الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 406

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 406
المشاهدات: 109321
تحميل: 5904


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 109321 / تحميل: 5904
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 10

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ) التنجية والإنجاء تفعيل وإفعال من النجاة كالتخليص الإخلاص من الخلاص وزناً ومعنى.

وتنجيته ببدنه تدلّ على أنّ له أمراً آخر وراء البدن فقده بدنه بغشيان العذاب وهو النفس الّتى تسمّى أيضاً روحاً، وهذه النفس المأخوذة هي الّتى يتوفّاها الله ويأخذها حين موتها كما قال تعالى:( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) الزمر: ٤٢، وقال:( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) الم السجدة: ١١، وهى الّتى يخبر عنها الإنسان بقوله:( أنا ) وهى الّتى بها تتحقّق للإنسان إنسانيّتة، وهى الّتى تدرك وتريد وتفعل الأفعال الإنسانيّة بواسطة البدن بما له من القوى والأعضاء المادّيّة، وليس للبدن إلّا أنّه آلة وأداة تعمل بها النفس أعمالها المادّيّة.

ولمكان الاتّحاد الّذى بينها وبين البدن يسمّى بإسمها البدن وإلّا فأسماء الأشخاص في الحقيقة لنفوسهم لا لأبدانهم، وناهيك في ذلك التغيّر المستمرّ الّذى يعرض البدن مدّة الحياة، والتبدّل الطبيعيّ الّذى يطرء عليه حينا بعد حين حتّى ربّما تبدّل البدن بجميع أجزائه إلى أجزاء اُخر تتركّب بدنا آخر فلو كان زيد هو البدن الّذى ولدته اُمّه يوم ولدته والاسم له لكان غيره وهو ذو سبعين وثمانين قطعاً والاسم لغيره حتماً، ولم يثب ولم يعاقب الإنسان وهو شائب على ما عمله وهو شابّ لأنّ الطاعة والمعصية لغيره.

فهذه وأمثالها شواهد قطعيّة على أنّ إنسانيّة الإنسان بنفسه دون بدنه، والأسماء للنفوس لا للأبدان يدركها الإنسان ويعرفها إجمالاً وإن كان ربّما أنكرها في مقام التفصيل.

وبالجملة فالآية:( الْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ ) كالصريح أو هو صريح في أنّ النفوس وراء الأبدان، وأنّ الأسماء للنفوس دون الأبدان إلّا ما يطلق على الأبدان بعناية الاتّحاد.

فمعنى( نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ ) نخرج بدنك من اليمّ وننجّيه، وهو نوع من تنجيتك - لما بين النفس والبدن من الاتّحاد القاضى بكون العمل الواقع على أحدهما واقعاً

١٢١

بنحو على الآخر - لتكون لمن خلفك آية، وهذا بوجه نظير قوله تعالى:( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ) طه: ٥٥ فإنّ الّذى يعاد إلى الأرض هو جسد الإنسان دون الإنسان التامّ فليست نسبة الإعادة إلى الإنسان إلّا لما بين نفسه وبدنه من الاتّحاد.

وقد ذكر المفسّرون أنّ الإنجاء والتنجية لمّا كان دالّاً بلفظه على سلامة الّذى اُنجى إنجاء كان مفاد قوله:( نُنَجِّيكَ ) أن يكون فرعون خارجاً من اليمّ حيّاً وقد أخرجه الله ميّتاً فالمتعيّن أخذ قوله:( نُنَجِّيكَ ) من النجوة وهى الأرض المرتفعة الّتى لا يعلوها السيل، والمعنى اليوم نخرج بدنك إلى نجوة من الأرض.

وربّما قال بعضهم: إنّ المراد بالبدن الدرع، وقد كان لفرعون درع من ذهب يعرف به فأخرجه الله فوق الماء بدرعه ليكون لمن خلفه آية وعبرة، وربّما قال بعضهم إنّ التعبير بالتنجية تهكّم به.

والحقّ أنّ هذا كلّه تكلّف لا حاجة إليه، ولم يقل:( نُنَجِّيكَ ) وإنّما قيل( نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ ) ومعناه ننجّي بدنك، والباء للآليّة أو السببيّة، والعناية هي الاتّحاد الّذى بين النفس والبدن.

على أنّ جعل( نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ ) بمعنى نجعلك على نجوة من الأرض لا يفى بدفع الإشكال من أصله فإنّ الّذى جعل على نجوة هو بدن فرعون على قولهم، وهو غير فرعون قطعاً وإلّا كان حيّاً سالماً، ولا مناص إلّا أن يقال: إنّ ذلك بعناية الاتّحاد الّذى بين الإنسان وبدنه، ولو صحّحت هذه العناية إطلاق اسم الإنسان على بدنه من غير نفس لكان لها أن تصحّح نسبة التنجية إلى الإنسان من جهة وقوع التنجية ببدنه، وخاصّة مع وجود القرينة الدالّة على أنّ المراد بالتنجية هي الّتى للبدن دون الّتى للإنسان المستتبع لحفظ حياته وسلامته نفساً وبدناً، والقرينة هي قوله:( بِبَدَنِكَ ) .

