حركة التاريخ عند الإمام علي (عليه السلام)

حركة التاريخ عند الإمام علي (عليه السلام)0%

حركة التاريخ عند الإمام علي (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 181

  • البداية
  • السابق
  • 181 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30824 / تحميل: 8829
الحجم الحجم الحجم
حركة التاريخ عند الإمام علي (عليه السلام)

حركة التاريخ عند الإمام علي (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

وهكذا نرى الإمام يطلب إلى هؤلاء المتعجّلين أنْ يلزموا جانب التّروّي، وأنْ يتركوا له اتّخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، وألاّ يخضعوا لمنطق الفعل وردّ الفعل؛ لأنّ هذا يؤدّي إلى:

- التباس في المفاهيم.

- وتخبّط في المواقف.

- وأخطاء في القرارات، تجعل المناخ العام أكثر ملاءمة لروح الفتنة.

وقد أشار الإمام إلى ذلك بقوله: (... وتثبَّتُوا في قتامِ العِشوةِ...).

3 - حين يتهيّأ المناخ الملائم نتيجةً للعاملين الآنفي الذّكر تبدأ الفتنة بظواهر انحرافيّة بسيطة وهيّنة، يقابلها المجتمع بوجه عام، ونخبته السّياسيّة والفكريّة بوجه خاص، بالتّسامح واللامبالاة، وهذا ما يوفّر لهذه الظّواهر الانحرافيّة مناخ الأمان وفرص الاتّساع والنّمو. وهذا ما عبّر عنه الإمام بقوله: (... تبدأُ في مدارجَ خفيَّةٍ، وتؤُولُ إلى فظاعةٍ جليَّةٍ ...).

4 - وعلى خلاف وضع الفتنة حين تبدأ خفيّة حيّة، تلوذ وراء المبرّرات وتغطّي نفسها بشعارات خادعة، فإنّها حين تنمو وتتّسع (وتؤُولُ إلى فظاعةٍ جليَّةٍ) يكون لها عنفوان وتسلّط وبطش، وتبدأ بطبع آثارها العميقة في بُنْيَة المجتمع، وهذا ما عبّر عنه الإمام بقوله: (... شِبابُها كشِبابِ الغُلام، وآثارُها كآثارِ السِّلامِ ...).

5 - بعد انتشار الفتنة، واتّساع المساحات الّتي تستوعبها من فئات المجتمع، تكوّن قناعات تجعلها أشدّ رسوخاً في الذّهنيّة العامّة، وتغدو ثقافة شائعة ترتكز إليها السّلطة الّتي تقود حركة الفتنة، وتوجّه المجتمع وفقاً لقوانينها، وهذا ما عبّر عنه الإمام بقوله: (... يتوارثُها الظَّلمَةُ بِالعُهُودِ، أوَّلُهُم قائد لآخِرِهِم، وآخِرُهُم مُقتدٍ بِأوَّلهِم ...).

6 - ولكنّ الوضع السّياسي لِقَادَة الفتنة - بعد انتشارها، وتأصّلها في بُنْيَة المجتمع - لا يبقى موحَّداً ومتلاحماً، وإنّما تبرز التّناقضات والسّمات الشّخصيّة لكلّ فئة، والمطامع والمخاوف الخاصّة بكلّ جماعة. وحينئذٍ تنقسم قيادة الفتنة إلى فئات متخاصمة متناحرة، وتجرّ المجتمع وراءها إلى التّخاصم والتّناحر والحروب الأهليّة، وهذا ما عبّر عنه الإمام بقوله: (... وعن قلِيلٍ يتبرَّأُ التَّابعُ مِن المتبُوع، والقائدُ من المَقُودِ، فيتزايلُونَ بِالبَغضاءِ ويتلاعنُونَ عِندَ اللِّقاءِ).

١٤١

وهذا نص يصرّح فيه الإمام لأصحابه بما ينتظرهم من الفتنة وويلاتها من بعده، مُحَمِّلاً إيّاهم مسؤوليّة نشوء الفتنة وانتشارها وما يترتّب على ذلك من شرور؛ لأنّهم كانوا سلبيّين أمام مظاهر تسرّب روح الفتنة إلى مجتمعهم السّياسي وبُنْيَتهم الثّقافيّة، وهذا ما وفّر للفتنة أجواء النّموّ والانتشار، وكانوا متخاذلين، مُهْمِلِيْنَ لواجبهم، لم يتحمّلوا مسؤوليّتهم في نصرة قضيّتهم، وحماية نظامهم الشّرعي العادل:

(أيُّها النَّاسُ، لو لم تتخاذلُوا عن نصرِ الحقِّ، ولم تهِنُوا عن توهينِ الباطِلِ، لم يطمع فيكُم من ليس مِثلكُم، ولم يقوَ مَن قويَ عليكُم. لكِنَّكُم تِهْتُم مَتَاه بني إسرائيلَ، ولعمري ليُضعَّفنَّ لكُمُ التِّيهُ مِن بعدي أَضْعافاً، بِما خلَّفتُمُ الحقَّ وراء ظُهُورِكُم، وقطعتُمُ الأدنى ووصلتُمُ الأبعدَ ...) (1) .

ج - ما موقف المسلم من الفتنة حين تبدأ؟

ما موقف المسلم من الفتنة حين يذرّ قرنها؟

في الفتنة - كما رأينا - يختلط الحّق بالباطل، ويلتبس الصّواب بالخطأ، فلا يتميّز أحدهما من الآخر.

وفي هذه الحالة يكون الموقف الأسلم والأوفق بالشرع هو الابتعاد عن الفتنة والامتناع عن المشاركة مع هذا الطرف أو ذاك، إذ لا يأمن المشارك مِن أنْ يقع في الباطل وهو يرى أنّه ينصر الحق، أو يحارب الحقّ وهو يرى أنّه يحارب الباطل.

وهذا هو الموقف الّذي نصح الإمام بالتزامه حين تقع الفتنة، ويلتبس فيها الحقّ بالباطل، فقد قال:

(كُن في الفِتنَة كابنِ اللَّبُونِ. لا ظهر فيُركبَ، ولا ضرع فيُحلبَ) (2) .

____________________

1 - نهج البلاغة: الخطبة رقم: 166. ويومئ في الجملة الأخيرة إلى أنّهم اتصّلوا بمعاوية وتخلّوا عن الحاكم الشّرعي.

2 - نهج البلاغة: باب الحكم / رقم 1. وابن اللّبون: هو ابن النّاقة إذا كمل له سَنَتَان. وهو في هذه الحالة لا ينفع للرّكوب؛ لأنّه لا يقوى على حمل الأثقال، وليس له ضرع ليحلب، كنّى الإمام بذلك عن أنّ الإنسان الواعي في الفتنة يقف على الحياد فلا يكون ذا نفع لأيّ طرف من أطرافها.

١٤٢

ولكنّ هذا الموقف يكون صواباً حين لا يكون الإمام العادل موجوداً، ولا يُتاح للمسلم أنْ يتبيّن الحقّ من الباطل في الأحداث والمواقف الّتي تجري أمامه، أمّا حين يكون الإمام العادل موجوداً، ويتّخذ من الفتنة موقفاً، فإنّ على المسلم أنْ ينسجم في مواقفه مع مواقف الإمام العادل، وليس له أنْ يبقى على السّلبيّة، متذرّعاً بأنّه يخشى الوقوع في الباطل، وإنّما يكون موقفه هذا - في هذه الحالة - جبناً وخذلاناً للحقّ، بل إنّه يكون، من بعض الوجوه، خيانة ومساهمة في الفتنة؛ لأنّه بسلبيّته غير المبرّرة قد يضلّل آخرين يجدون في سلبيّته تبريراً لمواقفهم.

