الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

الميزان في تفسير القرآن14%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 406

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114217 / تحميل: 6642
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

معنى واحد بسيط، وغرض فارد أصلىّ لا تكثّر فيه ولا تشتّت بحيث لا تروم آية من الآيات الكريمة مقصداً من المقاصد ولا ترمى إلى هدف إلّا والغرض الأصلىّ هو الروح السارى في جثمانه والحقيقة المطلوبة منه.

فلا غرض لهذا الكتاب الكريم على تشتّت آياته وتفرّق أبعاضه إلّا غرض واحد متوحّد إذا فصّل كان في مورد أصلاً دينيّاً وفي آخر أمراً خلقيّاً وفي ثالث حكماً شرعيّاً وهكذا كلّما تنزّل من الاُصول إلى فروعها ومن الفروع إلى فروع الفروع لم يخرج من معناه الواحد المحفوظ، ولا يخطى غرضه فهذا الأصل الواحد بتركّبه يصير كلّ واحد واحد من أجزاء تفاصيل العقائد والأخلاق والأعمال، وهى بتحليلها وإرجاعها إلى الروح السارى فيها الحاكم على أجسادها تعود إلى ذاك الأصل الواحد.

فتوحيده تعالى بما يليق بساحه عزّه وكبريائه مثلاً في مقام الاعتقاد هو إثبات أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وفي مقام الأخلاق هو التخلّق بالأخلاق الكريمة من الرضا والتسليم والشجاعة والعفّة والسخاء ونحو ذلك والاجتناب عن الصفات الرذيلة، وفي مقام الأعمال والأفعال الإتيان بالأعمال الصالحة والورع عن محارم الله.

وإن شئت فقل: إنّ التوحيد الخالص يوجب في كلّ من مراتب العقائد والأخلاق والأعمال ما يبيّنه الكتاب الإلهىّ من ذلك كما أنّ كلّا من هذه المراتب وكذلك أجزاؤها لا تتمّ من دون توحيد خالص.

فقد تبيّن أنّ الآية في مقام بيان رجوع تفاصيل المعارف والشرائع القرآنيّة إلى أصل واحد هو بحيث إذا ركّب في كلّ مورد من موارد العقائد والأوصاف والأعمال مع خصوصيّة ذلك المورد أنتج حكماً يخصّه من الأحكام القرآنيّة، وبذلك يظهر:

أوّلا: أنّ قوله:( كِتَابٌ ) خبر لمبتدء محذوف والتقدير: هذا كتاب، والمراد بالكتاب هو ما بأيدينا من القرآن المقسّم إلى السور والآيات، ولا ينافى ذلك

١٤١

ما ربّما يذكر أنّ المراد بالكتاب اللوح المحفوظ أو القرآن بما هو في اللوح فإنّ هذا الكتاب المقروّ متّحد مع ما في اللوح اتّحاد التنزيل مع التأويل.

وثانياً: أنّ لفظة( ثُمَّ ) في قوله:( ثُمَّ فُصِّلَتْ ) الخ، لإفادة التراخي بحسب ترتيب الكلام دون التراخي الزمانىّ إذ لا معنى للتقدّم والتأخّر الزمانىّ بين المعاني المختلفة بحسب الأصليّة والفرعيّة أو بالإجمال والتفصيل.

ويظهر أيضاً ما في بعض ما ذكره أرباب التفاسير في معنى الآية كقول بعضهم: إنّ معناها اُحكمت آياته فلم تنسخ منها كما نسخت الكتب والشرائع ثمّ فصّلت ببيان الحلال والحرام وسائر الأحكام.

وفيه: أنّ الواجب على هذا المعنى أن يقيّد عدم النسخ بعدم النسخ بكتاب غير القرآن ينسخ القرآن بعده كما نسخ القرآن غيره فإنّ وجود النسخ بين الآيات القرآنيّة نفسها ممّا لا ينبغى الارتياب فيه. والتقييد المذكور لا دلالة عليه من جهة لفظ الآية.

وكقول بعضهم: إنّ المراد اُحكمت آياته بالأمر والنهى ثمّ فصّلت بالوعد والوعيد والثواب والعقاب. وفيه أنّه تحكّم لا دليل عليه أصلاً.

وكقول بعضهم: إنّ المراد إحكام لفظها بجعلها على أبلغ وجوه الفصاحة حتّى صار معجزا، وتفصيلها بالشرح والبيان. والكلام في هذا الوجه كسابقه.

وكقول بعضهم: المراد بإحكام آياته جعلها محكمة متقنة لا خلل فيها ولا باطل، والمراد بتفصيلها جعلها متتابعة بعضها إثر بعض. وفيه: أنّ التفصيل بهذا المعنى غير معهود لغة إلّا أن يفسّر بمعنى التفرقة والتكثير ويرجع حينئذ إلى ما قدّمناه من المعنى.

وكقول بعضهم: إنّ المراد اُحكمت آياته جملة ثمّ فرقت في الإنزال آية بعد آية ليكون المكلّف أمكن من النظر والتأمّل.

وفيه: أنّ الأحرى بهذا الوجه أن يذكر في مثل قوله تعالى:( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ

١٤٢

فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ) الدخان: ٣، وقوله:( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلً ) أسرى: ١٠٦ وما في هذا المعنى من الآيات ممّا يدلّ على أنّ للقرآن مرتبة عند الله هي أعلى من سطح الأفهام ثمّ نزل إلى مرتبة تقبل التفهّم والتفقّه رعآية لحال الأفهام العادية كما يشير إليه أيضاً قوله:( وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف: ٤.

وأمّا آيتنا الّتى نحن فيها:( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ) الخ، فقد علّق فيها الإحكام والتفصيل معاً على الآيات، وليس ذلك إلّا من جهة معانيها فتفيد أنّ الإحكام والتفصيل هما في معاني هذه الآيات المتكثّرة فلها جهة وحدة وبساطة وجهة كثرة وتركّب، وينطبق على ما قدّمناه من المعنى لا على ما ذكره الراجع إلى مسألة التأويل والتنزيل فافهم ذلك.

وكقول بعضهم: إنّ المراد بالإحكام والتفصيل إجمال بعض الآيات وتبيين البعض الآخر، وقد مثّل لذلك بقوله تعالى في هذه السورة:( مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَىٰ وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيع ) الآية: ٢٤، فإنّه مجمل محكم يتبيّن بما ورد فيها من قصّة نوح وهود وصالح. وهكذا.

وفيه: أنّ ظاهر الآية أنّ الإحكام والتفصيل متحّدان من حيث المورد بمعنى أنّ الآيات الّتى ورد عليها الإحكام بعينها هي الّتى ورد عليها التفصيل لا أنّ الإحكام وصف لبعض آياته والتفصيل وصف بعضها الآخر كما هو لازم ما ذكره.

وقوله تعالى:( مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) الحكيم من أسمائه الحسنى الفعليّة يدلّ على إتقان الصنع، وكذا الخبير من أسمائه الحسنى يدلّ على علمه بجزئيّات أحوال الاُمور الكائنة ومصالحها، وإسناد إحكام الآيات وتفصيلها إلى كونه تعالى حكيماً خبيراً لما بينهما من النسبة.

قوله تعالى: ( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) الآية، وما بعدها تفسير لمضمون الآية الاُولى:( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ

١٤٣

آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) وإذ كانت الآية تتضمّن أنّه كتاب من الله إلى له آيات محكمة ثمّ مفصّلة كانت العناية في تفسيرها متوجّهة إلى إيضاح هذه الجهات.

ومن المعلوم أنّ هذا الكتاب الّذى أنزله الله تعالى من عنده إلى رسوله ليتلوه على الناس ويبلّغهم له وجه خطاب إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووجه خطاب إلى الناس بوساطته أمّا وجه خطابه إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو الّذى يتلقّاه الرسول من وحى الله فهو أن أنذر وبشّر وادع الناس إلى كذا وكذا، وهذا الوجه هو الّذى عنى به في أوّل سورة يونس حيث قال تعالى:( أَوْحَيْنَا إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ) يونس: ٢.

وأمّا وجه خطابه إلى الناس وهو الّذى يتلقّاه الناس من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو ما يلقيه إلى الناس من المعنى في ضمن تلاوته كلام الله عليهم بعنوان الرسالة أنّى أدعوكم إلى الله دعوة نذير وبشير، وهذا الوجه من الخطاب هو الّذى عنى به في قوله:( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ) الخ.

فالآية من كلام الله تفسر معنى إحكام آيات الكتاب ثمّ تفصيلها بحكآية ما يتلقّاه الناس من دعوة الرسول إيّاهم بتلاوة كتاب الله عليهم، وليس كلاماً للرسول بطريق الحكاية ولا بتقدير القول ولا من الالتفات في شئ، ولا أنّ التقدير: أمركم بأن لا تعبدوا أو: فصّلت آياته لأ( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) بأن يكون قوله:( لَّا تَعْبُدُو ) نفياً لا نهياً فإنّ قوله بعد:( وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) معطوف على قوله: أن لا تعبدوا إلّا الله، وهو يشهد بأنّ( لَّا تَعْبُدُو ) نهى لا نفى. على أنّ التقدير لا يصار إليه من غير دليل فافهم ذلك فإنّه من لطيف صنعة البلاغة في الآية.