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ) أي أسكنّاهم مسكن صدق، وإنّما يضاف الشئ إلى الصدق نحو وعد صدق وقدم

١٢٢

صدق ولسان صدق ومدخل صدق ومخرج صدق للدلالة على أنّ لوازم معناه وآثاره المطلوبة منه موجودة فيه صدقاً من غير أن يكذب في شئ من آثاره الّتى يعدها بلسان دلالته الالتزاميّة لطالبه فوعد صدق مثلاً هو الوعد الّذى سيفى به واعده، ويسرّ بالوفاء به موعوده، ويحقّ أن يطمع فيه ويرجى وقوعه. فإن لم يكن كذلك فليس بوعد صدق بل وعد كذب كأنّه يكذب في معناه ولوازم معناه.

وعلى هذا فقوله:( مُبَوَّأَ صِدْقٍ ) يدلّ على أنّ الله سبحانه بوّأهم مبوّءاً يوجد فيه جميع ما يطلبه الإنسان من المسكن من مقاصد السكنى كطيب الماء والهواء وبركات الأرض ووفور نعمها والاستقرار فيها وغير ذلك، وهذه هي نواحى بيت المقدس والشام الّتى أسكن الله بنى إسرائيل فيها وسمّاها الأرض المقدّسة المباركة وقد قصّ القرآن دخولهم فيها.

وأمّا قول بعضهم: إنّ المراد بهذا المبوّء مصر دخلها بنو إسرائيل واتّخذوا فيها بيوتاً فأمر لم يذكره القرآن. على أنّهم لو فرض دخولهم فيها ثانياً لم يستقرّوا فيها استقرارا مستمرّاً، وتسمية ما هذا شأنه مبوّء صدق ممّا لا يساعد عليه معنى اللّفظ.

والآية أعنى قوله:( وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ - إلى قوله -مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ) مسوقة سوق الشكوى والعتبى، ويشهد به تذييلها بقوله:( فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّىٰ جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ) ، وقوله:( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ ) إلى آخر الآية بيان لعاقبة اختلافهم عن علم وبمنزلة أخذ النتيجة من القصّة.

والمعنى: أنّا أتممنا على بنى إسرائيل النعمة وبوّأناهم مبوّء صدق ورزقناهم من الطيّبات بعد حرمانهم من ذلك مدّة طويلة كانوا فيها في أسارة القبط فوحّدنا شعبهم وجمعنا شملهم فكفروا النعمة وفرّقوا الكلمة واختلفوا في الحقّ، ولم يكن اختلافهم عن عذر الجهل وإنّما اختلفوا عن علم إنّ ربّك يقضى بينهم فيما كانوا فيه يختلفون.

١٢٣

( سورة يونس آية ٩٤ - ١٠٣)

فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ( ٩٤) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ( ٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ( ٩٦) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ( ٩٧) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ( ٩٨) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ( ٩٩) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ( ١٠٠) قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ( ١٠١) فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ( ١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ( ١٠٣)

( بيان)

تتضمّن الآيات الاستشهاد على حقّيّة ما أنزله الله في السورة من المعارف الراجعة إلى المبدء والمعاد وما قصّه من قصص الأنبياء واُممهم - ومنهم نوح وموسى ومن بينهما من الأنبياءعليهم‌السلام واُممهم - إجمالاً بما قرأه أهل الكتب السماويّة فيها قبل نزول القرآن على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٢٤

ثمّ تذكر ما هو كالفذلكة والمعنى المحصّل من البيانات السابقة وهو أنّ الناس لن يملكوا من أنفسهم أن يؤمنوا بالله وآياته إلّا بإذن الله، وإنّما يأذن الله في إيمان من لم يطبع على قلبه ولم يجعل الرجس عليه وإلّا فمن حقّت عليه كلمة الله لن يؤمن بالله وآياته حتّى يرى العذاب.

فالسنّة الجارية أنّ الناس منذ خلقوا واختلفوا بين مكذّب بآيات الله ومصدّق لها، وقد جرت سنّة الله على أن يقضى فيهم بالحقّ بعد مجيئ رسلهم إليهم فينجّى الرسل والمؤمنين بهم، ويأخذ غيرهم بالهلاك.

قوله تعالى: ( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ) إلى آخر الآية الشكّ الريب، والمراد بقوله:( مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ) المعارف الراجعة إلى المبدء والمعاد والسنّة الإلهيّة في القضاء على الاُمم ممّا تقدّم في السورة، وقوله:( يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ) ( يَقْرَءُونَ ) فعل مضارع استعمل في الاستمرار( مِن قَبْلِكَ ) حال من الكتاب عامله متعلّقة المقدّر، والتقدير منزلا من قبلك. كلّ ذلك على ما يعطيه السياق.

والمعنى( فَإِن كُنتَ ) أيّها النبيّ( في ريب) وشكّ( مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ) من المعارف الراجعة إلى المبدء والمعاد وما قصصنا عليك إجمالاً من قصص الأنبياء الحاكية لسنّة الله الجارية في خلقه من الدعوة أوّلاً ثمّ القضاء بالحقّ( فَاسْأَلِ ) أهل الكتاب( الَّذِينَ ) لا يزالون( يَقْرَءُونَ ) جنس( الْكِتَابَ ) منزلاً من السماء( مِن قَبْلِكَ ) اُقسم( لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) المتردّدين.

