حركة التاريخ عند الإمام علي (عليه السلام)

حركة التاريخ عند الإمام علي (عليه السلام)0%

حركة التاريخ عند الإمام علي (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 181

  • البداية
  • السابق
  • 181 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30827 / تحميل: 8829
الحجم الحجم الحجم
حركة التاريخ عند الإمام علي (عليه السلام)

حركة التاريخ عند الإمام علي (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

باستمرار لتكوين حالات اجتماعيّة، ومشاغل واهتمامات فكريّة، تصرف فئات الشعب عن مصالحها الجوهريّة (1) وتقعد بها عن مساعدة الحكم الشّعبي الّذي يمثّل هذه المصالح ويعمل لتحقيقها، هذا إذا لم تفلح هذه البُنَى العليا في أنْ تُؤَلّب بعض فئات الشّعب - نتيجةً للتّضليل - ضدّ هذا الحكم.

وسكوت الشّعب في حالة النّشاط المعادِّي الّذي تقوم به البُنَى العليا، أو عدم مبالاته، بترك السّاحة خالية أمام هذه القوى لتفسد على الحكم الشّعبي سياساته المستقبليّة دون أنْ تخشى عقاباً؛ لأنّ الحكم في هذه الحالة يقف في مواجهة تلك القوى وهو أعزل، وهذا يمنعها من التّغلب عليه أو مِن تجاوزه. وهذا ما كان يحدث في كثير من الحالات في عهد الإمام (عليه السّلام)، وكان يثير غضبه على النّخبة لفسادها، ويحمله على كشف عيوبها أمام أعين النّاس.

لقد كان الإمام (عليه السّلام) حريصاً أشدّ الحرص على أنْ يُحرِّك الجماهير ويدفع بها دوماً إلى أنْ تعبّر عن رأيها، وتُعلِن عن مواقفها.

وتعكس لنا النّصوص إدراك الإمام العميق للأهمِّيَّة الكبرى والحاسمة الّتي تبيّنها هذه المسألة في عمله السّياسي، وذلك في مظهرين:

الأوّل:

كثرة المناسبات الّتي أثار فيها الإمام موضوع الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وتنوّع الأساليب الّتي شرحه بها. وهذا أمر مُلْفت للنّظر بالنّسبة إلى حكم شرعي ثابت في القرآن الكريم والسُنّة النبويّة ويعتبره الفقهاء من الأحكام القطعيّة الضّروريّة، إنّ هذا الاهتمام المستمر على مسألة الأمر والنّهي يكشف عن أنّ الإمام كان يواجه في المجتمع حالة غفلة عن الحكم الشّرعي بوجوب الأمر والنهي، وحالة تراخٍ عن القيام

____________________

1 - في المؤتمر الّذي عقده الخليفة (عثمان بن عفان) - عند تعاظم موجة الاحتجاج والتّذُّمر - وجمع الولاة والعمال الكبار لمعالجة الموقف المتفجّر بالغضب والنّقمة على سياسة الدّولة، كان اقتراح (عبد اللّه بن عامر) حاكم ولاية البصرة أنْ تحبس الجيوش حيث هي (تجمر) ولا يؤذن لها بالعودة لِيُشْغَل الجنود بمشاكل حياتهم اليوميّة عن النشاط السّياسي - ومن المؤسف أنّ هذا الاقتراح هو الّذي تمّ العمل به فأدّى إلى الفتنة الكبرى.

١٠١

بهذه الفريضة الإسلاميّة على وجهها، وهذه الغفلة وهذا التّراخي حَمَلاه على أنْ يُذَكِّر المسلمين بفريضة الأمر والنّهي ما استطاع.

الثّاني:

عنف الأسلوب الّذي عبّر به الإمام عن أفكاره وعن معاناته حين كان يوجّه خطاباته إلى المسلمين في هذا الموقف أو ذاك مٌُقَرِّعاً لائماً، أو مشجِّعاً حاثّاً لهم على أداء هذه الفريضة... وهو ما يكشف عن أنّ الإمام يعاني من قلق عميق وغضب مكبوت؛ نتيجةً لِمَا يراه في المجتمع من إهمال وتراخٍ.

***

وقد حثّ الإمام المسلمين على الالتزام العملي بفريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في حياتهم العامّة وعلاقاتهم الاجتماعيّة والسّياسيّة بأساليب متنوّعة، ونظر إليها من زوايا متعدِّدة.

ومن جملة الأساليب الّتي اتّبعها في تعليمه الفكري والسّياسي بِالنّسبة إلى هذه الفريضة:

(أسلوب التّنظير التّاريخي)

فَمِنْ ذلك قوله في الخطبة القاصعة:

(وإنَّ عِندكُمُ الأمثال مِن بأسِ اللّه وقوارعهِ، وأيّامهِ ووقائعهِ، فلا تستبطئُوا وَعِيْدهُ جَهْلاً بأخذهِ، وتهاوُناً بِبَطْشهِ، وَيَأسَاً مِن بَأْسِهِِ، فَإِنّ اللّه سُبحانهُ لَمْ يلعنِ القرن الماضي بين أيديكُم، إلاّ لتركِهمُ الأمر بالمعرُوف والنّهي عن المُنكر، فلعنَ اللّه السُّفهاء لِرُكُوبِ المعاصي، والحُلماء لترك التَّناهي) (1) .

نلاحظ أنّ الإمام عبّر في هذا النّص - كما في نصوص أخرى - عن إنكاره بشأن ما يراه في مجتمعه من تهاونٍ وتراخٍ في امتثال فريضة الأمر والنّهي، بأسلوب شديد الوقع يتجاوز النصيحة الرّقيقة الهادئة إلى الإنذار الشّديد، والتّحذير من أهوال كبرى مُقْبِلَة، واستعان على تصوير ذلك بالتذكير بما حلّ في القرن الماضي من اللّعن؛ نتيجةً لإهماله هذه الفريضة أو تراخيه عن القيام بها.

____________________

1 - نهج البلاغة: الخطبة رقم: 192.

١٠٢

واللّعن هنا ليس عقاباً روحيّاً وأُخرويّاً فقط، إنّه هنا يأخذ معنى سياسيّاً، إنّ اللّعن هو البُعْد عن رحمة اللّه ورعايته، وهذا يعني أنّ الملعون يتعرّض للنّكبات السياسيّة والاجتماعيّة الّتي تؤدِّي به في النهاية إلى الانحطاط والانهيار.

