الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 97201 / تحميل: 6781
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

نزلت في ولاية علىّعليه‌السلام .

أقول: ورواه في تفسير البرهان عن ابن مردويه عن رجاله مرفوعاً إلى الإمام محمّـد بن علىّ الباقرعليه‌السلام ، وكذا عن أبى الجارود عنهعليه‌السلام كما رواه القمّىّ في تفسيره، والرواية من قبيل الجرى وكذا الرواية السابقة عليها، وقد قدّمنا في الكلام على الآية أنّها عامّـة.

وفي تفسير القمّىّ عن أبى الجارود عن الباقرعليه‌السلام في قوله تعالى:( واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه ) يقول: بين المرء ومعصيته أن يقوده إلى النار، ويحول بين الكافر وطاعته أن يستكمل بها الإيمان، واعلموا أنّ الأعمال بخواتيمها.

وفي المحاسن بإسناده عن علىّ بن الحكم عن هشام بن سالم عن الصادقعليه‌السلام في قول الله تبارك وتعالى:( واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه ) قال: يحول بينه وبين أن يعلم أنّ الباطل حقّ.

أقول: ورواه الصدوق في المعاني عن ابن أبى عمير عن هشام بن سالم عنهعليه‌السلام .

وفي تفسير العيّـاشيّ عن يونس بن عمّار عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: لا يستيقن القلب أنّ الحقّ باطل أبداً، ولا يستيقن أنّ الباطل حقّ أبداً.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن عبّـاس رضى الله عنهما قال: سألت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذه الآية:( يحول بين المرء وقلبه ) قال: يحول بين المؤمن والكفر، ويحول بين الكافر وبين الهدى.

أقول: وهو قريب من الخبر المتقدّم عن أبى الجارود عن الباقرعليه‌السلام في معنى الآية.

وفي تفسير العيّـاشيّ عن حمزة الطيّـار عن أبى عبداللهعليه‌السلام ( و اعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه ) قال: هو أن يشتهى الشئ بسمعه وبصره ولسانه ويده أما إنّه لا يغشى شيئاً منها وإن كان يشتهيه فإنّه لا يأتيه إلّا وقلبه منكر لا يقبل الّذى يأتي: يعرف أنّ الحقّ ليس فيه.

أقول: ورواه البرقىّ في المحاسن بإسناده عن حمزة الطيّـار عنهعليه‌السلام وروى ما يقرب

٦١

منه العيّـاشيّ في تفسيره عن جابر عن أبى جعفرعليه‌السلام ، ويؤول معنى الرواية إلى الروايتين المتقدّمتين عن هشام بن سالم ويونس بن عمّار عن الصادقعليه‌السلام .

وفي تفسير العيّـاشيّ عن الصيقل: سئل أبوعبداللهعليه‌السلام ( واتّقوا فتنة لا تصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّـة ) قال: اُخبرت أنّهم أصحاب الجمل.

وفي تفسير القمّىّ قال: قال: نزلت في الطلحة والزبير لمّا حاربا أميرالمؤمنينعليه‌السلام وظلماه.

وفي المجمع عن الحاكم بإسناده عن قتادة عن سعيد بن المسيّـب عن ابن عبّـاس قال: لمّا نزلت هذه الآية( واتّقوا فتنة ) قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من ظلم عليّـاً مقعدي هذا بعد وفاتي فكأنّما جحد نبوّتى ونبوّة الأنبياء من قبلى.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن أبى شيبة وعبد بن حميد ونعيم بن حمّاد في الفتن وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبوالشيخ وابن مردويه عن الزبير رضى الله عنه قال: لقد قرأنا زماناً وما نرى أنّا من أهلها فإذا نحن المعنيّـون بها:( واتّقوا فتنة لا تصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّـة ) .

وفيه أخرج ابن جرير وأبوالشيخ عن السدّىّ في الآية قال: هذه نزلت في أهل بدر خاصّـة فإصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا فكان من المقتولين طلحة والزبير وهما من أهل بدر.

وفيه أخرج أحمد والبزّاز وابن المنذر وابن مردويه وابن عساكر عن مطرف قال: قلنا للزبير: يا أباعبدالله ضيّعتم الخليفة حتّى قتل ثمّ جئتم تطلبون بدمه؟ فقال الزبير رضى الله عنه: إنّـا قرأنا على عهد رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلّم ) وأبى بكر وعمر وعثمان( واتّقوا فتنة لا تصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّـة ) ولم نكن نحسب أنّا أهلها حتّى وقعت فينا حيث وقعت.

وفيه أخرج عبد بن حميد وأبوالشيخ عن قتادة رضى الله عنه في الآية قال: علم والله ذووا الألباب من أصحاب محمّـد (صلّى الله عليه و آله و سلّم ) أنّه سيكون فتن.

وفيه: أخرج أبوالشيخ وأبونعيم والديلميّ في مسند الفردوس عن ابن عبّـاس رضى الله عنهما عن رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلّم ) في قوله:( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون

٦٢

في الأرض تخافون أن يتخطّفكم الناس ) قيل: يا رسول الله ومن الناس؟ قال: أهل فارس.

اقول: والرواية لا تلائم سياق الآية.

وفيه في قوله تعالى:( يا أيّها الّذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول ) الآية أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبوالشيخ عن جابر بن عبدالله رضى الله عنه أنّ أباسفيان خرج من مكّة فأتى جبرائيل النبيّ (صلّى الله عليه و آله و سلّم ) فقال: إنّ أباسفيان بمكان كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا فكتب رجل من المنافقين إلى أبى سفيان أنّ محمّـداً يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله:( لا تخونوا الله والرسول ) الآية.

اقول: ومعنى الرواية قريب الانطباق على ما استفدناه من الآية في البيان المتقدّم.

وفيه: أخرج ابن جرير عن المغيرة بن شعبة قال: نزلت هذه الآية في قتل عثمان.

اقول: والآية لا تنطبق عليه بسياقها البتّـة.

وفي المجمع عن الباقر والصادقعليهم‌السلام والكلبيّ والزهرىّ: نزلت في أبى لبابة بن عبد المنذر الأنصاريّ، وذلك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصلح على ما صالح عليه إخوانهم من بنى النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات وأريحات من أرض الشام فأبى أن يعطيهم ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة وكان مناصحاً لهم لأنّ عياله وماله وولده كانت عندهم فبعثه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتاهم فقالوا: ما ترى يا أبا لبابة؟ أننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبولبابة بيده إلى حلقه: أنّه الذبح فلا تفعلوا فأتاه جبرئيل فأخبره بذلك.

قال أبولبابة: فوالله ما زالت قدماى عن مكانهما حتّى عرفت أنّى قد خنت الله ورسوله فنزلت الآية فيه فلمّا نزلت شدّ نفسه على سارية من سوارى المسجد، وقال: والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتّى أموت أو يتوب الله علىّ فمكث سبعة أيّـام لا يذوق فيها طعاماً ولا شراباً حتّى خرّ مغشيّـاً عليه ثمّ تاب الله عليه فقيل له: يا أبالبابة قد تيب عليك

٦٣

فقال: لا والله لا أحلّ نفسي حتّى يكون رسول الله هو الّذى يحلّنى فجاءه وحلّه بيده.

ثمّ قال أبولبابة: إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي الّتى أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالى. فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يجزيك الثلث أن تصدّق به.

اقول: قصّة أبى لبابة وتوبته صحيحة قابلة الانطباق على مضمون الآيتين غير أنّها وقعت بعد قصّة بدر بكثير، وظاهر الآيتين إذا اعتبرتا وقيستا إلى الآيات السابقة عليهما أنّ الجميع في سياق واحد نزلت بعد وقعة بدر بقليل. والله أعلم.

٦٤

( سورة الانفال آيه ٣٠ - ٤٠)

وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( ٣٠ ) وَإِذَا تُتْلَى‏ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذَاإِنْ هذَا إِلّا أَسَاطِيرُ الْأَوّلِينَ ( ٣١ ) وَإِذْ قَالُوا اللّهُمّ إِن كَانَ هذَا هُوَ الْحَقّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السّماءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٣٢ ) وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( ٣٣ ) وَمَا لَهُمْ أَلّا يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلّا الْمُتّقُونَ وَلكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَيَعْلَمُونَ ( ٣٤ ) وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ( ٣٥ ) إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدّوا عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمّ يُغْلَبُونَ وَالّذِينَ كَفَرُوا إِلَى‏ جَهَنّمَ يُحْشَرُونَ ( ٣٦ ) لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى‏ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( ٣٧ ) قُل لِلّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنّتُ الْأَوّلِينَ ( ٣٨ ) وَقَاتِلُوهُمْ حَتّى‏ لاَتَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلّهُ للّهِ‏ِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٣٩ ) وَإِن تَوَلّوْا فَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى‏ وَنِعْمَ النّصِيرُ ( ٤٠ )

٦٥

( بيان)

الآيات في سياق الآيات السابقة وهى متّصلة بها ومنعطفة على آيات أوّل السورة إلّا قوله:( وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ ) الآية والآية الّتى تليها، فإنّ ظهور اتّصالها دون بقيّـة الآيات، وسيجئ الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ) إلى آخر الآية، قال الراغب: المكر صرف الغير عمّا يقصده بحيلة، وذلك ضربان: ضرب محمود وذلك أن يتحرّى به فعل جميل وعلى ذلك قال: والله خير الماكرين، ومذموم وهو أن يتحرّى به فعل قبيح قال: ولا يحيق المكر السيّئ إلّا بأهله. واذ يمكر بك الّذين كفروا. فانظر كيف كان عاقبة مكرهم، وقال في الأمرين: ومكروا مكراً ومكرنا مكراً، وقال بعضهم: من مكر الله إمهال العبد وتمكينه من أعراض الدنيا، ولذلك قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : من وُسّع عليه دنياه ولم يعلم أنّه مكر به فهو مخدوع عن عقله. انتهى.