وقد واجه الإمام أثناء فترة حكمه العاصفة مثل هذه المواقف الجبانة السلبيّة الخائنة من قبل بعض القيادات في مجتمعه تجاه الفتنة الّتي أثارتها قِوى الثّورة المضادّة، فقال مرّة يخاطب النّاس:

(أيُّها النَّاسُ، ألقُوا هذِهِ الأزِمَّة (1) الَّتِي تحمِلُ ظُهُورُها الأثقالَ مِن أيدِيكُم، ولا تصدَّعُوا (2) على سُلطانِكُم، فتذُمُّوا غِبَّ فِعالِكُم (3) ولا تقتحِمُوا ما استقبلتُم مِن فور نارِ الفِتنةِ (4) ، وأميطُوا عن سننِهَا (5) وخلُّوا قصد السّبِيلِ لها (6) ، فقد لعمري يهلِكُ في لهبها المُؤُمِنُ، ويسلمُ فيها غيرُ المُسلِمِ).

(إنَّما مَثَلِي بينكُم كمثلِ السِّراجِ في الظُّلمةِ، يستضِيءُ بهِ مَنْ وَلَجَهَا ...) (7) .

فالإمام هنا ينهى جمهوره عن المشاركة في الفتنة، ولكنّه لا يقرّهم على الموقف السّلبي منها، وإنّما يأمرهم بالتّصدّي لها.

إنّ المشاركة فيها تعني التآمر معها، والسّلبيّة أمامها تعني عدم التّصدّي لها،

____________________

1 - الأزمّة: جمع زمام، كنّى عن قضايا الفتنة بالنياق الّتي يمسك أصحابها بأزّمتها، وهي تحمل على ظهورها الأثقال. يقول لهم: اتركوا قفا الفتنةِ ولا تخوضُوا فِيها لِتخلصُوا مِن آثارِها.

2 - لا تصدّعوا: لا تتفرّقوا عن الحاكم الشّرعي.

3 - غِبّ فعالكم: عواقبها.

4 - فور النّار: تعاظمها وارتفاع لهبها.

5 - أماط: نحّى وأزال. والسّنن: الطّريق. يعني تنحّوا عن طريق الفتنة وابتعدوا.

6 - قصد السّبيل: الطّريق. أي اتركوا الفتنة تسير في طريقها ولا تشتركوا فيها .

7 - نهج البلاغة: الخطبة رقم: 187.

١٤٣

وكلاهما خطأ.

الموقف السّليم هو مواجهتها مع الإمام الحاكم العادل؛ لأنّ الحقّ - بوجوده - بيّن ظاهر، فهو الهادي، وهو الدّليل الّذي لا يضلّل، وهو السّراج في الظّلمة، ظلمة الفتنة، وكلّ ظلمة.

وقد حدث أنّ بعض المسلمين في بدايات خلافة أمير المؤمنين عليّ التبس عليهم الأمر في الفتنة الّتي أثارها خروج (طلحة والزّبير) ، وعصيان (معاوية) نتيجة لموقف (أبي موسى الأشعري) الّذي قال للنّاس في الكوفة حين دعوا إلى قمع عصيان (طلحة والزّبير) : إنّ الموقف موقف فتنة، وأنّ الموقف السّليم منها هو الامتناع عن المشاركة فيها.

وقد أوضح الإمام إذ ذاك أنّ الموقف من الفتنة الّتي يلتبس فيها الحقّ بالباطل هو هذا، ولكنّ الأمر يختلف حين يتّضح جانب الحقّ بوجود الإمام العادل أو بأيّة وسيلة أخرى، فإنّ السّلبيّة في هذه الحالة تكون خيانة.

ومن هنا فقد سمّى الإمام خروج (طلحة والزّبير) فتنة، ودعا الناس إلى مواجهتها وقمعها؛ لأنّ وجه الحقّ فيها بَيِّن، فقد كتب إلى أهل الكوفة عند مسيره إلى البصرة:

(... واعلمُوا أنَّ دارَ الهِجرة (1) قد قلعت بِأهلِها وقلعوا بِها (2) ، وجاشت جيش المِرجلِ (3) ، وقامتِ الفِتنةُ على القُطبِ (4) ، فأسرِعُوا إلى أميرِكُم، وبادِرُوا جِهادَ عدُوِّكُم) (5) .

د - موقف الإمام عليّ من فتنة عصره:

ما دور الإمام عليّ، وما موقفه من الفتنة الّتي عصفتْ بالمجتمع الإسلامي في عهده؟

نظرة إلى التاريخ السّياسي والفكري للإسلام تكشف بوضوح عن أنّ الإمام عليّاً كان المنقذ الأكبر للإسلام من التّشوّه والمسخ بالفتنة الّتي عصفت رياحها المجنونة

____________________

1 - دار الهجرة: هي المدينة المنوّرة.

2 - قلع المكان بأهله: نبذهم وطردهم. وقلع فلان بمكانه: نبذه وابتعد عنه.

3 - جاشت: اضطربت، والمرجل: القدر: يعني أنّ دار الهجرة قد اضطربت بأهلها؛ بسبب الفتنة الّتي نشبت فيها وانطلقت منها.

4 - قامت الفتنة على القطب: وجدتْ من يوجّهها ويرعاها ويُغذّيها بالأفكار والقوى، فاشتدّت وعظم خطرها.

5 - نهج البلاغة: باب الكتب / الكتاب رقم 1.

١٤٤

بالمسلمين، منذ النّصف الثاني من خلافة (عثمان) .

ولولا توجيه (عليٍّ) الفكري، ومواقفه السّياسيّة، ومواجهته العسكريّة للفتنة في شتّى مظاهرها الفكريّة والسّياسيّة والعسكريّة لَتشوّه الإسلام، وانْمسخ، وتقلّص. ولكنّ الإمام عليّاً، بموقفه الواضح الصّريح الرّافض لأيّة مساومة، كان المنقذ الّذي كشف الفتنة ودعاتها، ووضع المسلمين جميعاً أمام الخيار الكبير: مع الفتنة أو ضدّها؟

ولا يهمّ بعد ذلك أنّ الفتنة حازتْ إلى جانبها جمهوراً كبيراً من النّاس، المهم أنّها افتضحتْ، وبافتضاحها سلم الإسلام من التّشوّه ومن خطر التّزوير، وكان على الّذين انحرفوا أنْ يجدوا لأنفسهم مبرّرات.

وقد كان توقّع نشوء الفتنة، والخوف منها ومن أفاعليها وعواقبها، هاجساً عامّاً عند المسلمين. يكشف عن ذلك السّؤال عنها، وعن الموقف الصّواب منها، وكثرة حديث الإمام عن أخطارها وملابساتها.

وقد كان الإمام عليّ بـ:

- روحانيّته العالية السّامية.

- وإسلاميّته الصّلبة الصّافية.

- وروحه الرّساليّة الّتي تفوّق بها على جميع معاصريه.

- وحكمته وشجاعته.

- وسيرة حياته الناصعة الّتي ابتدأت بالإسلام...

