الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 406

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 406
المشاهدات: 109287
تحميل: 5904


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 109287 / تحميل: 5904
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 10

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

معنى واحد بسيط، وغرض فارد أصلىّ لا تكثّر فيه ولا تشتّت بحيث لا تروم آية من الآيات الكريمة مقصداً من المقاصد ولا ترمى إلى هدف إلّا والغرض الأصلىّ هو الروح السارى في جثمانه والحقيقة المطلوبة منه.

فلا غرض لهذا الكتاب الكريم على تشتّت آياته وتفرّق أبعاضه إلّا غرض واحد متوحّد إذا فصّل كان في مورد أصلاً دينيّاً وفي آخر أمراً خلقيّاً وفي ثالث حكماً شرعيّاً وهكذا كلّما تنزّل من الاُصول إلى فروعها ومن الفروع إلى فروع الفروع لم يخرج من معناه الواحد المحفوظ، ولا يخطى غرضه فهذا الأصل الواحد بتركّبه يصير كلّ واحد واحد من أجزاء تفاصيل العقائد والأخلاق والأعمال، وهى بتحليلها وإرجاعها إلى الروح السارى فيها الحاكم على أجسادها تعود إلى ذاك الأصل الواحد.

فتوحيده تعالى بما يليق بساحه عزّه وكبريائه مثلاً في مقام الاعتقاد هو إثبات أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وفي مقام الأخلاق هو التخلّق بالأخلاق الكريمة من الرضا والتسليم والشجاعة والعفّة والسخاء ونحو ذلك والاجتناب عن الصفات الرذيلة، وفي مقام الأعمال والأفعال الإتيان بالأعمال الصالحة والورع عن محارم الله.

وإن شئت فقل: إنّ التوحيد الخالص يوجب في كلّ من مراتب العقائد والأخلاق والأعمال ما يبيّنه الكتاب الإلهىّ من ذلك كما أنّ كلّا من هذه المراتب وكذلك أجزاؤها لا تتمّ من دون توحيد خالص.

فقد تبيّن أنّ الآية في مقام بيان رجوع تفاصيل المعارف والشرائع القرآنيّة إلى أصل واحد هو بحيث إذا ركّب في كلّ مورد من موارد العقائد والأوصاف والأعمال مع خصوصيّة ذلك المورد أنتج حكماً يخصّه من الأحكام القرآنيّة، وبذلك يظهر:

أوّلا: أنّ قوله:( كِتَابٌ ) خبر لمبتدء محذوف والتقدير: هذا كتاب، والمراد بالكتاب هو ما بأيدينا من القرآن المقسّم إلى السور والآيات، ولا ينافى ذلك

١٤١

ما ربّما يذكر أنّ المراد بالكتاب اللوح المحفوظ أو القرآن بما هو في اللوح فإنّ هذا الكتاب المقروّ متّحد مع ما في اللوح اتّحاد التنزيل مع التأويل.

وثانياً: أنّ لفظة( ثُمَّ ) في قوله:( ثُمَّ فُصِّلَتْ ) الخ، لإفادة التراخي بحسب ترتيب الكلام دون التراخي الزمانىّ إذ لا معنى للتقدّم والتأخّر الزمانىّ بين المعاني المختلفة بحسب الأصليّة والفرعيّة أو بالإجمال والتفصيل.

ويظهر أيضاً ما في بعض ما ذكره أرباب التفاسير في معنى الآية كقول بعضهم: إنّ معناها اُحكمت آياته فلم تنسخ منها كما نسخت الكتب والشرائع ثمّ فصّلت ببيان الحلال والحرام وسائر الأحكام.

وفيه: أنّ الواجب على هذا المعنى أن يقيّد عدم النسخ بعدم النسخ بكتاب غير القرآن ينسخ القرآن بعده كما نسخ القرآن غيره فإنّ وجود النسخ بين الآيات القرآنيّة نفسها ممّا لا ينبغى الارتياب فيه. والتقييد المذكور لا دلالة عليه من جهة لفظ الآية.

وكقول بعضهم: إنّ المراد اُحكمت آياته بالأمر والنهى ثمّ فصّلت بالوعد والوعيد والثواب والعقاب. وفيه أنّه تحكّم لا دليل عليه أصلاً.

وكقول بعضهم: إنّ المراد إحكام لفظها بجعلها على أبلغ وجوه الفصاحة حتّى صار معجزا، وتفصيلها بالشرح والبيان. والكلام في هذا الوجه كسابقه.

وكقول بعضهم: المراد بإحكام آياته جعلها محكمة متقنة لا خلل فيها ولا باطل، والمراد بتفصيلها جعلها متتابعة بعضها إثر بعض. وفيه: أنّ التفصيل بهذا المعنى غير معهود لغة إلّا أن يفسّر بمعنى التفرقة والتكثير ويرجع حينئذ إلى ما قدّمناه من المعنى.

وكقول بعضهم: إنّ المراد اُحكمت آياته جملة ثمّ فرقت في الإنزال آية بعد آية ليكون المكلّف أمكن من النظر والتأمّل.

وفيه: أنّ الأحرى بهذا الوجه أن يذكر في مثل قوله تعالى:( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ

١٤٢

فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ) الدخان: ٣، وقوله:( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلً ) أسرى: ١٠٦ وما في هذا المعنى من الآيات ممّا يدلّ على أنّ للقرآن مرتبة عند الله هي أعلى من سطح الأفهام ثمّ نزل إلى مرتبة تقبل التفهّم والتفقّه رعآية لحال الأفهام العادية كما يشير إليه أيضاً قوله:( وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف: ٤.

