حركة التاريخ عند الإمام علي (عليه السلام)

حركة التاريخ عند الإمام علي (عليه السلام)20%

حركة التاريخ عند الإمام علي (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 181

  • البداية
  • السابق
  • 181 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 33815 / تحميل: 10641
الحجم الحجم الحجم
حركة التاريخ عند الإمام علي (عليه السلام)

حركة التاريخ عند الإمام علي (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

حركة التاريخ عند الإمام علي (ع)

تأليف

الشيخ محمّد مهدي شمس الدين

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

٣

حركة التاريخ عند الإمام علي (ع)

تأليف

الشيخ محمّد مهدي شمس الدين

٤

(أيْ بُنَّي. إنِّي وَإنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ ، وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ، حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهى إلَيَّ مِنْ أُمُوِرِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِه، وَنَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِه...).

مِنْ وصيَّةِ الإمامِ عليّ (عليه السلام) إلى وَلدِهِ الإمام الحَسنِ (عليه السلام)

٥

كلمة المؤسّسة

والحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين، محمّد وآله الطيِّبين الطاهرين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، إِلى قيام يوم الدين..

وبعد ..

فإنّه إِذا كان الهدف من دراسة التاريخ هو مجرّد اجترار الأحداث، أو لتكون محض ترف فكري، ونشوة خاوية فإنّ قصارى جهد دراسة كهذه سيكون: هو أنْ يتمطى الفكر في قيوده وأغلاله في بسمة حلم عارضة ثمّ لا يلبث أنْ يعود ليَدفن نفسه تحت ركام من الأحلام في مطاوي الفراغ، والخنوع ثمّ النسيان..

وإنّما تصبح دراسة التاريخ، وفلسفته، وآثاره، ذات قيمة، وفاعليّة، وجدوى.. حينما يُراد لها أنْ تتحوّل، لتكون عبء مسؤوليّة، وبداية حركة، ونبضات حياة..

وبديهي.. أنّه من أجل أنْ تكون كذلك لا بدّ من أنْ تصبح قادرة على أنْ تعكس الواقع التاريخي كما هو، ومِن دون أي زيادة أو نقصان.. وكذلك من دون أي تزوير أو تحرير..

ومعنى ذلك: هو أنّ على هذه الدراسة لكي تكون على مستوى من الدقّة والأمانة.. أنْ تتحرّى أسلوب المحاكمة النزيهة والموضوعيّة للأحداث والوقائع، أو فقل لِمَا يدّعى أنّه منها وأنْ تعتمد الأصوليّة العلميّة الصحيحة في بحوثها، وكذلك في مجال التحليل، والاستنتاج، والتقييم..

وإِذا كنا نعلم: أنّ أَوْثَقَ مَنْ يمكن الاعتماد عليهم في إِعطاء صورة واقعيّة وواضحة عن أيّ حدث كان، وعن علله وأسبابه.. هم أولئك الذين عاصروه وعايشوه، وعاينوه عن قرب ..

٦

فإنّنا نجد: أنّه حتّى هؤلاء.. بل وحتّى كثير من الذين شاركوا في صنع ذلك الحدث لا يستطيعون: أنْ يقدموا صورة واضحة المعالم عن ذلك الحديث المفترض، ولا عن علله وأسبابه، وآثاره ونتائجه.

بل قد نجدهم يعطون تفسيرات مختلفة.. بل وحتّى متباينة أحياناً.. رغم افتراضنا مسبقاً:

أنّهم جميعاً صادقون في رغبتهم بإعطاء الحقيقة، كل الحقيقة في هذا المجال..

وما ذلك.. إِلاّ لأنّ الناس يختلفون في مستويات إِدراكهم ووعيهم، وفي نسبة اطلاعهم على جزئيّات وظروف ذلك الحدث، الأمر الذي يؤثِّر على قدرتهم على فهمه واستيعابه أحياناً، ثمّ على ربطه بغيره، فضلاً عن إدراك علله وأسبابه.. ثمّ آثاره ونتائجه على النحو الأفضل والأتمّ..

كل ذلك.. فيما لو كان الحدث عاديّاً، لا يوجد مَن يهتمّ بالتلاعب فيه، أو بالتعتيم عليه.. فكيف إِذن تكون الحال بالنسبة لتلك الأحداث، التي تشارك في صنعها أيدٍ خفيّة، وتعمل على تزييف التعتيم أو على كثير من الحقائق.. ثمّ على التحوير والتزوير فيها، وفي خصوصيّاتها وملامحها..

وإِذا كانت الأحداث التي دُوّنت ووصلتْ إِلينا أكثرها أو كثير منها ولا سِيَّما أكثرها حساسيّة، وأعظمها أهمِّيَّة هي مِن هذا النوع بالذات.. فإنّنا ندرك: مدى حاجتنا إِلى الناقل الخبير، والناقد البصير في هذا المجال.. كما أنّنا ندرك مدى أهمِّيَّة وتأثير الوسائل التي لا بدّ لنا من الاستفادة منها في الوصول إِلى الحقائق، التي أُريد لسبب أو لآخر إِحاطتها بستار من الكتمان، أو بقاؤها رهن الإبهام والغموض..

وبعد كلّ ما تقدّم.. فإنّنا إِذا كنّا نعلم: أنّنا كلّما قَرُبْنَا من مصدر الوحي والرسالة، والإمامة والعصمة، فإنّنا نكون أبعد عن المغالاة والتجنِّي، وعن الوقوع فريسة للخداع والتضليل؛ لأنّ هذا هو المصدر الوحيد، الذي لا يعتريه خلل في الرؤية للواقع الموضوعي، ولا نقص في إِدراكاته لحقيقة ما يجري، ولا مجال للحيلولة بينه وبين الواقع، واطّلاعه عليه كما هو، ومن دون أي تحوير أو تزوير..

- إِذا كنّا نعلم ذلك - فإنّ النّهل من هذا النمير العذب، والاستقاء من هذا المنبع الصافي، والاعتماد عليه في التعرف على الأحداث والوقائع، وكل ما يرتبط بها أو يعود إِليها، يصبح أكثر أهمِّيَّةً وخطراً، وأعظم بركةً وأثراً..

حتّى إِذا تعذّر علينا التعرّف على نفس الحدث عن هذا الطريق.. فلا أقل من امتلاك الرؤية، ثمّ اعتماد المعايير والأُسس، وبعد ذلك الوسائل والأساليب الصحيحة

٧

التي يرى أهل بيت العصمة، والإمامة، ومعدن الوحي والرسالة، أنّها تنفع في الوصول إلى ذلك الهدف المنشود، في مجال التقييم الصحيح والسليم للأحداث، ومحاكمتها، ثمّ قبولها أو رفضها، إِذا اقتضى الأمر أيّاً من الرفض، أو القبول..

أو على الأقل.. تقلُّ معها احتمالات الخطأ والزَيغ، والوقوع في متاهات التفسيرات، والتكهّنات الخاطئة والناقصة، التي يتعرّض لها الباحثون في التراث بصورة عامّة..

ومؤسّسة نهج البلاغة.. قد وجدت في هذا الكتاب:

(حركة التاريخ عند الإمام علي عليه السلام)

الذي هو من تأليف سماحة العلاّمة الجليل البحّاثة الشيخ محمّد مهدي شمس الدين خطوةً واسعة وموفّقة في هذا الاتّجاه..

ولأجل ذلك.. فقد بادرتْ لتقديمه إلى القرّاء الكرام، على أمل أنْ يجدوا فيه ما ينقع الغُلّة، ويبلّ الصدى..

ونسأل اللّه أنْ ينفع به.. ويجعله خالصاً لوجهه الكريم.. وهو الموفِّق والمسدِّد، وهو المعين والهادي..

مؤسّسة نهج البلاغة

٨

مقدّمة

التاريخ:

هو حركةُ الشيء في محيطه خلال الزمان.

وبعبارةٍ أخرى، التاريخ:

هو عمليةُ التحوّل والتغيّر والانتقال (الصيرورة) من حالةٍ إلى حالة، التي تعتري الشيء أو يُنجزها الشّيء من خلال علاقته بعناصر محيطة عبرَ الزّمان.

وقد كان الشيءُ في النظرة السائدة قديماً يعني الإنسان فقط، ويعني - بصورة محدّدة - الفعاليات الإنسانية: المجتمع والمؤسسات السياسيّة والعسكريّة والاجتماعية والثقافيّة.

لقد كان التاريخ علم حركة الإنسان من خلال محيطه في الزمان، ولكن العصر الحديث شهد تطوّراً في مدلول هذا المصطلح فاتّسع ليشمل كلّ شيء في الطبيعة والحضارة: الأرض، والمعادن، والنباتات، والحيوان، والأفكار، والعلوم.. وغير ذلك إِلى جانب الفعاليات الإنسانيّة، وغدا في وُسْع المؤرِّخ ذي النظرة الشاملة أنْ يدّعي أنّ التاريخ كالفلسفة ذو موضوع شامل لكلّ ما يمكن أنْ يدخل في الوعي البشري.

ولعلّ بعض المؤرِّخين المسلمين العظام كانوا قد انتهوا في تفكيرهم إِلى حافّة هذه النظرة التي تُعطي التاريخ مفهوماً شاملاً يتجاوز الفعالياتِ الإنسانيّة، فنلاحظ أنَّهم أدخلوا في كتاباتهم التاريخيّة معلوماتٍ جغرافيّة أو فلسفيّة، والمسعوديُّ في كتابه (مروج الذهب ومعادن الجوهر) مثال بارز على ذلك.

ولكن هذه النظرة الشمولية لا تعنينا هنا. إنَّ عِنايتنا موجّهة نحو تاريخ الإنسان. وربّما أمكن ردّ كلّ فروع التاريخ الأخرى - في النظرة الشموليّة الحديثة - إلى تاريخ الإنسان، من حيث إنّها تؤرِّخ لبعض نشاطاته: (تاريخ العلوم، الفنون والآداب، الفلسفة) أو تؤرّخ لبيئته: (النبات، الحيوان، طبقات الأرض) .

٩

وإذن، فالتاريخ:

هو حركة الإنسان في محيطه خلال الزمان، وقد يعالج التاريخ حركةَ الإنسان في مجتمع معيّن أو في إِطار ثقافة معيّنة، وقد يتّسع ليعالج حركة الإنسان على صعيدٍ عالمي.