وهذا لا يستلزم وجود ريب في قلب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا تحقّق شكّ منه فإنّ هذا النوع من الخطاب كما يصحّ أن يخاطب من يجوز عليه الريب والشكّ كذلك يصحّ أن يخاطب به من هو على يقين من القول وبيّنة من الأمر على نحو التكنية عن كون المعنى الّذى أخبر به المخبر ممّا تعاضدت عليه الحجج وتجمّعت عليه الآيات فإن فرض من المخاطب أو السامع شكّ في واحدة منها كان له أن يأخذ بالاُخرى.

١٢٥

وهذه طريقة شائعة في عرف التخاطب والتفاهم يأخذ بها العقلاء فيما بينهم جرياً على ما تدعوهم إليه قرائحهم ترى الواحد منهم يقيم الحجّة على أمر من الاُمور ثمّ يقول: فإن شككت في ذلك أو سلّمنا أنّها لا توجب المطلوب فهناك حجّة اُخرى على ذلك وهى أنّ كذا كذا، وذلك كناية عن أنّ الحجج متوفّرة متعاضدة كالدعائم المضروبة على ما لا يحتاج إلى أزيد من واحد منها لكنّ الغرض من تكثيرها هو أن تكون العريشة قائمة عليها على تقدير قيام الكلّ والبعض.

فيؤل معنى الكلام إلى أنّ هذه معارف بيّنها الله لك بحجج تضطرّ العقول إلى قبولها وقصص تحكى سنّة الله في خلقه والآثار تدلّ عليها، بيّنها في كتاب لا ريب فيه، فعلى ما بيّنه حجّة وهناك حجّة اُخرى وهى أنّ أهل الكتب السماويّة الموفين لها حقّ قراءتها يجدون ذلك فيما يقرؤونه من الكتاب فهناك مبدء ومعاد، وهناك دين إلهىّ بعث به رسله يدعون إليه، ولم يدعوا اُمّة من الاُمم إلّا انقسموا قبيلين مؤمن ومكذّب فأنزل الله آية فاصلة بين الحقّ والباطل وقضى بينهم.

وهذا أمر لا يسع أهل الكتاب أن ينكروه، وإنّما كانوا ينكرون بشارات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعض ما يختصّ به الإسلام من المعارف وماغيّروه في الكتب من الجزئيّات، ومن لطيف الإشارة أنّ الله سبحانه لم يذكر في القصص المذكورة في هذه السورة قصّة هود وصالح لعدم تعرّض التوراة الموجودة عندهم لقصّتهما وكذا قصّة شعيب وقصّة المسيح لعدم توافق أهل الكتاب عليها وليس إلّا لمكان أن يستشهد في هذه الآية بما لا يمتنعون من تصديقه.

فهذه الآية في إلقاء الحجّة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزانها وزان قوله تعالى:( أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) الشعراء: ١٩٧ في إلقاء الحجّة إلى الناس.

على أنّ السورة من أوائل السور النازلة بمكّة، ولم تشتدّ الخصومة يومئذ بين المسلمين وأهل الكتاب وخاصّة اليهود اشتدادها بالمدينة، ولم يركبوا بعد من العناد واللجاج ذاك المركب الصعب الّذى ركبوه بعد هجرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونشوب

١٢٦

الحروب بينهم وبين المسلمين حتّى بلغوا المبلغ الّذى قالوا:( مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ) الأنعام: ٩١.

فهذا ما يعطيه سياق الآية من المعنى، وأظنّك إن أمعنت في تدبّر الآية وسائر الآيات الّتى تناسبها ممّا يخاطب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحقّيّة ما نزل إليه من ربّه، ويتحدّى على البشر بعجزهم عن إتيان مثله، وما يصف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه على بصيرة من أمره، وأنّه على بيّنة من ربّه أقنعك ذلك فيما قدّمناه من المعنى، وأغناك عن التمحّلات الّتى ارتكبوها في تفسير الآية بما لا جدوى في نقلها والبحث عنها.

قوله تعالى: ( وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) نهى عن الارتياب والامتراء أوّلا ثمّ ترقّى إلى النهى عن التكذيب بآيات الله وهو العناد مع الحقّ استكباراً على الله فإنّ الآية لا تكون آية إلّا مع وضوح دلالتها وظهور بيانها وتكذيب ما هذا شأنه لا يكون مبنيّاً إلّا على العناد واللجاج.

وقوله:( فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) تفريع على التكذيب بآيات الله فهو نتيجته وعاقبته فهو المنهىّ عنه بالحقيقة. والمعنى: ولا تكن من الخاسرين، والخسران زوال رأس المال بانتقاصه أو ذهاب جميعه، وهو الإيمان بالله وآياته الّذى هو رأس مال الإنسان في سعادة حياته في الدنيا والآخرة على ما يستفاد من الآية التالية حيث يعلّل خسرانهم بأنّهم لا يؤمنون.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ ) الخ، تعليل للنهى السابق ببيان ما للمنهىّ عنه من الشأن فإنّ أصل النظم بحسب المعنى المستفاد من السياق أن يقال: لا تكوننّ من المكذّبين لأنّ المكذّبين لا يؤمنون فيكونون خاسرين لأنّ رأس مال السعادة هو الإيمان فوضع قوله( الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ) موضع( الْمُكَذِّبِينَ ) للادلة على سبب الحكم وأنّ المكذّبين إنّما يخسرون لأنّ كلمة الله سبحانه تحقّ عليهم فالأمر على كلّ حال إلى الله سبحانه.

