحشر: ١٠.

فالمراد بالسابقين هم السابقون إلى الإيمان من بين المسلمين من لدن طلوع الإسلام إلى يوم القيامة.

ولكون السبق ويقابله اللحوق والاتّباع من الاُمور النسبيّـة، ولازمه كون مسلمى كلّ عصر سابقين في الإيمان بالقياس إلى مسلمى ما بعد عصرهم كما أنّهم لاحقون بالنسبة إلى من قبلهم قيّد( السابقون ) بقوله:( الأوّلون ) ليدلّ على كون المراد بالسابقين هم الطبقة الاُولى منهم.

وإذ ذكر الله سبحانه ثالث الأصناف الثلاثة بقوله:( والّذين اتّبعوهم بإحسان ) ولم يقيّده بتابعي عصر دون عصر ولا وصفهم بتقدّم وأوّليّة ونحوهما وكان شاملاً لجميع من يتّبع السابقين الأوّلين كان لازم ذلك أن يصنّف المؤمنون غير المنافقين من يوم البعثة إلى يوم البعث في الآية ثلاثة أصناف: السابقون الأوّلون من المهاجرين، و السابقون الأوّلون من الأنصار، والّذين اتّبعوهم بإحسان، والصنفان الأوّلان فاقدان لوصف التبعيّة وإنّما هما إمامان متبوعان لغيرهما والصنف الثالث ليس متبوعاً إلّا بالقياس.

وهذا نعم الشاهد على أنّ المراد بالسابقين الأوّلين هم الّذين أسّسوا أساس الدين

٣٩٣

ورفعوا قواعده قبل أن يشيد بنيانه ويهتزّ راياته صنف منهم بالإيمان واللحوق بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصبر على الفتنة والتعذيب، والخروج من ديارهم وأموالهم بالهجرة إلى الحبشة والمدينة، وصنف بالإيمان ونصرة الرسول وإيوائه وإيواء من هاجر إليهم من المؤمنين والدفاع عن الدين قبل وقوع الوقائع.

وهذا ينطبق على من آمن بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الهجرة ثمّ هاجر قبل وقعة بدر الّتى منها ابتدء ظهور الإسلام على الكفر أو آمن بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآواه وتهيّأ لنصرته عند ما هاجر إلى المدينة.

ثمّ إنّ قوله:( والّذين اتّبعوهم بإحسان ) قيّد فيه اتّباعهم بإحسان ولم يرد الاتّباع في الاحسان بأن يكون المتبوعون محسنين ثمّ يتبعهم التابعون في إحسانهم ويقتدوا بهم فيه - على أن يكون الباء بمعنى في - ولم يرد الاتّباع بواسطة الإحسان - على أن يكون الباء للسببيّـة أو الآليّة - بل جئ بالإحسان منكّراً، والأنسب له كون الباء بمعنى المصاحبة فالمراد أن يكون الاتّباع مقارناً لنوع مّا من الإحسان مصاحباً له، وبعبارة اُخرى يكون الإحسان وصفاً للاتّباع.

وإنّا نجده تعالى في كتابه لا يذمّ من الاتّباع إلّا ما كان عن جهل وهوى كاتّباع المشركين آباءهم، واتّباع أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم وأسلافهم عن هوى واتّباع الهوى واتّباع الشيطان فمن اتّبع شيئاً من هؤلاء فقد أساء في الاتّباع ومن اتّبع الحقّ لا لهوى متعلّق بالأشخاص وغيرهم فقد أحسن في الاتّباع، قال تعالى:( الّذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه اُولئك الّذين هداهم الله ) الزمر: ١٨ ومن الإحسان في الاتّباع كمال مطابقة عمل التابع لعمل المتبوع ويقابله الإساءة فيه.

فالظاهر أنّ المراد بالّذين اتّبعوهم بإحسان أن يتّبعوهم بنوع من الإحسان في الاتّباع وهو أن يكون الاتّباع بالحقّ - وهو اتّباعهم لكون الحقّ معهم - ويرجع إلى اتّباع الحقّ بالحقيقة بخلاف اتّباعهم لهوى فيهم أو في اتّباعهم، وكذا مراقبة التطابق.