ولا شكَّ في أن فكرة (العالميّة) لدى المؤرّخين المسلمين قد جاءتْهم من القرآن الكريم، حيث صَوّر حركة الإنسانيّة من خلال عرضه لحركة النُبُوّات في الأمم والشعوب، كما أنّهم استفادوا في تعزيز نظرتهم العالميّة من (علم الأنساب) الذي تحدّر إِليهم من التقليد الجاهلي القديم، ثمّ دخل - كغيره من المعارف العربيّة والإسلاميّة - عصر التّدوين. وليس المهمُّ هنا جانب الصّدق التاريخي في علم الأنساب، وهو أمر مشكوك فيه، وإِنّما المهمّ ما تُعطيه المعرفة النِسْبِيّة من إِدراكٍ لترابط الشعوب والقبائل وعلاقاتها الداخليّة، هذا الإدراكُ الذي يتجاوز بالمؤرِّخ حدود الجغرافيا والقبليّة أو القوميّة ليفتح بصيرته على مدى أرحب.

على هذا المدى الرحب كان الإمامُ عليُّ بنُ أبي طالب (عليه السّلام) يتعامل مع التاريخ، لا كمؤرّخ وإِنّما باعتبارهِ رجل عقيدة ورسالة، ورجل دولة وحاكماً، ولم يكن يستخدم التاريخ كمادّة وَعْظيّة فقط، وإِنّما كان يستهدف أيضاً منه النقد السياسي والتربية السياسية لمجتمعه والتوجيه الحضاري لهذا المجتمع.

ونحاول في هذا الكتاب أنْ نجلوَ نظرةَ الإمامِ عليّ (عليه السّلام) إِلى حركة التاريخ، ونكتشف أساليب تعامله مع التاريخ في حياته العامّة الفكريّة والسياسيّة.

والمصدر الأساس لهذه الدراسات هو كتاب نهج البلاغة، وربّما استعنّا بنصوص أُخرى لم يضمِّنْها الشريفُ الرّضي في كتاب نهج البلاغة:

- للتعرّفِ على مزيد من التفاصيل بالنسبة إِلى نظرة الإمام التاريخيّة.

- أو لإكمال نصوص أوردها الشّريف الرّضي في نهج البلاغة مبتورة.

ونحن نرى أنّ كتاب نهج البلاغة وثيقة عظيمة القيمة في الحضارة الإسلاميّة من الناحية الفكريّة والسياسيّة. ولا ينقضي أسفُنا على أنّ الشريف الرضي رحِمه اللّهُ قد جمع النصوص لغاية جماليّة تحكّمتْ في اختياره فجعلتْه يُؤْثِر النصوص الممتازة من النواحي البلاغيّة الفنِّيّة ويهمل ما عداها، وقد يجزّئ - لهذا السبب - من النصّ بَعْضُه الذي تتوفّر فيه هذه الخاصّة ويهمل سائره، وهذا ما دعاه إِلى أنْ يُعطي كتابه اسماً

١٠

يلخّص الغاية مِن جَمْعه له والمنهاج الذي اتّبعه في عمليّة الجمع، فضاع على الحضارة الإسلاميّة بذلك علم كثير وفكر عظيم.

ولعلّ اللّه تعالى يُقيّض من العلماء والباحثين مَن يتقصّى - في كتب السيرة والتاريخ والحديث والأدب - جميع ما رُوِيَ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ويخضعه لدراسة نقديّة صارمة، تميّز الأصيل فيه من المنحول الموضوع، ويصنّف ما يثبت للنقد منه مع ما ورد في نهج البلاغة للشريف الرضي رحِمه اللّهُ تعالى تصنيفاً علميّاً حسب موضوعات النصوص (في السّياسة، والفكر، والوعظ، والحرب، والفقه، والإلهيات وسائر العقائد... وغير ذلك من الموضوعات) فذلك يجعل نهج البلاغة ومستدركه مصدراً ميسّراً للدراسات العلميّة، عظيم القيمة جليل الفائدة.

وقد قام المرحوم الشيخ هادي كاشف الغطاء بتأليف كتاب (مستدرك نهج البلاغة) ورتّبه على نحو ما رتّب الشريف الرّضي كتاب نهج البلاغة: (الخطب، والكتب، والحكم) ، ولكن هذا العمل دون ما نطمح إِليه لسببين:

الأوّل: ما نُقَدّر من أنّ هذا الكتاب لم يستوعب كلّ ما أهمله الشريف أو شذّ عنه، ولذا فإنّ الحاجة إِلى عمل أكثر شمولاً لا تزال قائمة.

الثاني: ما يبدو لنا من أنّ كاشف الغطاء أثبت في كتابه كلّ ما وجده منسوباً إِلى الإمام، ولم يُخضع النصوص للنّقد، وهذا ما جعله يثبت في كتابه نصوصاً منسوبة إِلى الإمام نُقدِّر أنّها موضوعة.

وهنا نجد من المناسب الإشارة إِلى أنّ اللَغَط الذي أُثير حول صِحَّة نسبة ما جَمَعَهُ السيّد الشريف في نهج البلاغة إِلى الإمام (عليه السّلام) بوجه عام منذ (ابن خلدون) إِلى (زكي مبارك وأحمد أمين) ، من التشكيك في صِحّة النسبة أو الجزم بعدم صِحّة النسبة، هذا اللَغَط الذي أثاره التعصّب في بعض الأحيان والجهل في أحيان كثيرة قد انتهى، أو يجب أنْ ينتهي إِلى التسليم بصحّة النسبة التاريخيّة لِمَا ورد في نهج البلاغة بوجهٍ عام إِلى الإمام (عليه السّلام)، فإنّ الدّراسات والأبحاث التوثيقيّة الّتي عُقدتْ حول نهج البلاغة - منذ شارح نهج البلاغة (عزّ الدين بن أبي الحديد) (٥٨٦ - ٦٥٥ هجري) إلى أيّامنا - قدّمت أجوبةً مقنعة على جميع التّساؤلات الّتي أُثيرت، وأَغلقت منافذ الشّك في صحّة نسبة ما اشتمل عليه نهج البلاغة إِلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام)، بالقدر الّذي يكفي لتصحيح النّسبة التّاريخيّة لأيّ نصّ من نصوص الفكر الإسلامي.

* وهذه الأبحاث والدّراسات على قسمَين:

١١

١- منها ما اتّبع منهاج النّقد الدّاخلي: حيث أُخضعت النّصوص لدراسة تكوين الجُمَل فيها والعلاقات بين جملة وأخرى، وأنواع المفردات والمجازات وما إلى ذلك من مكوّنات النّصّ. وهذا ما صنعه (ابن أبي الحديد) في عِدّة مواضع من شرحه، وبعض مَن تأخّر عنه من الشُّرّاح والباحثين. وهذا النّوع من الأبحاث قليل ومقصور على بعض نصوص النّهج؛ ولذا فإنّ الحاجة ماسّة إلى دراسة شاملة لجميع نصوص نهج البلاغة تتّبع هذا المنهاج.

٢- ومنها ما اتّبع منهاج النّقد الخارجي: حيث بُحث عن مصادر متقدّمة في الزّمن على الشّريف الرّضي تضمّنت نصوصاً من نهج البلاغة.

وقد كانت نتائج هذه الدّراسات وتلك في مصلحة صحّة نسبة نهج البلاغة بوجه عام إلى الإمام (عليه السّلام).

ولعلّ آخر دراسة توثيقيّة هامّة وشاملة اتُّبع فيها منهاج النّقد الخارجي هي دراسة الأستاذ السّيد (عبد الزّهراء الخطيب) الّتي نشرها في كتابهِ (مصادر نهج البلاغة وأسانيده - ٤ مجلدات / دار الأعلمي للمطبوعات - بيروت) .

ومن المؤكَّد أنّ هذه الدّراسة لن تكون الأخيرة، فإنّ دراسات أخرى ستُضاف إلى ما تمّ إنجازه في هذا الحقل كلّما تنامتْ حركة نشر كتب الفكر الإسلامي، الّتي لا تزال مخطوطة وموزّعة في مكتبات العالَم.

***

بقي عليّ أنْ أشير إلى أنّ هذه الدّراسة عن حركة التّاريخ عند الإمام علي (عليه السّلام) حلقة في سلسلة من الدّراسات في نهج البلاغة سبقها كتابنا (دراسات في نهج البلاغة)،

* وقد اشتمل على أربع دراسات هي: المجتمع والطبقات الاجتماعيّة، الحُكم والحاكم، المغيّبات والوعظ.

وأُضيفت إليها في الطّبعة الثّالثة دراسة خامسة بعنوان: (الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والأكثرية الصامتة) .

***

دراسات في نهج البلاغة:

الطّبعة الأولى - النَّجف العراق - ١٩٥٦.

الطّبعة الثّانية - بيروت - دار الزّهراء ١٣٩٢ هجري = ١٩٧٢م.

الطّبعة الثّالثة. بيروت.

١٢

لقد انتفعتُ بكتاب (الكاشف عن ألفاظ نهج البلاغة في شروحه) لمؤلِّفه: (السيّد جواد المصطفوي الخراساني) . وهو عمل جليل القدر، عظيم الفائدة للباحثين. نأمل أنْ يطوِّره مؤلِّفُه بحيث يكون أكثر شمولاً للشروح في طبعاتها الجديدة المتداولة، وللنّصوص الواردة في مستدركات نهج البلاغة.

والحمد للّه ربّ العالمين

محمّد مهدي شمس الدّين

١٣

التاريخ وحركة التقدّم البشري ونظرة الإسلام

١٤

التّاريخ وحركة التقدّم البشري ونظرة الإسلام

التّاريخ حركة الكائن في الزّمان والمكان.

والكائن جماد، ونبات، وحيوان، وإنسان.

وتاريخ كلّ من الجماد والنّبات والحيوان يسير وفق قوانين ثابتة، وموضوعة خارج هذه العوالِم.

إنّ الجماد لم يضع قوانين حركته، ومِن ثمّ فإنّه لم يضع قوانين تاريخه، وكذلك النّبات والحيوان.

إنّ هذه العوالم الثّلاثة خاضعة في جميع حالات وجودها لمبدأ الضّرورة، ومِن ثمّ فتاريخها من جميع وجوهه خاضع لمبدأ الضّرورة، إنّه حصيلة حركتها الضّروريّة في الزّمان والمكان، ومن ثمّ فـ (الخطأ) غير وارد في تاريخ هذه العوالم، إنّها لا تصنع تاريخها؛ ولذا فهي لا تقع في أخطاء العمل.