وفي المجمع: الإثبات الحبس يقال: رماه فأثبته أي حبسه مكانه، وأثبته في الحرب أي جرحه جراحة مثقلة. انتهى.

ومقتضى سياق الآيات أن يكون قوله:( واذ يمكر بك الّذين كفروا ) الآية معطوفة على قوله سابقاً:( واذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنّها لكم ) فالآية مسوقة لبيان ما أسبغ الله عليهم من نعمته، وأيّـدهم به من أياديه الّتى لم يكن لهم فيها صنع.

ومعنى الآية: واذكر أو وليذكروا إذ يمكر بك الّذين كفروا من قريش لإبطال دعوتك أن يوقعوا بك أحد اُمور ثلاثة: إمّا أن يحبسوك وإمّا أن يقتلوك وإمّا أن يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.

والترديد في الآية بين الحبس والقتل والإخراج بياناً لما كانوا يمكرونه من مكر يدلّ أنّه كان منهم شورى يشاور فيها بعضهم بعضاً في أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما كان يهمّهم ويهتمّون به من إطفاء نور دعوته، وبذلك يتأيّد ما ورد من أسباب النزول أنّ الآية تشير إلى قصّة دار الندوة على ما سيجئ في البحث الروائيّ التالى إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا )

٦٦

إلى آخر الآية الأساطير الأحاديث جمع اُسطورة ويغلب في الأخبار الخرافيّـة، وقوله حكاية عنهم:( قد سمعنا ) وقوله:( لو نشاء لقلنا ) وقوله:( مثل هذا ) ولم يقل: مثل هذه أو مثلها كلّ ذلك للدلالة على إهانتهم بآيات الله وإزرائهم بمقام الرسالة، ونظيرها قولهم:( إن هذا إلّا اساطير الأوّلين ) .

والمعنى: وإذا تتلى عليهم آياتنا الّتى لا ريب في دلالتها على أنّها من عندنا وهى تكشف عن ما نريده منهم من الدين الحقّ لجّوا واعتدوا بها وهوّنوا أمرها وأزروا برسالتنا وقالوا قد سمعنا وعقلنا هذا الّذى تلى علينا لا حقيقة له إلّا أنّه من أساطير الأوّلين، ولو نشاء لقلنا مثله غير أنّا لا نعتني به ولا نهتمّ بأمثال هذه الأحاديث الخرافيّـة.

قوله تعالى: ( وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك ) إلى آخر الآيتين. الإمطار هو إنزال الشئ من فوق، وغلب في قطرات الماء من المطر أو هو استعارة امطار المطر لغيره كالحجارة وكيف كان فقولهم: امطر علينا حجارة من السماء بالتصريح باسم السماء للدلالة على كونه بنحو الآية السماويّـة والإهلاك الإلهىّ محضاً.

فإمطار الحجارة من السماء عليهم على ما سألوا أحد أقسام العذاب ويبقى الباقي تحت قولهم:( أو ائتنا بعذاب أليم ) ولذلك نكّر العذاب وأبهم وصفه ليدلّ على باقى أقسام العذاب، ويفيد مجموع الكلام: أن أمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب آخر غيره يكون أليماً، وإنّما أفرد إمطار الحجارة من بين أفراد العذاب الأليم بالذكر لكون الرضخ بالحجارة ممّا يجتمع فيه عذاب الجسم بما فيه من تألّم البدن وعذاب الروح بما فيه من الذلّة والإهانة.

ثمّ قوله:( إن كان هذا هو الحقّ من عندك ) يدلّ بلفظه على أنّ الّذى سمعوه من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلسان القال أو الحال بدعوته هو قوله:( هذا هو الحقّ من عند الله ) وفيه شئ من معنى الحصر، وهذا غير ما كان يقوله لهم: هذا حقّ من عند الله فإنّ القول الثاني يواجه به الّذى لا يرى ديناً سماويّـاً ونبوّة إلهيّـة كما كان يقوله المشركون وهم الوثنيّـة: ما أنزل الله على بشر من شئ، وأمّا القول الأوّل فإنّما يواجه به من يرى أنّ هناك ديناً حقّاً من عند الله ورسالة إلهيّـة يبلّغ الحقّ من عنده ثمّ ينكر كون ما أتى به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بعض ما أتى به هو الحقّ من عند الله تعالى فيواجه بأنّه هو الحقّ من

٦٧

عند الله لا غيره، ثمّ يردّ بالاشتراط في مثل قوله: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم.

فالأشبه أن لا يكون هذا حكاية عن بعض المشركين بنسبته إلى جميعهم لاتّفاقهم في الرأى أو رضا جميعهم بما قاله هذا القائل بل كأنّه حكاية عن بعض أهل الردّة ممّن أسلم ثمّ ارتدّ أو عن بعض أهل الكتاب المعتقدين بدين سماويّ حقّ فافهم ذلك.

ويؤيّد هذا الآية التالية لهذه الآية:( وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون ) أمّا قوله:( وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم ) فإن كان المراد به نفى تعذيب الله كفّـار قريش بمكّة قبل الهجرة والنبىّ فيهم كان مدلوله أنّ المانع من نزول العذاب يومئذ هو وجود النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينهم، والمراد بالعذاب غير العذاب الّذى جرى عليهم بيد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القتل والأسر كما سمّاه الله في الآيات السابقة عذاباً، وقال في مثلها:( قل هل تربّصون بنا إلّا إحدي الحسنيين ونحن نتربّص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ) التوبة: ٥٢، بل عذاب الاستئصال بآية سماويّـة كما جرى في اُمم الأنبياء الماضين لكنّ الله سبحانه هددّهم بعذاب الاستئصال في آيات كثيرة كقوله تعالى:( فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) حم السجدة: ١٣، وكيف يلائم أمثال هذه التهديدات قوله:( وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم ) لو كان المراد بالمعذّبين هم كفّـار قريش ومشركوا العرب ما دام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة.

ولو كانّ المراد بالمعذّبين جميع العرب أو الاُمّـة، والمراد بقوله:( وأنت فيهم ) حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمعنى: ولا يعذّب الله هذه الاُمّـة وأنت فيهم حيّاً كما ربّما يؤيّده قوله بعده:( وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون ) كان ذلك نفياً للعذاب عن جميع الاُمّـة ولم يناف نزوله على بعضهم كما سمّى وقوع القتل بهم عذاباً كما في الآيات السابقة، وكما ورد أنّ الله تعالى عذّب جمعاً منهم كأبى لهب والمستهزئين برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى هذا لا تشمل الآية القائلين:( اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك ) إلى آخر الآية، وخاصّـة باعتبار ما روى أنّ القائل به أبوجهل كما في صحيح البخاريّ أو النضر بن الحارث بن كلدة كما في بعض روايات اُخر وقد حقّت عليهما كلمة العذاب وقتلا يوم بدر فلا ترتبط الآية:

٦٨

( وما كان الله ليعذّبهم ) الآية، بهؤلاء القائلين:( اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك ) الآية مع أنّها مسوقة سوق الجواب عن قولهم.

ويشتدّ الإشكال بناءً على ما وقع في بعض اسباب النزول أنّهم قالوا: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فنزل قوله تعالى:( سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع ) وسيجئ الكلام فيه وفي غيره من أسباب النزول المرويّـة في البحث الروائيّ التالى إن شاء الله.

والّذى تمحّل به بعض المفسّرين في توجيه مضمون الآية بناء على حملها على ما مرّ من المعنى أنّ الله سبحانه أرسل محمّـداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رحمة للعالمين ونعمة لهذه الاُمّـة لا نقمة وعذاباً. فيه أنّه ليس مقتضى الرحمة للعالمين أن يهمل مصلحة الدين، ويسكت عن مظالم الظالمين وإن بلغ ما بلغ وأدّى إلى شقاء الصالحين واختلال نظام الدنيا والدين، وقد حكى الله سبحانه عن نفسه بقوله:( ورحمتي وسعت كلّ شئ ) ولم يمنع ذلك من حلول غضبه على من حلّ به من الاُمم الماضية والقرون الخالية كما ذكره في كلامه.

على أنّه تعالى سمّى ما وقع على كفّـار قريش من القتل والهلاك في بدر وغيره عذاباً ولم يناف ذلك قوله:( وما أرسلناك إلّا رحمة للعالمين ) الأنبياء: ١٠٧، وهدّد هذه الاُمّـة بعذاب واقع قطعيّ في سور يونس والإسراء والأنبياء والقصص والروم والمعارج وغيرها ولم يناف ذلك كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رحمة للعالمين فما بال نزول العذاب على شرذمة تفوّهت بهذه الكلمة:( اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ ) الخ، ينافى قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبىّ الرحمة مع أنّ من مقتضى الرحمة أن يوفّى لكلّ ذى حقّ حقّه، وأن يقتصّ للمظلوم من الظالم وأن يؤخذ كلّ طاغية بطغيانه.