كان هو الرّجل الوحيد المرصود لمواجهة الفتنة، وإنقاذ الإسلام منها.

لقد أعلمه رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) بذلك، وأدرك هو دوره من خلال رَصْده لحركة المجتمع التّاريخيّة.

وهذا نصّ عظيم الأهمّيّة يكشف لنا عن الدّور المرصود للإمام عليّ في مواجهة الفتنة، يتضمّن الرّؤية النّبويّة لمستقبل الحركة التّاريخيّة من جهة، والرّؤية النّبويّة لدور الإمام عليّ في هذه الحركة.

وقد أورد (الشّريف الرّضي) هذا النّصّ، كما أورده (ابن أبي الحديد) في شرحه (9 / 105 - 107) برواية الشّريف وبرواية أخرى أكثر بسطاً. ويبدو أنّ الرّواية الأخرى تقريريّة حدّث بها الإمام، ورواية الشّريف خطابيّة، جاءت جواباً منه على سؤال، فقد قام إليه رجل - وهو يخطب - فقال: يا أمير المؤمنين: أخبرنا عن الفتنة، وهل

١٤٥

سألتَ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) عنها؟

فقال عليه السّلام: (إنَّهُ لَمّا أنزلَ اللّه سُبحانهُ قولَهُ: ( الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ) (1) .

علِمتُ أنَّ الفِتنة لا تنزِلُ بِنا ورسُولُ اللّه(صلّى الله عليه وآله) بين أظهُرِنا.

فقُلتُ: يا رسُول اللّهِ ما هذهِ الفِتنةُ الَّتِي أخبرَك اللّه تعالى بِها؟ فقال: (يا علِيُّ، إنّ أُمَّتي سيُفْتَنُون مِن بعدِي)، فقُلتُ: يا رسُولَ اللّه، أَوَ لَيْسَ قد قلتَ لي يوم أُحُدٍ حيثُ استُشهِدَ من استُشهِدَ من المُسلمِين، وَحِيْزَتْ (2) عنِّي الشَّهادةُ، فشقَّ ذلك عليَّ، فقُلتَ لي: (أَبْشِر، فإنَّ الشَّهادةَ مِن ورائكَ). فقال لِي: (إنَّ ذلِك لكذلِك، فكيف صبرُك إذن؟) فقُلتُ: يا رسُول اللّه: ليس هذا مِن مواطِنِ الصَّبرِ، ولكِن مِن مواطِنِ البُشرى والشُّكرِ.

وقال: (يا عليُّ، إنَّ القومَ سيُفتنُون بِأموالِهِم، ويمُنُّون بدينِهِم على ربِّهِم، ويتمنَّون رحمتَهُ، ويأمنُون سطوتَهُ، ويستحِلُّون حرامَهُ بِالشُّبُهاتِ الكاذبِةِ، والأهواءِ السَّاهيةِ، فيستحِلُّون الخمرَ بالنَّبيذِ، والسُّحتَ بالهديَّةِ، والرِّبا بالبيعِ) قُلتُ: يا رسُول اللّه: فبأيِّ المنازِلِ أُنزِلُهُم عندَ ذلِك؟ أبمنزلَةِ رِدَّةٍ أم بمنزلَةِ فِتنةٍ؟ فقالَ: (بِمنزِلَة فِتنةٍ) ) (3) .

وإذن، فقد كان الإمام مرصوداً لمواجهة الفتنة وفَضْحها. لقد كان منقذ الإسلام بعد رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) من التّزييف والتّحريف، فحقّق بمواجهته للفتنة صيغة الإسلام الصّافي، في المعتقد والفكر والتّشريع والعمل، وغدتْ الفتنة أزمة في داخل الإسلام، ولَم تُفلح في أنْ تكون هي الإسلام. وقد عبّر الإمام في أكثر من مقام عن دوره العظيم الفريد في التاريخ، من حيث كونه القيادي الوحيد الّذي استطاع أنْ يواجه الفتنة ويفضحها. فقال ممّا قال: (... فإنِّي فقأتُ عين الفِتنةِ (4) ، ولم يكُن ليجترئ عليها أحد غيري، بعدَ أنْ ماج غيهبُها (5) واشتدَّ كلبُها (6) ).

____________________

1 - سورة العنكبوت: (مكِّيّة / 29) الآية: 1 - 2.

2 - حاز عنه الشّيء: أبعده عنه.

3 - نهج البلاغة: الخطبة رقم: 156.

4 - فقأْتُ عين الفتنة: تغلّبت عليها.

5 - الغَيْهَب: الظّلمة. يعني أنِّي واجهتها في عنفوانها وقوّتها.

6 - الكلب: داء معروف يصيب الكلاب. يعني أنّه واجهها وهي في هذه الحالة عن الأذى والشّرّ الشّديدَين. والخطبة في نهج البلاغة: رقم: 93.

١٤٦

لقد حدثت داخل الإسلام فِتَن كثيرة، ولكنّ أعظم هذه الفتن خطورةً وأشدّها تخريباً فتنة بني أميّة الّتي عصفتْ رياحُها السّوداء الشّرّيرة المجتمعَ الإسلامي منذ النّصف الثّاني من عهد (عثمان) ، وتعاظمت خطورتها بعد مقتله. واستغرقتْ مواجهتها الفكريّة والسّياسيّة والعسكريّة معظم جهود أمير المؤمنين عليّ في السّنين الأخيرة من حياته.

وقد كان الإمام يغتنم كلّ فرصة سانحة ليحدّث مجتمعه عن هذه الفتنة، ويبيّن له أخطارها الآنيّة والمستقبليّة من أجل إيجاد المناعة النّفسية منها، والوعي العقلي لأَخْطارها، والعزم العَمَلي على مواجهتها وقَمْعها، والتّصميم على رَفْضها حتّى بعد انتصارها.

قال عليه السّلام:

(إنَّ الفِتنَ إذا أقبلتْ شبَّهتْ (1) ، وإذا أدبرتْ نبَّهتْ، يُنكرن مُقبِلاتٍ، ويُعرفن مُدبِراتٍ، يحُمنَ حَوْم الرِّياحِ، يُصِبْنَ بَلَدَاً، ويُخْطِئنَ بَلَدَاً. أَلاَ وإنّ أَخْوَفَ الفِتنِ عندي عليكُم فِتنةُ بني أُميَّة، فإنَّها فتنة عمياءُ مُظلِمة، عمَّت خُطَّتُها (2) وخصَّتْ بَلِيَّتُها، وأصاب البلاءُ مَنْ أَبْصَرَ فيها، وَأَخْطَأَ البلاءُ مَنْ عُمِيَ عنه) (3) .

فَهي فتنة عمَّتْ بَلِيَّتُها؛ لأنّ روّادها الحكّام أنفسهم، ومِن ثمّ فشرورها السّياسيّة والفكريّة تشمل المجتمع كلّه.

وهي فتنة خصّت بليّتها؛ لأنّ أعنف ضرباتها ستوجّه إلى الصّفوة المؤمنة الواعية، الّتي بقيتْ سليمة من داء الفتنة، ووضعتْ نفسها في مواقع كفاح الفتنة الغالبة.

والمسؤوليّة في هذه الفتنة ملقاة على المبصِرين فيها، الّذين يعرفونها ويعرفون وجه الحقّ، ويجبنون عن مواجهتها، أو يتواطؤون، ضدّ الحقّ، معها.