وأمّا آيتنا الّتى نحن فيها:( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ) الخ، فقد علّق فيها الإحكام والتفصيل معاً على الآيات، وليس ذلك إلّا من جهة معانيها فتفيد أنّ الإحكام والتفصيل هما في معاني هذه الآيات المتكثّرة فلها جهة وحدة وبساطة وجهة كثرة وتركّب، وينطبق على ما قدّمناه من المعنى لا على ما ذكره الراجع إلى مسألة التأويل والتنزيل فافهم ذلك.

وكقول بعضهم: إنّ المراد بالإحكام والتفصيل إجمال بعض الآيات وتبيين البعض الآخر، وقد مثّل لذلك بقوله تعالى في هذه السورة:( مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَىٰ وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيع ) الآية: ٢٤، فإنّه مجمل محكم يتبيّن بما ورد فيها من قصّة نوح وهود وصالح. وهكذا.

وفيه: أنّ ظاهر الآية أنّ الإحكام والتفصيل متحّدان من حيث المورد بمعنى أنّ الآيات الّتى ورد عليها الإحكام بعينها هي الّتى ورد عليها التفصيل لا أنّ الإحكام وصف لبعض آياته والتفصيل وصف بعضها الآخر كما هو لازم ما ذكره.

وقوله تعالى:( مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) الحكيم من أسمائه الحسنى الفعليّة يدلّ على إتقان الصنع، وكذا الخبير من أسمائه الحسنى يدلّ على علمه بجزئيّات أحوال الاُمور الكائنة ومصالحها، وإسناد إحكام الآيات وتفصيلها إلى كونه تعالى حكيماً خبيراً لما بينهما من النسبة.

قوله تعالى: ( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) الآية، وما بعدها تفسير لمضمون الآية الاُولى:( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ

١٤٣

آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) وإذ كانت الآية تتضمّن أنّه كتاب من الله إلى له آيات محكمة ثمّ مفصّلة كانت العناية في تفسيرها متوجّهة إلى إيضاح هذه الجهات.

ومن المعلوم أنّ هذا الكتاب الّذى أنزله الله تعالى من عنده إلى رسوله ليتلوه على الناس ويبلّغهم له وجه خطاب إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووجه خطاب إلى الناس بوساطته أمّا وجه خطابه إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو الّذى يتلقّاه الرسول من وحى الله فهو أن أنذر وبشّر وادع الناس إلى كذا وكذا، وهذا الوجه هو الّذى عنى به في أوّل سورة يونس حيث قال تعالى:( أَوْحَيْنَا إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ) يونس: ٢.

وأمّا وجه خطابه إلى الناس وهو الّذى يتلقّاه الناس من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو ما يلقيه إلى الناس من المعنى في ضمن تلاوته كلام الله عليهم بعنوان الرسالة أنّى أدعوكم إلى الله دعوة نذير وبشير، وهذا الوجه من الخطاب هو الّذى عنى به في قوله:( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ) الخ.

فالآية من كلام الله تفسر معنى إحكام آيات الكتاب ثمّ تفصيلها بحكآية ما يتلقّاه الناس من دعوة الرسول إيّاهم بتلاوة كتاب الله عليهم، وليس كلاماً للرسول بطريق الحكاية ولا بتقدير القول ولا من الالتفات في شئ، ولا أنّ التقدير: أمركم بأن لا تعبدوا أو: فصّلت آياته لأ( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) بأن يكون قوله:( لَّا تَعْبُدُو ) نفياً لا نهياً فإنّ قوله بعد:( وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) معطوف على قوله: أن لا تعبدوا إلّا الله، وهو يشهد بأنّ( لَّا تَعْبُدُو ) نهى لا نفى. على أنّ التقدير لا يصار إليه من غير دليل فافهم ذلك فإنّه من لطيف صنعة البلاغة في الآية.

وعلى هذا فقوله:( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) دعوة إلى توحيد العبادة بالنهي عن عبادة غير الله من الآلهة المتّخذة شركاء لله، وقصر العبادة فيه تعالى، وقوله:( وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) أمر بطلب المغفرة من الله وقد اتّخذوه ربّاً لهم برفض عبادة غيره ثمّ أمر بالتوبة والرجوع إليه بالأعمال الصالحة، ويتحصّل من الجميع

١٤٤

سلوك الطريق الطبيعيّ الموصل إلى القرب والزلفى منه تعالى، وهو رفض الآلهة دون الله ثمّ طلب المغفرة والطهارة النفسانيّة للحضور في حظيرة القرب ثمّ الرجوع إليه تعالى بالأعمال الصالحة.

وقد جيئ بأن التفسيريّة ثانياً في قوله:( وَأَنِ اسْتَغْفِرُو ) الخ، لاختلاف ما بين المرحلتين اللّتين يشير إليهما قوله:( أَن لَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) وهى مرحلة التوحيد بالعبادة مخلصاً، وقوله:( وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) وهى مرحلة العمل الصالح وإن كنت الثانية من نتائج الاُولى وفروعها.

ولكون التوحيد هو الأصل الأساسىّ والاستغفار والتوبة نتيجة وفرعاً متفرّعاً عليه أورد النذر والبشارة بعد ذكر التوحيد، والوعد الجميل الّذى يتضمّنه قوله:( يُمَتِّعْكُم ) الخ، بعد ذكر الاستغفار والتوبة فقال:( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ) فبيّن به أنّ النذر والبشرى كائنين ما كانا يرجعان إلى التوحيد و يتعلّقان به ثمّ قال:( وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا ) الخ فإنّ الآثار القيّمة والنتائج الحسنة المطلوبة إنّما تترتّب على الشئ بعد ما تمّ في نفسه وكمل بصفاته وفروعه ونتائجه، والتوحيد وإن كان هو الأصل الوحيد للدين على سعته لكنّ شجرته لا تثمر ما لم تقم على ساقها ويتفرّع عليها فروعها وأغصانها،( كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ) .

