الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٣

الغدير في الكتاب والسنة والأدب14%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 418

الجزء ١ المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 418 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 94955 / تحميل: 7075
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: فاطمة بضعةٌ منّي، فمن أغضبها فقد أغضبني(١)

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: فاطمة بضعةٌ منّي، يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها(٢)

وهل يقصر امتداح النبيّ عليّاً بقدم إسلامه؟! حتّى يتفلسف في سرِّه ويكون ذلك إرضاءً لإبنته، على أنّ إمتداحه بذلك لو كان لتلك المزعمة لكان يقتصر صلى الله عليه وآله وسلم على قوله لفاطمة في ذلك وكان يتأتّى الغرض به، فلماذا كان يأخذ صلى الله عليه وآله وسلم بيد عليٍّ في الملأ الصحابيِّ تارةً ويقول: إنَّ هذا أوَّل من آمن بي، وهذا أوَّل من يصافحني يوم القيامة؟ ولِما ذا كان يخاطب أصحابه أُخرى بقوله: أوَّلكم وارداً عليَّ الحوض أوَّلكم إسلاماً عليّ بن أبي طالب؟!

وكيف خفي هذا السرّ المختلق على الصحابة الحضور والتابعين لهم بإحسان فطفقوا يمدحونه عليه السلام بهذه الأثارة كما يروى عن سلمان الفارسي. أنس بن مالك. زيد بن أرقم. عبد الله بن عبّاس. عبد الله بن حجل. هاشم بن عتبة. مالك الأشتر. عبد الله بن هاشم. محمد بن أبي بكر. عمرو بن الحمق. أبو عمرة عديّ بن حاتم. أبو رافع. بريدة. جندب بن زهير. أُمّ الخير بنت الحريش(٣)

وهل القول بقلَّة إلتفات النبيِّ إلى عليٍّ يساعده القرآن الناطق بأنَّه نفس النبيِّ الطاهر؟! أو جعل مودَّته أجر رسالته؟!

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الطير المشويِّ الصحيح المرويِّ في الصحاح والمسانيد: أللّهمّ أئتني بأحبِّ خلقك إليك ليأكل معي؟!

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعايشة: إنَّ عليّاً أحبّ الرجال إليَّ، وأكرمهم عليَّ، فاعرفي له حقَّه وأكرمي مثواه؟!(٤)

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: أحبّ الناس إليَّ من الرجال عليٌّ؟!(٥)

_____________________

١ - صحيح البخاري، خصايص النسائي ص ٣٥.

٢ - مسند أحمد ٤ ص ٣٢٣، ٣٣٢، الصواعق ١١٢.

٣ - سيأتي في هذا الجزء نصّ كلماتهم.

٤ - أخرجه الحافظ الخجندي كما في الرياض ٢ ص ١٦١، وذخاير العقبى ٦٢.

٥ - وفي لفظ: أحب أهلي. من حديث أسامة.

٢١

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: عليٌّ خير من أتركه بعدي؟!(١) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: خير رجالكم عليُّ بن أبي طالب، وخير نساءكم فاطمة بنت محمد؟!(٢) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: عليٌّ خير البشر فمن أبى فقد كفر؟!(٣) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: من لم يقل عليٌّ خير الناس فقد كفر؟(٤) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: في حديث الراية المتَّفق عليه: لاُعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبّه الله ورسوله ويحبّ الله ورسوله؟

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: عليٌّ منّي بمنزلة الرأس (رأسي) من بدني أو جسدي؟(٥) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: عليٌّ منَّي بمنزلتي من ربّي؟(٦) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: عليٌّ أحبّهم إليَّ وأحبّهم إلى الله(٧) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ: أنا منك وأنت منّي. أو: أنت منّي وأنا منك؟(٨) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: عليٌّ منّي وأنا منه، وهو وليُّ كلِّ مؤمن بعدي؟(٩) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث البعث بسورة البراءة المجمع على صحَّته: لا يذهب بها إلّا رجلٌ منّي وأنا منه(١٠)

_____________________

١ - مواقف الأيجي ٣ ص ٢٧٦، مجمع الزوائد ٩ ص ١١٣.

٢ - تاريخ بغداد للخطيب ٤ ص ٣٩٢.

٣ - تاريخ الخطيب عن جابر، كنوز الحقايق هامش الجامع الصغير ٢ ص ١٦، كنز العمال ٦ ص ١٥٩.

٤ - تاريخ الخطيب البغدادي ٣ ص ١٩٢ عن ابن مسعود، كنز العمال ٦ ص ١٥٩.

٥ - تاريخ الخطيب ٧ ص ١٢، الرياض النضرة ٢ ص ١٦٢، الصواعق ٧٥ م الجامع الصغير للسيوطي، شرح العزيزي ٢ ص ٤١٧، فيض الغدير ٤ ص ٣٥٧)، نور الأبصار ٨٠. مصباح الظلام ٢ ص ٥٦.

٦ - الرياض النضرة ٢ ص ١٦٣، السيرة الحلبية ٣ ص ٣٩١.

٧ - تاريخ الخطيب ١ ص ١٦٠.

٨ - مسند أحمد ٥ ص ٢٠٤، خصايص النسائي ٣٦ و ٥١.

٩ - مسند أحمد ٥ ص ٣٥٦ وأخرجه جمع من الحفاظ بإسناد صحيح يأتي.

١٠ - خصايص النسائي ٨، راجع ج ١ ص ٤٨ من كتابنا.

٢٢

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لحمك لحمي ودمك دمي والحقُّ معك؟(١) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من نبيّ إلّا وله نظير في أُمَّته وعليٌّ نظيري؟(٢) .

أو ما صحَّحه الحاكم وأخرجه الطبراني عن أُمّ سلمة قالت: كان رسول الله إذا أغضب لم يجترئ أحدٌ أن يكلّمه غير عليّ؟(٣) .

أو قول عايشة: والله ما رأيت أحداً أحبَّ إلى رسول الله من عليّ ولا في الأرض امرأة كانت أحبُّ إليه من امرأته؟(٤) .

أو قول بريدة وأُبيّ: أحبُّ الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من النساء فاطمة ومن الرِّجال عليٌّ؟!(٥) .

أو حديث جُميع بن عُمير؟ قال: دخلت مع عمَّتي على عايشة فسألت أيَّ الناس أحبَّ إلى رسول الله؟! قالت: فاطمة. فقيل: من الرِّجال؟ قالت زوجها، إن كان ما علمت صوَّاماً قوّاماً(٦) .

وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُقدِّم الغير على عليٍّ في الإلتفات إليه؟! وهو أوَّل رجل إختاره الله بعده من أهل الأرض لَمّا اطَّلع عليهم كما أخبر به صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة بقوله: إنَّ الله اطَّلع على أهل الأرض فاختار منه أباكِ فبعثه نبيّاً، ثمَّ اطَّلع الثانية فاختار بعلكِ فأوحى إليَّ فأنكحته واتّخذته وصيّاً(٧)

_____________________

١ - المحاسن والمساوي ١ ص ٣١، كفاية الطالب؟ ١٣٥، مناقب الخوارزمي ٧٦، ٨٣، ٨٧، فرايد السمطين في الباب ٢ و ٢٧.

٢ - الرياض النضرة ٢ ص ١٦٤.

٣ - مستدرك الحاكم ٣ ص ١٣٠، الصواعق ٧٣، تاريخ الخلفاء للسيوطي ١١٦.

٤ - مستدرك الحاكم ٣ ص، ١٥٤ وصححه، العقد الفريد ٢ ص ٢٧٥، خصائص النسائي ٢٩، الرياض النضرة ٢ ص ١٦١.

٥ - خصايص النسائي ٢٩، مستدرك الحاكم ٣ ص ١٥٥ صححه هو والذهبي، جامع الترمذي ٢ ص ٢٢٧.

٦ - جامع الترمذي ٢ ص ٢٢٧ ط هند، مستدرك الحاكم ٣ ص ١٥٧، وجمع آخر

٧ - أخرجه الطبراني عن أبي أيوب الأنصاري كما في إكمال كنز العمال ٦ ص ١٥٣، و أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٩ ص ١٦٥ عن علي الهلالي.

٢٣

وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الله اختار من أهل الأرض رجلين أحدهما أبوكِ والآخر زوجكِ(١)

وإنّي لا يسعني المجال لتحليل كلمة الرجل: وكان صهرا النبيِّ الأمويّان. إلخ: وحسبك في مداراة عثمان الكريم حديث أنس عن رسول الله لَمّا شهد دفن رقيَّة إبنته العزيزة وقعد على قبرها ودمعت عيناه فقال: أيّكم لم يُقارف الليلة أهله؟! فقال أبو طلحة: أنا. فأمره أن ينزل في قبرها.

قال إبن بطّال: أراد النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أن يحرم عثمان النزول في قبرها وقد كان أحقّ الناس بذلك لأنَّه كان بعلها وفقد منها علقاً لا عوض منه لأنَّه حين قال عليه السلام: أيّكم لم يُقارف الليلة أهله؟! سكت عثمان ولم يقل: أنا. لأنَّه قد قارف ليلة ماتت بعض نسائه، ولم يشغله الهمُّ بالمصيبة وانقطاع صهره من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن المقارفة فحرم بذلك ما كان حقّاً له وكان أولى به من أبي طلحة وغيره. وهذا بيّنٌ في معنى الحديث ولعلّ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم قد كان علم ذلك بالوحي فلم يقل له شيئاً لأنَّه فعل فعلاً حلالاً غير أنَّ المصيبة لم تبلغ منه مبلغاً يشغله حتّى حرم ما حرم من ذلك بتعريض غير صريح. (الروض الأنف ٢ ص ١٠٧)

وما عساني أن أقول في أبي العاص الذي كان على شركه إلى عام الحديبيَّة، واُسر مع المشركين مرَّتين، وفرَّق الإسلام بينه وبين زوجته زينب بنت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ستَّ سنين، وهاجرت مسلمة وتركته لشركه، ولم ترد قطّ بعد إسلامه كلمة تُعرب عن صلته مع النبيِّ ومداراته له فضلاً عن مقايسته بعليٍّ. أبي ذرّيَّته وسيِّد عترته.

وقد اتَّهم الرَّجل نبيَّ الإسلام بعدم العمل على سعادة إبنته الطاهرة المطهَّرة بنصِّ الكتاب العزيز، ويقذف عليّاً بالتألّم من ذلك، وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا أصبح أتى باب عليٍّ وفاطمة وهو يقول: يرحمكم الله إنّما يُريد الله ليذهب عنكم الرِّجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيرا. وكان لم يزل يقول: فاطمة أحبّ الناس إليَّ.

ويقول: أحبُّ الناس إليَّ من النساء فاطمة.

ويقول: أحبُّ أهلي إليَّ فاطمة.

_____________________

١ - المواقف للأيجي ص ٨ راجع من كتابنا ج ٢ ص ٣١٨ ط ٢.

٢٤

وكان عمر يقول لفاطمة: والله ما رأيت أحداً أحبَّ إلى رسول الله منكِ(١)

وما أقبح الرجل في تقوُّله على النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم بعدِّه لعليٍّ غير قوّام بجليل الأعمال. وقد وازره وناصره وعاضده بتمام معنى الكلمة بكلِّ حول وطول من بدء دعوته إلى آخر نفس لفظه، فصار بذلك له نفساً وأخاً ووزيراً ووصيّاً وخليفةً ووارثاً ووليّاً بعده، وكان قائده الوحيد في حروبه ومغازيه، وهو ذلك الملقَّب بقائد الغرِّ المحجَّلين وحياً من الله العزيز في ليلة أسرى بنبيِّه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى(٢)

وأسوء من ذلك كلّه عدُّ الرَّجل أزواج النبيّ عدوّات عليٍّ وفاطمة وقد ذكر تنازع عايشة معهما وأُمّ سلمة وبسط القول في ذلك بنقل حادثةٍ موضوعةٍ، وشكّل هناك حزبين منهنَّ: (دمقراطي) و(رستو دمقراطي)، وتقوَّل بما يمسُّ ناموس النبيِّ وكرامة أزواجه أُمَّهات المؤمنين، ويُمثِّل آل الله بكلِّ جلافة وسلافة.

ليت شعري كيف يروق المترجم عدُّ عايشة عدوَّةً لفاطمة وهي تقول: ما رأيت أحداً قطّ أفضل من فاطمة غير أبيها م - أخرجه الطبراني في الأوسط بسند صحيح على شرط الشيخين كما في شرح المواهب ٣ ص ٢٠٢ و] الشرف المؤبَّد ص ٥٨.