والكلمة الإلهيّة الّتى حقّت على المكذّبين بآيات الله هي قوله يوم شرع

١٢٧

الشريعة العامّة لآدم وزوجته فمن بعدهما من ذرّيّتهما:( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا - إلى قوله -وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) البقرة: ٣٩.

وهذا هو الّذى يريده بقوله في مقام بيان سبب خسران المكذّبين:( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ) وهم المكذّبون حقّت عليهم كلمة العذاب فهم( لَا يُؤْمِنُونَ ) ولذلك كانوا خاسرين لأنّهم ضيّعوا رأس مال سعادتهم وهو الإيمان فحرموه وحرموا بركاته في الدنيا والآخرة، وإذ حقّ عليهم أنّهم لا يؤمنون فلا سبيل لهم إلى الإيمان ولو جاءتهم كلّ آية( حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ) ولا فائدة في الإيمان الاضطراريّ.

وقد كرّر الله سبحانه في كلامه هذا القول واستتباعه للخسران وعدم الإيمان كقوله:( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) يس: ٧، وقوله:( لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) يس: ٧٠ أي بتكذيبهم بالآيات المستتبع لعدم إيمانهم فخسرانهم، وقوله:( وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ) حم السجدة: ٢٥ إلى غير ذلك.

وقد ظهر من الآيات أوّلا: أنّ العناد مع الحقّ والتكذيب بآيات الله يحقّ كلمة العذاب الخالد على الإنسان.

وثانياً: أنّ رأس مال سعادة الحياة للإنسان هو الإيمان.

وثالثا: أنّ كل إنسان فهو مؤمن لا محالة إمّا إيماناً اختياريّاً مقبولاً يسوقه إلى سعادة الحياة الدنيا والآخرة، وإمّا إيماناً اضطراريّاً غير مقبول حيثما يرى العذاب الأليم.

قوله تعالى: ( فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ ) الخ، ظاهر السياق أنّ لولا للتحضيض، وأنّ المراد بقوله:( آمنت ) الإيمان الاختياريّ الصحيح كما يشعر به قوله بعده:( فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا ) ولوقوع التحضيض على أمر ماض لم يتحقّق أفادت الجملة معنى اليأس

١٢٨

المساوق للنفي فاستقام الاستثناء الّذى في قوله:( إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ ) .

والمعنى: هلّا كانت قرية - من هذه القرى الّتى جاءتهم رسلنا فكذّبوهم - آمنت قبل نزول العذاب إيماناً اختياريّاً فنفعها إيمانها. لا ولم يؤمن إلّا قوم يونس لمّا آمنت كشفنا عنهم عذاب الخزى في الحياة الدنيا ومتّعناهم بالحياة إلى حين آجالهم العاديّة الطبيعيّة. ومنه يعلم أنّ الاستثناء متّصل.

وذكر بعضهم أنّ المعنى: لم يكن فيما خلا أن يؤمن أهل قرية بأجمعهم حتّى لا يشذّ منهم أحد إلّا قوم يونس فهلّا كانت القرى كلّها هكذا.

وفيه أنّه في نفسه معنى لا بأس فيه إلّا أنّ الآية بلفظها لا تنطبق عليه بما فيه من الخصوصيّات وهو ظاهر.

وذكر بعض آخر: أنّ المعنى لم يكن معهوداً من حال قرية من القرى أن يكفر ثمّ يؤمن فينفعها إيمانها إلّا قوم يونس لمّا آمنت كشفنا عنهم العذاب ومتّعناهم. والإشكال عليه كالإشكال على سابقه.

قوله تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ) أي لكنّه لم يشأ ذلك فلم يؤمن جميعهم ولا يؤمن فالمشيّة في ذلك إلى الله سبحانه ولم يشأ ذلك فلا ينبغى لك أن تطمع فيه ولا أن تجتهد لذلك لأنّك لا تقدر على إكراههم وإجبارهم على الإيمان، والإيمان الّذى نريده منهم هو ما كان عن حسن الاختيار لا ما كان عن إكراه وإجبار.

ولذلك قال بعد ذلك في صورة الإستفهام الإنكارى:( أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) أي بعد ما بيّنا أنّ أمر المشيّة إلى الله وهو لم يشأ إيمان جميع الناس فلا يؤمنون باختيارهم البتّة لم يبق لك إلّا أن تكره الناس وتجبرهم على الإيمان، وأنا اُنكر ذلك عليك فلا أنت تقدر على ذلك ولا أنا أقبل الإيمان الّذى هذا نعته.

قوله تعالى: ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ) لمّا ذكر في الآية السابقة أنّ الأمر إلى الله سبحانه لو شاء أن يؤمن

١٢٩

أهل الأرض جميعاً لآمنوا لكنّه لم يشأ فلا مطمع في إيمان الجميع زاد في هذه الآية في بيان ذلك ما محصّله أنّ الملك - بالكسر - لله فله أصالة التصرّف في كلّ أمر لا يشاركه في ذلك مشارك إلّا أن يأذن لبعض ما خلقه في بعض التصرّفات.