* أمّا تاريخ الإنسان فشيء آخر:

إنّ الإنسان يتعامل مع الكون على أساس مبدأ الاختيار؛ لأنّه كائن حرّ لا يخضع لمبدأ الضّرورة إِلاّ في نطاق العمليّات البيولوجيّة في جسمه، ومن ثمّ فإنّه يشارك في وضع قوانين حركته في الزّمان والمكان، فإنّ الإنسان يُكيّف نفسه لتنسجم مع الطّبيعة حين يعجز عن تكيّف الطّبيعة لتنسجم معه.

والإنسان يحب ويبغض، ويأمل وييأس، ويتألّم ويحلم، والإنسان يخاف...

١٥

يخاف من المجهول، ويخاف من المستقبل... والإنسان، قبل كلّ شيء وبعد كلّ شيء، يفكّر: يحلّل المواقف والمشكلات الّتي تواجهه، ويركّبها، ويوازن بين احتمالاتها، ويرجّح ويختار، ويتحرّك وفقاً لاختياره، فهو إذن يستجيب في حركته لعالمه الخارجي ولعالمه الدّاخلي من موقع الاختيار باعتباره كائناً حرّاً لا من موقع الضّرورة.

ومن هنا فإنّ الخطأ في التّحليل والتّركيب والاختيار، والرّجوع إِلى الوراء في حركته، وما يؤدّي إِليه ذلك من خيبات الأمل في خططه ومشاريعه - أمور حدثتْ للإنسان دائماً في حركته التاريخيّة.

ولذا فإنّ تاريخ الإنسان كما هو سجل مشرق ومشرّف لانتصاراته وإِنجازاته في الطبيعة والمجتمع، هو كذلك سجل كئيب حافل بأخطائه، وانتكاسات حركته نحو المستقبل، وخيبات أمله.

***

* ومِن أسوأ ما يمكن أنْ يقع فيه الإنسان من أخطاء:

- حسبانه في كثير من الحالات أنّه كان دائماً على صواب.

- وأنّ تاريخه يمثّل خطّاً صاعداً باستمرار.

- وأنّ حركته نحو المستقبل - لذلك - تقدُّميّة دائماً، خَيِّرة دائماً، صائبة دائماً، لا يتخلّلها خطأ ولا انحراف.

ومثل ذلك في السوء:

- حسبانه أنّ كلّ ماضيه خطأ وتخلّف.

- ومِن ثمّ فهذا الماضي لا يستحقّ منه الالتفات والمراجعة.

- وأنّه اهتدى إِلى النّظرة الصّائبة في حاضره.

- وأنّه في حركته نحو المستقبل حليف الصّواب والتّوفيق باستمرار.

إِنّ هذا الحسبان وذلك يحملان الإنسان على ارتكاب مزيد من الأخطاء، والوقوع في كثير من المآسي وخيبات الأمل.

ذلك بأنّ الإنسان حين يخال حركة التّاريخ دائماً على صواب، فإنّه يلغي جميع المؤثّرات الإنسانيّة، ويسلّم نفسه لحركة التّاريخ الإنساني كما لو كان هذا التّاريخ خاضعاً لمنطق الضّرورة كتاريخ الجماد والنّبات والحيوان. ومِن ثمّ فإنّه يرتكب الأخطاء الكبرى وهو يحسب أنّه على صواب، ويصحِّح أخطاءه بأخطاء أخرى

١٦

تسبّب للإنسانيّة مزيداً من التخلّف على كلّ صعيد، ومزيداً من المآسي الفرديّة والجماعيّة.

وكذلك الحال حين يحكم الإنسان على ماضيه:

- بأنّه مجموعة أخطاء قاد أسلافَه إِليها الجهلُ وسوء الفهم وسوء التّوجيه.

- ولذا فلا شيء من هذا الماضي يصلح للحاضر وللمستقبل.

- وأنّه كان ضالاًّ فاهتدى.

- وأنّه امتلك الحقيقة التّاريخيّة وكانت ضائعة منه بسبب هذا الّذي غلّه وشلّ قواه.

إِن الإنسان باتخاذه لهذا الموقف يحكم على جميع تجارب الماضي بالفشل والبطلان، وهو حكم لا شكّ في أنّه جائر عن قصد السّبيل؛ لأنّ الحقيقة هي أنّ في تجارب هذا الماضي الكثير الكثير من الصّواب الّذي تكبّدتْ الإنسانيّة أنواعاً شتّى من الآلام والتّضحيات، وتحمّلت كثيراً من المصاعب في سبيل الوصول إِليه والاهتداء إِلى معالمه.

كِلا هذَين الموقفَين يؤدّي بالإنسان إِلى أنْ ينظر إِلى نفسه وعقله في حاضره و مؤسّساته السياسيّة وغيرها وسائر نظمه بثقة مطلقة لا مبرّر لها.

ولْنَقُل: إِنّه في هذه الحالة الّتي يرفض فيها جميع الماضي، أو في تلك الحالة الّتي يخال فيها حركة التّاريخ دائماً على صواب ينظر إِلى نفسه وموقفه بغرور أجوف، ولعلّ هؤلاء وأُولئك ممّن عناهم اللّهُ تعالى بقوله:

( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِاْلْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولئِكَ الّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً ) (١) .

إنّ هذا الغرور الأجوف، وتلك الثّقة المطلقة الّتي لا مبرّر لها تؤدّيان بالإنسان إلى الوقوع في أخطاء كبرى، تعرض المجتمعات بل وجانباً كبيراً من الإنسانيّة لكوارث عظمى ومتنوّعة لم يعرف لها التّاريخ مثيلاً.

____________________

١ - سورة الكهف: (رقم ١٨ / مكِّيّة) الآيات: ١٠٣ - ١٠٦.

والآيات تومئ إِلى النّظرة الّتي تعتبر حركة التّاريخ خاضعة للاعتبارات المادّيّة وحدها، والنّظرة الّتي تقيس التّقّدَم البشري بالمقياس المادّي وحده.

١٧

وهذا ما وقع فيه إنسان الحضارة الحديثة، والويل له ممّا صنعتْ يداه في المقبلات من الأيّام.

***

وقد ولّدت هاتان النّظرتان المتطرِّفتان إلى التّاريخ وإلى المستقبل مفهوماً للتّقدّم البشري غير متكامل، ومِن ثمّ دَفَعَ بالإنسان إلى ارتكاب المزيد من الأخطاء الكبرى في شأن نفسه وفي شأن عالَمِه.

لقد اعتبر التّقدّم في الحضارة الحديثة بالمقياس المادّي وحده، فيقاس التّقدّم في أيّ مجتمع وفي ظل أيّ نظام سياسي بحجم الإنتاج والاستهلاك بالنّسبة إلى أشياء الحياة المادّية:

- الطّعام.

- والملابس والمساكن وأدوات الزّينة.

- ووسائل النّقل والطّاقة والطّرق.

- ووسائل اللّهو ووسائل تيسير الحياة اليوميّة المنزليّة وغيرها.

- والمصانع والأسلحة.

- وما إلى ذلك من أشياء، يُضاف إلى ذلك المؤسّسات الحكوميّة والأهليّة الّتي تنظّم كلّ هذه العمليّات..

ولا يقيم هذا المفهوم عن التّقدّم البشري وزناً لوضعيّة الإنسان الأخلاقيّة وللقِيَم الّتي ينبغي أنْ توجّه سلوكه مع الطّبيعة المادّية، والعالَم، والمجتمع والأسرة.

وهذا المفهوم هو الدّليل الّذي يوجّه أفكار وخطط وعمليّات المؤسّسات الوطنيّة والدّوليّة المعنيّة بقضايا التّنمية، فالوكالات المتخصّصة للأمم المتّحدة، والجامعات، ومراكز الأبحاث الّدوليّة والوطنيّة تَعتبر حركة التقدّم والنموّ بهذا المقياس.

وكانت عاقبة ذلك تقدّماً مذهلاً في مجال المادّيات... تقدّماً تجاوز أكثر الأحلام جموحاً في بداية النّهضة الصّناعيّة الحديثة. ولكنّه تقدّمٌ ترافق مع تأخّر مأساوي في مجال المعنويّات، بدأت بعض البصائر المستقبليّة في العالم الغربي و(الشرقي؟؟) تكتشفه وتعي خطورته، وتحذِّر من عواقبه الوخيمة.

* وعلى ضوء هذا المفهوم للتّقدّم قُسِّم الجنس البشري في الخمسينات من هذا القرن الميلادي إلى عوالم ثلاثة:

العالَم الأوّل: (أمريكا الشّماليّة، وأوربّا الغربيّة، واليابان) بلغ أعلى مستوى

١٨

عرفه الإنسانُ في التّقدّم المادّي والتّنظيم.

العالَم الثّاني: (الإتّحاد السّوفياتي، وأوربّا الشّرقيّة، والصّين - أخيراً -) يلي العالم الأوّل في الرّتبة من هذه الحيثيّة ويجهد لِلّحاق به في شتّى الميادين.

العالَم الثّالث: (آسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينيّة)، ويسمّى هذا القسم من البشريّة: (العالم المتخلّف أو العالم النّامي) .

وهكذا يحمل العالَم الثالث وصمة التخلّف وفقاً لهذا المفهوم، وفقاً لمقاييس التّقدّم المبنية على هذا المفهوم - هذه المقاييس الّتي فرضها فكر الحضارة الحديثة وسطوتها، اندفعت شعوب (آسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينيّة) في تيّار هذه النّظرة إلى معنى التّقدّم البشري لتحقّق لنفسها اللّحاق بالعالَم الأوّل الّذي يحول بينها وبين ذلك، مستغلاً تفوّقه الهائل وضعفها الكبير في نهب ثرواتها وبلبلة حياتها السّياسيّة، ولكنّها في سبيل التخلّص من وصمة التخلّف العالِقَة بها، وفقاً لهذا المفهوم تمضي قدماً في ما تحسب أنّه يضعها على طريق التّقدّم، مضحِّيةً في سبيل ذلك بالكثير من قيمها وأخلاقها، متخلّيةً عن أصالتها، طامحةً إلى أنْ يكون إنسانُها نسخةً دقيقةً من إنسان العالَم الأوّل.