والظاهر أنّ المراد بالتوبة في الآية الإيمان كما في قوله تعالى:( فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ) المؤمنون: ٧ فيستقيم الجمع بين الاستغفار والتوبة مع عطف التوبة عليه بثمّ، والمعنى اتركوا عبادة الأصنام بعد هذا واطلبوا من ربّكم غفران ما قدّمتم من المعصية ثمّ آمنوا بربّكم.

وقيل: إنّ المعنى اطلبوا المغفرة واجعلوها غرضكم ثمّ توصّلوا إليه بالتوبة وهو غير جيّد ومن التكلّف ما ذكره بعضهم أنّ المعنى: استغفروا من ذنوبكم الماضية ثمّ توبوا إليه كلّما أذنبتم في المستقبل وكذا قول آخر: إنّ( ثمّ ) في الآية بمعنى

١٤٥

الواو لأنّ التوبة والاستغفار واحد.

وقوله:( يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ) الأجل المسمّى هو الوقت الّذى ينتهى إليه الحياة لا تتخطّاه البتّة، فالمراد هو التمتيع في الحياه الدنيا بل بالحياة الدنيا لأنّ الله سبحانه سمّاها في مواضع من كلامه متاعاً، فالمتاع الحسن إلى أجل مسمّى ليس إلّا الحياة الدنيا الحسنة.

فيؤول معنى قوله:( يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا ) على تقدير كون( مَّتَاعً ) مفعولاً مطلقاً إلى نحو من قولنا: يمتّعكم تمتيعاً حسناً بالحياة الحسنة الدنيويّة، ومتاع الحياة إنّما يكون حسناً إذا ساق الإنسان إلى سعادته الممكنة له، وهداه إلى أمانىّ الإنسانيّة من التنعّم بنعم الدنيا في سعة وأمن ورفاهية وعزّة وشرافة فهذه الحياة الحسنة تقابل المعيشة الضنك الّتى يشير إليها في قوله:( وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ) طه: ١٢٤.

ولا حسن لمتاع الحياة الدنيا ولا سعة في المعيشة لمن أعرض عن ذكر الله ولم يؤمن بربّه فإنّ البعض من الناس وإن أمكن أن يؤتى سعة من المال وعلوّاً في الأرض ثمّ يحسب أن لا أمنيّة من أمانىّ الإنسانيّة إلّا وقد اُوتيها لكنّه في غفلة عن ابتهاج من تحقّق بحقيقة الإيمان بالله ودخل في ولآية الله فآتاه الله الحياة الطيّبة الإنسانيّة، وآمنه من ذلّة الحياة الحيوانيّة الّتى لا حكومة فيها إلّا للحرص والشره والافتراس والتكلّب والجهالة، فالنفس الحرّة الإنسانيّة تذمّ من الحياة ما يستأثره النفوس الرذيلة الخسيسة وإن استتبع الذلّة والمسكنة وكلّ شناعة.

فالحياة الحسنة لمجتمع صالح حرّ أن يشتركوا في التمتّع من مزايا النعم الأرضيّة الّتى خلقها الله لهم اشتراكاً عن تراحم بينهم وتعاون وتعاضد من غير تعدّ وتزاحم بحيث يطلب كلّ خير نفسه ونفعها في خير مجتمعه ونفعه من غير أن يعبد نفسه ويستعبد الآخرين.

وبالجملة التمتّع بالحياة الحسنة إلى أجل مسمّى هو تمتّع الفرد بالحياة على ما تستحسنه الفطرة الإنسانيّة وهو الاعتدال في التمتّعات المادّيّة في ضوء العلم

١٤٦

النافع والعمل الصالح هذا إذا نسب إلى الفرد، وأمّا إذا نسب إلى المجتمع فهو الانتفاع العامّ من نعم الحياة الأرضيّة الطيّبة بتخصيص ما يناله الأفراد بكدّهم وسعيهم بالمجتمع الملتئم الأجزاء من غير تضادّ بين أبعاضه أو تناقض.

وقوله:( وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ) الفضل هو الزيادة وإذ نسب الفضل في قوله:( كُلَّ ذِي فَضْلٍ ) إلى من عنده الفضل من الأفراد كان ذلك قرينة على كون الضمير في( فَضْلَهُ ) راجعاً إلى ذى الفضل دون اسم الجلالة كما احتمله بعضهم والفضل والزيادة من المعاني النسبيّة الّتى إنّما تتحقّق بقياس شئ إلى شئ وإضافته إليه.

فالمعنى: ويعطى كلّ من زاد على غيره بشئ من صفاته وأعماله وما يقتضيه من الاختصاص بمزيد الأجر وخصوص موهبة السعادة تلك الزيادة من غير أن يبطل حقّه أو يغصب فضله أو يملّكه غيره كما يشاهد في المجتمعات غير الدينيّة وإن كانت مدنيّة راقية فلم تزل البشريّة منذ سكنت الأرض وكوّنت أنواع المجتمعات الهمجيّة أو الراقية وما هي أرقي تنقسم إلى طائفتين مستعلية مستكبرة قاهرة، ومستذلّة مستعبدة مقهورة، وليس يعدّل هذا الإفراط والتفريط ولا يسوّى هذا الاختلاف إلّا دين التوحيد.

فدين التوحيد هو السنّة الوحيدة الّتى تقصر المولويّة والسيادة في الله سبحانه وتسوّى بين القوىّ والضعيف والمتقدّم والمتأخّر والكبير والصغير والأبيض والأسود والرجل والمرأة وتنادى بمثل قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ) الحجرات: ١٣، وقوله:( أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ) آل عمران: ١٩٥.

