الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 97227 / تحميل: 6781
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

المحتسب كالمجاهد مع الإمام منقذ العالم(1) ، وأنَّ المنتظر المخلص في ولائه من أهل الجنَّة(2) ، وأنَّ الإيمان في دولة الباطل أفضل منهُ في دولة الحقّ.(3)

د : وفي قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُ‌وا وَصَابِرُ‌وا وَرَ‌ابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (4) . وجوب الثبات على الاعتقاد بإمامة المهدي عليه السلام وانتظاره وتوقّع ظهوره، فقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام:(اصبروا على أداء الفرائض، وصابروا عدوكم، ورابطوا إمامكم المنتظر) (5) .

2: في العهدين

«أشعيا» يبشّر الجميع بالقائم المنقذ:

في جانب آخر من (سفر اشعيا -ع -) نجد اشارات صريحة بظهور مُنقذ العالم وكيفية حكمه وارتباطه بالله تعالى، التي لها دلالات لما ورد عن الرسول(ص) والائمة (ع) وعموم المسلمين بخصوص الامام المهدي (عج )، وقد جاءت الاشارة الى الامام (عج ) بأحد القابه المهمّة وهو «القائم »:

(10 وفي ذلك اليوم سَيرفَعُ « القائمُ » رايةً للشعوب والامم التي تَطلبُهُ وتَنتظرُهُ ويكونُ محلُّهُ مَجداً).(6)

____________________

(1) انظر: مجمع البيان ج 9 ص 238. الكافي، ج 2ص 21. المحاسن، ص 173.

(2) انظر: الكافي ج 8 ص 76. البحا ج46 ص 361.

(3) انظر: الكافي، ج1 ص 333. الإختصاص، ص20. كمال الدين، ج2 ص 645.

(4) سورة آل عمران: آية 200.

(5) انظر: معجم أحاديث الإمام المهدي (ع)، ج 5، ص 66-67. الزام الناصب: ج 1 ص53.

(6) سفر أشعيا 11: 10:ألأصل العبرى،العهد القديم، ص625. وسنقف على ترك كلمة (يسَّى) دون ترجمة على التوالي.(أهل البيت فى الكتاب المقدس)، ص 123 - 127.

١٦١

وكما هو واضح فانّ هذه الفقرة باطلاقها تؤكّدعلى: أنّ كلّ الشعوب والامم تطلبه وتنتظره قبل مجيئه،وليس قسماً من هذه الشعوب والأمم، وهذا يدلّ على معرفة هذه الشعوب والامم بهذا الرجل الالهيّ المقدس، فهي تعرفه بكلّ أبعاد المعرفة: معرفة فطريّة ومعرفة عقلية ومعرفة سماويّة.

حيث زرع الله عزّ وجلّ في فطرتهم معرفة خليفته الأعظم المدّخر، وأوحى اليهم ذلك عبرَ مختلف العصور، وأدركوا ذلك أيضاً بعقولهم من خلال الأدلّة الهائلة التي لاتحدّ ولاتحصى:

ومنها انّ الخالق القادر الحكيم الذي أتقن صنع كلّ شيء في الوجود بدءً بالفيروس الصغير الذي لايُرى بالعين المجرّدة وانتهاءً بأعظم مجرّةٍٍ تمّ أكتشافها لحدّ الآن؛ فمن دواعي حكمته وربوبيّته أن يُمضي حكمَهُ في الأرض، ويُرينا عدلَهُ وقسطَهُ بواسطة ممثّله الشرعي الدّال عليه والحاكم بأسمه، ولايترك الدنيا هكذا على علاّتها، والشعوبَ لقمةً سائغةً لازال يمضغها بفكّيه فرعون وهامان وجنودهما وبقوانين وضعيّة قد تبرّأَ منها كلّ شريف.

فهذه الشعوب والأمم: تطلبُهُ ناصراً ومعيناً ومغيثاً ومنقذاً لما أصابها من حيفٍٍ وظلم على مدى تعاقب العصور!.

وهي تنتظرُهُ: إنتظارَ الحبيب لحبيبه، انتظاراً فيه الأملُ والرجاءُ، كشوق الأرض الجدباء لقطر السماء؛ وتحنّ اليه حنيناً منقطع النظير.

وبعدما بيّنت الفقرة العاشرة انتظار الشعوب والأمم وطلبهم للقائم، ذكرت نتيجة هذا الطلب والانتظار المقدّس عندما يحلّ بينهم حيث قالت: ( ويكونُ محلهُ مجداً): أي يكون وجودُهُ بين شعوب الأرض وأممها مفخرةً

١٦٢

كبرى، وبركةً ونعمةً، وأرتقاءً بمستوى الانسانيّة الى أعلى ذُرى المجد والعزّة والكرامة ومباركة الربّ جلّ وعلا.

وبسبب أهميّة هذا النصّ وهذه الفقرة منه خاصّة فقد عمد (أعداء الحقّ والصّدق) الى طمس الحقيقة الالهية الدامغة وتشويشها لقلب معناها أو لصرفه عن الأذهان قدَرَ الامكان وقد نجحوا في ذلك الى أمد غير بعيد. ولإماطَة اللّثام عن هذه المحاولة البائسة وكشفها، نشير الى أمرين:

الأول: إنّ اللفظة المخصوصة (يسّسي) (1) التي وردت في الفقرة(10) من النصّ العبري، تعني: (سيرفع)، وقد جاءت بصيغة الاستقبال لدخول حرف (الياء) عليها(2) . والماضي منه (ناسا) بمعنى: (رفع)(3) ، ومترجم (العهد القديم) في النسخة العربيّة(4) لم يترجم لفظة (يسّسي) العبريّة والتي تعني: (سيرفع)، بل أبقاها على حالها من غير ترجمة الى اللّغة العربيّة محاولةً منه لبس المعنى واثارة الغموض حول مفهوم - القائم - (عج).

____________________

(1) (اهل البيت (ع ) في الكتاب المقدس ) ص 127-128، عن سفر أشعيا 11: 10، ص 1005، النسخة العربية. وجاءت في المصادر كلمة (يسَّي) بسينٍ واحدةٍ مشدَّدةٍ ومفتوحةٍ، ولعلّ صاحب (أهل البيت في الكتاب المقدس) أثبتها بسينيين للتوضيح فأُضيفت الشدَّة إشتباهاً.

(2) قواعد اللغة العربية، ص98.

(3) المعجم الحديث، عبري - عربي، ص 315.

(4) العهد القديم، سفر إشعياء، الإصحاح 11، الفقرة، 10، الكتاب المقدّس باللغة العربية، مصر: فقد أردف كلمة (يسّي) بالقائم، فقال: يسّي القائم...الخ.

١٦٣

وأمّا الأمر الثاني: انّ لفظة (عوميد) جاءت (كاسم فاعل)(1) وتعني (القائم)(2) ...الخ.(3)

وأما ما جاء في الكتاب المقدس، طبعة أُولى، بيروت،دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، جمعية الكتاب المقدس في لبنان، العهد القديم، الإصدار الثاني 1995، في سفر إشعيا 11: (1 و 10) فهو من الروعة بمكان، ويستحقُّ التأمُّل، وهو كالآتي:

(1 يخرُجُ فرعٌ من جذع يَسَّى(4) وينمو غُصنٌ من أُصوله).ثمّ يبيّن عبر ثمانية فقرات صفات ومؤهلات وخيرات هذا الموعود المبارك، ويخلص في القول الى:

____________________

(1) قواعد اللغة العربية، ص38.

(2) (اهل البيت (ع ) في الكتاب المقدس ) ص 127-128 بتصرّف.

(3) المعجم الحديث: 349.

(4) يسّي: هو والدُ داود (ع)، وقد بشّرت التوراة بأن المنقذ ومخلص العالم هو من نسل داود(ع) حيناً، وحينأً آخر من نسل يوسف (ع)... الخ، غير ان مفسري التوراة يصرون على القول أنَّ هذه الشخصيات تمثّلُ المسيح (ع)...، فهل الحقّ كذلك؟ لكن لو رجعنا على سبيل التمثيل لا الحصر: الى المزمور 72، في الكتاب المقدّس، مصر: حيث جاء فيه:

(1 اللهم اعط احكامك للملك و برك لابن الملك* 2 يدين شعبك بالعدل و مساكينك بالحق* 3 تحمل الجبال سلاما للشعب و الاكام بالبر* 4 يقضي لمساكين الشعب يخلص بني البائسين و يسحق الظالم* 5 يخشونك ما دامت الشمس و قدام القمر الى دور فدور* 6 ينزل مثل المطر على الجزاز و مثل الغيوث الذارفة على الارض* 7 يشرق في ايامه الصديق و كثرة السلام الى ان يضمحل القمر* 8 و يملك من البحر الى البحر و من النهر الى اقاصي الارض* =

١٦٤

(في ذلك اليوم يرتفعُ أصلُ يسَّى رايةً للشعوب. تطلُبُهُ الأُمم ويكونُ موطنهُ مجيداً، 11 وفي ذلك اليوم يعودُ الربُّ فيمُدُّ يدَهُ لافتداء بَقيَّة شعبه في أشُّورَ ومصرَ وفتروسَ وكوشَ وعيلامَ وشنعارَ وحماةَ وفي جُزُر البحر، 12 ويرفعُ الربُّ رايةً في الأُمم...).(1)

وهنا سؤالٌ يطرحُ نفسهُ وهو:

____________________

= 9 امامه تجثو اهل البرية و اعداؤه يلحسون التراب* 10 ملوك ترشيش و الجزائر يرسلون تقدمة ملوك شبا و سبا يقدمون هدية* 11 و يسجد له كل الملوك كل الامم تتعبد له* 12 لانه ينجي الفقير المستغيث و المسكين اذ لا معين له* 13 يشفق على المسكين و البائس و يخلص انفس الفقراء* 14 من الظلم و الخطف يفدي انفسهم و يكرم دمهم في عينيه* 15 و يعيش و يعطيه من ذهب شبا و يصلي لاجله دائما اليوم كله يباركه* 16 تكون حفنة بر في الارض في رؤوس الجبال تتمايل مثل لبنان ثمرتها و يزهرون من المدينة مثل عشب الارض* 17 يكون اسمه الى الدهر قدام الشمس يمتد اسمه و يتباركون به كل امم الارض يطوبونه* 18 مبارك الرب الله اله اسرائيل الصانع العجائب وحده* 19 و مبارك اسم مجده الى الدهر و لتمتلئ الارض كلها من مجده امين ثم امين تمت صلوات داود بن يسى*).مع ملاحظة الإختلاف في ألفاظ الترجمة (وكلا المعنيين واحد) في: الكتاب المقدس، طبعة أُولى، بيروت،دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، العهد القديم، الإصدار الثاني 1995م،ص 787، المزمور 72. ونضيرُ هذا كثير.

