الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٣

الغدير في الكتاب والسنة والأدب9%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 418

الجزء ١ المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 418 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 94899 / تحميل: 7066
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بقية شعراء الغدير

في القرن الثالث

١١ - أبو إسماعيل العلوي

وجدّي وزير المصطفى وابن عمِّه

عليٌّ شهاب الحرب في كلِّ ملحمِ

أليس ببدر كان أوّل قاحم

يطير بحدّ السيف هام المقحَّمِ!؟

وأوَّل صلّى ووحَّد ربَّه

وأفضل زوّار الحطيم وزمزمِ

وصاحب يوم الدوح إذ قام أحمد

فنادى برفع الصوت لا بتهمهمِ

: جعلتك منّي يا عليُّ؟ بمنزل

كهارون من موسى النجيب المكلّمِ

فصلّى عليه الله ما ذرَّ شارقٌ

وأوفت حجور البيت أركب محرمِ(١)

(الشاعر)

أبو إسماعيل محَّمد بن عليِّ بن عبد الله بن العبّاس بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن الإمام أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب صلوات الله عليهم.

هو من فروع دوح الخلافة، ومن مفاخر العترة الطاهرة، كان يرفل في حلّة المجد الضافية، طافحاً عليه الشرف الظاهر، والسؤدد المعلوم، بين حسبٍ زاكٍ، و ونسبٍ وضئٍ، أحمديُّ المأثرة، علويُّ المنقبة، عبّاسيُّ الشهامة، إلى فضائل كثيرة ينحسر عنها البيان.

قال المرزباني في (معجم الشعراء) ص ٤٣٥: شاعرٌ يكثر الإفتخار بآبائه رضوان الله عليهم، وكان في أيّام المتوكّل وبعده دهراً، وهو القائل:

_____________________

١ - معجم الشعراء للحافظ المرزباني ص ٤٣٥.

١

وإنّي كريمٌ من أكارم سادةٍ

أكفّهمُ تندي بجزل المواهبِ

همُ خير من يحفى وأفضل ناعلٍ

وذروة هضب العرب من آل غالبِ

همُ المنُّ والسلوى لدانٍ بودّهم

وكالسمِّ في حلق العدوِّ المجانبِ

وله:

بعثت إليهم ناظري بتحيَّةٍ

فأبدت لي الأعراض بالنظر الشزرِ

فلمّا رأيت النفس أوفت على الرَّدى

فزعت إلى صبري فأسلمني صبري

أمّا إذا افتخر أبو إسماعيل بآبائه فأيُّ أحد يولده أولئك الأكارم من آل هاشم فلا يكون حقّاً له أن يطأ السماء برجله؟ وأيّ شريف يكون المحتبي بفناء بيته قمر بني هاشم أبو الفضل ثمّ لا تخضع له قمَّة الفلك مجداً وخطراً؟ فإن افتخر المترجم بهؤلاء فقد تبجَّح بنجوم الأرض وأعلام الهدى، ومنار الفضل وسُوى الإيمان.

مَن تلق منهم تلق كهلاً أو فتىً

علم الهدى بحر الندى المورودا

وهذا جدُّه أبو الفضل العبّاس الثاني كان كما قال الخطيب في تاريخ بغداد ١٢ ص ١٣٦: عالماً شاعراً فصيحاً من رجال بني هاشم لساناً وبياناً وشعراً، ويزعم أكثر العلويَّة: إنّه أشعر ولد أبي طالب؛ وكان في صحابة هارون ومن شعره يذكر إخاء أبي طالب (عم النبيِّ) لعبد الله (أبي النبيِّ لأبيه وأمِّه) من بين إخوته:

إنّا وإنَّ رسول الله يجمعنا

أبٌ وأُمٌّ وجدٌّ غير موصومِ

جاءت بنا ربَّة من بين أسرته

غرّاء من نسل عمران بن مخزومِ

حزنا بها دون من يسعى ليدركها

قرابة من حواها غير مسهومِ

رزقاً من الله أعطانا فضيلته

والناس من بين مرزوق ومحرومِ

جاء إلى باب المأمون فنظر إليه الحاجب ثمَّ أطرق فقال له: لو أذن لنا لدخلنا، ولو اعتذر إلينا لقبلنا، ولو صرَّفنا لانصرفنا، فأمّا اللفتة بعد النظرة لا أعرفها(١) ثمَّ أنشد:

وما عن رضاً كان الحمار مطيَّتي

ولكنَّ من يمشي سيرضى بما ركب

ومن درر كلمه الحكميَّة قوله:

_____________________

١ - هذه الجملة حكيت عن تاريخ الخطيب في تذكرة السبط ٣٢ بغير هذه الصورة.

٢

إعلم أنَّ رأيك لا يتَّسع لكلِّ شيئ، ففرِّغه للمهمِّ.

وأنَّ مالك لا يغني الناس كلّهم، فخصَّ به أهل الحقِّ.

وأنَّ كرامتك لا تطيق العامَّة، فتوخَّ بها أهل الفضل.

وأنَّ ليلك ونهارك لا يستوعبان حاجتك وإن دأبت فيهما، فأحسن قسمتهما بين عملك ودعتك من ذلك.

فإنَّ ما شغلك من رأيك في غير المهمِّ إزراءٌ بالمهمِّ.

وما صرفت من مالك في الباطل فقدته حين تريده للحقِّ.

وما عمدت من كرامتك إلى أهل النقص أضرّك في العجز عن أهل الفضل.

وما شغلك من ليلك ونهارك في غير الحاجة أزرى بك في الحاجة.

وأخو العبّاس هذا: الفضل بن الحسن الذي يأبِّن جدَّه أبا الفضل شهيد الطفِّ سلام الله عليه بقوله:

أحقّ الناس أن يُبكى عليه

فتىً أبكى الحسين بكربلاءِ

أخوه وابن والده عليٍّ

أبو الفضل المضرَّج بالدِّماءِ

ومن واساه لا يثنيه شيءٌ

وجاد له على عطشٍ بماءِ

ذكرها له المؤرِّخ الهندي أشرف علي في كتابه المطبوع [روض الجنان في نيل مشتهى الجنان] وشطَّرها زميلنا العلّامة المتضلّع الشيخ محمد علي الأوردبادي حيِّاه الله فقال:

أحقٌّ الناس أن يُبكى عليه

بدمع شابه علق الدماءِ

بجنب العلقميِّ سريّ فهرٍ

فتىً أبكى الحسين بكربلاءِ

أخوه وابن والده عليٍّ

هزير الملتقى ربُّ اللواءِ

صريعاً تحت مشتبك المواضي

أبو الفضل المضرَّج بالدماءِ

ومن واساه لا يثنيه شيءٌ

عن ابن المصطفى عند البلاءِ

وقد ملك الفرات فلم يذقه

وجاد له على عطشٍ بماءِ

وكان شاعرنا المترجم من رجاحة العقل، ورصافة العارضة، في جانب عظيم

٣

مثيل جدِّه تجري كلماته مجرى الحكم والأمثال منها قوله في رجل من أهله:

إنّي لأكره أن يكون لعلمه فضلُ على عقله، كما أكره أن يكون للسانه فضلٌ على علمه(١) .

١٢ - الوامق النصراني

أليس بخمٍّ قد أقام «محمَّدٌ»

«عليّاً» بإحضار الملا في المواسمِ

فقال لهم: مَن كنت مولاه منكُمُ

فمولاكمُ بعدي «عليّ بن فاطمِ»

فقال: إلهي كن وليَّ وليِّه

وعاد أعاديه على رغم راغمِ

ويقول فيها:

أما ردّ عمراً يوم سلع بباتر

كأنَّ على جنبيه لطخ العنادمِ(٢)

وعاد ابن معدي نحو أحمد خاضعاً

كشارب أثل في خطام الغمايمِ(٣)

وعاديت في الله القبايل كلّها

ولم تخش في الرَّحمن لومة لايمِ

وكنت أحقّ الناس بعد محمد

وليس جهول القوم في حكم عالمِ(٤)

(ما يتبع الشعر)

ربما يستغرب القارئ ما يجده من مدايح النصارى لأمير المؤمنين عليه السلام وهم لا يعتنقون الإسلام فضلاً عن الإعتقاد بالخلافة الإسلاميَّة، ولا غرابة في ذلك فإنَّه جريٌ منهم مع الحقايق الراهنة، وسيرٌ مع التاريخ الصحيح، فإنّ المنصف مهما اعتنق

_____________________

١ - كامل المبرد ١ ص ٥٦.

٢ - السلع: جبل بالمدينة. العندم: الدم والبقم.

٣ - أثل: شجر عظيم لا ثمر له ج أثلة. الخطام: كل ما وضع في فم البعير ليقتاد به. الغمايم جمع الغمامة: خريطة فم البعير. كناية عن نهاية الذلة والخضوع.

٤ - مناقب إبن شهر آشوب ١ ص ٢٨٦، ٥٣٢.

٤

مبدءً غير الإسلام فإنَّه لا يسعه إنكار ما اكتنف مولانا من الفضايل: من نفسيّات كريمة، وعلوم جمَّة، وخوارق لا تحصى؛ وبطولة وبسالة، وما قال فيه نبيُّ الإسلام، الذي لا يعدو عند غير المسلم أن يكون عظيماً من عظماء العالم، وحكيماً من حكمائه، بل أعظم رجالات الدهر كلّهم، لا يرمي القول على عواهنه، فلا بدَّ أن يكون من يثبت له هو صلى الله عليه وآله وسلم تلك الفضايل عظيماً كمثله أو دونه بمرقاة.

كما أنّك تجد الثناء المتواصل على النبيِّ الأعظم أو وصيِّه في كتب لفيف من النصارى واليهود ككتاب.

١ - أقوال محمد تأليف المستر ستنلي لين بول.

٢ - محمد والقرآن تأليف المستر جون وانتبورت.

٣ - محمد والقرآن تأليف الأستاذ مونته.

٤ - عقيدة الإسلام تأليف غولد يسهر.

٥ - العالم الإسلامي تأليف ماكس مايرهوف.

٦ - تاريخ العرب تأليف الأستاذ هوار.

٧ - مفكّري الإسلام تأليف كاداود وفو الافرنسي.

٨ - مهد الإسلام تأليف ألاب لامنس.

٩ - خلاصة تاريخ العرب تأليف سديو الافرنسي.

١٠ - حياة محمد تأليف السير ويليام ميور الانكليزي.

١١ - سيرة محمد تأليف السير وليم موير.

١٢ - مدنيّات الشرق تأليف ألمسيو غروسه.

١٣ - الكياسة الإجماعيَّة تأليف الدكتور وغسطون كرسطا الايطالي.

١٤ - محمد والإسلام تأليف حنادا قنبرت.

١٥ - حياة محمد تأليف المستر دكالون سل.

١٦ - محمد والإسلام تأليف المستر بوسرت اسمت.

١٧ - عرب اسبانيا تأليف ألمسيو دوزي.

١٨ - عن الشرع الدولي تأليف الدكتور نجيب ارمنازي.

٥

١٩ - المعلّم الأكبر تأليف المستر هر برت وايل

٢٠ - الابطال تأليف توماس كارليل الانكليزي

٢١ - الإسلام خواطر وسوانح تأليف هنري دي كاستري الفرنسي

٢٢ - حاضر العالم الإسلامي تأليف لوتروب ستو دارد الاميركي

٢٣ - حِكَم النبيِّ محمد تأليف تولستوي الروسي

٢٤ - مصير المدنيَّة الإسلاميَّة تأليف هو كنيك الفيلسوف الاميركي

٢٥ - سرّ تطوّر الإسلام تأليف غوستاف لوبون الفرنسي

٢٦ - الآراء والمعتقدات تأليف غوستاف لوبون الفرنسي

٢٧ - الحضارات تأليف غوستاف لوبون الفرنسي

٢٨ - التمدّن الإسلامي(١) تأليف غوستاف لوبون الفرنسي

٢٩ - الإسلام ومحمد تأليف والافتنرت

٣٠ محمد والحضارة(٢) تأليف عبد المسبيح أفندي وزير

وغير ذلك مئات من كتبهم حول الإسلام أو نبيّه. وما ذلك إلّا أنّ ما وصفوه من صفات الفضيلة حقايق ناصعة لا يسترها التمويه، ولا يأتي على ذكرها الحدثان، و ذكريات خالدة يحدَّث بها الملوان، ما قام للدهر كيان، وبما أنَّ حديث «الغدير» من هاتيك الحقايق تجد الناس إلباً واحداً في روايته، يهتف به الموالي، ويعترف به الناصب، وينشده المسلم، ويشدو به الكتابيّ.

(الشاعر)

بُقراط بن أشوط الوامق الأرميني النصراني، بطريق(٣) بطارقة أرمينيَّة، و قائدهم الأكبر، وأميرهم المقدَّم في القرن الثالث، عدَّه إبن شهر آشوب في «معالم العلماء» من مقتصدي المادحين لأهل البيت عليهم السَّلام.

قال اليعقوبي في تاريخه ٣ ص ٢١٣، وابن الأثير في الكامل ٧ ص ٢٠: إنَّه

_____________________

١ - طبعت ترجمته بالفارسية بطهران في ٨٠٤ صحيفة.

٢ - مقال نشر في جريدة الاستقلال سنة ١٩٢٧ م.

٣ - البطريق: القائد الحاذق بالحرب وشيء ونها. معرب.