وأمّا قوله تعالى:( وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون ) فظاهره النفى الاستقباليّ على ما هو ظاهر الصفة:( معذّبهم ) وكون قوله:( يستغفرون ) مسوقاً لإفادة الاستمرار والجملة حاليّـة، والمعنى: ولا يستقبلهم الله بالعذاب ما داموا يستغفرونه.

والآية كيفما اُخذت لا تنطبق على حال مشركي مكّة وهم مشركون معاندون لا يخضعون لحقّ ولا يستغفرون عن مظلمة ولا جريمة، ولا يصلح الأمر بما ورد في بعض

٦٩

الآثار أنّهم قالوا ما قالوا ثمّ ندموا على ما قالوا فاستغفروا الله بقولهم:( غفرانك اللّهمّ ) .

وذلك - مضافاً إلى عدم ثبوته - أنّه تعالى لا يعبأ في كلامه باستغفار المشركين ولا سيّما أئمّـة الكفر منهم، واللّاغى من الاستغفار لا أثر له، ولو لم يكن استغفارهم لاغياً وارتفع به ما أجرموه بقولهم: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء الآية لم يكن وجه لذمّهم وتأنيبهم بقوله تعالى:( وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ ) في سياق هذه الآيات المسوقة لذمّهم ولومهم وعدّ جرائمهم ومظالمهم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين.

على أنّ قوله تعالى بعد الآيتين:( وما لهم أن لا يعذّبهم الله وهم يصدّون عن المسجد الحرام ) الآية لا يلائم نفى العذاب في هاتين الآيتين فإنّ ظاهر الآية أنّ العذاب المهدّد به هو عذاب القتل بأيدى المؤمنين كما يدلّ عليه قوله بعده:( فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) وحينئذ فلو كان القائلون:( اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ ) الآية مشركي قريش أو بعضهم وكان المراد من العذاب المنفىّ العذاب السماويّ لم يستقم إنكار وقوع العذاب عليهم بالقتل ونحوه فإنّ الكلام حينئذ يؤول إلى معنى التشديد: ومحصّله: أنّهم كانوا أحقّ بالعذاب ولهم جرم آخر وراء ما أجرموه وهو الصدّ عن المسجد الحرام، وهذا النوع من الترقّي أنسب بإثبات العذاب لهم لا لنفيه عنهم.

وإن كان المراد بالعذاب المنفىّ هو القتل ونحوه كان عدم الملاءمه بين قوله:( وما لهم أن لا يعذّبهم الله ) وقوله:( فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) وبين قوله:( وما كان الله ليعذّبهم ) الخ، أوضح وأظهر.

وربّما وجّه الآية بهذا المعنى بعضهم بأنّ المراد بقوله:( وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم ) عذاب أهل مكّة قبل الهجرة، وبقوله:( وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون ) عذاب الناس كافّة بعد هجرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة وإيمان جمع واستغفارهم ولذا قيل: إنّ صدر الآية نزلت قبل الهجرة، وذيلها بعد الهجرة !

وهو ظاهر الفساد فإنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا كان فيهم بمكّة قبل الهجرة كان معه جمع ممّن يؤمن بالله ويستغفره، وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد الهجرة كان في الناس فما معنى تخصيص صدر الآية

٧٠

بقوله:( وأنت فيهم ) وذيلها بقوله:( وهم يستغفرون ) .

ولو فرض أنّ معنى الآية أنّ الله لا يعذّب هذه الاُمّـة ما دمت فيهم ببركة وجودك، ولا يعذّبهم بعدك ببركة استغفارهم لله والمراد بالعذاب عذاب الاستئصال لم يلائم الآيتين التاليتين:( وما لهم إلّا يعذّبهم الله ) الخ مع ما تقدّم من الاشكال عليه.

فقد ظهر من جميع ما تقدّم - على طوله - أنّ الآيتين أعنى قوله:( وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة ) إلى آخر الآيتين لا تشاركان الآيات السابقة واللاحقة المسرودة في الكلام على كفّـار قريش في سياقها الواحد فهما لم تنزلا معها.

والأقرب أن يكون ما حكى فيهما من قولهم والجواب عنه بقوله:( وما كان الله ليعذّبهم ) غير مرتبط بهم وإنّما صدر هذا القول من بعض أهل الكتاب أو بعض من آمن ثمّ ارتدّ من الناس.

ويتأيّد بذلك بعض ما ورد أنّ القائل بهذا القول الحارث بن النعمان الفهرىّ، وقد تقدّم الحديث نقلاً عن تفسيرى الثعلبيّ والمجمع في ذيل قوله تعالى:( يا أيّها الرسول بلّغ ما اُنزل إليك من ربّك ) الآية المائدة: ٦٧ في الجزء السادس من الكتاب.

وعلى هذا التقدير فالمراد بالعذاب المنفىّ العذاب السماويّ المستعقب للاستئصال الشامل للاُمّـة على نهج عذاب سائر الاُمم، والله سبحانه ينفى فيها العذاب عن الاُمّـة ما دام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم حيّـاً، وبعده ما داموا يستغفرون الله تعالى.

ويظهر من قوله تعالى:( وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون ) بضمّه إلى الآيات الّتى توعد هذه الاُمّـة بالعذاب الّذى يقضى بين الرسول وبينهم كآيات سورة يونس:( ولكلّ اُمّـة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ) يونس: ٤٧ إلى آخر الآيات أنّ في مستقبل أمر هذه الاُمّـة يوماً ينقطع عنهم الاستغفار ويرتفع من بينهم المؤمن الإلهىّ فيعذّبون عند ذاك.

قوله تعالى: ( وما لهم أن لا يعذّبهم الله وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا اولياءه ) إلى آخر الآية استفهام في معنى الإنكار أو التعجّب، وقوله:( وما لهم ) بتقدير

٧١

فعل يتعلّق به الظرف ويكون قوله:( أن لا يعذّبهم ) مفعوله أو هو من التضمين نظير ما قيل في قوله:( هل لك إلى أن تزكىّ ) النازعات: ١٨.

والتقدير على أيّ حال نحو من قولنا:( وما الّذى يثبت ويحقّ لهم عدم تعذيب الله إيّـاهم والحال أنّهم يصدّون عن المسجد الحرام ويمنعون المؤمنين من دخوله وما كانوا اولياءه ) . فقوله:( وهم يصدّون ) الخ حال عن ضمير( يعذّبهم ) وقوله:( وما كانوا اولياءه ) حال عن ضمير( يصدّون ) .

وقوله:( إن أولياؤه إلّا المتّقون ) تعليل لقوله:( وما كانوا اولياءه ) أي ليس لهم أن يلوا أمر البيت فيجيزوا ويمنعوا من شاؤوا لأنّ هذا المسجد مبنىّ على تقوى الله فلا يلى أمره إلّا المتّقون وليسوا بهم.

فقوله:( إن أولياؤه إلّا المتّقون ) جملة خبريّـة تعلّل القول بأمر بيّـن يدركه كلّ ذى لبّ، وليست الجملة إنشائيّـة مشتملة على جعل الولاية للمتّـقين، ويشهد لما ذكرناه قوله بعد:( ولكن أكثرهم لا يعلمون ) كما لا يخفى.

والمراد بالعذاب العذاب بالقتل أو الأعمّ منه على ما يفيده السياق باتّصال الآية بالآية التالية، وقد تقدّم أنّ الآية غير متّصلة ظاهراً بما تقدّمها أي إنّ الآيتين:( وإذ قالوا اللّهمّ ) الخ( وما كان الله ليعذّبهم ) الخ خارجتان عن سياق الآيات، ولازم ذلك ما ذكرناه.

قال في المجمع: ويسأل فيقال: كيف يجمع بين الآيتين وفي الاُولى نفى تعذيبهم، وفي الثانية إثبات ذلك؟ وجوابه على ثلاثة أوجه: أحدها: أنّ المراد بالأوّل عذاب الاصطلام والاستئصال كما فعل بالاُمم الماضية، وبالثانى عذاب القتل بالسيف والأسر وغير ذلك بعد خروج المؤمنين من بينهم.

والآخر: أنّه أراد: وما لهم أن لا يعذّبهم الله في الآخرة، ويريد بالأوّل عذاب الدنيا. عن الجبّـائىّ.

والثالث: أنّ الأوّل استدعاء للاستغفار. يريد أنّه لا يعذّبهم بعذاب دنيا ولا آخرة

٧٢

إذا استغفروا وتابوا فإذا لم يفعلوا عذّبوا ثمّ بيّـن أنّ استحقاقهم العذاب بصدّهم عن المسجد الحرام. انتهى.

وفيه: أنّ مبنى الإشكال على اتّصال الآية بما قبلها وقد تقدّم أنّها غير متّصلة. هذا إجمالاً.

وأمّا تفصيلاً فيرد على الوجه الأوّل: أنّ سياق الآية وهو كما تقدّم سياق التشدّد والترقّى، ولا يلاءم ذلك نفى العذاب في الاُولى مع إثباته في الثانية وإن كان العذاب غير العذاب.

وعلى الثاني أنّ سياق الآية ينافى كون المراد بالعذاب فيها عذاب الآخرة، وخاصّـة بالنظر إلى قوله في الآية الثالثة - وهى في سياق الآية الاُولى -( فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) .