***

ولكنّ هذا المفهوم عن التّقدّم البشري ناقص ومبتور؛ لأنّه يمثّل جانباً واحداً من الوضعيّة الإنسانيّة، وقد كان من أكبر الأخطاء الفكريّة الّتي وقع فيها إنسان الحضارة الحديثة نتيجةً لخطأ نظرته إلى التاريخ وإلى المستقبل، فإنّ الوضعيّة الأخلاقيّة للإنسان ذات صلة وثيقة وأساسيّة بكونه متقدّماً أو متخلّفاً. وهذه حقيقة وَجدتْ سبيلها أخيراً إلى الإدراك في داخل الحضارة الحديثة، وهذا على الرّغم من أنّه لا يزال في نطاق ضيّقٍ نسبيّاً، باعث على الأمل.

لقد بدأت ترتفع - هنا وهناك - داخل الحضارة الحديثة أصوات بعض ذوي العقول النيّرة والبصائر النّافذة، من النخبة في العالم الغربي من علماء وشعراء ومفكّرين، محذِّرةً من ا لانسياق وراء هذه النظرة الخاطئة، محذّرةً من عواقبها المُهلِكة، داعيةً إلى

١٩

اعتماد نظرة أخرى تُقيم التّوازن في السّعي نحو التّقدّم، بين حاجات الإنسان الرّوحية ووضعيّته الأخلاقيّة من جهة، وبين حاجاته وطموحاته المادّية من جهة أخرى، مُنْذِرِين بأنّ استمرار الحضارة في مادّيتها الخالصة سيؤدّي إلى خرابها ودمار الإنسانيّة أو جانب كبير منها.

إنّ نظرة هؤلاء المستقبَلِيِّين من ذوي العقول النّيّرة في العالم الغربي (والشّرقي؟) قريبة من نظرة الإسلام إلى مسألة التقدّم والتخلّف، مع تأكيدنا على وجود اختلافات جمّة تعود إلى تفاصيل النّظرة وإلى الوسائل والأساليب.

فالإسلام - ممثَّلاً بالقرآن الكريم، والسّنّة الشّريفة، والفقه - إذ يدفع بالإنسان نحو المستقبل الأفضل من حاضره وماضيه، يركّز على أنّ هذه الأفضليّة تقوم على مقياس مركّب، يعطي لكلّ واحد من المادّة والمعنى دوراً حاسماً وأساساً في إنجاز التّقدّم المتكامل المعافي، فلا بدّ أنْ تُحقِّق حركة الإنسان في الزّمان والمكان تقدّماً وتكاملاً على صعيد المادّة، وعلى صعيد الوضعيّة الأخلاقيّة والصّفات الإنسانيّة؛ لتكون حركته تقدّميّة.

قالَ اللّهُ تعالى:

( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّهُ الدَّار الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللّهُ إلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفسِدِينَ ) (١) .

وقالَ تعالى:

( يَا بَنِي آدَم خُذُواْ زيِنَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفينْ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة اللّهِ الَّتي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يِعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ والْبَغْيَ بِغَيْرِ الحقِ وَأَنْ تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُواْ عَلَىَ اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (٢) .

____________________

١ - سورة القَصص: (رقم ٢٨ / مكِّيّة) الآية: ٧٧ .

٢ - سورة الأعراف: (رقم ٧ / مكِّيّة) الآيات: ٣١ - ٣٣.

٢٠

أمّا تحقيق التّقدّم المادّي وحده مع إهمال العناية بالوضعيّة الأخلاقيّة والمعنويّة للإنسانيّة أو مع التّضحية بها، فإنّه كقصر العناية على الوضعيّة الأخلاقيّة والرّوحية مع إهمال شؤون التّقدّم المادّي، كلاهما لا يمثّلان النّظرة المتوازنة الّتي يجب أنْ تقوم عليها حركة الإنسان التّاريخيّة، وتبنى على هَدْيها مؤسّسات الحضارة. إنّ كلّ واحد من الاتّجاهين يمثّل انحرافاً معيّناً لا يخدم الإنسانيّة ولا يبني الحضارة.

إنّنا - وفقاً لهذه النّظرة المتوازنة - كما نعتبر النقص في إنتاج السّلع والخدمات المادّيّة بدرجة تكفي أكبر عدد من الناس وتحقّق لهم الرّفاهيّة واللّذة، كما نعتبر هذا النقص وما يتّصل به تخلّفاً، كذلك نعتبر من أسوأ مظاهر التّخلّف:

- تزايد الجرائم في المجتمع بشتّى أنواعها.

- وتصدّع الأسرة.

- وجفاف العلاقات الإنسانيّة النّظيفة.

- ونموّ روح الحرب والعدوان داخل المجتمعات وبين الجماعات القوميّة والوطنيّة.

وهو أنّ الحياة البشريّة عندما تكون خارج الإطار القومي والعنصري للمُعْتدي وغير ذلك من مظاهر فساد الوضعيّة الأخلاقيّة للإنسان، فرداً وجماعة ومجتمعاً ودولةً.

ووفقاً لهذه النّظرة المتوازنة يكون من الخطأ تقسيم عالَم اليوم إلى عالَم متقدّم وعالم متخلّف.

إنّ عالم اليوم كلَّه - وفقاً لهذه النّظرة - متخلّف، فإنّه إِذا كان العالَم الثالث متخلّفاً على مستوى المادّة وأساليب التّنظيم والإدارة، فإنّ العالم الآخر متخلّف من حيث الوضعيّة الأخلاقيّة والعلاقات الإنسانيّة والصّفات الإنسانيّة في أفراده وجماعاته ومجتمعاته.

وسنرى خلال هذا البحث: أنّ منطلق أميرِ المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) في فهمه للتّاريخ وحركة الإنسان في الحاضر نحو المستقبل هو هذه النّظرة المتوازنة الّتي اشتمل عليها الإسلام، وعبّر عنها القرآن الكريم، والسّنّة الشّريفة، والفقه المستمدّ منهما المبني عليهما.

٢١

الإمام في مواجهة التاريخ

٢٢

الإمام في مواجهة التّاريخ

كان أميرُ المؤمنين عليّ (عليه السّلام) كما يخبرنا هو، وكما سنرى خلال هذه الدراسة يوجّه عنايةً فائقة إلى التاريخ، عناية جعلتْ من التاريخ عنصراً بارزاً فيما وصل إِلينا من كلامه في مختلف الموضوعات الّتي كانت تُثير اهتمامه.

* وعناية الإمام بالتاريخ:

- ليست عناية القاصّ والباحث عن القصص.

- كما أنّها ليست عناية السياسي الباحث عن الحِيَل السياسيّة وأساليب التمويه الّتي يعالج بها تذمّر الشعب.

- وإنّما هي عناية رجل الرسالة والعقيدة، والقائد الحضاري والمفكِّر المستقبلي.

إِنّ القاصّ يبحث ليجد في تاريخ الماضين وآثارهم مادّة للتّسلية والإثارة. والسياسي يبحث ليجد في التاريخ أساليب يستعين بها في عمله السياسي اليومي في مواجهة المآزق، أو يستعين بها في وضع الخطط الآنيّة المحدودة (1) .

والمؤرّخ يقدم لهذا وذاك المادّة التاريخيّة الّتي يجدان فيها حاجتهما.

أمّا الرائد الحضاري، رجل الرسالة والعقيدة ورجل الدولة فهو يبحث ليجد في

____________________

1 - قال المسعودي في تقريره عن النشاط اليومي لمعاوية بن أبي سفيان:

(... ويستمرّ إلى ثلث اللّيل في أخبار العرب وأيّامها، والعجم وملوكها وسياستها لرعيّتها، وسير ملوك الأمم وحروبها ومكايدها، وسياستها لرعيّتها وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة... ثمّ يقوم فيقعد فيحضر الدفاتر فيها سير الملوك وأخبارها، والحروب والمكايد، فيقرأ ذلك عليه غلمان له مرتّبون وقد وُكِّلوا بحفظها وقراءتها، فتمرّ بسمعه كلّ ليلة جُمَلٌ من الأخبار والسِيَر والآثار وأنواع السّياسات...) مروج (بتحقيق محمّد محيي الدين عبد الحميد) / مطبعة السّعادة / الطّبعة الثّانية (1367هجري / 1948م) الجزء الثّالث / ص 40.

٢٣

التاريخ جذور المشكل الإنساني، ويتقصّى جهود الإنسانيّة الدائبة؛ في سبيل حلّ هذا المشكل بنحو يعزّز قدرة الإنسان على التكامل الروحي - المادّي، كما يعزّز قدرته على تأمين قدر ما من السعادة مع الحفاظ على الطهارة الإنسانيّة.

وقد كان الإمامُ عليّ يتعامل مع التاريخ بهذه الروح ومن خلال هذه النظرة، ومن ثمّ فلم يتوقّف عند جزئيّات الوقائع إلاّ بمقدار ما تكون شواهد ورموزاً، وإِنّما تناول المسألة التاريخيّة بنظرة كلّيّة شاملة، ومن هنا فقلّما نرى الإمام في خطبه وكتبه يتحدّث عن وقائع وحوادث جزئيّة، وإِنّما يغلب على تناوله للمسألة التاريخيّة طابع الشمول والعموميّة.

والإمام ليس مؤرِّخاً؛ ولذا فليس من المتوقَّع أنْ نجد عنده نظرة المؤرِّخ وأسلوبه في سرد الوقائع وتحليلها والحكم عليها، وإنّما هو رجل دولةٍ حاكمٌ، ورجل عقيدة ورسالة فيها كلّ حياته، فهو يتعامل مع التاريخ باعتباره حركة تكوِّن شخصيّة الإنسان الحاضرة والمستقبلة؛ ولذا فهي تشغل حيّزاً هامّاً وعلى درجة كبيرة من الخطورة في عمليّة التربيّة والتحرّك السياسي، وهذا ما يجعل رجل رسالةٍ وحاكماً كالإمام علي (عليه السلام) حريصاً على أنْ يَدخل في وعي أمّته، الّتي يحمل مسؤوليّة قيادتها ومصيرها إلى التاريخ سليمةً، تجعله قوّة بانية لا مخرّبة ولا محرّفة.