وهي كانت تقبِّل رأس فاطمة وتقول: يا ليتني شعرة في رأسكِ (نزهة المجالس ٢ ص ٢٢٧).

وكيف يرتضي قومه نشر هذه القارصة والقرآن أوجب على الأُمَّة مودَّة العترة النبويَّة(٣) ومن المتسالم عليه بين المسلمين إنَّ آية الإيمان والنَّفاق في شرعة النبيِّ المحبوب حبُّ عليّ وبغضه كما يأتي حديثه. وقد اتَّفقت الأُمَّة على ما مرَّ في حديث الغدير من قول رسول الله صلّى الله عليه وآله في عليٍّ: اللهمَّ وال مَن والاه، وعاد مَن عاداه. وصحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله: من أحبَّ عليّاً فقد أحبَّني، ومن أبغض عليّاً فقد أبغضني،

_____________________

١ - مستدرك الحاكم ٣ ص ١٥٠ وصححه.

٢ - مستدرك الحاكم ٣ ص ١٣٨ وصححه، الرياض النضرة ٢ ص ١٧٧، شمس الأخبار ٣٩، أسد الغابة ١ ص ٦٩، مجمع الزوايد ٩ ص ١٢١.

٣ - راجع من كتابنا ج ٢ ص ٣٠٦ - ٣١١ ط ثاني.

٢٥

ومن آذى عليّاً فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله(١) وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن جبرئيل أنَّه أخبره بأنَّ السعيد كلّ السعيد من أحبَّ عليّاً في حياتي وبعد مماتي، ألا وإنَّ الشقيِّ كلّ الشقيّ من أبغض عليّاً في حياتي وبعد مماتي(٢)

وكيف خفي على هذا الرجل أنَّ عزو عداء سيِّد العترة وسيِّدتها إلى زوجات النبيِّ قذفٌ مقذعٌ، وسبُّ شائنٌ إن عُرض على محكمة العدل الإسلاميِّ وأُخذ بقوله صلى الله عليه وآله وسلم في عترته: لا يُحبّهم إلّا سعيد الجدّ طيِّب المولد، ولا يبغضهم إلّا شقيّ الجدِّ ردئ الولادة(٣) أو بما ورد من طريق الثقات من: أنَّ عليّاً لا يبغضه أحدٌ قطُّ إلّا وقد شارك إبليس أباه في رحم أُمِّه(٤)

أو بما أخرجه الحافظ الجزري عن عبادة الصامت قال: كنّا نبور أولادنا بحبِّ عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فإذا رأينا أحدهم لا يحبُّ عليَّ بن أبي طالب علمنا أنَّه ليس منّا وإنَّه لغير رشده. ثمَّ قال الحافظ: وهذا مشهورٌ من قديم وإلى اليوم أنَّه ما يُبغض عليّاً رضي الله عنه إلّا ولد زنا. (أسنى المطالب ص ٨)

هذه نبذٌ من مخاريق كتاب (حياة محمد) وكم لها من نظير حول القرآن وتحريفه، وهناك قذف الشيعة بما هي بريئةٌ منه، والعجب أنَّ عادل زعيتر يحسب نفسه معذوراً في بثِّ هذه الأباطيل المضلّة في المجتمع بقوله في مقدِّمة الكتاب: وقد كنت أودُّ أن أُعلِّق عليها بعض حواش لو لم أر أنَّ ذلك يخرجني عن دائرة الترجمة

أمن العدل سقاية روح الملأ الدينيِّ بهذه السموم القتّالة والإعتذار بمثل هذا التافه؟! أهكذا خلق الإنسان جهولا؟!

( إِنّ الّذِينَ يُحِبّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الّذِينَ آمَنُوا

لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ )

سورة النور ١٩

_____________________

١ - الاستيعاب ٢ ص ٤٦١، ذخاير العقبى ٦٥، الإصابة ٣ ص ١٠٣، نزهة المجالس ٢ ص ٢٠٧.

٢ - الرياض النضرة ٣ ص ٢١٥، الفصول المهمة ١٢٤، مجمع الزوائد ٩ ص ١٣٢، كنز العمال ٦ ص ٤٠٠، نزهة المجالس ٢ ص ٢٠٧.

٣ - الرياض ٢ ص ١٨٩.

٤ - تاريخ الخطيب ٣ ص ٢٨٩.

٢٦

حادث شَّوه صحايف التأليف

هناك فكرةٌ غير صالحة، وإن شئتَ قلت: بدعةٌ سيِّئةٌ فتَحت على الأُمَّة باب التقوُّل بمصراعيه، وعنها تتشعَّب شجنة الإفك في الحديث، وينبعث القول المزوَّر: وإليها يستند كلُّ بهرجة وسفسطة. ألا وهي: هذه الخطَّة الحديثة في التأليف، واتِّخاذ هذا الأُسلوب الحديث الذي يروق بسطاء الأُمَّة ويسمّونه تحليلاً، ويرونه حُسناً في الكتابة.

هذه الفكرة هي التي خفَّت بها وطأة التأليف، وطأة حزونته، وكثر بذلك المؤلِّفون فجاء لفيفٌ من النّاس يؤلِّف وكلٌّ منهم سلك وادي تضلّل(١) ولا يخفق على جرَّته(٢) ويرمي القول على عواهنه، وينشر في الملأ ما ليس للمجتمع فيه درك، فيتحكَّم في آراءه، ويكذب في حديثه، ويخون في نقله، ويحرِّف الكلم عن مواضعه، و يقذف من خالف نحلته، وينسبه إلى ما شائه هواه، ويسلقه بالبذاء، ولا يكفِّف عنه لغبه.

هذه الفكرة هي التي جرَّت على الأُمَّة شية العار، ووصمة الشنار، ورمتها بثالثة الأثافي، ومدَّت يد الفحشآء على التأليف، وأبدت في صفحاته وصمات سوء، فراح شرف الإسلام، وأدب الدين، وأمانة النقل، ومكانة الصدق، ضحيَّة الميول والشهوات، ضحيَّة الأهواء والنزعات الباطلة، ضحيَّة الأقلام المستأجرة.

هذه الفكرة هي التي شوَّهت وجه التأليف، وجنت بها الأقلام، وولدت في القلوب ضغاين، فجاء المفسِّر يأوّل القرآن برأيه، والمحدِّث يختلق حديثاً يوافق ذوقه، و المتكلّم يذكر فرقاً مفتعلة، والفقيه يُفتي بما يحبِّذه، والمؤرِّخ يضع في التاريخ ما يرتضيه، كلّ ذلك قولاً بلا دليل، وتحكّماً بلا بيِّنة، وتكلّماً بلا مأخذ، ودعوىً بلا برهان، وتقوّلاً بلا مصدر، وكذباً بلا مبالاة، وإفكاً بلا تحاشي، فويلٌ لهم ممّا كتبت أيديهم وويلٌ لهم ممّا يكسبون.

_____________________

١ - مثل يضرب لمن عمل شيئا فأخطأ فيه.

٢ - مثل يضرب لمن يعجز عن كتمان ما في نفسه.

٢٧

والقارئ يجد مثال هذه كلّها نصب عينيه في طيِّ كتاب الصراع بين الإسلام و الوثنيَّة، والوشيعة في الردّ على الشيعة، وفجر الإسلام وضحاه وظهره، والجولة في ربوع الشرق الأدنى، والمحاضرات للخضري، والسنَّة والشيعة، والإسلام الصحيح، والعقيدة في الإسلام، وخلفاء محمد، وحياة محمد لهيكل، وفي مقدَّمها كتاب «حياة محمد» لأميل در منغم.

فخلوُّ تأليف الشرقيِّ المسلم عن ذكر المصادر نسايةٌ للكتاب والسنَّة، وإضاعةٌ لأُصول العلم، وجنايةٌ على السلف؛ وتفويتٌ لمآثر الإسلام، وعملٌ مخدجٌ، وسعيٌ أبترٌ، وليس من صالح الأُمَّة، ولا من صلاح المجتمع الإسلاميِّ، وسيأتيه يومٌ وهو يقرع سنَّ نادم.

وإنّ تأليفاً هو هكذا لا يمثِّل في علومه ومعارفه إلّا نفسيَّة مؤلِّفه وأنظاره ولا يراه القارئ إلّا كرواية لا تقوم إلّا بقائلها.

خذ إليك في موضوع واحد كتابين هما مثالان لأكثر ما ارتأينا في هذا البحث ألا وهما:

١ - كتاب الإمام عليّ تأليف الأستاذ أبي نصر عمر.

٢ - كتاب الإمام عليّ تأليف الأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود.

فهما على وحدة الموضوع والنزعة والبيئة والدراسة والهوى السائد طالما اختلفا في الأبحاث والنظريّات، فهذا الأستاذ أبو نصر أخذ آراء الخضري الأمويَّة ومن يضاهيه فيها، وصبَّها في بوتقة تأليفه، فجاء في كتابه بكلِّ شنئاء شوهاء إلتقت بها حلقة البطان.

وأمّا الأستاذ عبد الفتّاح فإنّه جدَّ وثابر على جهود جبّارة، وأخذ زبدة المخض من الحقايق الناصعة، غير أنَّه ضيَّع أتعابه بإهمال المصادر، فلم يأت كتابه إلّا كنظريَّة شخصيَّة، ولو ازدان تأليفه بذكر هافي التعاليق وأرداف ذلك النقل الواضح بما ارتئاه من الرأي السديد لكان أبلغ في تمثيل أفكار الجامعة، والإعراب عن نظريّات الملأ الدينيِّ، وإن كان ما ثابره الآن مشفوعاً بشكر جزيل.

( وَلَوْ أَنّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ

وَأَشَدُّ تَثْبِيتاً )

سورة النساء ٦٦

٢٨

١٣ - ابن الرومي

المتوفّى ٢٨٣

يا هند لم أعشق ومثلي لا يرى

عشق النساء ديانةً وتحرُّجا

لكنّ حبّي للوصيِّ مخيَّمٌ

في الصدر يسرح في الفؤاد تولّجا

فهو السِّراج المستنير ومَن به

سبب النجاة من العذاب لمن نجا

وإذا تركت له المحبَّة لم أجد

يوم القيامة من ذنوبي مخرجا

قل لي: أأترك مستقيم طريقه

جهلاً وأتَّبع الطريق الأعوجا؟!

وأراه كالتبر المصفّى جوهراً

وأرى سواه لناقديه مبهرجا

ومحلّه من كلِّ فضل بيِّن

عال محلّ الشمس أو بدر الدجا

قال النبيُّ له مقالاً لم يكن

يوم «الغدير» لسامعيه ممجمجا

: من كنت مولاهُ فذا مولى له

مثلي وأصبح بالفخار متوَّجا

وكذاك إذ منع البتول جماعة

خطبوا وأكرمه بها إذ زوَّجا

وله عجائب يوم سار بجيشه

يبغي لقصر النهروان المخرجا

رُدَّت عليه الشمس بعد غروبها

بيضاء تلمع وقدةً وتأجّجا(١)

(الشاعر)

أبو الحسن عليّ بن عبّاس بن جريح(٢) مولى عبيد الله بن عيسى بن جعفر البغدادي الشهير بابن الرومي. مفخرةٌ من مفاخر الشيعة، وعبقريٌّ من عباقرة الأُمَّة، وشعره الذهبيُّ الكثير الطافح برونق البلاغة قد أربى على سبائك التبر حسناً وبهائا، وعلى

_____________________

١ - مناقب إبن شهر آشوب ١ ص ٥٣١ ط ايران.

٢ - كذا في فهرست ابن النديم، وتاريخ الخطيب، وكثير من المعاجم. وفي مروج الذهب: سريج. وفي معجم المرزباني: جورجس. وفي تاريخ ابن خلكان: قبل: جور جيس. وفي بعض المعاجم: جرجيس.

٢٩

كثر النجوم عدداً ونورا، برع في المديح والهجاء والوصف والغزل من فنون الشعر فقصر عن مَداه الطامحون؛ وشخصت إليه الأبصار، فجلَّ عن الندِّ كما قصر عن مزاياه العدُّ.

وله في مودَّة ذوي القربى من آل الرسول صلوات الله عليه وعليهم أشواط بعيدة، واختصاصه بهم ومدائحه لهم ودفاعه عنهم من أظهر الحقايق الجليَّة، وقد عدَّه إبن الصبّاغ المالكي المتوفّى ٨٥٥ في فصوله المهمّة ص ٣٠٢، والشبلنجي في نور الأبصار ١٦٦ من شعراء الإمام الحسن العسكري صلوات الله عليه.