وعلى الثالث: أنّ ذلك خلاف ظاهر الآية بلا شكّ حيث إنّ ظاهرها إثبات الاستغفار لهم حالاً مستمرّاً لاستدعاؤه وهو ظاهر.

قوله تعالى: ( وما كان صلاتهم عند البيت إلّا مكاءً وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) المكاء بضمّ الميم الصفير، والمكّاء بصيغة المبالغة طائر بالحجاز شديد الصفير، ومنه المثل السائر: بنيك حمّرى ومكّئكينى. والتصدية التصفيق بضرب اليد على اليد.

وقوله:( وما كان صلاتهم ) الضمير لهؤلاء الصادّين المذكورين في الآية السابقة وهم المشركون من قريش، وقوله:( فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) بيان إنجاز العذاب الموعد لهم بقرينة التفريع بالفاء.

ومن هنا يتأيّد أنّ الآيتين متّصلتان كلاماً واحداً، وقوله:( وما كان ) الخ جملة حاليّـة والمعنى: وما لهم أن لا يعذّبهم الله والحال أنّهم يصدّون العبّـاد من المؤمنين عن المسجد الحرام وما كان صلاتهم عند البيت إلّا ملعبة من المكاء والتصدية فإذا كان كذلك فليذوقوا العذاب بما كانوا يكفرون، والالتفات في قوله:( فذوقوا العذاب ) عن الغيبة إلى الخطاب لبلوغ التشديد.

٧٣

ويستفاد من الآيتين أنّ الكعبه المشرّفة لو تركت بالصدّ استعقب ذلك المؤاخذة الإلهيّـة بالعذاب قال علىّعليه‌السلام في بعض وصاياه:( الله الله في بيت ربّكم فإنّه إن ترك لم تنظروا (١) ) .

قوله تعالى: ( إنّ الّذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل الله ) إلى آخر الآية يبيّـن حال الكفّـار في ضلال سعيهم الّذى يسعونه لإبطال دعوة الله والمنع عن سلوك السالكين لسبيل الله، ويشرح ذلك قوله:( فسينفقونها ثمّ تكون عليهم حسرة ثمّ يغلبون ) الخ.

وبهذا السياق يظهر أنّ قوله:( والّذين كفروا إلى جهنّم يحشرون ) بمنزلة التعليل، ومحصّل المعنى أنّ الكفر سيبعثهم - بحسب سنّة الله في الأسباب - إلى أن يسعوا في إبطال الدعوة والصدّ عن سبيل الحقّ غير أنّ الظلم والفسق وكلّ فساد لا يهدى إلى الفلاح والنجاح فسينفقون أموالهم في سبيل هذه الأغراض الفاسدة فتضيع الأموال في هذا الطريق فيكون ضيعتها موجبة لتحسّرهم، ثمّ يغلبون فلا ينتفعون بها، وذلك أنّ الكفّـار يحشرون إلى جهنّم ويكون ما يأتون به في الدنيا من التجمّع على الشرّ والخروج إلى محاربة الله ورسوله بحذاء خروجهم محشورين إلى جهنّم يوم القيامة.

وقوله:( فسينفقونها ثمّ تكون عليهم حسرة ثمّ يغلبون ) إلى آخر الآية من ملاحم القرآن والآية من سورة الأنفال النازلة بعد غزوة بدر فكأنّها تشير إلى ما سيقع من غزوة اُحد أو هي وغيرها، وعلى هذا فقوله:( فسينفقونها ثمّ تكون عليهم حسرة ) إشارة إلى غزوة اُحد أو هي وغيرها، وقوله:( ثمّ يغلبون ) إلى فتح مكّة، وقوله:( والّذين كفروا إلى جهنّم يحشرون ) إلى حال من لا يوفّق للإسلام منهم.

قوله تعالى: ( ليميز الله الخبيث من الطيّـب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنّم اُولئك هم الخاسرون ) الخباثة والطيّـب معنيان متقابلان وقد مرّ شرحهما والتمييز إخراج الشئ عمّا يخالفه وإلحاقه بما يوافقه بحيث ينفصل عمّا يخالفه، والركم

____________________

(١) نهج البلاغة في باب الوصايا.

٧٤

جمع الشئ فوق الشئ ومنه سحاب مركوم أي مجتمع الأجزاء بعضها إلى بعض ومجموعها وتراكم الأشياء تراكب بعضها بعضاً.

والآية في موضع التعليل لما أخبر به في الآية السابقة من حال الكفّـار بحسب السنّة الكونيّـة، وهو أنّهم يسعون بتمام وجدهم ومقدرتهم إلى أن يطفؤوا نور الله ويصدّوا عن سبيل الله فينفقون في ذلك الأموال ويبذلون في طريقه المساعى غير أنّهم لا يهتدون إلى مقاصدهم ولا يبلغون آمالهم بل تضيع أموالهم، وتحبط أعمالهم وتضلّ مساعيهم، ويرثون بذلك الحسرة والهزيمة.

وذلك أنّ هذه الأعمال والتقلّبات تسير على سنّة إلهيّـة وتتوجّه إلى غاية تكوينيّـة ربّانيّـة، وهى أنّ الله سبحانه يميز في هذا النظام الجارى الشرّ من الخير والخبيث من الطيّـب ويركم الخبيث بجعل بعضه على بعض، ويجعل ما اجتمع منه وتراكم في جهنّم وهى الغاية الّتى تسير إليها قافلة الشرّ والخبيث يحلّها الجميع وهى دار البوار كما أنّ الخير والطيّـب إلى الجنّـة، والأوّلون هم الخاسرون كما أنّ الآخرين هم الرابحون المفلحون.

ومن هنا يظهر أنّ قوله:( ليميز الله الخبيث من الطيّـب ) الخ قريب المضمون من قوله تعالى في مثل ضربه للحقّ والباطل:( أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً وممّا يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحقّ والباطل فأمّا الزبد فيذهب جفاء وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) الرعد: ١٧ والآية تشير إلى قانون كلّىّ إلهىّ وهو إلحاق فرع كلّ شى بأصله.

قوله تعالى: ( قل للّذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) إلى آخر الآية الانتهاء الإقلاع عن الشئ لأجل النهى، والسلوف التقدّم، والسنّة هي الطريقة والسيرة.

أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبلّغهم ذلك وفي معناه تطميع وتخويف وحقيقته دعوة إلى ترك القتال والفتنة ليغفر الله لهم بذلك ما تقدّم من قتلهم وإيذائهم للمؤمنين فإن لم ينتهوا عمّا نهوا عنه فقد مضت سنّة الله في الأوّلين منهم بالإهلاك والإبادة وخسران السعي.

٧٥

قوله تعالى: ( وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة ويكون الدين كلّه لله فإن انتهوا فإنّ الله بما يعملون بصير ) الآية وما بعدها يشتملان على تكليف المؤمنين بحذاء ما كلّف به الكفّـار في الآية السابقة، والمعنى: قل لهم إن ينتهوا عن المحادّة لله ورسوله يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا إلى مثل ما عملوا فقد علموا بما جرى على سابقتهم قل لهم كذا وأمّا أنت والمؤمنون فلا تهنوا فيما يهمّـكم من إقامة الدين وتصفية جوّ صالح للمؤمنين، وقاتلوهم حتّى تنتهى هذه الفتن الّتى تفاجؤكم كلّ يوم، ولا تكون فتنه بعد فإن انتهوا فإنّ الله يجازيهم بما يرى من أعمالهم، وإن تولّوا عن الانتهاء فأديموا القتال والله مولاكم فاعلموا ذلك ولا تهنوا ولا تخافوا.

والفتنة ما يمتحن به النفوس وتكون لا محالة ممّا يشقّ عليها، وغلب استعمالها في المقاتل وارتفاع الأمن وانتقاض الصلح، وكان كفّـار قريش يقبضون على المؤمنين بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الهجرة وبعدها إلى مدّة في مكّة ويعذّبونهم ويجبرونهم على ترك الإسلام والرجوع إلى الكفر، وكانت تسمّى فتنة.

وقد ظهر بما يفيده السياق من المعنى السابق أنّ قوله:( وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة ) كناية عن تضعيفهم بالقتال حتّى لا يغترّوا بكفرهم ولا يلقوا فتنة يفتتن بها المؤمنون، ويكون الدين كلّه لله لا يدعو إلى خلافه أحد، وأنّ قوله:( فإن انتهوا فإنّ الله بما يعملون بصير ) المراد به الانتهاء عن القتال ولذلك أردفه بمثل قوله:( فإنّ الله بما يعملون بصير ) أي عندئذ يحكم الله فيهم بما يناسب أعمالهم وهو بصير بها، وأنّ قوله:( وإن تولّوا ) الخ أي إن تولّوا عن الانتهاء، ولم يكفّوا عن القتال ولم يتركوا الفتنة فاعلموا أنّ الله مولاكم وناصركم و قاتلوهم مطمئنّـين بنصر الله نعم المولى ونعم النصير.

وقد ظهر أنّ قوله:( ويكون الدين كلّه لله ) لا ينافى إقرار أهل الكتاب على دينهم إن دخلوا في الذمّـة واعطوا الجزية فلا نسبة للآية مع قوله تعالى:( حتّى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) التوبه: ٢٩. بالناسخيّـة والمنسوخيّـة.

ولبعض المفسّرين وجوه في معنى الانتهاء والمغفرة وغيرهما من مفردات الآيات الثلاث لا كثير جدوى في التعرّض لها تركناها.