والظاهر أنّ الإمام يعني بالقرن الماضي (الإسرائيليّين) ، فإنّ في كلامه هنا قبساً من الآية الكريمة:

( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) (1) .

***

في النّص التالي اتّبع الإمام أسلوب التّنظير بالتاريخ أيضاً في تعليمه الفكري لمجتمعه بشأن فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، معيداً إلى أذهان مستمعيه قصّة ثمود القرآنيّة، والنّكبة المُرْعِبَة الّتي أبادتْهم حين عَصَوا أمرَ اللّه تعالى إليهم في شأن ناقة نبيهم صالح (عليه السلام).

وليس من هَمُّنَا هنا عرض الحادث التاريخي القرآني، وإنّما نبغي الكشف عن استخدام الإمام للتاريخ في تعليمه الفكري.

والإمام في التّنظير الوارد في النّص التّالي يُثير مسألة ذات أهمِّيَّة بالغة في العمل السّياسي، وهي:

أنّ حركة التاريخ تقودها دائماً جماعة قليلة العدد من الناس، تملك القدرة على الحركة فتُبَادِر إلى اتّخاذ المواقف، في حين أنّ غيرها من الناس يكون في حالة سكون، فتُكَوِّن بحركتها وقائع جديدة تحمل الناس على قبولها، وتضع السّلطة أمام أمر واقع.

وحين تكون هذه الجماعة المتحرِّكة القليلة العدد ملتزمةً بقضايا مجتمعها، عاملةً في سبيل مصلحته، فإنّ واجب المجتمع أنْ يساندها ويقدّم لها العون المعنوي والمادّي في جهادها.

____________________

1 - سورة المائدة: (مدنيّة / 5) الآية: 78 - 79.

١٠٣

أمّا حين تعمل هذه الجماعة ضدّ مصالح المجتمع العليا والحقيقة - رغم ما توشي به عملها من ألوان خادعة - فإنّ على المجتمع أنْ يتحرّك ويقف في وجهها ويَلْجِم اندفاعها؛ ذوداً عن مصالحه.

أمّا سكوت المجتمع وسكونه وسلبيّته تجاه مواقف هذه الجماعة فإنّه جريمة يرتكبها في حق نفسه؛ لأنّ الكارثة حين تقع في النهاية نتيجة لأعمال الجماعة المتحرّكة لا تميّز بين المسبّبين لها وبين السّاكتين عنهم. إنّها حين تقع تصيب بشرورها المجتمع كلّه، بل لعلّها - في قضايا السّياسة والفكر - تصيب السّاكتين عنها أكثر ممّا تصيب المسبّبين لها، والّذين تكمن مصلحتهم في الانحراف والتزوير.

ومن هنا فإنّ ما اصطلح عليه في لغة السّياسة في هذه الأيّام باسم (الأكثريّة الصّامتة) ، هذه الأكثريّة الّتي لا تبدي فيما يجري أمامها وعليها ولا تعيد، وإنّما تقبل ما يقوم به الآخرون مختارة أو مرغمة، راضية أو ساخطة،... هذه الأكثريّة الصّامتة بموقفها هذا تقوم بدور الخاذل للحق أو المتواطئ على الجريمة.

وذلك لأنّ الصّمت في هذه الحالات ليس علامة على البراءة والطّيْبَة، وإنّما هو علامة الجبن والغفلة والفرار من المسؤوليّة.

وهذه السّلبيّة الّتي هي في مستوى الجريمة لا تعفى من العقاب، والعقاب في هذه الحالة لا تقوم به السّلطة وإنّما تقوم به القوانين الاجتماعيّة الّتي تصنع الكارثة، يقوم به القدر الّذي لا يميّز بين السّاكن والمتحرّك وإنّما يجرف الجميع، يقوم به اللّه تعالى الّذي يؤاخذ الجميع بذنوبهم: المتحرّكين بذنب المعصية، والساكتين بذنب توفير أجواء الجريمة أمام المجرمين ليرتكبوا جرائمهم.

ولذا، فإنّ الأكثريّة الصّامتة، من هذا المنظور، لا تضمّ أبرياء، وإنّما تضمّ متواطئين وجبناء، سبّبوا، بإيثارهم للسّلامة الشخصيّة العاجلة، كوارث عامّة مستقبليّة، وجبنهم الّذي يكشف عن أنانيّتهم الرّخيصة والذليلة، يكشف عن أنّهم ليسوا جيلاً صالحاً لأنْ يبني حياة مزدهرة.

إنّ الكوارث الاجتماعيّة، كالكوارث الطّبيعيّة، تجرف في طريقها، حين تقع النّبات النّافع والنّبات الضّار، ولا تميّز بينهما في الدّمار.

١٠٤

قال عليه السلام:

(... وإنّهُ سيأتي عليكُم من بعدي زمان ليس فيه شيء من الحقِّ، ولا أظهر من الباطلِ، ولا أكثر من الكذبِ على اللّه ورسُوله، وليس عند أهلِ ذلك الزمان سلعة أَبْوَر من الكتاب إذا تُلي حقَّ تلاوته، ولا أنْفَق منهُ إذا حُرِّفَ عن مواضعه، ولا في البلاد شيء أَنْكَرَ من المعرُوف ولا أَعْرَف مِن المنكرِ، فقد نَبَذَ الكتاب يومئذٍ حملتُهُ، وتناساهُ حفظتُهُ، فالكِتابُ يومئذٍ وأهلُهُ طريدانِ منفيّانِ، وصاحبان مُصطحبان في طريقٍ واحدٍ لا يُؤوِيْهُما مؤوٍ... فالكتابُ وأهلُهُ في ذلك الزمانِ في النّاسِ وَلَيْسَا فيهم، ومعهُم وَلَيْسَا معهُم؛ لأنّ الضَّلالةَ لا تُوافِق الهُدى وإنْ اجتمعا...) (1) .

وتُصَوِّر الفقرة الأخيرة من هذا النّص - أبلغ تصوير - واقع الانفصال بين الأمّة وبين قيادتها الفكريّة؛ نتيجةً لاغترابها الثقافي، وانفصالها - في مجال تكوين المفاهيم والتوجيه - عن أُصولها الفكريّة.