وعلى هذا فقوله:( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) دعوة إلى توحيد العبادة بالنهي عن عبادة غير الله من الآلهة المتّخذة شركاء لله، وقصر العبادة فيه تعالى، وقوله:( وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) أمر بطلب المغفرة من الله وقد اتّخذوه ربّاً لهم برفض عبادة غيره ثمّ أمر بالتوبة والرجوع إليه بالأعمال الصالحة، ويتحصّل من الجميع

١٤٤

سلوك الطريق الطبيعيّ الموصل إلى القرب والزلفى منه تعالى، وهو رفض الآلهة دون الله ثمّ طلب المغفرة والطهارة النفسانيّة للحضور في حظيرة القرب ثمّ الرجوع إليه تعالى بالأعمال الصالحة.

وقد جيئ بأن التفسيريّة ثانياً في قوله:( وَأَنِ اسْتَغْفِرُو ) الخ، لاختلاف ما بين المرحلتين اللّتين يشير إليهما قوله:( أَن لَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) وهى مرحلة التوحيد بالعبادة مخلصاً، وقوله:( وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) وهى مرحلة العمل الصالح وإن كنت الثانية من نتائج الاُولى وفروعها.

ولكون التوحيد هو الأصل الأساسىّ والاستغفار والتوبة نتيجة وفرعاً متفرّعاً عليه أورد النذر والبشارة بعد ذكر التوحيد، والوعد الجميل الّذى يتضمّنه قوله:( يُمَتِّعْكُم ) الخ، بعد ذكر الاستغفار والتوبة فقال:( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ) فبيّن به أنّ النذر والبشرى كائنين ما كانا يرجعان إلى التوحيد و يتعلّقان به ثمّ قال:( وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا ) الخ فإنّ الآثار القيّمة والنتائج الحسنة المطلوبة إنّما تترتّب على الشئ بعد ما تمّ في نفسه وكمل بصفاته وفروعه ونتائجه، والتوحيد وإن كان هو الأصل الوحيد للدين على سعته لكنّ شجرته لا تثمر ما لم تقم على ساقها ويتفرّع عليها فروعها وأغصانها،( كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ) .

والظاهر أنّ المراد بالتوبة في الآية الإيمان كما في قوله تعالى:( فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ) المؤمنون: ٧ فيستقيم الجمع بين الاستغفار والتوبة مع عطف التوبة عليه بثمّ، والمعنى اتركوا عبادة الأصنام بعد هذا واطلبوا من ربّكم غفران ما قدّمتم من المعصية ثمّ آمنوا بربّكم.

وقيل: إنّ المعنى اطلبوا المغفرة واجعلوها غرضكم ثمّ توصّلوا إليه بالتوبة وهو غير جيّد ومن التكلّف ما ذكره بعضهم أنّ المعنى: استغفروا من ذنوبكم الماضية ثمّ توبوا إليه كلّما أذنبتم في المستقبل وكذا قول آخر: إنّ( ثمّ ) في الآية بمعنى

١٤٥

الواو لأنّ التوبة والاستغفار واحد.

وقوله:( يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ) الأجل المسمّى هو الوقت الّذى ينتهى إليه الحياة لا تتخطّاه البتّة، فالمراد هو التمتيع في الحياه الدنيا بل بالحياة الدنيا لأنّ الله سبحانه سمّاها في مواضع من كلامه متاعاً، فالمتاع الحسن إلى أجل مسمّى ليس إلّا الحياة الدنيا الحسنة.

فيؤول معنى قوله:( يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا ) على تقدير كون( مَّتَاعً ) مفعولاً مطلقاً إلى نحو من قولنا: يمتّعكم تمتيعاً حسناً بالحياة الحسنة الدنيويّة، ومتاع الحياة إنّما يكون حسناً إذا ساق الإنسان إلى سعادته الممكنة له، وهداه إلى أمانىّ الإنسانيّة من التنعّم بنعم الدنيا في سعة وأمن ورفاهية وعزّة وشرافة فهذه الحياة الحسنة تقابل المعيشة الضنك الّتى يشير إليها في قوله:( وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ) طه: ١٢٤.

ولا حسن لمتاع الحياة الدنيا ولا سعة في المعيشة لمن أعرض عن ذكر الله ولم يؤمن بربّه فإنّ البعض من الناس وإن أمكن أن يؤتى سعة من المال وعلوّاً في الأرض ثمّ يحسب أن لا أمنيّة من أمانىّ الإنسانيّة إلّا وقد اُوتيها لكنّه في غفلة عن ابتهاج من تحقّق بحقيقة الإيمان بالله ودخل في ولآية الله فآتاه الله الحياة الطيّبة الإنسانيّة، وآمنه من ذلّة الحياة الحيوانيّة الّتى لا حكومة فيها إلّا للحرص والشره والافتراس والتكلّب والجهالة، فالنفس الحرّة الإنسانيّة تذمّ من الحياة ما يستأثره النفوس الرذيلة الخسيسة وإن استتبع الذلّة والمسكنة وكلّ شناعة.

فالحياة الحسنة لمجتمع صالح حرّ أن يشتركوا في التمتّع من مزايا النعم الأرضيّة الّتى خلقها الله لهم اشتراكاً عن تراحم بينهم وتعاون وتعاضد من غير تعدّ وتزاحم بحيث يطلب كلّ خير نفسه ونفعها في خير مجتمعه ونفعه من غير أن يعبد نفسه ويستعبد الآخرين.

وبالجملة التمتّع بالحياة الحسنة إلى أجل مسمّى هو تمتّع الفرد بالحياة على ما تستحسنه الفطرة الإنسانيّة وهو الاعتدال في التمتّعات المادّيّة في ضوء العلم

١٤٦

النافع والعمل الصالح هذا إذا نسب إلى الفرد، وأمّا إذا نسب إلى المجتمع فهو الانتفاع العامّ من نعم الحياة الأرضيّة الطيّبة بتخصيص ما يناله الأفراد بكدّهم وسعيهم بالمجتمع الملتئم الأجزاء من غير تضادّ بين أبعاضه أو تناقض.

وقوله:( وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ) الفضل هو الزيادة وإذ نسب الفضل في قوله:( كُلَّ ذِي فَضْلٍ ) إلى من عنده الفضل من الأفراد كان ذلك قرينة على كون الضمير في( فَضْلَهُ ) راجعاً إلى ذى الفضل دون اسم الجلالة كما احتمله بعضهم والفضل والزيادة من المعاني النسبيّة الّتى إنّما تتحقّق بقياس شئ إلى شئ وإضافته إليه.

فالمعنى: ويعطى كلّ من زاد على غيره بشئ من صفاته وأعماله وما يقتضيه من الاختصاص بمزيد الأجر وخصوص موهبة السعادة تلك الزيادة من غير أن يبطل حقّه أو يغصب فضله أو يملّكه غيره كما يشاهد في المجتمعات غير الدينيّة وإن كانت مدنيّة راقية فلم تزل البشريّة منذ سكنت الأرض وكوّنت أنواع المجتمعات الهمجيّة أو الراقية وما هي أرقي تنقسم إلى طائفتين مستعلية مستكبرة قاهرة، ومستذلّة مستعبدة مقهورة، وليس يعدّل هذا الإفراط والتفريط ولا يسوّى هذا الاختلاف إلّا دين التوحيد.

فدين التوحيد هو السنّة الوحيدة الّتى تقصر المولويّة والسيادة في الله سبحانه وتسوّى بين القوىّ والضعيف والمتقدّم والمتأخّر والكبير والصغير والأبيض والأسود والرجل والمرأة وتنادى بمثل قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ) الحجرات: ١٣، وقوله:( أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ) آل عمران: ١٩٥.

ثمّ إنّ وقوع قوله:( وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ) الحاكى عن الاعتناء بفضل كلّ ذى فضل بعد قوله:( يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ) الدالّ على تمتيع الجميع مشعر:

١٤٧

أوّلاً: بأنّ المراد بالجملة الاُولى المتاع العامّ المشترك بين أفراد المجتمع وبعبارة اُخرى حياة المجتمع العامّة الحسنة، وبالجملة الثانية المزايا الّتى يؤتاها بعض الأفراد قبال ما يختصّون به من الفضل.

وثانياً: أنّ الجملة الاُولى تشير إلى التمتيع بمتاع الحياة الدنيا والثانية إلى إيتاء ثواب الآخرة قبال الأعمال الصالحة القائمة بالفرد أو إيتاء كلّ ذى فضل فضله في الدنيا والآخرة معاً بتخصيص كلّ من جاء بزيادة في جهة دنيويّة بما تقتضيه زيادته من المزيّة في جهات الحياة بإقامة كلّ ذى فضيلة في صفة أو عمل مقامه الّذى تقتضيه صفته أو عمله و وضعه موضعه من غير أن يسوّى بين الفاضل والمفضول في دينهما أو تزاح الخصوصيّات وتبطل الدرجات والمنازل بين الأعمال والمساعي الاجتماعيّة فلا يتفاوت حال الناشط في عمله والكسلان، ولا يختلف أمر المجتهد في العمل الدقيق المهمّ في بابه واللاعب بالعمل الحقير الهيّن وهكذا.