أمّا مَن عمي عنها، وجَهل أبعادها وأخطارها فهو معذور بجهله.

____________________

1 - شبّهت: اشتبه فيها الحقّ بالباطل، وإذا أدبرتْ وخلص النّاس منها تميّز حقّها من باطلها.

2 - عمّت خطّتها: يعني أنَّها فتنة غالبة تصيب ببلائها أهل الحقّ.

3 - نهج البلاغة: الخطبة رقم: 93.

١٤٧

2 - الفتنة:

فتنة: تعبير قرآني يدلّ - حين يسند إلى اللّه تعالى ويصدر عنه - تارة على الاختبار والامتحان الرّبّاني بالنّعمة، ومن هذا ما ورد في قوله تعالى:

( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) (1) .

أو يدلّ في موارد أخرى على الاختبار والامتحان الرّبّاني بالمصاعب والشدائد، ومن هذا ما ورد في قوله تعالى:

( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) (2)

وهذه الفتن ذات وظيفة تربويّة تعزّز صلابة المؤمنين، وترفع درجة وَعْيهم، وتميّز عنهم الدّخلاء والمنافقين.

هذا التعبير القرآني ذو المضمون التربوي الإيجابي، غدا عند الإمام عليّ مصطلحاً سياسيّاً - تاريخيّاً ذا مدلولات متنوّعة يتّصل بالحركة التّاريخيّة للمجتمعات في الحاضر وفي المستقبل.

وهو ذو مدلول سلبي بالنّسبة إلى حركة التّقدّم النّبويّة.

إنّ الفتنة عند الإمام - باعتبارها ظاهرة سياسيّة - معوّق لحركة التّقدّم، ونكسة في

____________________

1 - سورة الأنفال: (مدنيّة / 8) الآية: 28 ووردت آية أخرى مماثلة في سورة التّغابن: (مدنيّة / 64) الآية: 15.

2 - سورة العنكبوت: (مكِّيّة / 29) الآية: 2 - 3.

١٤٨

سير حركة النبوّة، وهي - والحال هذه - ليست من صنع اللّه تعالى، وإنّما هي من صنع البشر.

***

قسّم الإمام الفتنة إلى قسمين:

أحدهما:

الفتنة بالمعنى القرآني التّربوي، واعتبر أنّ الفتنة بهذا المعنى ذات دور إيجابي، بشرط أنْ تكون استجابة الإنسان لها بروح إيماني ملتزم، ووعي أخلاقي مسؤول، ولذا فلا معنى للاستعاذة باللّه من الفتنة بهذا المعنى فإنّ ذلك سخف؛ لأنّها تلازم طبيعة الحياة ووجود الإنسان، فلا توجد حياة مكتملة دون أنْ توجد معها فتنة بهذا المعنى.

وثانيهما:

الفتنة باعتبارها ظاهرة سياسيّة، وهذه هي الفتنة التي يُحذر منها ويُستعاذ منها، وهي الّتي أعطاها الإمام في تعليمه الفكري مدلولاتها السّياسية - التّاريخية. وسمّاها: (مضلاّت الفتن) .

وقد شرح الإمام ذلك بقوله:

(لا يقُولَنَّ أحدُكُم: اللّهُم إنَّي أعُوذُ بِك من الفِتْنَةِ؛ لأنَّهُ ليس أحَد إلاّ وهُو مُشتمِل على فِتْنَةٍ، ولكِن مَنْ استعاذ فَلْيَسْتَعِذ مِن مُضِلاّتِ الفِتنِ، فإنّ اللّه سُبحانهُ يقُولُ:

( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ ) .

ومعنى ذلِك أنَّهُ سُبحانَهُ يختبِرُ عِبادَهُ بِالأَموالِ والأولادِ لَيتَبيَّنَ السَّاخِطَ لِرِزقِهِ والرَّاضيَ بِقِسمِهِ، وإنْ كان سُبحانهُ أعلمَ بِهم مِن أنفُسِهِم، ولكِن لِتُظْهَرَ الأفعالُ التِي بِها يُستَحقُّ الثَّوابُ والعِقابُ، لأنَّ بعضهُم يُحِبُّ الذُّكُورَ وَيَكْرَهُ الإناثَ، وبعضهُم يُحِبُّ تثمِير المالِ ويكرهُ انثِلامَ الحاِلِ) (1) .

***

وليس من أهداف هذه الدّراسة البحث عن الفتنة باعتبارها مصطلحاً تربويّاً، وإنّما الهدف منها هو البحث عن الفتنة باعتبارها مصطلحاً (سياسيّاً / تاريخياً) فلنرَ فيما يأتي تقسيم الإمام لها باعتبارها ظاهرة سياسيّة، وتحليله لآليّة حركتها: كيف تبدأ

____________________

1 - نهج البلاغة: باب الحكم / رقم النّص: 93.

١٤٩

وتنمو وتنتشر؟ وتوجيهه في شأن الموقف الّذي ينبغي اتخاذه حين تقع.

ولنرَ دور عليّ في مواجهة الفتنة الّتي بدأت طلائعها في عهده.

وأخيراً رؤيته لفتنة بني أميّة بعده.

***

يبدو من تحليل النصوص الّتي اشتمل عليها نهج البلاغة بشأن الفتنة والمقارنة بينها أنّ ثمَّة ثلاثة أنواع من الفتن :

1 - الفتنة الشّاملة.

2 - الفتنة العارضة.

3 - الفتنة الغالبة.

وهذه التّسميات وضعناها نحن، ولم تَرِد في كلمات الإمام عليّ، على ضوء ما لاحظناه عن اتساع المساحة الفكريّة الّتي تطبعها الفتنة بطابعها، وتؤثّر بالتّالي على الوضعيّة السّياسيّة والعلاقات الاجتماعيّة والإنسانيّة داخل المجتمع.

أ - الفتنة الشّاملة:

تكون الفتنة شاملة حين تكون نظاماً فكريّاً يسود مجتمعاً من المجتمعات ذات الحضارة أو البدويّة / الرّعويّة، فالحضارة التي تقوم الحياة فيها على قِيَم الضّلال في الفكر والأخلاق والضّياع، وتنبني مؤسّساتها السّياسيّة والاجتماعيّة على الاعتبارات الّتي تنشأ من هذه القِيَم، وتحكم المجتمع السّياسي فيها علاقات فاسدة... هذه الحضارة تكون فتنة شاملة تصل إلى كلّ إنسان، وتنشر ظلالها خارج حدودها. إنّها الجاهليّة، قديمها وحديثها في ذلك سواء.

وكذا الحال فيما إذا كان نظام فكري كهذا يكوّن روح وعقل مجتمع (بدوي / رعوي) ، لم يبلغ مرحلة الحضارة ذات الإنجازات في مجال التّعامل مع الطّبيعة والمؤسّسات التّنظيميّة.