٦

وثب في سنة ٢٣٧ أهل آرمينية بعاملهم يوسف بن محمد فقتلوه، وكان سبب ذلك أنَّ يوسف لما سار إلى أرمينية خرج إليه بطريقٌ يقال له: بقراط بن أشوط. ويقال له: بطريق البطارقة. يطلب الأمان فأخذه يوسف وابنه نعمة فسيَّرهما إلى باب الخليفة «المتوكّل» فاجتمع بطارقة أرمينية مع ابن أخي بقراط بن أشوط وتحالفوا على قتل يوسف ووافقهم على ذلك موسى بن زرارة وهو صهر بقراط على ابنته فأتى الخبر يوسف ونهاه أصحابه عن المقام بمكانه فلم يقبل فلمّا جاء الشتاء ونزل الثلج مكثوا حتّى سكن الثلج ثمَّ أتوه وهو بمدينة «طرون»(١) فحصروه بها فخرج إليهم من المدينة فقاتلهم فقتلوه وكلَّ من قاتل معه، وأمّا من لم يقاتل معه فقالوا: له انزع ثيابك وانج بنفسك عرياناً ففعلوا ومشوا حفاةً عراةً فهلك أكثرهم من البرد وسقطت أصابع كثير منهم ونجوا، وكان ذلك في رمضان، وكان يوسف قبل ذلك قد فرَّق أصحابه في رساتيق عمّاله فوجَّه إلى كلِّ طائفة منهم طائفة من البطارقة فقتلوهم في يوم واحد، فلمّا بلغ المتوكّل خبره ووجَّه بغا الكبير إليهم طالباً بدم يوسف فسار إليهم على الموصل والجزيرة فبدأ بأرزن(٢) وبها موسى بن زرارة و له إخوته إسماعيل وسليمان وحمد وعيسى ومحمد وهرون فحمل بغا موسى بن زرارة إلى المتوكّل وأباح على قتله يوسف فقتل منهم زهاء ثلاثين ألفاً وسبى منهم خلقاً كثيراً فباعهم.

وهناك جمعٌ آخرون من النصارى مدح أمير المؤمنين عليه السلام منهم: شاعرهم زينبا إبن إسحق الرسعني الموصلي النصراني.

ذكر له البيهقي في [المحاسن والمساوي] ١ ص ٥٠، والزمخشري في [ربيع الأبرار]، وأبو حيّان في تفسيره [البحر المحيط] ٦ ص ٢٢١، وأبو العبّاس القسطلاني في [المواهب اللدنيَّة]، وأبو عبد الله الزرقاني المالكي في [شرح المواهب] ٧ ص ١٤، والمقري المالكي في [نفح الطيب] ١ ص ٥٠٥. والشيخ محمد الصبّان في [إسعاف الراغبين] ١١٧ نقلاً عن إمامهم أبي عبد الله محمد بن علي بن يوسف الأنصاري الشاطبي(٣) قوله(٤) :

_____________________

١ - موضع بأرمينية.

٢ - أرزن: مدينة من أرباض أرمينية.

٣ - رضي الدين المولود ٦٠١ والمتوفى ٦٨٠ والمترجم في نفح الطيب ١ ص ١٥٠٥.

٤ - وذكره له شيخنا الفتال في «روضة الواعظين» ١٤٣، وإبن شهر آشوب في «المناقب» ٢ ص ٢٣٧.

٧

عديُّ وتيمُ لا اُحاول ذكرها

بسوءٍ ولكنّي محبٌّ لهاشمِ

وما تعتريني في عليّ ورهطه

إذا ذكروا في الله لومة لائمِ

يقولون: ما بال النصارى تحبّهم

وأهل النهى من أعرب وأعاجمِ؟!

فقلت لهم: إنّي لأحسب حبَّهم

سرى في قلوب الخلق حتى البهايمِ

وذكر الخطيب الخوارزمي في المناقب ٢٨، وإبن شهر آشوب في مناقبه ١ ص ٣٦١، والأربلي في كشف الغمّة ٢٠ لبعض النصارى قوله:

عليٌّ أمير المؤمنين صريمة

وما لسواه في الخلافة مطمعُ

له النسب الأعلى وإسلامه الذي

تقدَّم فيه والفضايل أجمعوا

بأنَّ عليّاً أفضل الناس كلّهم

وأورعهم بعد النبيّ وأشجعُ

فلو كنت أهوى ملّة غير ملّتي

لما كنت إلّا مسلماً أتشيَّعُ

وذكر شيخنا عماد الدين الطبري في الجزء الثاني من كتابه «بشارة المصطفى» لأبي يعقوب النصراني قوله:

يا حبَّذا دوحة في الخلد نابتةٌ

ما في الجنان لها شبهٌ من الشجرِ

المصطفى أصلها والفرع فاطمةٌ

ثمَّ اللقاح عليُّ سيِّد البشرِ

والهاشميّان سبطاها لها ثمرٌ

والشيعة الورق الملتفّ بالثمرِ

هذا مقال رسول الله جآء به

أهل الروايات في العالي من الخبرِ

إنّي بحبِّهمُ أرجو النجاة غداً

والفوز مع زمرة من أحسن الزمرِ

أشار بها إلى ما أخرجه الحفّاظ(١) عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنَّه قال: أنا الشجرة، وفاطمة فرعها، وعليٌّ لقاحها، والحسن والحسين ثمرتها، وشيعتنا ورقها، وأصل الشجرة في جنَّة عدن وسائر ذلك في سائر الجنَّة.

هذا لفظه عند العامَّة وأمّا عند مشايخنا فهو: خُلق الناس من أشجار شتّى و خُلقتُ أنا وعليُّ بن أبي طالب من شجره واحدة، فما قولكُم في شجرة أنا أصلها، وفاطمة

_____________________

١ - الحاكم في «المستدرك» ٣ ص ١٦٠، وإبن عساكر في تاريخه ج ٤ ص ٣١٨، ومحب الدين في «الرياض» ٢ ص ٢٥٣، وابن الصباغ «في الفصول» ص ١١، والصفوري في «نزهة المجالس» ٢ ص ٢٢٢.

٨

فرعها، وعليُّ لقاحها، والحسن والحسين ثمارها، وشيعتنا أوراقها، فمن تعلّق بغصن من أغصانها ساقته إلى الجنَّة، ومن تركها هوى في النار.

وممَّن مدحه عليه السلام من متأخِّري النصارى عبد المسيح الأنطاكي المصري بقصيدته العلويَّة المباركة ذات ٥٥٩٥ بيتاً ومنها قوله ص ٥٤٧ فيما نحن فيه:

للمرتضى رتبةٌ بعد الرَّسول لدى

أهل اليقين تناهت في تعاليها

ذو العلم يعرفها ذو العدل ينصفها

ذو الجهل يسرفها ذو الكفر يكميها

وإنَّ في ذاك إجماعاً بغير خلا

ف في المذهب مع شتّى مناحيها

وإن أقرَّبها الإسلام لا عجب

فإنَّه منذ بدء الوحي داريها

وإن تنادى جموع المسلمين بها

فقد وعت قدرها من هدي هاديها

بل جاوزتهم إلى الأغيار فانصرفت

نفوسهم نحوها بالحمد تطريها

وذي فلاسفة الجحّاد معجبة

بها وقد أكبرت عجباً تساميها

وردَّدت بين أهل الأرض مدحتها

فيه وقد صدقت وصفاً وتشبيها

كذا النصارى بحبِّ المرتضى شغفت

ألبابُها وشدت فيه أغانيها

فلست تسمع منها غير مدحته الغـ

ـرّاء ما ذكرته في نواديها

فارجع لقسّانها بين الكنائس مع

رهبانها وهي في الأديار تأويها

تجد محبَّته بالإحترام أتت

نفوسها وله أبدت تصبّيها

وانظر إلى الديلم الشجعان خائضة الحـ

ـروب والترك في شتّى مغازيها

تلف استعاذتها بالمرتضى ولقد

زانت بصورته الحسنا مواضيها

وآمنت أنّ ترصيع السيوف بصو

رة الوصيِّ ينيل النصر منضيها

م - وفي الآونة الأخيرة نظم الأستاذ بولس سلامة قاضي أمّة المسيح ببيروت بعد ما قرأ كتابنا هذا «الغدير» قصيدته العصماء تحت عنوان «عيد الغدير» في ٣٠٨٥ بيتاً، و فيها تحليلٌ وتدقيق، وإعرابٌ عن حقايق ناصعة. وجريٌ مع التاريخ الصحيح، طبعت في ٣١٧ صفحة).

٩

نعرات الجاهلية الأولى

( إِنّ الّذِينَ ارْتَدّوا عَلَى‏ أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمُ

الْهُدَى‏ الشّيْطَانُ سَوّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى‏ لَهُمْ )

ربما يجد الباحث في بعض تآليف المستشرقين في التاريخ الإسلامي رمزاً من النزاهة في الكتابة والأمانة في النقل وخلوَّ كلِّ محكيٍّ عن أيِّ مصدر (هبه غير وثيق) من التحريف والتصرُّف فيه، وتجرُّده عن سوء صنيع الكتبة، وبعده من الإستهتار، وهذا جمال كلّ تأليف وشأن كلّ مؤلِّف مهما كان شريف النفس، وهو حقُّ كلِّ رائد، و الرائد لا يكذب أهله.

غير أنَّ في القوم من ألّف وسخف فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذا كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون. فكأنَّ الجهل لم يمت بعدُ وقد مات أبو جهل، ولهب الضلال لم يخمد بعدُ وقد اتَّقد أبو لهب في درك الجحيم، وكأنَّ الدنيا ترجع إلى ورائها القهقري، وعاد الإسلام كشمس كادت تكون صلاءً(١)

جاء من القوم بعد لأي مِن الدهر مَن يدعو الناس إلى الجاهليَّة الأولى وإلى حميَّتها البائدة، ولا بُقيا للحميَّة بعد الحرائم(٢) نهض يبشِّر عن مسيح مركَّب من طبيعتين: (إلهيَّة وبشريَّة) ويحسب نفسه قد أبهر في تأليفه وأتى بأمر جديد، فأخذ كالمتفلسف يتتعتع ويتلعثم، ويحرِّف الكلم عن مواضعه، ويُؤوِّل الكتاب الكريم برأيه الضئيل، ويتحكَّم في الحديث بفكرته الخائرة، ويرى النبيَّ الأعظم من المبشِّرين بنصرانيَّته الصحيحة التي ليست هي إلّا الضَّلال المحض، وهو مع ذلك مائنٌ في نقله، خائنٌ في حكايته، غاشٌّ في نصحه، مدنِّسٌ في كتابته، مهاجمٌ على قدس صاحب الرِّسالة

_____________________

١ - مثل يضرب في قلة الانتفاع بالشيء

٢ - الحريمة ما فات من كل مطموع فيه.

١٠

مجانبٌ عن الحقِّ والحقيقة، كلّ ذلك باسم كتاب «حياة محمد»

ألا؟ وهو الأستاذ إميل در منغم.

إنَّ الرجل لَمّا شاهد أنَّ الإسلام علا هتافه اليوم، ودوَّخ أرجاء العالم صيته، وأطَّلت سمائه على الأرض كلّها شرقاً وغرباً، وشعَّ نوره في كلِّ طللٍ ووَهَد، وعمَّت أشعَّته كلّ طارفٍ وتليد، وملأ الكون صراخ قومه بالثناء البالغ على الإسلام المقدَّس ونبيِّه الأقدس، وكثر إعجابهم بكتابه السماويِّ، وقانونه الإجتماعيِّ، وشرعه السويِّ، وحكمه السياسيِّ، ودستوره الإصلاحيِّ، ومشعبه الحقِّ المشعب.

عزَّ عليه كما عزَّ على سلفه الغوغاء أن يشاهد هذا السلطان العالميَّ العظيم، وهذه السيطرة الباهرة، وهذه الشرعة العادلة الجبّارة القاهرة للأكاسرة والتابعة والقياصرة والفراعنة، الحاكمة على آراء الأقباط والأقسَّة وآباء الكنائس وزعماءِ البيع ومعتقداتهم.

عزَّ عليه أن يرى في بيئته الغربيَّة بزوغ الإسلام الشرقيِّ، وتنوُّر أفكار المثقَّفين من قومه بلمعات القرآن العربيِّ المجيد، وانتشار معارف الإسلام الخالدة في عواصم أوروبا كالسيل الجارف لأُصول الضَّلال، وأهواء الغرب، وما هناك من فساد الخلايق، ومضلّات البدع.

عزَّ عليه أن يسمع بأُذنيه من قلب العالم الأوربيِّ بألسنة فلاسفتها نداء أنَّ محمداً قاوم الوثنيَّة بعزم واحد طول الحياة ولم يتردَّد لحظة واحدة بينها وبين عبادة الواحد الأحد(١) .

أو أن يسمع عن آخر منهم وهو ينادي: إنَّ القرآن هو القانون العامّ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو صالحٌ لكلِّ مكان وزمان(٢)

أو أن يسمع عن ثالث من قومه وقد ملأ الدنيا صوته وهو يقول: استقرَّت قواعد الإسلام على أساس مكين من الآيات البيِّنات التي أنزلت تباعا وكان ختامها:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) (٣)

_____________________

١ - كلمة الكونت هنري دي كاستري.

٢ - كلمة مسيو سنايس.

٣ - كلمة الدكتور نجيب الارمنازى.