فهل يمكن أن يكون هذا المسيح (ع) وهو لم يقم بشيءٍ من هذا؟ انظر: المهدي المنتظر بين الدين والفكر البشري، ص 57 وما بعدها، تحت عنوان: المخلّص في التوراة.

(1) الكتاب المقدس، جمعية الكتاب المقدس في لبنان، العهد القديم، ص 924، سفر إشعيا 11: (1،10، 11، 12).

١٦٥

من هو القضيب المبارك الذي يخرجُ في آخر الزمان كمنقذٍ لكلّ الشعوب والأُمم وهو من ذريّة الأنبياء (عليهم السلام)، ومن جذع (يَسَّى) كما في هذا النصّ وغيره في الكتاب المقدّس، وتارةً في نصوص أُخر قال إنَّه من نسل يوسف (ع)(1) ، و(يَسَّى) هذا، هل هُوَ (يس) في قوله تعالى:

( يس ﴿1﴾ وَالْقُرْ‌آنِ الْحَكِيمِ ﴿2﴾ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْ‌سَلِينَ ) (2) ؟

و(ياسين) (3) في قوله تعالى:( سَلَامٌ عَلَىٰ إِلْ يَاسِينَ ) (4) ؟

وفي إنجيل برنابا سُمّيَ بـ (مسّيا)؟.(5)

ولو أنا تمعنّا في سفر إشعياء النبيّ (ع)(6) ، الإصحاح 65: 11 - 25، وقارنّاها مع:

____________________

(1) وفي نصوص أُخرى، أنه من نسل يوسف (ع)، انظر: المهدي المنتظر بين الدين والفكر البشري، ص 57.

(2) سورةُ يس: 1- 3.

(3) أحدُ أسماء النبيّ محمد (ص) وقد وردَ في القرآن.

(4) انظر: المسيح الموعود والمهدي النتظر، ص48، وما بعدها.

(5) وشرحُهُ في انجيل برنابا، في الفصل الثامن والثمانون: 15-18، برنابا: من تلاميذ المسيح (ع)، ونسخة الإنجيل المنسوبة اليه، ترجمها العلامة المسيحي اللبناني الدكتور خليل سعادة من الإنكليزية الى العربية، وهي من خزائن الفاتيكان باللغة الإيطالية.

(6) انظر: العهد القديم، سفر إشعياء، الإصحاح 65، الفقرة: 11-25، الكتاب المقدّس باللغة العربية 73 سفراً، مصر. فقد جاءت كما يلي:(11 اما انتم الذين تركوا الرب و نسوا جبل قدسي و رتبوا للسعد الاكبر مائدة و ملاوا للسعد الاصغر خمرا ممزوجة* 12 فاني اعينكم للسيف و تجثون كلكم للذبح لاني دعوت فلم تجيبوا تكلمت فلم تسمعوا بل عملتم =

١٦٦

الآيات المباركة 4 - 8 من سورة الإسراء(1) ، لخلصنا الى نتيجةٍ مهمّةٍ كما أثبتها العلاّمة محمد الصادقي في كتابه (الإسلام في الكتب السماوية)

____________________

= الشر في عيني و اخترتم ما لم اسر به* 13 لذلك هكذا قال السيد الرب هوذا عبيدي ياكلون و انتم تجوعون هوذا عبيدي يشربون و انتم تعطشون هوذا عبيدي يفرحون و انتم تخزون* 14 هوذا عبيدي يترنمون من طيبة القلب و انتم تصرخون من كابة القلب و من انكسار الروح تولولون* 15 و تخلفون اسمكم لعنة لمختاري فيميتك السيد الرب و يسمي عبيده اسما اخر* 16 فالذي يتبرك في الارض يتبرك باله الحق و الذي يحلف في الارض يحلف باله الحق لان الضيقات الاولى قد نسيت و لانها استترت عن عيني* 17 لاني هانذا خالق سماوات جديدة و ارضا جديدة فلا تذكر الاولى و لا تخطر على بال* 18 بل افرحوا و ابتهجوا الى الابد في ما انا خالق لاني هانذا خالق اورشليم بهجة و شعبها فرحا* 19 فابتهج باورشليم و افرح بشعبي و لا يسمع بعد فيها صوت بكاء و لا صوت صراخ* 20 لا يكون بعد هناك طفل ايام و لا شيخ لم يكمل ايامه لان الصبي يموت ابن مئة سنة و الخاطئ يلعن ابن مئة سنة* 21 و يبنون بيوتا و يسكنون فيها و يغرسون كروما و ياكلون اثمارها* 22 لا يبنون و اخر يسكن و لا يغرسون و اخر ياكل لانه كايام شجرة ايام شعبي و يستعمل مختاري عمل ايديهم* 23 لا يتعبون باطلا و لا يلدون للرعب لانهم نسل مباركي الرب و ذريتهم معهم* 24 و يكون اني قبلما يدعون انا اجيب و فيما هم يتكلمون بعد انا اسمع* 25 الذئب و الحمل يرعيان معا و الاسد ياكل التبن كالبقر اما الحية فالتراب طعامها لا يؤذون و لا يهلكون في كل جبل قدسي قال الرب). وللوقوف على النص بجماله وروعته، انظر: سفر أشعيا 65: 11-25،العهد القديم، جمعية الكتاب المقدس في لبنان، الكتاب المقدس، ص 990. والفرقُ في الترجمة واضحٌ!

(1) سورة الإسراء: الآيات، 4-10:( وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَ‌ائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْ‌ضِ مَرَّ‌تَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرً‌ا ﴿4﴾ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ‌ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا ﴿5﴾ ثُمَّ رَ‌دَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّ‌ةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ‌ نَفِيرً‌ا ﴿6﴾ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ =

١٦٧

مفسّراً أقوال إشعياء اللنبيّ (ع) الآنفة الذكر على الشكل التالي: هذه الآياتُ البيّناتُ تُبشّرُ عن زمنٍ منيرٍ تبدَّلت شريعة إسرائيل الى أُخرى، وكذلك خيرةُ الله عن إسرائيل لمختارين آخرين، فلا اسمَ إلاّ اسم القائد الديني ألأخير.(1)

مضافاً الى ذلكَ أنَّ العهد الجديد يذكرُ الى جانب المسيح شخصيةً أُخرى وهي شخصية الأمين الصادق، فقد ورد في سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي:

(ثم رأيتُ السماء مفتوحة وإذا فرس أبيض والجالس عليه يُدعى أميناً وصادقاً بالعدل يحكم ويحار، وعيناهُ كليب نارٍ، وعلى رأسه تيجانٌ كثيرةٌ ولهُ اسمٌ مكتوبُ ليسَ أحدٌ يعرفهُ إلاّ هو(2) ، وهو متسربلٌ بثوبٍ مغموس بدمٍ ويدعى أسمهُ كلمةُ الله، والأجناد الذين في السماء كانوا يتبعونهُ على خيلٍ بيضٍ لابسينَ بزاً أبيض ونقيّاً).(3)

____________________

=أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَ‌ةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّ‌ةٍ وَلِيُتَبِّرُ‌وا مَا عَلَوْا تَتْبِيرً‌ا ﴿7﴾ عَسَىٰ رَ‌بُّكُمْ أَن يَرْ‌حَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِ‌ينَ حَصِيرً‌ا ﴿8﴾ إِنَّ هَـٰذَا الْقُرْ‌آنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ‌ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرً‌ا كَبِيرً‌ا ﴿9﴾ وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَ‌ةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) . ومفاد هذه الآيات المباركة في: الصحيح من سيرة النبى الأعظم (ص): ج3 ص35-36.

(1) انظر: الإسلام في الكتب السماوية، ص 237-238.المسيح الموعود والمهدي النتظر، ص53 وما بعدها.

(2) هذا الاسم: هل هو اسمُ الله الأعظم؟، والذي يحمله هل هو صاحبُ الخلافة ألأسمائية (الخلافة والإمامة التي قال بها القرآن الكريم) عند أهل الله... الخ، للمزيد: دروس السيد كمال الحيدري، شرح فصوص الحكم للقيصري، ص56 وما قبلها وما بعدها.

(3) العهد الجديد، سفر الرؤيا (رؤيا يوحنا اللاهوتي)، الإصحاح 19، الفقرة 11، الكتاب المقدّس باللغة العربية 73 سفراً، مصر.

١٦٨

فمن هو الصادقُ الأمين الراكب على الفرس الأبيض؟، هل هو يسوع المسيح؟، إنّ الكلامَ عن المسيح يسبقُ هذا المقطع، ثم إنَّ يسوع (ع) يُسمّى أحياناً باسمه وأحياناً بابن الإنسان، فيبقى أن يكون النبيُّ محمد (ص) أو المهدي(ع).

ولما كانت الآثار الإسلامية لاتتحدَّث عن قدوم للرسول (ص) وبهذا الشكل، لاعندما جاء أولاً ولا في آخر الزمان، فيبقى أنهُ المهدي (ع) لتطابق هذه الأوصاف مع بعض مايرد في المصادر الإسلامية.(1)

ثانياً: الضيقُ والحرجُ والعسرُ وتضرُّر المؤمنين

1: في القرآن الكريم والروايات الشريفة

ويكون كلُّ ذلك قبيل الظهور المبارك ويعمُّ جميعَ الموحدين في العالم(2) ، بسبب تسلّط مؤسسات الكفر والجور والظلم العالمية، وطول مدّة الإنتظار المؤلم لمنقذ العالم التي يملُّهاُ الكثيرون بسبب ضعف إيمانهم ووهن عقيدتهم. ولكنَّ الله سبحانه وتعالى تكفَّلَ بلطفهِ وكرمه بتسديد المؤمنين وتثبيتهم على على طريق الحقّ الذي رسمهُ لهم، وذلك في قوله تبارك وتعالى:( يُثَبِّتُ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَ‌ةِ وَيُضِلُّ اللَّـهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّـهُ مَا يَشَاءُ ) (3) .