٧٦

وقد ورد في بعض الاخبار كون( نعم المولى ونعم النصير ) من اسماء الله الحسنى والمراد بالاسم حينئذ لا محالة غير الاسم بمعناه المصطلح بل كلّ ما يخصّ بلفظه شيئاً من المصاديق كما ورد نظيره في قوله تعالى:( لا تأخذه سنة ولا نوم ) وقد مرّ استيفاء الكلام في الأسماء الحسنى في ذيل قوله تعالى:( ولله الأسماء الحسنى ) الأعراف ١٨٠ في الجزء الثامن من الكتاب.

( بحث روائي)

في تفسير القمّىّ في قوله تعالى:( وإذ يمكر بك الّذين كفروا ) الآية أنّها نزلت بمكّة قبل الهجرة.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن جرير وأبوالشيخ عن ابن جريح رضي الله عنه( وإذ يمكر بك الّذين كفروا ) قال: هي مكّـيّـة.

اقول: وهو ظاهر ما رواه أيضاً عن عبد بن حميد عن معاوية بن قرّة، لكن عرفت أنّ سياق الآيات لا يساعد عليه.

وفيه أخرج عبد الرزّاق وأحمد وعبد بن حميد وابن المنذر والطبرانيّ وأبوالشيخ وابن مردويه وأبونعيم في الدلائل والخطيب عن ابن عبّـاس رضى الله عنهما في قوله:( وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك ) قال: تشاورت قريش ليلة بمكّة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق - يريدون النبيّ (صلّى الله عليه و آله و سلّم ) - وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم بل اخرجوه فاطّلع الله نبيّـه (صلّى الله عليه و آله و سلّم ) على ذلك فبات علىّ رضى الله عنه على فراش النبيّ (صلّى الله عليه و آله و سلّم ) وخرج النبيّ (صلّى الله عليه و آله و سلّم ) حتّى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليّـاً رضى الله عنه يحسبونه النبيّ (صلّى الله عليه و آله و سلّم ) فلمّا أصبحوا ثاروا عليه فلمّا رأوه عليّـاً رضى الله عنه ردّ الله مكرهم فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدرى فاقتصوا أثره فلمّا بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث ثلاث ليال.

٧٧

وفي تفسير القمّىّ: كان سبب نزولها أنّه لمّا أظهر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدعوة بمكّة قدمت عليه الأوس والخزرج فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تمنعوني وتكونون لى جاراً حتّى أتلو كتاب الله عليكم وثوابكم على الله الجنّـة؟ فقالوا: نعم خذ لربّك ولنفسك ما شئت فقال لهم: موعدكم العقبة في اللّيلة الوسطى من ليالى التشريق فحجّوا ورجعوا إلى منى وكان فيهم ممّن قد حجّ بشر كثير.

فلمّا كان اليوم الثاني من أيّـام التشريق قال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا كان اللّيل فاحضروا دار عبدالمطّلب على العقبة، ولا تنبّـهوا نائماً، ولينسلّ واحد فواحد فجاء سبعون رجلاً من الأوس والخزرج فدخلوا الدار فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تمنعوني وتجيرونى حتّى أتلو عليكم كتاب ربّى وثوابكم على الله الجنّـة.

فقال أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وعبدالله بن حرام: نعم يا رسول الله اشترط لربّك ونفسك ما شئت. فقال: أمّا ما أشترط لربّى فان تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وما أشترط لنفسي أن تمنعوني ممّا تمنعون أنفسكم وتمنعون أهلى ممّا تمنعون أهليكم وأولادكم. فقالوا فما لنا على ذلك؟ فقال: الجنّـة في الآخرة، وتملكون العرب، ويدين لكم العجم في الدنيا، وتكونون ملوكاً في الجنّـة فقالوا: قد رضينا.

فقال: أخرجوا إلىّ منكم اثنى عشر نقيباً يكونون شهداء عليكم بذلك كما أخذ موسى من بنى إسرائيل اثنى عشر نقيباً فأشار إليهم جبرئيل فقال: هذا نقيب وهذا نقيب تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس: فمن الخزرج أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وعبدالله بن حرام أبو جابر بن عبدالله ورافع بن مالك وسعد بن عبادة والمنذر بن عمر وعبدالله بن رواحة وسعد بن ربيع وعبادة بن صامت ومن الأوس أبوالهيثم بن التيّـهان وهو من اليمن واُسيد بن حصين وسعد بن خيثمة.

فلمّا اجتمعوا وبايعوا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاح إبليس: يا معشر قريش والعرب هذا محمّـد والصباة من أهل يثرب على جمرة العقبة يبايعونه على حربكم فأسمع أهل منى، وهاجت قريش فأقبلوا بالسلاح، وسمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النداء فقال للأنصار: تفرّقوا فقالوا: يا رسول الله إن أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا فعلنا. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لم اُومر بذلك

٧٨

ولم يأذن الله لى في محاربتهم. قالوا: فتخرج معنا؟ قال: أنتظر أمر الله.

فجاءت قريش على بكرة أبيها قد أخذوا السلاح وخرج حمزة واميرالمؤمنينعليه‌السلام بالسلاح ومعهما السيوف فوقفا على العقبة فلمّا نظرت قريش إليهما قالوا: ما هذا الّذى اجتمعتم له؟ فقال حمزة: ما اجتمعنا وما ههنا أحد والله لا يجوز هذه العقبة أحد إلّا ضربته بسيفي.

فرجعوا إلى مكّة وقالوا: لا نأمن أن يفسد أمرنا ويدخل واحد من مشائخ قريش في دين محمّـد فاجتمعوا في دار الندوة، وكان لا يدخل دار الندوة إلّا من أتى عليه أربعون سنة فدخلوا أربعين رجلاً من مشائخ قريش، وجاء إبليس في صورة شيخ كبير فقال له البواب: من أنت؟ فقال: أنا شيخ من أهل نجد لا يعدمكم منّى رأى صائب إنّى حيث بلغني اجتماعكم في أمر هذا الرجل جئت لاُشير عليكم فقال: اُدخل فدخل إبليس.

فلمّا أخذوا مجلسهم قال أبوجهل: يا معشر قريش إنّه لم يكن أحد من العرب أعزّ منّا نحن أهل الله تفد إلينا العرب في السنة مرّتين ويكرموننا، ونحن في حرم الله لا يطمع فينا طامع فلم نزل كذلك حتّى نشأ فينا محمّـد بن عبدالله فكنّـا نسمّـيه الأمين لصلاحه وسكونه وصدق لهجته حتّى إذا بلغ ما بلغ وأكرمناه ادّعى أنّه رسول الله وأنّ أخبار السماء تأتيه فسفّه أحلامنا، وسبّ آلهتنا، وأفسد شبّـاننا، وفرّق جماعتنا، وزعم أنّه من مات من أسلافنا ففى النار، ولم يرد علينا شئ أعظم من هذا، وقد رأيت فيه رأياً. قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيت أن ندسّ إليه رجلاً منّـا ليقتله فإن طلبت بنو هاشم بديته أعطيناهم عشر ديات.

فقال الخبيث: هذا رأى خبيث قالوا: وكيف ذلك؟ قال: لأنّ قاتل محمّـد مقتول لا محالة فمن هذا الّذى يبذل نفسه للقتل منكم؟ فإنّه إذا قتل محمّـداً تعصّبت بنو هاشم وحلفاؤهم من خزاعة إنّ بنى هاشم لا ترضى أن يمشى قاتل محمّـد على الأرض فتقع بينكم الحروب في حرمكم وتتفانون.

فقال آخر منهم: فعندي رأى آخر. قال: وما هو؟ قال: نثبته في بيت ونلقى عليه قوته حتّى يأتي عليه ريب المنون فيموت كما مات زهير والنابغة وامرء القيس. فقال

٧٩

إبليس: هذا أخبث من الآخر. قالوا: وكيف ذاك؟ قال: لأنّ بنى هاشم لا ترضى بذلك فإذا جاء موسم من مواسم العرب استغاثوا بهم فاجتمعوا عليكم فأخرجوه.

قال آخر منهم: لا ولكنّـا نخرجه من بلادنا ونتفرّغ لعبادة آلهتنا. قال إبليس: هذا أخبث من ذينك الرأيين المتقدّمين، قالوا: وكيف؟ قال: لأنّكم تعمدون إلى أصبح الناس وجهاً، وأتقن الناس لساناً وأفصحهم لهجة فتحملوه إلى بوادي العرب فيخدعهم ويسحرهم بلسانه فلا يفجؤكم إلّا وقد ملأها خيلاً ورجلاً فبقوا حائرين.

ثمّ قالوا لإبليس: فما الرأى يا شيخ؟ قال: ما فيه إلّا رأى واحد. قالوا: وما هو؟ قال: يجتمع من كلّ بطن من بطون قريش فيكون معهم من بنى هاشم رجل فيأخذون سكّيناً أو حديدة أو سيفاً فيدخلون عليه فيضربونه كلّهم ضربة واحدة حتّى يتفرّق دمه في قريش كلّها فلا يستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه فقد شاركوه فيه فإن سألوكم أن تعطوكم الدية فأعطوهم ثلاث ديات. قالوا: نعم وعشر ديات. قالوا: الرأى رأى الشيخ النجديّ فاجتمعوا فيه، ودخل معهم في ذلك أبولهب عمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فنزل جبرئيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره أنّ قريشاً قد اجتمعت في دار الندوة يدبّـرون عليك فأنزل الله عليه في ذلك:( وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) .