وكان مجموع شعره غير مرتّب على الحروف: رواه عنه المسيِّبي عليُّ بن عبيد الله ابن المسيِّب، ومثقال غلام إبن الرومي في مائة ورقة، ورواه عن مثقال أبو الحسن عليُّ بن العصب الملحي، وكتب أحمد بن أبي قسر الكاتب من شعره مائة ورقة، وخالد الكاتب كذلك، فرتَّبه الصولي على الحروف في مائتي ورقة، جمع شعره أبو الطيب ورَّاق بن عبدوس من جميع النسخ فزاد على كلّ نسخة ممّا هو على الحروف وغيرها نحو ألف بيت.

وللخالديَّين: أبي بكر محمد وأبي عثمان سعيد كتابٌ في أخبار شعر المترجم(١) وانتخب إبن سينا ديوانه وشرح مشكلات شعره كما في «كشف الظنون» ١ ص ٤٩٨، وعن إبن سينا: أنَّ ممّا كلّفني استادي في الأدب حفظ ديوان إبن الرومي فحفظته مع عدَّة كتب في ستَّة أيّام ونصف يوماً.

ويروي بعض شعره أبو الحسين عليُّ بن جعفر الحمداني، وإسماعيل بن عليّ الخزاعيّ، وأبو الحسن جحظة الذي مدحه إبن الرومي بقصيدة توجد في ديوانه ١٦٨.

تجد ذكره والثناء عليه في فهرست إبن النديم ٢٣٥، تاريخ بغداد ١٢ ص ٢٣، معجم الشعراء ٢٨٩، ٤٥٣، أمالي الشريف المرتضى ٢ ص ١٠١، مروج الذهب ٢ ص ٤٩٥، العمدة لابن رشيق ١ ص ٥٦، ٦١، ٩١، معالم العلماء لإبن شهر آشوب، وفيات الأعيان ١ ص ٣٨٥، مرآة الجنان لليافعي ٢ ص ١٩٨، شذرات الذهب ٢ ص ١٨٨، معاهد التنصيص ١ ص ٣٨، كشف الظنون ١ ص ٤٩٨، روضات الجنّات ٤٧٣، نسمة السحر فيمن تشيَّع وشعر، دائرة المعارف للبستاني ١ ص ٤٩٤، دائرة المعارف الإسلاميَّة

_____________________

١ - راجع فهرست ابن النديم ص ٢٣٥ و ٢٤١.

٣٠

١ ص ١٨١، الأعلام للزركلي ٢ ص ٦٧٥، الشيعة وفنون الإسلام ١٠٥، مجلّة الهدى العراقيّة الجزء السادس ص ٢٢٣ - ٢٢٧.

وعني بجمع آثاره وكتابة أخباره وروايتها جمعٌ منهم:

١ - أبو العباس أحمد بن محمد بن عبيد الله بن عمّار المتوفّى ٣١٩، قال إبن المسيِّب لَمّا مات إبن الرومي عمل كتاباً(١) في تفضيله ومختار شعره وجلس يمليه على الناس. كما في فهرست ابن النديم ٢١٢، ومعجم الأدباء ١ ص ٢٢٧.

٢ - أبو عثمان الناجم، ترجمه في كتاب مقصور عليه.

٣ - أبو الحسن عليّ بن عبّاس النوبختيّ المتوفّى ٣٢٧، جمع أخباره في كتاب مفرد كما في معجم المرزباني ٢٩٥، ومعجم الأُدباء ٢٢٩٥.

وأفرد من كتّاب المتأخِّرين الأُستاذ عبّاس محمود العقّاد كتاباً في ترجمته في ٣٩٢ صفحة ونحن نأخذ منه ما هو المهمّ ملخّصاً بلفظه قال:

قد أدرك إبن الرومي في حياته ثمانية خلفاءهم: الواثق. المتوكِّل. المنتصر. المستعين. المعتز. المهتدي. المعتمد. المعتضد المتوفّى بعد إبن الرومي.

أثنى عليه العميدي صاحب «الإبانة» وإبن رشيق صاحب «العمدة» وقال: أكثر المولَّدين اختراعاً وتوليداً فيما يقول الحذّاق: أبو تمام وإبن الرومي. وأطراه إبن سعيد المغربي المتوفّى ٦٧٣ في كتابه: عنوان المرقصات والمطربات.

ويظهر أنَّ أبا عثمان سعيد بن هاشم الخالدي من أدباء القرن الرابع توسّع في ترجمته إمّا في كتابه: حماسة المحدثين. أو في كتاب مقصور عليه. ولكن أخباره هذه ذهبت كلّها ولم تبق منها أثر إلّا متفرِّقات في الكتب لا تفني في ترجمة وافية ولا شبيهة بالوافية فنحن ننقلها كما هي:

ولد يوم الأربعاء بعد طلوع الفجر لليلتين خلتا من رجب ٢٢١ ببغداد في الموضع المعروف بالعقيقة(٢) ودرب الختليَّة في دار بإزاء قصر عيسى بن جعفر بن منصور(٣) .

_____________________

١ - ينقل الحموي عنه ترجمة أحمد بن محمد بن عمار في معجم الأدباء.

٢ - في معجم الشعراء: في الجانب الغربي بالعتيقة. وهذا هو الصحيح.

٣ - أخذه من أبي عثمان الخالدي.

٣١

كان إبن الرومي مولى لعبد الله بن عيسى ولا يشكّ أنَّه روميُّ الأصل فإنَّه يذكره ويؤكّده في مواضع من ديوانه واسم جدِّه مع هذا: جريح. أو: جرجيس. اسمٌ يونانيٌّ لا شبهة فيه، فلا ينبغي الإلتفات إلى من قال: إنَّه سمِّي بابن الرومي لجماله في صباه.

وكان أبوه صديقاً لبعض العلماء والأُدباء منهم: محمد بن حبيب الرواية الضليع في اللغة والأنساب، فكان الشاعر يختلف إليه لهذه الصداقة، وكان محمد بن حبيب يخصّه لما يراه من ذكاءه وحدَّة ذهنه، وحدَّث الشاعر عنه فقال: إنَّه كان إذا مرَّ به شيءٌ يستغربه ويستجيده يقول لي: يا أبا الحسن ضع هذا في تامورك.

وقد علمنا أنَّ أُمّه كانت فارسيَّة من قوله: الفرس خؤلي والرّوم أعمامي. وقوله: فلم يلدني أبو السواس ساسان. بعد أن رفع نسبه إلى يونان من جهة أبيه، وربما كانت أُمّه من أصل فارسيّ ولم تكن فارسيَّة قحّاً لأبيها وأُمِّها وهذا هو الأرجح لأنَّ علمه بالفارسيَّة لم يكن علم رجل نشأ في حجر أُمّ تتكلّم هذه اللغة ولا تحسن الكلام بغيرها، وماتت أُمّه وهو كهل أو مكتهل كما يقول في رثائها:

أقول: وقد قالوا: أتبكي لفاقد

رضاعاً وأين الكهل من راضع الحلم؟!

هي الأمّ يا للناس جزّعت فقدها

ومن يبك أُمّاً لم تذم قطُّ لا يُذم

وكانت أُمّه تقيّة صالحة رحيمة كما يُؤخذ من أبياته في رثائها.

*(قال الأميني)*: أُمّه حسنة بنت عبد الله السجزي كما في معجم المرزباني، وسجز بلدةٌ من بلاد الفرس من أرباض خراسان فهي فارسيَّة قحّ.

أخوه وشقيقه محمد المكنّى بأبي جعفر وهو أكبر من المترجَم وتوفّي قبله وكان تتفجّع بذكراه ورثاه، ومات أخوه وهو يعمل في خدمة عُبيد الله بن عبد الله بن طاهر أحد أركان بيت بني طاهر، ويظهر من ديوان المترجم إنَّه كان أديباً كاتباً أيضاً.

ولم يبق لابن الرومي بعد موت أخيه أحدٌ يعوِّل عليه من أهله أو من يحسبون في حكم أهله إلّا أناسٌ من مواليه الهاشميِّين العباسيِّين كانوا يبرّونه حيناً ويتناسونه أحياناً، و كان لعهد الهاشميِّين الطالبيِّين أحفظ منه لعهد الهاشميِّين العبّاسيِّين كما يظهر ممّا يلي. أمّا إبن عمِّه الذي أشار إليه في قوله:

٣٢

لي ابن عمّ يجرُّ الشرَّ مجتهداً

إليَّ قدماً ولا يصلي له نارا

يجني فاصلي بما يجني فيخذلني

وكلّما كان زنداً كنت مسعارا

فلا ندري أهو إبن عمّ لحّ؟! أو إبن عمّ كلالة؟! ومبلغ ما بينهما من صلة المودَّة ظاهرٌ من البيتين.

أولاده

رُزق إبن الرومي ثلاثةُ أبناء وهم: هبة الله. محمد. وثالث لم يذكر اسمه في ديوانه. ماتوا جميعاً في طفولتهم ورثاهم بأبلغ وأفجع ما رثى به والدٌ أبناءه، وقد سبق الموت إلى أوسطهم محمد فرثاه بداليَّةٍ مشهورةٍ يقول فيها:

توخّى حمام الموت أوسط صبيتي

فللّه كيف أختار واسطة العقدِ؟!

على حين شُمت الخير في لمحاته

وآنست من أفعاله آية الرشدِ

ومنها في وصف مرضه:

لقد قلَّ بين المهد واللحد لبثه

فلم ينس عهد المهد أو ضمّ في اللحدِ

ألحَّ عليه النزف حتّى أحاله

إلى صفرة الجاديِّ(١) عن حمرة الوردِ

وظلَّ على الأيدي تُساقط نفسه

ويذوي كما يذوي القضيب من الرندِ(٢)

ويذكر فيها أخويه الآخرين:

محمد؟ ما شيئ توهّم سلوة

لقلبيَ إلّا زاد قلبي من الوجدِ

أرى أخويك الباقيين كليهما

يكونان للأحزان أورى من الزندِ

إذا لعبا في ملعب لك لذّعا

فؤادي بمثل النّار عن غير ما عمدِ

فما فيهما لي سلوةٌ بل حزازةٌ

يُهيجانها دوني وأشقى بها وحدي

أمّا إبنه هبة الله فقد ناهز الشباب على ما يفهم من قوله في رثاءه:

يا حسرتا فارقتني فنناً

غضّاً ولم يثمر ليَ الفننُ

أبُنيَّ؟ إنَّك والعزاء معاً

بالأمس لُفَّ عليكما كفنُ

_____________________

١ - الجادي: الزعفران.

م (٢) يذوى من ذوى النبات وذوى: ذبل ونشف ماؤه. الرند: نبات من شجر البادية طيب الرائحة يشبه الآس.

٣٣

وفي الديوان أبيات يرثي بها إبناً لم يذكر اسمه وهي:

حماه الكرى همٌّ سرى فتأوَّبا

فبات يراعي النجم حتّى تصوَّبا

أعينيَّ جودا لي فقد جدتُ للثرى

بأكثر ممّا تمنعان وأطيبا

بُنيّ الذي أهديته أمس للثرى

فللّه ما أقوى قناتي وأصلبا

فإن تمنعاني الدمع أرجع إلى أسى

إذا فترت عنه الدموع تلهّبا

وهي على الأرجح رثاؤه لأصغر أبناءه الَّذي لم يذكر اسمه ولا ندري هل مات قبل أخيه أو بعده؟! ولكن يخيَّل إلينا من المقابلة بين هذه المراثي أنّ الأبيات البائيَّة كانت آخر ما رثى به ولداً لأنَّها تنمُّ عن فجيعة رجل راضه الحزن على فقد البنين حتّى جمدت عيناه ولم يبق عنده من البكاء إلّا الأسى الملتهب في الضلوع، وإلّا العجب من أن يكون قد عاش وصلبت قناته لكلِّ هذه الفجايع، وقد كان رثاؤه لإبنه الأوسط صرخة الضربة الأولى، ففيها ثورةٌ لاعجةٌ تحسّ من خلل الأبيات، ثمَّ حلَّ الألم المرير محلَّ الألم السوار في مصيبته الثانية، فوجم وسكن واستعبر، ثمَّ كانت الخاتمة فهو مستسلمٌ يعجب للحزن كيف لم يقض عليه، ويحسّ وقدة المصاب في نفسه ولا يحسّه في عينيه، ولقد غشيت غبرة الموت حياته كلّها، وماتت زوجته بعد موت أبنائه جميعاً فتمَّت بها مصائبه وكبر عليه الأمر. إلخ.