والإيمان بالله عن اختيار والاهتداء إليه أمر من الاُمور يحتاج في تحقّقه إلى سبب يخصّه، ولا يؤثّر هذا السبب ولا يتصرّف في الكون بإيجاد مسبّبه إلّا عن إذن من الله سبحانه في ذلك لكنّ الله سبحانه بجعل الرجس والضلال على أهل العناد والجحود لم يأذن في إيمانهم، ولا رجاء في سعادتهم.

ولو أنّه تعالى أذن في ذلك لأحد لأذن في إيمان غير اُولئك المكذّبين فقوله:( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) حكم عامّ حقيقيّ ينيط تملّك النفوس للإيمان إلى إذن الله، وقوله:( وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ ) الخ، يسلب عن الّذين لا يعقلون استعداد حصول الإذن فيبقى غيرهم.

وقد اُريد في الآية بالرجس ما يقابل الإيمان من الشكّ والريب بمعنى أنّه هو المصداق المنطبق عليه الرجس في المقام لما قوبل بالإيمان، وقد عرّف في قوله تعالى:( وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ) الانعام: ١٢٥.

وقد اُريد أيضاً بقوله:( الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ) أهل التكذيب بآيات الله من جهة أنّهم ممّن حقّت عليه كلمة العذاب فإنّهم الّذين طبع الله على قلوبهم فهم لا يعقلون قال:( وَطَبَعَ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) التوبة: ٩٣.

قوله تعالى: ( قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) أي من المخلوقات المختلفة المتشتّة الّتى كلّ واحد منها آية من آيات الله تعالى تدعو إلى الإيمان، وقوله:( وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ ) ظاهره أنّ( مَا ) استفهاميّة والجملة مسوقة بداعي الإنكار وإظهار الأسف كقول الطبيب: بماذا اُعالج الموت؟ أي إنّا أمرناك أن تنذرهم بقولنا:( قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ ) الخ، لكن أيّ تأثير للنذر فيهم أو للآيات فيهم وهم لا يؤمنون أي عازمون مجمعون على أن لا يؤمنوا بالطبع

١٣٠

الّذى على قلوبهم وربّما قيل: إنّ ما نافية.

قوله تعالى: ( فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ ) تفريع على ما في الآية السابقة من قوله:( وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ ) أي إذا لم تغن الآيات والنذر عنهم شيئاً وهم لا يؤمنون البتّة فهم لا ينتظرون إلّا مثل أيّام الّذين خلوا من قبلهم، وإنّما يحبسون نفوسهم لآية العذاب الإلهىّ الّتى تفصل بينك وبينهم فتقضى عليهم لأنّهم حقّت عليهم كلمة العذاب.

ولذا أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبلّغهم ذلك بقوله:( قُلْ فَانتَظِرُوا ) أي مثل أيّام الّذين خلوا من قبلكم يعنى يوم العذاب الّذى يفصل بينى وبينكم فتؤمنون ولا ينفعكم إيمانكم( إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ) .

وقد تبيّن بما مرّ أنّ الاستفهام في الآية إنكارىّ.

قوله تعالى: ( ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ) الجملة تتمّة صدر الآية السابقة وقوله:( قُلْ فَانتَظِرُوا ) الخ، جملة معترضة والنظم الأصلىّ بحسب المعنى( فَهَلْ يَنتَظِرُونَ ) أي قومك هؤلاء( إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ ) من الاُمم الّذين كانت تحقّ عليهم كلمة العذاب فنرسل إليهم آية العذاب( ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ) .

وإنّما اعترض بقوله:( قُلْ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ) بين الكلام لأنّه يتعلّق بالجزء الّذى يتقدّمه من مجموع الكلام المستفهم عنه فإنّه المناسب لأن يجعل جواباً لهم، وهو يتضمّن انتظار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للقضاء بينه وبينهم، وأمّا تنجيته وتنجية المؤمنين به فإنّ المنتظر لها هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنون لا هو وحده، ولا يتعلّق هذا الانتظار بفصل القضاء بل بالنجاة من العذاب، وهو مع ذلك لا يتعلّق به غرض في المقام الّذى سيق فيه الكلام لإنذار المشركين لا لتبشير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين فافهم ذلك.

وأمّا قوله:( كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ ) فمعناه كما كنّا ننجي الرسل والّذين آمنوا في الاُمم السابقة عند نزول العذاب كذلك ننجي المؤمنين بك من

١٣١

هذه الاُمّة حقّ علينا ذلك حقّاً، فقوله:( حَقًّا عَلَيْنَا ) مفعول مطلق قام مقام فعله المحذوف، واللّام في( الْمُؤْمِنِينَ ) للعهد والمراد به مؤمنو هذه الاُمّة، وهذا هو الوعد الجميل للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين من هذه الاُمّة بالإنجاء.

وليس من البعيد أن يستفاد من قوله:( نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ ) أنّ فيه تلويحاً إلى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يدرك هذا القضاء، وإنّما يقع بعد ارتحاله حيث ذكر المؤمنون ولم يذكر معهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أنّه تعالى ذكر في السابقين رسله مع المؤمنين بهم كما ربّما يخطر بالبال من تكرّر قوله تعالى في كلامه:( فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ) أو ما في معناه.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ عن محمّد بن سعيد الأسديّ أن موسى بن محمّد بن الرضا أخبره أن يحيى بن أكثم كتب إليه يسأله عن مسائل: أخبرني عن قول الله تبارك وتعالى:( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ) من المخاطب بالآية؟ فإن كان المخاطب فيها النبيّ فقد شكّ فيما أنزل الله، وإن كان المخاطب بها غيره فعلى غيره إذا نزل الكتاب.