____________________

(1) المهدي المنتظر بين الدين والفكر البشري، ص 61-62، بإيجاز وتصرّثف.

(2) انظر: المهدي المنتظر بين الدين والفكر البشري، ص 141-143.

(3) سورة ابراهيم: آية 27.

١٦٩

فقد جاء في كمال الدين وتمام النعمة: قال حمّاد بن زياد: سألت موسى بن جعفر: يابن رسول الله! أويكون في الائمة من يغيب؟ قال: نعم، يغيب عن ابصار الناس شخصه، ولا يغيب عن قلوب المؤمنين ذكره، وهو الثاني عشر، يسهّل الله له كل عسير... الى ان يقول (عليه السلام):«وله غيبةٌ يطول أمدها خوفاً على نفسه، يرتدُّ فيها أقوام ويثبت آخرون،فطوبى لشيعتنا المتمسكين بحبلنا في غيبة قائمنا، الثابتين على موالاتنا والبرائة من اعدائنا، أولئك منا و نحن منهم، فقد رضوا بنا أئمة ورضينا بهم شيعة، فطوبى لهم ثم طوبى لهم، هم والله معنا في درجتنا» (1) .

أقول: ومن اكبر الامتحانات غبيبة الحجة، ليميز الخببيث من الطيّب، والمؤمن من المنافق، والمخلص من المرتاب، فعلى هذا لا يظهر حتى يتميّزوا كما في الخبر:(لا والله لا يأتيكم إلاّ بعد اليأس، ولا والله لا يأتيكم حتى تتميّزوا ولا والله لا يأتيكم حتى تمحّصوا، ولا والله لا يأتيكم حتى يشقى من شقي ويسعد من سعد.) (2) وقوله:(لايأتيكم إلاّ بعد اليأس ) ، يعني بعد أن ينتظره المنتظر حتى ييأس...(3) .

وفي هذه الايام، فان الامتحان يعسرُ شيئاً فشيئاً، وتضيق الحلقة على المؤمنين والموحدين في كل الدنيا، جرّاءَ الهجمة الشرسة لاقطاب الاستكبار والكفر العالمي، وما زالوا يحشّدونَ العُدَّةِ والعدد، ويرصّونَ

____________________

(1) كمال الدين وتمام النعمة، ص 368. كفاية الأثر، ص27. بحار الأنوار، ج 51 ص 150.

(2) غيبة النعماني، ص208-209. الكافي، ج 1، ص 330 و 331.

(3) نور الأبصار: ص350ـ 354.

١٧٠

الصفوفَ، ويبذلون الأموال الطائلة، ويخطِّطونَ ليلَ نهار، لإحكام القبضةِ على العالم كما يزعمون، لذا فانّ الاختبارات القادمة والفتن الآتية ستكون أشدّ وطئةً واقوى من سابقتها، وستكون النجاة لمن إتّقى، وتمسّك بالعروة الوثقى وحبلَ الله المتين، وسيكون المدُّ والتسديد الإلهي بأروع صوره.

2: في العهدين

في سفر إشعياء (ع): أنَّ المؤمنين يتضرَّرون قبل مجيء يوم الله الأعظم، ويكونون جرّاء الضيق والشدَّة كالمرأة الحامل التي تتلوّى من ألم المخاض:

(16 يا رب في الضيق طلبوك سكبوا مخافتة عند تاديبك اياهم* 17 كما ان الحبلى التي تقارب الولادة تتلوى و تصرخ في مخاضها هكذا كنا قدامك يا رب* 18 حبلنا تلوينا كاننا ولدنا ريحا لم نصنع خلاصاً في الارض...

20 هلم يا شعبي ادخل مخادعك و اغلق ابوابك خلفك اختبئ نحو لحيظة حتى يعبر الغضب* 21 لانه هُوَ ذا الرب يخرج من مكانه ليعاقب إثمَسُكان الارض فيهم فتكشف الارض دماءها و لا تغطي قتلاها في ما بعد*).(1)

____________________

(1) العهد القديم، سفر إشعياء، الإصحاح 26، الفقرات 2-18 و 20-21، الكتاب المقدّس باللغة العربية 73 سفراً، مصر. سفر أشعيا 26: 2-18 و 20-21،العهد القديم، جمعية الكتاب المقدس في لبنان، الكتاب المقدس، ص 938-939.

١٧١

١٧٢

المبحث الثاني: أوصافُ القائم المنقذ

لقد أثنى الله تباركَ وتعالى على وليِّهِ وخليفتهِ (منقذ العالم) وذكرهُ بأسماءٍ وصفاتٍ ونعوتٍ تبيِّنُ مقامَهُ ومَنزلتهُ عندَ ربِّهِ عزَّ وجلَّ، وتحكي تلكَ المهمَّة العظمى الملقات على عاتقهِ (عليه الصلاةُ والسلام) والمدَّخر أساساً لأجلها، وجاء ذلكَ في الكتب السماوية المقدَّسة وصحف الأنبياء والروايات الشريفة المباركة على حدٍّ سواء، وبلغَ ذلكَ من الكثرة والسعةِ مالا نستطيع الوقوف عليهِ هنا ولكن نذكرُ شيئاً منها على نحو الإختصارِ والإجمال، حيث نبدأُ اولاً: بأوصافهِ في القرآن والروايات، وثانياً: بأوصافهِ في العهدين.

اولاً: أوصاف القائم المقذ في القرآن والروايات

1: أنه الكوكب الدري:

في قوله تعالى:( اللَّـهُ نُورُ‌ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ مَثَلُ نُورِ‌هِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّ‌يٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَ‌ةٍ مُّبَارَ‌كَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْ‌قِيَّةٍ وَلَا غَرْ‌بِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ‌ نُّورٌ‌ عَلَىٰ نُورٍ‌ يَهْدِي اللَّـهُ لِنُورِ‌هِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِ‌بُ اللَّـهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (1) .

أن المهدي عليه السلام هو الكوكب الدري في الآية. فعن (أمير المؤمنين عليه السلام):

____________________

(1) سورة النور: آية 35.

١٧٣

النور: القرآن، والنور اسم من أسماء الله تعالى، والنور النورية، والنور ضوء القمر، والنور ضوء المؤمن وهو الموالاة التي يلبس لها نورا يوم القيامة والنور في مواضع من التوراة والإنجيل والقرآن حجة الله على عباده، وهو المعصوم... فقال تعالى:( وَاتَّبَعُوا النُّورَ‌ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) فالنور في هذا الموضع هو القرآن، ومثله في سورة التغابن قوله تعالى:( فَآمِنُوا بِاللَّـهِ وَرَ‌سُولِهِ وَالنُّورِ‌ الَّذِي أَنزَلْنَا ) يعني سبحانه القرآن وجميع الأوصياء المعصومين، من حملة كتاب الله تعالى، وخزانه، وتراجمته، الذين نعتهم الله في كتابه فقال:( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّـهُ وَالرَّ‌اسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَ‌بِّنَا ) فهم المنعوتون الذين أنار الله بهم البلاد، وهدى بهم العباد، قال الله تعالى في سورة النور:( اللَّـهُ نُورُ‌ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ مَثَلُ نُورِ‌هِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّ‌يٌّ ) إلى آخر الآية، فالمشكاة رسول الله صلى الله عليه وآله والمصباح الوصي، والأوصياء عليهم السلام والزجاجة فاطمة، والشجرة المباركة رسول الله صلى الله عليه وآله والكوكب الدري القائم المنتظر عليه السلام الذي يملأ الأرض عدلا).(1)

____________________

(1) المحكم والمتشابه، ص 112، عن تفسير النعماني.وعنه البحار، ج 93 ص 3. معجم أحاديث الإمام المهدي (ع)، ج 5، ص 274-275. بحار الأنوار، ج90 ص 21.

١٧٤

2: أنَّهُ القوَّة وأصحابهُ الركن الشديد:

في قوله تعالى:( قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُ‌كْنٍ شَدِيدٍ ) (1) .

- (عن الإمام الصادق (ع) في قوله الله: قالَ لو أنَّ لي بكم قوَّةً أو آوي الى ركنٍ شديد: قال قوَّة القائم والركن الشديد: الثلاث مئة وثلاثة عشر أصحابه).(2)

3: أنَّهُ بقيَّةُ الله:

في قوله تعالى:( بَقِيَّتُ اللَّـهِ خَيْرٌ‌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) (3) .

روى محمد بن يحيى، عن جعفر بن محمد قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الدينوري عن عمر بن زاهر، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سأله رجل عن القائم يسلم عليه بإمرة المؤمنين؟ قال: لا ذاك اسم سمى الله به أمير المؤمنين عليه السلام، لم يسم به أحد قبله ولا يتسمى به بعده إلا كافر، قلت جعلت فداك كيف يسلم عليه؟ قال: يقولون: السلام عليك يا بقية الله، ثم قرأ:( بَقِيَّتُ اللَّـهِ خَيْرٌ‌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) (4) .

____________________

(1) سورة هود: آية 80.

(2) تفسير العياشي، ج2 ص 156. تفسير القمي، ج1ص 335. البحار، ج 12ص158 وص170. اثبات الهداة، ج3 ص 551.

(3) سورة هود: آية 86.

(4) الكافي، ج1 ص 411. تفسير فرات الكوفي، ص 193.

١٧٥

4: أنَّهُ السراط السوي:

في قوله تعالى:( فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَ‌اطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَىٰ ) (1) .

روى (محمد بن العباس عن محمد بن همام عن محمد بن إسماعيل العلوي عن عيسى بن داود عن موسى بن جعفر عن أبيه عليه السلام في قول الله عز وجل:( فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَ‌اطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَىٰ ) قال: الصراط السوي هو القائم عليه السلام، والهدى من اهتدى إلى طاعته، ومثلها في كتاب الله عز وجل:( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ‌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ ) (2) قال: إلى ولايتنا)(3) .

5: وأنَّهُ يُسلِمُ لهُ من في السماوات والأرض:

في قولهِ تعالى:( وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ طَوْعًا وَكَرْ‌هًا ) (4) .