تعليمه

ذلك كلّ ما استطعنا أن نجمعه من الأخبار النافعة عن نشأة الشاعر وأهله ولا فائدة من البحث في المصادر التي بين أيدينا عن أيّام صباه وتعليمه ومن حضر عليهم و تتلمَّذ لهم من العلماء والرُّواة فإنَّ هذه المصادر خلوٌ ممّا يُفيد في هذا المقام إلّا ما جاء عرضاً في الجزء السادس من «الأغاني» حيث يروي إبن الرومي عن أبي العبّاس ثعلب عن حمّاد بن المبارك عن الحسين بن الضحّاك. وحيث يروي في موضع آخر عن قتيبة عن عمر السكوني بالكوفة عن أبيه عن الحسين بن الضحّاك، فيصحّ أن تكون الرِّواية هنا رواية تلميذ عن أستاذ، لأنّ ثعلباً ولد سنة مائتين فهو أكبر من الشاعر بإحدى و عشرين سنة، أمّا قتيبة (والمفهوم أنّه أبو رجاء قتيبة بن سعيد بن جميل الثقفي المحدِّث العالم المشهور) فجائزٌ أن يكون ممَّن أملوا عليه وعلَّموه لأنَّه مات وإبن الرومي

٣٤

يُناهز العشرين.

وقد مرَّ بنا أنَّه كان يختلف إلى محمد بن حبيب الراوية النسّابة الكبير، وسنرى هنا أنَّه كان يرجع إليه في بعض مفرداته اللغويَّة فيذكر شرحها في ديوانه معتمداً عليه قال بعد قوله:

وأصدق المدح مدح ذي حسدٍ

ملآءن من بغضه ومن شنفِ

قال لي محمد بن حبيب: الشنف ما ظهر من البغضة في العينين وأشار إليه بعد بيت آخر وهو:

بانوا فبان جميل الصبر بعدهمُ

فللدموع من العينين عينانُ

إذا فسّر كلمة «عينان» فروى عن إبن حبيب أنَّه قال: عان الماء يعين عيناً وعيناناً إذا ساح. فهؤلاء ثلاثة من أساتذة إبن الرومي على هذا الإعتبار ولا علم لنا بغيرهم فيما راجعناه وحسبنا مع هذا أنَّ الرجل - كيفما كان تعليمه وأيّاً كان معلّموه - قد نشأ على نصيبٍ وافٍ من علوم عصره، وساهم في القديم والحديث منها بقسطٍ وافرٍ في شعره فلو لم يقل المعرِّي: إنَّه كان يتعاطى الفلسفة. والمسعودي: إنّ الشعر كان أقلّ آلاته. لعلمنا ذلك من شواهد شتّى في كلامه، فهي هناك كثيرةٌ متكرّرةٌ لا يلمُّ المتصفِّح ببعضها إلّا جزم باطِّلاع قائلها على الفلسفة ومصاحبة أهلها واشتغاله بها، حتّى سرت في أُسلوبه وتفكيره، وما كان متعلِّم الفلسفة في تلك الأيّام يصنع أكثر من ذلك ليتعلّمها أو ليعدّ من متعلّميها، فأنت لا تقرأ لرجل غير مشتغل أو ملمّ بالفلسفة والقياس المنطقيِّ والنجوم كلاما كهذا الكلام.

لِما تؤذن الدنيا به من صروفها

يكون بكاء الطفل ساعة يولدُ

وإلّا فما يُبكيه منها وأنَّها

لأرحب ممّا كان فيه وأرغدُ؟!

وذكر شواهد كثيرة على إلمامه بالعلوم ومعرفته بمصطلحاتها غضضنا الطرف عنها اختصاراً.

رسائل ابن الرومي

وقد وردت في أبياته الهمزيَّة إشارة إلى حذقه في الكتابة ومشاركته في البلاغة المنثورة تعزِّزها إشارة مثلها في هذا البيت:

٣٥

ألم تجدوني آل وهب لمدحكم

بشعري ونثري أخطلاً ثمَّ جاحضا؟!

فلا بدَّ أنَّه كان يكتب ويمارس الصناعة النثريَّة إلّا ما استجمعناه من منثوراته لا يعدو نبذاً معدودةً موجزةً، منها: رسالةٌ إلى القاسم بن عبيد الله يقول فيها متنصِّلاً.

١ - ترفع عن ظلمي إن كنت بريئاً، وتفضل بالعفو إن كنت مسيئاً، فوالله إنّي لأُطالب عفو ذنب لم أجنه، وألتمس الإقالة ممّا لا أعرفه، لتزداد تطوّلاً وازداد تذلّلاً، وأنا أُعيذ حالي عندك بكرمك من واشٍ يكيدها، وأحرسها بوفاءك من باغٍ يحاول إفسادها، وأسأل الله تعالى أن يجعل حظّي منك بقدر ودّي لك ومحلّي من رجائك بحيث أستحقُّ منك. والسَّلام.

٢ - رسالةٌ كتبها يعود صديقاً: أذن الله في شفائك، وتلقى داءك بدوائك، ومسح بيد العافية عليك، ووجَّه وفد السَّلامة إليك، وجعل علَّتك ماحيةً لذنوبك، مضاعفةً لثوابك.

٣ - كتب إلى صديق له قَدِم من «سيراف»(١) فأهدى إلى جماعة من إخوانه ونسيه: أطال الله بقاءك وأدام عزَّك وسعادتك وجعلني فداءك، لولا أنَّني في حيرة من أمري وشغل من فكري لما افترقنا، وشوقي علم الله فغالبٌ، وظمأي فشديدٌ، وإلى الله الرغبة في أن يجعل القدرة على اللقاء حسب المحبَّة أنَّه قادرٌ جوادٌ.

ومكاننا من جميل رأيك أيَّدك الله يبعثنا على تقاضي حقوقنا قبلك، وكريم سجاياك وأخلاقك يُشجِّعنا على إمضاء العزم في ذلك، وما تطوَّلت به من الأيناس يؤنسنا بك و يبسطنا إليك، وآثار يديك تدلّنا عليك، وتشهد لنا بسماحتك؛ والله يُطيل بقاءك و يديم لنا فيك وبك السعادة.

وبلغني أدام الله عزَّك أنّ سحائب تفضّلك أمطرت منذ أيّام مطراً عمّ إخوانك بهدايا مشتملة على حسن وطيب، فأنكرت على عدلك وفضلك خروجي منها مع دخولي في جملة من يعتدُّك ويعتقدك وينحوك ويعتمدك، وسبق إلى قلبي من ألم سوء الظنِّ برأيك أضعاف ما سبق إليه من الألم بفوت الحظّ من لطفك، فرأيت مداوات قلبي من ظنِّه، وقلبك من سهوه، واستبقاء الودِّ بيننا بالعتاب الذي يقول فيه القائل: (ويبقى

_____________________

١ - سيراف: مدينة جليلة على ساحل بحر فارس، منها إلى شيراز ستون فرسخاً.

٣٦

الودّ ما بقي العتابٌ) وفيما عاتبت كفايةٌ عند من له أُذنك الواعية وعينك الراعية.

٤ - وقال في تفضيل النرجس على الورد: النرجس يشبه الأعين والمضاحك، والورد يشبه الخدود، والأعين والمضاحك أشرف من الخدود، وشبيه الأشرف أشرف من شبيه الأدنى، والورد صفةٌ لأنَّه لونٌ والنرجس يضارعه في هذا الإسم، لأن النرجس هو الريحان الوارد أعني أنَّه أبداً في الماء، والورد خجل، والنرجس مبتسم، وانظر أدناهما شبهاً بالعيون فهو أفضل.

هذه نماذج من منثوراته لا نعرف غيرها فيما بين أيدينا، وخليقٌ بمن يكتب بهذا الأُسلوب أن يُعدَّ في بُلغاء الكتّاب وإن لم يُعدَّ في أبلغهم، على أنّ إبن الرومي لم يكن يحسب نفسه إلّا مع الشعراء إذا اختلفت الطوائف، فإنَّه يقول عن نفسه وهو يمدح أبا الحسين كاتب إبن أبي الإصبع:

ونحن معاشر الشعراء تنمى

إلى نسب من الكتّاب دانِ

وإن كانوا أحقَّ بكلِّ فضل

وأبلغ باللسان وبالبيان

أبونا عند نسبتنا أبوهم

عطاردُ السماويُّ المكانِ

أمّا حظّه من علوم العربيَّة والدين فمن المفضول أن نتعرَّض لإحصاء الشواهد عليه في كلامه، لأنَّه أبين من أن يحتاج إلى تبيين. وندر في قصائده المطوَّلة أو الموجزة قصيدةٌ تقرأها ولا تخرج منها وأنت موقنٌ باستبحار ناظمها في اللغة وإحاطته الواسعة بغريب مفرداتها وأوزان إشتقاقها وتصريفها وموقع أمثالها وأسماء مشاهرها، وما يصحب ذلك من أحكام في الدين ومقتبسات من أدب القرآن، فليس في شعر العربيَّة مَن تبدو هذه الشواهد في كلامه بهذه الغزارة والدقَّة غير شاعرين إثنين: أحد هما صاحبنا والثاني المعرّي، وقد كان يمدح الرؤساء والأُدباء أمثال عبيد الله بن عبد الله، وعليّ بن يحيى، وإسماعيل بن بلبل فيفسِّر غريب كلماته في القرطاس الذي يثبت فيه قصايده كأنَّه كان يشفق أن تفوتهم دقايق لفظه وأسرار لغته ثمَّ يعود إلى الإعتذار من ذلك إذا أنس منهم الجفوة والتغيّر.

لم أُفسِّر غريبها لك لكن

لامرئٍ يجهل الغريب سواكا

لغيرك لا لك التفسير أنّى

يُفسِّر لابن بجدتها الغريبُ

٣٧

وكانوا لشهرته باللغة وعلم أسرارها ولطيف نكاتها يختلقون له الكلمات النافرة يسألونه عنها ليعبثوا به أو يعجزوه، وقصَّة «الجرامض» إحدى هذه المعابثات التي تدلّ على غيرها من قبيلها، فقد سأله بعضهم في مجلس القاسم بن عبيد الله: ما الجرامض؟! فارتجل مجيباً:

وسألت عن خبر الجرا

مض طالباً علم الجرامضْ

وهو الخزا كل والغوا

مض قد تفسّر بالغوامضْ

وهو السلجكل شئت إذ

لك أم أبيت بفرض فارضْ

وكلّها كلمات من مادَّة الجرامض لا معنى لها ولا وجود، وإذا صحَّ إستقراؤنا وكان من أساتذته أمثال ثعلب وقتيبة فضلاً عن الأُستاذيَّة الثابتة لابن حبيب فلا جرم يصير ذلك علمه بالغريب والأنساب والأخبار، هؤلاء كلّهم من نخبة النخبة في هذه المطالب، ولا سيّما إذا أعانهم تلميذٌ ذو فطنة متوقِّدة الفهم وذاكرة سريعة الحفظ كهذا التلميذ، فقد مرَّ بك أنَّه كان يحفظ الأبيات الخمسة من قراءة واحدة فهب في الرِّواية بعض مبالغة التي تتعرَّض لها أمثال هذه الرِّوايات فهو بعدُ سريع الحفظ وهذا ممّا يعينه على تحصيل اللغة وتعليق المفردات.

عاش إبن الرومي حياته كلّها في بغداد لا يفارقها قليلاً حتّى يعود سريعاً وقد نازعه إليها الشوق وغلبه نحوها حنين، وكانت بغداد يومئذ عاصمة الدنيا غير مدافع، و كان صاحب صنيعة ومالك دارين وثراء وتحف موروثة منها قدح زعم أنَّه كان للرشيد ووصفه في شعره لَمّا أهداه إلى عليّ بن المنجم يحيى.

قدحٌ كان للرشيد اصطفاهُ

خلفٌ من ذكوره غير خلفِ

كفم الحبِّ في الحلاوة بل أحلـ

ـى وإن كان لا يناغي بحرفِ

صيغ من جوهر مصفَّى طباعاً

لا علاجاً بكيمياء مصفِّ

تنفذ العين فيه حتّى تراها

أخطأته من رقَّة المستشفِّ

كهواه بلا هباءٍ مشوب

بضياء أرقق بذاك وأصفِ

ثمَّ استوعب الكلام في البحث عن مزاجه وأخلاقه ومعيشته وما كانت تملكه يده وذكرى مطايباته ومفاكهاته وهجاؤه وفشله وطيرته من ص ١٠٢ - ٢٠٣ فشرع

٣٨

في بيان عقيدته (وهناك مواقع للنظر) وقال:

عقيدته

تقدَّم في الكلام عن الحالة الدينيَّة في القرن الثالث للهجرة أنَّه كان عصراً كثرت فيه النحل والمذاهب وقلَّ فيه من لا يرى في العقايد رأياً يفسِّر به إسلامه و ويخلصه بين جماعة الدارسين وقرّاء العلوم الحديثة.