وقد صوّر الإمام (عليه السّلام) هذه الفتنة الشّاملة في حديثه عن حال العالَم - والعرب بوجه خاص - قبل بعثة رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) قال:

١٥٠

(... وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عبدُهُ ورَسُولُهُ، أرسلَهُ بالدِّينِ المشهُورِ، والعلَمِ المَأثُورِ، والكِتابِ المسطُورِ... والنّاسُ في فتنٍ انجذَمَ (1) فِيها حبلُ الدِّينِ، وتزعزعَت سوارِي اليِقين (2) واختَلَف النَّجرُ (3) وتشتَّتَ الأمرُ، وضاقَ المخرجُ، وعمِي المصدرُ، فالهُدى خامِل، والعمى شامِل. عُصِي الرَّحمانُ، ونُصِرَ الشَّيطانُ، وخُذِلَ الإيمانُ فانْهَارَتْ دَعَائمُهُ وتنَكَّرت مَعَالِمُهُ، ودُرِسَتْ سُبُلُهُ(4) وعفَتْ شُرُكُهُ (5) ، أطاعُوا الشَّيطانَ فَسَلكُوا مَسَالِكَهُ وَوَرَدُوا مَنَاهِلَهُ (6) ، بِهِم سَارَت أَعْلامُهُ وَقَامَ لِواؤُهُ، في فِتَنٍ دَاسَتْهُم بِأخفافِها وَوَطِئَتْهُم بِأَظْلاَفِها (7) وَقَامَتْ على سَنَابِكِها (8) ، فَهُم فيها تَائِهُونَ حائروُن جاهِلُون مفتُونُونَ، فِي خَيْرِ دارٍ وشّرِّ جِيرانٍ. نَوْمُهُم سُهُود، وكُحْلُهُم دُمُوع، بِأرضٍ عَالِمُهَا مُلْجَم، وَجَاهِلُهَا مُكرَم) (9) .

في هذا النّصّ فصّل الإمام عليٌّ نظرته إلى نموذج من نماذج الفتنة باعتبارها ظاهرة سياسيّة لمجتمع ما.

والسّمات الّتي تميّز الفتنة الشاملة فيما يفيده هذا النّصّ هي:

1 - مجتمع لا يحكمه نظام أخلاقي، وخالٍ من الحياة الرّوحيّة السّليمة. وهذا لا ينفي أنْ يتمتّع المجتمع المذكور بنظام سياسي.

وهذه السّمة يدلّ عليها قول الإمام: (انجذَمَ فِيها حبلُ الدِّينِ) فالمجتمع منقطع الصّلة بالوحي، ومِن ثمّ فهو لا يتمتّع بنظام روحي وأخلاقي.

2 - مجتمع تسيطر على أفراده وفئاته روح الشّك. ويتبع فيه - في مجال القِيَم - المقياس الذّاتي؛ لأنّه لا يتمتّع بمقياس موضوعي، نتيجة لخلوّه من النّظام الأخلاقي والحياة الرّوحيّة.

____________________

1 - انجذم: انقطع.

2 - السّواري: جمع سارية، وهي الدّعامة.

3 - النّجر: الأصل.

4 - درستْ: انطمستْ.

5 - عَفَتْ شُرُكُهُ: عفت: انمحت، وشركه: جمع شراك: الطّريق.

6 - المناهل: جمع منهل، هو مورد النّهر.

7 - الخف: للبعير، والظلف: للبقر، والشّاء: كالقدم للإنسان.

8 - السّنابك جمع سنبك: طرف الحافر.

9 - نهج البلاغة: الخطبة رقم: 2.

١٥١

وهذه السّمة الثّانية يدلّ عليها قول الإمام في النّصّ الآنف: (وتزعزعَت سوارِي اليِقين).

3 - مجتمع منقسم على نفسه إلى شِيَع وأحزاب، تُمزِّقه الصّراعات والنّزاعات، وتجعله خالياً من روح التّضامن والتّكافل. ومِن ثمّ فلا توجّه حركتَه آمالٌ متّحدةٌ وهدف أخلاقي كبير، وإنّما توجّهه الرّغبات الفرديّة والفئويّة بسبب عدم وجود نظام أخلاقي من جهة، وانتشار روح الشّك واتّباع المقياس الذّاتي في القِيَم من جهة أخرى.

وهذه السّمة يدلّ عليها قول الإمام: (واختَلَف النَّجرُ، وتشتَّتَ الأمرُ، وضاقَ المخرجُ، وعمِي المصدرُ...).

هذه هي السّمات الّتي تميّز الفتنة الشّاملة، وتطبع المجتمعات المفتونة بطابعها. وما جاء من أوصاف للمجتمع في الفقرات التالية من النّصّ الآنف هي نتائج لهذه السّمات الثّلاث الكبرى:

- فقدان النظام الأخلاقي والحياة الروحيّة.

- شيوع روح الشّك واتّباع المقياس الذّاتي في القِيَم.

- الانقسامات الطبقيّة والفئويّة والعائليّة، وعدم وجود هدف عظيم ونبيل يوجّه حركة المجتمع التاريخيّة.

هذه هي الفتنة الشّاملة.

وتسميتنا لهذه الفتنة بـ (الشّاملة) ناشئ من ملاحظة أنّها مستوعبة لكلّ المجتمع، بحيث لا يخلو منها أيّ مستوى من مستوياته وأي مظهر من مظاهر الحياة فيه، فهي روحه وعقله: روحه الملهمة، وعقله الموجّه.

ب - الفتنة العارضة:

الفتنة العارضة: عثرة تعترض سَيْر المجتمع أثناء حركته التّقدُّميّة فتشيع الحيرة والالتباس في بعض المواقف، وتعرّض بعض الأشخاص القياديّين وبعض فئات المجتمع لاختبارات حَرِجَة، وتحفّز بعض القِيَم القديمة للتّعبير عن نفسها، ولكن قوّة اندفاع المجتمع في حركته التّقدّميّة، وقوّة المبادئ الّتي تحكم سيره في قلوب وعقول أفراده تحول بين الفتنة وبين أنْ تنتشر وتتعمّق وتضرب بجذورها في ثنايا المجتمع، فسرعان ما ينكشف وجه الحقّ فيها، وتذبل حركتها، ويخفت صوت الدّاعين إليها بين

١٥٢

الناس، بل يغدون موضعاً للنقد والتّجريح، وتجفّ الرّوافد الرّجعيّة الّتي تمدّها بالحياة والحَرَكة، ويتعافَى المجتمع من نَكْسته، ويخرج من التّجربة أكثر وَعْياً ويقظةً.

وقد مرّت على المسلمين في عهد رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) بعض الفتن العارضة الّتي تجاوزوها - بتوجيه رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) - بنجاح، وخرجوا منها دون أنْ تؤثّر على حركة المجتمع الإسلامي المندفعة إلى الأمام.

ولعلّ أشدّ هذه الفتن العارضة الّتي واجهت المجتمع الإسلامي في عهد النّبي (صلّى الله عليه وآله) خطورةً كانت (فتنة الإفك) ، في سنة (ست للهجرة) ، في أعقاب غزو رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) والمسلمين لـ (بني المصطلق) من خزاعة.

وقبل الإفك ما حدث أثناء العودة من الغزوة المذكورة، حين أدّى تزاحم على الماء في بعض منازل الطّريق بين أجير لـ (عمر بن الخطّاب) من بني غفار اسمه (جهجاه) ، وبين أحد حلفاء الخزرج واسمه (سنان بن وبر الجهني) ، واقتتلا، فصرخ حليف الخزرج: (يا معشر الأنصار).

وصرخ أجير (عمر بن الخطاب) : (يا معشر المهاجرين).