هذا ما يظهر من معنى الاتّباع بإحسان، وأمّا ما ذكروه من أنّ المراد كون الاتّباع مقارناً لإحسان في المتّبع عملاً بأن يأتي بالأعمال الصالحة والأفعال الحسنة فهو

٣٩٤

لا يلائم كلّ الملائمة التنكير الدالّ على النوع في الإحسان، وعلى تقدير التسليم لا مفرّ فيه من التقييد بما ذكرنا فإنّ الاتّباع للحقّ وفي الحقّ يستلزم الإتيان بالأعمال الحسنة الصالحة دون العكس وهو ظاهر.

فقد تلخّص أنّ الآية تقسم المؤمنين من الاُمّة إلى ثلاثة أصناف: صنفان هما السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار، والصنف الثالث هم الّذين اتّبعوهم بإحسان.

وظهر ممّا تقدّم أوّلاً: أنّ الآية تمدح الصنفين الأوّلين، بالسبق إلى الإيمان والتقدّم في إقامة صلب الدين ورفع قاعدته، و تفضيلهم على غيرهم على ما يفيده السياق.

وثانياً: أنّ( من ) في قوله:( من المهاجرين والأنصار ) تبعيضيّة لا بيانيّة لما تقدّم من وجه فضلهم، ولما أنّ الآية تذكر أنّ الله رضى عنهم ورضوا عنه، والقرآن نفسه يذكر أنّ منهم من في قلبه مرض ومنهم سمّاعون للمنافقين، ومنهم من يسمّيه فاسقاً، ومنهم من تبرّأ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عمله ولا معنى لرضي الله عنهم، والله لا يرضى عن القوم الفاسقين.

وثالثاً: أنّ الحكم بالفضل ورضى الله سبحانه في الآية مقيّد بالإيمان والعمل الصالح على ما يعطيه السياق فإنّ الآية تمدح المؤمنين في سياق تذمّ فيه المنافقين بكفرهم وسيّئات أعمالهم ويدلّ على ذلك سائر المواضع الّتى مدحهم الله فيها أو ذكرهم بخير ووعدهم وعداً جميلاً فقد قيّد جميع ذلك بالإيمان والعمل الصالح كقوله تعالى:( للفقراء المهاجرين الّذين اُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله ) إلى آخر الآيات الثلاث الحشر: ٨.

وقوله فيما حكاه من دعاء الملائكة لهم:( ويستغفرون للّذين آمنوا ربّنا وسعت كلّ شئ رحمة وعلماً فاغفر للّذين تابوا واتّبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربّنا وأدخلهم جنّات عدن الّتى وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرّيّاتهم ) المؤمن: ٨.

وقوله:( محمّـد رسول الله والّذين معه أشدّاء على الكفّـار رحماء بينهم - إلى أن قال -وعد الله الّذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً ) الفتح: ٢٩.

٣٩٥

وقوله:( والّذين آمنوا واتّبعتهم ذرّيّتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرّيّتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ كلّ امرء بما كسب رهين) الطور: ٢١ انظر إلى موضع قوله:( بإيمان ) وقوله: كلّ امرء الخ.

ولو كان الحكم في الآية غير مقيّد بقيد الإيمان والعمل الصالح وكانوا مرضيّين عند الله مغفوراً لهم أحسنوا أو أساؤوا واتّقوا أو فسقوا كان ذلك تكذيباً صريحاً لقوله تعالى:( فإنّ الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ) التوبة: ٩٦، وقوله:( والله لا يهدى القوم الفاسقين ) التوبة: ٨٠، وقوله:( والله لا يحبّ الظالمين ) آل عمران: ٥٧ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالّة مطابقة أو التزاماً أنّ الله لا يرضى عن الظالم والفاسق وكلّ من لا يطيعه في أمر أو نهى، وليست الآيات ممّا يقبل التقييد أو النسخ.

وكذا أمثال قوله تعالى خطاباً للمؤمنين:( ليس بأمانيّكم ولا أمانّي أهل الكتاب من يعمل سوءً يجز به ) النساء: ١٢٣.