فإبن الرّومي واحدٌ من هؤلاء القرّاء لا ننتظر أن تمرَّ به هذه المباحث التي كان يدرسها ويحضر مجالسها ويسمع من أهلها بغير أثر محسوس في تفسير العقيدة، فكان مسلماً صادق الإسلام، ولكنَّه كان شيعيّاً معتزليّاً قدريّاً يقول بالطبيعتين، وهي أسلم النحل التي كانت شايعة في عهده من حيث الإيمان بالدين.

وقد قال المعرّي في رسالة الغفران: إنّ البغداديِّين يدَّعون أنَّه متشيِّع و يستشهدون على ذلك بقصيدته الجيميّة ثمَّ عقب على ذلك فقال: ما أراه إلّا على مذهب غيره من الشعراء.

ولا ندري لِماذا شكَّ المعرّي في تشيّعه لأنَّه على مذهب غيره من الشعراء، فإنَّ الشعراء إذا تشيَّعوا كانوا شيعة حقّاً كغيرهم من الناس، وربما أفرطوا فزادوا في ذلك على غيرهم من عامّة المتشيِّعين، وإنَّما نعتقد أنَّ المعرّي لم يطَّلع على شعره كلّه فخفيت عنه حقيقة مذهبه ولولا ذلك لما كان بهذه الحقيقة من خفاء.

على أنَّ القصيدة الجيميَّة وحدها كافيةٌ في إظهار التشيّع الذي لا شكَّ فيه، لأنَّ الشاعر نظمها بغير داعٍ يدعوه إلى نظمها من طمع أو مداراة، بل نظمها وهو يستهدف للخطر الشديد من ناحية بني طاهر وناحية الخلفاء، فقد رثى بها يحيى بن عمر بن الحسين إبن زيد بن علي الثائر في وجه الخلافة ووجه أبناء طاهر ولاة خراسان، وقال فيها يخاطب بني العبّاس ويذكر (ولاة السوء) من أبناء طاهر:

أجنوا بني العبّاس من شنآئكم

وأوكوا على ما في العياب وأشرجوا

وخلّوا ولاة السوء منكم وغيَّهم

فأحرى بهم أن يغرقوا حيث لجَّجوا

نظار لكم أن يرجع الحق راجعٌ

إلى أهله يوماً فتشجوا كما شجوا

على حين لا عذري لمعتذريكمُ

ولا لكمُ من حجَّة الله مخرجُ

٣٩

فلا تلحقوا الآن الضغاين بينكم

وبينهمُ إنَّ اللواقح تنتجُ

غررتم لئن صدّقتمُ أنّ حالة

تدوم لكم والدهر لونان أخرجُ

لعلَّ لهم في منطوى الغيب ثائراً

سيسمو لكم والصبح في الليل مولجُ

فماذا يقول الشيعيُّ لبني العبّاس أقسى وأصرح في التربّص بدولتهم وانتظار دولة العلويِّين من هذا الكلام؟! فقد أنذر بني العبّاس بزوال الملك وكاد يتمنّى - أو تمنّى - لبني عليّ يوماً يهزمون فيه أعداءهم، ويرجعون فيه حقَّهم، ويطلبون تراثهم، وينكلون بمن نكل بهم، وهواه ظاهرٌ من العلويِّين لا مداجاة فيه كهوى كلِّ شيعيّ في هذا المقام. على أنَّه كان أظهر من هذا في النونيَّة التي تمنّى فيها هلاك أعدائهم ولام نفسه على التقصير في بذل دمه لنصرتهم:

إن يوالي الدهر أعداءً لكم

فلهم فيه كمينٌ قد كمنْ

خلعوا فيه عذار المعتدي

وغدوا بين اعتراضٍ وأرنْ

فاصبروا يهلكهم الله لكم

مثل ما أهلك أذواء اليمنْ

قرب النصر فلا تستبطئوا

قرب النصر يقيناً غير ظنْ

ومن التقصير صوني مهجتي

فعل من أضحى إلى الدنيا ركنْ

لا دمي يُسفك في نصرتكم

لا ولا عرضيَ فيكم يمتهنْ

غير أنّي باذلٌ نفسي وإن

حقن الله دمي فيما حقنْ

ليت إنّي غرضٌ من دونكم

ذاك أو درعٌ يقيكم ومجنْ

أتلقّى بجبيني مَن رمي

وبنحري وبصدري من طعنْ

إنَّ مبتاع الرضي من ربِّه

فيكمُ بالنفس لا يخشى الغبنْ

وليس يجوز الشكُّ في تشيّع من يقول هذا القول ويشعر هذا الشعور، فإنَّه يعرض نفسه للموت في غير طائل حبّاً لبني عليٍّ وغضباً لهم وإشهاراً لهم لعاطفة لا تفيده و لا تفيدهم؛ وقد كان لا يذكر يحيى بن عمر إلّا بلقب الشهيد كما ذكره في القصيدة الجيميَّة وفي خاطرة أُخرى مفردة نظمها في هذين البيتين:

كسته القنا حلة من دم

فأضحت لدى الله من ارجوان

جزته معانقة الدار عـ

ـين معانقة القاصرات الحسان

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

مجرى واحداً يدلّ الكتاب العزيز على ثبوتها دلالة لا مدفع لها إلّا ما تكلّفه بعض الناس من التأويل تحذّراً من لزوم خرق العادة و تعطّل قانون العلّيّة العامّ، و قد مرّ في الجزء الأوّل من هذا الكتاب استيفاء البحث عن الإعجاز و خرق العادة.

و بعد ذلك كلّه فالآية التالية لا تخلو عن إشعار أو دلالة على حياتهعليه‌السلام و عدم توفيه بعد.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) .( إِنْ ) نافية و المبتدأ محذوف يدلّ عليه الكلام في سياق النفي، و التقدير: و إن أحد من أهل الكتاب إلّا ليؤمننّ، و الضمير في قوله:( بِهِ ) و قوله:( يَكُونُ ) راجع إلى عيسى، و أمّا الضمير في قوله( قَبْلَ مَوْتِهِ ) ففيه خلاف.

فقد قال بعضهم: إنّ الضمير راجع إلى المقدّر من المبتدأ و هو أحد، و المعنى: و كلّ واحد من أهل الكتاب يؤمن قبل موته بعيسى أي يظهر له قبيل الموت عند الاحتضار أنّ عيسى كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عبده حقّاً و إن كان هذا الإيمان منه إيماناً لا ينتفع به، و يكون عيسى شهيداً عليهم جميعاً يوم القيامة سواء آمنوا به إيماناً ينتفع به أو إيماناً لا ينتفع به كمن آمن به عند موته.

و يؤيّده أنّ إرجاع ضمير:( قَبْلَ مَوْتِهِ ) إلى عيسى يعود إلى ما ورد في بعض الأخبار أنّ عيسى حيّ لم يمت، و أنّه ينزل في آخر الزمان فيؤمن به أهل الكتاب من اليهود و النصارى، و هذا يوجب تخصيص عموم قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) من غير مخصّص، فإنّ مقتضى الآية على هذا التقدير أن يكون يؤمن بعيسى عند ذلك النزول من السماء الموجودون من أهل الكتاب دون المجموع منهم، ممّن وقع بين رفع عيسى و نزوله فمات و لم يدرك زمان نزوله، فهذا تخصيص لعموم الآية من غير مخصّص ظاهر.

و قد قال آخرون: إنّ الضمير راجع إلى عيسىعليه‌السلام و المراد به إيمانهم به عند نزوله في آخر الزمان من السماء، استناداً إلى الرواية كما سمعت.

هذا ما ذكروه، و الّذي ينبغي التدبّر و الإمعان فيه هو أنّ وقوع قوله:( وَ يَوْمَ

١٤١

الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) في سياق قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) ظاهر في أنّ عيسى شهيد على جميعهم يوم القيامة كما أنّ جميعهم يؤمنون به قبل الموت، و قد حكى سبحانه قول عيسى في خصوص هذه الشهادة على وجه خاصّ، فقال عنه:( وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ ) (المائدة: ١١٧).

فقصّرعليه‌السلام شهادته في أيّام حياته فيهم قبل توفّيه، و هذه الآية أعني قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) إلخ تدلّ على شهادته على جميع من يؤمن به فلو كان المؤمن به هو الجميع كان لازمه أن لا يتوفّى إلّا بعد الجميع، و هذا ينتج المعنى الثاني، و هو كونهعليه‌السلام حيّاً بعد، و يعود إليهم ثانياً حتّى يؤمنوا به. نهاية الأمر أن يقال: إنّ من لا يدرك منهم رجوعه إليهم ثانياً يؤمن به عند موته، و من أدرك ذلك آمن به إيماناً اضطراراً أو اختياراً.

على أنّ الأنسب بوقوع هذه الآية:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ) فيما وقع فيه من السياق أعني بعد قوله تعالى:( وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ - إلى أن قال -بَلْ رَفَعَهُ الله إِلَيْهِ وَ كانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً ) أن تكون الآية في مقام بيان أنّه لم يمت و أنّه حيّ بعد إذ لا يتعلّق ببيان إيمانهم الاضطراريّ و شهادته عليهم في غير هذه الصورة غرض ظاهر.

فهذا الّذي ذكرناه يؤيّد كون المراد بإيمانهم به قبل الموت إيمانهم جميعاً به قبل موتهعليه‌السلام .

لكنّ ههنا آيات اُخر لا تخلو من إشعار بخلاف ذلك كقوله تعالى:( إِذْ قالَ الله يا عِيسى‏ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ ) (آل عمران: ٥٥) حيث يدلّ على أنّ من الكافرين بعيسى من هو باق إلى يوم القيامة، و كقوله تعالى:( وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ) حيث إنّ ظاهره أنّه نقمة مكتوبة عليهم، فلا يؤمن مجتمعهم بما هو مجتمع اليهود أو مجتمع أهل الكتاب إلى يوم القيامة.

بل ظاهر ذيل قوله:( وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ

١٤٢

الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) حيث إنّ ذيله يدلّ على أنّهم باقون بعد توفّي عيسىعليه‌السلام .

لكنّ الإنصاف أنّ الآيات لا تنافي ما مرّ فإنّ قوله:( وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ ) لا يدلّ على بقائهم إلى يوم القيامة على نعت أنّهم أهل الكتاب.

و كذا قوله تعالى:( بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ ) (الآية) إنّما يدلّ على أنّ الإيمان لا يستوعبهم جميعاً، و لو آمنوا في حين من الأحيان شمل الإيمان منهم قليلاً من كثير. على أنّ قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) لو دلّ على إيمانهم به قبل موته فإنّما يدلّ على أصل الإيمان، و أمّا كونه إيماناً مقبولاً غير اضطراريّ فلا دلالة له على ذلك.

و كذا قوله:( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) (الآية) مرجع الضمير فيه إنّما هو الناس دون أهل الكتاب أو النصارى بدليل قوله تعالى في صدر الكلام:( وَ إِذْ قالَ الله يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ الله ) الآية: (المائدة: ١١٦)، و يدلّ على ذلك أيضاً أنّهعليه‌السلام من اُولي العزم من الرسل مبعوث إلى الناس كافّة، و شهادته على أعمالهم تعمّ بني إسرائيل و المؤمنين به و غيرهم.

و بالجملة، الّذي يفيده التدبّر في سياق الآيات و ما ينضمّ إليها من الآيات المربوطة بها هو أنّ عيسىعليه‌السلام لم يتوفّ بقتل أو صلب و لا بالموت حتف الأنف على نحو ما نعرفه من مصداقه - كما تقدّمت الإشارة إليه - و قد تكلّمنا بما تيسّر لنا من الكلام في قوله تعالى:( يا عِيسى‏ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ ) (آل عمران: ٥٥) في الجزء الثالث من هذا الكتاب.

و من غريب الكلام في هذا الباب ما ذكره الزمخشريّ في الكشّاف: أنّه يجوز أن يراد أنّه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلّا ليؤمننّ به على أنّ الله يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان، و يعلمهم نزوله، و ما اُنزل له، و يؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم، و هذا قول بالرجعة.

و في معنى الآية بعض وجوه رديئة اُخرى:

١٤٣

منها: ما يظهر من الزجّاج أنّ ضمير قوله:( قَبْلَ مَوْتِهِ ) يرجع إلى الكتابيّ و أنّ معنى قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) أنّ جميعهم يقولون: إنّ عيسى الّذي يظهر في آخر الزمان نحن نؤمن به.