عن ابن بكير قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن قوله:( وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ طَوْعًا وَكَرْ‌هًا ) قال: (أنزلت في القائم عليه السلام إذا خرج (أمرَ) باليهود و النصارى والصابئين والزنادقة وأهل الردة والكفار في شرق الأرض وغربها، فعرض عليهم الاسلام فمن أسلم

____________________

(1) سورة طه:آية 135.

(2) سورة طه: آية 82.

(3) كنز الفوائد: 162. بحار الأنوار، ج 24، ص 150.

(4) سورة آل عمران:آية 83.

١٧٦

طوعا أمره بالصلاة والزكاة وما يؤمر به المسلم ويجب لله عليه، ومن لم يسلم ضرب عنقه حتى لا يبقى في المشارق والمغارب ‹ صفحة 184 › أحد الا وحد الله، قلت له: جعلت فداك ان الخلق أكثر من ذلك؟ فقال: ان الله إذا أراد امرا قلل الكثير وكثر القليل)(1) .

6: وأنهُ هو (الغيب والآية)(2) :

في قوله تعالى:( الم ﴿1﴾ ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَ‌يْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴿2﴾ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَ‌زَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) .(3)

في كمال الدين: (حدثنا علي بن أحمد بن موسي - رحمه الله - قال: حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي قال: حدثنا موسى بن عمران النخعي، عن عمه الحسين بن يزيد، عن علي بن أبي حمزة عن يحيى بن أبي القاسم قال: سألت الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام عن قول الله عزو جل:( الم ﴿1﴾ ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَ‌يْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴿2﴾ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) فقال: المتقون شيعة علي عليه السلام والغيب فهو الحجة الغائب. وشاهد ذلك قول الله عزو جل:( وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّ‌بِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّـهِ فَانتَظِرُ‌وا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِ‌ينَ ) (4) فأخبر (عزّو جلّ)

____________________

(1) تفسير العياشي، ج 1، ص 183-184. البحار ج 13 ص188. اثبات الهداة ج 7 ص 96. البرهان ج 1 ص 296. الصافي ج1 ص276.

(2) أي هو المصداق الأكمل للغيب، وآية من آيات الله الكبرى.

(3) سورة البقرة: 1-3

(4) سورة يونس: آية 20.

١٧٧

أن الآية هي الغيب، والغيب هو الحجة، وتصديق ذلك قول الله (عزو جل):( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْ‌يَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ) (1) يعني حجة)(2) .

وفي كمال الدين وتمام النعمة أيضاً: (حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل - رحمه الله - قال: حدثنا محمد بن يحيى العطار قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى، عن عمر بن عبد العزيز، عن غير واحد، عن داود ابن كثير الرقي، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل:( هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴿2﴾ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) قال: من أقر بقيام القائم عليه السلام أنه حق)(3) .

7: ومن بقيَّةِ أسمائهِ وأوصافه ونعوتهِ الشريفة:

أ: في جمالهِ وعدلهِ والرِّضى بخلافته:

- (عن حذيفة بن اليمان، عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: المهدي من ولدي وجهه كالقمر الدري اللون لون عربي الجسم جسم إسرائيلي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا يرضى بخلافته أهل السماوات وأهل الأرض والطير في الجو يملك عشرين سنة)(4) .

ب: في عددٍ من أوصافهِ وأسمائهِ وكراماتهِ:

- (عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر، عن أبيه، عن جده عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام - وهو على المنبر -: يخرج رجل من ولدي في

____________________

(1) سورة المؤمنون: آية 50.

(2) كمال الدين وتمام النعمة، ص 17-18.

(3) كمال الدين وتمام النعمة، ص 17.

(4) بحار الأنوار، ج 51، ص 91.

١٧٨

آخر الزمان أبيض اللون، مشرب بالحمرة، مبدح البطن(1) عريض الفخذين، عظيم مشاش المنكبين(2) بظهره شامتان: شامة على لون جلده(3) وشامة على شبه شامة النبي صلى الله عليه وآله، له اسمان: اسم يخفى واسم يعلن، فأما الذي يخفى فأحمد وأما الذي يعلن فمحمد، إذا هز رايته أضاء لها ما بين المشرق والمغرب، و وضع يده على رؤوس العباد فلا يبقى مؤمن إلا صار قلبه أشد من زبر الحديد، و أعطاه الله تعالى قوة أربعين رجلا، ولا يبقى ميت إلا دخلت عليه الفرحة (في قلبه) وهو في قبره، وهم يتزاورون في قبورهم، ويتباشرون بقيام القائم صلوات الله عليه)(4) .

ج: في إشياق الجنَّة وحبِّ الله ورسولهُ للقائم المنقذ:

- (عن جابر بن عبد الله، عن النبيِّ (ص): الجنَّةُ تشتاقُ الى أربعةٍ من أهلي، قد أحبَّهم اللهُ وأمرني بحبّهم:عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين والمهدي الذي يصلّي خلفهُ عيسى بن مريم)(5) .

____________________

(1) مبدح البطن أي واسعه وعريضه-والبداح: المتسع من الأرض. والبدح-بالكسر -: الفضاء الواسع وامرأة بيدح أي بادن. والأبدح: الرجل الطويل (السمين والعريض الجنين من الدواب (القاموس).

(2) مشاش: جمع المشاشة-بالضم-وهي رأس العظم الممكن المضغ.

(3) الشامة علامة تخالف البدن الذي هي فيه اما باللون أو التورم، وهي الخال.

(4) كمال الدين وتمام النعمة، ص 653.

(5) كشف اليقين، ص117. كشف الغمة، ج1ص52. المعجم الموضوعي لأحاديث الإمام المهدي، ص274.

١٧٩

د: في شجاعتهِ الإلهية وكرمهِ وعلمهِ وخُلُقِهِ:

- (عن سليمان بن هلال قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن الحسين بن علي عليهم السلام قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: يا أمير المؤمنين نبئنا بمهديكم هذا؟ فقال: إذا درج الدارجون، وقل المؤمنون، وذهب المجلبون، فهناك، فقال: يا أمير المؤمنين عليك السلام ممن الرجل؟ فقال: من بني هاشم من ذروة طود العرب وبحر مغيضها إذا وردت، ومجفو أهلها إذا أتت، ومعدن صفوتها إذا اكتدرت لا يجبن إذا المنايا هلعت، ولا يحور إذا المؤمنون اكتنفت ولا ينكل إذا الكماة اصطرعت مشمر مغلولب طفر ضرغامة حصد مخدش ذكر سيف من سيوف الله رأس قثم نشق رأسه في باذخ السؤدد، وغارز مجده في أكرم المحتد، فلا يصرفنك عن تبعته صارف عارض ينوص إلى الفتنة كل مناص إن قال فشر قائل وإن سكت فذو دعاير.

ثم رجع إلى صفة المهدي عليه السلام فقال: أوسعكم كهفاً، وأكثركم علماً وأوصلكم رحماً اللهم فاجعل بيعته خروجاً من الغمة واجمع به شمل الأمة فأنى جاز لك فاعزم ولا تنثن عنه إن وفقت له ولا تجيزن عنه إن هديت إليه هاه وأومأ بيده إلى صدره شوقاً إلى رؤيته)(1) .

هـ: أنَّه محبوب في عموم الخلائق:

- (عن الإمام الصادق (ع) قال: المهدي محبوبٌ في الخلائق يُطفيء الله بهِ الفتنة الصمّاء)(2) .

____________________

(1) الغيبة، النعماني، ص 212. اثبات الهداة، ج3 ص 537. بحار الأنوار، ج 51، ص 115.

(2) بشارة الإسلام، ص185.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

يرون ظاهرها، وقد نبّهنا على هذا المعنى كراراً في أبحاثنا السابقة، وإذ قصر علمهم بحقائق أعمالهم على إنبائه تعالى إيّاهم بها يوم القيامة وذكر رؤية الله ورسوله والمؤمنين أعمالهم قبل يوم البعث في الدنيا وقد ذكر الله مع رسوله وغيره وهو عالم بحقائقها وله أن يوحى إلى نبيّه بها كان المراد بها مشاهدة الله سبحانه ورسوله والمؤمنون حقيقة أعمالهم، وكان المراد بالمؤمنين شهداء الأعمال منهم لا عامّة المؤمنين كما يدلّ عليه أمثال قوله تعالى( وكذلك جعلناكم اُمّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ) البقرة: ١٤٣ وقد مرّ الكلام فيه في الجزء الأوّل من الكتاب.

وعلى هذا فمعنى الآية: وقل يا محمّـد اعملوا ما شئتم من عمل خيراً أو شرّاً فسيشاهد الله سبحانه حقيقة عملكم ويشاهدها رسوله والمؤمنون - وهم شهداء الأعمال - ثمّ تردّون إلى الله عالم الغيب والشهادة يوم القيامة فيريكم حقيقة عملكم.

وبعبارة اُخرى: ما عملتم من عمل خير أو شرّ فإنّ حقيقته مرئيّة مشهودة لله عالم الغيب والشهادة ثمّ لرسوله والمؤمنين في الدنيا ثمّ لكم أنفسكم معاشر العاملين يوم القيامة.

فالآية مسوقة لندب الناس إلى مراقبة أعمالهم بتذكيرهم أنّ لأعمالهم من خير أو شرّ حقائق غير مستورة بستر، وأنّ لها رقباء شهداء سيطّلعون عليها ويرون حقائقها وهم رسول الله وشهداء الأعمال من المؤمنين والله من ورائهم محيط فهو تعالى يراها وهم يرونها، ثمّ إنّ الله سبحانه سيكشف عنها الغطاء يوم القيامة للعاملين أنفسهم كما قال:( لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ) ق: ٢٢ ففرق عظيم بين أن يأتي الإنسان بعمل في الخلوة لا يطّلع عليه أحد، وبين أن يعمل ذلك العمل بعينه بين ملإ من الناظرين جلوه وهو يرى أنّه كذلك.

هذا في الآية الّتى نحن فيها، وأمّا الآية السابقة:( يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا قد نبّأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثمّ تردّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبّؤكم بما كنتم تعملون ) فإنّ وجه الكلام فيها إلى أشخاص من المنافقين بأعيانهم يأمر الله فيها نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يردّ إليهم اعتذارهم، ويذكر لهم أوّلاً أنّ

٤٠١

الله قد نبّأهم أي النبيّ والّذين معه من المؤمنين في جيش الإسلام أخبارهم بنزول هذه الآيات الّتى تقصّ أخبار المنافقين وتكشف عن مساوى أعمالهم.