على أنّ لازم عدم تقييد الحكم في هذه الآية تقييد جميع الآيات الدالّة على الجزاء والمشتملة على الوعيد والتهديد، وهى آيات جمّة في تقييدها اختلال نظام الوعد والوعيد وإلغاء معظم الأحكام والشرائع، وبطلان الحكمة، ولا فرق في ذلك بين أن نقول بكون( من ) تبعيضيّة والفضل لبعض المهاجرين والأنصار أو بيانيّة والفضل للجميع والرضى الإلهىّ للكلّ، وهو ظاهر.

وقوله تعالى:( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) الرضى منّا موافقة النفس لفعل من الأفعال من غير تضادّ وتدافع يقال: رضى بكذا أي وافقه ولم يمتنع منه، ويتحقّق بعدم كراهته إيّاه سواء أحبّه أو لم يحبّه ولم يكرهه فرضى العبد عن الله هو أن لا يكره بعض ما يريده الله ولا يحبّ بعض ما يبغضه ولا يتحقّق إلّا إذا رضى بقضائه تعالى وما يظهر من أفعاله التكوينيّـة، وكذا بحكمه وما أراده منه تشريعاً، وبعبارة اُخرى إذا سلّم له في التكوين والتشريع وهو الإسلام والتسليم لله سبحانه.

وهذا بعينه شاهد آخر على ما تقدّم أنّ الحكم في الآية مقيّد بالإيمان والعمل الصالح بمعنى أنّ الله سبحانه إنّما يمدح من المهاجرين والأنصار والتابعين من آمن به

٣٩٦

وعمل صالحاً، ويخبر عن رضاه عنه وإعداده له جنّات تجرى تحتها الأنهار.

وليس مدلول الآية أنّ من صدق عليه أنّه مهاجر أو أنصاريّ أو تابع فإنّ الله قد رضى عنه رضاً لا سخط بعده أبداً وأوجب في حقّه المغفرة والجنّـة سواء أحسن بعد ذلك أو أساء، اتّقى أو فسق.

وأمّا رضاه تعالى فإنّما هو من أوصافه الفعليّـة دون الذاتيّة فإنّه تعالى لا يوصف لذاته بما يصير معه معرضاً للتغيير والتبدّل كأن يعرضه حال السخط إذا عصاه ثمّ الرضى إذا تاب إليه، وإنّما يرضى ويسخط بمعنى أنّه يعامل عبده معاملة الراضي من إنزال الرحمة وإيتاء النعمة أو معاملة الساخط من منع الرحمة وتسليط النقمة والعقوبة.

ولذلك كان من الممكن أن يحدث له الرضى ثمّ يتبدّل إلى السخط أو بالعكس غير أنّ الظاهر من سياق الآية أنّ المراد بالرضى هو الرضى الّذى لا سخط بعده فإنّه حكم محمول على طبيعة أخيار الاُمّة من سابقيهم وتابعيهم في الإيمان والعمل الصالح، وهذا أمر لا مداخلة للزمان فيه حتّى يصحّ فرض سخط بعد رضى وهو بخلاف قوله تعالى:( لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ) الآية الفتح: ١٨ فإنّه رضى مقيّد بزمان خاصّ يصلح لنفسه لأن يفرض بعده سخط.

قوله تعالى: ( وممّن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة ) الآية حول الشئ ما يجاوره من المكان من أطرافه وهو ظرف، والمرد العتوّ والخروج عن الطاعة، والممارسة والتمرين على الشرّ وهو المعنى المناسب لقوله في الآية:( مردوا على النفاق ) أي مرّنوا عليه ومارسوا حتّى اعتادوه.

ومعنى الآية: وممّن في حولكم أو حول المدينة من الأعراب الساكنين في البوادى منافقون مرّنوا على النفاق ومن أهل المدينة أيضاً منافقون معتادون على النفاق لا تعلمهم أنت يا محمّـد نحن نعلمهم سنعذّبهم مرّتين ثمّ يردّون إلى عذاب عظيم.