ونشط المنافقون، وعلى رأسهم (عبد اللّه بن أبي سلول) ؛ لاستغلال التّوتّر الّذي وَلَّده هذا النّزاع البسيط بين المهاجرين والأنصار، وهدّد (ابن أبي سلول) بأنّهم إذا عادوا إلى المدينة ( لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ ) ، وكادت الفتنة أنْ تجرف كثيرين...

ولكن حكمة رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) قضتْ على الفتنة في مَهْدِها.

وأنزل اللّه في شأن هذه الفتنة الصّغيرة العارضة سورة المنافقين (رقم 63 في المصحف) فضح فيها نوايا المنافقين وأساليبهم، وجعل منها درساً تربويّاً إيمانيّاً وسياسيّاً للمسلمين عمّق وَعْيهم، وزاد يقظتهم، وعزّز صلابتهم أمام أساليب النّفاق.

أمّا فتنة الإفك فكانت أشدّ خطورة وأوسع انتشاراً.

لقد كانت مرتعاً خصباً للمنافقين يوهنون من خلالها مقام رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله)، ويشوّهون سمعته، ويلقون ظلالاً من الرّيبة على طهارة بيته، في مجتمع يقوم على قِيَم صارمة فيما يتعلّق بالطّهارة الجنسيّة، بما يؤدّي إليه الهمس الخفي في شأن كهذا في مجتمع كهذا من سخريات وظنون، والإشاعات تضعف التّأثير النّفسي لتوجيهات رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله).

١٥٣

3 - انتصار حركة الرِّدّة:

لا نعني بالرّدّة هنا الرّدّة الدّينيّة عن الإسلام، فقد سبق أنْ رأينا التّوجيه النّبوي لعليّ حين سأل رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله): فبأيِّ المنازِلِ أُنزِلُهُم عندَ ذلِك؟ أبمنزلَةِ رِدَّةٍ أم بمنزلَةِ فِتنةٍ؟ فقالَ(صلّى الله عليه وآله): (بِمنزِلَة فِتنةٍ).

وإنّما نعني الرِّدَّة السّياسيّة والفكريّة. فإنّ الفتنة حين انتصرتْ سياسيّاً بعد استشهاد أمير المؤمنين عليّ، راحت تمكّن لنفسها بفرض قِيَمها الفكريّة والاجتماعيّة في الثّقافة العامّة، وتطبع العلاقات في داخل المجتمع بطابعها.

***

لقد كان الإمام يرى ببصيرته النّافذة أنّ الفتنة ستنتصر، وكانت هذه الرّؤية إحدى مسببّات أَلَمِهِ العميق.

وكان يرى أنّ الفتنة لا تُقاوَم إِلاّ بالكفاح، أمّا السّكوت عنها ومهادنتها فَيَتِيْحَان الفرصة أمامها لكي تنتصر.

وكان يؤرِّقه أنّ مجتمعه - لأسباب شتّى - آثر أنْ يواجه الفتنة بالسّكوت عنها، أو - بعبارة أخرى - آثر ألاّ يواجه الفتنة الآتية.

وكان يقارن بين أصحابه وبين أصحاب رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله)، فيريهم أنّ التّوجيه الثّقافي واحد، وأنّ القيادة واحدة، ولكنّه يرى أنّ درجة الإخلاص متفاوتة:

(... واللّه ما أَسْمَعكُمُ الرَّسُولُ شيئاً إلاّ وها أنا ذا مُسمِعُكُمُوهُ، وما أسماعُكُم اليوم بِدُونِ أسماعِكُم بالأمسِ، ولا شُقَّتْ لهُمُ الأبصارُ، ولا جُعِلتْ لَهُمُ الأفئدةُ في ذلك الزَّمانِ، إلاّ وقد أُعطيتُم مِثلَها في هذا الزَّمانِ. وواللّه ما بُصِّرتُم بعدهُم شيئاً جَهِلُوهُ، ولا أُصفِيتُم بهِ

١٥٤

وحُرِمُوهُ (1) ، ولقد نزلتْ بِكُم البليَّةُ جائلاً خِطامُها (2) ، رِخواً بطانُها (3) فلا يغُرَّنَّكُم ما أصبح فيه أهلُ الغُرُورِ، فإنَّما هو ظِل ممدُود إلى أجلٍ معدُودٍ) (4) .

وقد تكرّر منه المقارنة بين حال أصحابه وحال أصحاب رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) في عدّة مواقف. وكان يرى في طريقة مواجهة أصحابه للفتنة الآتية نذر انتصار هذه الفتنة مِن بعده، وقد كشف عن رؤيته هذه لمجتمعه في عدّة مواقف.

منها قوله:

(... أَمَا والذي نفسي بيدِه، ليظهرنَّ هؤُلاءِ القومُ عليكُم، ليس لأنَّهُم أولى بِالحقِّ؛ ولكِن لإسراعهِم إلى باطل صاحبهم، وإبطائكُم عن حقِّي. ولقد أصبحتِ الأُممُ تخاف ظُلم رُعاتِها، وأصبحتُ أخافُ ظُلْم رَعِيَّتي، اسْتَنْفَرْتُكُم للجِهادِ فلم تَنْفِروا، وَأَسْمَعْتُكُم فَلَم تسمعُوا، ودعوتُكُم سِرّاً وجهراً فلم تستجيبُوا، ونصحتُ لكُم فلم تقبلُوا) (5) .

ويكشف هذا النّصّ - كغيره من النّصوص المماثلة له - عن أنّ انتصار الفتنة لم يكن في تقدير الإمام (عليه السّلام) وتحليله ناشئاً من قَدَرٍ غَيْبِي، وإنّما نشأ من توفّر الأسباب الموضوعيّة على أرض الواقع السّياسي والاجتماعي الّذي كانت عوامله تتفاعل في المجتمع السّياسي المواجه للفتنة.

لقد فقد هذا المجتمع فاعليّته، وتخلّى عن روح الكفاح في مواجهة الفتنة، وانفصل عمليّاً عن قيادته فسقط في السّلبيّة، وآثر الحياة السّهلة الخالية من تبعات الرّسالة والجهاد.

ومن ذلك قوله عليه السّلام:

____________________

1 - أُصفيتم: خصصتم به دون غيركم.

2 - الخطام: ما جعل في أنف البعير ليقاد به، فإذا لم يكن ثمّة قائد تاه البعير ولم يسلك طريق السّلامة، كنى بذلك عن الفتنة الّتي تعيث فساداً في المجتمع.

3 - البطان: حزام يجعل تحت بطن البعير؛ ليحفظ استقرار ما عليه من راكب أو حمل، فإذا استرخى أدّى ذلك إلى خطر السّقوط. كنّى بذلك عن أخطار الفتنة.

4 - نهج البلاغة: الخطبة رقم: 89.

5 - نهج البلاغة: الخطبة رقم: 97.

١٥٥

(... ثُمَّ يأتي بعد ذلِك طالِعُ الفِتنةِ الرَّجُوفِ (1) ، والقاصِمةِ الزَّحُوفِ (2) ، فتزيغُ قُلُوب بعد استِقامةٍ، وتضِلُّ رِجال بعد سلامةٍ، وتختلِفُ الأهواءِ عند هجُومِها، وتلتبسُ الآراءُ عِند نُجُومِها (3) من أشرف لها قصمتْهُ (4) ومَن سعى فيها حطمتْهُ، يتكادمُون فيها تكادُم الحُمُرِ في العانةِ (5) قد اضطرب فيها معقُودُ الحبلِ، وعُمِيَ وجهُ الأمرِ. تغيضُ فيها الحِكمةُ (6) ، وتنطِقُ فيها الظَّلمةُ، وتدُقُّ أهل البدو بمسحلِها (7) وترُضُّهُم بِكلكلِها (8) ... فلا تكُونُوا أنصاب الفِتنِ (9) وأعلامَ البِدعِ، وألزِمُوا ما عُقد عليه حبلُ الجماعةِ، وبُنيتْ عليه أركانُ الطَّاعةِ) (10) .