١١

أو أن يسمع بأُذنيه القرآن العزيز وهو يُتلى في الإذاعات كلّ يوم بكرةً وعشيّا، وتقرع آية مسامع خلق الدنيا دون كتاب قومه وكتاب أيِّ ملّة.

م - ونادى لسان الكون في الأرض رافعاً

عقيرته في الخافقين ومنشدا

: أعبّاد عيسى إنَّ عيسى وحزبه

وموسى جميعاً يخدمون محمدا(١)

فهناك تعصَّب الرجل وتشزَّر، وشزر إلى الإسلام وكتابه ونبيِّه، ونظر إليها بصدر عينه(٢) وتشذَّر للدفاع عن نحلته والذبِّ عن مبدءه الباطل؛ فعلى نحيمه بصدرٍ واغرٍ على الحقِّ، وهو يشوب ولا يروب(٣) وشرع يدعو إلى النصرانيَّة باسم الإسلام وحياة محمد، ويرى النبيَّ محمداً جاء بكتاب عربيٍّ كما لو كان نصرانيّاً ذاكراً أنَّه واحداً من الأنبياء ص ١٠٠.

ويرى للنصرانيَّة أثراً في محمد ويزعم أنَّ النصارى قد أيقظت شعور النبيِّ الدينيِّ قبل بعثه ص ١٠٠. ويجد في القرآن أُصول النصرانيَّة ص ١٠٦.

ويرى تأييد روح القدس لعيسى ذاتيّاً دون موسى ومحمد.

ويعتقد لعيسى من عصمة ما لم تكن لمحمَّد ويراه قد جاء في القرآن(٤) ١٠٧ ويرى النصرانيَّة تشمل الإسلام وتضيف إليه بعض الشيء ١١٨.

ويرى المسيح ابن الله الوحيد بمعنىً عرفانيٍّ يُلائم الذوق الخرافيَّ ١١٠.

ويرى القرآن يدعو إلى النصرانيَّة الصحيحة وهو القول بألوهيَّته وبشريَّته و كون الطبيعين في شخص واحد ١٠٧، ١١٢.

ويعزو آراءه السخيفة جلّها إلى القرآن المقدّس، ويرى القرآن لم يحط بكلِّ ما هو حقٌ في الأمر ١٠٩.

ويرى آخر مصحف اعتمد عليه صنع الحجّاج بن يوسف الثقفي، وإمكان تلاوة المصحف الشريف على غير ما هو عليه.

_____________________

١ - من أبيات للشاعر المفلق أبي الوفاء راجح الحلي المتوفى ٦٢٧).

٢ - مثل مشهور يضرب.

٣ - الشوب: الخلط. والروب: الاصلاح. مثل يضرب.

٤ - ليته دلنا على الآية الدالة عليه.

١٢

ويرى علماء التوحيد قائلين بأُلوهيَّة المسيح ١٠٩.

ويرى الهوَّة بين المسلمين والنصارى نتيجة سوء التفاهم.

ويرى التباعد بين الملّتين من فكرة مفسِّري القرآن وعلماء الإسلام.

ويرى العقل والتاريخ يستغربان عدم صلب المسيح.

ويرى اعتقاد المسلمين بعدم صلب المسيح باطلاً والآية الدالّة عليه غامضة ١١١.

ويؤوِّل قوله تعالى:( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ) . بما يلائم تعاليم النصرانيَّة ١١٢.

ويعدّ من ضلال جزيرة العرب إنكار ألوهيَّة المسيح والقول ببشريَّته فحسب ١١٣.

ويرى النبيَّ قد وضع نفسه فوق جميع المعتقدات ما دام على غير علم بالنصرانيَّة الصحيحة ١١٤.

ويعبِّر عن النبيِّ الأعظم بــ (البدويِّ الحمس) ١١٥.

فهذه جملةُ من خرافاته الراجعة إلى التبشير والدعوة إلى النصرانيَّة، وبها يقف الباحث على غاية الكاتب وقيمة كتابه، ويعرف أنَّه يحطُّ في هواه، ويحطب في حبله(١) جاهلاً يأنّ حماة الدين (دين البدويِّ الحمس) نابهون يحومون حول الحمى، ويعرفون حول الصلبان الزمزمة(٢) ويدافعون عن بيضة الإسلام المقدَّسة كلَّ سخبٍ وصخبٍ ولغطٍ وكذبٍ وإفكٍ وقول زور؛ وينزِّهون ساحته عن أرجاس الجاهليَّة وأنجاسها،( إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّـهِ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) .

ولو أردت الوقوف على الحقيقة في كلِّ ما لفَّقه الرجل من إفكٍ شائنٍ فعليك بكتاب الهدى إلى دين المصطفى، وكتاب الرحلة المدرسيَّة وغيرهما من تآليف شيخنا العلم المجاهد الحجَّة الشيخ محمد جواد البلاغي النجفي وما ألفَّه غيره من أعلام الأُمَّة.

تسافل الشرق أو انحطاط العرب

لا أحسب أنَّ بسطاء الأُمَّة الإسلاميَّة فضلاً عن أعلامها تخفى عليهم الغايات المتوخّاة في أمثال هذه الكتب المزوَّرة، ولا تأمرهم أحلامهم قطُّ بنشر ما خطِّته تلكم

_____________________

١ - مثل ساير.

٢ - مثل يضرب لمن يروم الشيء ولا يظهر مرامه.

١٣

الأقلام المستأجرة لزعانفة الجاهليَّة، ولا يحسب أيُّ حامل حساسات الحيابين جنبيه إنَّ في تلكم التآليف فائدة طائلة قصرت عنها يد الشرق التي هي عاصمة علم الدنيا، و مرتكز لواء كلِّ فضيلة ومحمدة إجتماعيَّة.

ولا يهجس في خلد أيَّ محنَّك أنَّ في طيِّ تلكم الكلم مقيلاً من ظلِّ الحقيقة، أو أنَّ أحداً من أولئك الأساتذة المستشرقين قد أتى بفكرةٍ صالحةٍ جديدةٍ في إصلاح المجتمع من شؤون إجتماعيَّة. أخلاقيَّة. سياسيَّة. أدبيَّة. روحيَّة لم يأت بها نبيُّ الإسلام في كتابه وسنّته، حاشا نبيّ الإصلاح المبعوث لتتميم مكارم الأخلاق.

فما حاجة الأُمَّة العربيَّة الآخذة بناصية الشرق إلى ترجمة هذه التآليف الفارغة عن أدب الدين، أدب العلم. أدب النزاهة. أدب العفَّة. أدب الصدق والأمانة. أدب الحقِّ والحقيقة؟!

وما هذا الأنحطاط والتسافل البالغ في العروبة، وقد أصبحت «العياذ بالله» في مسيس الحاجة إلى هذه الكتب المخزية تأليف كلِّ خائرٍ بائرٍ، تأليف من صفرت يداه عن كلِّ خير، والضلال سجيَّته وقرواه؟!

كيف تفتقر الأُمَّة الإسلاميَّة (ولا تفتقر ولن تفتقر) إلى تلك الكتب!؟ ولها كتابها العربيُّ المقدَّس، كتابها الإجتماعيُّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كتابها الذي لا ريب فيه، هدىً للمتَّقين، كتابها الباحث عن الآداب الاجتماعيَّة وشؤون الصالح العام التي قوامها الحكمة، وأساسها العدل والإحسان، وجامعها العفَّة و القداسة والحنان.

وكيف تفتقر وهي حاملة السنَّة النبويَّة؟! تلك السنَّة الطافحة بغرر الحكم الإجتماعيَّة، والأحكام الحقوقيَّة، والجزائيَّة، والمدنيَّة، والدفاعيَّة، وما به انتظام الكون في قمع المظالم، وصيانة الحقوق، ودستور المعاش والمعاد، وحفظ الصحَّة، والمصالح العامَّة، ومباني الترقّي، ومنقذات البشر من مخالب الجهل والضلال، ودروس التقدُّم في عالم الرشد والصلاح.

تلك السنَّة المؤسَّسة للحياة السياسيَّة، وروح الوحدة الإجتماعيَّة، والجوامع الأخلاقيَّة، والفضايل النفسيَّة، والحقوق النوعيَّة والشخصيَّة التي عليها مدار نظام حياة

١٤

النوع الأنسانيِّ، وتدبير شؤون المجتمع البشريِّ في جميع أدوار الدنيا، وقرونها المتكثِّرة.

وكيف تفتقر؟! وبين يديها برنامج الأصلاح الحيويِّ المشتمل لموجبات الأمن والدعة والسلام والوءام والنزوع إلى كلِّ صالح، والإنحياز عن كلِّ ما يفكّك عُرى المدنيَّة الصحيحة، والحضارة الراقية، والدين المبين، ألا وهو كتاب نهج البلاغة (للإمام أمير المؤمنين تأليف الشريف الرضي) الذي تراه فلاسفة الدنيا دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق.

يا أمه اثكليه

هلمَّ معي أيّها الشرقيُّ الإسلاميُّ نسائل أستاذ فلسطين محمد عادل زعيتر [وهو يدبُّ مع القراد(١) وقد أساء القول وأساء العمل] عن ترجمة هذا الكتاب [حياة محمد] الطافح بالضَّلال.

نسائله عن جنايته الكبيرة على الأُمَّة العربيَّة بقوله في مقدِّمة ترجمته: قد تجنّى المستشرقون على الحقائق في سيرة الرسول الأعظم لا ريب، وقد كان تجنّيهم هذا عاملاً في زهد كتّاب العرب عن نقل ما ألَّفوه إلى العربيَّة على ما يحتمل، ولكن عطل اللغة العربيَّة من ذلك يُعدُّ نقصاً في حركتنا العلميَّة على كلِّ حال.

كيف عطل اللغة العربيَّة ممّا جنته يد الجاهليَّة وقد تجنَّت على الحقائق يُعدُّ نقصاً في حركتنا العلميَّة التي تدور مع الكتاب والسنَّة؟! وهما مدار علم العالم، و بصيرة كلّ متنوِّر، ومرمى كلّ مثقَّف، وضالَّة كلّ حكيم، ومقصد كلّ فيلسوف شرقيّ أو غربيّ. وهذا نفس المؤلِّف يقول في مقدِّمة الكتاب: وأهمّ المصادر لتبيان حياة محمد هو القرآن وكتب الحديث والسيرة، والقرآن أصحّ هذه المصادر وإن كان أو جزها.

ليته كان يتبع كتّاب العرب في زهدهم عن نقل ما ألَّفته يد الضلال إلى العربيَّة، ويتوقّى قلمه عن نشر كلم الفساد في المجتمع الإسلاميِّ من دون أيّ تعليق عليها، وأيّ تنبيه للقارئ بفسادها وهو يقول: لا يظنّ القارئ أنَّني أُشاطر المؤلِّف جميع ما ذهب إليه من الأُمور التي أرى الحقيقة غابت عنه في كثير منها.

_____________________

١ - مثل يضرب للرجل الشرير.

١٥

اُثكليه يا أُمَّه؟ بأيّ ثمن بخس أو خطير باع شرف أُمَّته، وعزَّ نحلته، و عظمة قومه، وقداسة كتابه وسنَّته؟!.

ولأيِّ مرمىً بعيد جعل نفسه مع [إميل در منغم] في بردة أخماس(١) ؟! وجاء يعاند الإسلام بنشر تلكم الأباطيل والأضاليل المضادَّة مع نحلته، ويشوِّه سمعة مصره العزيزة، وجامعها الأزهر، وأساتذتها النزهاء، وكتّابها القادرين بنشر تلك التافهات المضلّة في مطابعها المأسوف عليها وهو يقول في المقدِّمة: المؤلِّف مع ما ساده من حسن النيّة لم تخل سوانحه وآراؤه من زلّات.

ليتني أدري وقومي: ما حاجتنا إلى حسن نيّة مؤلِّه المسيح عيسى بن مريم وجاعله إبن الله الوحيد؟! وما الّذي يُعرب عن حسن نيّته؟! وكلّ صحيفة من كتابه أهلك من ترَّهات البسابس(٢) وقلّت صحيفة ليست فيها هنات تنمّ عن سوء طويَّته، وفساد نيَّته، وخبث رأيه.

نعم: والّذي أراه «والمؤمن ينظر بنور الله» إنَّ المترجم راقه ما في الكتاب من الأكاذيب والمخاريق المعربة عن النزعات والأهوآء الأمويّة فبذلك غدا الذئب للضبع(٣) وجاء وقد أدبر غَريره وأقبل هريرة(٤) ووافقَ شنٌّ طبقة.

نعم: راقه سلقه أهل بيت النبيِّ الطاهر بسقطات القول وكذب الحديث وسرد تاريخ مفتعل يمسُّ كرامة النبيِّ الأقدس وناموس عترته ممّا يلائم الروح الأمويَّة الخبيثة، ويمثِّل آل الله للملأ بصورة مصغَّرة، ويشوِّه سمعتهم بما لا يتحمَّله ناموس الطبيعة، وشرف الإنسانيَّة، من شراسة الخلق، وسيّئ العشرة، وقبح المداراة. قال:

كانت فاطمة عابسةً دون رقيَّة جمالاً، ودون زينب ذكاءً، ولم تدار فاطمة حينما أخبرها أبوها من وراء الستر أنَّ عليَّ بن أبي طالب ذكر اسمها، وكانت فاطمة تعدُّ عليّاً دميماً محدوداً مع عظيم شجاعته، وما كان عليٌّ أكثر رغبة فيها من رغبتها فيه مع ذلك ص ١٩٧.