وقوله:( وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ) أي فإن تتولّوا الخ بالخطاب، والدليل عليه قوله:( عَلَيْكُمْ ) وما تقدّم في الآيتين من الخطابات المتعدّدة فلا يصغى إلى قول من يأخذ قوله:( تَوَلَّوْا ) جمعاً مذكّراً غائباً من الفعل الماضي فإنّه ظاهر الفساد.

وقد أغرب بعض المفسّرين حيث قال في قوله تعالى:( يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ) : والآية تتضمّن نجاة هذه الاُمّة المحمّديّة من عذاب الاستئصال كما بيّناه في تفسير سورة يونس أيضاً انتهى، ولست أدرى كيف استفاد من الآية ما ذكره ولعلّه بنى ذلك على أنّ الآية اشترطت للاُمّة الحياة الحسنة من غير استئصال إن آمنوا بالله وآياته ثمّ إنّهم آمنوا وانتشر الإسلام في الدنيا، لكن من المعلوم أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرسل إلى أهل الدنيا عامّة ولم يؤمن به عامّتهم، ولا أنّ المؤمنين به أخلصوا جميعاً إيمانهم من النفاق وسرى الإيمان من ظاهرهم إلى باطنهم ومن لسانهم إلى جنانهم.

ولو كان مجرّد إيمان بعض الاُمّة مع كفر الآخرين كافياً في تحقّق الشرط

١٤٨

وارتفاع عذاب الاستئصال لكفى في اُمّة نوح وهودعليهما‌السلام وغيرهما وقد دعوا اُممهم إلى ما دعا إليه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واشترطوا لهم مثل ما اشترط لاُمّته ثمّ عمّهم الله بعذاب الاستئصال وكان حقّاً عليه نصر المؤمنين.

وقد حكى الله سبحانه عن نوح قوله لقومه في ضمن دعوته:( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ) نوح: ١٢ وحكى عن هود قوله:( وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ) هود: ٥٢، وحكى جملة عن نوح وهود وصالح والّذين من بعدهم قولهم:( أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ) إبراهيم: ١٠.

وأمّا قوله:( وقد بيّناه في سورة يونس أيض) فلم يأت هناك إلّا بدعوى خالية وقد قدّمنا هناك أنّ آيات سورة يونس صريحة في أنّ الله سيقضى بين هذه الاُمّة بين نبيّهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيعذّبهم وينجى المؤمنين سنّة الله الّتى قد خلت في عباده ولن تجد لسنّة الله تبديلاً.

قوله تعالى: ( إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) في مقام التعليل لما يفيده قوله:( وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ) من المعاد، وذيل الآية، مسوق لإزاحة ما يمكن أن يختلج في صدورهم من استبعاد البعث بعد عروض الموت، والمعنى وإن تتولّوا عن إخلاص العبادة له ورفض الشركاء فإنّى أخاف عليكم عذاب يوم كبير سيستقبلكم فتواجهونه وهو يوم البعث بعد الموت لأنّ مرجعكم إلى الله والله على كلّ شئ قدير فلا يعجز عن إحيائكم بعد الإماته فإيّاكم أن تستبعدوا ذلك.

فالآية قرينة على أنّ المراد باليوم الكبير يوم القيامة، وروى القمّىّ في تفسيره مضمراً أنّ المراد بعذاب يوم كبير: الدخان والصيحة.

١٤٩

( سورة هود آية ٥ - ١٦)

أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ( ٥) وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ( ٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ( ٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ( ٨) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ( ٩) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ( ١٠) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ( ١١) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ( ١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ( ١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ( ١٤) مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ( ١٥) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ١٦)

١٥٠

( بيان)

جمل وفصول من أعمال المشركين وأقوالهم في الردّ على نبوّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما نزّل عليه من الكتاب تذكرها الآيات وتجيب عنها بإلقاء الحجّة كاستخفائهم من الله، وقولهم: ما يحبس العذاب عنّا، وقولهم: لو لا اُنزل عليه كنز أو جاء معه ملك، وقولهم: إنّه افترى القرآن. وفيها بعض معارف اُخر.

قوله تعالى: ( أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ) إلى آخر الآية، ثنى الشئ يثناه ثنيا كفتح يفتح فتحا أي عطفه وطواه وردّ بعضه على بعض قال في المجمع: أصل الثنى العطف تقول: ثنيته عن كذا أي عطفته، ومنه الاثنان لعطف أحدهما على الآخر في المعنى، ومنه الثناء لعطف المناقب في المدح، ومنه الاستثناء لأنّه عطف عليه بالإخراج منه، انتهى. وقال أيضاً: الاستخفاء طلب خفاء الشئ يقال: استخفى وتخفّى بمعنى، وكذلك استغشى وتغشّى، انتهى.

فالمراد بقوله:( يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ) أنّهم يميلون بصدورهم إلى خلف ويطأطئون رؤوسهم ليتخفّوا من الكتاب أي من استماعه حين تلاوته وهو كناية عن استخفائهم من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن حضر عنده حين تلاوة القرآن عليهم للتبليغ لئلّا يروا هناك فتلزمهم الحجّة.

وقوله:( أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ ) الخ، كأنّهم كانوا يسترون رؤوسهم أيضاً بثيابهم عند استخفائهم بثنى الصدور فذكر الله سبحانه ذلك وأخبر أنّه تعالى يعلم عند ذلك ما يسرّون وما يعلنون فما يغنيهم التخفّي عن استماع القرآن والله يعلم سرّهم وعلانيتهم.

وقيل: إنّ المراد باستغشائهم ثيابهم هو الاستغشاء في بيوتهم ليلا عند أخذ المضاجع للنوم، وهو أخفى ما يكون فيه الإنسان وأخلى أحواله، والمعنى: أنّهم يثنون صدورهم ليستخفوا من هذا الكتاب عند تلاوته عليهم، والله يعلم سرّهم و

١٥١

علانيتهم في أخفى ما يكونون عليه من الحال وهو حال تغشّيهم بثيابهم للنوم، ولا يخلو الوجه من ظهور.

هذا ما يفيده السياق في معنى الآية، وربّما ذكر لها معان اُخر بعيدة من السياق منها قولهم: إنّ الضمير في( لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ) راجع إليه تعالى أو إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنها قول بعضهم:( يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ) أي يطوونها على الكفر، وقول آخرين: أي يطوونها على عداوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى غير ذلك من المعاني المذكورة وهى جميعاً معان بعيدة.

قوله تعالى: ( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا ) إلى آخر الآية، الدابّة على ما في كتب اللغة كلّ ما يدبّ ويتحرّك، ويكثر استعماله في النوع الخاصّ منه، وقرينة المقام تقتضي كون المراد منه العموم لظهور أنّ الكلام مسوق لبيان سعة علمه تعالى، ولذلك عقب به قوله:( أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) .

وهذا المعنى أعنى كون ذكر وجوب رزق كلّ دابّة على الله لبيان سعة علمه لكلّ دابّة في جميع أحوالها يستوجب أن يكون قوله:( وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ) بمنزلة عطف التفسير لقوله:( عَلَى اللهِ رِزْقُهَا ) فيعود المعنى إلى أنّ كلّ دابّة من دوابّ الأرض على الله أن يرزقها - ولن تبقى بغير رزق - فهو تعالى عليم بها خبير بحالها أينما كانت فإن كانت في مستقرّ لا تخرج منه كالحوت في الماء وكالصدف فيما وقعت واستقرّت فيه من الأرض رزقها هناك وإن كانت خارجة من مستقرّها وهى في مستودع ستتركه إلى مستقرّها كالطير في الهواء أو كالمسافر الغارب عن وطنه أو كالجنين في الرحم رزقها هناك وبالجملة هو تعالى عالم بحال كلّ دابّة في الأرض وكيف لا وعليه تعالى رزقها ولا يصيب الرزق المرزوق إلّا بعلم من الرازق بالمرزوق وخبرة منه بما حلّ فيه من محلّ دائم أو معجّل ومستقرّ أو مستودع.

ومن هنا يظهر أنّ المراد بالمستقرّ والمستودع المحلّ الّذى تستقرّ فيه الدابّة ما دامت دابّة تدبّ في الأرض وتعيش عيشة دنيويّة والمحلّ الّذى تحلّ فيه ثمّ

١٥٢

تودعه وتفارقه، وأمّا ما ذكره بعض المفسّرين أنّ المراد بالمستقرّ والمستودع أماكنها في الحياة وبعد الممات أو أنّ المراد بهما الأصلاب والأرحام أو أنّ المراد بهما مساكنها من الأرض حين وجدت بالفعل ومودعها من الموادّ والمقارّ حين كانت بعد بالقوّة فمعان بعيدة عن سياق الآية اللّهمّ إلّا أن يجعل قوله:( وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ) كلاماً مستأنفاً بحياله غير مفسّر لما قبله.

وقد تقدّم في قوله تعالى:( وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ) الانعام ٩٨ ما يناسب هذا المقام فليراجع إليه من شاء.

وأمّا قوله:( عَلَى اللهِ رِزْقُهَا ) فهو دالّ على وجوب الرزق عليه تعالى وقد تكرّر في القرآن أنّ الرزق من أفعاله تعالى المختصّة به وأنّه حقّ للخلق عليه تعالى قال تعالى:( أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ ) الملك: ٢١، وقال تعالى:( إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) الذاريات: ٥٨ وقال تعالى:( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ) الذاريات: ٢٣.