***

ونحن نعرف عناية الإمام عليّ (عليه السلام) الفائقة بالتاريخ واهتمامه البالغ بشأنه من نصّ وَرَدَ في وصيّته الّتي وجّهها إلى ابنه الإمام الحسن (عليه السّلام) كتبها إليه بحاضرين (1) عند انصرافه من صفّين،

قال فيه:

____________________

1 - قال (ابن أبي الحديد) في شرح نهج البلاغة: 16 / 52 - أمّا قوله: (كتبها إليه بحاضرين) فالّذي كنّا نقرؤه قديماً، (كتبها إليه بالحاضِرَينِ) على صيغة التّثنية، يعني: حاضر حلب وحاضر قنسرين، وهي: الأرباض والضواحي المحيطة بهذه البلاد، ثمّ بعد ذلك على جماعة من الشيوخ بغير لام، ولم يفسّروه.

ومنهم: مَن يذكره بصيغة الجمع لا بصيغة التّثنية.

ومنهم من يقول: خناصرين يظنّونه تثنية خناصرة أو جمعها. وقد طلبتُ هذه الكلمة في الكتب المصنّفة سيّما في البلاد والأرضين فلم أجدها، لعلِّي أظفر بها فيما بعد فألحقها في هذا الموضع.

قال الشيخ (محمّد عبده) في شرحه: حاضرين: اسم بلدة بنواحي صفّين.

٢٤

(أيْ بُنَيَّ إنِّي وَإنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَفَكَّرْتُ فِي أخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ، حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إلَيَّ مَنْ أُمُوِرِهِمْ، قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أوَّلَهَمْ إلى آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِهِ، وَنَفْعَهُ مَنْ ضَرَرِه).

وكان قبل ذلك قد وجّه الإمام الحسن (عليه السّلام) في هذه الوصيّة إلى تعرّف التاريخ الماضي؛ للعبرة والموعظة، قال:

(أحْيِ قَلْبَكَ بالْمَوعظَةِ وَاعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ الْماضِينَ، وَذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الأَوَّلِينَ، وَسِرْ فِي دِيَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ فَانْظُرْ فِيمَا فَعَلُوا، وَعَمَّا انْتَقَلُوا، وَأَيْنَ حَلوُّا وَنَزَلُوا. فَإنَّكَ تَجِدُهُمْ قَدِ انْتَقَلُوا عَنِ الأَحِبَّةِ، وَحَلوُّا دِيَارَ الْغُرْبَةِ، وَكَأَنَّكَ عَنْ قَليلٍ قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ).

وهذا النص يحملنا على الاعتقاد بأنّ الإمام (عليه السّلام) تحدّث كثيراً عن المسألة التاريخيّة في توجيهاته السياسيّة وتربيته الفكريّة لمجتمعه، ولرجال إدارته، ولخواصّ أصحابه.

ولكنّ النّصوص السياسيّة والفكريّة التي اشتمل عليها نهج البلاغة مِمّا يدخل فيه العنصر التاريخي قليلة جدّاً، وإنْ كانت النصوص الوعظيّة الّتي بُنِيَتْ على الملاحظة التاريخيّة كثيرة نسبيّاً.

ولا نستطيع أنْ نفسّر نقص النصوص السياسيّة والفكريّة - التاريخيّة إلاّ بضياع هذه النصوص؛ لنسيان الرّواة أو لإهمال الشّريف الرضي لِمَا وصل إليه منها؛ لأنّه جعل منهجه في تأليف كتاب نهج البلاغة: (اختيار محاسن الخطب، ثمّ محاسن الكتب، ثمّ محاسن الحِكَم والأدب) (1) . وقد أدّى هذا المنهج بطبيعة الحال إلى إهمال الكثير من النّصوص السياسيّة والفكريّة؛ لأنّه لم يكن في الذّروة من الفصاحة والبلاغة.

ومن المؤكّد أنّ الكثير من كلام أميرِ المؤمنين في هذا الباب وغيرِه لم يصل إلى الشّريف الرضي، كما اعترف هو بذلك في قوله:

(... ولا أدّعي - مع ذلك - أنّي أُحيط بأقطار جميع كلامه (عليه السّلام) حتّى لا يشذّ عنّي منه شاذّ، ولا يندّ نادّ، بل لا أبعد أنْ يكون القاصر عنّي فوق الواقع إليّ،

____________________

1 - من مقدّمة (الشريف الرضي) ، نهج البلاغة.

٢٥

والحاصل في ربقتي دون الخارج من يدي) (1) .

***

وعلى أيّة حال فإنّ سُؤالاً هامّاً يواجهنا هنا، وهو: مِنْ أين استقى الإمام معرفته التاريخيّة؟

إنّه يقول عن نفسه:

(... نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ...).

فما الوسيلة الّتي توصّل بِها إلى معرفة أعمالهم لينظر فيها هو، كيف تسنّى له أنْ اطّلع على أخبارهم ليفكّر فيها؟

* نُقدِّرُ أنّ الإمام (عليه السّلام) قد اعتمد في معرفته التاريخيّة على عدّة مصادر:

1 - القرآن الكريم:

يأتي القرآن الكريم في مقدّمة هذه المصادر الّتي استقى منها الإمام معرفته التاريخيّة، وقد اشتمل القرآن على نصوص تاريخيّة كثيرة منبثّة في تضاعيف السّور تضمّنتْ أخبار الأمم القديمة وارتفاع شأنها، وانحطاطها، واندثار كثير منها، وذلك من خلال عرض القرآن الكريم لحركة النّبوُّات في تاريخ البشريّة، وحكايته لكيفيّة استجابات الناس في كلّ أُمّة وجيل لرسالات اللّه تعالى، الّتي بشّر بها الأنبياء سلام اللّه عليهم أجمعين..

وقد كان أميرُ المؤمنين عليّ (عليه السّلام) أفضل الناس - بعد رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) - معرفةً بالقرآن من حيث: الظاهر والباطن، والـمُحْكَم والمتشابَه، والناسخ والمنسوخ، والأهداف والمقاصد والأبعاد الحاضرة والمستقبلة. وغير ذلك من شؤون القرآن.

كانت معرفته بالقرآن شاملة مستوعبة لكلّ ما يتعلّق بالقرآن من قريب أو بعيد. والتأثير القرآني شديد الوضوح في تفكير الإمام التاريخي من حيث المنهج ومن حيث المضمون، كما هو شديد الوضوح في كلّ جوانب تفكيره الأخرى.

وقد حدّث الإمام عن نفسه في هذا الشأن كاشفاً عن أنّه كان يلحّ في مُسَائَلَةٍ

____________________

1- من مقدَمة (الشّريف الرّضي) لنهج البلاغة.

٢٦

لرسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) في شأن القرآن من جميع وجوهه.

قال: (وَاللّه مَا نَزَلَتْ آيَة إلاّ وَقَدْ عَلِمْتُ فِيمَ أُنْزِلَتْ، وَأَيْنَ أُنْزِلَتْ. إنّ رَبِّي وَهَبَ لِي قَلْبَاً عَقُولاً وَلِسَاناً سَؤُولاً) (1) .

وشهاداتُ معاصريه له في هذا الشأن كثيرة جدّاً. منها:

ما رُوِي عن عبد اللّه بن مسعود، قال: (إنّ القرآنَ أُنْزِل على سبعةِ أحرُفٍ، مَا منها حرفُ إلاّ له ظَهْر وبطن، وإنّ عليَّ بنَ أبي طالبِ عليه السّلام عنده علم الظاهر والباطن) (2) .

2 - التعليم الخاص:

التعليم الخاص الّذي آثر به رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) عليّاً مصدرٌ آخر من مصادر معرفته التاريخيّة وغيرها.

فقد استفاضتْ الروايات الّتي نقلها المحدّثون، وكُتّاب السيرة، والمؤرِّخون من المسلمين على اختلاف مذاهبهم وأهوائهم - استفاضت هذه الروايات بل تواترتْ إِجمالاً - بأنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) قد خصّ أميرَ المؤمنين عليّاً بجانبٍ من العلم لم يرَ غيره من أهل بيته وأصحابه أهلاً له.

فمِن ذلك ما قاله عبد اللّه بن عباس: (وَاللّهِ لَقدْ أُعطِيَ عَلَيُّ بن أبِي طَالِب (عليه السلام) تِسْعَةَ أعْشَارِ العلمِ، وَأيمُ اللّهِ لَقدْ شَارَكَكُمْ فِي العُشرِ العَاشِرِ) (3) .

وما رُوِي عن رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله): (عَلِيٌّ عَيبَةُ عِلْمِي) (4) .

وما رواه أنس بن مالك، قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللّه عَمَّنْ نَكْتُبُ الْعِلْمَ؟ قالَ: (عَنْ عَلِيّ وَسَلمَانَ) (5) .

وقال الإمام عليه السّلام: (عَلَّمَني رَسُولُ اللّهِ (صلّى الله عليه وآله) ألْفَ بَابِ مِنَ العِلِم كُلُّ بابٍ يَفتَحُ

____________________

1 - (ابن سعد) : الطبقات الكبرى ج 2 قسم 2 ص 101 والمتّقي الهندي: كنز العمّال 6 / 396 - وقال: أخرجه ابن سعد وابن عساكر، وقالوا: (لِسَاناً طَلِقاً سَؤولاً) و (أبو نعيم) : حُلية الأولياء 1 / 67.

2 - (أبو نعيم) : حلية الأولياء: 1 / 65.

3 - أُسد الغابة 4 / 22 والاستيعاب: 2 / 462.

4 - كنز العمال 6 / 153 وفتح القدير: 4 / 456.

5 - تاريخ بغداد: 4 / 158.

٢٧

ألفَ بابٍ) (1) .

وقد صرّح فيما وصل إِلينا من نصوصِ كلامه في نهج البلاغة بذلك في عدّة مناسبات، فقال:

1 - (... بَلِ انْدَمَجْتُ (2) عَلَى مَكْنُونِ عِلْمٍ لَو بُحْتُ بِهِ لاضْطَرَبْتُمُ اضْطِرَابَ الأرشِيَةِ فِي الطَّوِيِّ (3) الْبِعيدَةِ) (4) .

2 - (وَلَقَدْ نُبِّئْتُ بِهذَا الْمَقَامِ وَهذَا الْيَوْم...) (5) .

3 - (... لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ مِمَّا طُوِيَ (6) عَنْكُمْ غَيْبُهُ إِذاً لَخَرَجْتُمْ إِلى الصُّعُدَاتِ (7) تَبْكُونَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ) (8) .