ثمّ يذكر لهم أنّ حقيقة أعمالهم غير مستورة عن الله سبحانه ولا خفيّة عليه وكذلك رسوله وحده ولم يكن معه أحد من شهداء الأعمال ثمّ الله يكشف لهم أنفسهم عن حقيقة أعمالهم يوم القيامة.

فهذا هو الفرق بين الآيتين مع اتّحادهما في ظاهر السياق حيث ذكر في الآية الّتى نحن فيها: الله ورسوله والمؤمنون، وفي الآية السابقة: الله ورسوله، واقتصر على ذلك. فهذا ما يعطيه التدبّر في معنى الآية ومن لم يقنع بذلك ولم يرض دون أن يصوّر للآية معنى ظاهريّاً فليقل إنّ ذكره تعالى( الله ورسوله ) في خطاب المنافقين إنّما هو لأجل أنّهم إنّما يريدون أن يكيدوا الله ورسوله ولا همّ لهم في المؤمنون، وأمّا ذكره تعالى:( الله ورسوله والمؤمنين ) في الخطاب العامّ فإنّما الغرض فيه تحريضهم على العمل الصالح في مشهد من الملإ الصالح ولم يعبأ بحال غيرهم من الكفّـار والمنافقين. فتدبّر.

قوله تعالى: ( وآخرون مرجون لأمر الله إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم والله عليم حكيم ) الإرجاء التأخير والآية معطوفة على قوله:( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) ومعنى إرجائهم إلى أمر الله أنّهم لا سبب عندهم يرجّح لهم جانب العذاب أو جانب المغفرة فأمرهم يؤول إلى أمر الله ما شاء وأراد فيهم فهو النافذ في حقّهم.

و هذه الآية تنطبق بحسب نفسها على المستضعفين الّذين هم كالبرزخ بين المحسنين و المسيئين، وإن ورد في أسباب النزول أنّ الآية نازلة في الثلاثة الّذين خلّفوا ثمّ تابوا فأنزل الله توبتهم على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيجئ إن شاء الله تعالى.

وكيف كان فالآية تخفى ما يؤول إليه عاقبه أمرهم وتبقيها على إبهامها حتّى فيما ذيّلت به من الاسمين الكريمين: العليم والحكيم الدالّين على أنّ الله سبحانه يحكم فيهم بما يقتضيه علمه وحكمته، وهذا بخلاف ما ذيّل قوله:( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) حيث قال:( عسى الله أن يتوب عليهم ان الله غفور رحيم ) .

٤٠٢

( بحث روائي)

في تفسير العيّـاشيّ عن داود بن الحصين عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله:( ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخرو يتّخذ ما ينفق قربات عند الله ) أيثيبهم عليه؟ قال: نعم.

وفيه عن أبى عمرو الزبيريّ عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ الله سبّق بين المؤمنين كما سبّق بين الخيل يوم الرهان.

قلت: أخبرني عمّا ندب الله المؤمن من الإسباق إلى الإيمان. قال: قول الله تعالى( سابقوا إلى مغفرة من ربّكم وجنّـة عرضها كعرض السماء والأرض اُعدّت للّذين آمنوا بالله ورسله ) وقال:( السابقون السابقون اُولئك المقرّبون ) .

وقال:( والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصارو الّذين اتّبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ) فبدأ بالمهاجرين الأوّلين على درجة سبقهم ثمّ ثنّى بالأنصار ثمّ ثلّث بالتابعين وأمر [هم] بإحسان فوضع كلّ قوم على قدر درجاتهم ومنازلهم عنده.

وفي تفسير البرهان عن مالك بن أنس عن أبى صالح عن ابن عبّـاس قال:( والسابقون الأوّلون ) نزلت في أميرالمؤمنينعليه‌السلام وهو أسبق الناس كلّهم بالإيمان وصلّى على القبلتين، وبايع البيعتين بيعة بدر وبيعة الرضوان، وهاجر الهجرتين مع جعفر من مكّة إلى الحبشة ومن الحبشة إلى المدينة.

أقول: وفي معناها روايات اُخر.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن مردويه من طريق الأوزاعيّ حدّثنى يحيى بن كثير والقاسم ومكحول وعبدة بن أبى لبابة وحسّان بن عطيّـة أنّهم سمعوا جماعة من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقولون: لمّا اُنزلت هذه الآية:( والسابقون الأوّلون - إلى قوله -ورضوا عنه ) قال رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلّم): هذا لاُمّتي كلّهم، وليس بعد الرضا سخط.

أقول: معناه أنّ من رضي الله عنهم ورضوا عنه هم الّذين جمعتهم الآية لا أنّ الآية

٤٠٣

تدلّ على رضاه تعالى عن الاُمّة كلّهم فهذا ممّا يدفعه الكتاب بالمخالفة القطعيّـة، وكذا قوله:( وليس بعد الرضا سخط ) مراده ليس بعد الرضا المذكور في الآية سخط، وقد قرّرناه فيما تقدّم لا أنّه ليس بعد مطلق رضى الله سخط فهو ممّا لا يستقيم البتّـة.

وفيه أخرج أبوالشيخ وابن عساكر عن أبى صخر حميد بن زياد قال: قلت لمحمّـد بن كعب القرظىّ: أخبرني عن أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنّما اُريد الفتن. فقال: إنّ الله قد غفر لجميع أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوجب لهم الجنّـة في كتابه محسنهم ومسيئهم. قلت: وفي أيّ موضع أوجب الله لهم الجنّـة في كتابه؟ قال: ألا تقرأ:( والسابقون الأوّلون ) الآية أوجب لجميع أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الجنّـة والرضوان، وشرط على التابعين شرطاً لم يشترطه فيهم.

قلت: وما اشترط عليهم؟ قال: اشترط عليهم أن يتّبعوهم بإحسان يقول: يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة، ولا يقتدون بهم في غير ذلك. قال أبو صخر: فوالله لكأنّى لم أقرأها قبل ذلك، وما عرفت تفسيرها حتّى قرأها على محمّـد بن كعب.

أقول: هو - كما ترى - يسلّم أنّ في أعمالهم حسنة وسيّـئة وطاعة وفسقاً غير أنّ الله رضى عنهم في جميع ذلك وغفرها لهم فلا يجازيهم بالسيّـئة سيّـئة، وهو الّذى ذكرنا في البيان المتقدّم أنّ مقتضاه تكذيب آيات كثيرة قرآنيّـة تدلّ على أنّ الله لا يرضى عن القوم الفاسقين والظالمين وأنّه لا يحبّهم ولا يهديهم، وتقيد آيات أكثر من ذلك وهى أكثر الآيات القرآنيّـة الدالّة على عموم جزاء الحسنة بالحسنة والسيّـئة بالسيّـئة من غير مقيّد وعليها تعتمد آيات الأمر والنهى وهى آيات الأحكام بجملتها.

ولو كان مدلول الآية هذا الّذى ذكره لكانت الصحابة على عربيّتهم المحضة واتّصالهم بزمان النبوّة ونزول الوحى أحقّ أن يفهموا من الآية ذلك، ولو كانوا فهموا منها ذلك لما عامل بعضهم بعضاً بما ضبطه النقل الصحيح.

وكيف يمكن أن يتحقّق كلّهم بمضمون قوله:( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) ويفهموا ذلك منه ثمّ لا يرضى بعضهم عن بعض وقد رضي الله عنه، والراضي عن الله راض عمّا رضي الله عنه، ولا يندفع هذا الاشكال بحديث اجتهادهم فإنّ ذلك لو سلّم يكون عذراً

٤٠٤

في مقام العمل لا مصحّحاً للجمع بين صفتين متضادّتين وجداناً وهما الرضا عن الله وعدم الرضا عمّا رضي الله عنه والكلام طويل.

وفيه أخرج أبوعبيد وسنيد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن حبيب الشهيد عن عمرو بن عامر الأنصاريّ أنّ عمر بن الخطّاب قرء( والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوهم بإحسان ) فرفع الأنصار ولم يلحق الواو في الّذين فقال له زيد بن ثابت: والّذين فقال عمر: الّذين فقال زيد: أميرالمؤمنين أعلم فقال عمر: ائتونى باُبىّ بن كعب فأتاه فسأله عن ذلك فقال اُبىّ: والّذين فقال عمر: فنعم إذن نتابع اُبيّاً.

أقول: ومقتضى قراءة عمر اختصاص المهاجرين بما يتضمّنه قوله:( والسابقون الأوّلون ) من المنقبة ومنقبة اُخرى وهى كونهم متبوعين للأنصار كما يشير إليه الحديث الآتى.

وفيه أخرج ابن جرير وأبوالشيخ عن محمّـد بن كعب القرظىّ قال: مرّ عمر برجل يقرء( والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار ) فأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا؟ قال: اُبىّ بن كعب. قال: لا تفارقني حتّى أذهب بك إليه فلمّا جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال: نعم قال: وسمعتها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال: نعم. قال: كنت أرى أنّا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا.

فقال اُبىّ: تصديق ذلك في أوّل سورة الجمعة:( وآخرين منهم لمّا يلحقوا بهم ) وفي سورة الحشر:( والّذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الّذين سبقونا بالإيمان ) وفي الأنفال:( والّذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فاُولئك منكم ) .

وفي الكافي بإسناده عن موسى بن بكر عن رجل قال: قال أبو جعفرعليه‌السلام :( الّذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً ) فاُولئك قوم مؤمنون يحدثون في إيمانهم من الذنوب الّتى يعيبها المؤمنون ويكرهونها فاُولئك عسى الله أن يتوب عليهم.

أقول: ورواه العيّـاشيّ عن زرارة عنهعليه‌السلام إلّا أنّ فيه( مذنبون ) مكان( مؤمنون ) .