و هذا معنى سخيف فإنّ الآيات مسوقة لبيان دعواهم قتل عيسىعليه‌السلام و صلبه و الردّ عليهم دون كفرهم به و لا يرتبط ذلك باعترافهم بظهور مسيح في آخر الزمان يحيي أمر شعب إسرائيل حتّى يذيّل به الكلام.

على أنّه لو كان المراد به ذلك لم يكن حاجة إلى ذكر قوله:( قَبْلَ مَوْتِهِ ) لارتفاع الحاجة بدونه، و كذا قوله( وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) لأنّه على هذا التقدير فضل من الكلام لا حاجة إليه.

و منها: ما ذكره بعضهم أنّ المراد بالآية: و إن من أهل الكتاب إلّا ليؤمننّ بمحمّد قبل موت ذلك الكتابيّ.

و هذا في السخافة كسابقه فإنّه لم يجر لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر في سابق الكلام حتّى يعود إليه الضمير. و لا أنّ المقام يدلّ على ذلك، فهو قول من غير دليل. نعم، ورد هذا المعنى في بعض الروايات ممّا سيمرّ بك في البحث الروائيّ التالي لكن ذلك من باب الجري كما سنشير إليه و هذا أمر كثير الوقوع في الروايات كما لا يخفى على من تتبّع فيها.

قوله تعالى: ( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ) الفاء للتفريع، و قد نكّر لفظ الظلم و كأنّه للدلالة على تفخيم أمره أو للإبهام، إذ لا يتعلّق على تشخيصه غرض مهمّ و هو بدل ممّا تقدّم ذكره من فجائعهم غير أنّه ليس بدل الكلّ من الكلّ كما ربّما قيل، بل بدل البعض من الكلّ، فإنّه تعالى جعل هذا الظلم منهم سبباً لتحريم الطيّبات عليهم، و لم تحرّم عليهم إلّا في شريعة موسى المنزلة في التوراة، و بها تختتم شريعة موسى، و قد ذكر فيما ذكر من فجائعهم و مظالمهم اُمور جرت و وقعت بعد ذلك كالبهتان على مريم و غير ذلك.

فالمراد بالظلم بعض ما ذكر من مظالمهم الفجيعة فهو السبب لتحريم ما حرّم

١٤٤

عليهم من الطيّبات بعد إحلالها.

ثمّ ضمّ إلى ذلك قوله:( وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ الله كَثِيراً ) و هو إعراضهم المتكرّر عن سبيل الله:( وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ) .

قوله تعالى: ( وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) معطوف على قوله:( حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ ) فقد استوجبوا بمظالمهم من الله جزاءين: جزاء دنيويّ عامّ و هو تحريم الطيّبات، و جزاء أخرويّ خاصّ بالكافرين منهم و هو العذاب الأليم.

قوله تعالى: ( لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ) استثناء و استدراك من أهل الكتاب، و( الرَّاسِخُونَ ) و ما عطف عليه مبتدء و( يُؤْمِنُونَ ) خبره، و قوله:( مِنْهُمْ ) متعلّق بالراسخون و( مِنْ ) فيه تبعيضيّة.

و الظاهر أنّ( الْمُؤْمِنُونَ ) يشارك( الرَّاسِخُونَ ) في تعلّق قوله:( مِنْهُمْ ) به معنىّ و المعنى: لكن الراسخون في العلم و المؤمنون بالحقيقة من أهل الكتاب يؤمنون بك و بما اُنزل من قبلك، و يؤيّده التعليل الآتي في قوله:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) إلخ، فإنّ ظاهر الآية كما سيأتي بيان أنّهم آمنوا بك لمّا وجدوا أنّ نبوّتك و الوحي الّذي أكرمناك به يماثل الوحي الّذي جاءهم به الماضون السابقون من أنبياء الله: نوح و النبيّون من بعده، و الأنبياء من آل إبراهيم، و آل يعقوب، و آخرون ممّن لم نقصصهم عليك من غير فرق.

و هذا المعنى - كما ترى - أنسب بالمؤمنين من أهل الكتاب أن يوصفوا به دون المؤمنين من العرب الّذين وصفهم الله سبحانه بقوله:( لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ ) (يس: ٦).

و قوله:( وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ) معطوف على( الرَّاسِخُونَ ) و منصوب على المدح، و مثله في العطف قوله:( وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ ) و قوله:( وَ الْمُؤْمِنُونَ بِالله وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ) مبتدء خبره قوله:( أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً ) و لو كان قوله:( وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ) مرفوعاً كما نقل عن مصحف ابن مسعود كان هو و ما عطف عليه مبتدءً خبره قوله:( أُولئِكَ ) .

١٤٥

قال في المجمع: اختلف في نصب المقيمين فذهب سيبويه و البصريّون إلى أنّه نصب على المدح على تقدير أعني المقيمين الصلاة، قالوا: إذا قلت، مررت بزيد الكريم و أنت تريد أن تعرّف زيداً الكريم من زيد غير الكريم فالوجه الجرّ، و إذا أردت المدح و الثناء فإن شئت نصبت و قلت: مررت بزيد الكريم كأنّك قلت: أذكر الكريم، و إن شئت رفعت فقلت: الكريم، على تقدير هو الكريم.

و قال الكسائيّ، موضع المقيمين جرّ، و هو معطوف( على ) ما من قوله:( بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) أي و بالمقيمين الصلاة.

و قال قوم: إنّه معطوف على الهاء و الميم من قوله( مِنْهُمْ ) على معنى: لكن الراسخون في العلم منهم و من المقيمين الصلاة، و قال آخرون: إنّه معطوف على الكاف من( قَبْلِكَ ) أي ممّا أنزل من قبلك و من قبل المقيمين الصلاة.

و قيل: إنّه معطوف على الكاف في( إِلَيْكَ ) أو الكاف في قبلك. و هذه الأقوال الأخيرة لا تجوز عند البصريّين لأنّه لا يعطف بالظاهر على الضمير المجرور من غير إعادة الجارّ.

قال: و أمّا ما روي عن عروة عن عائشة قال: سألتها عن قوله:( وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ) و عن قوله:( وَ الصَّابِئِينَ ) و عن قوله:( إِنْ هذانِ ) فقالت: يا ابن اُختي هذا عمل الكتاب أخطؤا في الكتاب، و ما روي عن بعضهم: أنّ في كتاب الله أشياء ستصلحها العرب بألسنتها، قالوا: و في مصحف ابن مسعود:( و المقيمون الصلاة) فممّا لا يلتفت إليه لأنّه لو كان كذلك لم يكن ليعلّمه الصحابة الناس على الغلط و هم القدوة و الّذين أخذوه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (انتهى).

و بالجملة قوله:( لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) استثناء من أهل الكتاب من حيث لازم سؤالهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينزّل عليهم كتاباً من السماء كما تقدّم أنّ لازم سؤالهم ذلك أن لا يكفي ما جاءهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكتاب و الحكمة المصدّقين لما اُنزل من قبله من آيات الله على أنبيائه و رسله، في دعوتهم إلى الحقّ و إثباته، مع أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأتهم إلّا مثل ما أتاهم به من قبله من الأنبياء، و لم يعش فيهم و لم يعاشرهم إلّا بما عاشوا به و عاشروا به كما قال

١٤٦

تعالى:( قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ ) (الأحقاف: ٩) و قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ - إلى أن قال -لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ ) (الأنبياء: ١٠).

فذكر الله سبحانه في فصل من القول: إنّ هؤلاء السائلين و هم أهل الكتاب ليست عندهم سجيّة اتّباع الحقّ و لا ثبات و لا عزم و لا رأي، و كم من آية بيّنة ظلموها، و دعوة حقّ صدّوا عنها، إلّا أنّ الراسخين في العلم منهم لمّا كان عندهم ثبات على علمهم و ما وضح من الحقّ لديهم، و كذا المؤمنون حقيقة منهم لمّا كان عندهم سجيّة اتّباع الحقّ يؤمنون بما اُنزل إليك و ما اُنزل من قبلك لمّا وجدوا أنّ الّذي نزّل إليك من الوحي يماثل ما نزّل من قبلك على سائر النبيّين: نوح و من بعده.

و من هنا يظهر (أوّلاً) وجه توصيف من اتّبع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل الكتاب بالراسخين في العلم و المؤمنين، فإنّ الآيات السابقة تقصّ عنهم أنّهم غير راسخين فيما علموا غير مستقرّين على شي‏ء من الحقّ و إن استوثق منهم بأغلظ المواثيق، و أنّهم غير مؤمنين بآيات الله صادّون عنها و إن جاءتهم البيّنات، فهؤلاء الّذين استثناهم الله راسخون في العلم أو مؤمنون حقيقة.

و (ثانياً) وجه ذكر ما اُنزل قبلاً مع القرآن في قوله:( يؤمنون بما اُنزل إليك و ما اُنزل من قبلك ) لأنّ المقام مقام نفي الفرق بين القبيلين.

و (ثالثاً) أنّ قوله في الآية التالية:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا ) إلخ في مقام التعليل لإيمان هؤلاء المستثنين.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) في مقام التعليل لقوله:( يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) كما عرفت آنفاً. و محصّل المعنى - و الله أعلم - أنّهم آمنوا بما اُنزل إليك لأنّا لم نؤتك أمراً مبتدعاً يختصّ من الدعاوي و الجهات بما لا يوجد عند غيرك من الأنبياء السابقين، بل الأمر على نهج واحد لا اختلاف فيه، فإنّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح و النبيّين من بعده، و نوح أوّل نبيّ

١٤٧

جاء بكتاب و شريعة، و كما أوحينا إلى إبراهيم و من بعده من آله، و هم يعرفونهم و يعرفون كيفيّة بعثتهم و دعوتهم، فمنهم من اُوتي بكتاب كداود اُوتي زبوراً و هو وحي نبويّ، و موسى اُوتي التكليم و هو وحي نبويّ، و غيرهما كإسماعيل و إسحاق و يعقوب اُرسلوا بغير كتاب، و ذلك أيضاً عن وحي نبويّ.

و يجمع الجميع أنّهم رسل مبشّرون بثواب الله منذرون بعذابه، أرسلهم الله لإتمام الحجّة على الناس ببيان ما ينفعهم و ما يضرّهم في اُخراهم و دنياهم لئلّا يكون للناس على الله حجّة بعد الرسل.

قوله تعالى: ( وَ الْأَسْباطِ) تقدّم في قوله تعالى:( وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ ) (آل عمران: ٨٤) أنّهم أنبياء من ذرّيّة يعقوب أو من أسباط بني إسرائيل.

قوله تعالى: ( وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً ) قيل إنّه بمعنى المكتوب من قولهم: زبره أي كتبه فالزبور بمعنى المزبور.

قوله تعالى: ( رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ ) أحوال ثلاثة أو الأوّل حال و الأخيران وصفان له. و قد تقدّم استيفاء البحث عن معنى إرسال الرسل و تمام الحجّة من الله على الناس، و أنّ العقل لا يغني وحده عن بعثة الأنبياء بالشرائع الإلهيّة في الكلام على قوله تعالى:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ) (سورة البقرة: ٢١٣) في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

قوله تعالى: ( وَ كانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً ) و إذا كانت له العزّة المطلقة و الحكمة المطلقة استحال أن يغلبه أحد بحجّة بل له الحجّة البالغة، قال تعالى:( قُلْ فَلله الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) (الأنعام: ١٤٩).

قوله تعالى: ( لكِنِ الله يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ ) ، استدراك آخر في معنى الاستثناء المنقطع من الردّ المتعلّق بسؤالهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تنزيل كتاب إليهم من السماء، فإنّ الّذي ذكر الله تعالى في ردّ سؤالهم بقوله:( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى‏ أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ ) (إلى آخر الآيات) لازم معناه أنّ سؤالهم مردود إليهم، لأنّ ما جاء به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوحي من ربّه لا يغاير نوعاً ما جاء به سائر النبيّين من

١٤٨

الوحي، فمن ادّعى أنّه مؤمن بما جاؤا به فعليه أن يؤمن بما جاء به من غير فرق.

ثمّ استدرك عنه بأنّ الله مع ذلك يشهد بما أنزل على نبيّه و الملائكة يشهدون و كفى بالله شهيداً.