_____________________

١ - ضرب من برود اليمن. وهو مثل يضرب للرجلين تحابا وتقاربا وفعلا فعلاً واحداً.

٢ - الترهات: الطرق الصغار، البسابس جمع بسبس: الصحراء الواسعة.

٣ - مثل يضرب لقريني سوء.

٤ - الغرير: الخلق الحسن. الهرير ما يكره من سوء الخلق.

١٦

وكان عليٌّ غير بهيِّ الوجه لعينيه الكبيرتين الفاترتين وانخفاض قصبة أنفه و كبر بطنه وصلعه، وذلك كلّه إلى أنَّ عليّاً كان شجاعاً تقيّاً صادقاً وفيّاً مخلصاً صالحاً مع توانٍ وتردّد..

وكان عليٌّ ينهت فيستقي الماء لنخيل أحد اليهود في مقابل حفنة تمر فكان إذا ما عاد بها قال لزوجته عابساً: كلي وأطعمي الأولاد..

وكان عليٌّ يحرد بعد كلِّ منافرة ويذهب لينام في المسجد وكان حموه يُربِّته على كَتفه ويعظه ويُوفِّق بينه وبين فاطمة إلى حين، وممّا حدث أن رأى النبيّ إبنته في بيته ذات مرَّة وهي تبكي من لكم عليٍّ لها.

إنَّ محمداً مع امتداحه قدم عليّ في الإسلام إرضاءً لإبنته كان قليل الإلتفات إليه. وكان صهر النبيِّ الأمويّان: عثمان الكريم وأبو العاصي أكثر مدارةً للنبيِّ من عليٍّ. وكان عليٌّ يألم من عدم عمل النبيِّ على سعادة إبنته، ومن عدّ النبيِّ له غير قَوّامٍ بجليل الأعمال، فالنبيُّ وإن كان يفوِّض إليه ضرب الرقاب كان يتجنَّب تسليم قيادةٍ إليه. ص ١٩٩.

وأسوأ من ذلك ما كان يقع عند مصاقبة عليٍّ وفاطمة لعدوّاتهما أزواج النبيِّ وتنازع الفريقين، فكانت فاطمة تعتب على أبيها متحسّرةً لأنّه كان لا ينحاز إلى بناته.

إلى غير ذلك من جنايات تاريخيَّة سوَّد بها الرجل صحيفة كتابه.

ما أساء من أعقب

أنا لا ألوم المؤلِّف - جدع الله مسامعه - وإن جاء بأُذني عناق(١) إذ هو من قوم حناق على الإسلام، وهو مع ذلك جرفٌ منهال وسحابٌ منجال(٢) ينمُّ كتابه عن عُجَره وبُجَره. وإنَّما العتب كلّ العتب على المترجم الجاني على الإسلام والشرق والعرب - وهو يحسب نفسه منها - نعم: جدب السوء يلجئ إلى نجعة سوء(٣) والجنس إلى الجنس يميل.

_____________________

١ - أي جاء بالكذب والباطل، مثل ساير.

٢ - مثل يضرب. يراد أنه لا يطمع في خيره

٣ - مثل دائر. يعني أن الأمور كلها تنشأ كل في الجودة والرداءة.

١٧

كلّ ما في الكتاب من تلكم الأقوال المختلقة، والنسب المفتعلة إن هي إلّا كلم الطائش، تخالف التاريخ الصحيح، وتضادّ ما أصفقت عليه الأُمَّة الإسلاميَّة، وما أخبر به نبيّها الأقدس.

هل تناسب تقوّلاته في فاطمة مع قول أبيها صلى الله عليه وآله وسلم: فاطمة حورآء إنسيّة كلّما اشتقتُ إلى الجنَّة قبَّلتها؟!(١) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ابنتي فاطمة حورآء آدميَّة؟!(٢) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: فاطمة هي الزهرة؟!(٣) .

أو قول أُمّ أنس بن مالك؟!: كانت فاطمة كالقمر ليلة البدر أو الشمس كفر غماماً، إذا خرج من السحاب بيضاء مشربة حمرة، لها شعرُ أسود، من أشدِّ الناس برسول الله صلّى الله عليه وسلّم شبهاً، والله كما قال الشاعر:

بيضاء تسحب من قيام شعرها

وتغيب فيه وهو جثلٌ أسحمُ(٤)

فكأنَّها فيه نهارٌ مشرقٌ

وكأنَّه ليلٌ عليها مظلمُ(٥)

ولقبها الزهراء المتسالم عليه يكشف عن جليَّة الحال.

وهل يساعد تلك التحكّمات في ذكاء فاطمة وخلقها قول أُمّ المؤمنين خديجة رضي الله عنها: كانت فاطمة تحدِّث في بطن أُمِّها، ولَمّا ولدت فوقعت حين وقعت على الأرض ساجدةً رافعةً إصبعها؟!(٦)

أو يلائمها قولٌ عايشة: ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلّاً وهدياً وحديثاً برسول الله في قيامه وقعوده من فاطمة، وكانت إذا دخلت على رسول الله قام إليها فقبَّلها ورحَّب بها، وأخذ بيدها وأجلسها في مجلسه؟!(٧) .

_____________________

١ - تاريخ الخطيب البغدادي ٥ ص ٨٦.

٢ - الصواعق ص ٩٦، إسعاف الراغبين ص ١٧٢ نقلاً عن النسائي.

٣ - نزهة المجالس ٢ ص ٢٢٢.

٤ - جثل الشعر: كثر والتف واسود فهو جثل. سحم فهو أسحم: أسود.

٥ - مستدرك الحاكم ٣ ص ١٦١.

٦ - سيرة الملا، ذخاير العقبى ٤٥، نزهة المجالس ٢ ص ٢٢٧.

٧ - أخرجه الحافظ ابن حبان كما في ذخاير العقبى ٤٠ م - والحافظ الترمذي وحسنه، والحافظ العراقي في التقريب كما في شرحه له ولابنه ١ ص ١٥٠، وابن عبد ربه في العقد الفريد ٢ ص ٣، وابن طلحة في مطالب السئول ص ٧)، إسعاف الراغبين ١٧١.

١٨

م - وفي لفظ البيهقي في السنن ٧ ص ١٠١: ما رأيت أحداً أشبه كلاماً وحديثاً من فاطمة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم. الحديث ].

وهل توافق مخاريقه في الإمام عليّ صلوات الله عليه، وعدم بهاء وجهه، وعدُّ فاطمة له دميماً وكونه عابساً مع ما جاء في جماله البهيِّ: أنَّه كان حسن الوجه كأنَّه قمر ليلة البدر، وكأنَّ عنقه إبريق فضَّة(١) ضحوك السنِّ(٢) فإن تبسَّم فعن مثال اللؤلؤ المنظوم؟!(٣) .

وأين هي من قول أبي الأسود الدؤلي من أبيات له؟!

إذا استقبلتَ وجه أبي ترابِ

رأيتَ البدر حار الناظرينا(٤)

نعم:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا فضله

فالناس أعداءٌ له وخصومُ

كضرائر الحسناء قلن لوجهها

حسداً وبغضاً: إنّه لدميمُ

أوَ يخبرك ضميرك الحرّ في عليّ ما سلقه الرجل به من (التواني والتردُّد)؟! و عليٌّ ذلك المتقحّم في الأحوال، والضارب في الأوساط والأعراض في المغازي والحروب؛ وهو الذي كشف الكرب عن وجه رسول الله في كلِّ نازلة وكارسة منذ صدع بالدين الحنيف، إلى أن بات على فراشه وفداه بنفسه، إلى أن سكن مقرَّه الأخير.

أليس عليٌّ هو ذلك المجاهد الوحيد الذي نزل فيه قوله تعالى:( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ ) . وقوله تعالى:( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ ) ؟!(٥)

فمتى خلى عليٌّ عن مقارعة الرجال والذبِّ عن قدس صاحب الرِّسالة حتى يصحّ أن يُعزى إليه توان أو تردّد في أمر من الأمور؟! غير أنَّ القول الباطل لأحدَّ له ولا أمد.

_____________________

١ - كتاب صفين ٢٦٢، الاستيعاب ٢ ص ٤٦٩، الرياض النضرة ٢ ص ١٥٥، نزهة المجالس ٢ ص ٢٠٤.

٢ - تهذيب الأسماء واللغات للإمام النووي.

٣ - حلية الأولياء ١ ص ٨٤، تاريخ إبن عساكر ٧ ص ٣٥، المحاسن والمساوي ١ ص ٣٢.

٤ - تذكرة السبط ص ١٠٤.

٥ - راجع الجزء الثاني من كتابنا ص ٤٧، ٥٣ ط ثاني.

١٩

وهل يتصوَّر في أمير المؤمنين تلك العشرة السيِّئة مع حليلته الطاهرة؟! والنبيُّ يقول له: أشبهتَ خَلقي وخُلقي وأنت من شجرتي الّتي أنا منها(١)

وكيف يراه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أفضل أُمَّته أعظمهم حلماً، وأحسنهم خلقاً، ويقول: عليٌّ خير أُمَّتي أعلمهم علماً وأفضلهم حلماً؟!(٢)

ويقول لفاطمة: إنّي زوَّجتكِ أقدم أُمَّتي سلماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً؟!(٣)

ويقول لها: زوّجتكِ أقدمهم سلماً، وأحسنهم خُلقاً؟!(٤)

يقول هذه كلّها وعشرته تلك كانت بمرئى منه ومسمع، أفك الدجّالون، كان عليٌّ عليه السلام كما أخبر به النبيُّ الصّادق الأمين.

وهل يقبل شعورك ما قذف به الرَّجل [فضَّ الله فاه] عليّاً بلكم فاطمة بضعة المصطفى؟! وعليٌّ هو ذاك المقتصّ أثر الرَّسول وملأ مسامعه قوله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة: إنَّ الله يغضب لغضبكِ، ويرضى لرضاكِ(٥)

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم وهو آخذ بيدها: من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي بضعةٌ منّي، هي قلبي وروحي التي بين جنبيَّ، فمن آذاها فقد آذاني(٦)

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: فاطمة بضعةٌ منّي، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها(٧)

_____________________

١ - تاريخ بغداد للخطيب ١١ ص ١٧١.

٢ - الطبري، الخطيب، الدولابي. كما في كنز العمال ٦ ص ١٥٣، ٣٩٢، ٣٩٨.

٣ - مسند أحمد ٥ ص ٢٦، الرياض النضرة ٢ ص ١٩٤، ذخاير العقبى ص ٧٨، مجمع الزوائد ٩ ص ١٠١، ١١٤ وصحّحه ووثق رجاله.

٤ - أخرجه أبو الخير الحاكمي كما في الرياض النضرة ٢ ص ١٨٢.

٥ - مستدرك الحاكم ٣ ص ١٥٤ وصحّحه، ذخاير العقبى ص ٣٩، تذكرة السبط ١٧٥ مقتل الخوارزمي ١ ص ٥٢، كفاية الطالب ص ٢١٩، شرح المواهب للزرقاني ٣: ٢٠٢، كنوز الدقائق للمناوي ص ٣٠، أخبار الدول للقرماني هامش الكامل ١ ص ١٨٥، كنز العمال ٧ ص ١١١ عن الحاكم وابن النجار، تهذيب التهذيب ١٢ ص ٤٤٣، الإصابة ٤ ص ٣٧٨، الصواعق ١٠٥، الاسعاف ١٧١ عن الطبراني، ينابيع المودة ١٧٣.

٦ - الفصول المهمة ١٥٠، نزهة المجالس ٢ ص ٢٢٨، نور الأبصار ص ٤٥.

٧ - صحاح البخاري ومسلم والترمذي، مسند أحمد ٤ ص ٣٢٨، الخصايص للنسائي ص ٣٥، الإصابة ٤ ص ٣٧٨.

٢٠

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: فاطمة بضعةٌ منّي، فمن أغضبها فقد أغضبني(١)

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: فاطمة بضعةٌ منّي، يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها(٢)

وهل يقصر امتداح النبيّ عليّاً بقدم إسلامه؟! حتّى يتفلسف في سرِّه ويكون ذلك إرضاءً لإبنته، على أنّ إمتداحه بذلك لو كان لتلك المزعمة لكان يقتصر صلى الله عليه وآله وسلم على قوله لفاطمة في ذلك وكان يتأتّى الغرض به، فلماذا كان يأخذ صلى الله عليه وآله وسلم بيد عليٍّ في الملأ الصحابيِّ تارةً ويقول: إنَّ هذا أوَّل من آمن بي، وهذا أوَّل من يصافحني يوم القيامة؟ ولِما ذا كان يخاطب أصحابه أُخرى بقوله: أوَّلكم وارداً عليَّ الحوض أوَّلكم إسلاماً عليّ بن أبي طالب؟!

وكيف خفي هذا السرّ المختلق على الصحابة الحضور والتابعين لهم بإحسان فطفقوا يمدحونه عليه السلام بهذه الأثارة كما يروى عن سلمان الفارسي. أنس بن مالك. زيد بن أرقم. عبد الله بن عبّاس. عبد الله بن حجل. هاشم بن عتبة. مالك الأشتر. عبد الله بن هاشم. محمد بن أبي بكر. عمرو بن الحمق. أبو عمرة عديّ بن حاتم. أبو رافع. بريدة. جندب بن زهير. أُمّ الخير بنت الحريش(٣)

وهل القول بقلَّة إلتفات النبيِّ إلى عليٍّ يساعده القرآن الناطق بأنَّه نفس النبيِّ الطاهر؟! أو جعل مودَّته أجر رسالته؟!