4 - ( يَا أَخَا كَلْبٍ، لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْبٍ، وَإِنَّماَ هُوَ تَعَلُّمُ مِنْ ذِي عِلْمٍ) (9).

وإِذا كانت بعضُ هذه النصوص ظاهرة في العلم بالغيِّبات (علم المستقبل) ، فإنَّ غيرها مطلقٌ يشمل الماضي، وإِذا كان الإمام قد اطّلع من رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) على بعض المعلومات المتعلِّقة بالمستقبل، فمن المرجّح أنّه قد اطّلع منه على علم الماضي.

3 - السّنة النّبويّة:

اشتملت السُنَّة النبويّة على الكثير المتنوّع من المادّة التاريخيّة.

منه ما ورد في تفسير وشرح القرآن الكريم، ومِن ما اشتمل إِجمالاً أو تفصيلاً على حكاية أحداث تاريخيّة لم ترد في القرآن إِشارة إِليها.

____________________

1 - كنز العمال: 6 / 392.

2 - اندمجتُ: انطويتُ، كناية عن معرفته بأمور خاصّة جدّاً.

3 - الأرْشِية: جمع رشاء، الحبل. والطّويّ: جمع طوية وهي البئر.

4 - نهج البلاغة: الخطبة رقم: 5.

5 - نهج البلاغة: الخطبة رقم: 16.

6 - طُوي: حُجب عِلمُه عَنكُمْ.

7 - الصِّعُدات: جمع صَعيد يُريدُ: لَذهبتْ عنكم الدّعةُ والاستقرار في منازِلكم وخرجتُم مِنها قلقينَ على مَصيرِكم.

8 - نهج البلاغة: رقم الخطبة: 116.

9- نهج البلاغة: رقم الخطبة: 128.

٢٨

وقد كان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أعلم أهل البيت (عليهم السلام) والصحابة قاطبة، بما قاله رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) أو فَعَلَهُ وأَقَرَّهُ، فقد عاش علي (عليه السلام) في بيت رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) منذ طفولته، وبُعث الرسولُ (صلّى الله عليه وآله) وعلي عنده، وكان أوّل مَن آمن به، ولم يفارقْه منذ بعثته (صلّى الله عليه وآله) إِلى حين وفاته إِلاّ في تنفيذ المهمّات الّتي كان يكلِّفه بها خارج المدينة، وهي لم تستغرق الكثير من وقته، ومِن هنا: مِن تَفَرُّغِهِ الكامل لتلقِّي التوجيه النبوي، ووَعْيه الكامل لِمَا كان يتلقّاه، كان الإمام أعلم الناس بسنّة رسول اللّه وكتاب اللّه.

4 - القراءة:

فقدّر أنّ الإمام عليّاً قد قَرأَ مدوّنات تاريخية باللّغة العربيّة أو بغيرها من اللّغات الّتي كانت متداولة في المنطقة الّتي شهدت نشاطه، وخاصّةً بعد أنْ انتقل من الحجاز إِلى العراق واضطرّته مشكلات الحكم والفِتن إِلى التنقّل بين العراق وسوريا، وإِنْ كنّا لا نعلم ما إِذا كانت هذه المدوّنات قد دُفعت إِليه صدفة أو أنّه بحث عن كتب كهذه وقرأها أو قرئت له بلغاتها الأصليّة، مع ترجيحنا أنّه (عليه السّلام) كان يعرف اللّغة الأدبيّة الّتي كانت سائدة في المنطقة العراقيّة السّوريّة.

5 - الآثار القديمة:

وربّما كانت الآثار العمرانيّة للأمم القديمة من جملة مصادر المعرفة التاريخيّة عند الإمام (عليه السّلام)، ويعزّز هذا الظن بدرجة كبيرة قوله في النص الآنف الذكر: (وَسِرْتُ في آثَارِهِمْ) ممّا يحمل دلالة واضحة على أنّ مراده الآثار العمرانيّة.

وقد خبر الإمام في حياته أربعة من أقطار الإسلام، هي:

1 - شبه الجزيرة العربيّة.

2 - واليمن.

3 - والعراق.

4 - وسوريا.

ونقدّر أنّه قد زار الآثار الباقية من الحضارات القديمة في هذه البلاد، وإِذا كان هذا قد حدث - ونحن نرجّح حدوثه - فمِن المؤكّد أنّ الإمام لم يزر هذه الآثار زيارة سائح ينشد التسلية إِلى جانب الثقافة، أو زيارة عالِم آثار يتوقّف عند الجزئيّات، وإنّما زارها زيارة مُعْتَبِر مفكِّر، يكمل معرفته النظريّة بمصائر الشعوب والجماعات بمشاهدة بقايا وأطلال مُدُنها ومؤسّساتها الّتي حلّ بها الخراب بعد أنْ انحطّ بناتها وفقدوا

٢٩

قدرتهم على الاستمرار فاندثروا.

هذه هي، فيما نقدّر، المصادر المعلومة والمظنونة والمحتملة التي استقى منها الإمام علي (عليه السلام) معرفته التاريخيّة.

٣٠

التاريخ عند الإمام (عليه السلام) في المجال الوعظي، وفي المجال السّياسي الفكري

* استخدم الإمام عنصر التّاريخ في مجالَين:

أحدهما: مجال السّياسة والفكر.

وثانيهما: مجال الوعظ.

وهنا يواجهنا سؤال هام:

لماذا يُدخل الإمام عنصر التاريخ في أحاديثه الوعظيّة، أو في أحاديثه وخطبه و كتبه السياسيّة والفكريّة، أو في غير ذلك من مجالات توجيههِ كرجل رسالة وعقيدة وحاكم دولة؟ لماذا التاريخ؟

ونقول في الجواب على هذه المسألة الّتي تثير الشك حول جدوى التاريخ، باعتباره مادّة أساسيّة في البُنْيَة الثقافيّة للإنسان والمجتمع، أو باعتباره عاملاً مساعداً في الأعمال الفكريّة الّتي تتناسب مع مادّة التاريخ...

نقول في الجواب:

إِنّ الحياة الإنسانية لدى جميع الناس في جميع الأزمان والأوطان واحدة في أصولها العميقة، ومكوّناتها الأساسيّة، وحوافزها، فهي نهر متدفِّق من التجارب والآمال والإنجازات وخيبات الأمل، وهذا ما يجعل الأسئلة الّتي تثيرها مشكلات الحاضر حافزاً نحو استرجاع الماضي، باعتباره عملاً مكمّلاً وضروريّاً في البحث الصحيح الموضوعي عن أجوبة أكثر سداداً وحكمة، تؤدّي إِلى حلول صائبة أو مقاربة للصواب للمشكلات الّتي تواجه الإنسان في حاضره، أجوبة معجونة بالتّجارب الإنسانيّة

٣١

السّابقة.

وقد يثير هذا التحليل حفيظة فريق من أهل الفكر المشتغلين بالسياسة، أو فريق من أهل السياسة يدّعون لأنفسهم صلة بالفكر، يرون - أولئك وهؤلاء - أنّ النزعة التاريخيّة، أو العقليّة التاريخيّة (السلفيّة) تُعيق نموّنا في الحاضر وتقدّمنا في المستقبل؛ لأنّها تشدّنا دائماً إلى الماضي، إلى قِيَمِهِ وتصوّراته. إنّ التاريخ عند هؤلاء مرض يشوّه الحاضر ويقضي على المستقبل.

ولكن هذا الرأي بعيد عن الصّواب.

بطبيعة الحال نحن - في فَهْمنا لدور التاريخ كعامل مكوّن في البنيّة الثقافيّة للإنسان والمجتمع، ومساعد في عمليّات الفكر - لا ندّعي أنّ من الحكمة أنْ يجعل الإنسان نفسه سجين التاريخ، لسنا في فَهْمنا لدور التاريخ مع غلاة النزعة التاريخيّة الّذين يَرَون أنّ التاريخ هو الحقيقة كلّها، لا مرحلة من مراحل نمو الحقيقة التجريبية فقط. فهذا الموقف الفكري يتّسم بالغلوّ والشَطَط.

ولكن ليس من الحكمة أيضاً أنْ يواجه الإنسان حاضره ويتّجه نحو مستقبله وهو بلا جذور، إنّه حين لا يستشعر تاريخه الخاص بأمّته أو تاريخ الإنسانيّة يفقد القدرة على الرؤية الصحيحة، ويفقد القدرة على تقويم المواقف الّتي تواجهه في خاطره تقويماً سليماً، سواء في ذلك ما يتعلّق منها بالحاضر نفسه أو ما يتعلّق منها بالمستقبل، إنّه في هذه الحالة يتحرّك في الفراغ.

لهذا وذاك نرى أنَّ الاستخدام المُتّزِن للتاريخ، الاستخدام المُتّسم بالحكمة والاعتدال يجعلنا أقدر على التحرّك في حاضرنا وأكثر شعوراً بخطورة قراراتنا فيما يتعلّق بشؤون المستقبل؛ لأنّ التاريخ في هذه الحالة يُعمّق حِسَّنا الأخلاقي حين اتخاذنا قرارات مستقبليّة تمسّ نتائجها حياةَ أجيال، نصنع بهذه القرارات - المستقبليّة بالنسبة إلينا - حاضرها هي، الّذي هو مستقبلنا المظنون الّذي قد لا نشاركها فيه؛ لأنّنا نكون حينئذٍ قد غادرنا الحياة، ومِن ثمّ فلا نواجه نتائج قراراتنا الماضية، بدون استرجاع الماضي وما يمنحنا ذلك من عمق في الرّؤية، وغنى في التجربة

٣٢

الإنسانيّة، ووعي لاستمرار الحضارة الإنسانيّة فينا وفيمن يأتي بعدنا من الأجيال، بدون ذلك لن يكون في وسعنا تفادي أخطاء وقعتْ في الماضي، كما لنْ يكون مِن حقّنا التمتّع بنتائج تجارب ناجحة أُنجزتْ فيه، كما أنّنا في هذه الحالة قد نتّخذ بالنسبة إلى المستقبل الّذي لا نملكه وحدنا قرارات متهوّرة، شديدة الخطورة بالنسبة إلينا، وإلى وضعيّة ومصير الأجيال الآتية.

إنّ الغلوّ في استرجاع التّاريخ، فكراً وعملاً، قد يجعل من التّاريخ مقبرة للحاضر والمستقبل، ويجعل الإنسان غريباً في العالم الّذي يعاصره ويحيط به ويتدفّق بالحياة نحو المستقبل مِن حوله.