و متن شهادته قوله:( أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) فإنّ مجرّد النزول لا يكفي في المدّعى، لأنّ من أقسام النزول النزول بوحي من الشياطين، بأن يفسد الشيطان أمر الهداية الإلهيّة فيضع سبيلاً باطلاً مكان سبيل الله الحقّ، أو يخلط فيدخل شيئاً من الباطل في الوحي الإلهيّ الحقّ فيختلط الأمر، كما يشير إلى نفيه بقوله:( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ عَدَداً ) (الجنّ: ٢٨) و قال تعالى:( وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى‏ أَوْلِيائِهِمْ ) (الأنعام. ١٢١).

و بالجملة فالشهادة على مجرّد النزول أو الإنزال لا يخرج الدعوى عن حال الإبهام لكن تقييده بقوله:( بِعِلْمِهِ ) يوضح المراد كلّ الوضوح، و يفيد أنّ الله سبحانه أنزله إلى رسوله و هو يعلم ما ذا ينزل، و يحيط به و يحفظه من كيد الشياطين.

و إذا كانت الشهادة على الإنزال و الإنزال إنّما هو بواسطة الملائكة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) (البقرة: ٩٧) و قال تعالى في وصف هذا الملك المكرّم:( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) (التكوير: ٢١) فدلّ على أنّ تحت أمره ملائكة اُخرى و هم الّذين ذكرهم إذ قال:( كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ ) (عبس: ١٦).

و بالجملة لكون الملائكة وسائط في الإنزال فهم أيضاً شهداء كما أنّه تعالى شهيد و كفى بالله شهيداً.

و الدليل على شهادته تعالى ما أنزله في كتابه من آيات التحدّي كقوله تعالى:( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى‏ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) (إسراء: ٨٨) و قوله:( أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ

١٤٩

عِنْدِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) (النساء: ٨٢)، و قوله:( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ الله ) (يونس. ٣٨).

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً ) لمّا ذكر تعالى الحجّة البالغة في رسالة نبيّه و نزول كتابه من عندالله، و أنّه من سنخ الوحي الّذي اُوحي إلى النبيّين من قبله و أنّه مقرون بشهادته و شهادة ملائكته و كفى به شهيداً حقّق ضلال من كفر به و أعرض عنه كائنا من كان من أهل الكتاب.

و في الآية تبديل الكتاب الّذي كان الكلام في نزوله من عندالله بسبيل الله حيث قال:( وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله ) و فيه إيجاز لطيف كأنّه قيل: إنّ الّذين كفروا و صدّوا عن هذا الكتاب و الوحي الّذي يتضمّنه فقد كفروا و صدّوا عن سبيل الله و الّذين كفروا و صدّوا عن سبيل الله إلخ.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ ) إلخ تحقيق و تثبيت آخر مقامه التأكيد من الآية السابقة، و على هذا يكون المراد بالظلم هو الصدّ عن سبيل الله كما هو ظاهر.

و يمكن أن يكون الآية في مقام التعليل بالنسبة إلى الآية السابقة، يبيّن فيها وجه ضلالهم البعيد و المعنى ظاهر.

( بحث روائي)

و في تفسير البرهان، في قوله تعالى:( وَ قَوْلِهِمْ عَلى‏ مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً ) عن ابن بابويه بإسناده عن علقمة عن الصادقعليه‌السلام في حديث قال: أ لم ينسبوا مريم بنت عمران إلى أنّها حملت بصبيّ من رجل نجّار اسمه يوسف؟

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) (الآية): قال: حدّثني أبي، عن القاسم بن محمّد عن سليمان بن داود المنقريّ، عن أبي حمزة، عن شهر بن حوشب: قال لي الحجّاج: يا شهر آية في كتاب الله قد أعيتني فقلت: أيّها الأمير أيّة آية هي؟ فقال: قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) و الله

١٥٠

إنّي لأمر باليهوديّ و النصرانيّ فيضرب عنقه ثمّ أرمقه بعيني فما أراه يحرّك شفتيه حتّى يخمد، فقلت: أصلح الله الأمير ليس على ما أوّلت قال: كيف هو: قلت: إنّ عيسى ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا، فلا يبقى أهل ملّة يهوديّ و لا غيره إلّا آمن به قبل موته، و يصلّي خلف المهديّ قال: ويحك أنّى لك هذا؟ و من أين جئت به؟ فقلت: حدّثني به محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالبعليهم‌السلام فقال: و الله جئت بها من عين صافية.

و في الدرّ المنثور: أخرج ابن المنذر عن شهر بن حوشب قال: قال لي الحجّاج: يا شهر آية من كتاب الله ما قرأتها إلّا اعترض في نفسي منها شي‏ء قال الله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) و إنّي اُوتي بالاُسارى فأضرب أعناقهم و لا أسمعهم يقولون شيئاً، فقلت: رفعت إليك على غير وجهها، إنّ النصرانيّ إذا خرجت روحه ضربته الملائكة من قبله و من دبره و قالوا: أي خبيث إنّ المسيح الّذي زعمت أنّه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة عبدالله و روحه و كلمته فيؤمن حين لا ينفعه إيمانه، و إنّ اليهوديّ إذا خرجت نفسه ضربته الملائكة من قبله و من دبره، و قالوا: أي خبيث إنّ المسيح الّذي زعمت أنّك قتلته، عبدالله و روحه فيؤمن به حين لا ينفعه الإيمان، فإذا كان عند نزول عيسى آمنت به أحياؤهم كما آمنت به موتاهم: فقال: من أين أخذتها؟ فقلت: من محمّد بن عليّ قال: لقد أخذتها من معدنها. قال شهر: و أيم الله ما حدّثنيه إلّا اُمّ سلمة، و لكنّي اُحببت أن اُغيظه.

أقول: و رواه أيضاً ملخّصاً عن عبد بن حميد و ابن المنذر، عن شهر بن حوشب، عن محمّد بن عليّ بن أبي طالب و هو ابن الحنفيّة، و الظاهر أنّه روى عن محمّد بن عليّ، ثمّ اختلف الرواة في تشخيص ابن الحنفيّة أو الباقرعليه‌السلام ، و الرواية - كما ترى - تؤيّد ما قدّمناه في بيان معنى الآية.

و فيه، أخرج أحمد و البخاريّ و مسلم و البيهقيّ في الأسماء و الصفات قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم و إمامكم منكم؟.

و فيه: أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يوشك أن

١٥١

ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً يقتل الدجّال، و يقتل الخنزير، و يكسر الصليب، و يضع الجزية، و يقبض المال، و تكون السجدة واحدة لله ربّ العالمين، و اقرؤا إن شئتم:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) موت عيسى بن مريم. ثمّ يعيدها أبو هريرة ثلاث مرّات.

أقول: و الروايات في نزول عيسىعليه‌السلام عند ظهور المهديّعليه‌السلام مستفيضة من طرق أهل السنّة، و كذا من طرق الشيعة عن النبيّ و الأئمّة من أهل بيته عليهم الصلاة و السلام.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الحارث بن مغيرة: عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) قال: هو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: ظاهره و إن كان مخالفاً لظاهر سياق الآيات المتعرّضة لأمر عيسىعليه‌السلام لكن يمكن أن يراد به بيان جري القرآن، بمعنى أنّه بعد ما بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و جاء بكتاب و شريعة ناسخة لشريعة عيسى كان على كلّ كتابيّ أن يؤمن به و يؤمن بعيسى و من قبله في ضمن الإيمان به، فلو انكشف لكتابيّ عند الاحتضار مثلاً حقّيّة رسالة عيسى بعد بعثة رسول الله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّما ينكشف في ضمن انكشاف حقّيّة رسالة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإيمان كلّ كتابيّ لعيسىعليه‌السلام إنّما يعدّ إيماناً إذا آمن بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصالة و بعيسىعليه‌السلام تبعاً، فالّذي يؤمن به كلّ كتابيّ حقيقة و يكون عليهم يوم القيامة شهيداً هو محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد بعثته، و إن كان عيسىعليه‌السلام كذلك أيضاً فلا منافاة، و الخبر التالي لا يخلو من ظهور مّا في هذا المعنى.

و فيه، عن ابن سنان عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله في عيسى:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) فقال: إيمان أهل الكتاب إنّما هو لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيه، عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) قال: ليس من أحد من جميع الأديان

١٥٢

يموت إلّا رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أميرالمؤمنينعليه‌السلام حقّاً من الأوّلين و الآخرين.

أقول: و كون الرواية من الجري أظهر. على أنّ الرواية غير صريحة في كون ما ذكرهعليه‌السلام ناظراً إلى تفسير الآية و تطبيقها، فمن المحتمل أن يكون كلاماً اُورد في ذيل الكلام على الآية و لذلك نظائر في الروايات.

و فيه، عن المفضّل بن عمر قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) ، فقال: هذه نزلت فينا خاصّة، إنّه ليس رجل من ولد فاطمة يموت و لا يخرج من الدنيا حتّى يقرّ للإمام و بإمامته، كما أقرّ ولد يعقوب ليوسف حين قالوا:( تَالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنا ) .

أقول: الرواية من الآحاد، و هي مرسلة، و في معناها روايات مرويّة في ذيل قوله تعالى:( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ الله ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) (فاطر: ٣٢) سنستوفي الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

و فيه، في قوله تعالى:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) (الآية): عن زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّي أوحيت إليك كما أوحيت إلى نوح و النبيّين من بعده فجمع له كلّ وحي.

أقول: الظاهر أنّ المراد أنّه لم يشذّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سنخ الوحي ما يوجب تفرّق السبيل و تفاوت الدعوة، لا أنّ كلّ ما اُوحي به إلى نبيّ على خصوصيّاته فقد اُوحي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهذا ممّا لا معنى له، و لا أنّ ما اُوحي إليك جامع لجميع الشرائع السابقة، فإنّ الكلام في الآية غير موضوع لإفادة هذا المعنى، و يؤيّد ما ذكرناه من المعنى الخبر التالي.

و في الكافي، بإسناده عن محمّد بن سالم عن أبي جعفرعليه‌السلام : قال الله لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) ، و أمر كلّ نبيّ بالسبيل و السنّة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الثماليّ عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: و كان بين آدم و بين نوح

١٥٣

من الأنبياء مستخفين و مستعلنين، و لذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسمّوا كما سمّي من استعلن من الأنبياء، و هو قول الله عزّوجلّ:( وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ الله مُوسى‏ تَكْلِيماً ) يعني لم اُسمّ المستخفين كما سمّيت المستعلنين من الأنبياء.

أقول: و رواه في الكافي، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن محمّد بن الفضيل، عن أبي حمزة عنهعليه‌السلام ، و فيه: من الأنبياء مستخفين، و لذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسمّوا كما سمّي من استعلن من الأنبياء، و هو قول الله عزّوجلّ:( رُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ) يعني لم اُسمّ المستخفين كما سمّيت المستعلنين من الأنبياء (الحديث).

و المراد بالرواية على أيّ حال أنّ الله تعالى لم يذكر قصّة المستخفين أصلاً و لا سمّاهم، كما قصّ بعض قصص المستعلنين و سمّى من سمّى منهم. و من الجائز أن يكون قوله:( يعني لم أسمّ) إلخ من كلام الراوي.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي حمزة الثماليّ قال: سمعت أباجعفرعليه‌السلام يقول: لكن الله يشهد بما أنزل إليك في عليّ أنزله بعلمه و الملائكة يشهدون و كفى بالله شهيداً.

أقول: و روى هذا المعنى القمّيّ في تفسيره مسنداً عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام و هو من قبيل الجري و التطبيق فإنّ من القرآن ما نزل في ولايتهعليه‌السلام ، و ليس المراد به تحريف الكتاب و لا هو قراءة منهعليه‌السلام .

و نظيره ما رواه في الكافي، و تفسير العيّاشيّ، عن أبي جعفرعليه‌السلام ، و القمّيّ في تفسيره، عن أبي عبداللهعليه‌السلام : إنّ الّذينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا آل محمّد حقهم لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ (الآية

و ما رواه في المجمع، عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله( قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ ) أي بولاية من أمر الله بولايته.

١٥٤

( سورة النساء الآيات ١٧٠ - ١٧٥)

يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرّسُولُ بِالحَقّ مِن رَبّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنّ للّهِ‏ِ مَا فِي السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً( ١٧٠) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى‏ اللّهِ إِلّا الْحَقّ إِنّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى‏ ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى‏ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنّمَا اللّهُ إِلهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السّماوَاتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفَى‏ بِاللّهِ وَكِيلاً( ١٧١) لَن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للّهِ‏ِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً( ١٧٢) فَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِن فَضْلِهِ وَأَمّا الّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً( ١٧٣) يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِن رَبّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً( ١٧٤) فَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً( ١٧٥)

( بيان)

بعد ما أجاب عمّا اقترحه أهل الكتاب من سؤالهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تنزيل كتاب من السماء ببيان أنّ رسوله إنّما جاء بالحقّ من عند ربّه، و أنّ الكتاب الّذي جاء به من عند ربّه حجّة قاطعة لا ريب فيها استنتج منه صحّة دعوة الناس كافة إلى نبيّه و كتابه.