ثمّ إنّ وقوع قوله:( وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ) الحاكى عن الاعتناء بفضل كلّ ذى فضل بعد قوله:( يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ) الدالّ على تمتيع الجميع مشعر:

١٤٧

أوّلاً: بأنّ المراد بالجملة الاُولى المتاع العامّ المشترك بين أفراد المجتمع وبعبارة اُخرى حياة المجتمع العامّة الحسنة، وبالجملة الثانية المزايا الّتى يؤتاها بعض الأفراد قبال ما يختصّون به من الفضل.

وثانياً: أنّ الجملة الاُولى تشير إلى التمتيع بمتاع الحياة الدنيا والثانية إلى إيتاء ثواب الآخرة قبال الأعمال الصالحة القائمة بالفرد أو إيتاء كلّ ذى فضل فضله في الدنيا والآخرة معاً بتخصيص كلّ من جاء بزيادة في جهة دنيويّة بما تقتضيه زيادته من المزيّة في جهات الحياة بإقامة كلّ ذى فضيلة في صفة أو عمل مقامه الّذى تقتضيه صفته أو عمله و وضعه موضعه من غير أن يسوّى بين الفاضل والمفضول في دينهما أو تزاح الخصوصيّات وتبطل الدرجات والمنازل بين الأعمال والمساعي الاجتماعيّة فلا يتفاوت حال الناشط في عمله والكسلان، ولا يختلف أمر المجتهد في العمل الدقيق المهمّ في بابه واللاعب بالعمل الحقير الهيّن وهكذا.

وقوله:( وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ) أي فإن تتولّوا الخ بالخطاب، والدليل عليه قوله:( عَلَيْكُمْ ) وما تقدّم في الآيتين من الخطابات المتعدّدة فلا يصغى إلى قول من يأخذ قوله:( تَوَلَّوْا ) جمعاً مذكّراً غائباً من الفعل الماضي فإنّه ظاهر الفساد.

وقد أغرب بعض المفسّرين حيث قال في قوله تعالى:( يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ) : والآية تتضمّن نجاة هذه الاُمّة المحمّديّة من عذاب الاستئصال كما بيّناه في تفسير سورة يونس أيضاً انتهى، ولست أدرى كيف استفاد من الآية ما ذكره ولعلّه بنى ذلك على أنّ الآية اشترطت للاُمّة الحياة الحسنة من غير استئصال إن آمنوا بالله وآياته ثمّ إنّهم آمنوا وانتشر الإسلام في الدنيا، لكن من المعلوم أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرسل إلى أهل الدنيا عامّة ولم يؤمن به عامّتهم، ولا أنّ المؤمنين به أخلصوا جميعاً إيمانهم من النفاق وسرى الإيمان من ظاهرهم إلى باطنهم ومن لسانهم إلى جنانهم.

ولو كان مجرّد إيمان بعض الاُمّة مع كفر الآخرين كافياً في تحقّق الشرط

١٤٨

وارتفاع عذاب الاستئصال لكفى في اُمّة نوح وهودعليهما‌السلام وغيرهما وقد دعوا اُممهم إلى ما دعا إليه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واشترطوا لهم مثل ما اشترط لاُمّته ثمّ عمّهم الله بعذاب الاستئصال وكان حقّاً عليه نصر المؤمنين.

وقد حكى الله سبحانه عن نوح قوله لقومه في ضمن دعوته:( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ) نوح: ١٢ وحكى عن هود قوله:( وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ) هود: ٥٢، وحكى جملة عن نوح وهود وصالح والّذين من بعدهم قولهم:( أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ) إبراهيم: ١٠.

وأمّا قوله:( وقد بيّناه في سورة يونس أيض) فلم يأت هناك إلّا بدعوى خالية وقد قدّمنا هناك أنّ آيات سورة يونس صريحة في أنّ الله سيقضى بين هذه الاُمّة بين نبيّهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيعذّبهم وينجى المؤمنين سنّة الله الّتى قد خلت في عباده ولن تجد لسنّة الله تبديلاً.

قوله تعالى: ( إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) في مقام التعليل لما يفيده قوله:( وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ) من المعاد، وذيل الآية، مسوق لإزاحة ما يمكن أن يختلج في صدورهم من استبعاد البعث بعد عروض الموت، والمعنى وإن تتولّوا عن إخلاص العبادة له ورفض الشركاء فإنّى أخاف عليكم عذاب يوم كبير سيستقبلكم فتواجهونه وهو يوم البعث بعد الموت لأنّ مرجعكم إلى الله والله على كلّ شئ قدير فلا يعجز عن إحيائكم بعد الإماته فإيّاكم أن تستبعدوا ذلك.

فالآية قرينة على أنّ المراد باليوم الكبير يوم القيامة، وروى القمّىّ في تفسيره مضمراً أنّ المراد بعذاب يوم كبير: الدخان والصيحة.

١٤٩

( سورة هود آية ٥ - ١٦)

أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ( ٥) وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ( ٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ( ٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ( ٨) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ( ٩) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ( ١٠) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ( ١١) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ( ١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ( ١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ( ١٤) مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ( ١٥) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ١٦)

١٥٠

( بيان)

جمل وفصول من أعمال المشركين وأقوالهم في الردّ على نبوّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما نزّل عليه من الكتاب تذكرها الآيات وتجيب عنها بإلقاء الحجّة كاستخفائهم من الله، وقولهم: ما يحبس العذاب عنّا، وقولهم: لو لا اُنزل عليه كنز أو جاء معه ملك، وقولهم: إنّه افترى القرآن. وفيها بعض معارف اُخر.