واجتمعت قريش أن يدخلوا عليه ليلاً فيقتلوه، وخرجوا إلى المسجد يصفّرون ويصفّقون ويطوفون بالبيت فأنزل الله:( وما كان صلاتهم عند البيت إلّا مكاءً وتصدية ) فالمكاء التصفير والتصدية صفق اليدين وهذه الآية معطوفة على قوله:( وإذ يمكر بك الّذين كفروا ) قد كتبت بعد آيات كثيرة.

فلمّا أمسى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاءت قريش ليدخلوا عليه فقال أبولهب: لا أدعكم أن تدخلوا عليه بالليل فإنّ في الدار صبياناً ونساءً ولا نأمن أن يقع بهم يد خاطئة فنحرسه الليلة فإذا أصبحنا دخلنا عليه فناموا حول حجره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يفرش له فرش فقال لعلىّ بن أبى طالبعليه‌السلام : أفدني

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ثمّ يضيف :( وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ) ،( وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ ) .(١)

في الحقيقة أنّ هذه الأقسام الثلاثة مرتبطة بعضها بالآخر ومكملة للآخر ، وكذلك لأنّنا كما نعلم أنّ القمر يتجلى في الليل ، ويختفي نوره في النهار لتأثير الشمس عليه ، والليل وإن كان باعثا على الهدوء والظلام وعنده سرّ عشاق الليل ، ولكن الليل المظلم يكون جميلا عند ما يدبر ويتجه العالم نحو الصبح المضيء وآخر السحر ، وطلوع الصبح المنهي الليل المظلم أصفى وأجمل من كل شيء حيث يثير في الإنسان إلى النشاط ويجعله غارقا في النور الصفاء.

هذه الأقسام الثلاثة تتناسب ضمنيا مع نور الهداية (القرآن) واستدبار الظلمات (الشرك) وعبادة (الأصنام) وطلوع بياض الصباح (التوحيد) ، ثمّ ينتهي إلى تبيان ما أقسم من أجله فيقول تعالى :( إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ ) .(٢)

إنّ الضمير في (إنّها) إمّا يرجع إلى «سقر» ، وإمّا يرجع إلى الجنود ، أو إلى مجموعة الحوادث في يوم القيامة ، وأيّا كانت فإنّ عظمتها واضحة.

ثمّ يضيف تعالى :( نَذِيراً لِلْبَشَرِ ) .(٣)

لينذر الجميع ويحذرهم من العذاب الموحش الذي ينتظر الكفّار والمذنبين وأعداء الحق.

وفي النهاية يؤكّد مضيفا أنّ هذا العذاب لا يخص جماعة دون جماعة ، بل :( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) فهنيئا لمن يتقدم ، وتعسا وترحا لمن يتأخر.

واحتمل البعض كون التقدم إلى الجحيم والتأخر عنه ، وقيل هو تقدم النفس

__________________

(١) «أسفر» من مادة (سفر) على وزن (قفر) ويعني انجلاء الملابس وانكشاف الحجاب ، ولذا يقال للنساء المتبرجات (سافرات) وهذا التعبير يشمل تشبيها جميلا لطلوع الشمس.

(٢) «كبر» : جمع كبرى وهي كبيرة ، وقيل المراد بكون سقر إحدى الطبقات الكبيرة لجهنّم ، هذا المعنى لا يتفق مع ما أشرنا إليه من قبل وكذا مع الآيات.

(٣) «نذيرا» : حال للضمير في «أنّها» الذي يرجع إلى سقر ، وقيل هو تمييز ، ولكنه يصح فيما لو كان النذير مصدرا يأتي بمعنى (الإنذار) ، والمعنى الأوّل أوجه.

١٨١

الإنسانية وتكاملها أو تأخرها وانحطاطها ، والمعنى الأوّل والثّالث هما المناسبان ، دون الثّاني.

* * *

١٨٢

الآيات

( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) )

التّفسير

لم صرتم من أصحاب الجحيم؟

إكمالا للبحث الذي ورد حول النّار وأهلها في الآيات السابقة ، يضيف تعالى في هذه الآيات :( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) .

«رهينة» : من مادة (رهن) وهي وثيقة تعطى عادة مقابل القرض ، وكأن نفس الإنسان محبوسة حتى تؤدي وظائفها وتكاليفها ، فإن أدت ما عليها فكت وأطلقت ، وإلّا فهي باقية رهينة ومحبوسة دائما ، ونقل عن أهل اللغة أنّ أحد

١٨٣

معانيها الملازمة والمصاحبة(١) ، فيكون المعنى : الكلّ مقترنون بمعية أعمالهم سواء الصالحون أم المسيئون.

لذا يضيف مباشرة :( إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ ) .

إنّهم حطموا أغلال وسلاسل الحبس بشعاع الإيمان والعمل الصالح ويدخلون الجنّة بدون حساب.(٢)

وهناك أقوال كثيرة حول المقصود من أصحاب اليمين :

فقيل هم الذين يحملون كتبهم بيمينهم ، وقيل هم المؤمنون الذين لم يرتكبوا ذنبا أبدا ، وقيل هم الملائكة ، وقيل غير ذلك والمعنى الأوّل يطابق ظاهر الآيات القرآنية المختلفة ، وما له شواهد قرآنية ، فهم ذو وإيمان وعمل صالح ، وإذا كانت لهم ذنوب صغيرة فإنّها تمحى بالحسنات وذلك بحكم( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) (٣) .

فحينئذ تغطّي حسناتهم سيئاتهم أو يدخلون الجنّة بلا حساب ، وإذا وقفوا للحساب فسيخفف عليهم ذلك ويسهل ، كما جاء في سورة الإنشقاق آية (٧) :( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ) .

ونقل المفسّر المشهور «القرطبي» وهو من أهل السنة تفسير هذه الآية عن الإمام الباقرعليه‌السلام فقال : «نحن وشيعتنا أصحاب اليمين وكل من أبغضنا أهل البيت فهم مرتهنون».(٤)

وأورد هذا الحديث مفسّرون آخرون منهم صاحب مجمع البيان ونور

__________________

(١) لسان العرب مادة : رهن.

(٢) قال الشّيخ الطوسي في التبيان أن الاستثناء هنا هو منقطع وقال آخرون كصاحب (روح البيان) أنّه متصل ، وهذا الاختلاف يرتبط كما ذكرنا بالتفسيرات المختلفة لمعنى الرهينة ، وما يطابق ما اخترناه من التّفسير هو أن الاستثناء هنا منقطع وعلى التفسير الثّاني يكون متصلا.

(٣) سورة هود ، الآية ١١٤.

(٤) تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٦٨٧٨.

١٨٤

الثقلين والبعض الآخر أورده تذييلا لهذه الآيات.

ثمّ يضيف مبيّنا جانبا من أصحاب اليمين والجماعة المقابلة لهم :

( فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ ) (١) ( عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) .

يستفاد من هذه الآيات أن الرابطة غير منقطعة بين أهل الجنان وأهل النّار ، فيمكنهم مشاهدة أحوال أهل النّار والتحدث معهم ، ولكن ماذا سيجيب المجرمون عن سؤال أصحاب اليمين؟ إنّهم يعترفون بأربع خطايا كبيرة كانوا قد ارتكبوها :

الاولى :( قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) .

لو كنّا مصلّين لذكّرتنا الصلاة بالله تعالى ، ونهتنا عن الفحشاء والمنكر ودعتنا إلى صراط الله المستقيم.

والأخرى :( وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ) .

وهذه الجملة وإن كانت تعطي معنى إطعام المحتاجين ، ولكن الظاهر أنه يراد بها المساعدة والإعانة الضرورية للمحتاجين عموما بما ترتفع بها حوائجهم كالمأكل والملبس والمسكن وغير ذلك.

وصرّح المفسّرون أنّ المراد بها الزكاة المفروضة ، لأنّ ترك الإنفاق المستحب لا يكون سببا في دخول النّار ، وهذه الآية تؤكّد مرّة أخرى على أنّ الزّكاة كانت قد فرضت بمكّة بصورة إجمالية ، وإن كان التشريع بجزئياتها وتعيين خصوصياتها وتمركزها في بيت المال كان في المدينة.

والثّالثة :( وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ ) .

كنّا نؤيد ما يصدر ضدّ الحقّ في مجالس الباطل. نقوم بالترويج لها ، وكنّا معهم

__________________

(١) «يتساءلون» : وهو وإن كان من باب (تفاعل) الذي يأتي عادة في الأعمال المشتركة بين اثنين أو أكثر ، ولكنه فقد هذا المعنى هنا كما في بعض الموارد الأخرى ، ولمعنى يسألون ، وتنكير الجنات هو لتبيان عظمتها و (في جنات) خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هو في جنات.

١٨٥

أين ما كانوا ، وكيف ما كانوا ، وكنّا نصدق أقوالهم ، ونضفي الصحة على ما ينكرون ويكذبون ونلتذ باستهزائهم الحقّ.

«نخوض» : من مادة (خوض) على وزن (حوض) ، وتعني في الأصل الغور والحركة في الماء ، ويطلق على الدخول والتلوث بالأمور ، والقرآن غالبا ما يستعمل هذه اللفظة في الإشتغال بالباطل والغور فيه.