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الطير المشويِّ الصحيح المرويِّ في الصحاح والمسانيد: أللّهمّ أئتني بأحبِّ خلقك إليك ليأكل معي؟!

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعايشة: إنَّ عليّاً أحبّ الرجال إليَّ، وأكرمهم عليَّ، فاعرفي له حقَّه وأكرمي مثواه؟!(٤)

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: أحبّ الناس إليَّ من الرجال عليٌّ؟!(٥)

_____________________

١ - صحيح البخاري، خصايص النسائي ص ٣٥.

٢ - مسند أحمد ٤ ص ٣٢٣، ٣٣٢، الصواعق ١١٢.

٣ - سيأتي في هذا الجزء نصّ كلماتهم.

٤ - أخرجه الحافظ الخجندي كما في الرياض ٢ ص ١٦١، وذخاير العقبى ٦٢.

٥ - وفي لفظ: أحب أهلي. من حديث أسامة.

٢١

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: عليٌّ خير من أتركه بعدي؟!(١) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: خير رجالكم عليُّ بن أبي طالب، وخير نساءكم فاطمة بنت محمد؟!(٢) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: عليٌّ خير البشر فمن أبى فقد كفر؟!(٣) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: من لم يقل عليٌّ خير الناس فقد كفر؟(٤) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: في حديث الراية المتَّفق عليه: لاُعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبّه الله ورسوله ويحبّ الله ورسوله؟

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: عليٌّ منّي بمنزلة الرأس (رأسي) من بدني أو جسدي؟(٥) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: عليٌّ منَّي بمنزلتي من ربّي؟(٦) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: عليٌّ أحبّهم إليَّ وأحبّهم إلى الله(٧) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ: أنا منك وأنت منّي. أو: أنت منّي وأنا منك؟(٨) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: عليٌّ منّي وأنا منه، وهو وليُّ كلِّ مؤمن بعدي؟(٩) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث البعث بسورة البراءة المجمع على صحَّته: لا يذهب بها إلّا رجلٌ منّي وأنا منه(١٠)

_____________________

١ - مواقف الأيجي ٣ ص ٢٧٦، مجمع الزوائد ٩ ص ١١٣.

٢ - تاريخ بغداد للخطيب ٤ ص ٣٩٢.

٣ - تاريخ الخطيب عن جابر، كنوز الحقايق هامش الجامع الصغير ٢ ص ١٦، كنز العمال ٦ ص ١٥٩.

٤ - تاريخ الخطيب البغدادي ٣ ص ١٩٢ عن ابن مسعود، كنز العمال ٦ ص ١٥٩.

٥ - تاريخ الخطيب ٧ ص ١٢، الرياض النضرة ٢ ص ١٦٢، الصواعق ٧٥ م الجامع الصغير للسيوطي، شرح العزيزي ٢ ص ٤١٧، فيض الغدير ٤ ص ٣٥٧)، نور الأبصار ٨٠. مصباح الظلام ٢ ص ٥٦.

٦ - الرياض النضرة ٢ ص ١٦٣، السيرة الحلبية ٣ ص ٣٩١.

٧ - تاريخ الخطيب ١ ص ١٦٠.

٨ - مسند أحمد ٥ ص ٢٠٤، خصايص النسائي ٣٦ و ٥١.

٩ - مسند أحمد ٥ ص ٣٥٦ وأخرجه جمع من الحفاظ بإسناد صحيح يأتي.

١٠ - خصايص النسائي ٨، راجع ج ١ ص ٤٨ من كتابنا.

٢٢

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لحمك لحمي ودمك دمي والحقُّ معك؟(١) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من نبيّ إلّا وله نظير في أُمَّته وعليٌّ نظيري؟(٢) .

أو ما صحَّحه الحاكم وأخرجه الطبراني عن أُمّ سلمة قالت: كان رسول الله إذا أغضب لم يجترئ أحدٌ أن يكلّمه غير عليّ؟(٣) .

أو قول عايشة: والله ما رأيت أحداً أحبَّ إلى رسول الله من عليّ ولا في الأرض امرأة كانت أحبُّ إليه من امرأته؟(٤) .

أو قول بريدة وأُبيّ: أحبُّ الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من النساء فاطمة ومن الرِّجال عليٌّ؟!(٥) .

أو حديث جُميع بن عُمير؟ قال: دخلت مع عمَّتي على عايشة فسألت أيَّ الناس أحبَّ إلى رسول الله؟! قالت: فاطمة. فقيل: من الرِّجال؟ قالت زوجها، إن كان ما علمت صوَّاماً قوّاماً(٦) .

وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُقدِّم الغير على عليٍّ في الإلتفات إليه؟! وهو أوَّل رجل إختاره الله بعده من أهل الأرض لَمّا اطَّلع عليهم كما أخبر به صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة بقوله: إنَّ الله اطَّلع على أهل الأرض فاختار منه أباكِ فبعثه نبيّاً، ثمَّ اطَّلع الثانية فاختار بعلكِ فأوحى إليَّ فأنكحته واتّخذته وصيّاً(٧)

_____________________

١ - المحاسن والمساوي ١ ص ٣١، كفاية الطالب؟ ١٣٥، مناقب الخوارزمي ٧٦، ٨٣، ٨٧، فرايد السمطين في الباب ٢ و ٢٧.

٢ - الرياض النضرة ٢ ص ١٦٤.

٣ - مستدرك الحاكم ٣ ص ١٣٠، الصواعق ٧٣، تاريخ الخلفاء للسيوطي ١١٦.

٤ - مستدرك الحاكم ٣ ص، ١٥٤ وصححه، العقد الفريد ٢ ص ٢٧٥، خصائص النسائي ٢٩، الرياض النضرة ٢ ص ١٦١.

٥ - خصايص النسائي ٢٩، مستدرك الحاكم ٣ ص ١٥٥ صححه هو والذهبي، جامع الترمذي ٢ ص ٢٢٧.

٦ - جامع الترمذي ٢ ص ٢٢٧ ط هند، مستدرك الحاكم ٣ ص ١٥٧، وجمع آخر

٧ - أخرجه الطبراني عن أبي أيوب الأنصاري كما في إكمال كنز العمال ٦ ص ١٥٣، و أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٩ ص ١٦٥ عن علي الهلالي.

٢٣

وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الله اختار من أهل الأرض رجلين أحدهما أبوكِ والآخر زوجكِ(١)

وإنّي لا يسعني المجال لتحليل كلمة الرجل: وكان صهرا النبيِّ الأمويّان. إلخ: وحسبك في مداراة عثمان الكريم حديث أنس عن رسول الله لَمّا شهد دفن رقيَّة إبنته العزيزة وقعد على قبرها ودمعت عيناه فقال: أيّكم لم يُقارف الليلة أهله؟! فقال أبو طلحة: أنا. فأمره أن ينزل في قبرها.

قال إبن بطّال: أراد النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أن يحرم عثمان النزول في قبرها وقد كان أحقّ الناس بذلك لأنَّه كان بعلها وفقد منها علقاً لا عوض منه لأنَّه حين قال عليه السلام: أيّكم لم يُقارف الليلة أهله؟! سكت عثمان ولم يقل: أنا. لأنَّه قد قارف ليلة ماتت بعض نسائه، ولم يشغله الهمُّ بالمصيبة وانقطاع صهره من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن المقارفة فحرم بذلك ما كان حقّاً له وكان أولى به من أبي طلحة وغيره. وهذا بيّنٌ في معنى الحديث ولعلّ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم قد كان علم ذلك بالوحي فلم يقل له شيئاً لأنَّه فعل فعلاً حلالاً غير أنَّ المصيبة لم تبلغ منه مبلغاً يشغله حتّى حرم ما حرم من ذلك بتعريض غير صريح. (الروض الأنف ٢ ص ١٠٧)

وما عساني أن أقول في أبي العاص الذي كان على شركه إلى عام الحديبيَّة، واُسر مع المشركين مرَّتين، وفرَّق الإسلام بينه وبين زوجته زينب بنت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ستَّ سنين، وهاجرت مسلمة وتركته لشركه، ولم ترد قطّ بعد إسلامه كلمة تُعرب عن صلته مع النبيِّ ومداراته له فضلاً عن مقايسته بعليٍّ. أبي ذرّيَّته وسيِّد عترته.

وقد اتَّهم الرَّجل نبيَّ الإسلام بعدم العمل على سعادة إبنته الطاهرة المطهَّرة بنصِّ الكتاب العزيز، ويقذف عليّاً بالتألّم من ذلك، وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا أصبح أتى باب عليٍّ وفاطمة وهو يقول: يرحمكم الله إنّما يُريد الله ليذهب عنكم الرِّجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيرا. وكان لم يزل يقول: فاطمة أحبّ الناس إليَّ.

ويقول: أحبُّ الناس إليَّ من النساء فاطمة.

ويقول: أحبُّ أهلي إليَّ فاطمة.

_____________________

١ - المواقف للأيجي ص ٨ راجع من كتابنا ج ٢ ص ٣١٨ ط ٢.

٢٤

وكان عمر يقول لفاطمة: والله ما رأيت أحداً أحبَّ إلى رسول الله منكِ(١)

وما أقبح الرجل في تقوُّله على النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم بعدِّه لعليٍّ غير قوّام بجليل الأعمال. وقد وازره وناصره وعاضده بتمام معنى الكلمة بكلِّ حول وطول من بدء دعوته إلى آخر نفس لفظه، فصار بذلك له نفساً وأخاً ووزيراً ووصيّاً وخليفةً ووارثاً ووليّاً بعده، وكان قائده الوحيد في حروبه ومغازيه، وهو ذلك الملقَّب بقائد الغرِّ المحجَّلين وحياً من الله العزيز في ليلة أسرى بنبيِّه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى(٢)

وأسوء من ذلك كلّه عدُّ الرَّجل أزواج النبيّ عدوّات عليٍّ وفاطمة وقد ذكر تنازع عايشة معهما وأُمّ سلمة وبسط القول في ذلك بنقل حادثةٍ موضوعةٍ، وشكّل هناك حزبين منهنَّ: (دمقراطي) و(رستو دمقراطي)، وتقوَّل بما يمسُّ ناموس النبيِّ وكرامة أزواجه أُمَّهات المؤمنين، ويُمثِّل آل الله بكلِّ جلافة وسلافة.

ليت شعري كيف يروق المترجم عدُّ عايشة عدوَّةً لفاطمة وهي تقول: ما رأيت أحداً قطّ أفضل من فاطمة غير أبيها م - أخرجه الطبراني في الأوسط بسند صحيح على شرط الشيخين كما في شرح المواهب ٣ ص ٢٠٢ و] الشرف المؤبَّد ص ٥٨.

وهي كانت تقبِّل رأس فاطمة وتقول: يا ليتني شعرة في رأسكِ (نزهة المجالس ٢ ص ٢٢٧).

وكيف يرتضي قومه نشر هذه القارصة والقرآن أوجب على الأُمَّة مودَّة العترة النبويَّة(٣) ومن المتسالم عليه بين المسلمين إنَّ آية الإيمان والنَّفاق في شرعة النبيِّ المحبوب حبُّ عليّ وبغضه كما يأتي حديثه. وقد اتَّفقت الأُمَّة على ما مرَّ في حديث الغدير من قول رسول الله صلّى الله عليه وآله في عليٍّ: اللهمَّ وال مَن والاه، وعاد مَن عاداه. وصحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله: من أحبَّ عليّاً فقد أحبَّني، ومن أبغض عليّاً فقد أبغضني،

_____________________

١ - مستدرك الحاكم ٣ ص ١٥٠ وصححه.

٢ - مستدرك الحاكم ٣ ص ١٣٨ وصححه، الرياض النضرة ٢ ص ١٧٧، شمس الأخبار ٣٩، أسد الغابة ١ ص ٦٩، مجمع الزوايد ٩ ص ١٢١.

٣ - راجع من كتابنا ج ٢ ص ٣٠٦ - ٣١١ ط ثاني.

٢٥

ومن آذى عليّاً فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله(١) وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن جبرئيل أنَّه أخبره بأنَّ السعيد كلّ السعيد من أحبَّ عليّاً في حياتي وبعد مماتي، ألا وإنَّ الشقيِّ كلّ الشقيّ من أبغض عليّاً في حياتي وبعد مماتي(٢)

وكيف خفي على هذا الرجل أنَّ عزو عداء سيِّد العترة وسيِّدتها إلى زوجات النبيِّ قذفٌ مقذعٌ، وسبُّ شائنٌ إن عُرض على محكمة العدل الإسلاميِّ وأُخذ بقوله صلى الله عليه وآله وسلم في عترته: لا يُحبّهم إلّا سعيد الجدّ طيِّب المولد، ولا يبغضهم إلّا شقيّ الجدِّ ردئ الولادة(٣) أو بما ورد من طريق الثقات من: أنَّ عليّاً لا يبغضه أحدٌ قطُّ إلّا وقد شارك إبليس أباه في رحم أُمِّه(٤)

أو بما أخرجه الحافظ الجزري عن عبادة الصامت قال: كنّا نبور أولادنا بحبِّ عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فإذا رأينا أحدهم لا يحبُّ عليَّ بن أبي طالب علمنا أنَّه ليس منّا وإنَّه لغير رشده. ثمَّ قال الحافظ: وهذا مشهورٌ من قديم وإلى اليوم أنَّه ما يُبغض عليّاً رضي الله عنه إلّا ولد زنا. (أسنى المطالب ص ٨)

هذه نبذٌ من مخاريق كتاب (حياة محمد) وكم لها من نظير حول القرآن وتحريفه، وهناك قذف الشيعة بما هي بريئةٌ منه، والعجب أنَّ عادل زعيتر يحسب نفسه معذوراً في بثِّ هذه الأباطيل المضلّة في المجتمع بقوله في مقدِّمة الكتاب: وقد كنت أودُّ أن أُعلِّق عليها بعض حواش لو لم أر أنَّ ذلك يخرجني عن دائرة الترجمة

أمن العدل سقاية روح الملأ الدينيِّ بهذه السموم القتّالة والإعتذار بمثل هذا التافه؟! أهكذا خلق الإنسان جهولا؟!