قوله تعالى: ( أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ) إلى آخر الآية، ثنى الشئ يثناه ثنيا كفتح يفتح فتحا أي عطفه وطواه وردّ بعضه على بعض قال في المجمع: أصل الثنى العطف تقول: ثنيته عن كذا أي عطفته، ومنه الاثنان لعطف أحدهما على الآخر في المعنى، ومنه الثناء لعطف المناقب في المدح، ومنه الاستثناء لأنّه عطف عليه بالإخراج منه، انتهى. وقال أيضاً: الاستخفاء طلب خفاء الشئ يقال: استخفى وتخفّى بمعنى، وكذلك استغشى وتغشّى، انتهى.

فالمراد بقوله:( يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ) أنّهم يميلون بصدورهم إلى خلف ويطأطئون رؤوسهم ليتخفّوا من الكتاب أي من استماعه حين تلاوته وهو كناية عن استخفائهم من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن حضر عنده حين تلاوة القرآن عليهم للتبليغ لئلّا يروا هناك فتلزمهم الحجّة.

وقوله:( أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ ) الخ، كأنّهم كانوا يسترون رؤوسهم أيضاً بثيابهم عند استخفائهم بثنى الصدور فذكر الله سبحانه ذلك وأخبر أنّه تعالى يعلم عند ذلك ما يسرّون وما يعلنون فما يغنيهم التخفّي عن استماع القرآن والله يعلم سرّهم وعلانيتهم.

وقيل: إنّ المراد باستغشائهم ثيابهم هو الاستغشاء في بيوتهم ليلا عند أخذ المضاجع للنوم، وهو أخفى ما يكون فيه الإنسان وأخلى أحواله، والمعنى: أنّهم يثنون صدورهم ليستخفوا من هذا الكتاب عند تلاوته عليهم، والله يعلم سرّهم و

١٥١

علانيتهم في أخفى ما يكونون عليه من الحال وهو حال تغشّيهم بثيابهم للنوم، ولا يخلو الوجه من ظهور.

هذا ما يفيده السياق في معنى الآية، وربّما ذكر لها معان اُخر بعيدة من السياق منها قولهم: إنّ الضمير في( لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ) راجع إليه تعالى أو إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنها قول بعضهم:( يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ) أي يطوونها على الكفر، وقول آخرين: أي يطوونها على عداوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى غير ذلك من المعاني المذكورة وهى جميعاً معان بعيدة.

قوله تعالى: ( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا ) إلى آخر الآية، الدابّة على ما في كتب اللغة كلّ ما يدبّ ويتحرّك، ويكثر استعماله في النوع الخاصّ منه، وقرينة المقام تقتضي كون المراد منه العموم لظهور أنّ الكلام مسوق لبيان سعة علمه تعالى، ولذلك عقب به قوله:( أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) .

وهذا المعنى أعنى كون ذكر وجوب رزق كلّ دابّة على الله لبيان سعة علمه لكلّ دابّة في جميع أحوالها يستوجب أن يكون قوله:( وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ) بمنزلة عطف التفسير لقوله:( عَلَى اللهِ رِزْقُهَا ) فيعود المعنى إلى أنّ كلّ دابّة من دوابّ الأرض على الله أن يرزقها - ولن تبقى بغير رزق - فهو تعالى عليم بها خبير بحالها أينما كانت فإن كانت في مستقرّ لا تخرج منه كالحوت في الماء وكالصدف فيما وقعت واستقرّت فيه من الأرض رزقها هناك وإن كانت خارجة من مستقرّها وهى في مستودع ستتركه إلى مستقرّها كالطير في الهواء أو كالمسافر الغارب عن وطنه أو كالجنين في الرحم رزقها هناك وبالجملة هو تعالى عالم بحال كلّ دابّة في الأرض وكيف لا وعليه تعالى رزقها ولا يصيب الرزق المرزوق إلّا بعلم من الرازق بالمرزوق وخبرة منه بما حلّ فيه من محلّ دائم أو معجّل ومستقرّ أو مستودع.

ومن هنا يظهر أنّ المراد بالمستقرّ والمستودع المحلّ الّذى تستقرّ فيه الدابّة ما دامت دابّة تدبّ في الأرض وتعيش عيشة دنيويّة والمحلّ الّذى تحلّ فيه ثمّ

١٥٢

تودعه وتفارقه، وأمّا ما ذكره بعض المفسّرين أنّ المراد بالمستقرّ والمستودع أماكنها في الحياة وبعد الممات أو أنّ المراد بهما الأصلاب والأرحام أو أنّ المراد بهما مساكنها من الأرض حين وجدت بالفعل ومودعها من الموادّ والمقارّ حين كانت بعد بالقوّة فمعان بعيدة عن سياق الآية اللّهمّ إلّا أن يجعل قوله:( وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ) كلاماً مستأنفاً بحياله غير مفسّر لما قبله.

وقد تقدّم في قوله تعالى:( وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ) الانعام ٩٨ ما يناسب هذا المقام فليراجع إليه من شاء.

وأمّا قوله:( عَلَى اللهِ رِزْقُهَا ) فهو دالّ على وجوب الرزق عليه تعالى وقد تكرّر في القرآن أنّ الرزق من أفعاله تعالى المختصّة به وأنّه حقّ للخلق عليه تعالى قال تعالى:( أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ ) الملك: ٢١، وقال تعالى:( إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) الذاريات: ٥٨ وقال تعالى:( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ) الذاريات: ٢٣.

ولا ضير في أن يثبت عليه تعالى حقّ لغيره إذا كان تعالى هو الجاعل الموجب لذلك على نفسه من غير أن يداخل فيه غيره، ولذلك نظائر في كلامه تعالى كما قال:( كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) الانعام: ١٢، وقال:( وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) الروم: ٤٧ إلى غير ذلك من الآيات.