وهذا الاغتراب (الثّقافي/ الحضاري) النّاشئ عن هَجْر الأصول - وليس عن التّفاعل مع الآخرين - يؤدّي إلى موقف في المنكر والمعروف خطير، فإنّ ثمّة مقياسَيْنِ للقِيَم والمُثُل الأخلاقيّة:

أحدهما: المقياس الموضوعي.

والآخر: المقياس الذّاتي.

المقياس الموضوعي: هو الّذي يجعل شريعة المجتمع وعقيدته منبعاً للقِيَم الأخلاقيّة، ففي مجتمع إسلامي - مثلاً - يكون منبع القِيَم هو العقيدة والشّريعة الإسلامِيَّتان.

وكذلك الحال في مجتمع مسيحي - مثلاً - أو بوذي.

وهذا المقياس يقضي بأنْ يكون المجتمع ملتزِماً بعقيدته وشريعته في مؤسّساته ونُظُمه وعلاقاته، بدرجةٍ تجعله تعبيراً عن تلك العقيدة والشّريعة.

والمقياس الذّاتي: هو الّذي يجعل منبع القِيَم الأخلاقيّة شخص الإنسان، فالإنسان في هذه الحالة هو الّذي يخترع أخلاقيّاته وقِيَمِهِ الّتي تُكيّف سلوكه تجاه المجتمع وعلاقاته في داخل المجتمع، ويستبعد هذا المقياس أي مصدر للقِيَم خارج الذّات للقِيَم والأخلاقيّات.

____________________

1 - نهج البلاغة: الخطبة رقم: 147.

١٠٥

قال عليه السلام:

(أيُّها النّاسُ: إنَّما يَجمَعُ النّاسَ الرِّضَى والسُّخْطُ ، وَإنَّمَا عَقَرَ نَاقَةَ ثَمُودَ رَجُلٌ وَاحِد، فَعَمَّهُمُ اللّه بِالعَذابِ لَمَّا عَمُّوهُ بِالرِّضَى) (1) .

***

وقد حذّر الإمام بتجمّعه في إحدى استبصاراته نحو المستقبل، مِن وضعيّةٍ فكريّةٍ وثقافيّةٍ تودّي إلى هجر الأصول الثقافيّة والفكريّة، التي تكوّن روح المجتمع الإسلامي وتَسِمُهُ بطابعه الخاص المميَّز له عن سائر التجمّعات (الثقافيّة / الحضارية) ، وتعطيه دوره المميّز والخاص في حركه التاريخ العالمي وبناء الحضارة وتؤدّي به - نتيجةً لانبثاقه عن أصوله - إلى أنْ يكون نسخة من ثقافة أُخرى ، ووحدة من وحدات حضارة أخرى ، وتغدو الأصول الثقافيّة - التي ترجع كلّها إلى الكتاب والسُنّة - مجرّد أشكال يتداولها النّاس دون أنْ يكون لها دور في تكوين المفاهيم، وبناء الشخصيّة، ورسم طريق العمل.

إنّ المسلمين أنفسهم يومئذٍ سينبذون الكتاب باعتباره مصدراً للمفاهيم الفكريّة، ويتّجهون نحو منابع غريبة عن ثقافتهم وحضارتهم، وعقيدتهم وشريعتهم، وتاريخهم، يستمدّون منها الغذاء العقلي والنفسي، والتوجيه السلوكي.

وننبّه هنا إلى أنّ الاغتراب الثقافي النّاشئ عن هجر الأصول - وهو ما حذّر الإمام منه - غير الانفتاح (الثقافي / الحضاري) الذي يتولّد من الطموح إلى التّفاعل مع الآخرين، واكتشاف صيغهم الحضاريّة، والتعرّف على فتوحهم الفكريّة مع الحفاظ على الأصول، والأمانة للذّات ومقوّماتها... فهذا الانفتاح أمر مطلوب مرغوب، وقد مارسه المسلمون وكانوا سادة فيه حين أنشأوا الحضارة الإسلاميّة العظيمة التي انفتحت على كلّ الإنجازات الخيّرة في الحضارات الأخرى، فاكتشفوها وكيّفوها وِفْقَاً لقِيَم الإسلام، ومفاهيم الإسلام، وأخلاقيّات الإسلام المستمدَّة من الكتاب والسُنّة والفقه.

____________________

1 - نهج البلاغة: رقم النص: 201.

١٠٦

وحينئذٍ يقع التعارض بين عقيدة المجتمع الرّسميّة وشريعته، وبين أخلاقيّات وقِيَم أفراده وفئاته، ففي مجتمع إسلامي - مثلاً - أو مسيحي أو بوذي، لا بّد أنْ نكتشف - في حالة شيوع المقياس الذاتي للقِيَم بين الأفراد - أنّ التزام المجتمع بعقيدته وشريعته التزام شكلي يرافق الإلحاد العملي.

والأثر الذي يترتّب على التزام المقياس الموضوعي للقِيَم في المجتمع أو المقياس الذّاتي هامّ جدّاً.

أولاً:

يؤدّي اعتماد المقياس الموضوعي إلى نموّ الفرد دون عُقَد وتمزّقات داخليّة؛ لأنّه يوفّر حالة التّجانس والتّكامل بين محتوى الضّمير والعقل، وبين التعبير السّلوكي في العلاقات مع المجتمع وفي داخله.

أمّا اعتماد المقياس الذّاتي فإنّه يؤدّي إلى خلاف ذلك؛ لأنّ اتّباع المقياس الذّاتي يحدث للفرد تمزّقات داخليّة وعُقَداً في نفسه، لأنّه يجعله دائماً في حالة تعارض وتجاذب بين إلزام العقيدة والشّريعة وبين رغبات الذّات باعتبارها مصدراً للقِيَم، ويؤدّي ذلك إلى انعكاسات ضارّة لا تقتصر على الأفراد، وإنّما تتجاوزهم إلى المجتمع نفسه.

وثانياً:

إنّ المقياس الموضوعي بما يوفّره من تجانس في داخل الفرد بين أخلاقيّاته من جهة ومعتقده وشريعته من جهة أخرى:

- يؤدّي إلى تلاحم واسع النطاق داخل المجتمع.

- ويكوّن لدى المجتمع نظرة إلى المشكلات.