قال موسى: فسألت أخى عن ذلك. قال: فأمّا قوله:( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ) فإنّ المخاطب بذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يكن في شكّ ممّا أنزل الله، ولكن قالت الجهلة: كيف لم يبعث إلينا نبيّاً من الملائكة؟ إنّه لم يفرّق بينه وبين غير فى الاستغناء في المأكل والمشرب والمشى في الأسواق فأوحى الله إلى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فاسأل الّذين يقرؤون الكتاب من قبلك بمحضر الجهلة هل بعث الله رسولاً من قبلك إلّا وهو يأكل الطعام ويشرب ويمشى في الأسواق؟ ولك بهم اُسوة.

وإنّما قال: فإن كنت في شكّ، ولم يكن ولكن ليتبعهم كما قال له:( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل

١٣٢

لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) ، ولو قال: تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله عليكم لم يكونوا يجيؤن للمباهلة، وقد عرف أنّ نبيّه مؤدّ عنه رسالته وما هو من الكاذبين، كذلك عرف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه صادق فيما يقول ولكن أحبّ أن ينصف من نفسه.

أقول: ورواه الصدوق في المعاني بإسناده عن موسى بن محمّد بن علىّ، وهو يرجع إلى ما قدّمناه، وقد ورد في بعض الروآيات أنّ الآية نزلت ليلة المعراج فأمره الله أن يسأل أرواح الأنبياء عن ذلك، وهم الّذين أرادهم بقوله:( الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ) وروى الوجه أيضاً عن الزهريّ لكن في انطباقه على لفظ الآية خفاء.

وفي الدرّ المنثور أخرج عبد الرزّاق وابن جرير عن قتادة في الآية قال: ذكر لنا أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لا أشكّ ولا أسأل.

وفي تفسير العيّاشيّ عن معمر قال: قال أبو الحسن الرضاعليه‌السلام : إنّ يونس أمره الله بما أمره فأعلم قومه فأظلّهم العذاب ففرّقوا بينهم وبين أولادهم وبين البهائم وأولادها ثمّ عجّوا إلى الله وضجّوا فكفّ الله العذاب عنهم. الحديث.

أقول: وسيأتى إن شاء الله قصّة يونس وقومه في ذيل بعض الآيات المتعرّضة لتفصيل قصّتهعليه‌السلام .

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن أبى حاتم واللالكائىّ في السنّة عن علىّ بن أبى طالبعليه‌السلام قال: إنّ الحذر لا يردّ القدر، وإنّ الدعاء يردّ القدر، وذلك في كتاب الله:( إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ ) الآية.

أقول: وروى ما في معناه عن ابن النجّار عن عائشة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي الكافي والبصائر مسنداً عن أبى بصير عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: الرجس هو الشكّ ولا نشكّ في ديننا أبدا.

١٣٣

( سورة يونس آية ١٠٤ - ١٠٩)

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ( ١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ( ١٠٥) وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ( ١٠٦) وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ( ١٠٧) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ( ١٠٨) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ( ١٠٩)

( بيان)

الآيات، ختام السورة تفرغ المحصّل من بياناتها فتشير إجمالاً إلى التوحيد والمعاد والنبوّة، وتأمر باتّباع القرآن والصبر في انتظار حكم الله بينه وبين اُمّته.

قوله تعالى: ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي ) الخ، قد تقدّم غير مرّة أنّ الدين هو السنّة المعمول بها في الحياة لنيل سعادتها وفيه معنى الطاعة كما في قوله تعالى:( وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ ) النساء: ١٤٦ وربّما استعمل بمعنى الجزاء.

١٣٤

وقوله:( إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي ) أي في طريقتي الّتى أسلكها وأثبت عليها وشكّ الإنسان في دين غيره وطريقته المعمولة له إنّما يكون في ثباته عليه هل يستقرّ عليه ويستقيم؟ وقد كان المشركون يطمعون في دينهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وربّما رجوا أن يحوّلوه عنه فينجوا من دعوته إلى التوحيد ورفض الشرك بالآلهة.

فالمعنى: إن كنتم تشكّون فيما أدين به وأدعو إليه هل أستقيم عليه؟ أو شككتم في دينى ما هو؟ ولم تحصّلوا الأصل الّذى يبتنى عليه فإنّى اُصرّح لكم القول فيه واُبيّنه لكم وهو أنّى لا أعبد آلهتكم وأعبد الله وحده.

وقد اُخذ في قوله:( وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ) له تعالى وصف توفّيهم دون غيره من أوصافه تعالى لأنّهم إنّما كانوا يعبدون الإله لزعمهم الحاجة إليه في دفع الضرر وجلب النفع، والتوفّى أمر لا يشكون أنّه سيصيبهم وأنّه لله وحده فمساس الحاجة إلى الأمن من ضرره يوجب عبادة الله سبحانه.