والاعتبار العقليّ يؤيّد ذلك فإنّ الرزق هو ما يديم به المخلوق الحىّ وجوده وإذ كان وجوده من فيض جوده تعالى فما يتوقّف عليه من الرزق من قبله، وإذ لا شريك له تعالى في إيجاده لا شريك له في ما يتوقّف عليه وجوده كالرزق.

وقد تقدّم بعض الكلام في معنى الكتاب المبين في سورة الانعام آية: ٥٩ وفي سورة يونس آية: ٦١ فليراجع.

قوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ) الكلام المستوفى في توصيف خلق السماوات والأرض على ما يظهر

١٥٣

من كلامه تعالى ويفسّره ما ورد في ذلك عن أهل العصمةعليهم‌السلام موكول إلى ما سيأتي من تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله تعالى.

وإجمال القول الّذى يظهر به معنى قوله:( سِتَّةِ أَيَّامٍ ) وقوله:( وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ) هو أنّ الظاهر أنّ ما يذكره تعالى من السماوات - بلفظ الجمع - ويقارنها بالأرض ويصف خلقها في ستّة أيّام طبقات من الخلق الجسمانيّ المشهود تعلو أرضنا فكلّ ما علاك وأظلّك فهو سماء على ما قيل والعلو والسفل من المعاني الإضافيّة.

فهى طبقات من الخلق الجسماني المشهود تعلو أرضنا وتحيط بها فإنّ الأرض كرويّة الشكل على ما يفيده قوله تعالى:( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ) الأعراف ٥٤.

والسماء الاُولى هي الّتى تزيّنه مصابيح النجوم والكواكب فهى الطبقة الّتى تتضمّنها أو هي فوقها وتتزيّن بها كالسقف يتزيّن بالقناديل والمشاكى وأمّا ما فوق السماء الدنيا فلم يرد في كلامه شئ من صفتها غير ما في قوله تعالى:( سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ) الملك: ٣، وقوله:( أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ) نوح: ١٦ حيث يدلّ على مطابقة بعضها بعضاً.

وقد ذكر الله سبحانه في صفة خلقها أنّها كانت رتقاء ففتقها ومتفرّقة متلاشية فجمعها وركمها وأنّها كانت دخاناً فصيّرها سماوات، قال تعالى:( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ) الأنبياء: ٣٠ وقال:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) حم السجدة ١٢ فأفاد أنّ خلق السماوات إنّما تمّ في يومين، واليوم مقدار معتدّ به من الزمان وليس من الواجب أن يطابق اليوم في كلّ ظرف ووعاء يوم أرضنا الحاصل من دورة واحدة من حركتها الوضعيّة كما أنّ اليوم الواحد

١٥٤

في القمر الّذى لهذه الأرض يعدل تسعة وعشرين يوماً ونصفاً تقريباً من أيّام الأرض واستعمال اليوم في البرهة من الزمان شائع في الكلام.

فقد خلق الله سبحانه السماوات السبع في برهتين من الزمان كما قال في الأرض:( خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ - إلى أن قال -وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ) حم السجدة: ١٠ فأنبأ عن خلقها في يومين وهما عهدان وطوران وجعل الأقوات في أربعة أيّام وهى الفصول الأربعة.

فالمتحصّل من الآيات أوّلاً: أنّ خلق السماوات والأرض على ما هي عليه اليوم من الصفة والشكل لم يكن عن عدم بحت بل هي مسبوقة الوجود بمادّة متشابهة مركومة مجتمعة ففصّل بعض أجزائها عن بعض فجعلت أرضا في برهتين من الزمان وقد كانت السماء دخانا ففصلت وقضيت سبع سماوات في برهتين من الزمان.

وثانياً: أنّ ما نراه من الأشياء الحيّة إنّما جعلت من الماء فمادّة الماء هي مادّة الحياة.

وبما قدّمنا يظهر معنى الآية الّتى نحن فيها فقوله:( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) المراد بخلقها جمع أجزائها وفصلها وفتقها من سائر ما يختلط بها من المادّة المتشابهة المركومة، وقد تمّ أصل الخلق والرتق في السماوات في يومين وفي الأرض أيضاً في يومين ويبقى من الستّة الأيّام يومان لغير ذلك.

وأمّا قوله:( وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ) فهو حال والمعنى وكان عرشه يوم خلقهنّ على الماء وكون العرش على الماء يومئذ كناية عن أنّ ملكه تعالى كان مستقرّاً يومئذ على هذا الماء الّذى هو مادّة الحياة فعرش الملك مظهر ملكه، واستقراره على محلّ هو استقرار ملكه عليه كما أنّ استواءه على العرش احتواؤه على الملك وأخذه في تدبيره.

وقول بعضهم: إنّ المراد بالعرش البناء أخذاً من قوله تعالى:( مِمَّا يَعْرِشُونَ ) النحل: ٦٨ أي يبنون كلام بعيد عن الفهم.

قوله تعالى: ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) اللّام للغاية والبلاء الامتحان و

١٥٥

الاختبار، وقوله:( أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) بيان للاختبار والامتحان في صورة الاستفهام والمراد أنّه تعالى خلق السماوات والأرض على ما خلق لغاية امتحانكم وتمييز المحسنين منكم من المسيئين.