- ويؤدّي أيضاً إلى تكوين مواقف واحدة أو متقاربة بين الجماعات تجاه التّحديات الّتي تواجه المجتمع.

أمّا اعتماد المقياس الذّاتي فإنّه يؤدّي إلى العكس من ذلك:

- إنّه يؤدّي إلى تخلخل البُنْية الاجتماعيّة.

- وتعدّد الفئات ذات المنازع الفكريّة والسّياسيّة المختلفة.

- ويكوّن مناخاً ملائماً لتولّد المشاكل الاجتماعيّة وتعاظمها؛ لأنّ المقياس الذّاتي لدى الأفراد والجماعات شديد التنوّع والاختلاف.

١٠٧

وهذا التّشرذم يؤدّي:

- إمّا إلى العجز عن اتخاذ مواقف موحّدة على الصّعيد القومي أو الوطني؛ نتيجةً لتعدّد الإرادات والميول.

- وإمّا إلى الاستسلام للدّعاية السّياسيّة الّتي يخطّط لها وينفِّذها فريق من ذوي الأغراض والغايات الخاصّة، يُخضِع عقول الناس لمفاهيمه وقناعاته، ويحملها على قبول اختيارات قد لا تنسجم مع المصالح الحقيقيّة للأمّة، وإنّما تنسجم مع مصالح هذا الفريق الّذي يملك وسائل الدّعاية والإعلان والإعلام، وهذا هو ما يحدث في العصر الحديث، ويؤدّي إلى كوارث كبرى على الأصعدة الوطنية في بعض الحالات، وعلى الصعيد العالمي في بعض الحالات الأخرى، حيث يعرّض سلام العالم كلّه أو سلام قارّة بكاملها لمطامح ومطامع حَفْنة صغيرة من الناس تكيّف عقول شعوب بكاملها، دافعةً بها إلى اتخاذ مواقف سياسيّة تناقض مصالحها الوطنيّة، ومصالح جميع الشّعوب، وقضية فلسطين أكبر شاهد على ما نقول.

لقد نبّه الإمام (عليه السّلام) إلى هذا الخطر، وحذّر منه مجتمعه، فقال:

(فيا عجباً، وما لي لا أعجبُ مِن خَطَإِ هذه الفرقِ على اختلاف حُججها في دينها، لا يقتصُّون أثر نبيٍّ، ولا يقتدُون بعملِ وصيٍّ، ولا يؤمنون بغيبٍ، ولا يعفُّون (1) عن عيبٍ. يعملُون في الشُّبُهات ويسيُرون في الشَّهواتِ. المعروفُ فيهم ما عرفُوا والمُنكر عندهُم ما أنكروا. مفزعُهُم في المُعضلاتِ إلى أنفُسهم وتعويلُهُم في المُهمّاتِ على آرائهم، كأنَّ كُلَّ امرئٍ منهُم إمام نفسهِ، قد أخذَ منها فيما يرى بعُرىً ثقاتٍ وأسبابٍ مُحكماتٍ) (2) .

***

وأخيراً، لقد بلغ من خطورة فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر عند الإِمام علي (عليه السلام) أنّه جعلها إحدى وصاياه البارزة الهامّة لابنَيهِ الإمامين الحسن والحسين.

وقد تكرّرت هذه الوصيّة مرّتين:

إحداهما: لابنه الإِمام الحسن في وصيّته الجامعة

____________________

1 - ولا يعِفّون: أي يستحسنون ما بدا لهم استحسانه، ويستقبحون ما خطر لهم قبحه بدون رجوع إلى دليلٍ بيّن، أو شريعة واضحة. يثق كلّ منهم بخواطر نفسه، كأنّه أخذ منها بالعروة الوثقى على ما بها من جهل ونقص.

2 - نهج البلاغة: الخطبة رقم: 88.

١٠٨

الّتي كتبها إليه بـ (حاضرين) عند انصرافه من صفّين.

والأخرى: في وصيّته للإمامَين الحسن والحسين في وصيّته لهما وهو على فراش الاستشهاد، بعد أنْ ضربه (ابن ملجم المرادي) بالسّيف.

قال عليه السّلام في الوصية الأولى:

(... وأْمُر بِالمعرُوفِ تكُنْ مِن أهلهِ، وانْكرِ المُنكر بيدك ولِسانِك وبَايِنْ (1) من فعلهُ بجُهدك، وجَاهِد في اللّه حقَّ جهادِه ولا تأخُذك في اللّه لومةُ لائمٍ) (2) .

وقال عليه السّلام في الوصية الثّانية:

(... أُوْصِيْكُمَا وجميع وُلْدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي... وَعَلَيْكُم بالتّواصُلِ والتّباذُلِ، وإيَّاكُم والتّدابُر والتّقاطُع، لا تترُكُوا الأمْرَ بالمعروفِ والنَّهي عن المُنكرِ فيُولّى عَلَيْكُم شِرَارُكُم، ثُمَّ تَدْعُون فَلاَ يُستَجَابُ لَكُم) (3) .

***

سلام اللّه على عليّ في الخالِدِين.

____________________

1 - باين: أي باعِد وجانِب.

2 - نهج البلاغة: باب الكتب / رقم النّص: 31.

3 - نهج البلاغة: باب الكتب / رقم النّص: 47.

١٠٩

5 - المعروف والمنكر والأكثريّة الصّامتة:

من فرائض الإسلام الكبرى فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.

وقد ورد تشريع هذه الفريضة في الكتاب الكريم والسّنّة الشّريفة في عدّة نصوص دالّة على وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر على جميع المسلمين بنحو الواجب الكفائي (1) .

كما وردت نصوص أخرى كثيرة في الكتاب والسُنّة، منها ما يشتمل على بيان الشّروط التي يتنجّز بها وجوب هذه الفريضة على المسلم. ومنها ما يضيء الجوانب السّياسية والاجتماعيّة لهذه الفريضة، كما يوضّح المبدأ الفكري الإسلامي العام الّذي ينبثق منه هذا التّشريع.

* دلّ على وجوب هذه الفريضة من الكتاب الكريم قوله تعالى:

( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (2) .

فقد دلّت هذه الآية على وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من جهة دلالة لام الأمر في ( وَلْتَكُنْ ) على الوجوب.

____________________

1 - من جملة تقسيمات الواجب عند علماء أُصول الفقه تقسيمه إلى:

- واجب عيني

- وواجب كفائي.