كما إنّ الغلوّ في رفض التاريخ، والانقطاع عنه والانصراف عن تجاربه ومآثره قد يجعل الإنسان (ريشة في مهبّ الريح) عاجزاً عن التماسك في الحاضر، ويفقده القدرة على ممارسة دوره الأصيل في بناء الحضارة، ويجعل منه مجرّد ممثّل لأدوار يضعها الآخرون، يعكس هو بتمثيله إراداتهم وأفكارهم وموجاتهم.

إذنْ لابدّ للإنسان من أنْ يتعامل مع التاريخ باعتدال، يجعله دليلاً في حركته، وتربةً ينمو فيها الحاضر الأصيل والمستقبل الأكثر يُمْناً وأصالةً.

واستجابةً لهذه الضّرورة تعامل أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) مع التّاريخ في مجال الوَعظ وفي مجال السّياسة والفكر.

وأكبر همِّنا في هذه الدراسة هو التّعرف على النظرة التاريخيّة للإمام في مجالَي السّياسة والفكر، مكتفين بالنسبة إلى المجال الوعظي ذي المحتوى التاريخي بتقديم نموذج واحد من النصوص الوعظيّة في كتاب نهج البلاغة، وتحليله مع تسليط الأضواء على الجانب التاريخي فيه.

٣٣

التّاريخ في مجال الوعظ

حلّلنا في فصل (الوعظ) من كتابنا (دراسات في نهج البلاغة) (1) ، مواعظ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في نهج البلاغة على ضوء الظروف السياسيّة والاجتماعيّة والنفسيّة الّتي كانت تسيطر وتوجّه مجتمع العراق بوجه خاص في أيام خلافة الإمام (عليه السّلام).

وكشفنا النّقاب هناك عن أنّ الإمام لم يكن في مواعظه داعياً إلى مذهب زُهْدِي، يقف موقفاً سلبيّاً من الحياة الدنيا والعمل لها والاستمتاع بها، وإنّما كان في مواعظه وتوجيهه الفكري بوجه عام يدعو إلى مواجهة الحياة بواقعيّة وصدق، محذِّراً من اللّهاث المجنون وراء الآمال الخادعة والأحلام الكاذبة، الّتي ليس لها في واقع الحياة سند ولا أساس.

وكشفْنا النّقاب أيضاً عن أنّ النّظرة الشّائعة إلى مواعظ الإمام في نهج البلاغة قد تأثّرت بالتّيَّار الزُهْدِي السّلبي، الّذي طبع المجتمع الإسلامي بطابعه في عصور الانحطاط، وهو دخيل على الفكر الإسلامي وعلى أخلاقيّات الإسلام وتشريعه، ولذا فإنّ هذه النظرة خاطئة لا تمثِّل مقاصد الإمام وأهدافه من المواعظ الّتي كان يوجّهها إلى مجتمعه.

____________________

1 - (محمّد مهدي شمس الدّين): دراسات في نهج البلاغة (الطّبعة الثّالثة) بيروت ص 247.

٣٤

والمواعظ الّتي استخدم الإمام فيها عنصر التّاريخ كغيرها من مواعظه في أنّه لا يدعو فيها إلى مذهب زهدي سلبي من الحياة الدنيا، وإنّما يعالج بها حالة خاصّة في مجتمعه الّذي بدا غافِلاً عن مصيره التَعِس، مُهْمِلاً لواجباته في جهاد النفس وجهاد العدو، مُتلهِّفاً على المُتَع والثراء اللّذَين لا يستحقّهما إلاّ مجتمع مستقر، أحكم وضعه الأمني والسّياسي والاجتماعي، وقطع دابر الطامعين فيه المتآمرين عليه، وهذا ما لم يَكُنْه مجتمع العراق في عهد الإمام (عليه السلام) بل كان مُجْتَمَعاً قلِقاً يعاني من اضطراب أَمْنِهِ الخارجي وتدهور أَمْنه الداخلي، كما يُعاني من التمزّق السياسي، وكان - نتيجةً لذلك - يؤجّج مطامع الحكم الأموي في الشام ويدفع به نحو التآمر عليه.

* ونقدّم فيما يلي نموذجاً من النّصوص الوعظيّة الّتي يكون التاريخ عنصراً بارزاً وأساسيّاً فيها:

قال (عليه السّلام):

(أمّا بَعْدُ، فَإنِّي أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا، فَإنَّهَا حُلوَة خَضِرَة، حُفَّتْ بِالشَّهواتَ، وَتحبَّبتْ بِالعاجِلةِ، وراقت بِالقليلِ، وتحلَّتْ بِالآمالِ، وتزيَّنتْ بِالغُرُور، لا تدُومُ حَبرتُها (1) ، ولا تُؤمَنُ فجعتُها، غرَّارة ضرَّارة، حائِلة (2) زائِلة نافِدة (3) بائِدة، أكَّالة غوَّالة (4) ، لا تعدُو إذا تناهتْ إلى أُمنيَّةِ أهلِ الرَّغبةِ فِيها والرِّضاءِ بِها أَنْ تكُون كما قالَ اللهُ تعالى سُبحانهُ:

( كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا (5) تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ) (6) ، لم يكُنِ امرُؤ مِنها فِي حَبرةٍ إلاّ أعقبتهُ بعدها عبرةً، ولم يلقَ فِي سرَّائها بطناً إلا منحتهُ مِن ضرَّائَها ظهراً (7) ، ولم تطُلَّهُ فيها دِيمة (8) رخاءٍ إِلاّ هتنتْ (9) عليهِ مُزنةُ بلاءٍ. وحرِيّ إذا أَصبحتْ لهُ مُنتصرةً

____________________

1 - الحبرة: بالفتح - النّعمة.

2 - حائلة: متغيِّرة.

3 - نافدة: فانية.

4 - غوّالة: مُهْلِكَة.

5 - الهشيم: النَبْت اليابس.

6 - سورة الكهف (رقم 18/ مكيّة) الآية: 45.

7 - البطن: كناية عن إقبال الدّنيا، والظّهر: كناية عن الإدبار.

8 - الطلّ: المطر الخفيف. والدّيمة: مطر يدوم في سكون لا يرافقه رعد وبرق.

9 - هتنتْ: انصبّت.

٣٥

أن تُمسِيَ لهُ مُتنكِرةً، وإنْ جانِب مِنها اعذوذبَ واحلولى أَمرَّ مِنها جانِب فأَوبى (1) لا ينالُ امرُؤ مَن غضاريها رغباً (2) إلاّ أرهقتْهُ مِن نوائبِها تَعَبَاً، ولا يُمسِي مِنها في جناحِ أَمْنٍ إلاّ أصبحَ على قوادِمِ خوفٍ (3) . غرَّارةُ ما فِيها، فانية، فانٍ مَن عليها، لا خيرَ فِي شيءٍ مِن أزوادِها إلاّ التقوى).

(مَن أقلَّ مِنها استكثرَ مِمَّا يُؤمِنُهُ، ومَنِ استكثرَ مِنها استكثرَ مِمّا يُوبِقُهُ (4) ، وزال عمَّا قلِيلٍ عنهُ).

(كم مِن واثقٍ بِها قد فجعتْهُ، وذِي طُمَأنِينَةٍ إليها قد صرعتْهُ، وذِي أُبهةٍ قد جعلتْهُ حقِيراً (5) ، وذِي نخْوةٍ قد ردَّتْهُ ذلِيلاً (6) .

(سُلطانُها دُوَّل (7) وعيشُها ريق (8) ، وعذبُها أُجاج (9) ، وحُلوها صَبِر (10) ، وغِذاؤُها سِمام (11) وأسبابُها رِمام (12) .

(حيُّها بِعرضِ موتٍ، وصحِيحُها بِعرضِ سُقمٍ، وموفُورُها منكُوبٍ (13) وجارُها محرُوب (14) .

(ألستُم فِي مساكِنِ مَن كان قبلكُم أطولَ أعماراً وأبقى آثاراً، وأبعدَ آمالاً، وأعدَّ عدِيداً. وأكثف جُنُداً؟ تعبَّدُوا لِلدُّنيا أيَّ تعبُّدٍ، وآثرُوها أيَّ إيثارٍ، ثُمَّ ظعنُوا عنها بِغيرِ زادٍ مُبلغٍ، ولا ظهرٍ قاطِعٍ (15) ).

____________________

1 - أوبَى: صار كثير الوباء.

2 - الغضارة: النّعمة، والرّغَب: الرغبة، والمرغوب فيه.

3 - القوادِم: جمع قادِمة، ريش في مقدم جناح الطائر.

4 - يُوبِقهُ: يُهلكهُ.

5 - أبّهة: عظمة.

6 - النّخوة: الافتخار.

7 - دُوَّل - بضم الدال - المنحول.

8 - الريق: الكدر.

9 - أُجاج: شديد الملوحة.

10 - الصّبر: عصارة الشّجر المرّ.

11 - سمام: جمع سم، وهو مثلث السين.

12 - الرُّمام: جمع رُمّة - بالضم - القطعة البالية من الحبل، ومنه (ذُو الرّمّة).

13 - موفورها: مَن كان عنده وفر (كثرة) من الدنيا معرض للمصائب والنّكبات.

14 - محروب: المحروب مَن سلب مالُه.

15 - ظهر قاطع: وسيلة تقطع براكبها الطريق بأمان وتبلغه غايته.

٣٦

(فهل بَلَغَكُم أنَّ الدُّنيا سختْ لهُم نفساً بِفِديةٍ (1) أو أعانتْهُم بِمَعُونةٍ، أو أحسنت إليهِم صُحبَةً..؟ بل أرهقتْهُم بالقوادِحِ (2) وأوهقتْهُم بِالقوارِعِ (3) وضَعْضَعَتْهُم بِالنَّوائبِ (4) ، وعفَّرتْهُم لِلمناخِرِ (5) ، ووطِئتْهُم بِالمناسِمِ (6) ، وأعانتْ عليهِم ريبَ المنُون).

(فقد رأيتُم تنكُّرَها لِمَن دان لها (7) وآثرها وأَخْلَدَ إليها (8) حِين ظعنُوا عنها لِفِراقِ الأبدِ... أفهذِهِ تُؤثِرون؟ أَمْ إِلَيْهَا تطمئنُّونَ؟ أَمْ عليها تَحرِصُون؟ فبِئستِ الدَّارُ لِمَنْ لم يتَّهِمها، ولم يكُن على وجلٍ مِنه).