على أنّ اختيار التوفّى للذكر ليكون في الكلام تلويح إلى تهديدهم فإنّ الآيات السابقة وعدتهم العذاب وعداً قطعيّاً، ووفاة المشركين ميعاد عذابهم، ويؤيّد ذلك إتباع قوله:( وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ) بقوله:( َأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) فإنّ نجاتهم من العذاب جزء الوعد الّذى ذكره الله في الآيتين السابقتين على هذه الآية:( فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ - إلى قوله -نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ ) .

والمعنى: فاعلموا واستيقنوا أنّى لا أعبد آلهتكم ولكن أعبد الله الّذى وعد عذاب المكذّبين منكم وإنجاء المؤمنين وأمرني أن أكون منهم كما أمرنى أن أجتنب عبادة الآلهة.

قوله تعالى: ( وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ) عطف على موضع قوله:( وَأُمِرْتُ أَنْ ) الخ، فإنّه في معنى وكن من المؤمنين، وقد مرّ الكلام في معنى إقامة الوجه للدين الحنيف غير مرّة.

قوله تعالى: ( وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ) نهى بعد نهى

١٣٥

عن الشرك، وبيان أنّ الشرك يدخل الإنسان في زمرة الظالمين فيحقّ عليه ما أوعد الله به الظالمين في كلامه.

ومن لطيف التعبير قوله حين ذكر الدعاء:( مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ) وحين ذكر العبادة:( الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ ) فإنّ العبادة بالطبع يعطى للمعبود شعوراً وعقلاً فناسب أن يعبر عنه بنحو( الَّذِينَ ) المستعمل في ذوى العلم والعقل، والدعاء وإن كان كذلك لمساوقته العبادة غير أنّه لمّا وصف المدعوّ بما لا ينفع ولا يضرّ، وربّما توهّم أنّ ذوى العلم والعقل يصحّ أن تنفع وتضرّ، عبّر بلفظة( م ) ليلوّح إلى أنّها جماد لا يتخيّل في حقّهم إرادة نفع أو ضرر.

وفي التعبير نفسه أعنى قوله:( مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ) إعطاء الحجّة على النهى عن الدعاء.

قوله تعالى: ( وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ) الخ، الجملة حاليّة وهى تتمّة البيان في الآية السابقة، والمعنى: ولا تدع من دون الله ما لا نفع لك عنده ولا ضرر، والحال أنّ ما مسّك الله به من ضرّ لا يكشفه غيره وما أرادك به من خير لا يردّه غيره فهو القاهر دون غيره يصيب بالخير عباده بمشيّته وإرادته، وهو مع ذلك غفور رحيم يغفر ذنوب عباده ويرحمهم، واتّصافه بهذه الصفات الكريمة وكون غيره صفر الكفّ منها يقتضى تخصيص العبادة والدعوة به.

قوله تعالى: ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ) وهو القرآن أو ما يشتمل عليه من الدعوة الحقّة، وقوله:( فَمَنِ اهْتَدَىٰ ) إلى آخر الآية، إعلام لهم بكونهم مختارين فيما ينتخبونه لأنفسهم من غير أن يسلبوا الخيرة ببيان حقيقة هي أنّ الحقّ - وقد جاءهم - من حكمه أنّ من اهتدى إليه فإنّما يهتدى ونفعه عائد إليه، ومن ضلّ عنه فإنّما يضلّ وضرره على نفسه فلهم أن يختاروا لأنفسهم ما يحبّونه من نفع أو ضرر، وليس هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكيلاً لهم يتصدّى من الفعل ما هو لهم فالآية كناية عن وجوب اهتدائهم إلى الحقّ لأنّ فيه نفعهم.

قوله تعالى: ( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ

١٣٦

الْحَاكِمِينَ ) أمر باتّباع ما يوحى إليه والصبر على ما يصيبه في جنب هذا الاتّباع من المصائب والمحن، ووعد بأنّ الله سبحانه سيحكم بينه وبين القوم، ولا يحكم إلّا بما فيه قرّة عينه فالآية تشتمل على أمره بالاستقامة في الدعوة وتسليته فيما يصيبه، ووعده بأنّ العاقبة الحسنى له.

وقد اختتمت الآية بحكمه تعالى، وهو الّذى عليه يعتمد معظم آيات السورة في بيانها. والله أعلم

١٣٧

بسم الله الرحمن الرحيم

( سورة هود مكّيّة وهى مائة وثلاث وعشرين آية)

( سورة هود آية ١ - ٤)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ( ١) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ( ٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ( ٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( ٤)

( بيان)

السورة كما يظهر من مفتتحها ومختتمها والسياق الّذى يجرى عليه آياتها تبيّن غرض الآيات القرآنيّة على كثرتها وتشتّتها، وتصف المحصّل من مقاصدها على اختلافها والملخّص من مضامينها.

فتذكر أنّها على احتوائها معارف الدين المختلفة من اُصول المعارف الإلهيّة والأخلاق الكريمة الإنسانيّة، والأحكام الشرعيّة الراجعة إلى كلّيّات العبادات والمعاملات والسياسات والولايات ثمّ وصف عامّة الخليقة كالعرش والكرسيّ واللوح والقلم والسماء والأرض والملائكة والجنّ والشياطين والنبات والحيوان والإنسان، ووصف بدء الخلقة وما ستعود إليه من الفناء والرجوع إلى الله سبحانه.