ولا ضير في أن يثبت عليه تعالى حقّ لغيره إذا كان تعالى هو الجاعل الموجب لذلك على نفسه من غير أن يداخل فيه غيره، ولذلك نظائر في كلامه تعالى كما قال:( كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) الانعام: ١٢، وقال:( وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) الروم: ٤٧ إلى غير ذلك من الآيات.

والاعتبار العقليّ يؤيّد ذلك فإنّ الرزق هو ما يديم به المخلوق الحىّ وجوده وإذ كان وجوده من فيض جوده تعالى فما يتوقّف عليه من الرزق من قبله، وإذ لا شريك له تعالى في إيجاده لا شريك له في ما يتوقّف عليه وجوده كالرزق.

وقد تقدّم بعض الكلام في معنى الكتاب المبين في سورة الانعام آية: ٥٩ وفي سورة يونس آية: ٦١ فليراجع.

قوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ) الكلام المستوفى في توصيف خلق السماوات والأرض على ما يظهر

١٥٣

من كلامه تعالى ويفسّره ما ورد في ذلك عن أهل العصمةعليهم‌السلام موكول إلى ما سيأتي من تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله تعالى.

وإجمال القول الّذى يظهر به معنى قوله:( سِتَّةِ أَيَّامٍ ) وقوله:( وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ) هو أنّ الظاهر أنّ ما يذكره تعالى من السماوات - بلفظ الجمع - ويقارنها بالأرض ويصف خلقها في ستّة أيّام طبقات من الخلق الجسمانيّ المشهود تعلو أرضنا فكلّ ما علاك وأظلّك فهو سماء على ما قيل والعلو والسفل من المعاني الإضافيّة.

فهى طبقات من الخلق الجسماني المشهود تعلو أرضنا وتحيط بها فإنّ الأرض كرويّة الشكل على ما يفيده قوله تعالى:( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ) الأعراف ٥٤.

والسماء الاُولى هي الّتى تزيّنه مصابيح النجوم والكواكب فهى الطبقة الّتى تتضمّنها أو هي فوقها وتتزيّن بها كالسقف يتزيّن بالقناديل والمشاكى وأمّا ما فوق السماء الدنيا فلم يرد في كلامه شئ من صفتها غير ما في قوله تعالى:( سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ) الملك: ٣، وقوله:( أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ) نوح: ١٦ حيث يدلّ على مطابقة بعضها بعضاً.

وقد ذكر الله سبحانه في صفة خلقها أنّها كانت رتقاء ففتقها ومتفرّقة متلاشية فجمعها وركمها وأنّها كانت دخاناً فصيّرها سماوات، قال تعالى:( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ) الأنبياء: ٣٠ وقال:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) حم السجدة ١٢ فأفاد أنّ خلق السماوات إنّما تمّ في يومين، واليوم مقدار معتدّ به من الزمان وليس من الواجب أن يطابق اليوم في كلّ ظرف ووعاء يوم أرضنا الحاصل من دورة واحدة من حركتها الوضعيّة كما أنّ اليوم الواحد

١٥٤

في القمر الّذى لهذه الأرض يعدل تسعة وعشرين يوماً ونصفاً تقريباً من أيّام الأرض واستعمال اليوم في البرهة من الزمان شائع في الكلام.

فقد خلق الله سبحانه السماوات السبع في برهتين من الزمان كما قال في الأرض:( خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ - إلى أن قال -وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ) حم السجدة: ١٠ فأنبأ عن خلقها في يومين وهما عهدان وطوران وجعل الأقوات في أربعة أيّام وهى الفصول الأربعة.

فالمتحصّل من الآيات أوّلاً: أنّ خلق السماوات والأرض على ما هي عليه اليوم من الصفة والشكل لم يكن عن عدم بحت بل هي مسبوقة الوجود بمادّة متشابهة مركومة مجتمعة ففصّل بعض أجزائها عن بعض فجعلت أرضا في برهتين من الزمان وقد كانت السماء دخانا ففصلت وقضيت سبع سماوات في برهتين من الزمان.

وثانياً: أنّ ما نراه من الأشياء الحيّة إنّما جعلت من الماء فمادّة الماء هي مادّة الحياة.

وبما قدّمنا يظهر معنى الآية الّتى نحن فيها فقوله:( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) المراد بخلقها جمع أجزائها وفصلها وفتقها من سائر ما يختلط بها من المادّة المتشابهة المركومة، وقد تمّ أصل الخلق والرتق في السماوات في يومين وفي الأرض أيضاً في يومين ويبقى من الستّة الأيّام يومان لغير ذلك.

وأمّا قوله:( وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ) فهو حال والمعنى وكان عرشه يوم خلقهنّ على الماء وكون العرش على الماء يومئذ كناية عن أنّ ملكه تعالى كان مستقرّاً يومئذ على هذا الماء الّذى هو مادّة الحياة فعرش الملك مظهر ملكه، واستقراره على محلّ هو استقرار ملكه عليه كما أنّ استواءه على العرش احتواؤه على الملك وأخذه في تدبيره.

وقول بعضهم: إنّ المراد بالعرش البناء أخذاً من قوله تعالى:( مِمَّا يَعْرِشُونَ ) النحل: ٦٨ أي يبنون كلام بعيد عن الفهم.

قوله تعالى: ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) اللّام للغاية والبلاء الامتحان و

١٥٥

الاختبار، وقوله:( أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) بيان للاختبار والامتحان في صورة الاستفهام والمراد أنّه تعالى خلق السماوات والأرض على ما خلق لغاية امتحانكم وتمييز المحسنين منكم من المسيئين.

ومن المعلوم أنّ البلاء والامتحان أمر مقصود لغيره وهو تمييز الجيّد من الردىّ والحسن من السيّئ، وكذلك الحسنة والسيّئة إنّما يراد تمييزهما لأجل ما يترتّب عليهما من الجزاء، وكذلك الجزاء إنّما يراد لأجل ما فيه من إنجاز الوعد الحقّ ولذلك نجده تعالى يذكر كلّ واحد من هذه الاُمور المترتّبة غاية للخلقة فقال في كون الابتلاء غاية للخلقة:( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) الكهف: ٧، وقال في معنى التمييز والتمحيص:( لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) الانفال: ٣٧، وقال في خصوص الجزاء:( وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) الجاثية: ٢٢ وقال في كون الإعادة لإنجاز الوعد:( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) الأنبياء: ١٠٤ إلى غير ذلك من الآيات، وقال في كون العبادة غرضاً في خلق الثقلين:( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) الذاريات: ٥٦.

وعدّ العمل الصالح أو الإنسان المحسن غاية للخلقة لا ينافى اشتمال الخلقة على غآيات اُخرى بعد ما كان الإنسان أحد تلك الغآيات حقيقة لأنّ الوحدة والاتّصال الحاكم على العالم يصحّح كون كلّ واحد من أنواع الموجودات غاية للخلقة بما أنّه محصول الارتباط ونتيجة الازدواج العامّ بين أجزائه فمن الجائز أن يخاطب كلّ نوع من أنواع الخليقة أنّه المطلوب المقصود من خلق السماوات والأرض بما أنّها تؤدّى إليه.

على أنّ الإنسان أكمل وأتقن المخلوقات الجسمانيّة من السماوات والأرض وما فيهما صنعاً ولئن نمى في جانب العلم والعمل نماء حسنا كان أفضل ذاتاً ممّا سواه وأرفع مقاماً وأعلى درجة من غيره وإن كان بعض الخليقة كالسماء أشدّ منه خلقاً كما ذكره الله تعالى ومن المعلوم أنّ كمال الصنع هو المقصود منه إذا اشتمل على ناقص

١٥٦

ولذا كنّا نعدّ مراحل وجود الإنسان المختلفة من المنويّة والجنينيّة والطفوليّة وغيرها مقدّمة لوجود الإنسان السوىّ الكامل وهكذا.

وبهذا البيان يظهر أنّ أفضل أفراد الإنسان - إن كان فيهم من هو أفضل مطلقا - غاية لخلق السماوات والأرض، ولفظ الآية أيضاً لا يخلو عن إشارة أو دلالة على ذلك فإنّ قوله:( أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) يفيد أنّ القصد إلى تمييز من هو أحسن عملا من غيره سواء كان ذلك الغير محسناً أو مسيئا فمن كان عمله أحسن من سائر الافراد سواء كانوا محسنين وأعمالهم دون عمله أو مسيئين كان تمييزه منهم هو الغرض المقصود من الخلقة، وبذلك يستصحّ ما ورد في الحديث القدسيّ من خطابه تعالى لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لولاك لما خلقت الأفلاك) فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل الخلق.

وفي المجمع: قال الجبائىّ وفي الآية دلالة على أنّه كان قبل خلق السماوات والأرض والملائكة لأنّ خلق العرش على الماء لا وجه لحسنه إلّا أن يكون فيه لطف لمكلّف يمكنه الاستدلال به فلا بدّ حينئذ من حىّ مكلّف، وقال علىّ بن عيسى: لا يمتنع أن يكون في الإخبار بذلك مصلحة للمكلّفين فلا يجب ما قاله الجبائىّ وهو الّذى اختاره المرتضى قدّس الله روحه. انتهى.