(الخوض في الباطل) له معان واسعة فهو يشمل الدخول في المجالس التي تتعرض فيها آيات الله للاستهزاء أو ما تروج فيها البدع ، أو المزاح الواقح ، أو التحدث عن المحارم المرتكبة بعنوان الافتخار والتلذذ بذكرها ، وكذلك المشاركة في مجالس الغيبة والاتهام واللهو واللعب وأمثال ذلك ، ولكن المعنى الذي انصرفت إليه الآية هو الخوض في مجالس الاستهزاء بالدين والمقدسات وتضعيفها وترويج الكفر والشرك.

وأخيرا يضيف :( وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ ) .

من الواضح أنّ إنكار المعاد ويوم الحساب والجزاء يزلزل جميع القيم الإلهية والأخلاقية ، ويشجع الإنسان على ارتكاب المحارم ، ويرفع كلّ مانع هذا الطريق ، خصوصا إذا استمر إلى آخر العمر ، على كل حال فإنّ ما يستفاد من هذه الآيات أنّ الكفار هم مكلّفون بفروع الدين ، كما هم مكلّفون بالأصول ، وكذلك تشير إلى أن الأركان الاربعة ، أي الصلاة والزّكاة وترك مجالس أهل الباطل ، والإيمان بالقيامة لها الأثر البالغ في تربية وهداية الإنسان ، وبهذا لا يمكن أن يكون الجحيم مكانا للمصلين الواقعيين ، والمؤتين الزّكاة ، والتاركين الباطل والمؤمنين بالقيامة.

بالطبع فإنّ الصلاة هي عبادة الله ، ولكنّها لا تنفع إذا لم يمتلك الإنسان الإيمان به تعالى ، ولهذا فإنّ أداءها رمز للإيمان والإعتقاد بالله والتسليم لأوامره ، ويمكن القول إنّ هذه الأمور الأربعة تبدأ بالتوحيد ينتهي بالمعاد ، وتحقق العلاقة والرابطة بين الإنسان والخالق ، وكذا بين المخلوقين أنفسهم.

١٨٦

والمشهور بين المفسّرين أنّ المراد من (اليقين) هنا هو الموت ، لأنّه يعتبر أمر يقيني للمؤمن والكافر ، وإذا شك الإنسان في شيء ما فلا يستطيع أن يشك بالموت ونقرأ أيضا في الآية (٩٩) من سورة الحجر :( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) .

ولكن ذهب البعض إلى أنّ اليقين هنا يعني المعرفة الحاصلة بعد موت الإنسان وهي التي تختص بمسائل البرزخ والقيامة ، وهذا ما يتفق نوعا ما مع التّفسير الأوّل.

وفي الآية الأخيرة محل البحث إشارة إلى العاقبة السيئة لهذه الجماعة فيقول تعالى :( فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ ) .

فلا تنفعهم شفاعة الأنبياء ورسل الله والائمّة ، ولا الملائكة والصديقين والشهداء والصالحين ، ولأنّها تحتاج إلى عوامل مساعدة وهؤلاء أبادوا كل هذه العوامل ، فالشفاعة كالماء الزلال الذي تسقى به النبتة الفتية ، وبديهي إذا ماتت النبتة الفتية ، لا يكن للماء الزلال أن يحييها ، وبعبارة أخرى كما قلنا في بحث الشفاعة ، فإنّ الشفاعة من (الشفع) وتعني ضم الشيء إلى آخر ، ومعنى هذا الحديث هو أنّ المشفّع له يكون قد قطع قسطا من الطريق وهو متأخر عن الركب في مآزق المسير ، فتضم إليه شفاعة الشافع لتعينه على قطع بقية الطريق(١) .

وهذه الآية تؤكّد مرّة أخرى مسألة الشفاعة وتنوع وتعدد الشفعاء عند الله ، وهي جواب قاطع لمن ينكر الشفاعة ، وكذلك توكّد على أنّ للشفاعة شروطا وأنّها لا تعني إعطاء الضوء الأخضر لارتكاب الذنوب ، بل هي عامل مساعد لتربية الإنسان وإيصاله على الأقل إلى مرحلة تكون له القابلية على التشفع ، بحيث لا تنقطع وشائج العلاقة بينه وبين الله تعالى والأولياء.

* * *

__________________

(١) التّفسير الأمثل ، المجلد الأوّل ، ذيل الآية (٤٨) من سورة البقرة.

١٨٧

ملاحظة :

شفعاء يوم القيامة :

نستفيد من هذه الآيات والآيات القرآنية الأخرى أنّ الشفعاء كثيرون في يوم القيامة (مع اختلاف دائرة شفاعتهم) ويستفاد من مجموع الرّوايات الكثيرة والمنقولة من الخاصّة والعامّة أنّ الشفعاء يشفعون للمذنبين لمن فيه مؤهلات الشفاعة :

١ ـ الشفيع الأوّل هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كما نقرأ في حديث حيث قال : «أنا أوّل شافع في الجنّة»(١) .

٢ ـ الأنبياء من شفعاء يوم القيامة ، كما ورد في حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «يشفع الأنبياء في كلّ من يشهد أن لا إله إلّا الله مخلصا فيخرجونهم منها»(٢) .

٣ ـ الملائكة من شفعاء يوم المحشر ، كما نقل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «يؤذن للملائكة والنّبيين والشّهداء أن يشفعوا»(٣) .

٤ ، ٥ ـ الأئمّة المعصومين وشيعتهم كما قال في ذلك أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث قال : «لنا شفاعة ولأهل مودتنا شفاعة»(٤)

٦ ، ٧ ـ العلماء والشّهداء كما ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «يشفع يوم القيامة الأنبياء ثمّ العلماء ثمّ الشّهداء»(٥) .

وورد في حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يشفع الشّهيد في سبعين إنسانا

__________________

(١) صحيح مسلم ، ج ٢ ، ص ١٣٠.

(٢) مسند أحمد ، ج ٣ ، ص ١٢.

(٣) مسند أحمد ، ج ٥ ، ص ٤٣.

(٤) الخصال للصدوقرحمه‌الله ، ص ٦٢٤.

(٥) سنن ابن ماجة ، ج ٢ ، ص ١٤٤٣.

١٨٨

من أهل بيته»(١) .

وفي حديث آخر نقله المجلسي في بحار الأنوار : «إنّ شفاعتهم تقبل في سبعين ألف نفر»(٢) .

ولا منافاة بين الرّوايتين إذ أنّ عدد السبعين والسبعين ألف هي من أعداد الكثرة.

٨ ـ القرآن كذلك من الشفعاء في يوم القيامة كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «واعلموا أنّه (القرآن) شافع مشفع»(٣) .

٩ ـ من مات على الإسلام فقد ورد عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا بلغ الرجل التسعين غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر وشفّع في أهله»(٤) .

١٠ ـ العبادة : كما جاء في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الصّيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة»(٥) .

١١ ـ ورد في بعض الرّوايات أنّ العمل الصالح كأداء الأمانة يكون شافعا في يوم القيامة.(٦)

١٢ ـ والطريف هو ما يستفاد من بعض الرّوايات من أنّ الله تعالى أيضا يكون شافعا للمذنبين في يوم القيامة ، كما ورد في الحديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يشفع النّبيون والملائكة والمؤمنون فيقول الجبار بقيت شفاعتي»(٧) .

والرّوايات كثيرة في هذه الباب وما ذكرناه هو جانب منها.(٨)

__________________

(١) سنن أبي داود ، ج ٢ ، ص ١٥.

(٢) بحار الأنوار ، ج ١٠٠ ، ص ١٤.

(٣) نهج البلاغة الخطبة ، ١٧٦.

(٤) مسند أحمد ، ج ٢ ، ص ٨٩.

(٥) مسند أحمد ، ج ٢ ، ص ١٧٤.

(٦) مناقب ابن شهر آشوب ، ج ٢ ، ص ١٤.

(٧) صحيح البخاري ، ج ٩ ، ص ١٤٩.

(٨) للاستيضاح يمكن مراجعة كتاب مفاهيم القرآن ، ج ٤ ، ص ٢٨٨ ـ ٣١١.

١٨٩

ونكرر أنّ للشفاعة شروطا لا يمكن بدونها التشفع وهذا ما جاء في الآيات التي بحثناها والتي تشير بصراحة الى عدم تأثير شفاعة الشفعاء في المجرمين ، فالمهم أن تكون هناك قابلية للتشفع ، لأنّ فاعلية الفاعل لوحدها ليست كافية (أوردنا شرحا مفصلا في هذا الباب في المجلد الأوّل في بحث الشفاعة)

* * *

١٩٠

الآيات

( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣)كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦) )

التّفسير

يفرّون من الحق كما تفرّ الحمر من الأسد :

تتابع هذه الآيات ما ورد في الآيات السابقة من البحث حول مصير المجرمين وأهل النّار ، وتعكس أوضح تصوير في خوف هذه الجماعة المعاندة ورعبها من سماع حديث الحقّ والحقيقة.

فيقول الله تعالى أوّلا :( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) (١) لم يفرّون من دواء

__________________

(١) «ما» مبتدأ و (لهم) خبر و (معرضين) حال الضمير لهم (وعن التذكرة) جار ومجرور ومتعلق بالمعرضين ، وقيل تقديم (عن التذكرة) على (معرضين) دلالة على الحصر أي أنّهم أعرضوا عن التذكرة المفيدة فقط ، على كل حال فإنّ المراد من التذكرة هنا كلّ ما هو نافع ومفيد وعلى رأسها القرآن المجيد.