٤٠٥

وفي المجمع في قوله تعالى:( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) الآية قال: أبوحمزة الثمالىّ: بلغنا أنّهم ثلاثة نفر من الأنصار: أبو كنانة بن عبد المنذر وثعلبة بن وديعة وأوس بن حذام تخلّفوا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند مخرجه إلى تبوك فلمّا بلغهم ما أنزل الله فيمن تخلّف عن نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيقنوا بالهلاك وأوثقوا أنفسهم بسوارى المسجد فلم يزالوا كذلك حتّى قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأل عنهم فذكر له أنّهم أقسموا أن لا يحلّون أنفسهم حتّى يكون رسول الله يحلّهم، وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وأنا اُقسم لا أكون أوّل من حلّهم إلّا أن اُومر فيهم بأمر.

فلمّا نزل:( عسى الله أن يتوب عليهم ) عمد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم فحلّهم فأنطلقوا فجاؤوا بأموالهم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: هذه أموالنا الّتى خلّفتنا عنك فخذها وتصدّق بها عنّا. قال: ما اُمرت فيها، فنزل:( خذ من أموالهم صدقة ) الآيات.

أقول: وفي هذا المعنى روايات اُخرى رواها في الدرّ المنثور بينها اختلاف في أسامي الرجال، وفيها نزول آية الصدقة في خصوص أموالهم، ويضعّفها تظافر الروايات في نزول الآية في الزكاة الواجبة.

وفيه: وروى عن أبى جعفر الباقرعليه‌السلام أنّها نزلت في أبى لبابة ولم يذكر غيره معه وسبب نزولها فيه ما جرى منه في بنى قريظة حين قال: إن نزلتم على حكمه فهو الذبح.

وفي الكافي بإسناده عن عبدالله بن سنان قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : لمّا نزلت هذه الآية:( خذ من أموالهم صدقة تطهّرهم وتزكّيهم بها ) واُنزلت في شهر رمضان فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مناديه فنادى في الناس: إنّ الله فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة ففرض الله عزّوجلّ عليهم من الذهب والفضّة وفرض الصدقة من الإبل والبقر والغنم، ومن الحنطة والشعير والتمر والزبيب فنادى بهم بذلك في شهر رمضان، وعفى لهم عمّا سوى ذلك.

قال: ثمّ لم يفرض لشئ من أموالهم حتّى حال عليه الحول من قابل فصاموا وأفطروا فأمر مناديه فنادى في المسلمين: أيّها المسلمون زكّوا أموالكم تقبل صلاتكم. قال: ثمّ

٤٠٦

وجّه عمّال الصدقة وعمّال الطسوق.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن أبى شيبة والبخاريّ ومسلم وأبو داود والنسائيّ وابن ماجه وابن المنذر وابن مردويه عن عبدالله بن اُبىّ أوفى قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا اُتى بصدقة قال: اللّهمّ صلّ على آل فلان فأتاه أبى بصدقته فقال: اللّهمّ صلّ على آل أبى أوفى.

وفي تفسير البرهان عن الصدوق بإسناده عن سليمان بن مهران عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قوله تعالى:( ويأخذ الصدقات ) قال: يقبلها من اهلها ويثيب عليها.

وفي تفسير العيّـاشيّ عن مالك بن عطيّـة عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: قال علىّ بن الحسينعليه‌السلام : ضمنت على ربّى أنّ الصدقة لا تقع في يد العبد حتّى تقع في يد الربّ، وهو قوله:( هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ) .

اقول: وفي معناه روايات اُخرى مرويّـة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلىّ وأبى جعفر وأبى عبداللهعليهم‌السلام .

وفي بصائر الدرجات بإسناده عن محمّـد بن مسلم عن أبى جعفرعليه‌السلام قال: سألت عن الأعمال هل تعرض على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال: ما فيه شكّ. قال: أرأيت قول الله( اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) فقال: لله شهداء في خلقه.

أقول: وفي معناه روايات متظافرة متكاثرة مرويّـة في جوامع الشيعة عن أئمّـة أهل البيتعليهم‌السلام ، وفي أكثرها: أنّ( المؤمنون ) في الآية هم الأئمّة، وانطباقها على ما قدّمناه من التفسير ظاهر.

وفي الكافي بإسناده عن زرارة عن أبى جعفرعليه‌السلام في قول الله( وآخرون مرجون لأمر الله ) قال: قوم كانوا مشركين فقتلوا مثل حمزة وجعفراً و أشباههما من المسلمين ثمّ إنّهم دخلوا في الإسلام فوحّدوا الله وتركوا الشرك، ولم يعرفوا الإيمان بقلوبهم فيكونوا من المؤمنين فيجب لهم الجنّـة، ولم يكونوا على جحودهم فيكفروا فيجب لهم النار فهم على تلك الحال مرجون لأمر الله إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم.

٤٠٧

أقول: ورواه العيّـاشيّ في تفسيره عن زرارة عنهعليه‌السلام وفي معناه روايات اُخر.

وفي تفسير العيّـاشيّ عن حمران قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن المستضعفين قال: هم ليسوا بالمؤمنين ولا بالكفّـار فهم المرجون لأمر الله.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله:( وآخرون مرجون لأمر الله ) قال: هم الثلاثة الّذين خلّفوا.

أقول: وروى مثله عن مجاهد وقتادة وأنّ أسماءهم هلال بن اُميّة، ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك من الأوس والخزرج، ولا تنطبق قصّتهم على هذه الآية وسيجى، إن شاء الله تعالى.

( كلام في الزكاة وسائر الصدقة)

الابحاث الاجتماعيّـة والاقتصاديّة وسائر الأبحاث المرتبطة بها جعلت اليوم حاجة المجتمع من حيث أنّه مجتمع إلى مال يختصّ به ويصرف لرفع حوائجه العامّة في صفّ البديهيّات الّتى لا يشكّ فيها شاكّ ولا يداخلها ريب فكثير من المسائل الاجتماعيّـة والاقتصاديّة - ومنها هذه المسألة - كانت في الأعصار السالفة ممّا يغفل عنها عامّة الناس ولا يشعرون بها إلّا شعوراً فطريّاً إجماليّاً وهى اليوم من الأبجديّات الّتى يعرفها العامّة والخاصّـة.

غير أنّ الإسلام بحسب ما بيّن من نفسيّـة الإجتماع وهويّته وشرع من الأحكام الماليّـة الراجعة إليها، والأنظمة والقوانين الّتى رتّبها في أطرافها ومتونها له اليد العليا في ذلك.

فقد بيّن القرآن الكريم أنّ الاجتماع يصيغ من عناصر الأفراد المجتمعين صيغة جديدة فيكوّن منهم هويّة جديدة حيّة هي المجتمع، وله من الوجود والعمر والحياة والموت والشعور والإرادة والضعف و القوّة والتكليف والإحسان والإساءة والسعادة والشقاوة أمثال أو نظائر ما للإنسان الفرد وقد نزلت في بيان ذلك كلّه آيات كثيرة قرآنيّـة كرّرنا الإشارة إليها في خلال الأبحاث السابقة.

٤٠٨

وقد عزلت الشريعة الإسلاميّـة سهماً من منافع الأموال وفوائدها للمجتمع كالصدقة الواجبة الّتى هي الزكاة وكالخمس من الغنيمة ونحوها، ولم يأت في ذلك ببدع فإنّ القوانين والشرائع السابقة عليها كشريعة حمورابي وقوانين الروم القديم يوجد فيها أشياء من ذلك بل سائر السنن القوميّـة في أيّ عصر، وبين أيّة طائفة دارت لا يخلو عن اعتبار جهة ماليّـة لمجتمعها فالمجتمع كيفما كان يحسّ بالحاجة الماليّـة في سبيل قيامه ورشده.

غير أنّ الشريعة الإسلاميّـة تمتاز في ذلك من سائر السنن والشرائع باُمور يجب إمعان النظر فيها للحصول على غرضها الحقيقيّ ونظرها المصيب في تشريعها وهى:

أولا: أنّها اقتصرت في وضع هذا النوع من الجهات الماليّـة على كينونة الملك وحدوثه موجوداً ولم يتعدّ ذلك، وبعبارة اُخرى إذا حدثت ماليّـة في ظرف من الظروف كغلّة حاصلة عن زراعة أو ربح عائد من تجارة أو نحو ذلك بادرت فوضعت سهماً منها ملكاً للمجتمع وبقيّة السهام ملكاً لمن له رأس المال أو العمل مثلاً، وليس عليه إلّا أن يردّ مال المجتمع وهو السهم إليه.

بل ربّما كان المستفاد من أمثال قوله تعالى:( خلق لكم ما في الأرض جميعاً ) البقرة: ٢٩ وقوله:( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم الّتى جعل الله لكم قياماً ) النساء: ٥ أنّ الثروة الحادثة عند حدوثها للمجتمع بأجمعها ثمّ اختصّ سهم منها للفرد الّذى نسمّيه المالك أو العامل، وبقى سهم أعني سهم الزكاة أو سهم الخمس في ملك المجتمع كما كان فلمالك الفرد مالك في طول مالك وهو المجتمع، وقد تقدّم بعض البحث عن ذلك في تفسير الآيتين.

و بالجملة فالّذي وضعته الشريعة من الحقوق الماليّـة كالزكاة والخمس مثلاً إنّما وضعته في الثروة الحادثة عند حدوثها فشرّكت المجتمع مع الفرد من رأس ثمّ الفرد في حريّة من ماله المختصّ به يضعه حيث يشاء من أغراضه المشروعة من غير أن يعترضه في ذلك معترض إلّا أن يدهم المجتمع من المخاطر العامّة ما يجب معه صرف شئ من رؤوس الأموال في سبيل حفظ حياته كعدوّ هاجم يريد أن يهلك الحرث والنسل، والمخمصة

٤٠٩

العامّة الّتى لا تبقى ولا تذر.

وأمّا الوجوه الماليّـة المتعلّقة بالنفوس أو الضياع والعقار أو الأموال التجاريّة عند حصول شرائط أو في أحوال خاصّـة كالعشر المأخوذ في الثغور ونحو ذلك فإنّ الإسلام لا يرى ذلك بل يعدّه نوعاً من الغصب وظلماً يوجب تحديداً في حريّة المالك في ملكه.

ففى الحقيقة لا يأخذ المجتمع من الفرد إلّا مال نفسه الّذى يتعلّق بالغنيمة والفائدة عند أوّل حدوثه ويشارك الفرد في ملكه على نحو يبيّنه الفقه الإسلاميّ مشروحاً، وأمّا إذا انعقد الملك واستقرّ لمالكه فلا اعتراض لمعترض على مالك في حال أو عند شرط، يوجب قصور يده وزوال حرّيتّه.