أقول: وما ذكراه مبنىّ على ما ذهب إليه المعتزلة: أنّ أفعال الله سبحانه معلّلة بالأغراض وتابعة للمصالح وجهات الحسن ولو كان ذلك بأن يخلق خلقاً ليخبر بذلك المكلّفين فيعتبروا به ويؤمنوا له فيتمّ بذلك مصلحة من مصالحهم، وقد تقدّم في أبحاثنا السابقة أنّ الله سبحانه لا يحكم عليه ولا يؤثّر فيه غيره سواء كان ذلك الغير مصلحة أو أيّ شئ آخر مفروض وأنّ غيره أيّ شئ فرض مخلوق له مدبّر بأمره إن كان أمراً ذا واقعيّة ووجود إن الحكم إلّا لله والله خالق كلّ شئ.

فجهات الحسن والمصلحة وهى الّتى تحكم علينا وتبعثنا نحو أفعالنا اُمور خارجة عن أفعالنا مؤثّرة فينا من جهة كوننا فاعلين نروم بها إلى سعادة الحياة، وأمّا هو سبحانه فإنّه أجلّ من ذلك. وذلك أنّ جهات الحسن والمصلحة هذه إنّما هي قوانين عامّة مأخوذة من نظام الكون والروابط الدائرة بين أجزاء الخلقة، ومن

١٥٧

الضرورىّ أنّ الكون وما فيه من النظام الجارى فعله سبحانه، ومن الممتنع جدّاً أن يتقدّم المفهوم المنتزع على ما انتزع منه من الفعل ثمّ يتخطّاه ولا يقنع حتّى يتقدّم على فاعله الموجد له.

وأمّا ما في الآية من تعليل خلق السماوات والأرض بقوله:( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) ونظائره الكثيرة في القرآن فإنّما هو وأمثاله من قبيل التعليل بالفوائد المترتّبة والمصالح المتفرّعة وقد أخبر تعالى أنّ فعله لا يخلو من الحسن إذ قال:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) الم السجدة: ٧، فهو سبحانه هو الخير لا شرّ فيه وهو الحسن لا قبح عنده وما كان كذلك لم يصدر عنه شرّ ولا قبيح البتّة.

وليس مقتضى ما تقدّم أن يكون معنى الحسن هو ما صدر عنه تعالى أو الّذى أمر به وإن استقبحه العقل، ومعنى القبيح هو ما لا يصدر عنه أو الّذى نهى عنه وإن استحسنه العقل واستصوبه فإن ذلك يأباه أمثال قوله تعالى:( قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ) الاعراف: ٢٨.

قوله تعالى: ( وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) لمّا كان قوله:( لِيَبْلُوَكُمْ ) الخ، يشير إلى المعاد أشار إلى ما كان يواجه به الكفّار ذكرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمعاد برميه بأنّه سحر من القول.

فظاهر الآية أنّهم كما كانوا يسمّون لفظ القرآن الكريم بما فيه من الفصاحة وبلاغة النظم سحراً، كذلك كانوا يسمّون ما يخبر به القرآن أو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حقائق المعارف الّتى لا يصدّقه أحلامهم كالبعث بعد الموت سحراً، وعلى هذا فهو من مبالغتهم في الافتراء على كتاب الله والتعنّت والعناد مع الحقّ الصريح حيث تعدّوا عن رمى اللّفظ لفصاحته وبلاغته بالسحر إلى رمى المعنى لصحّته واستقامته بالسحر.

ومن الممكن أن يكون المراد بالسحر المغالطة والتمويه بإظهار الباطل في صورة الحقّ على نحو إطلاق الملزوم وإرادة اللازم لكن لا يلائمه ظاهر قوله تعالى في نظير المورد:( قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ

١٥٨

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ ) المؤمنون: ٨٩.

قوله تعالى: ( وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ ) إلى آخر الآية. اللّام في صدر الآية للقسم ولذلك اُكّد الجواب أعنى قوله:( لَّيَقُولُنَّ ) باللّام والنون و المعنى: واُقسم لئن أخّرنا عن هؤلاء الكفّار ما يستحقّونه من العذاب قالوا مستهزئين: ما الّذى يحبس هذا العذاب الموعود عنّا ولماذا لا ينزل علينا ولا يحلّ بنا.

وفي هذا إشارة أو دلالة على أنّهم سمعوا من كلامه تعالى أو من كلام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يوعدهم بعذاب لا محيص منه وأنّ الله أخّر ذلك تأخيراً رحمة لهم فاستهزؤا به وسخروا منه بقولهم:( مَا يَحْبِسُهُ ) ويؤيّده قوله تعالى عقيب ذلك:( أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ ) الخ.

وبهذا يتأيّد أنّ السورة - سورة هود - نزلت بعد سورة يونس لمكان قوله تعالى فيها:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ) إلى آخر الآيات.

وقوله:( إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ ) الاُمّة الحين والوقت كما في قوله تعالى:( وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ) يوسف: ٤٥ أي بعد حين ووقت.

وربّما أمكن أن يراد بالاُمّة الجماعة فقد وعد الله سبحانه أن يؤيّد هذا الدين بقوم صالحين لا يؤثرون على دينه شيئاً ويمكّن عند ذلك للمؤمنين دينهم الّذى ارتضى لهم قال:( فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ) المائدة: ٥٤، وقال:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ - إلى أن قال -يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ) النور: ٥٥. وهذا وجه لا بأس به.

وقيل: إنّ المراد بالاُمّة الجماعة وهم قوم يأتي الله بهم بعد هؤلاء فيصرّون

١٥٩

على الكفر فيعذّبهم بعذاب الاستئصال كما فعل بقوم نوح، أو هم قوم يأتون بعد هؤلاء فيصرّون على معصية الله فتقوم عليهم القيامة.

والوجهان سخيفان لبنائهما على كون المعذّبين غير هؤلاء المستهزئين من الكفّار وظاهر قوله تعالى:( أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ ) الخ، أنّ المعذّبين هم المستهزؤن بقولهم:( مَا يَحْبِسُهُ ) .

وقوله:( أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) بمنزلة الجواب عن قولهم:( مَا يَحْبِسُهُ ) الواقع موقع الاستهزاء فإنّه في معنى الردّ على ما اُوعدوا به من العذاب، ومحصّله أنّ هذا العذاب الّذى يهدّدنا لو كان حقّاً لم يكن لحبسه سبب فإنّا كافرون غير عادلين عن الكفر ولا تاركين له فتأخّر نزول العذاب من غير موجب لتأخّره بل مع الموجب لتعجيله كاشف عن كونه من قبيل الوعد الكاذب.

فأجاب الله عن ذلك بأنّه سيأتيهم ولا يصرفه يومئذ عنهم صارف ويحيق بهم هذا العذاب الّذى كانوا به يستهزؤن.

وبما تقدّم يظهر أنّ هذا العذاب الّذى يهدّدون به عذاب دنيوىّ سيحيق بهم وينزل عليهم دون عذاب الآخرة، وعلى هذا فهذه الآية والّتى قبلها يذكر كلّ منهما شيئاً من ما تهوّس به الكفّار بجهالتهم فالآية السابقة تذكر أنّهم إذا ذكر لهم البعث واُنذروا بعذاب يوم القيامة قالوا: إن هذا إلّا سحر مبين، وهذه الآية تذكر أنّ الله إذا أخّر عنهم العذاب إلى اُمّة واُخبروا بذلك قالوا مستهزئين: ما يحبسه.

قوله تعالى: ( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ ) قال في المجمع: الذوق تناول الشئ بالفم لإدراك الطعم، وسمّى الله سبحانه إحلال اللذّات بالإنسان إذاقة لسرعة زوالها تشبيهاً بما يذاق ثمّ يزول كما قيل: أحلام نوم أو كظلّ زائل والنزع قلع الشئ عن مكانه، واليؤس فعول من يئس - صيغة مبالغة - واليأس القطع بأنّ الشئ المتوقّع لا يكون ونقيضه الرجاء. انتهى.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

اشتمال مراتب القرآن على المقدّرات الحادثة في كلّ عام:

وقال: (المسألة الثامنة) في تفسير مفردات هذه الألفاظ، أمّا قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) (1) فقد قيل فيه: إنّه تعالى أنزل كلّية القرآن، يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتُدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ونسخة الحروب إلى جبرائيل، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا، وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، انتهى كلامه.

وقال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن: (في تفسير قوله تعالى: ( إنّا أَنْزَلْناهُ ) يعني القرآن، وإن لم يجرِ له ذكر في هذه السورة؛ لأنّ المعنى معلوم، والقرآن كلّه كالسورة الواحدة، وقد قال: ( شَهْرُ رَمَضانُ الَّذي اُنْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ ) ، وقال: ( حم وَالْكِتابِ الْمُبينِ إنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) (2) يريد: في ليلة القدر.

وقال الشعبي: المعنى إنّا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقيل: بل نزل به جبريل عليه‌السلام جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، إلى بيت العزّة، وأملاه جبريل على السَفَرة، ثمّ كان جبريل ينزّله على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نُجوماً نُجوماً، وكان بين أوّله وآخره ثلاث وعشرون سنة. قاله ابن عبّاس، وقد تقدّم في سورة البقرة.