وقد اختلفت كلماتهم في المراد من تعذيبهم مرّتين. ما هما المرّتان؟ فقيل: يعنى مرّة في الدنيا بالسبي والقتل ونحوهما ومرّة بعذاب القبر، وقيل: في الدنيا بأخذ الزكاة وفي الآخرة بعذاب القبر، وقيل بالجوع مرّتين وقيل مرّة عند الاحتضار ومرّة في القبر،

٣٩٧

وقيل: بإقامة الحدود وعذاب القبر، وقيل: مرّة بالفضيحة في الدنيا ومرّة بالعذاب في القبر، وقيل غير ذلك، ولا دليل على شئ من هذه الأقوال، وإن كان ولا بدّ فأوّلها أولاها.

قوله تعالى: ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً ) الآية، أي ومن الأعراب جماعة آخرون مذنبون لا ينافقون مثل غيرهم بل اعترفوا بذنوبهم لهم عمل صالح وعمل آخر سيّئ خلطوا هذا بذلك من المرجوّ أن يتوب الله عليهم إنّ الله غفور رحيم.

وفي قوله:( عسى الله أن يتوب عليهم ) إيجاد الرجاء في نفوسهم لتكون نفوسهم واقعة بين الخوف والرجاء من غير أن يحيط بها اليأس والقنوط، وفي قوله:( إنّ الله غفور رحيم ) ترجيح جانب الرجاء.

قوله تعالى: ( خذ من أموالهم صدقة تطهّرهم وتزكّيهم بها وصلّ عليهم إنّ صلاتك سكن لهم والله سميع عليم ) التطهير إزالة الأوساخ والقذارات من الشئ ليصفى وجوده ويستعدّ للنشوء والنماء وظهور آثاره وبركاته، والتزكية إنماؤه وإعطاء الرشد له بلحوق الخيرات وظهور البركات كالشجرة بقطع الزوائد من فروعها فتزيد في حسن نموّها وجودة ثمرتها فالجمع بين التطهير والتزكية في الآية من لطيف التعبير.

فقوله:( خذ من أموالهم صدقة ) أمر للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأخذ الصدقة من أموال الناس ولم يقل: من مالهم ليكون إشارة إلى أنّها مأخوذة من أصناف المال، وهى النقدان: الذهب والفضّة، والأنعام الثلاثة: الإبل والبقر والغنم، والغلّات الأربع: الحنطة والشعير والتمر والزبيب.

وقوله:( تطهّرهم وتزكّيهم بها ) خطاب للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليس وصفاً لحال الصدقة، والدليل عليه ضمير بها الراجع إلى الصدقة أي خذ يا محمّـد من أصناف أموالهم صدقة تطهّرهم أنت وتزكّيهم بتلك الصدقة أي أخذها.

وقوله:( وصلّ عليهم ) الصلاة عليهم هي الدعاء لهم والسياق يفيد أنّه دعاء لهم ولأموالهم بالخير والبركة وهو المحفوظ من سنّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان يدعو لمعطى الزكاة ولماله بالخير والبركة.

٣٩٨

وقوله:( إنّ صلاتك سكن لهم ) السكن ما يسكن إليه الشئ والمراد به أنّ نفوسهم تسكن إلى دعائك وتثق به وهو نوع شكر لسعيهم في الله كما أنّ قوله تعالى في ذيل الآية:( والله سميع عليم ) سكن يسكن إليه نفوس المكلّفين ممّن يسمع الآية أو يتلوها.

والآية تتضمّن حكم الزكاة الماليّـة الّتى هي من أركان الشريعة والملّة على ما هو ظاهر الآية في نفسها، وقد فسّرتها بذلك اخبار متكاثرة من طرق أئمّـة أهل البيتعليهم‌السلام وغيرهم.

قوله تعالى: ( ألم يعلموا أنّ الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأنّ الله هو التوّاب الرحيم ) استفهام إنكارىّ بداعي تشويق الناس إلى إيتاء الزكاة وذلك أنّهم إنّما يؤتون الصدقة لله وإنّما يسلّمونها إلى الرسول أو إلى عامله وجابيه بما أنّه مأمور من قبل الله في أخذها فإيتاؤه إيتاء لله، وأخذه أخذ من الله فالله سبحانه هو الآخذ لها بالحقيقة، وقد قال تعالى في أمثاله:( إنّ الّذين يبايعونك إنّما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم ) الفتح: ١٠ وقال:( وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى ) الأنفال: ١٧ وقال قولاً عاماً:( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) النساء: ٨٠.