وثانياً: أنّ الإسلام يعتبر حال الأفراد في الأموال الخاصّـة بالمجتمع كما يعتبر حال المجتمع بل الغلبة في ما يظهر من نظره لحالهم على حاله فإنّه يجعل السهام في الزكاة ثمانية لا يختصّ بسبيل الله منها إلّا سهم واحد وباقى السهام للأفراد كالفقراء والمساكين والعاملين والمؤلّفة قلوبهم وغيرهم، وفي الخمس ستّة لم يجعل لله سبحانه إلّا سهم واحد والباقى للرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.

وذلك أنّ الفرد هو العنصر الوحيد لتكوّن المجتمع، ورفع اختلاف الطبقات الّذى هو من اُصول برنامج الإسلام، وإلقاء التعادل والتوازن بين قوى المجتمع المختلفة وتثبيت الاعتدال في مسيره بأركانه وأجزائه لا يتمّ إلّا بإصلاح حال الأجزاء أعني الأفراد وتقريب أحوالهم بعضهم من بعض.

وأمّا قصر مال المجتمع في صرفه في إيجاد الشوكة العامّة والتزيينات المشتركة ورفع القصور المشيدة العالية والأبنية الرفيعة الفآخرة وتخلية القوىّ والضعيف أو الغنىّ والفقير على حالهما لا يزيدان كلّ يوم إلّا ابتعاداً فلتدلّ التجربة الطويلة القطعيّـة أنّه لا يدفع غائلاً ولا يغنى طائلاً.

وثالثاً: أنّ للفرد من المسلمين أن يصرف ما عليه من الحقّ المالىّ الواجب كالزكاة مثلاً في بعض أرباب السهام كالفقير والمسكين من دون أن يؤدّيه إلى ولىّ الأمر أو

٤١٠

عامله في الجملة فيردّه هو إلى مستحقّيه.

وهذا نوع من الاحترام الاستقلاليّ الّذى اعتبره الإسلام لأفراد مجتمعه نظير إعطاء الذمّة الّذى لكلّ فرد من المسلمين أن يقوم به لمن شاء من الكفّـار المحاربين وليس للمسلمين ولا لولىّ أمرهم أن ينقض ذلك.

نعم لولىّ الأمر إذا رأى في مورد أنّ مصلحة الإسلام والمسلمين في خلاف ذلك أن ينهى عن ذلك فيجب الكفّ عنه لوجوب طاعته.

٤١١

( سورة التوبة آيه ١٠٧ - ١١٠)  

وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى‏ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ١٠٧ ) لاَتَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التّقْوَى‏ مِنْ أَوّلِ يَوْمٍ أَحَقّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبّونَ أَن يَتَطَهّرُوا وَاللّهُ يُحِبّ الْمُطّهّرِينَ ( ١٠٨ ) أَفَمَنْ أَسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى‏ تَقْوَى‏ مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَنْ أَسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى‏ شَفا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنّمَ وَاللّهُ لاَيَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ ( ١٠٩ ) لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلّا أَن تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١١٠ )

( بيان)

تذكر الآيات طائفة اُخرى من المنافقين بنوا مسجد الضرار وتقيس حالهم إلى حال جماعة من المؤمنين بنوا مسجداً لتقوى الله.

قوله تعالى: ( والّذين اتّخذوا مسجداً ضراراً وكفراً ) إلى آخر الآية، الضرار والمضارّة إيصال الضرر، والإرصاد اتّخاذ الرصد والانتظار والترقّب.

وقوله:( والّذين اتّخذوا مسجداً ضراراً ) إن كانت الآيات نازلة مع ما تقدّمها من الآيات النازلة في المنافقين فالعطف على من تقدّم ذكرهم من طوائف المنافقين المذكورين بقوله: ومنهم، ومنهم أي ومنهم الّذين اتّخذوا مسجداً ضراراً.

وإن كانت مستقلّة بالنزول فالوجه كون الواو استئنافيّة وقوله:( الّذين اتّخذوا ) مبتدءً خبره قوله:( لا تقم فيه أبداً ) ويمكن إجراء هذا الوجه على التقدير السابق أيضاً،

٤١٢

وقد ذكر المفسّرون في إعراب الآية وجوهاً اُخرى لا تخلو عن تكلّف تركناها.

وقد بيّن الله غرض هذه الطائفة من المنافقين في اتّخاذ هذا المسجد وهو الضرار بغيرهم والكفر والتفريق بين المؤمنين والإرصاد لمن حارب الله ورسوله، والأغراض المذكورة خاصّـة ترتبط إلى قصّة خاصّـة بعينها، وهى على ما اتّفق عليه أهل النقل أنّ جماعة من بنى عمرو بن عوف بنوا مسجد قُبا وسألوا النبيّ أن يصلّى فيه فصلّى فيه فحسدهم جماعة من بنى غنم بن عوف وهم منافقون فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قبا ليضرّوا به ويفرّقوا المؤمنين منه وينتظروا لأبي عامر الراهب الّذى وعدهم أن يأتيهم بجيش من الروم ليخرجوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المدينة، وأمرهم أن يستعدّوا للقتال معهم.

ولمّا بنوا المسجد أتوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يتجهّز إلى تبوك وسألوه أن يأتيه ويصلّى فيه ويدعو لهم بالبركة فوعدهم إلى الفراغ من أمر تبوك والرجوع إلى المدينة فنزلت الآيات.

فكان مسجدهم لمضارّة مسجد قبا، وللكفر بالله ورسوله، ولتفريق المؤمنين المجتمعين في قبا، ولإرصاد أبى عامر الراهب المحارب لله ورسوله من قبل، وقد أخبر الله سبحانه عنهم أنّهم ليحلفنّ إن أردنا من بناء هذا المسجد إلّا الفعلة الحسنى وهو التسهيل للمؤمنين بتكثير معابد يعبد فيها الله، وشهد تعالى بكذبهم بقوله:( وليحلفنّ إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنّهم لكاذبون ) .

قوله تعالى: ( لا تقم فيه أبداً ) إلى آخر الآية، بدء بنهي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أن يقوم فيه ثمّ ذكر مسجد قبا ورجّح القيام فيه بعد ما مدحه بقوله:( لمسجد اُسّس على التقوى من أوّل يوم أحقّ أن تقوم فيه ) فمدحه بحسن نيّة مؤسّسيه من أوّل يوم وبنى عليه رجحان القيام فيه على القيام في مسجد الضرار.

والجملة وإن لم تفد تعيّـن القيام في مسجد قبا حيث عبّر بقوله: أحقّ، غير أنّ سبق النهى عن القيام في مسجد الضرار يوجب ذلك، وقوله تعالى:( فيه رجال يحبّون أن يتطهّروا ) تعليل للرجحان السابق، وقوله:( والله يحبّ المطّهّرين ) متمّم للتعليل المذكور، وهذا هو الدليل على أنّ المراد بقوله:( لمسجد اُسّس ) الخ هو مسجد قبا لا

٤١٣

مسجد النبيّ أو غيره.

ومعنى الآية: لا تقم أي للصلاة في مسجد الضرار أبداً، اُقسم، لمسجد قُبا الّذى هو مسجد اُسّس على تقوى الله من أوّل يوم أحقّ وأحرى أن تقوم فيه للصلاة وذلك أنّ فيه رجالاً يحبّون التطهّر من الذنوب أو من الأرجاس والأحداث والله يحب المطّهّرين وعليك أن تقوم فيهم.

وقد ظهر بذلك أنّ قوله:( لمسجدٌ اُسّس ) الخ، بمنزلة التعليل لرجحان المسجد على المسجد وقوله:( فيه رجال ) الخ، لإفادة رجحان أهله على أهله، وقوله الآتى:( أفمن اُسّس بنيانه ) الخ، لبيان الرجحان الثاني.

قوله تعالى: ( أفمن أسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير ) إلى آخر الآية شفا البئر طرفه، وجرف الوادي جانبه الّذى انحفر بالماء أصله وهار الشئ يهار فهو هائر وربّما يقال: هارٍ بالقلب وانهار ينهار انهياراً أي سقط عن لين فقوله:( على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنّم ) استعارة تخييليّة شبّه فيها حالهم بحال من بنى بنياناً على نهاية شفير واد لا ثقة بثباتها وقوامها فتساقطت بما بنى عليه من البنيان وكان في أصله جهنّم فوقع في ناره، وهذا بخلاف من بنى بنيانه على تقوى من الله ورضوان منه أي جرى في حياته على اتّقاء عذاب الله وابتغاء رضاه.

وظاهر السياق أنّ قوله:( أفمن أسّس بنيانه على تقوى ) الخ، وقوله:( أم من أسّس بنيانه على شفا جرف ) الخ، مثلاًن يمثّل بهما بنيان حياة المؤمنين والمنافقين وهو الدين والطريق الّذى يجريان عليه فيها فدين المؤمن هو تقوى الله وابتغاء رضوانه عن يقين به، ودين المنافق مبنىّ على التزلزل والشكّ.

ولذلك أعقبه الله تعالى وزاد في بيانه بقوله:( لا يزال بنيانهم ) يعنى المنافقين( الّذى بنوا ريبة ) وشكّاً( في قلوبهم ) لا يتعدّى إلى مرحلة اليقين( إلّا أن تقطّع قلوبهم ) فتتلاشى الريبة بتلاشيها( والله عليم حكيم ) ولذلك يضع هؤلاء ويرفع اُولئك.

٤١٤

( بحث روائي)

في المجمع قال المفسّرون: إنّ بنى عمرو بن عوف اتّخذوا مسجد قبا، وبعثوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأتيهم فأتاهم وصلّى فيه فحسدهم جماعة من المنافقين من بنى غنم بن عوف فقالوا: نبنى مسجداً فنصلّى فيه ولا نحضر جماعة محمّـد، وكانوا اثنى عشر رجلاً، وقيل: خمسة عشر رجلاً، منهم: ثعلبة بن حاطب ومعتّب بن قشيرو نبتل ابن الحارث فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قبا.