وحكى الماوردي عن ابن عبّاس، قال: نزل القرآن في شهر رمضان وفي ليلة القدر، في ليلة مباركة جملة واحدة من عند اللَّه، من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجّمته السفرة الكرام الكاتبون على جبريل عشرين سنة، ونجّمه جبريل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عشرين سنة.

قال ابن العربي: وهذا باطل؛ ليس بين جبريل وبين اللَّه واسطة، ولا بين جبريل

____________________

1) سورة الدخان: 3.

2) سورة الدخان: 1 - 3.

٢٨١

ومحمّد عليهما‌السلام واسطة.

قوله تعالى: ( في لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، قال مجاهد: في ليلة الحكم، ( وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) ، قال ليلة الحكم. والمعنى ليلة التقدير، سمّيت بذلك لأنّ اللَّه تعالى يقدّر فيها ما يشاء من أمره، إلى مثلها من السنة القابلة، من أمر الموت والأجل والرزق وغيره، ويسلّمه إلى مدبّرات الأُمور، وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وجبريل عليهم‌السلام .

أُمّ الكتاب في القرآن متضمّنة لتقدير كلّ شي‏ء:

وقال: وعن ابن عبّاس، قال: يكتب من أمّ الكتاب ما يكون في السنة من رزق ومطر، وحياة وموت، حتّى الحاجّ. قال عكرمة: يكتب حجّاج بيت اللَّه تعالى في ليلة القدر بأسمائهم وأسماء آبائهم، ما يغادر منهم أحد ولا يزاد فيهم.

وقاله سعيد بن جُبير، وقد مضى في أوّل سورة الدخان هذا المعنى. وعن ابن عبّاس أيضاً: إنّ اللَّه تعالى يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلّمها إلى أربابها في ليلة القدر. وقيل: إنّما سمّيت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم: لفلان قدر، أي شرف ومنزلة) (1) .

ليلة القدر عوض للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآلهعليهم‌السلام عن غصب الخلافة:

وقال: (وفي الترمذي عن الحسن بن علي رضي اللَّه عنهما: أنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى بني أُمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت ( إنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) ، يعني نهراً في الجنّة، ونزلت ( إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ

____________________

1) تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن، ج20، ص129 - 130، طبعة القاهرة.

٢٨٢

أَلْفِ شَهْرٍ ) ، يملكها بعدك بنو أُمية. قال القاسم بن الفضل الحدّاني: فعددناها فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوماً ولا تنقص يوماً. قال: حديث غريب.

قوله تعالى: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ ) أي تهبط من كلّ سماء، ومن سدرة المنتهى، ومسكن جبريل على وسطها، فينزلون إلى الأرض ويؤمّنون على دعاء الناس إلى وقت طلوع الفجر، فذاك قوله تعالى ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ ) .

حقيقة الروح النازل ليلة القدر:

وقال: ( وَالرُّوحُ فِيها بِإذْنِ رَبِّهِمْ ) (1) ، أي جبرئيل عليه‌السلام ، وحكى القُشيري: أنّ الروح صنف من الملائكة جُعلوا حفظة على سائرهم، وأنّ الملائكة لا يرونهم كما لا نرى نحن الملائكة. وقال مقاتل: هم أشرف الملائكة وأقربهم من اللَّه تعالى.

وقيل: إنّهم جند من جند اللَّه عزّ وجلّ من غير الملائكة، رواه مجاهد عن ابن عبّاس مرفوعاً، ذكره الماوردي، وحكى القُشيري: قيل هم صنف من خلق اللَّه، يأكلون الطعام، ولهم أيدٍ وأرجل وليسوا ملائكة.

وقيل: (الروح) خلق عظيم يقوم صفّاً، والملائكة كلّهم صفّاً. وقيل: (الروح) الرحمة ينزل بها جبريل عليه‌السلام مع الملائكة في هذه الليلة على أهلها، دليله: ( يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (2) ، أي بالرحمة، (فِيها) أي في ليلة القدر، ( بِإذْنِ رَبِّهِمْ ) أي بأمره، ( مِن كُلِّ أَمْرٍ ) (3) أمر بكلّ أمر قدّره اللَّه وقضاه في تلك السنة إلى قابل.

وقيل عنه: إنّها رُفعت - يعني ليلة القدر - وإنّها إنّما كانت مرّة واحدة.

____________________

1) سورة القدر: 4.

2) سورة النحل: 2.

3) سورة القدر: 5.

٢٨٣

بقاء ليلة القدر في كلّ عام:

وقال: (والصحيح أنّها باقية... والجمهور على أنّها من كلّ عام من رمضان... وقال الفرّاء: لا يقدّر اللَّه في ليلة القدر إلاّ السعادة والنعم، ويقدّر في غيرها البلايا والنقم) (1) .

وقال الطبري في تفسيره، في ذيل سورة البروج: ( فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) ، بسنده إلى مجاهد: في لوح، قال: ( فِي أُمِّ الْكِتَابِ ) (2) .

وقال ابن كثير في تفسيره، بعد ما نقل جملة ممّا ذكره عنه الرازي والقرطبي، والذي مرّ نقله، قال: (اختلف العلماء هل كانت ليلة القدر في الأُمم السالفة، أم هي من خصائص هذه الأُمّة؟

فقال الزهري:... وهذا الذي قاله مالك يقتضي تخصيص هذه الأُمّة بليلة القدر. وقيل: إنّها كانت في الأُمم الماضين كما هي في أُمّتنا، ثمّ هي باقية إلى يوم القيامة وفي رمضان خاصّة) (3) .

وقال الزمخشري في الكشّاف، بعد ما ذكره جملة ممّا ذكره عنه الرازي والقرطبي، في ذيل قوله تعالى: ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) (4) قال: (وسبب ارتقاء فضلها إلى هذه الغاية ما يوجد فيها من المصالح الدينية التي ذكرها، من تنزّل الملائكة والروح، وفصل كلّ أمر حكيم).

وقال في ذيل قوله تعالى ( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (5) : أي تتنزّل من أجل كلّ أمر قضاه اللَّه لتلك السنة إلى قابل... وروي عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (من قرأ سورة القدر أُعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيى ليلة القدر)، وذكر في هامش المطبوع: أنّ الحديث أخرجه الثعلبي، والواحدي، وابن مردويه، بسندهم إلى أُبَيّ ابن كعب.

____________________

1) تفسير القرطبي، ج20، ص133 - 137، في تفسير الجامع لأحكام القرآن طبعة القاهرة.

2) جامع البيان، ج30، ص176.

3) تفسير ابن كثير، ج4، ص 568.

4) سورة القدر: 2.

5) سورة القدر: 5.

٢٨٤

ليلة القدر عوض له صلى‌الله‌عليه‌وآله عن غصب بني أُمية خلافته، وتعدد مصادر الحديث لديهم:

وقال الآلوسي في روح المعاني: (ويستدلّ لكونها مدنية بما أخرجه الترمذي، والحاكم، عن الحسن ابن عليّ (رضي اللَّه تعالى عنهما): (أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أُري بني أُمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) (1) ، ونزلت: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) (2) .. الحديث). وهو كما قال المزني: حديث منكر، انتهى.

وقد أخرج الجلال هذا الحديث في الدرّ المنثور عن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل أيضاً، من رواية يوسف ابن سعد، وذكر فيه: أنّ الترمذي (3) أخرجه وضعّفه، وأنّ الخطيب أخرج عن ابن عبّاس نحوه، وكذا عن ابن نسيب، بلفظٍ: قال نبي اللَّه: (أُريتُ بني أُمية يصعدون منبري، فشقّ ذلك عليّ فأُنزِلت ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، ففي قول المزني هو منكر تردّد عندي.

وقد ورد في روايات أهل البيت عليهم‌السلام ما رواه الكافي بسنده إلى أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (أُري رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في منامه بني أُمية يصعدون على منبره من بعده ويضلّون الناس عن الصراط القهقري، فأصبح كئيباً حزيناً، قال: فهبط عليه جبرئيل فقال: يا رسول اللَّه مالي أراك كئيباً حزيناً؟ قال: يا جبرئيل إنّي رأيت بني أُمية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي، يضلّون الناس عن الصراط القهقري. فقال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً إنّي ما اطّلعت عليه. فعرّج إلى السماء فلم يلبث أن نزل بآي من القرآن يُؤنسه بها، قال: ( أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) (4) ، وأُنزل عليه: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) ، جعل اللَّه ليلة القدر لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

1) سورة الكوثر: 1.

2) سورة القدر: 1.

3) سنن الترمذي، ج5، ص444، ح 3350.

4) سورة الشعراء: 205 - 207.

٢٨٥

خيراً من ألف شهر ملك بني أُمية) (1) .

وروى الكُليني، عن علي بن عيسى القمّاط عن عمّه، قال: (سمعت أبا عبد اللَّه يقول: هبط جبرئيل عليه‌السلام على رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ورسول اللَّه كئيب حزين، فقال: رأيت بني أُمية يصعدون المنابر وينزلون منها. قال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً، ما علمت بشي‏ء من هذا. وصعد جبرئيل إلى السماء، ثمّ أهبطه اللَّه جلّ ذكره بآي من القرآن يعزّيه بها قوله: ( أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) (2) .

وأنزل اللَّه جلّ ذكره: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) للقوم، فجعل اللَّه ليلة القدر (لرسوله) خير، من ألف شهر) (3) .