١٣٨

وهو يوم البعث بما يتقدّمه من عالم القبر وهو البرزخ ثمّ القيام لربّ العالمين والحشر والجمع والسؤال والحساب والوزن وشهادة الأشهاد ثمّ فصل القضاء ثمّ الجنّة أو النار بما فيهما من الدرجات والدركات.

ثمّ وصف الرابطة الّتى بين خلقة الإنسان وبين عمله، وما بين عمله وما يستتبعه من سعادة أو شقاوة ونعمة أو نقمة ودرجة أو دركة، وما يتعلّق بذلك من الوعد والوعيد والإنذار والتبشير بالموعظة والمجادلة الحسنة و الحكمة.

فالآيات القرآنيّة على احتوائها تفاصيل هذه المعارف الإلهيّة والحقائق الحقّة تعتمد على حقيقة واحدة هي الأصل وتلك فروعه، وهى الأساس الّذى بنى عليه بنيان الدين وهو توحيده تعالى توحيد الاسلام بأن يعتقد أنّه تعالى هو ربّ كلّ شئ لا ربّ غيره ويسلّم له من كلّ وجهة فيوفى له حقّ ربوبيّته، ولا يخشع في قلب ولا يخضع في عمل إلّا له جلّ أمره.

وهذا أصل يرجع إليه على إجماله جميع تفاصيل المعاني القرآنيّة من معارفها وشرائعها بالتحليل، وهو يعود إليها على ما بها من التفصيل بالتركيب.

فالسورة تبيّن ذلك بنحو الإجمال في هذه الآيات الأربع الّتى افتتحت بها ثمّ تأخذ في بيانه التفصيليّ بسمة الإنذار والتبشير بذكر ما لله من السنّة الجارية في عباده، وإيراد أخبار الاُمم الماضية، وقصص أقوام نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسىعليهم‌السلام ، وما ساقهم إليه الاستكبار عن إجابة الدعوة الإلهيّة والافساد في الأرض والإسراف في الأمر، ووصف ما وعد الله به الّذين آمنوا وعملوا الصالحات وما أوعد الله به الّذين كفروا وكذّبوا بالآيات، وتبيّن في خلال ذلك أموراً من المعارف الإلهيّة الراجعة إلى التوحيد والنبوّة والمعاد.

وممّا تقدّم يظهر ما في قول بعضهم عند ما ذكر غرض هذه السورة: أنّها في معنى سورة يونس وموضوعها، وهو اُصول عقائد الإسلام في الإلهيّات والنبوّات والبعث والجزاء وعمل الصالحات، وقد فصّل فيها ما أجمل في سورة يونس من قصص الرسلعليهم‌السلام . انتهى.

١٣٩

وقد عرفت أنّ السورتين مسوقتان لغرضين مختلفين لا يرجع أحدهما إلى الآخر البتّة فسورة يونس تبيّن أنّ السنّة الإلهيّة جارية على القضاء بين الرسل وبين اُممهم المكذّبين لهم، ثمّ توعد هذه الاُمّة بما جرى مثله على الّذين من قبلهم، وسورة هود تبيّن أنّ المعارف القرآنيّة ترجع بالتحليل إلى التوحيد الخالص كما أنّ التوحيد يعود بحسب التركيب إلى تفاصيل المعارف الأصليّة والفرعيّة.

والسورة - على ما تشهد به آياتها بمضامينها والاتّصال الظاهر بينها - مكّيّة نازلة دفعة واحدة، وقد روى عن بعضهم استثناء قوله تعالى:( فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ ) الآية ١٢ فذكر أنّها مدنيّة.

واستثنى بعضهم قوله:( أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ ) الآية ١٧، وبعضهم قوله تعالى:( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ ) الآية ١١٤، ولا دليل على شئ من ذلك من طريق اللفظ، وظاهر اتّصالها أنّها جميعاً مكّيّة.

قوله تعالى: ( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) المقابلة بين الإحكام والتفصيل الّذى هو إيجاد الفصل بين أجزاء الشئ المتّصل بعضها ببعض، والتفرقة بين الاُمور المندمجة كلّ منها في آخر تدلّ على أنّ المراد بالإحكام ربط بعض الشئ ببعضه الآخر وإرجاع طرف منه إلى طرف آخر بحيث يعود الجميع شيئاً واحداً بسيطا غير ذى أجزاء وأبعاض.

ومن المعلوم أنّ الكتاب إذا اتّصف بالإحكام والتفصيل بهذا المعنى الّذى مر فإنّما يتّصف بهما من جهة ما يشتمل عليه من المعنى والمضمون لا من جهة ألفاظه أو غير ذلك، وأنّ حال المعاني في الإحكام والتفصيل والاتّحاد والاختلاف غير حال الأعيان فالمعاني المتكثّرة إذا رجعت إلى معنى واحد كان هذا الواحد هو الأصل المحفوظ في الجميع وهو بعينه على إجماله هذه التفاصيل، وهى بعينها على تفاصيلها ذاك الإجمال وهذا كلّه ظاهر لا ريب فيه.

وعلى هذا فكون آيات الكتاب محكمة أوّلاً ثمّ مفصّلة ثانياً معناه أنّ الآيات الكريمة القرآنيّة على اختلاف مضامينها وتشتّت مقاصدها وأغراضها ترجع إلى

١٤٠