( إِنّ الّذِينَ يُحِبّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الّذِينَ آمَنُوا

لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ )

سورة النور ١٩

_____________________

١ - الاستيعاب ٢ ص ٤٦١، ذخاير العقبى ٦٥، الإصابة ٣ ص ١٠٣، نزهة المجالس ٢ ص ٢٠٧.

٢ - الرياض النضرة ٣ ص ٢١٥، الفصول المهمة ١٢٤، مجمع الزوائد ٩ ص ١٣٢، كنز العمال ٦ ص ٤٠٠، نزهة المجالس ٢ ص ٢٠٧.

٣ - الرياض ٢ ص ١٨٩.

٤ - تاريخ الخطيب ٣ ص ٢٨٩.

٢٦

حادث شَّوه صحايف التأليف

هناك فكرةٌ غير صالحة، وإن شئتَ قلت: بدعةٌ سيِّئةٌ فتَحت على الأُمَّة باب التقوُّل بمصراعيه، وعنها تتشعَّب شجنة الإفك في الحديث، وينبعث القول المزوَّر: وإليها يستند كلُّ بهرجة وسفسطة. ألا وهي: هذه الخطَّة الحديثة في التأليف، واتِّخاذ هذا الأُسلوب الحديث الذي يروق بسطاء الأُمَّة ويسمّونه تحليلاً، ويرونه حُسناً في الكتابة.

هذه الفكرة هي التي خفَّت بها وطأة التأليف، وطأة حزونته، وكثر بذلك المؤلِّفون فجاء لفيفٌ من النّاس يؤلِّف وكلٌّ منهم سلك وادي تضلّل(١) ولا يخفق على جرَّته(٢) ويرمي القول على عواهنه، وينشر في الملأ ما ليس للمجتمع فيه درك، فيتحكَّم في آراءه، ويكذب في حديثه، ويخون في نقله، ويحرِّف الكلم عن مواضعه، و يقذف من خالف نحلته، وينسبه إلى ما شائه هواه، ويسلقه بالبذاء، ولا يكفِّف عنه لغبه.

هذه الفكرة هي التي جرَّت على الأُمَّة شية العار، ووصمة الشنار، ورمتها بثالثة الأثافي، ومدَّت يد الفحشآء على التأليف، وأبدت في صفحاته وصمات سوء، فراح شرف الإسلام، وأدب الدين، وأمانة النقل، ومكانة الصدق، ضحيَّة الميول والشهوات، ضحيَّة الأهواء والنزعات الباطلة، ضحيَّة الأقلام المستأجرة.

هذه الفكرة هي التي شوَّهت وجه التأليف، وجنت بها الأقلام، وولدت في القلوب ضغاين، فجاء المفسِّر يأوّل القرآن برأيه، والمحدِّث يختلق حديثاً يوافق ذوقه، و المتكلّم يذكر فرقاً مفتعلة، والفقيه يُفتي بما يحبِّذه، والمؤرِّخ يضع في التاريخ ما يرتضيه، كلّ ذلك قولاً بلا دليل، وتحكّماً بلا بيِّنة، وتكلّماً بلا مأخذ، ودعوىً بلا برهان، وتقوّلاً بلا مصدر، وكذباً بلا مبالاة، وإفكاً بلا تحاشي، فويلٌ لهم ممّا كتبت أيديهم وويلٌ لهم ممّا يكسبون.

_____________________

١ - مثل يضرب لمن عمل شيئا فأخطأ فيه.

٢ - مثل يضرب لمن يعجز عن كتمان ما في نفسه.

٢٧

والقارئ يجد مثال هذه كلّها نصب عينيه في طيِّ كتاب الصراع بين الإسلام و الوثنيَّة، والوشيعة في الردّ على الشيعة، وفجر الإسلام وضحاه وظهره، والجولة في ربوع الشرق الأدنى، والمحاضرات للخضري، والسنَّة والشيعة، والإسلام الصحيح، والعقيدة في الإسلام، وخلفاء محمد، وحياة محمد لهيكل، وفي مقدَّمها كتاب «حياة محمد» لأميل در منغم.

فخلوُّ تأليف الشرقيِّ المسلم عن ذكر المصادر نسايةٌ للكتاب والسنَّة، وإضاعةٌ لأُصول العلم، وجنايةٌ على السلف؛ وتفويتٌ لمآثر الإسلام، وعملٌ مخدجٌ، وسعيٌ أبترٌ، وليس من صالح الأُمَّة، ولا من صلاح المجتمع الإسلاميِّ، وسيأتيه يومٌ وهو يقرع سنَّ نادم.

وإنّ تأليفاً هو هكذا لا يمثِّل في علومه ومعارفه إلّا نفسيَّة مؤلِّفه وأنظاره ولا يراه القارئ إلّا كرواية لا تقوم إلّا بقائلها.

خذ إليك في موضوع واحد كتابين هما مثالان لأكثر ما ارتأينا في هذا البحث ألا وهما:

١ - كتاب الإمام عليّ تأليف الأستاذ أبي نصر عمر.

٢ - كتاب الإمام عليّ تأليف الأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود.

فهما على وحدة الموضوع والنزعة والبيئة والدراسة والهوى السائد طالما اختلفا في الأبحاث والنظريّات، فهذا الأستاذ أبو نصر أخذ آراء الخضري الأمويَّة ومن يضاهيه فيها، وصبَّها في بوتقة تأليفه، فجاء في كتابه بكلِّ شنئاء شوهاء إلتقت بها حلقة البطان.

وأمّا الأستاذ عبد الفتّاح فإنّه جدَّ وثابر على جهود جبّارة، وأخذ زبدة المخض من الحقايق الناصعة، غير أنَّه ضيَّع أتعابه بإهمال المصادر، فلم يأت كتابه إلّا كنظريَّة شخصيَّة، ولو ازدان تأليفه بذكر هافي التعاليق وأرداف ذلك النقل الواضح بما ارتئاه من الرأي السديد لكان أبلغ في تمثيل أفكار الجامعة، والإعراب عن نظريّات الملأ الدينيِّ، وإن كان ما ثابره الآن مشفوعاً بشكر جزيل.

( وَلَوْ أَنّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ

وَأَشَدُّ تَثْبِيتاً )

سورة النساء ٦٦

٢٨

١٣ - ابن الرومي

المتوفّى ٢٨٣

يا هند لم أعشق ومثلي لا يرى

عشق النساء ديانةً وتحرُّجا

لكنّ حبّي للوصيِّ مخيَّمٌ

في الصدر يسرح في الفؤاد تولّجا

فهو السِّراج المستنير ومَن به

سبب النجاة من العذاب لمن نجا

وإذا تركت له المحبَّة لم أجد

يوم القيامة من ذنوبي مخرجا

قل لي: أأترك مستقيم طريقه

جهلاً وأتَّبع الطريق الأعوجا؟!

وأراه كالتبر المصفّى جوهراً

وأرى سواه لناقديه مبهرجا

ومحلّه من كلِّ فضل بيِّن

عال محلّ الشمس أو بدر الدجا

قال النبيُّ له مقالاً لم يكن

يوم «الغدير» لسامعيه ممجمجا

: من كنت مولاهُ فذا مولى له

مثلي وأصبح بالفخار متوَّجا

وكذاك إذ منع البتول جماعة

خطبوا وأكرمه بها إذ زوَّجا

وله عجائب يوم سار بجيشه

يبغي لقصر النهروان المخرجا

رُدَّت عليه الشمس بعد غروبها

بيضاء تلمع وقدةً وتأجّجا(١)

(الشاعر)

أبو الحسن عليّ بن عبّاس بن جريح(٢) مولى عبيد الله بن عيسى بن جعفر البغدادي الشهير بابن الرومي. مفخرةٌ من مفاخر الشيعة، وعبقريٌّ من عباقرة الأُمَّة، وشعره الذهبيُّ الكثير الطافح برونق البلاغة قد أربى على سبائك التبر حسناً وبهائا، وعلى

_____________________

١ - مناقب إبن شهر آشوب ١ ص ٥٣١ ط ايران.

٢ - كذا في فهرست ابن النديم، وتاريخ الخطيب، وكثير من المعاجم. وفي مروج الذهب: سريج. وفي معجم المرزباني: جورجس. وفي تاريخ ابن خلكان: قبل: جور جيس. وفي بعض المعاجم: جرجيس.

٢٩

كثر النجوم عدداً ونورا، برع في المديح والهجاء والوصف والغزل من فنون الشعر فقصر عن مَداه الطامحون؛ وشخصت إليه الأبصار، فجلَّ عن الندِّ كما قصر عن مزاياه العدُّ.

وله في مودَّة ذوي القربى من آل الرسول صلوات الله عليه وعليهم أشواط بعيدة، واختصاصه بهم ومدائحه لهم ودفاعه عنهم من أظهر الحقايق الجليَّة، وقد عدَّه إبن الصبّاغ المالكي المتوفّى ٨٥٥ في فصوله المهمّة ص ٣٠٢، والشبلنجي في نور الأبصار ١٦٦ من شعراء الإمام الحسن العسكري صلوات الله عليه.

وكان مجموع شعره غير مرتّب على الحروف: رواه عنه المسيِّبي عليُّ بن عبيد الله ابن المسيِّب، ومثقال غلام إبن الرومي في مائة ورقة، ورواه عن مثقال أبو الحسن عليُّ بن العصب الملحي، وكتب أحمد بن أبي قسر الكاتب من شعره مائة ورقة، وخالد الكاتب كذلك، فرتَّبه الصولي على الحروف في مائتي ورقة، جمع شعره أبو الطيب ورَّاق بن عبدوس من جميع النسخ فزاد على كلّ نسخة ممّا هو على الحروف وغيرها نحو ألف بيت.

وللخالديَّين: أبي بكر محمد وأبي عثمان سعيد كتابٌ في أخبار شعر المترجم(١) وانتخب إبن سينا ديوانه وشرح مشكلات شعره كما في «كشف الظنون» ١ ص ٤٩٨، وعن إبن سينا: أنَّ ممّا كلّفني استادي في الأدب حفظ ديوان إبن الرومي فحفظته مع عدَّة كتب في ستَّة أيّام ونصف يوماً.

ويروي بعض شعره أبو الحسين عليُّ بن جعفر الحمداني، وإسماعيل بن عليّ الخزاعيّ، وأبو الحسن جحظة الذي مدحه إبن الرومي بقصيدة توجد في ديوانه ١٦٨.

تجد ذكره والثناء عليه في فهرست إبن النديم ٢٣٥، تاريخ بغداد ١٢ ص ٢٣، معجم الشعراء ٢٨٩، ٤٥٣، أمالي الشريف المرتضى ٢ ص ١٠١، مروج الذهب ٢ ص ٤٩٥، العمدة لابن رشيق ١ ص ٥٦، ٦١، ٩١، معالم العلماء لإبن شهر آشوب، وفيات الأعيان ١ ص ٣٨٥، مرآة الجنان لليافعي ٢ ص ١٩٨، شذرات الذهب ٢ ص ١٨٨، معاهد التنصيص ١ ص ٣٨، كشف الظنون ١ ص ٤٩٨، روضات الجنّات ٤٧٣، نسمة السحر فيمن تشيَّع وشعر، دائرة المعارف للبستاني ١ ص ٤٩٤، دائرة المعارف الإسلاميَّة

_____________________

١ - راجع فهرست ابن النديم ص ٢٣٥ و ٢٤١.

٣٠

١ ص ١٨١، الأعلام للزركلي ٢ ص ٦٧٥، الشيعة وفنون الإسلام ١٠٥، مجلّة الهدى العراقيّة الجزء السادس ص ٢٢٣ - ٢٢٧.

وعني بجمع آثاره وكتابة أخباره وروايتها جمعٌ منهم:

١ - أبو العباس أحمد بن محمد بن عبيد الله بن عمّار المتوفّى ٣١٩، قال إبن المسيِّب لَمّا مات إبن الرومي عمل كتاباً(١) في تفضيله ومختار شعره وجلس يمليه على الناس. كما في فهرست ابن النديم ٢١٢، ومعجم الأدباء ١ ص ٢٢٧.

٢ - أبو عثمان الناجم، ترجمه في كتاب مقصور عليه.

٣ - أبو الحسن عليّ بن عبّاس النوبختيّ المتوفّى ٣٢٧، جمع أخباره في كتاب مفرد كما في معجم المرزباني ٢٩٥، ومعجم الأُدباء ٢٢٩٥.