١٥٥

و قد كان بيّن فيما بيّن أنّ جميع رسله و أنبيائه - و قد ذكر فيهم عيسى - على سنّة واحدة متشابهة الأجزاء و الأطراف، و هي سنّة الوحي من الله فاستنتج منه صحّة دعوة النصارى و هم أهل كتاب و وحي إلى أن لا يغلوا في دينهم، و أن يلحقوا بسائر الموحّدين من المؤمنين، و يقرّوا في عيسى بما أقرّوا به هم و غيرهم في سائر الأنبياء أنّهم عباد الله و رسله إلى خلقه.

فأخذ تعالى يدعو الناس كافّة إلى الإيمان برسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ المبيّن أوّلاً هو صدق نبوّته في قوله:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) (الآيات).

ثمّ دعا إلى عدم الغلوّ في حقّ عيسىعليه‌السلام لأنّه المتبيّن ثانياً في ضمن الآيات المذكورة.

ثمّ دعا إلى اتّباع كتابه و هو القرآن الكريم لأنّه المبيّن أخيراً في قوله تعالى:( لكِنِ الله يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) (الآية).

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ ) ، خطاب عامّ لأهل الكتاب و غيرهم من الناس كافّة، متفرّع على ما مرّ من البيان لأهل الكتاب، و إنّما عمّم الخطاب لصلاحيّة المدعوّ إليه و هو الإيمان بالرسول كذلك لعموم الرسالة.

و قوله:( خَيْراً لَكُمْ ) حال من الإيمان و هي حال لازمة أي حال كون الإيمان من صفته اللّازمة أنّه خير لكم.

و قوله:( وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) ، أي إن تكفروا لم يزد كفركم عليكم شيئاً، و لا ينقص من الله سبحانه شيئاً، فإنّ كلّ شي‏ء ممّا في السماوات و الأرض لله فمن المحال أن يسلب منه تعالى شي‏ء من ملكه فإنّ في طباع كلّ شي‏ء ممّا في السماوات و الأرض أنّه لله لا شريك له فكونه موجوداً و كونه مملوكاً شي‏ء واحد بعينه، فكيف يمكن أن ينزع من ملكه تعالى شي‏ء و هو شي‏ء؟.

و الآية من الكلمات الجامعة الّتي كلّما أمعنت في تدبّرها أفادت زيادة لطف

١٥٦

في معناها و سعة عجيبة في تبيانها، فإحاطة ملكه تعالى على الأشياء و آثارها تعطي في الكفر و الإيمان و الطاعة و المعصية معاني لطيفة، فعليك بزيادة التدبّر فيها.

قوله تعالى: ( يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى الله إِلَّا الْحَقَّ ) ، ظاهر الخطاب بقرينة ما يذكر فيه من أمر المسيحعليه‌السلام أنّه خطاب للنصارى، و إنّما خوطبوا بأهل الكتاب - و هو وصف مشترك - إشعاراً بأنّ تسمّيهم بأهل الكتاب يقتضي أن لا يتجاوزوا حدود ما أنزله الله و بيّنه في كتبه، و ممّا بيّنه أن لا يقولوا عليه إلّا الحقّ.

و ربّما أمكن أن يكون خطاباً لليهود و النصارى جميعاً، فإنّ اليهود أيضاً كالنصارى في غلوّهم في الدّين، و قولهم على الله غير الحقّ، كما قال تعالى:( وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله ) التوبة: ٣٠، و قال تعالى:( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ الله ) (التوبة: ٣١)، و قال تعالى:( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى‏ كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ - إلى أن قال -وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ الله ) (آل عمران: ٦٤).

و على هذا فقوله:( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله ) إلخ تخصيص في الخطاب بعد التعميم أخذاً بتكليف طائفة من المخاطبين بما يخصّ بهم.

هذا، لكن يبعّده أنّ ظاهر السياق كون قوله:( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله ) ، تعليلاً لقوله:( لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ) ، و لازمه اختصاص الخطاب بالنصارى و قوله:( إِنَّمَا الْمَسِيحُ ) أي المبارك( عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) تصريح بالاسم و اسم الاُمّ ليكون أبعد من التفسير و التأويل بأيّ معنى مغاير، و ليكون دليلاً على كونه إنساناً مخلوقاً كأي إنسان ذي اُمّ:( وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ ) تفسير لمعنى الكلمة، فإنّه كلمة( كن ) الّتي اُلقيت إلى مريم البتول، لم يعمل في تكوّنه الأسباب العاديّة كالنكاح و الأب، قال تعالى:( إِذا قَضى‏ أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (آل عمران: ٤٧) فكلّ شي‏ء كلمة له تعالى غير أنّ سائر الأشياء مختلطة بالأسباب العاديّة، و الّذي اختصّ لأجله عيسىعليه‌السلام بوقوع اسم الكلمة هو فقدانه بعض الأسباب العاديّة في تولّده( وَ رُوحٌ مِنْهُ ) و الروح من الأمر، قال تعالى:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) (إسراء: ٨٥) و لمّا

١٥٧

كان عيسىعليه‌السلام كلمة( كن ) التكوينيّة و هي أمر فهو روح.

و قد تقدّم البحث عن الآية في الكلام على خلقة المسيح في الجزء الثالث من هذا الكتاب.

قوله تعالى: ( فَآمِنُوا بِالله وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا الله إِلهٌ واحِدٌ ) تفريع على صدر الكلام بما أنّه معلّل بقوله:( إِنَّمَا الْمَسِيحُ ) إلخ أي فإذا كان كذلك وجب عليكم الإيمان على هذا النحو، و هو أن يكون إيماناً بالله بالربوبيّة و لرسله - و منهم عيسى - بالرسالة، و لا تقولوا ثلاثة انتهوا حال كون الانتهاء أو حال كون الإيمان بالله و رسله و نفي الثلاثة خيراً لكم.

و الثلاثة هم الأقانيم الثلاثة: الأب و الابن و روح القدس، و قد تقدّم البحث عن ذلك في الآيات النازلة في أمر المسيحعليه‌السلام من سورة آل عمران.

قوله تعالى: ( سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) ، السبحان مفعول مطلق مقدّر الفعل، يتعلّق به قوله:( أَنْ يَكُونَ ) ، و هو منصوب بنزع الخافض، و التقدير: اُسبّحه تسبيحاً و اُنزّهه تنزيهاً من أن يكون له ولد، و الجملة اعتراض مأتّي به للتعظيم.

و قوله:( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) حال أو جملة استيناف، و هو على أيّ حال احتجاج على نفي الولد عنه سبحانه، فإنّ الولد كيفما فرض هو الّذي يماثل المولّد في سنخ ذاته متكوّناً منه، و إذا كان كلّ ما في السماوات و الأرض مملوكاً في أصل ذاته و آثاره لله تعالى و هو القيّوم لكلّ شي‏ء وحده فلا يماثله شي‏ء من هذه الأشياء فلا ولد له.

و المقام مقام التعميم لكلّ ما في الوجود غير الله عزّ اسمه و لازم هذا أن يكون قوله:( ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) تعبيراً كنائيّاً عن جميع ما سوى الله سبحانه إذ نفس السماوات و الأرض مشمولة لهذه الحجّة، و ليست ممّا في السماوات و الأرض بل هي نفسها.

ثمّ لمّا كان ما في الآية من أمر و نهي هداية عامّة لهم إلى ما هو خير لهم في

١٥٨

دنياهم و اُخراهم ذيل الكلام بقوله:( وَ كَفى‏ بِالله وَكِيلًا ) أي وليّاً لشؤنكم، مدبّراً لاُموركم، يهديكم إلى ما هو خير لكم و يدعوكم إلى صراط مستقيم.

قوله تعالى: ( يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لله وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) احتجاج آخر على نفي اُلوهيّة المسيحعليه‌السلام مطلقاً سواء فرض كونه ولداً أو أنّه ثالث ثلاثة، فإنّ المسيح عبد لله لن يستنكف أبداً عن عبادته، و هذا ممّا لا ينكره النصارى، و الأناجيل الدائرة عندهم صريحة في أنّه كان يعبدالله تعالى، و لا معنى لعبادة الولد الّذي هو سنخ إله و لا لعبادة الشي‏ء لنفسه و لا لعبادة أحد الثلاثة لثالثها الّذي ينطبق وجوده على كلّ منها، و قد تقدّم الكلام على هذا البرهان في مباحث المسيحعليه‌السلام .

و قوله:( لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) تعميم للكلام على الملائكة لجريان الحجّة بعينها فيهم و قد قال جماعة من المشركين - كمشركي العرب -: بكونهم بنات الله فالجملة استطراديّة.

و التعبير في الآية أعني قوله:( يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) عن عيسىعليه‌السلام بالمسيح، و كذا توصيف الملائكة بالمقرّبين مشعر بالعلّيّة لما فيهما من معنى الوصف، أي إنّ عيسى لن يستنكف عن عبادته و كيف يستنكف و هو مسيح مبارك؟ و لا الملائكة و هم مقرّبون؟ و لو رجي فيهم أن يستنكفوا لم يبارك الله في هذا و لا قرّب هؤلاء، و قد وصف الله المسيح أيضاً بأنّه مقرّب في قوله:( وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) (آل عمران: ٤٥).

قوله تعالى: ( مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً ) حال من المسيح و الملائكة و هو في موضع التعليل أي و كيف يستنكف المسيح و الملائكة المقرّبون عن عبادته و الحال أنّ الّذين يستنكفون عن عبادته و يستكبرون من عباده من الإنس و الجنّ و الملائكة يحشرون إليه جميعاً، فيجزون حسب أعمالهم، و المسيح و الملائكة يعلمون ذلك و يؤمنون به و يتّقونه.

و من الدليل على أنّ قوله:( مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ ) إلخ في معنى أنّ المسيح و الملائكة المقرّبين عالمون بأن المستنكفين يحشرون إليه قوله:( يَسْتَكْبِرْ )

١٥٩

إنّما قيّد به قوله:( مَنْ يَسْتَنْكِفْ ) لأنّ مجرّد الاستنكاف لا يوجب السخط الإلهيّ إذا لم يكن عن استكبار كما في الجهلاء و المستضعفين، و أمّا المسيح و الملائكة فإنّ استنكافهم لا يكون إلّا عن استكبار لكونهم عالمين بمقام ربّهم، و لذلك اكتفى بذكر الاستنكاف فحسب فيهم، فيكون معنى تعليل هذا بقوله:( مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ ) ، أنّهم عالمون بأنّ من يستنكف عن عبادته إلخ.

و قوله:( جمِيعاً ) أي صالحاً و طالحاً و هذا هو المصحّح للتفضيل الّذي يتلوه من قوله:( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً ) التعرّض لنفي الوليّ و النصير مقابلة لما قيل به من اُلوهيّة المسيح و الملائكة.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ) قال الراغب: البرهان بيان للحجّة، و هو فعلان مثل الرجحان و الثنيان. و قال بعضهم: هو مصدر بره يبره إذا ابيضّ. انتهى، فهو على أيّ حال مصدر. و ربّما استعمل بمعنى الفاعل كما إذا اُطلق على نفس الدليل و الحجّة.

و المراد بالنور هو القرآن لا محالة بقرينة قوله:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ ) و يمكن أن يراد بالبرهان أيضاً ذلك، و الجملتان إذا تؤكّد إحداهما الاُخرى.

و يمكن أن يراد به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و يؤيّده وقوع الآية في ذيل الآيات المبيّنة لصدق النبيّ في رسالته، و نزول القرآن من عندالله تعالى، و كون الآية تفريعاً لذلك و يؤيّده أيضاً قوله تعالى في الآية التالية:( وَ اعْتَصَمُوا بِهِ ) لما تقدّم في الكلام على قوله:( وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِالله فَقَدْ هُدِيَ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (آل عمران. ١٠١) أنّ المراد بالاعتصام الأخذ بكتاب الله و الاتّباع لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَ اعْتَصَمُوا بِهِ ) ، بيان لثواب من اتّبع برهان ربّه و النور النازل من عنده.

و الآية كأنّها منتزعة من الآية السابقة المبيّنة لثواب الّذين آمنوا و عملوا الصالحات أعني قوله:( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418