فلمّا بنوه أتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يتجهّز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله إنّا قد بنينا مسجداً لذى العلّة والحاجة واللّيلة الممطرة واللّيلة الشاتية، وإنّا نحبّ أن تأتينا فتصلّى فيه لناو تدعو بالبركة فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّى على جناح سفرو لو قدمنا أتيناكم إن شاء الله فصلّينا لكم فيه، فلمّا انصرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تبوك نزلت عليه الآية في شأن لمسجد.

قال: فوجّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند قدومه من تبوك عاصم بن عوف العجلانيّ ومالك بن الدخشم وكان مالك من بنى عمرو بن عوف فقال لهما: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرّقاه، وروى أنّه بعث عمّار بن ياسر ووحشيّاً فحرّقاه، وأمر بأن يتّخذ كناسة يلقى فيها الجيف.

أقول: وفي رواية القمّىّ أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث لذلك مالك بن دخشم الخزاعىّ وعامر بن عدىّ أخا بنى عمرو بن عوف فجاء مالك وقال لعامر: انتظرني حتّى اُخرج ناراً من منزلي، فدخل وجاء بنار وأشعل في سعف النخل ثمّ أشعله في المسجد فتفرّقوا، وقعد زيد بن حارثة حتّى احترقت البنيّة ثمّ أمر بهدم حائطه.

والقصّة مرويّة بطرق كثيرة من طرق أهل السنّة، والروايات متقاربة إلّا أنّ في أسامي من بعثه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اختلافاً.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن المنذر وابن أبى حاتم عن ابن إسحاق قال: كان الّذين بنوا

٤١٥

مسجد الضرار اثنى عشر رجلاً: خذمّ بن خالد بن عبيد بن زيد، وثعلبة بن حاطب وهلال بن أميّة، ومعتّب بن قشير، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعبّاد بن حنيف، وجارية بن عامر وابناه مجمّع وزيد، ونبتل بن الحارث، وبخدج بن عثمان(١) ووديعة بن ثابت.

وفي المجمع في قوله:( وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله ) قال: هو أبو عامر الراهب، قال وكان من قصّته أنّه كان قد ترهّب في الجاهليّـة ولبس المسوح فلمّا قدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة حسده، وحزّب عليه الأحزاب ثمّ هرب بعد فتح مكّة إلى الطائف فلمّا أسلم أهل الطائف لحق بالشام، وخرج إلى الروم وتنصّر وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة الّذى قتل مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم اُحد و كان جنباً فغسلته الملائكة.

وسمّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا عامر الفاسق، وكان قد أرسل إلى المنافق أن استعدّوا وابنوا مسجداً فإنّى أذهب إلى قيصر وآتى من عنده بجنود، وأخرج محمّـداً من المدينة فكان هؤلاء المنافقون يتوقّعون أن يجيئهم أبو عامر فمات قبل أن يبلغ ملك الروم.

أقول: وفي معناه عدّة من الروايات.

وفي الكافي بإسناده عن الحلبيّ عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن المسجد الّذى اُسّس على التقوى فقال: مسجد قبا.

أقول: ورواه العيّـاشيّ في تفسيره، وروى هذا المعنى أيضاً في الكافي بإسناده عن معاوية بن عمّار عنهعليه‌السلام .

وقد روى في الدرّ المنثور بغير واحد من الطرق عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: هو مسجدي هذا، وهو مخالف لظاهر الآية وخاصّـة قوله:( فيه رجال ) الخ، فإنّ الكلام موضوع في القياس بين المسجدين: مسجد قبا ومسجد الضرار والقياس بين أهليهما ولا غرض يتعلّق بمسجد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي تفسير العيّـاشيّ عن الحلبيّ عن الصادقعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله: فيه( رجال يحبّون أن يتطهّروا ) قال: الّذين يحبّون أن يتطهّروا نظف الوضوء وهو الاستنجاء بالماء وقال: قال: نزلت هذه في أهل قبا.

____________________

(١) وفي السيرة: يجاد بن عثمان وهو الصحيح (ب).

٤١٦

وفي المجمع في الآية قال: يحبّون أن يتطهّروا بالماء عن الغائط والبول وهو المروىّ عن السيّدين: الباقر والصادقعليهما‌السلام ، وروى عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لأهل قبا: ما ذا تفعلون في طهركم فإنّ الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء؟ قالوا: نغسل أثر الغائط. فقال: أنزل الله فيكم:( والله يحبّ المطهّرين ) .

وفيه في قراءة قوله:( إلّا أن تقطّع قلوبهم ) وقرء يعقوب وسهل:( إلى أن ) على أنّه حرف الجرّ، وهو قراءة الحسن وقتادة والجحدريّ وجماعة، ورواه البرقىّ عن أبى عبداللهعليه‌السلام .

٤١٧

( سورة التوبة آيه ١١١ - ١٢٣)  

إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنّ لَهُمُ الْجَنّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى‏ بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١١١ ) التّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السّائِحُونَ الرّاكِعُونَ السّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( ١١٢ ) مَا كَانَ لِلنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى‏ مِن بَعْدِ مَاتَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( ١١٣ ) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلّا عَن مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيّاهُ فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أَنّهُ عَدُوّ للّهِ‏ِ تَبَرّأَ مِنْهُ إِنّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوّاهٌ حَلِيمٌ ( ١١٤ ) وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتّى‏ يُبَيّنَ لَهُم مَايَتّقُونَ إِنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ ( ١١٥ ) إِنّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيّ وَلاَنَصِيرٍ ( ١١٦ ) لَقَد تَابَ اللّهُ عَلَى النّبِيّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِمَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ( ١١٧ ) وَعَلَى الثّلاَثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا حَتّى‏ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنّوا أَن لاَمَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلّا إِلَيْهِ ثُمّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنّ اللّهَ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ ( ١١٨ ) يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ ( ١١٩ ) مَاكَانَ لْأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلّفُوا عَن رَسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنّهُمْ لاَيُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ

٤١٨

نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَيَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ وَلاَيَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَيْلاً إِلّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنّ اللّهَ لاَيُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( ١٢٠ ) وَلاَيُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَيَقْطَعُونَ وَادِياً إِلّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَاكَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٢١ ) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ ( ١٢٢ ) يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُم مِنَ الْكُفّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ ( ١٢٣ )

( بيان)

آيات في أغراض متفرّقة يجمعها غرض واحد مرتبط بغرض الآيات السابقة فإنّها تتكلّم حول القتال فمنها ما يمدح المؤمنين ويعدهم وعداً جميلاً على جهادهم في سبيل الله ومنها ما ينهى عن التودّد إلى المشركين و الاستغفار لهم، ومنها ما يدلّ على توبته تعالى للثلاثة المخلّفين عن غزوة تبوك، ومنها ما يفرض على أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يخرجوا مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أراد الخروج إلى قتال ولا يتخلّفوا عنه، ومنها ما يفرض على الناس أن يلازم بعضهم البيضة للتفقّه في الدين ثمّ تبليغه إلى قومهم إذا رجعوا إليهم ومنها ما يقضى بقتال الكفّـار ممّن يلى بلاد الإسلام.

قوله تعالى: ( إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّـة ) إلى آخر الآية، الاشتراء هو قبول العين المبيعة بنقل الثمن في المبايعة.

والله سبحانه يذكر في الآية وعده القطعيّ للّذين يجاهدون في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم بالجنّـة، ويذكر أنّه ذكر ذلك في التوراة والإنجيل كما يذكره في القرآن.

٤١٩

وقد قلبه سبحانه في قالب التمثيل فصوّر ذلك بيعاً، وجعل نفسه مشترياً والمؤمنين بايعين، وأنفسهم وأموالهم سلعة ومبيعاً، والجنّـة ثمناً، والتوراة والإنجيل والقرآن سنداً للمبايعة، وهو من لطيف التمثيل ثمّ يبشّر المؤمنين ببيعهم ذلك، ويهنّئهم بالفوز العظيم.

قوله تعالى: ( التائبون العابدون الحامدون السائحون ) إلى آخر الآية، يصف سبحانه المؤمنين بأجمل صفاتهم، والصفات مرفوعة بالقطع أي المؤمنون هم التائبون العابدون الخ، فهم التائبون لرجوعهم من غير الله إلى الله سبحانه العابدون له ويعبدونه بألسنتهم فيحمدونه بجميل الثناء، وبأقدامهم فيسيحون ويجولون من معهد من المعاهد الدينيّـة ومسجد من مساجد الله إلى غيره، و بأبدانهم فيركعون له ويسجدون له.

هذا شأنهم بالنسبة إلى حال الانفراد وأمّا بالنسبة إلى حال الاجتماع فهم آمرون بالمعروف في السنّة الدينيّـة وناهون عن المنكر فيها ثمّ هم حافظون لحدود الله لا يتعدّونه في حالتى انفرادهم واجتماعهم خلوتهم وجلوتهم، ثمّ يأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يبشّرهم وقد بشّرهم تعالى نفسه في الآية السابقة، وفيه من كمال التأكيد ما لا يقدّر قدره.

وقد ظهر بما قرّرنا أوّلاً: وجه الترتيب بين الأوصاف الّتى عدّها لهم فقد بدء بأوصافهم منفردين وهى التوبة والعبادة والسياحة والركوع والسجود ثمّ ذكر ما لهم من الوصف الخاصّ بهم المنبعث عن إيمانهم مجتمعين وهو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وختم بما لهم من جميل الوصف في حالتى انفرادهم واجتماعهم وهو حفظهم لحدود الله، وفي التعبير بالحفظ مضافاً إلى الدلالة على عدم التعدّي دلالة على الرقوب والاهتمام.

وثانياً: أنّ المراد بالسياحة - ومعناه السير في الأرض - على ما هو الأنسب بسياق الترتيب هو السير إلى مساكن ذكر الله وعبادته كالمساجد، وأمّا القول بأنّ المراد بالسياحة الصيام أو السياحة في الأرض للاعتبار بعجائب قدرة الله وما جرى على الاُمم الماضية ممّا تحكيه ديارهم وآثارهم أو المسافرة لطلب العلم أو المسافرة لطلب الحديث خاصّـة فهى وجوه غير سديدة.

أمّا الأوّل: فلا دليل عليه من جهة اللّفظ البتّـة، وأمّا الوجوه الاُخر فإنّها وإن

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444