(فاعلمُوا - وأنتُم تعلمُون - بِأنكُم تارِكُوها وظاعِنُون عنها، واتَّعِظُوا فِيها بِالَّذِين قالُوا ( ... مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ... ) (9) حُمِلُوا إلى قُبُورِهِم فلا يُدعَون رُكباناً (10) ، وأُنزِلُوا الأجداث فلا يُدعَونَ ضِيفاناً (11) ، وجُعِل لهُم مِنَ الصَّفِيحِ (12) أجنانُ (13) ومِن التُّرابِ أكفان...

استبدَلُوا بِظهرِ الأرِضِ بطناً، وبِالسَّعةِ ضِيقاً، وبِالأهلِ غُربةً، وبِالنُّورِ ظُلمَةً...) (14) .

***

ركّز الإمام (عليه السّلام) في هذه الخطبة الوعظيّة - كما هو شأنه في معظم مواعظه - على عامِلَيْن ثابتَين في طبيعة الحياة على هذه الأرض:

____________________

1 - لم تدفع عنهم الدّنيا بلاء الموت.

2 - أرهقتْهم: أتْعَبَتْهُم. والقوادِح: جمع قادح، مرض يصيب الأسنان والشجر. أراد به هنا المصائب والنكبات.

3 - الوهق: حبل تُصطاد به الفريسة، والقوارع: المحن. أراد أنّهم أسرى مشاكلهم المادِّيَّة والاجتماعيّة.

4 - ضَعْضَعَتْهُم: جعلتهم قلقين، وحرمتهم الاستقرار وطنب العيش.

5 - عَفّرَتْهم: العفر التراب، مرّغتْ آنافهم بالتّراب، كناية عن إذلالِهم.

6 - المنسم: خف البعير، كناية عن إذلالهم.

7 - دَانَ: خضع.

8 - أَخْلَدَ: اطمأنّ.

9 - سورة فُصّلت: (رقم 41 / مكّيّة) الآية: 15.

10 - لا يُدعَونَ رُكباناً ؛ لأنّهم مقهُوُرون ولم يُحمَلُوا مختارين، ولا يُدعون ضيفاناً ؛ لأنّهم يُقيمون في قبورهم.

11 - الأجداث: القبور.

12 - الصَفِيْح: الوجه من كلّ شيء له مساحة، والمراد هنا الأرض.

13 - أَجْنَان: جمع جَنَن - بالفتح - القبر.

14 - نهج البلاغة: رقم الخطبة: 111.

٣٧

1 - عامل التغيّر والتقلّب في الحياة:

الحياة بما هي حركة، وبما هي تفاعل، وبما هي طاقات وقوى تتفاعل فتتكامل أو تتقاتل في داخل كلّ شيء ومِن حول كلّ شيء في الكون المادِّي كلّه - الحياة بما هي كلّ هذا متقلِّبة متغيِّرة متحوِّلة باستمرار - هي في حالة صيرورة دائمة لا تستقر على حال ولا تثبت على وتيرة واحدة.

2 - عامل الزّمن:

أثر الزمن في الأشياء والأعمار ظاهر لكلّ ذي بصيرة، فالزّمن يُفتِّت الحياة باستمرار، فما إنْ يبدأ وجود الحياة في شيء، بل ما إنْ يبدأ وجود شيء - حيّاً كان أو غير حيّ - حتّى يبدأ هذا الوجود بالذّوبان والتّفتّت والضّياع. إنّ الحياة تولد في الزّمن. ولكنّ الزّمن يغتالها باستمرار.

وهذان العاملان - التّغيّر والزمن - لا يختصّان بعالَم الإنسان وحده، إِنّهما يعملان في كلّ شيء، ويحُولانِ دون ثبات كلّ شيء:

- الجماد.

- والنّبات.

- والحيوان.

- والإنسان.

ويتميّز الإنسان - بالنسبة إليهما - عن العوالِم الأُخرى بأنّه - لِمَا أُوتي مِن عقل وإدراك - يستطيع أنْ يَعِي الوجه المأساوي لعمل هذَيْن العامِلَيْن، وأثرهما في حياته، وفي الوجود مِن حوله.

ووعيُ الإنسان لهذين العاملَين وأثرهما في الحياة والأشياء يجعله قادِراً على مواجهة الحياة ومباهجها المؤقَّتة، ووُعُودها السّخيّة، وآمالها اللامعة، بعقلٍ صافٍ خالٍ من الأوهام، ويعزّز فيه النّزعة الواقعيّة في أخذ الحياة والتعامل مع الدّنيا، هذه النّزعة الّتي من شأنها أنْ تجعل الآمال أقلّ بريقاً وجذباً واستهواءً، والانتصارات أقلّ مدعاة للغرور والصلف، والمآسي أقلّ إيلاماً. ويعزّز مناعة الإنسان أمام تكالب صروف الدهر، وخيبات الأمل وضياع الجهود، ونوازل المرض والموت... فلا ينهار بسبب ذلك ولا ييأس ولا يستسلم، ولا يستكين ولا يهرب من العمل، وإنّما ينبعث للعمل والكفاح في سبيل نفسه وأهله ومجتمعه وعالَمه من جديد؛ لأنّه لم يُفَاجَأ بالخيبة والإخفاق، بل كان مهيّأ النفس لتقبّلهما، ومِن ثمّ فقد كان مهيّأ النفس لتجاوزهما، واستئناف

٣٨

العمل مرّة أخرى بأملٍ واقعي جديد.

بالإجمال:

إنّ وعيَ الإنسان لهذَين العاملَين، وإدراكهُ لأثرهما العميق والمصيري في حياته وفي الوجود من حوله يجعله قادِراً على مواجهة الحياة بكلّ وجوهها وما فيها من حسن وقبح، وألم ولذّة، وواقع وخيال، ونجاح وإخفاق يواجهها بروح واقعيّة.

وحين يُدخل الإمام (عليه السّلام) في وعظه عنصر التاريخ، فيتحدّث عن الماضين وما حلّ بهم من كوارث وآلام، وما انتهتْ إِليه حياتهم على عظمة توهّجها من انطفاء، فإنّه يقدّم لتحليله النظري - الّذي تناول واقع حياة معاصريه الّذين يخاطبهم - يقدّم نماذج تطبيقيّة من حياة أقوام آخرين إنّه يقدّم لمعاصريه تجربة الآخرين الّتي يعرفونها، ويبعثون حياتهم في ساحاتها، ويرون آثارها الباقية من الماضي في هذه الساحات.

فهذه المدن والمساكن، وهذه الضِياع والمزارع، وهذه القِلاع والحُصون، عمّرها في عصور سابقة أناسٌ تقلّبت بهم صروف الحياة وأفراحها وأحزانها، والآمال الّتي سَعِدُوا بإنجازها وخيبات الأمل، ثمّ ماتوا وانقطعوا عن كلّ ما كان يملأ عليهم حياتهم من أحلام وأماني، ومطامح ومطامع، وحب وبغضاء، وصداقات وعداوات...

وكان هؤلاء أطول أعماراً، وأكثرُ قوّةً (وأعد عديد)، وقد وجّهوا كل ما أوتوا من قدرة وذكاء ومعرفة لدنياهم، فأعدّوا لها واستعدّوا، ولم يشغلْهم عنها تفكيرٌ بالآخرة أو عمل لها، ولكن كلّ ذلك لم ينفعهم ولم يَعُدْ عليهم بطائل؛ لأنَّ عامل التغيّر والتقلّب من جهة وعامل الزمن من جهة أخرى، عملاً دائماً - كما لا يزالان يعملان، وكما سيعملان في المستقبل - على تفتيت حياة أولئك الناس، وكانت حياتهم - كما هي الحياة الآن، وكما ستبقى الحياة - تحمل في جوهرها وفي أعماقها أثناء ولادتها ونموّها وازدهارها بذور تقلّصها وذبولها وانطفائها في آخر المطاف.

***

هذا نموذج من وعظ الإمام عليّ الّذي يدخل فيه عنصر التاريخ باعتباره يُضيء الحاضر؛ لأنّه يضيف إِليه تجربة الماضي ويجعله - بذلك - أكثر غنى، ويجعل الإنسان أكثر قدرة على مواجهته بروح واقعيّة وبعقل خالٍ مِنَ الأوهام، فلا يَهِن ولا يستسلم تحت وطْأة الكارثة، ولا يطغى ولا يطوّح به الغرور وهو في ذُرى النجاح.

٣٩

التّاريخ في مجال السّياسة والفكر

تمهيد:

* استخدام الإمام التّاريخ في مجال الفكر كما استخدمه في مجال السّياسة:

كان رجل رسالةٍ هي الإسلام، رسالة استوعبتْ الحياة كلّها: تنظيماً، وتشريعاً، ومناهجَ. وهي رسالة ذات طابع عالمي، ممتدّة في الزّمان إلى آخر الزمان، أراد اللّه تعالى لها أنْ تكون ديناً للإنسان كلّ إنسان، تقوده نحو التكامل الّذي يُحقّق له التّوازن والتّسامي.

وهي رسالة تقوم على العلم والمعرفة، وترفض الجهل؛ لأنّه يتيح لأعدائها أنْ يتسلّلوا في ظلماته إلى قلوب أتباعها المؤمنين بها وعقولهم، فيُشوِّهون ويُحرِّفون عقائدها وشرائعها ومناهجها، ويُضلِّلون بعد ذلك أتباعها المؤمنين بها؛ وذلك حين يُلْبِسُوْنَ لهم الحقّ بالباطل والصواب بالخطأ.

ومن هنا كان مِن أكبر هموم رجل الرسالة الاستعداد الدائم في هذا المجال؛ لأجل أنْ يجعل المسلمين على معرفة كاملة بالإسلام، وفي حالة وعي متجدّد ونامٍ لحقيقة الإسلام وجوهره ومناهجه وغاياته؛ ليكون المسلم المستنير بالمعرفة في حصانة من الحيرة والتضليل، على بَيِّنة من أمره، وليكون الإسلام بمنجاة من التشويه والتحريف، ويكون كلّ مسلم مستنير ديدباناً على دينه الّذي هو معنى وجوده وشرف وجوده.

ومن هنا كان عليّ (عليه السلام) في حركة تعليميّة دائمة لمجتمعه وخواصّ أصحابه،

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181