* في هذا النّصّ بيّن الإمام بعض سمات انتصار الفتنة:

1 - استيلاء الفتنة على مساحات جديدة في المجتمع: (وتضِلُّ رِجال بعد سلامةٍ) وتتعمّق الأفكار المنحرفة (فتزيغُ قُلُوب بعد استِقامةٍ).

2 - تلفّ المجتمع حيرة شديدة؛ نتيجةً للانتصار غير المتوقّع الّذي فرض مفاهيم جديدة لم تكن مألوفة.

3 - تحطّم الفتنة - في أوج انتصارها - كلّ مَن يتصدّى لها مواجهة.

وفي نصّ آخر بيّن الإمام وجوهاً أخرى لانتصار الفتنة:

(... فعِند ذلكَ أخذ الباطِلُ مآخِذَهُ، وركب الجهلُ مراكِبهُ، وعظُمتِ الطَّاغيةُ، وقلَّتِ

____________________

1 - الرّجوف: شديد الرّجفان والاضطراب، تُدخل الاضطراب والقلق على المجتمع.

2 - القاصمة: الكاسرة، والزّحوف: المتحرّكة الّتي تسعى للانتشار في المجتمع.

3 - نجوم الآراء: ظهورها، يعني أنّ الفتنة تسبّب البلبلة الفكريّة في المجتمع، فتمكِّن للشّعارات الدّخيلة من التّسرب والشّيوع.

4 - أشرف لها: تعرّض لها قصمتْه: كسرتْه.

5 - يتكادمون.. ينهش بعضهم بعضاً والعانة: هي الجماعة من الحُمُر الوحشيّة، يعني أنّ سلطان القانون - في حالة انتصار الفتنة - يسقط، ويسود سلطان الغريزة.

6 - تغيض.. تختفي، غاض الماء: غار تحت الأرض.

7 - دقّ: فتَّتَ وَطَحَن. والمسحل: المبرد أو المطرقة، يعني أنّ شرورها الاجتماعيّة تصل إلى أهل البدو - مع بعدهم عن يد السّلطة - فتحطّم علاقاتهم، وتهدّد أمنهم.

8 - الرّضّ: التّهشيم، والكلكل: الصّدر، يعني أنّها تطبق عليهم، فتشلّ حركتهم وتحطّم مقاومتهم.

9 - أنصاب: علامات.

10 - نهج البلاغة: الخطبة رقم: 51.

١٥٦

الدَّاعيةُ، وصال الدّهرُ صيالَ السَّبُع العَقُور ِ(1) ، وهدر فنيقُ الباطل بعد كُظومٍ (2) وتواخى النَّاسُ على الفُجُورِ، وتهاجرُوا على الدِّين، وتحابُّوا على الكذِبِ، وتباغضُوا على الصِّدقِ، فإذا كان ذلك كان الولدُ غيظاً (3) والمطرُ قيظاً (4) وتفيضُ اللِّئامُ فيضاً وتغيضُ الكِرامُ غيضاً (5) . وكان أهلُ ذلك الزَّمانِ ذئاباً، وسلاطينُهُ سِباعاً، وأوساطُهُ أكَّالاً، وفُقراؤهُ أمواتاً، وغار الصِّدقُ، وفاض الكَذِبُ، واستُعمِلتِ المودَّةُ باللِّسانِ، وتشاجر النَّاسُ بالقُلُوبِ، وصار الفُسُوقُ نسباً، والعفافُ عجباً، ولُبِس الإسلامُ لبسَ الفرو مقلُوباً) (6) .

في هذا النّصّ فصّل الإمام ملامح الفتنة عندما تنتصر، وتغلب على المجتمع، فتتسلّط على مؤسّساته، وتعمّق جذورها فيه، وتبسط مفاهيمها وقِيَمها عليه.

* ويمكن تلخيص هذه الملامح في النّقاط التّالية:

1 - تأصّل روح الطّغيان في الحكم، ونزعة التّجبر والاستبداد في الحاكمين، وانحسار الرّوح الرّساليّة في مؤسّسات الحكم.

2 - فساد العلاقات الإنسانيّة داخل المجتمع، وتدنّي المستوى الأخلاقي، وشيوع أخلاق المنفعة بين الناس. وما أروع قوله في تصوير جانب من هذه الظّاهرة (... واستُعمِلتِ المودَّةُ باللِّسانِ، وتشاجر النَّاسُ بالقُلُوبِ ...).

3 - انحطاط مؤسّسة الأُسرة، وشيوع الإباحة الجنسيّة.

ويلخّص ذلك كلّه قوله عليه السّلام: (... ولُبِس الإسلامُ لبسَ الفرو مقلُوباً) وهذا كقوله في نصّ آخر:

(أيُّها النّاسُ، سيأتي عليكُم زمان يُكفأُ فيه الإسلامُ كما يُكفأُ الإناءُ بما فيه) (7) .

____________________

1 - صال: هجم للفتك والاعتداء.

2 - الفنيق: الفحل من الإبل، والكظوم الصّمت والسّكون - يعني أنّ الباطل بعد أنْ كان ذليلاً صامتاً، غدا - في الفتنة - عالي الصّوت هادراً.

3 - بسبب الفتنة تفسد أخلاق الأجيال الشّابة فيكونون سبباً لغيظ أهلهم.

4 - القيظ: شدّة الحر. يعني أنّ الأمور والسّياسات تقع في غير مواقعها فلا تفيد بل تضرّ.

5 - غاض الماء في الأرض: اختفى وغار فيها. يعني يندر في الفتنة حين تغلب وجود ذوي الأخلاق الكريمة في مراتبهم الاجتماعيّة؛ لأنّهم يخفون أنفسهم ويبتعدون عن الأضواء.

6 - نهج البلاغة: الخطبة رقم: 108.

7 - نهج البلاغة: الخطبة رقم: 103.

١٥٧

4 - المعاناة:

تنتصر الفتنة، فتأتي بحكم غير عادل، لا يرى في الأمّة إلاّ موضوعاً لتسلّطه ومصدراً للمال.

وهي غير أخلاقيّة؛ لأنّ قادتها يتّبعون في سياسة الناس منطق الغريزة، لا منطق القانون والعدالة.

* ومن هنا وهناك فلا بدّ أنْ يكون لها ضحايا كثيرة:

- ومِن ضحاياها خصومُها السّياسيون الذين حاربوها في الماضي، وغلبوا على أمرهم في النّهاية.

- ومِن ضحاياها خلفاؤها الّذين ساندوها في أيّام ضعفها، واسْتَغْنَتْ عنهم في أيّام قوّتها.

- ومِن ضحاياها الغافلون عن شرورها وأخطارها، الّذين كانوا محايدين في المعركة الدّائرة بينها وبين أهل الحقّ، ثمّ دُهشوا عند انتصارها، فاحتجّوا أو أظهروا معارضتهم لها.