وأفرد من كتّاب المتأخِّرين الأُستاذ عبّاس محمود العقّاد كتاباً في ترجمته في ٣٩٢ صفحة ونحن نأخذ منه ما هو المهمّ ملخّصاً بلفظه قال:

قد أدرك إبن الرومي في حياته ثمانية خلفاءهم: الواثق. المتوكِّل. المنتصر. المستعين. المعتز. المهتدي. المعتمد. المعتضد المتوفّى بعد إبن الرومي.

أثنى عليه العميدي صاحب «الإبانة» وإبن رشيق صاحب «العمدة» وقال: أكثر المولَّدين اختراعاً وتوليداً فيما يقول الحذّاق: أبو تمام وإبن الرومي. وأطراه إبن سعيد المغربي المتوفّى ٦٧٣ في كتابه: عنوان المرقصات والمطربات.

ويظهر أنَّ أبا عثمان سعيد بن هاشم الخالدي من أدباء القرن الرابع توسّع في ترجمته إمّا في كتابه: حماسة المحدثين. أو في كتاب مقصور عليه. ولكن أخباره هذه ذهبت كلّها ولم تبق منها أثر إلّا متفرِّقات في الكتب لا تفني في ترجمة وافية ولا شبيهة بالوافية فنحن ننقلها كما هي:

ولد يوم الأربعاء بعد طلوع الفجر لليلتين خلتا من رجب ٢٢١ ببغداد في الموضع المعروف بالعقيقة(٢) ودرب الختليَّة في دار بإزاء قصر عيسى بن جعفر بن منصور(٣) .

_____________________

١ - ينقل الحموي عنه ترجمة أحمد بن محمد بن عمار في معجم الأدباء.

٢ - في معجم الشعراء: في الجانب الغربي بالعتيقة. وهذا هو الصحيح.

٣ - أخذه من أبي عثمان الخالدي.

٣١

كان إبن الرومي مولى لعبد الله بن عيسى ولا يشكّ أنَّه روميُّ الأصل فإنَّه يذكره ويؤكّده في مواضع من ديوانه واسم جدِّه مع هذا: جريح. أو: جرجيس. اسمٌ يونانيٌّ لا شبهة فيه، فلا ينبغي الإلتفات إلى من قال: إنَّه سمِّي بابن الرومي لجماله في صباه.

وكان أبوه صديقاً لبعض العلماء والأُدباء منهم: محمد بن حبيب الرواية الضليع في اللغة والأنساب، فكان الشاعر يختلف إليه لهذه الصداقة، وكان محمد بن حبيب يخصّه لما يراه من ذكاءه وحدَّة ذهنه، وحدَّث الشاعر عنه فقال: إنَّه كان إذا مرَّ به شيءٌ يستغربه ويستجيده يقول لي: يا أبا الحسن ضع هذا في تامورك.

وقد علمنا أنَّ أُمّه كانت فارسيَّة من قوله: الفرس خؤلي والرّوم أعمامي. وقوله: فلم يلدني أبو السواس ساسان. بعد أن رفع نسبه إلى يونان من جهة أبيه، وربما كانت أُمّه من أصل فارسيّ ولم تكن فارسيَّة قحّاً لأبيها وأُمِّها وهذا هو الأرجح لأنَّ علمه بالفارسيَّة لم يكن علم رجل نشأ في حجر أُمّ تتكلّم هذه اللغة ولا تحسن الكلام بغيرها، وماتت أُمّه وهو كهل أو مكتهل كما يقول في رثائها:

أقول: وقد قالوا: أتبكي لفاقد

رضاعاً وأين الكهل من راضع الحلم؟!

هي الأمّ يا للناس جزّعت فقدها

ومن يبك أُمّاً لم تذم قطُّ لا يُذم

وكانت أُمّه تقيّة صالحة رحيمة كما يُؤخذ من أبياته في رثائها.

*(قال الأميني)*: أُمّه حسنة بنت عبد الله السجزي كما في معجم المرزباني، وسجز بلدةٌ من بلاد الفرس من أرباض خراسان فهي فارسيَّة قحّ.

أخوه وشقيقه محمد المكنّى بأبي جعفر وهو أكبر من المترجَم وتوفّي قبله وكان تتفجّع بذكراه ورثاه، ومات أخوه وهو يعمل في خدمة عُبيد الله بن عبد الله بن طاهر أحد أركان بيت بني طاهر، ويظهر من ديوان المترجم إنَّه كان أديباً كاتباً أيضاً.

ولم يبق لابن الرومي بعد موت أخيه أحدٌ يعوِّل عليه من أهله أو من يحسبون في حكم أهله إلّا أناسٌ من مواليه الهاشميِّين العباسيِّين كانوا يبرّونه حيناً ويتناسونه أحياناً، و كان لعهد الهاشميِّين الطالبيِّين أحفظ منه لعهد الهاشميِّين العبّاسيِّين كما يظهر ممّا يلي. أمّا إبن عمِّه الذي أشار إليه في قوله:

٣٢

لي ابن عمّ يجرُّ الشرَّ مجتهداً

إليَّ قدماً ولا يصلي له نارا

يجني فاصلي بما يجني فيخذلني

وكلّما كان زنداً كنت مسعارا

فلا ندري أهو إبن عمّ لحّ؟! أو إبن عمّ كلالة؟! ومبلغ ما بينهما من صلة المودَّة ظاهرٌ من البيتين.

أولاده

رُزق إبن الرومي ثلاثةُ أبناء وهم: هبة الله. محمد. وثالث لم يذكر اسمه في ديوانه. ماتوا جميعاً في طفولتهم ورثاهم بأبلغ وأفجع ما رثى به والدٌ أبناءه، وقد سبق الموت إلى أوسطهم محمد فرثاه بداليَّةٍ مشهورةٍ يقول فيها:

توخّى حمام الموت أوسط صبيتي

فللّه كيف أختار واسطة العقدِ؟!

على حين شُمت الخير في لمحاته

وآنست من أفعاله آية الرشدِ

ومنها في وصف مرضه:

لقد قلَّ بين المهد واللحد لبثه

فلم ينس عهد المهد أو ضمّ في اللحدِ

ألحَّ عليه النزف حتّى أحاله

إلى صفرة الجاديِّ(١) عن حمرة الوردِ

وظلَّ على الأيدي تُساقط نفسه

ويذوي كما يذوي القضيب من الرندِ(٢)

ويذكر فيها أخويه الآخرين:

محمد؟ ما شيئ توهّم سلوة

لقلبيَ إلّا زاد قلبي من الوجدِ

أرى أخويك الباقيين كليهما

يكونان للأحزان أورى من الزندِ

إذا لعبا في ملعب لك لذّعا

فؤادي بمثل النّار عن غير ما عمدِ

فما فيهما لي سلوةٌ بل حزازةٌ

يُهيجانها دوني وأشقى بها وحدي

أمّا إبنه هبة الله فقد ناهز الشباب على ما يفهم من قوله في رثاءه:

يا حسرتا فارقتني فنناً

غضّاً ولم يثمر ليَ الفننُ

أبُنيَّ؟ إنَّك والعزاء معاً

بالأمس لُفَّ عليكما كفنُ

_____________________

١ - الجادي: الزعفران.

م (٢) يذوى من ذوى النبات وذوى: ذبل ونشف ماؤه. الرند: نبات من شجر البادية طيب الرائحة يشبه الآس.

٣٣

وفي الديوان أبيات يرثي بها إبناً لم يذكر اسمه وهي:

حماه الكرى همٌّ سرى فتأوَّبا

فبات يراعي النجم حتّى تصوَّبا

أعينيَّ جودا لي فقد جدتُ للثرى

بأكثر ممّا تمنعان وأطيبا

بُنيّ الذي أهديته أمس للثرى

فللّه ما أقوى قناتي وأصلبا

فإن تمنعاني الدمع أرجع إلى أسى

إذا فترت عنه الدموع تلهّبا

وهي على الأرجح رثاؤه لأصغر أبناءه الَّذي لم يذكر اسمه ولا ندري هل مات قبل أخيه أو بعده؟! ولكن يخيَّل إلينا من المقابلة بين هذه المراثي أنّ الأبيات البائيَّة كانت آخر ما رثى به ولداً لأنَّها تنمُّ عن فجيعة رجل راضه الحزن على فقد البنين حتّى جمدت عيناه ولم يبق عنده من البكاء إلّا الأسى الملتهب في الضلوع، وإلّا العجب من أن يكون قد عاش وصلبت قناته لكلِّ هذه الفجايع، وقد كان رثاؤه لإبنه الأوسط صرخة الضربة الأولى، ففيها ثورةٌ لاعجةٌ تحسّ من خلل الأبيات، ثمَّ حلَّ الألم المرير محلَّ الألم السوار في مصيبته الثانية، فوجم وسكن واستعبر، ثمَّ كانت الخاتمة فهو مستسلمٌ يعجب للحزن كيف لم يقض عليه، ويحسّ وقدة المصاب في نفسه ولا يحسّه في عينيه، ولقد غشيت غبرة الموت حياته كلّها، وماتت زوجته بعد موت أبنائه جميعاً فتمَّت بها مصائبه وكبر عليه الأمر. إلخ.

تعليمه

ذلك كلّ ما استطعنا أن نجمعه من الأخبار النافعة عن نشأة الشاعر وأهله ولا فائدة من البحث في المصادر التي بين أيدينا عن أيّام صباه وتعليمه ومن حضر عليهم و تتلمَّذ لهم من العلماء والرُّواة فإنَّ هذه المصادر خلوٌ ممّا يُفيد في هذا المقام إلّا ما جاء عرضاً في الجزء السادس من «الأغاني» حيث يروي إبن الرومي عن أبي العبّاس ثعلب عن حمّاد بن المبارك عن الحسين بن الضحّاك. وحيث يروي في موضع آخر عن قتيبة عن عمر السكوني بالكوفة عن أبيه عن الحسين بن الضحّاك، فيصحّ أن تكون الرِّواية هنا رواية تلميذ عن أستاذ، لأنّ ثعلباً ولد سنة مائتين فهو أكبر من الشاعر بإحدى و عشرين سنة، أمّا قتيبة (والمفهوم أنّه أبو رجاء قتيبة بن سعيد بن جميل الثقفي المحدِّث العالم المشهور) فجائزٌ أن يكون ممَّن أملوا عليه وعلَّموه لأنَّه مات وإبن الرومي

٣٤

يُناهز العشرين.

وقد مرَّ بنا أنَّه كان يختلف إلى محمد بن حبيب الراوية النسّابة الكبير، وسنرى هنا أنَّه كان يرجع إليه في بعض مفرداته اللغويَّة فيذكر شرحها في ديوانه معتمداً عليه قال بعد قوله:

وأصدق المدح مدح ذي حسدٍ

ملآءن من بغضه ومن شنفِ

قال لي محمد بن حبيب: الشنف ما ظهر من البغضة في العينين وأشار إليه بعد بيت آخر وهو:

بانوا فبان جميل الصبر بعدهمُ

فللدموع من العينين عينانُ

إذا فسّر كلمة «عينان» فروى عن إبن حبيب أنَّه قال: عان الماء يعين عيناً وعيناناً إذا ساح. فهؤلاء ثلاثة من أساتذة إبن الرومي على هذا الإعتبار ولا علم لنا بغيرهم فيما راجعناه وحسبنا مع هذا أنَّ الرجل - كيفما كان تعليمه وأيّاً كان معلّموه - قد نشأ على نصيبٍ وافٍ من علوم عصره، وساهم في القديم والحديث منها بقسطٍ وافرٍ في شعره فلو لم يقل المعرِّي: إنَّه كان يتعاطى الفلسفة. والمسعودي: إنّ الشعر كان أقلّ آلاته. لعلمنا ذلك من شواهد شتّى في كلامه، فهي هناك كثيرةٌ متكرّرةٌ لا يلمُّ المتصفِّح ببعضها إلّا جزم باطِّلاع قائلها على الفلسفة ومصاحبة أهلها واشتغاله بها، حتّى سرت في أُسلوبه وتفكيره، وما كان متعلِّم الفلسفة في تلك الأيّام يصنع أكثر من ذلك ليتعلّمها أو ليعدّ من متعلّميها، فأنت لا تقرأ لرجل غير مشتغل أو ملمّ بالفلسفة والقياس المنطقيِّ والنجوم كلاما كهذا الكلام.

لِما تؤذن الدنيا به من صروفها

يكون بكاء الطفل ساعة يولدُ

وإلّا فما يُبكيه منها وأنَّها

لأرحب ممّا كان فيه وأرغدُ؟!

وذكر شواهد كثيرة على إلمامه بالعلوم ومعرفته بمصطلحاتها غضضنا الطرف عنها اختصاراً.

رسائل ابن الرومي

وقد وردت في أبياته الهمزيَّة إشارة إلى حذقه في الكتابة ومشاركته في البلاغة المنثورة تعزِّزها إشارة مثلها في هذا البيت:

٣٥

ألم تجدوني آل وهب لمدحكم

بشعري ونثري أخطلاً ثمَّ جاحضا؟!

فلا بدَّ أنَّه كان يكتب ويمارس الصناعة النثريَّة إلّا ما استجمعناه من منثوراته لا يعدو نبذاً معدودةً موجزةً، منها: رسالةٌ إلى القاسم بن عبيد الله يقول فيها متنصِّلاً.

١ - ترفع عن ظلمي إن كنت بريئاً، وتفضل بالعفو إن كنت مسيئاً، فوالله إنّي لأُطالب عفو ذنب لم أجنه، وألتمس الإقالة ممّا لا أعرفه، لتزداد تطوّلاً وازداد تذلّلاً، وأنا أُعيذ حالي عندك بكرمك من واشٍ يكيدها، وأحرسها بوفاءك من باغٍ يحاول إفسادها، وأسأل الله تعالى أن يجعل حظّي منك بقدر ودّي لك ومحلّي من رجائك بحيث أستحقُّ منك. والسَّلام.