١٩١

القرآن الشافي؟ لم يطعنون في صدر الطبيب الحريص عليهم؟ حقّا إنّه مثير( كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ) .

«حمر» : جمع (حمار) والمراد هنا الحمار الوحشي ، بقرينة فرارهم من قبضة الأسد والصياد ، وبعبارة أخرى أنّ هذه الكلمة ذات مفهوم عام يشمل الحمار الوحشي والأهلي.

«قسورة» : من مادة (قسر) أي القهر والغلبة ، وهي أحد أسماء الأسد ، وقيل هو السهم ، وقيل الصيد ، ولكن المعنى الأوّل أنسب.

والمشهور أنّ الحمار الوحشي يخاف جدّا من الأسد ، حتى أنّه عند ما يسمع صوته يستولي عليه الرعب فيركض إلى كلّ الجهات كالمجنون ، خصوصا إذا ما حمل الأسد على فصيل منها ، فإنّها تتفرق في كل الجهات بحيث يعجب الناظر من رؤيتها.

وهذا الحيوان وحشي ويخاف من كل شيء ، فكيف به إذا رأى الأسد المفترس؟!

على كل حال فإنّ هذه الآية تعبير بالغ عن خوف المشركين وفرارهم من الآيات القرآنية المربية للروح ، فشبههم بالحمار الوحشي لأنّهم عديمو العقل والشعور ، وكذلك لتوحشّهم من كل شيء ، في حين أنّه ليس مقابلهم سوى التذكرة.

( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) (١) ، وذلك لتكبّرهم وغرورهم الفارغ بحيث يتوقعون من الله تعالى أن ينزل على كلّ واحد منهم كتابا.

وهذا نظير ما جاء في الآية (٩٣) من سورة الإسراء :( وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى

__________________

(١) «صحف» : جمع صحيفة ، وهي الورقة التي لها وجهان ، وتطلق كذلك على الرسالة والكتاب.

١٩٢

تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) .

وكذا في الآية (١٢٤) من سورة الأنعام حيث يقول :( قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) .

وعلى هذا فإنّ كلّا منهم يتنظر أن يكون نبيّا من اولي العزم! وينزل عليه كتابا خاصّا من الله بأسمائهم ، ومع كل هذا فليس هناك من ضمان في أن يؤمنوا بعد كل ذلك.

وجاء في بعض الرّوايات أنّ أبا جهل وجماعة من قريش قالوا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا نؤمن بك حتى تأتينا بصحف من السماء عليها فلان ابن فلان من ربّ العالمين ، ويأتي الأمر علنا باتباعك والإيمان بك.(١)

ولذا يضيف في الآية الأخرى :( كَلَّا ) ليس كما يقولون ويزعمون ، فإنّ طلب نزول مثل لهذا الكتاب وغيره هي من الحجج الواهية ، والحقيقة( بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ) .

إذا كانوا يخافون الآخرة فما كانوا يتذرعون بكل هذه الذرائع ، ما كانوا ليكذبوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما كانوا ليستهزئوا بآيات الله تعالى ، ولا بعدد ملائكته ، ومن هنا يتّضح أثر الإيمان بالمعاد في التقوى والطهارة من المعاصي والذنوب الكبيرة ، والحقّ يقال إن الإيمان بعالم البعث والجزاء وعذاب القيامة يهب للإنسان شخصية جديدة يمكنه أن يغير إنسانا متكبرا ومغرورا وظالما إلى إنسان مؤمن متواضع ومتق عادل.

ثمّ يؤكّد القرآن على أنّ ما يفكرون به فيما يخصّ القرآن هو تفكّر خاطئ :( كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) .

إنّ القرآن الكريم قد أوضح الطريق ، ودعانا إلى التبصر فيه ، وأنار لنا السبيل

__________________

(١) تفسير القرطبي ، والمراغي ، وتفاسير اخرى.

١٩٣

ليرى الإنسان موضع أقدامه ، وفي الوقت نفسه لا يمكن ذلك إلّا بتوفيق من الله وبمشيئته تعالى ، وما يذكرون إلّا ما يشاء الله.

ولهذا الآية عدّة تفاسير :

إحداها : كما ذكرناه سابقا ، وهو أن الإنسان لا يمكنه الحصول على طريق الهداية إلّا بالتوسل بالله تعالى وطلب الموفقية منه.

وطبيعي أن هذا الإمداد والتوفيق الإلهي لا يتمّ إلّا بوجود أرضية مساعدة لنزوله.

والتّفسير الآخر : ما جاء في الآية السابقة :( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) يمكن أن يوجد وهما وأنّ كل شيء مرتبط بإرادة الإنسان نفسه ، وأنّ إرادته مستقلة في كل الأحوال ، وتقول هذه الآية رافعة بذلك هذا الاشتباه ، إنّ الإنسان مرتبط بالمشيئة الإلهية ، وإن هذه الآية مختارا حرّا وهذه المشيئة هي الحاكمة على كل هذا العالم الموجود ، وبعبارة اخرى : إنّ هذا الاختبار والحرية والمعطاة للإنسان في بمشيئته تعالى وإرادته ، ويمكن سلبها أنّى شاء.

وأمّا التّفسير الثّالث فإنّه يقول : إنّهم لا يمكنهم الإيمان إلّا أن يشاء الله ذلك ويجبرهم ، ونعلم أنّ الله لا يجبر أحدا على الإيمان أو الكفر ، والتّفسير الأوّل والثّاني أنسب وأفضل.

وفي النهاية يقول :( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) .

فهو أهل لأن يخافوا من عقابه وأن يتقوا في اتّخاذهم شريكا له تعالى شأنه ، وأن يأملوا مغفرته ، وفي الحقيقة ، أنّ هذه الآية إشارة إلى الخوف والرجاء والعذاب والمغفرة الإلهية ، وهي تعليل لما جاء في الآية السابقة ، لذا نقرأ

في حديث ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : «قال الله : أنا أهل

١٩٤

أن اتقى ولا يشرك بي عبدي شيئا وأنا أهل إن لم يشرك بي شيئا أن ادخله الجنّة»(١) .

وبالرغم من أنّ المفسّرين ـ كما رأينا ـ قد أخذوا التقوى هنا بمعناها المفعولي ، وقالوا إنّ الله تعالى أهل لأن يتّقى من الشرك والمعصية ، ولكن هناك احتمالا آخر ، وهو أنّ تؤخذ بمعناها الفاعلي ، أي أن الله أهل للتقوى من كلّ أنواع الظلم والقبح ومن كل ما يخاف الحكمة ، وما عند العباد من التقوى هو قبس ضعيف من ما عند الله ، وإنّ كان التعبير بالتقوى بمعناه الفاعلي والذي يقصد به الله تعالى قليل الاستعمال ، على كل حال فإنّ الآية قد بدأت بالإنذار والتكليف ، وانتهت بالدعوة إلى التقوى والوعد بالمغفرة.

ونتعرض هنا بالدعاء إليه خاضعين متضرعين تعالى :

ربّنا! اجعلنا من أهل التقوى والمغفرة.

اللهم! إن لم تشملنا ألطافك فإنّنا لا نصل إلى مرادنا ، فامنن علينا بعنايتك.

اللهم! أعنّا على طريق مليء بالمنعطفات والهموم والمصائد الشيطانية الصعبة ، وأعنا على الشيطان المتهيئ لإغوائنا ، فبغير عونك لا يمكننا المسير في هذا الطريق.

آمين يا ربّ العالمين.

نهاية سورة المدّثّر

* * *

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٠٥.

١٩٥
١٩٦

سورة

القيامة

مكيّة

وعدد آياتها أربعون آية

١٩٧
١٩٨

«سورة القيامة»

محتوى السورة :

كما هو واضح من اسم السورة فإنّ مباحثها تدور حول مسائل ترتبط بالمعاد ويوم القيامة إلّا بعض الآيات التي تتحدث حول القرآن والمكذبين ، وأمّا الآيات المرتبطة بيوم القيامة فإنّها تجتمع في أربعة محاور :

١ ـ المسائل المرتبطة بأشراط الساعة.

٢ ـ المسائل المتعلقة بأحوال الصالحين والطالحين في ذلك اليوم.

٣ ـ المسائل المتعلقة باللحظات العسيرة للموت والانتقال إلى العالم الآخر.

٤ ـ الأبحاث المتعلقة بالهدف من خلق الإنسان ورابطة ذلك بمسألة المعاد.

فضيلة السورة :

في حديث روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأ سورة القيامة شهدت أنا وجبرائيل له يوم القيامة أنّه كا مؤمنا بيوم القيامة ، وجاء ووجهه مسفر على وجوه الخلائق يوم القيامة»(١) .

ونقرأ في حديث ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام قال : «من أدمن قراءة( لا أُقْسِمُ ) وكان يعمل بها ، بعثها الله يوم القيامة معه في قبره ، في أحسن صورة

__________________

(١) مجمع البيان ، ١٠ ـ ، ص ٣٩٣.

١٩٩

تبشّره وتضحك في وجهه ، حتى يجوز الصراط والميزان»(١) .

والجدير بالملاحظة أنّ ما كنّا نستفيد منه في القرائن التي في فضائل تلاوة السور القرآنية قد صرّح بها الإمام هنا في هذه الرّواية حيث يقول : «من أدمن قراءة لا اقسم وكان يعمل بها» ولذا فإنّ كل ذلك هو مقدمة لتطبيق المضمون.

* * *

__________________

(١) المصدر السّابق.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444