فإذا ذكر الناس بمثل قوله:( ألم يعلموا أنّ الله ) الآية، انبعثت رغباتهم واشتاقوا أن يعاملوا ربّهم فيصافحوه ويمسّوا بأيديهم يده تنزّه عن عوأرض الأجسام وتعالى عن ملابسة الحدثان.

ومقارنته الصدقة بالتوبة لما أنّ التوبة تطهّر وإيتاء الصدقة تطهّر فالتصدّق بصدقة توبة ماليّـة كما أنّ التوبة بمنزلة الصدقة في الأعمال والحركات، ولذلك عطف على صدر الآية قوله ذيلاً:( وأنّ الله هو التوّاب الرحيم ) فذكّر عباده باسميه التوّاب والرحيم، وجمع فيهما التوبه والتصدّق.

وقد بان من الآية أنّ التصدّق وإيتاء الزكاة نوع من التوبة.

قوله تعالى: ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) الآية، الآية على ظاهر اتّصالها بما قبلها كأنّها تخاطب المؤمنين وتسوقهم وتحرّضهم إلى إيتاء الصدقات.

٣٩٩

غير أنّ لفظها مطلق لا دليل على تخصيص خطابها بالمتصدّقين من المؤمنين ولا بعامة المؤمنين بل هي تشمل كلّ ذى عمل من الناس من الكفّـار والمنافقين والمؤمنين ولا أقلّ من شمولها للمنافقين والمؤمنين جميعاً.

إلّا أنّ نظير الآية الّذى مرّ أعنى قوله في سياق الكلام على المنافقين:( وسيرى الله عملكم ورسوله ثمّ تردّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبّؤكم بما كنتم تعملون ) التوبة: ٩٤ حيث ذكر الله ورسوله في رؤية عملهم ولم يذكر المؤمنين لا يخلو من إيماء إلى أنّ الخطاب في الآية الّتى نحن فيها للمؤمنين خاصّـة فإنّ ضمّ إحدى الآيتين إلى الاُخرى يخطر بالبال أنّ حقيقة أعمال المنافقين أعنى مقاصدهم من أعمالهم لمّا كانت خفيّة على ملإ الناس فإنّما يعلم بها الله ورسوله بوحى من الله تعالى، وأمّا المؤمنون فحقائق أعمالهم أعنى مقاصدهم منها وآثارها وفوائدها الّتى تتفرّع عليها وهى شيوع التقوى وإصلاح شؤون المجتمع الإسلاميّ وإمداد الفقراء في معايشهم وزكاة الأموال ونماؤها يعلمها الله تعالى ورسوله ويشاهدها المؤمنون فيما بينهم.

لكن ظهور الأعمال بحقائق آثارها وعامّة فوائدها أو مضرّاتها في محيط كينونتها وتبدّلها بأمثالها وتصوّرها في أطوارها زماناً بعد زمان وعصراً بعد عصر ممّا لا يختصّ بعمل قوم دون عمل قوم، ولا مشاهدتها والتأثّر بها بقوم دون قوم.

فلو كان المراد من رؤية المؤمنين أعمالاً لعاملين ظهور آثارها ونتائجها وبعبارة اُخرى ظهور أنفسها في ألبسة نتائجها لهم لم يختصّ المشاهدة بقوم دون قوم ولا بعمل قوم دون عمل قوم فما بال الأعمال يراها المؤمنون ولا يراها المنافقون وهم أهل مجتمع واحد؟ وما بال أعمال المنافقين لا يشاهدها المؤمنون وقد كونت في مجتمعهم وداخلت أعمالهم؟

وهذا مع ما في الآية من خصوص السياق ممّا يقرّب الذهن أن يفهم من الآية معنى آخر فإنّ قوله:( وثمّ تردّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبّؤكم بما كنتم تعملون ) يدلّ أوّلاً على أنّ قوله:( فسيرى الله عملكم ) الآية ناظر إلى ما قبل البعث وهى الدنيا لمكان قوله:( وثمّ تردّون ) فإنّه يشير إلى يوم البعث وما قبله هو الدنيا.

وثانياً: أنّهم إنّما يوقفون على حقيقة أعمالهم يوم البعث وأمّا قبل ذلك فإنّما

٤٠٠