٢ - رسالةٌ كتبها يعود صديقاً: أذن الله في شفائك، وتلقى داءك بدوائك، ومسح بيد العافية عليك، ووجَّه وفد السَّلامة إليك، وجعل علَّتك ماحيةً لذنوبك، مضاعفةً لثوابك.

٣ - كتب إلى صديق له قَدِم من «سيراف»(١) فأهدى إلى جماعة من إخوانه ونسيه: أطال الله بقاءك وأدام عزَّك وسعادتك وجعلني فداءك، لولا أنَّني في حيرة من أمري وشغل من فكري لما افترقنا، وشوقي علم الله فغالبٌ، وظمأي فشديدٌ، وإلى الله الرغبة في أن يجعل القدرة على اللقاء حسب المحبَّة أنَّه قادرٌ جوادٌ.

ومكاننا من جميل رأيك أيَّدك الله يبعثنا على تقاضي حقوقنا قبلك، وكريم سجاياك وأخلاقك يُشجِّعنا على إمضاء العزم في ذلك، وما تطوَّلت به من الأيناس يؤنسنا بك و يبسطنا إليك، وآثار يديك تدلّنا عليك، وتشهد لنا بسماحتك؛ والله يُطيل بقاءك و يديم لنا فيك وبك السعادة.

وبلغني أدام الله عزَّك أنّ سحائب تفضّلك أمطرت منذ أيّام مطراً عمّ إخوانك بهدايا مشتملة على حسن وطيب، فأنكرت على عدلك وفضلك خروجي منها مع دخولي في جملة من يعتدُّك ويعتقدك وينحوك ويعتمدك، وسبق إلى قلبي من ألم سوء الظنِّ برأيك أضعاف ما سبق إليه من الألم بفوت الحظّ من لطفك، فرأيت مداوات قلبي من ظنِّه، وقلبك من سهوه، واستبقاء الودِّ بيننا بالعتاب الذي يقول فيه القائل: (ويبقى

_____________________

١ - سيراف: مدينة جليلة على ساحل بحر فارس، منها إلى شيراز ستون فرسخاً.

٣٦

الودّ ما بقي العتابٌ) وفيما عاتبت كفايةٌ عند من له أُذنك الواعية وعينك الراعية.

٤ - وقال في تفضيل النرجس على الورد: النرجس يشبه الأعين والمضاحك، والورد يشبه الخدود، والأعين والمضاحك أشرف من الخدود، وشبيه الأشرف أشرف من شبيه الأدنى، والورد صفةٌ لأنَّه لونٌ والنرجس يضارعه في هذا الإسم، لأن النرجس هو الريحان الوارد أعني أنَّه أبداً في الماء، والورد خجل، والنرجس مبتسم، وانظر أدناهما شبهاً بالعيون فهو أفضل.

هذه نماذج من منثوراته لا نعرف غيرها فيما بين أيدينا، وخليقٌ بمن يكتب بهذا الأُسلوب أن يُعدَّ في بُلغاء الكتّاب وإن لم يُعدَّ في أبلغهم، على أنّ إبن الرومي لم يكن يحسب نفسه إلّا مع الشعراء إذا اختلفت الطوائف، فإنَّه يقول عن نفسه وهو يمدح أبا الحسين كاتب إبن أبي الإصبع:

ونحن معاشر الشعراء تنمى

إلى نسب من الكتّاب دانِ

وإن كانوا أحقَّ بكلِّ فضل

وأبلغ باللسان وبالبيان

أبونا عند نسبتنا أبوهم

عطاردُ السماويُّ المكانِ

أمّا حظّه من علوم العربيَّة والدين فمن المفضول أن نتعرَّض لإحصاء الشواهد عليه في كلامه، لأنَّه أبين من أن يحتاج إلى تبيين. وندر في قصائده المطوَّلة أو الموجزة قصيدةٌ تقرأها ولا تخرج منها وأنت موقنٌ باستبحار ناظمها في اللغة وإحاطته الواسعة بغريب مفرداتها وأوزان إشتقاقها وتصريفها وموقع أمثالها وأسماء مشاهرها، وما يصحب ذلك من أحكام في الدين ومقتبسات من أدب القرآن، فليس في شعر العربيَّة مَن تبدو هذه الشواهد في كلامه بهذه الغزارة والدقَّة غير شاعرين إثنين: أحد هما صاحبنا والثاني المعرّي، وقد كان يمدح الرؤساء والأُدباء أمثال عبيد الله بن عبد الله، وعليّ بن يحيى، وإسماعيل بن بلبل فيفسِّر غريب كلماته في القرطاس الذي يثبت فيه قصايده كأنَّه كان يشفق أن تفوتهم دقايق لفظه وأسرار لغته ثمَّ يعود إلى الإعتذار من ذلك إذا أنس منهم الجفوة والتغيّر.

لم أُفسِّر غريبها لك لكن

لامرئٍ يجهل الغريب سواكا

لغيرك لا لك التفسير أنّى

يُفسِّر لابن بجدتها الغريبُ

٣٧

وكانوا لشهرته باللغة وعلم أسرارها ولطيف نكاتها يختلقون له الكلمات النافرة يسألونه عنها ليعبثوا به أو يعجزوه، وقصَّة «الجرامض» إحدى هذه المعابثات التي تدلّ على غيرها من قبيلها، فقد سأله بعضهم في مجلس القاسم بن عبيد الله: ما الجرامض؟! فارتجل مجيباً:

وسألت عن خبر الجرا

مض طالباً علم الجرامضْ

وهو الخزا كل والغوا

مض قد تفسّر بالغوامضْ

وهو السلجكل شئت إذ

لك أم أبيت بفرض فارضْ

وكلّها كلمات من مادَّة الجرامض لا معنى لها ولا وجود، وإذا صحَّ إستقراؤنا وكان من أساتذته أمثال ثعلب وقتيبة فضلاً عن الأُستاذيَّة الثابتة لابن حبيب فلا جرم يصير ذلك علمه بالغريب والأنساب والأخبار، هؤلاء كلّهم من نخبة النخبة في هذه المطالب، ولا سيّما إذا أعانهم تلميذٌ ذو فطنة متوقِّدة الفهم وذاكرة سريعة الحفظ كهذا التلميذ، فقد مرَّ بك أنَّه كان يحفظ الأبيات الخمسة من قراءة واحدة فهب في الرِّواية بعض مبالغة التي تتعرَّض لها أمثال هذه الرِّوايات فهو بعدُ سريع الحفظ وهذا ممّا يعينه على تحصيل اللغة وتعليق المفردات.

عاش إبن الرومي حياته كلّها في بغداد لا يفارقها قليلاً حتّى يعود سريعاً وقد نازعه إليها الشوق وغلبه نحوها حنين، وكانت بغداد يومئذ عاصمة الدنيا غير مدافع، و كان صاحب صنيعة ومالك دارين وثراء وتحف موروثة منها قدح زعم أنَّه كان للرشيد ووصفه في شعره لَمّا أهداه إلى عليّ بن المنجم يحيى.

قدحٌ كان للرشيد اصطفاهُ

خلفٌ من ذكوره غير خلفِ

كفم الحبِّ في الحلاوة بل أحلـ

ـى وإن كان لا يناغي بحرفِ

صيغ من جوهر مصفَّى طباعاً

لا علاجاً بكيمياء مصفِّ

تنفذ العين فيه حتّى تراها

أخطأته من رقَّة المستشفِّ

كهواه بلا هباءٍ مشوب

بضياء أرقق بذاك وأصفِ

ثمَّ استوعب الكلام في البحث عن مزاجه وأخلاقه ومعيشته وما كانت تملكه يده وذكرى مطايباته ومفاكهاته وهجاؤه وفشله وطيرته من ص ١٠٢ - ٢٠٣ فشرع

٣٨

في بيان عقيدته (وهناك مواقع للنظر) وقال:

عقيدته

تقدَّم في الكلام عن الحالة الدينيَّة في القرن الثالث للهجرة أنَّه كان عصراً كثرت فيه النحل والمذاهب وقلَّ فيه من لا يرى في العقايد رأياً يفسِّر به إسلامه و ويخلصه بين جماعة الدارسين وقرّاء العلوم الحديثة.

فإبن الرّومي واحدٌ من هؤلاء القرّاء لا ننتظر أن تمرَّ به هذه المباحث التي كان يدرسها ويحضر مجالسها ويسمع من أهلها بغير أثر محسوس في تفسير العقيدة، فكان مسلماً صادق الإسلام، ولكنَّه كان شيعيّاً معتزليّاً قدريّاً يقول بالطبيعتين، وهي أسلم النحل التي كانت شايعة في عهده من حيث الإيمان بالدين.

وقد قال المعرّي في رسالة الغفران: إنّ البغداديِّين يدَّعون أنَّه متشيِّع و يستشهدون على ذلك بقصيدته الجيميّة ثمَّ عقب على ذلك فقال: ما أراه إلّا على مذهب غيره من الشعراء.

ولا ندري لِماذا شكَّ المعرّي في تشيّعه لأنَّه على مذهب غيره من الشعراء، فإنَّ الشعراء إذا تشيَّعوا كانوا شيعة حقّاً كغيرهم من الناس، وربما أفرطوا فزادوا في ذلك على غيرهم من عامّة المتشيِّعين، وإنَّما نعتقد أنَّ المعرّي لم يطَّلع على شعره كلّه فخفيت عنه حقيقة مذهبه ولولا ذلك لما كان بهذه الحقيقة من خفاء.

على أنَّ القصيدة الجيميَّة وحدها كافيةٌ في إظهار التشيّع الذي لا شكَّ فيه، لأنَّ الشاعر نظمها بغير داعٍ يدعوه إلى نظمها من طمع أو مداراة، بل نظمها وهو يستهدف للخطر الشديد من ناحية بني طاهر وناحية الخلفاء، فقد رثى بها يحيى بن عمر بن الحسين إبن زيد بن علي الثائر في وجه الخلافة ووجه أبناء طاهر ولاة خراسان، وقال فيها يخاطب بني العبّاس ويذكر (ولاة السوء) من أبناء طاهر:

أجنوا بني العبّاس من شنآئكم

وأوكوا على ما في العياب وأشرجوا

وخلّوا ولاة السوء منكم وغيَّهم

فأحرى بهم أن يغرقوا حيث لجَّجوا

نظار لكم أن يرجع الحق راجعٌ

إلى أهله يوماً فتشجوا كما شجوا

على حين لا عذري لمعتذريكمُ

ولا لكمُ من حجَّة الله مخرجُ

٣٩

فلا تلحقوا الآن الضغاين بينكم

وبينهمُ إنَّ اللواقح تنتجُ

غررتم لئن صدّقتمُ أنّ حالة

تدوم لكم والدهر لونان أخرجُ

لعلَّ لهم في منطوى الغيب ثائراً

سيسمو لكم والصبح في الليل مولجُ

فماذا يقول الشيعيُّ لبني العبّاس أقسى وأصرح في التربّص بدولتهم وانتظار دولة العلويِّين من هذا الكلام؟! فقد أنذر بني العبّاس بزوال الملك وكاد يتمنّى - أو تمنّى - لبني عليّ يوماً يهزمون فيه أعداءهم، ويرجعون فيه حقَّهم، ويطلبون تراثهم، وينكلون بمن نكل بهم، وهواه ظاهرٌ من العلويِّين لا مداجاة فيه كهوى كلِّ شيعيّ في هذا المقام. على أنَّه كان أظهر من هذا في النونيَّة التي تمنّى فيها هلاك أعدائهم ولام نفسه على التقصير في بذل دمه لنصرتهم:

إن يوالي الدهر أعداءً لكم

فلهم فيه كمينٌ قد كمنْ

خلعوا فيه عذار المعتدي

وغدوا بين اعتراضٍ وأرنْ

فاصبروا يهلكهم الله لكم

مثل ما أهلك أذواء اليمنْ

قرب النصر فلا تستبطئوا

قرب النصر يقيناً غير ظنْ

ومن التقصير صوني مهجتي

فعل من أضحى إلى الدنيا ركنْ

لا دمي يُسفك في نصرتكم

لا ولا عرضيَ فيكم يمتهنْ

غير أنّي باذلٌ نفسي وإن

حقن الله دمي فيما حقنْ

ليت إنّي غرضٌ من دونكم

ذاك أو درعٌ يقيكم ومجنْ

أتلقّى بجبيني مَن رمي

وبنحري وبصدري من طعنْ

إنَّ مبتاع الرضي من ربِّه

فيكمُ بالنفس لا يخشى الغبنْ

وليس يجوز الشكُّ في تشيّع من يقول هذا القول ويشعر هذا الشعور، فإنَّه يعرض نفسه للموت في غير طائل حبّاً لبني عليٍّ وغضباً لهم وإشهاراً لهم لعاطفة لا تفيده و لا تفيدهم؛ وقد كان لا يذكر يحيى بن عمر إلّا بلقب الشهيد كما ذكره في القصيدة الجيميَّة وفي خاطرة أُخرى مفردة نظمها في هذين البيتين:

كسته القنا حلة من دم

فأضحت لدى الله من ارجوان

جزته معانقة الدار عـ

ـين معانقة القاصرات الحسان

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418