وفي سند الصحيفة السجّادية، عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (إنّ أبي حدّثني عن أبيه عن جدّه عن عليّ عليه‌السلام : إنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذته نَعسةٌ وهو على منبره، فرأى في منامه رجالاً ينزون على منبره نزو القردة، يردّون الناس على أعقابهم القهقري، فاستوى رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله جالساً والحزن يعرف في وجهه، فأتاه جبرئيل عليه‌السلام بهذه الآية ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إلاّ طُغْيَانًا كَبِيرًا ) ، يعني بني أُمية. قال: يا جبرئيل على عهدي يكونون وفي زمني؟

قال: لا، ولكن تدور رحى الإسلام من مُهاجرك فتلبث بذلك عشراً، ثمّ تدور رحى الإسلام على رأس خمسة وثلاثين من مهاجِرَك فتلبث بذلك خمساً، ثمّ لابدّ من رحى

____________________

1) الكافي، ج4، ص159.

2) سورة الشعراء:205 - 206.

3) الكافي، ج8، ص223.

٢٨٦

ضلاله هي قائمة على قطبها ثمّ ملك الفراعنة. قال: وأنزل اللَّه تعالى في ذلك: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) يملكها بنو أُمية. فيها ليلة القدر.

قال: فأَطلع اللَّه عزّ وجلّ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ بني أُمية تملك سلطان هذه الأُمّة وملكها طول هذه المدّة، فلو طاولتهم الجبال لطالوا عليها، حتّى يأذن اللَّه تعالى بزوال ملكهم، وهم في ذلك يستشعرون عداوتنا أهل البيت وبغضنا. أخبر اللَّه نبيّه بما يلقي أهل بيت محمّد وأهل مودّتهم وشيعتهم منهم في أيامهم وملكهم) (1) .

وفي تأويل الآيات: (روي عن أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: قوله عزّ وجلّ: ( خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ ) هو سلطان بني أُمية.

وقال: ليلة من إمام عادل خير من ألف شهر ملك بني أُمية.

وقال: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ) أيّ من عند ربّهم على محمّد وآل محمّد، بكلّ أمر سلام) (2) .

وفي تفسير القمّي: بسنده، في معنى سورة: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) فهو القرآن... قوله: ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) .

أقول: تكثر الروايات في غصب الخلافة من بني أُمية، وتأذّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتعويضه بليلة القدر، وسيأتي معنى تعويضه بليلة القدر، وتسالم كثير من علماء الجمهور بهذه الروايات، هذا الأمر أحد الأدلّة على أنّ الخلافة في الشريعة الإلهية هي منصب أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فتدبّر تبصُر.

____________________

1) الصحيفة السجّادية الكاملة: 15 - 16.

2) تأويل الآيات، ج2، ص817، ح2.

٢٨٧

حقيقة النازل الذي نزل في ليلة القدر:

وقال في ذيل قوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) : الضمير عند الجمهور للقرآن، وادّعى الإمام فيه إجماع المفسّرين، وكأنّه لم يعتقد بقول من قال منهم برجوعه لجبرئيل عليه‌السلام أو غيره؛ لضعفه. قالوا: وفي التعبير عنه بضمير الغائب مع عدم تقدّم ذكره تعظيم له، أي تعظيم لِما أنّه يشعر بأنّه لعلوّ شأنه كأنّه حاضر عند كلّ أحد.

جهل الخلق بحقيقة ليلة القدر:

وقال في ذيل قوله تعالى ( وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) (1) : لِما فيه من الدلالة على أنّ علوّها خارج عن دائرة دراية الخلق، لا يُعلم ذلك، ولا يَعلم به إلاّ علاّم الغيوب.

حقيقة نزول القرآن جملة واحدة:

ثمّ ذكر جملة في تعدّد نزول القرآن جملةً واحدةً ونجوماً، وذكر في ضمنها هذه الرواية، عن ابن عبّاس: (أُنزل القرآن جملةً واحدة حتّى وضع في بيت العزّة في السماء الدنيا، ونزل به جبريل عليه‌السلام على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بجواب كلام العباد وأعمالهم)... ثمّ نقل الاختلاف بين المفسّرين عندهم في قوله تعالى: ( أَنْزَلْنَاهُ ) من جهة نزول القرآن جملةً واحدة، فهل تضمّن القرآن النازل جملةً واحدة هذه العبارة أم لا؟ فلابدّ من ارتكاب المجاز في الإسناد؛ لأنّه إخبار عمّا وقع فيما مضى، فكيف يكون هذا اللفظ في ضمنه؟

____________________

1) سورة القدر: 2.

٢٨٨

فذكر قولاً للرازي في حلّ الإشكال، وللقرطبي، وابن كثير، وضعّف قولهم. ونقل عن ابن حجر في شرح البخاري أنّه أُنزل جملةً واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السماء الدنيا، بل حكى بعضهم الإجماع عليه، ثمّ نقل جواباً لحلّ الإشكال عن السيد عيسى الصفوي، ثمّ الاختلاف بين الدَّواني وغيره، وأنّه ألّف رسالة في ذلك، في الجواب عن مسألة الحذر الأصمّ.

ثمّ نقل عن الإتقان قول أبي شامة: فإن قلت ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) إن لم يكن من جملة القرآن الذي نزل جملة، فما نزل جملة؟ وإن كان من الجملة فما وجه هذه العبارة؟

قلت: لها وجهان:

أحدهما: أن يكون المعنى إنّا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر، وقضينا به وقدّرناه في الأزل.

والثاني: أنّ لفظ ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) ماضٍ ومعناه على الاستقبال، أي تنزّله جملة في ليلة القدر. ثمّ ذكر عدم ارتضائه لهذا القول وعدم حسنه.

ثمّ نقل أقوالاً أُخر، ثمّ قال: والمراد بالإنزال إظهار القرآن من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، أو إثباته لدى السَفَرة هناك، أو نحو ذلك ممّا لا يشكل نسبته إلى القرآن.

تقدير الأُمور في ليلة القدر على من تُنزّل؟

وقال في معنى ليلة القدر: إنّها ليلة التقدير، وسبب تسميتها بذلك لتقدير ما يكون في تلك السنة من أُمور. قال: المراد إظهار تقديره ذلك للملائكة عليهم‌السلام المأمورين بالحوادث الكونية. ثمّ نقل عن بعض تفسير ذلك: هاهنا ثلاثة أشياء:

الأوّل: نفس تقدير الأُمور، أي تعيين مقاديرها وأوقاتها، وذلك في الأزل.

٢٨٩

الثاني: إظهار تلك المقادير للملائكة عليهم‌السلام بأن تكتب في اللوح المحفوظ، وذاك في ليلة النصف من شعبان.

الثالث: إثبات تلك المقادير في نسخ وتسليمها إلى أربابها من المدبّرات، فتدفع نسخة الأرزاق، والنباتات، والأمطار، إلى ميكائيل عليه‌السلام ، ونسخة الحروب والرياح والجنود والزلازل والصواعق والخسف إلى جبرئيل عليه‌السلام ، ونسخة الأعمال إلى إسرافيل عليه‌السلام ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، وذلك في ليلة القدر.

وقيل: يقدّر في ليلة النصف الآجال والأرزاق، وفي ليلة القدر الأُمور التي فيها الخير والبركة والسلامة. وقيل: يقدّر في هذه ما يتعلّق به إعزاز الدين وما فيه النفع العظيم للمسلمين، وفي ليلة النصف يكتب أسماء من يموت ويسلّم إلى ملك الموت، واللَّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

أقول: إنّ المكتوب في ليلة القدر ويقدّر يُفترض أنّ كتابته وتقديره إنّما يُكتب ويقدّر لتسليمه إلى من يوكّل إليه تدبير الأُمور بإذن اللَّه، كالملائكة الموكّلين، فالتنزّل بكلّ هذه التقديرات والكتابة إلى الأرض إلى من يسلّم؟ ومن هو الذي يطّلع على ذلك من أهل الأرض؟ وما هو التناسب بين نزول ما فيه إعزاز الدين والأُمّة، والحديث النبويّ: (إنّ الإسلام لا يزال عزيزاً إلى اثني عشر خليفة... كلّهم من قريش) (1) ؟

أقوال علماء سنّة الجماعة في عِوَضية الليلة له عن غصب الخلافة:

قال في تفسير ( أَلْفِ شَهْرٍ ) : وقد سمعت إلى ما يدلّ أنّ الألف إشارة إلى مُلك بني أُميّة، وكان على ما قال القاسم بن الفضل: ألف شهر، لا يزيد يوماً ولا ينقص

____________________

1) المعجم الكبير للطبراني، ج2، ص232. ولاحظ: إحقاق الحق، ج13، 1 - 49.

٢٩٠

يوماً، على ما قيل: ثمانين سنة، وهي ألف شهر تقريباً؛ لأنّها ثلاثة وثمانون سنة وأربعة أشهر، ولا يعكّر على ذلك ملكُهم في جزيرة الأندلس بعد؛ لأنّه ملك يسير في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة العرب، ولذا لا يعدّ من مَلَكَ منهم هناك من خلفائهم، وقالوا بانقراضهم بهلاك مروان الحمار.