- وأكبر ضحاياها الأمّة كلّها حين تحوّلها الفتنة المنتصِرة إلى موضوع للتّسلط، ومصدر لصنع الثّروات، وتوفير أسباب التّرف واللّهو لنخبتها، وجهازها القمعي، وحلفائها.

وهكذا تبدأ معاناة الأمّة من الفتنة، من ظلمها وتسلّطها، من عدوانها الّذي ينتشر كالوباء فيصيب كلّ فئة من المجتمع المغلوب على أمره بشتّى ألوانه: (العدوان الأخلاقي، والعدوان السّياسي، والعدوان الاقتصادي).

وقد صوّر الإمام عليّ وجوهاً من معاناة الأمّة وعذاباتها بعد انتصار الفتنة، في لوحات معبّرة تكاد تنطق بالحركة الحَيّة.

١٥٨

من ذلك قوله عليه السّلام:

(... وايمُ اللّه لتجِدُنَّ بني أُميَّةَ لَكُم أربَابَ سوءٍ بَعدِي، كالنَّاب الضَّروس (1) تعذِمُ بِفِيْهَا (2) ، وتخبطُ بيدِها، وَتزِبنُ بِرجلهَا (3) وتمنع درَّه) (4) .

(لا يزالونَ بِكُم حَتّى لا يَترُكُوا مِنكُم إلاّ نافعاً لَهُم، أو غيرَ ضائر بِهم. ولا يَزال بَلاؤُهم عَنكُم حتَّى لا يكُون انتِصارُ أَحَدِكُم مِنهُم إلاّ كَانتِصارِ العَبدِ مِن رَبِّه والصّاحبِ من مُستَصحِبِهِ. تَرِدُ عَلَيكُم فتنتهم شَوهاء (5) مخشيَّةً، وقطعاً جاهليَّة، لَيسَ فيها مَنَارُ هُدى وَلا عَلَم يُرى) (6) .

* وهكذا يعاني النّاس من الفتنة بعد انتصارها ألواناً مِن الشّرِّ:

1 - حكم الطّغيان الّذي يقضي على كلّ معارضة له بالرّأي والمذهب، وهو لا يقضي عليه بهوادة ولين، وإنّما بالعنف والقسوة.

2 - والإذلال الّذي يمحق كرامة الإنسان ويشوّه روحه، فيحوّله إلى عَبْدٍ لا يجرؤ على رفع صوته والتّعبير عن رأيه، وإنّما يخضع بالطّاعة العمياء الصّمّاء الّتي لا خيار فيها ولا تنبثق من قناعة وإنّما يفرضها الخوف من العذاب.

***

ومن ذلك قوله عليه السلام:

(واللّه لا يزالُون حتَّى لا يدعُوا لِله مُحرَّماً إلاّ استَحلّوهُ، ولا عقداً إلاّ حلُّوهُ، وحتَّى لا يبقى بيتُ مدرٍ ولا وبرٍ (7) إلاّ دخلهُ ظُلمُهُم ونبا بِهِ سُوءُ رعيهِم (8) ، وحتَّى يقُوم الباكيانِ، يبكيانِ: باكٍ يبكِي لدينِهِ وباكٍ يبكي لدُنياهُ، وحتَّى تكُون نُصرةُ أحدِكُم مِن أحدِهم كنُصرةِ العبدِ

____________________

1 - النّاب: النّاقة المسنّة، والضّروس: النّاقة السّيّئة الخلق.

2 - عذم الفرس: إذا أكل بجفاء، أو عضّ.

3 - تزبن: تضرب برجلها مَن يقترب منها.

4 - الدّرّ: اللّبن. يعني أنّها غير ذات فائدة مع كونها مصدراً للتّخريب والأضرار. فالفتنة شرّ كلّها، ولا خير فيها.

5 - شوهاء: قبيحة المنظر، ومخشية: مخوفة مرعبة.

6 - العلم: الدّليل الهادي في متاهات الصّحراء. نهج البلاغة، رقم: 93.

7 - يبت المدر: ما بُني بالحجارة، وبيت الوبر: الخيمة. يعني أنّ شرّ الفتنة لا يقتصر على سكّان المدن وإنّما يشمل الرّيف والبدو.

8 - نبا به سوء رعيهم: شرّد النّاس، وأقلق حياتهم من (نبا به المنزل): إذا لم توافقه.

١٥٩

مِن سيِّدهِ، إذا شهِد أطاعهُ وإذا غاب اغتابهُ، وحتَّى يكُون أعظمكُم فيها عناءً أحسنُكُم بِاللّه ظنّاً، فإنْ أتاكُم اللّه بعافيةٍ فاقبلُوا، وإنْ ابتُليتُم فاصبِرُوا، فإنَّ العاقبِةَ للمُتَّقين) (1) .

* في هذا النّصّ يكشف الإمام عن وجوه أخرى من المعاناة والعذاب:

1 - سقوط حرمة القانون عند الطّغمة الحاكمة الّتي يُفترض فيها - وهي تحكم باسم الدّين - أنْ تحافظ عليه من حيث التّطبيق.

2 - انتشار الظّلم، وعدم اقتصاره على الحواضر والمدن، بل يشمل جميع مستويات الأمّة فيعاني منه سكّان المدن وبدو الصحراء.

3 - الإذلال، وهدر كرامة الإنسان الّذي يتحوّل - لطول ما يعاني من الإذلال - إلى ما يشبه أخلاق الرّقيق.

إنّ هذا الواقع يجعل المعاناة شاملة في قضايا الدّين وقضايا الدّنيا، ويكون أشدُّ النّاس بلاءً ومعاناةً أكثرَهم وَعْيَاً، وأصلبهم عوداً في مواجهة إغراء الفتنة وإرهابها.

ولكن الإمام يوصي هذه الفئة المستنيرة الّتي لم تستهلكها الفتنة بالصّبر؛ لأنّ الفتنة في هذه المرحلة لا تقاوم، وكلّ جُهد يُبْذل في مقاومتها جهدٌ ضائع مهدور يزيد الشَّرعيّة ضعفاً ووحدة وعزلة دون أنْ يؤثّر على الفتنة، وهي في أوج انتصارها شيئاً.

***

ومن ذلك قوله عليه السّلام:

(رايةُ ضلالٍ قد قامت على قُطبِها (2) وتفرَّقت بِشُعبِها (3) تكيلُكُم بِصاعِها (4) ، وتخبطُكُم بباعِها (5) ، قائدُها خارج مِن الملَّةِ، قائم على الضِّلَّةِ، فلا يبقى يومئذٍ مِنكُم إلاّ ثُفالة كثُفالةِ القدرِ (6) أو

____________________

1 - نهج البلاغة: الخطبة رقم: 98.

2 - استحكم أمرها كالرّحى حين تستقرّ على قطبها.

3 - الشّعب: الفروع. يعني أنّ الفتنة تغلغلت في جميع ثنايا المجتمع.

4 - تشمل النّاس بشرّها دون تمييز كما يكال الحب بالصّاع.

5 - تضرب بذراعها جميع الأمّة فلا يمتنع منها أحد، مأخوذ من (خبط الشّجرة) ضربها بالعصا ليسقط ثمرها أو يتناثر ورقها.

6 - الثّفل: نفاية الشّيء، وما لا خير فيه منه، وثفالة القدر: ما يبقى فيه من هذا القبيل.

١٦٠