ويُعَنْوَن بالواجب العيني: ما يتعلّق بكلّ مُكلَّف، ولا يسقط عن أحد من المكلّفين بفعل غيره.

ويُعَنْوَن بالواجب الكفائي: ما يطلب فيه وجود الفعل مِن أيّ مكلّف كان، فهو يجب على جميع المكلّفين ولكن يُكْتَفَى بفعل بعضهم فيسقط عن الآخرين. نعم، إذا تركه جميع المكلّفين فالجميع مذنبون.

وأمثلة الواجب الكفائي كثيرة في الشّريعة:

منها: تجهيز الميّت والصّلاة عليه.

ومنها: الحِرَف والصّناعات والمِهَن الّتي يتوقف عليها انتظام شؤون حياة النّاس.

ومنها: الاجتهاد في الشّريعة.

ومنها: الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.

2 - سورة آل عِمران: (مدنيّة / 3) الآية: 104.

١١٠

كما أنّ ظاهرها أنّ الواجب هنا كفائي لا عيني؛ لأنّ مَفَاد الأمر تعلّق بأنْ تكون في المسلمين أُمّة تأمر وتنهى، لا بجميعهم على نحو العينيّة الاستغراقيّة، وعليه فإذا قامتْ جماعة منهم بهذا الواجب سقط الوجوب عن بقيّة المكلّفين كما هو الشّأن في الواجب الكفائي.

ولم يحدّد في القرآن والسّنّة عدد مخصوص لأفراد هذه الأمّة، فيراعى في عدد الأفراد القائمين بالواجب مقدار الوفاء بالحاجة.

وقد جعل اللّه تعالى في كتابه الكريم وعي هذه الفريضة، وأدائها حين يدعو وضع المجتمع إلى ذلك، من صفات المؤمنين الصّالحين.

فقال تعالى:

( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (1) .

فقد دلّت الآية المباركة على تضامن المؤمنين بعضهم مع بعض في عمل الخير والبرّ والتقوى، وأنّهم جميعاً من جنود هذه الفريضة حين يدعوهم الواجب إليها.

وسياق الآية الكريمة دالّ على وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، من حيث إنّ بقيّة ما ورد في الآية كلّه من الواجبات المعلومة في الشريعة (الصّلاة، والزّكاة، وطاعة اللّه ورسوله) (2) ، وإنْ لم تكن الدّلالة السّياقيّة من الدّلالات الّتي لها حجيّة في استظهار الأحكام الشّرعيّة.

وكما ورد مدح المؤمنين والمؤمنات - كأفراد - في الآية الآنفة، فقد ورد في آية أخرى مدح المسلمين كافّة - كأمّة ومجتمع - من حيث وعيهم لهذه الفريضة وعملهم بها،

وتلك هي قوله تعالى:

____________________

1 - سورة التّوبة: (مدنيّة / 9) الآية: 71.

2 - ربّما يكون المراد من طاعة اللّه ورسوله - بعد ذكر الأمر والنّهي والصّلاة والزّكاة - الطاعة في الشّأن السّياسي، فلا يكون من ذكر العامّ بعد الخاص.

١١١

( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ... ) (1) .

وقد مدح اللّه في كتابه الكريم المسلمين من أهل الكتاب، أتباع الأنبياء السّابقين قبل بعثة النّبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله) بوعيهم لهذه الفريضة والعمل بها، ممّا يكشف عن أنّها فريضة عريقة في الإسلام منذ أقدم عصوره وصيغهِ، وأنّها قد كانت فريضة ثابتة في جميع مراحله التّشريعيّة الّتي جاء بها أنبياء اللّه تعالى جيلاً بعد جيل.

قال تعالى:

( لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ) (2) .

***

وقد كان إحياء هذه الفريضة، وجعْلها إحدى هواجس المجتمع من شواغل الإمام الدّائمة. وقد تناولها في خُطَبِهِ وكلامه - كما تعكس لنا ذلك النّماذج الّتي اشتمل عليها نهج البلاغة - من زوايا كثيرة:

- تناولها كقضيّة فكريّة لا بدّ أنْ تُوعى؛ لتغني الشّخصية الواعية

- وباعتبارها قضيّة تشريعيّة تدعو الأمّة والأفراد إلى العمل.

ومن هذين المنظورَين عالجها بعدّة أساليب.

***

لقد أعطاها منزلة عظيمة - تستحقّها بلا شك - بين سائر الفرائض الشرعيّة، فجعلها إحدى شعب الجهاد الأربع:

(... والجهادُ منها - من دعائمِ الإيمانِ - على أربعِ شُعبٍ: على الأمرِ بالمعرُوف والنَّهي عن المُنكرِ، والصِّدقِ في المواطن، وشنآن الفاسقينَ، فَمَنْ أمرَ بالمعرُوفِ شدَّ ظُهُور المؤمنين، ومَنْ نهى عن المُنكرِ أرغم أُنُوف الكافرين ومَنْ صَدَقَ في المواطن قضى ما عليه، ومَنْ

____________________

1 - سورة آل عِمران: (مدنيّة / 3) الآية: 110.

2 - سورة آل عِمران: (مدنيّة / 3) الآية: 113 - 114.

١١٢

شنِئ الفاسِقِين وغضِب للّه غضِب اللّهُ لهُ وأرضاهُ يوم القيامةِ) (1) .

وجعل الإمام هذه الفريضة، في كلام له آخر، تتقدّم على أعمال البرّ كلّها.

فقال:

(... وما أعمالُ البِرِّ كُلُّها، والجهادُ في سبيلِ اللّه عندَ الأمرِ بالمعرُوفِ والنَّهي عنِ المُنكرِ إلاّ كنفثةٍ (2) في بحرٍ لُجِّيٍّ ...) (3) .

ومن السّهل علينا أنْ نفهم الوجه في تقدّم هذه الفريضة على غيرها إذا لاحظنا أنّ أعمال البرّ تأتي في الرّتبة بعد استقامة المجتمع وصلاحه المبدئي - الشّرعي والأخلاقي - وأنّ الجهاد لا يكون ناجعاً إلاّ إذا قام به جيش عقائدي، وهذه كلّها تتفرّع من الوعي المجتمعي للشريعة والأخلاق، ومن الحدّ الأدنى للالتزام المسلكي بهما.