ومن المعلوم أنّ البلاء والامتحان أمر مقصود لغيره وهو تمييز الجيّد من الردىّ والحسن من السيّئ، وكذلك الحسنة والسيّئة إنّما يراد تمييزهما لأجل ما يترتّب عليهما من الجزاء، وكذلك الجزاء إنّما يراد لأجل ما فيه من إنجاز الوعد الحقّ ولذلك نجده تعالى يذكر كلّ واحد من هذه الاُمور المترتّبة غاية للخلقة فقال في كون الابتلاء غاية للخلقة:( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) الكهف: ٧، وقال في معنى التمييز والتمحيص:( لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) الانفال: ٣٧، وقال في خصوص الجزاء:( وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) الجاثية: ٢٢ وقال في كون الإعادة لإنجاز الوعد:( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) الأنبياء: ١٠٤ إلى غير ذلك من الآيات، وقال في كون العبادة غرضاً في خلق الثقلين:( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) الذاريات: ٥٦.

وعدّ العمل الصالح أو الإنسان المحسن غاية للخلقة لا ينافى اشتمال الخلقة على غآيات اُخرى بعد ما كان الإنسان أحد تلك الغآيات حقيقة لأنّ الوحدة والاتّصال الحاكم على العالم يصحّح كون كلّ واحد من أنواع الموجودات غاية للخلقة بما أنّه محصول الارتباط ونتيجة الازدواج العامّ بين أجزائه فمن الجائز أن يخاطب كلّ نوع من أنواع الخليقة أنّه المطلوب المقصود من خلق السماوات والأرض بما أنّها تؤدّى إليه.

على أنّ الإنسان أكمل وأتقن المخلوقات الجسمانيّة من السماوات والأرض وما فيهما صنعاً ولئن نمى في جانب العلم والعمل نماء حسنا كان أفضل ذاتاً ممّا سواه وأرفع مقاماً وأعلى درجة من غيره وإن كان بعض الخليقة كالسماء أشدّ منه خلقاً كما ذكره الله تعالى ومن المعلوم أنّ كمال الصنع هو المقصود منه إذا اشتمل على ناقص

١٥٦

ولذا كنّا نعدّ مراحل وجود الإنسان المختلفة من المنويّة والجنينيّة والطفوليّة وغيرها مقدّمة لوجود الإنسان السوىّ الكامل وهكذا.

وبهذا البيان يظهر أنّ أفضل أفراد الإنسان - إن كان فيهم من هو أفضل مطلقا - غاية لخلق السماوات والأرض، ولفظ الآية أيضاً لا يخلو عن إشارة أو دلالة على ذلك فإنّ قوله:( أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) يفيد أنّ القصد إلى تمييز من هو أحسن عملا من غيره سواء كان ذلك الغير محسناً أو مسيئا فمن كان عمله أحسن من سائر الافراد سواء كانوا محسنين وأعمالهم دون عمله أو مسيئين كان تمييزه منهم هو الغرض المقصود من الخلقة، وبذلك يستصحّ ما ورد في الحديث القدسيّ من خطابه تعالى لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لولاك لما خلقت الأفلاك) فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل الخلق.

وفي المجمع: قال الجبائىّ وفي الآية دلالة على أنّه كان قبل خلق السماوات والأرض والملائكة لأنّ خلق العرش على الماء لا وجه لحسنه إلّا أن يكون فيه لطف لمكلّف يمكنه الاستدلال به فلا بدّ حينئذ من حىّ مكلّف، وقال علىّ بن عيسى: لا يمتنع أن يكون في الإخبار بذلك مصلحة للمكلّفين فلا يجب ما قاله الجبائىّ وهو الّذى اختاره المرتضى قدّس الله روحه. انتهى.

أقول: وما ذكراه مبنىّ على ما ذهب إليه المعتزلة: أنّ أفعال الله سبحانه معلّلة بالأغراض وتابعة للمصالح وجهات الحسن ولو كان ذلك بأن يخلق خلقاً ليخبر بذلك المكلّفين فيعتبروا به ويؤمنوا له فيتمّ بذلك مصلحة من مصالحهم، وقد تقدّم في أبحاثنا السابقة أنّ الله سبحانه لا يحكم عليه ولا يؤثّر فيه غيره سواء كان ذلك الغير مصلحة أو أيّ شئ آخر مفروض وأنّ غيره أيّ شئ فرض مخلوق له مدبّر بأمره إن كان أمراً ذا واقعيّة ووجود إن الحكم إلّا لله والله خالق كلّ شئ.

فجهات الحسن والمصلحة وهى الّتى تحكم علينا وتبعثنا نحو أفعالنا اُمور خارجة عن أفعالنا مؤثّرة فينا من جهة كوننا فاعلين نروم بها إلى سعادة الحياة، وأمّا هو سبحانه فإنّه أجلّ من ذلك. وذلك أنّ جهات الحسن والمصلحة هذه إنّما هي قوانين عامّة مأخوذة من نظام الكون والروابط الدائرة بين أجزاء الخلقة، ومن

١٥٧

الضرورىّ أنّ الكون وما فيه من النظام الجارى فعله سبحانه، ومن الممتنع جدّاً أن يتقدّم المفهوم المنتزع على ما انتزع منه من الفعل ثمّ يتخطّاه ولا يقنع حتّى يتقدّم على فاعله الموجد له.

وأمّا ما في الآية من تعليل خلق السماوات والأرض بقوله:( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) ونظائره الكثيرة في القرآن فإنّما هو وأمثاله من قبيل التعليل بالفوائد المترتّبة والمصالح المتفرّعة وقد أخبر تعالى أنّ فعله لا يخلو من الحسن إذ قال:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) الم السجدة: ٧، فهو سبحانه هو الخير لا شرّ فيه وهو الحسن لا قبح عنده وما كان كذلك لم يصدر عنه شرّ ولا قبيح البتّة.

وليس مقتضى ما تقدّم أن يكون معنى الحسن هو ما صدر عنه تعالى أو الّذى أمر به وإن استقبحه العقل، ومعنى القبيح هو ما لا يصدر عنه أو الّذى نهى عنه وإن استحسنه العقل واستصوبه فإن ذلك يأباه أمثال قوله تعالى:( قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ) الاعراف: ٢٨.