***

* في بعض كلماته بيّن الإمام جانباً من الأسباب الموجِبة لهذا التّشريع، فقال:

(فرضَ اللّهُ... والأمرَ بالمعرُوفِ مصلحةً للعوامِّ، والنَّهي عن المُنكرِ ردعاً للسُّفهاءِ) (4) .

فعامّة النّاس الّذين قد يقعون في إثم ترك الواجبات؛ لأنّهم لا يعرفونها على وجهها أو يجهلونها، يمكّنهم الأمر بالمعروف من التعلّم والتفقّه، بالإضافة إلى أولئك الّذين يقعون في إثم ترك الواجب وهم يعرفون الواجب والحرام، حيث يردّهم الأمر بالمعروف إلى جادّة الصّواب والاستقامة، كما يرد إليها السّفهاء الّذين يتجاوزون في لَهْوهم وَعَبَثِهِم حدودَ اللّه.

***

وللأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر مراتب متدرجة من الأدنى إلى الأعلى، فهي

____________________

1 - نهج البلاغة: باب الحكم/ رقم النّص: 31.

2 - النفثة - كالنّفخة لفظاً ومعنىً بزيادة ما يُمازج النَفَس من الريق عند النّفخ.

3 - نهج البلاغة: باب الحكم / رقم النّص: 374.

4 - نهج البلاغة: باب الحكم / رقم النص: 252.

١١٣

فريضة مرنة تستجيب للحالات المتنوّعة، وللأوضاع المختلفة، فربّ إنسان تنفع في رَدْعه الكلمة، وربّ إنسان لا ينفع في شأنه إلاّ العنف.

ولكلّ حالةٍ طريقةُ أَمْرِها وَنَهْيها الّتي يقدّرها الآمر والنّاهي العارِف، ويتصرّف بقدرها فلا يتجاوزها إلى ما فوقها حيث لا تدعو الحاجة إليه، ولا ينحطّ بها إلى ما دونها حيث لا يؤثّر ذلك في ردْع السّفيه عن غَيِّه وحَمْله على الاستقامة والصّلاح.

وثمّة حالات من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لا بدّ فيها من القتال، وهذه حالات تحتاج إلى أنْ يقود عمليّة الأمر والنهي فيها الحاكمُ العادل. وفي هذه الحالات الخطيرة جدّاً لا يجوز لآحاد الناس أو جماعاتهم أنْ يقوموا بها دون قيادة حاكم شرعي عادل.

وإذا كانت مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر تتدرّج صاعدة: من الإنكار بالقلب، إلى الإنكار باللّسان، إلى الإنكار باليد، وللإنكار باللّسان درجات، وللإنكار باليد درجات...

وإذا كانت الحالات العاديّة للأمر والنّهي تتفاوت في خطورتها وأهمِّيَّتها بما يستدعي هذه المرتبة من الإنكار أو تلك، فإنّ الحالات الكبرى الّتي لا بدّ فيها مِن تدخّل الحاكم العادل، والأمّة كلّها قد تبلغ درجة من الخطورة لا بدّ فيها من الإنكار بالقلب واللّسان، وأقصى حالات الإنكار باليد، أعني القتال.

وهذا هو ما كان يواجهه المجتمع الإسلامي في عهد الإمام (عليه السّلام)، متمثِّلاً:

- تارةً في ناكثي البيعة الّذين خرجوا على الشرعيّة واعتدوا على مدينة البصرة، ولم تُفْلِح دعوته لهم بالحُسنى في عودتهم إلى الطاعة، واضطرّوه إلى أنْ يخوض ضدّهم معركة الجمل في البصرة.

- أو المتمرِّدين على الشرعيّة في الشام بقيادة (معاوية بن أبي سفيان) الّذي رفض جميع الصِيَغ السّياسيّة الّتي عرضها عليه الإمام ليعود من خلالها إلى الشرعية.

- أو المارقين الخوارج على الشّرعيّة والّذين رفضوا كلّ عروض السّلام الّتي قُدِّمت لهم، وأصرّوا على الفتنة ومارسوا الإرهاب ضدّ الفلاّحين والآمنين والأطفال والنّساء...

١١٤

التّاريخ في مجال السّياسة

تمهيد:

السّياسة لدى رجل العقيدة ورجل الدّولة الحاكم القائد - وهو ما كانه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - أداة للتّغلّب على سلبيّات الماضي والحاضر، من أجل التّوصل إلى أوضاع حياتيّة أفضل في المستقبل لأكبر قدر من النّاس.

والسّياسة، في الوقت نفسه: أداة للمحافظة على إيجابيّات الماضي والحاضر أمام عواصف التغيير والتقلّبات المفاجئة، التي قد تحمل للمجتمع السّياسي في ثناياها نذر كارثة.

السّياسة، إذن، ليست فنّ التغيير فقط، إنّها فنّ الثّبات أيضاً.

إنّ السّياسي الأمين على قضيّة مجتمعه، يعيش في أبعاد الزّمان كلّها - ماضيه وحاضره ومستقبله - ويتعامل مع حقائق الماضي، وواقع الحاضر، وآمال ومخاوف ومطامح المستقبل، يقود - بحذرٍ لا يبلغ الجمود، ومغامرة لا تبلغ التّهوّر - مجتمعه نحو آفاق جديدة دون أنْ يبتر استمراريّته وبُعده في الماضي.

نقول هذا في مواجهة دعاة التغيير منّا في عصرنا هذا، التغيير الّذي يستهدف استئصال جذورنا لقذفنا في الفراغ تحت شعار: ريادة المستقبل، جاعلين منّا ساحة لتجربة النّظريات والأفكار الّتي توضع في مراكز الحضارة الحديثة في أوربّا وأمريكا والإتحاد السّوفياتي.

١١٥

نقول هذا داعين إلى إعادة النّظرة في هذا النهج لمصلحة نهج آخر أقلّ غلوّاً، وأكثر واقعيّة، وأوثق صلة بتكويننا العقيدي والحضاري والثّقافي، وأشدّ مواءمة لمصالحنا في الحاضر والمستقبل، وأوفق بدورنا الّذي نطمح إلى استعادته لنُساهم به في إنقاذ الإنسان الحديث بتقويم الحضارة الحديثة، وتصحيح مسارها نحو وضعيّة ملائمة لتكوين الإنسان.

***

لقد كانت سياسة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) - كما سنرى وجوهاً منها في الفصول التالية - محكومة بهاجس واحد كبير ونبيل: تكوين الإنسان المسلم المتكامل القوي السّعيد، والمجتمع المسلم المتكامل القوي السّعيد، الإنسان والمجتمع المؤهَّلَين ليكونا قوّة خَيِّرة في العالم، يمثِّلان طموح الإنسانيّة الدّائم المتوهّج نحو مثل أعلى.

وقد كانت لذلك سياسة لا تستمد مقوّماتها من الحفاظ على الذّات وعلى مصالح الحاكم وأُسرته، فلقد كانت أُسرة أمير المؤمنين علي أكثر النّاس حرماناً من خيرات حكمه، وكان هو (عليه السّلام) أكثر حرماناً من أسرته.

وكانت سياسته تستضيء بنور الفكر، وتستهدي تعليم اللّه، وتنفلق من قِيَم الأخلاق والمناقب الّتي تُشرّف الإنسان؛ ولذا فقد كانت سياسة الإمام إنسانيّة بكلّ ما لهذه الكلمة من محتوى.

لم تكن أبداً سياسة الأفعال وردود الأفعال، وحسابات الأرباح والخسائر للحاكم وآله وبطانته... هذه السّياسة التي تحمل روح الطيش والغريزة، وتوجّه بعقليّة مزيج من روح الغاية وروح التّجارة.

وقد كان أمير المؤمنين علي في سياسته أميناً لعقيدته، أميناً لشريعته، فلا ينحرف عنهما أبداً، ولا يتجاوزهما - كما لا يقصّر عنهما - في أمر من الأمور أو في حالة من الحالات.

أميناً لأخلاقيّاته القرآنيّة - النّبويّة؛ ولذا فقد جعل من العمل السّياسي ممارسة رفيعة للمناقب، أميناً لمجتمعه، فيشركه في اتّخاذ القرارات بعد أنْ يبصّره بعواقب سوء الإختيار:

١١٦

(... ولقد أصبحنا في زمانٍ قد اتّخذَ أكثرُ أهلِهِ الغدر كَيساً (1) ونسبهُم أهلُ الجهلِ فيهِ إلى حُسنِ الحِيلةِ. ما لهُم! قاتَلهُمُ اللّه! قد يرى الحُوَّلُ القُلَّب (2) وجه الحِيلةِ ودُونها مانِع من أمرِ اللّه ونهيهِ، فيدعُها رأي عينٍ بعد القُدرةِ عليها، وينتهزُ فُرصتها من لا حريجة (3) لهُ في الدِّينِ) (4) .

وقال في موقف آخر:

(واللّه ما مُعاويةُ بِأدهى مِنَّي، ولكُنَّهُ يغدِرُ ويفجُرُ. ولولا كراهِيةُ الغدرِ لكُنتُ مِن أدهى النّاسِ. ولكِن كُلُّ غُدرةٍ فُجّرة، وكُلُّ فُجّرَةٍ كُفرة (وِلِكُلِّ غادرٍ لِواء يُعرفُ به يوم القيامةِ) (5) واللّه ما أُستغفلُ بالمكيدَةِ، ولا أُسْتَغْمَزُ (6) بالشَّديدةِ) (7) .

***

وبعد هذا التمهيد، كيف تعامل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب مع التّاريخ في مجال تعليمه السّياسي.

____________________

1 - الكيس: الفطنة والذّكاء.

2 - الحوّل القلّب: هو البصير بتحويل الأمور وتقليبها.

3 - الحريجة: التحرّج والتحرّز من الآثام.

4 - نهج البلاغة: الخطبة رقم: 41.

5 - حديث مروي عن النّبي (صلّى الله عليه وآله).

6 - لا أستغمز: على البناء للمجهول، لا يستضعفني الرّجل القوي. والغَمَز - بفتح الميم - الرّجل الضّعيف.

7 - نهج البلاغة: رقم النّص: 200.

١١٧

وهكذا استجاب عليّ بن أبي طالب للرّغبات الملحّة المتلهِّفة، فقبل كارِهاً - على ما يبدو - أنْ يتولّى السّلطة ويقود الأمّة.

* وقد تبلْورتْ وتحدّدت باستجابته وتولّيه للسّلطة ثلاث قوى سياسيّة / فكريّة، هي:

1 - النّهج الإسلامي الصّافي النّبوي:

تمثّله السّلطة الشرعيّة (الخلافة) وعلى رأسها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام).

والهدف الآني المباشر والملحّ لهذا النهج كان تصحيح الأوضاع السّياسيّة والإداريّة والاقتصاديّة في المجتمع الإسلامي الّذي يتطلّع بلهفة إلى تغييرات تحقّق آماله.

كما كان هذا الهدف يستبطن هدفاً آخر هو إعادة الاعتبار النّظري والعملي للمفاهيم والقِيَم الإسلاميّة.

2 - النهج الجاهلي المموّه بالإسلام:

وقد كان هذا النّهج يتمتّع بسلطة واسعة وثابتة في المنطقة السّوريّة. وكانت له جيوب في: (الحجاز، والعراق، ومصر) وغيرها من بلاد الإسلام.

وقد بدا منذ اللّحظة الأولى أنّ قائد هذا النّهج هو (معاوية بن أبي سفيان) ، والهدف الآني والنّهائي لهذا النّهج هو تثبيت الأوضاع القديمة، وإجهاض النّهج النّبوي أو قمعه بإثارة المشاكل والفتن في وجهه.

إنّه الثّورة المضادّة. إنّه قطع الطّريق على حركة التغيير.

وقد عبّر الإمام عن قادة هذا النّهج بأنّهم (أرادُوا ردَّ الأمورِ على أدبارِه)وذلك في كلام له عن أصحاب الجمل:

(إنَّ هؤُلاءِ قد تمالأوا (1) على سخطةِ (2) إمارتي، وسأصبِرُ ما لم أخف على جماعتِكُم، فإنَّهُم إنْ تمّمُوا على فَيَالَةِ (3) هذا الرَّأي انقطع نِظامُ المُسلمِين، وإنَّما طلبُوا هذهِ الدُّنيا حسداً لِمَنْ

____________________

1 - تمالأوا: تواطأوا واتّفقوا وتعاونوا.