قوله تعالى: ( وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) لمّا كان قوله:( لِيَبْلُوَكُمْ ) الخ، يشير إلى المعاد أشار إلى ما كان يواجه به الكفّار ذكرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمعاد برميه بأنّه سحر من القول.

فظاهر الآية أنّهم كما كانوا يسمّون لفظ القرآن الكريم بما فيه من الفصاحة وبلاغة النظم سحراً، كذلك كانوا يسمّون ما يخبر به القرآن أو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حقائق المعارف الّتى لا يصدّقه أحلامهم كالبعث بعد الموت سحراً، وعلى هذا فهو من مبالغتهم في الافتراء على كتاب الله والتعنّت والعناد مع الحقّ الصريح حيث تعدّوا عن رمى اللّفظ لفصاحته وبلاغته بالسحر إلى رمى المعنى لصحّته واستقامته بالسحر.

ومن الممكن أن يكون المراد بالسحر المغالطة والتمويه بإظهار الباطل في صورة الحقّ على نحو إطلاق الملزوم وإرادة اللازم لكن لا يلائمه ظاهر قوله تعالى في نظير المورد:( قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ

١٥٨

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ ) المؤمنون: ٨٩.

قوله تعالى: ( وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ ) إلى آخر الآية. اللّام في صدر الآية للقسم ولذلك اُكّد الجواب أعنى قوله:( لَّيَقُولُنَّ ) باللّام والنون و المعنى: واُقسم لئن أخّرنا عن هؤلاء الكفّار ما يستحقّونه من العذاب قالوا مستهزئين: ما الّذى يحبس هذا العذاب الموعود عنّا ولماذا لا ينزل علينا ولا يحلّ بنا.

وفي هذا إشارة أو دلالة على أنّهم سمعوا من كلامه تعالى أو من كلام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يوعدهم بعذاب لا محيص منه وأنّ الله أخّر ذلك تأخيراً رحمة لهم فاستهزؤا به وسخروا منه بقولهم:( مَا يَحْبِسُهُ ) ويؤيّده قوله تعالى عقيب ذلك:( أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ ) الخ.

وبهذا يتأيّد أنّ السورة - سورة هود - نزلت بعد سورة يونس لمكان قوله تعالى فيها:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ) إلى آخر الآيات.

وقوله:( إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ ) الاُمّة الحين والوقت كما في قوله تعالى:( وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ) يوسف: ٤٥ أي بعد حين ووقت.

وربّما أمكن أن يراد بالاُمّة الجماعة فقد وعد الله سبحانه أن يؤيّد هذا الدين بقوم صالحين لا يؤثرون على دينه شيئاً ويمكّن عند ذلك للمؤمنين دينهم الّذى ارتضى لهم قال:( فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ) المائدة: ٥٤، وقال:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ - إلى أن قال -يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ) النور: ٥٥. وهذا وجه لا بأس به.

وقيل: إنّ المراد بالاُمّة الجماعة وهم قوم يأتي الله بهم بعد هؤلاء فيصرّون

١٥٩

على الكفر فيعذّبهم بعذاب الاستئصال كما فعل بقوم نوح، أو هم قوم يأتون بعد هؤلاء فيصرّون على معصية الله فتقوم عليهم القيامة.

والوجهان سخيفان لبنائهما على كون المعذّبين غير هؤلاء المستهزئين من الكفّار وظاهر قوله تعالى:( أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ ) الخ، أنّ المعذّبين هم المستهزؤن بقولهم:( مَا يَحْبِسُهُ ) .

وقوله:( أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) بمنزلة الجواب عن قولهم:( مَا يَحْبِسُهُ ) الواقع موقع الاستهزاء فإنّه في معنى الردّ على ما اُوعدوا به من العذاب، ومحصّله أنّ هذا العذاب الّذى يهدّدنا لو كان حقّاً لم يكن لحبسه سبب فإنّا كافرون غير عادلين عن الكفر ولا تاركين له فتأخّر نزول العذاب من غير موجب لتأخّره بل مع الموجب لتعجيله كاشف عن كونه من قبيل الوعد الكاذب.

فأجاب الله عن ذلك بأنّه سيأتيهم ولا يصرفه يومئذ عنهم صارف ويحيق بهم هذا العذاب الّذى كانوا به يستهزؤن.

وبما تقدّم يظهر أنّ هذا العذاب الّذى يهدّدون به عذاب دنيوىّ سيحيق بهم وينزل عليهم دون عذاب الآخرة، وعلى هذا فهذه الآية والّتى قبلها يذكر كلّ منهما شيئاً من ما تهوّس به الكفّار بجهالتهم فالآية السابقة تذكر أنّهم إذا ذكر لهم البعث واُنذروا بعذاب يوم القيامة قالوا: إن هذا إلّا سحر مبين، وهذه الآية تذكر أنّ الله إذا أخّر عنهم العذاب إلى اُمّة واُخبروا بذلك قالوا مستهزئين: ما يحبسه.

قوله تعالى: ( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ ) قال في المجمع: الذوق تناول الشئ بالفم لإدراك الطعم، وسمّى الله سبحانه إحلال اللذّات بالإنسان إذاقة لسرعة زوالها تشبيهاً بما يذاق ثمّ يزول كما قيل: أحلام نوم أو كظلّ زائل والنزع قلع الشئ عن مكانه، واليؤس فعول من يئس - صيغة مبالغة - واليأس القطع بأنّ الشئ المتوقّع لا يكون ونقيضه الرجاء. انتهى.

١٦٠