2 - السّخطة: البغض والنّعرة.

3 - فَيَالَة الرّأي: ضعفه وسخفه.

١١٨

أفاءها (1) اللّه عليهِ، فأرادُوا ردَّ الأُمُورِ على أدبارِها. ولكُم علينا العملُ بكتابِ اللّه، تعالى، وسِيرةِ رسُولِ اللّه (صلّى الله عليه وآله)، والقيامُ بِحقِّهِ، والنَّعشُ (2) لِسُنَّتهِ) (3) .

3 - الموقف المتردِّد الحائر - إِذا صحّ أنْ يُسَمَّى التّردّد موقفاً -:

وتمثّل هذا الموقف بعض القيادات الثّانويّة: (سعد بن أبي وقاص، عبد اللّه بن عمر.. وآخرون) .

هذا النّهج لم يبلغ من الصفاء والوعي درجة تَحْمله على أنْ ينضوي في النّهج النبوي، وكانت مصالح رجاله من جهة وإثارة من التّقوى في أنفس بعضهم من جهة أخرى، قد حَمَلَتَا هؤلاء الرّجال على التزام جانب الحيطة والحذر من النهج الجاهلي، فلم ينحازوا إليه في هذه المرحلة، وإنْ كان بعضهم قد والى النّهج في النّهاية.

هؤلاء قال عنهم الإمام (عليه السلام):

(خذلُوا الحقَّ، ولم ينصُروا الباطِلَ) (4) .

ولمّا قال له (الحارث بن حوط) : أتُرانِي أظُنّ أصحابَ الجملِ كانُوا على ضلالة؟ قال لهُ الإمامُ:

(يا حارِث إنَّك نظرتَ تحتك ولم تنظُر فوقك فحِرتَ (5) ، إنّك لم تعرِفِ الحقَّ فتعرِف مَنْ أتاهُ، ولم تعرِفِ الباطِلَ فتعرِفَ من أتاهُ).

فقال لَه (الحارثُ بنُ حَوط) : فإنّي أعتزلُ مع (سعيدِ بن مالِك وعبد اللّه بن عُمرَ) ... فأجابه الإمامُ قائلاً:

(إنَّ سعيداً وعبد اللهِ بن عُمر لم ينصُروا الحقَّ، ولم يخذُلا الباطِلَ) (6) .

____________________

1 - أفاءها اللّه: أرجعها إليه، من فاء بمعنى رجع.

2 - النّعش: من نعش ينعش: بمعنى رفع السُنّة إلى مقام العمل والتّطبيق.

3 - نهج البلاغة: رقم النّص: 169.

4 - نهج البلاغة: باب الحكم / رقم: 18.

5 - حِرتَ: من (حار) أي تحيّر.

6 - نهج البلاغة: باب الحكم / رقم: 262.

١١٩

وكان بعض ممثِّلي هذا الموقف يتمتّعون باحترام محدود في قواعدهم القَبَلِيّة، وهذا الإحترام لم ينبع مِن ولاء فكري، بل من ولاء قَبَلِي، كما كانوا يتمتّعون باحترام محدود من جماهير المسلمين نابع من صحبتهم للنّبيّ (صلّى الله عليه وآله) ومن غموض موقفهم من الخيارات المطروحة على السّاحة السّياسيّة.

***

وقد أدرك الإمام منذ اللّحظة الأولى صعوبة موقفه، فكشف للأمّة عن أنّ حركة التّاريخ قد عادت ذات نبض جاهلي، فقد عاد التاريخ السابق على النّبوة.. كما صارح الأُمّة بأنّ المواجهة مع القِيَم البائدة العائدة تقتضي الحكم بأنْ يكون قويّاً وصارِماً... كما صارحهم بأنّ الآمال في تغيير سريع وكامل نحو الأفضل ينبغي أنْ تتضامن قليلاً؛ ليُتاح للسّلطة الشّرعيّة أنْ تواجه قوى الجاهلية بمرونة.

هذه الرّؤية السّياسيّة عبّر عنها الإمام في خطبة خطبها في أوّل خلافته، في المدينة، أو هي - حسب رواية (الجاحظ) في كتابه (البيان والتّبيين) عن (أبي عبيدة معمر بن المثنى) - أوّل خطبة خطبها بالمدينة، قال فيها حسب رواية (الجاحظ عن أبي عبيدة) :

(أَلاَ لا يرعينَّ مُرعٍ على نفسهِ (1) شُغِلَ من الجنَّةُ والنَّارُ أمامهُ. ساعٍ مُجتهِد ينجُو، وطالِب يرجُو، ومُقصِّر في النَّار...)

(اليمينُ والشِّمالُ مضلَّة، والوُسطى الجادَّةُ (2) منهج عليهِ باقي الكِتابِ والسُّنَّةِ وآثارِ النبُّوةِ. إنّ اللّه داوى هذهِ الأُمّةَ بدواءينِ: السوط والسَّيف، لا هوادةَ (3) عندَ الإمامِ فيهما. استتِروا في بُيُوتِكُم (4) وأصلِحُوا ذات بينِكُم، والتَّوبةُ من ورائكُم. مَن أبدى صفحتهُ لِلحقِّ هلكَ (5) ... انظُرُوا: فإنْ أنكرتُم فانكرُوا، وإنْ عرفتُم فآزرُوا... وقلَّما أدبر شيء فأقبلَ. وَلَئِنْ رُجِعتْ

____________________

1 - لا يرعين. . أي لا يبقين، أرعيتَ عليه: أي أبقيتَ: يقول: من سالم وهدأ فإنّما سلّم نفسه وأبقى عليها.

2 - الجادّة: الطريق المستقيمة الواضحة.

3 - الهوادة: الرفق والصلح، وأصله اللّين.

4 - استتروا في بيوتكم: لا يريد منع التّجول كما يقولون في أيّامنا، وإنّما يريد النّهي عن التّجمعات ذات الطابع التّحزّبي القبائلي، الّتي تدفع إليها العصبيّة القبليّة، كما إِنّه لا ينهاهم عن النقد السّياسي؛ لأنّه قال (فإنْ أنكرتم فانِكروا).

5 - الصّفحة: جانب الوجه، أو هي الوجه. يريد الإمام أنّ من تعرّض للحق بمخالفته وتجاوزه يهلك، لأنّه سيعاقب.

١٢٠