وطعن القاضي عبد الجبّار في كون الآية إشارة لما ذُكر؛ بأنّ أيام بني أُمية كانت مذمومة أي باعتبار الغالب، فيبعد أن يقال في شأن تلك الليلة إنّها خير من ألف شهر مذمومة:

ألم ترَ أنّ السيف ينقص قدره

إذا قيل إنّ السيف خيرٌ من العصا

وأُجيب: إنّ تلك الأيام كانت عظيمة بحسب السعادات الدنيوية، فلا يبعد أن يقول اللَّه تعالى: أعطيتك ليلة في السعادات الدينية أفضل من تلك في السعادات الدنيوية، فلا تبقى فائدة.

ليلة القدر مع الأنبياء في ما مضى فهي مع من في ما بقي:

الروح النازل في ليلة القدر قناة غيبية كانت مع الأنبياء، فهي مع من بعد النبيّ الخاتم؟ قال: وما أشير إليه من خصائص هذه الأُمّة هو الذي يقتضيه أكثر الأخبار الواردة في سبب النزول، وصرّح به الهيثمي وغيره.

وقال القسطَلاني: إنّه معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: (يا رسول اللَّه، أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت. قال: بل هي باقية). ثمّ ذكر أنّ عمدة القائلين بذلك الخبر الذي قدّمناه في سبب النزول من رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وآله تقاصر أعمار أُمّته عن أعمار الأُمم، وتعقّبه بقوله هذا محتمل للتأويل، فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر كما قاله الحافظان: ابن كثير في تفسيره، وابن حجر في فتح الباري.

٢٩١

وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافاً كثيراً، وتحصّل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثر من أربعين قولاً، كما وقع لنا نظير ذلك في ساعة الجمعة، وقد اشتركتا في إخفاء كلّ منهما ليقع الجدّ في طلبهما:

القول الأوّل: إنّها رُفعت أصلاً ورأساً. حكاه المتولّي في التتمّة عن الروافض، والفاكهاني في شرح العمدة عن الحنفية، وكأنّه خطأ منه، والذي حكاه السروجي أنّه قول الشيعة.

أقول: بل الشيعة الإمامية هم المذهب الوحيد على وجه الأرض القائلون ببقاء الاتّصال بين الأرض والسماء، وأنّ هناك سبب متّصل هو الإمام من عِترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن لم يكن هذا الاتّصال وحياً نبويّاً، وهو الذي يتنزّل عليه الروح الأعظم والملائكة كلّ عام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بينما المذاهب الإسلامية كلّها حتّى الزيدية، وإن قالوا باستمرار الإمامة السياسية وعدم حصرها بالأئمّة المنصوص عليهم وأنّ الإمامة هي لكلّ من قام بالثورة على الظلم ولا يشترط فيها العصمة، إلاّ أنّهم قائلون بانقطاع الاتّصال أيضاً بين الغيب والشهادة.

وانقطاع الاتّصال ذهبت إليه اليهود بعد النبيّ موسى عليه‌السلام ، كما ذهبت إليه النصارى بعد النبيّ عيسى عليه‌السلام .

وقال: وقد روى عبد الرزّاق من طريق داود بن أبي عاصم، عن عبد اللَّه بن يخنس: قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر رُفعت، قال: كذّب من قال ذلك. ومن طريق عبد اللَّه بن شُريك قال: ذكر الحجاج ليلة القدر فكأنّه أنكرها، فأراد زر بن حُبيش أن يحصبه فمنعه قومه.

الثاني: إنّها خاصّة بسنة واحدة وقعت في زمن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حكاه الفاكهاني أيضاً.

الثالث: إنّها خاصّة بهذه الأُمّة، ولم تكن في الأُمم قبلهم، جزم به ابن حبيب وغيره من المالكية ونقله الجمهور، وحكاه صاحب العدّة من الشافعية ورجّحه،

٢٩٢

وهو معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: قلت: يا رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت قال: لا، بل هي باقية.

وعمدتهم قول مالك في الموطأ: بلغني أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تقاصر أعمار أمّته عن أعمار الأُمم الماضية، فأعطاه اللَّه ليلة القدر، وهذا يحتمل التأويل، فلا يدفع التصريح في حديث أبي ذر (1) .

ليلة القدر يفصل فيها المقدّرات لأحداث كلّ السنة:

وقال الآلوسي في روح المعاني في تفسير قوله تعالى ( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (2) : أي من أجل كلّ أمر تعلّق به التقدير في تلك السنة إلى قابل وأظهره سبحانه وتعالى لهم، قاله غير واحد. ف)من(بمعنى اللام التعليلية متعلّقة بتنزّل، وقال أبو حاتم: (من) بمعنى الباء، أي تنزّل بكلّ أمر، فقيل: أي من الخير والبركة، وقيل: من الخير والشرّ وجعلت الباء عليه للسببية.

والظاهر على ما قالوا إنّ المراد بالملائكة المدبّرات؛ إذ غيرهم لا تعلّق له بالأُمور التي تعلّق بها التقدير ليتنزّلوا لأجلها على المعنى السابق، وهو خلاف ما تدلّ عليه الآثار من عدم اختصاصهم بالمدبّرات (3) .

ليلة القدر يتحقّقها وتتنزّل على من شاء اللَّه تعالى من عباده:

جاء في شرح صحيح مسلم للنووي قوله: (اعلم أنّ ليلة القدر موجودة... وأنّها تُرى ويتحققّها من شاء اللَّه تعالى من بني آدم كلّ سنة في رمضان، كما تظاهرت عليه الأحاديث... وأخبار الصالحين بها، ورؤيتهم لها أكثر من أن تُحصر. وأمّا قول القاضي عيّاض عن المهلّب بن أبي صُفرة: لا يمكن رؤيتها حقيقةً. فغلط فاحش

____________________

1) فتح الباري، ص262 - 263، كتاب فضل ليلة القدر.

2) سورة القدر: 6.

3) روح المعاني، ج30، ص196.

٢٩٣

نبهتُ عليه لئلاّ يُغترّ به) (1) .

وقال في ذيل سورة الدخان، في قوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) (2) : أي الكتاب المبين الذي هو القرآن على القول المعوّل عليه في ( لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ) هي ليلة القدر، على ما روي عن ابن عبّاس وقتادة.

وفي تحفة المحتاج لابن حَجَر الهيتمي: (ليس لرائيها كَتْمها، ولا ينال فضلها - أي كمالها - إلاّ من أطلعه اللَّه عليها)، انتهى.

والظاهر أنّه عَنى برؤيتها: رؤية ما يحصل به العلم له بها، ممّا خُصّت به من الأنوار، وتنزّل الملائكة عليهم‌السلام ، أي: نحوٍ من الكشف ممّا لا يعرف حقيقته إلاّ أهله، وهو كالنصّ في أنّها يراها من شاء اللَّه تعالى من عباده. ثمّ حكى عن ابن شاهين: إنّه لا يراها أحد من الأوّلين والآخرين إلاّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ قال: وفي بعض الأخبار ما يدلّ على أنّ رؤيتها مناماً وقعت لغيره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ففي صحيح مسلم وغيره، عن ابن عمر: (إنّ رجالاً من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحرّياً فليتحرَّها في السبع الأواخر) (3) .

وحُكي نحو قول ابن شاهين عن غيره أيضاً، وغلّط، ففي شرح صحيح مسلم وابن جُبير ومجاهد وابن زيد والحسن، وعليه أكثر المفسّرين والظواهر معهم.. والمراد بإنزاله في تلك الليلة إنزاله فيها جملةً إلى السماء الدنيا من اللوح، فالإنزال المنجّم في ثلاث وعشرين سنة أو أقل كان من السماء الدنيا، وروي هذا عن ابن جرير وغيره، وذكر أنّ المحلّ الذي أُنزل فيه من تلك السماء البيت المعمور، وهو

____________________

1) شرح مسلم، ج8، ص66.

2) سورة الدخان: 3.

3) صحيح مسلم، ج3، ص170.

٢٩٤

مسامِت للكعبة، بحيث لو نزل لنزل عليها.

وأخرج سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي أنّه قال: أُنزل القرآن جملةً على جبرئيل عليه‌السلام ، وكان جبرئيل عليه‌السلام يجي‏ء به بعدُ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ليلة القدر في سورة الشورى والنزول الأول للقرآن:

وقال في ذيل قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ... ) (1) : وهو ما أُوحي إليه (عليه الصلاة والسلام)، أو القرآن الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان حيث يحييها حياة أبدية. وقيل: أي ومثل الإيحاء المشهود لغيرك، أوحينا أبو القاسم إليك. وقيل: أي مثل ذلك الإيحاء المفصّل، أوحينا إليك، إذ كان عليه الصلاة والسلام اجتمعت له الطرق الثلاث، سواء فُسّر الوحي بالإلقاء، أم فُسّر بالكلام الشفاهي.

وقد ذُكر أنّه (عليه الصلاة والسلام) قد أُلقي إليه في المنام كما أُلقي إلى إبراهيم عليه‌السلام ، وأُلقي إليه عليه الصلاة والسلام في اليقظة على نحو إلقاء الزبور إلى داود عليه‌السلام . ففي (الكبريت الأحمر) للشعراني، نقلاً عن الباب الثاني من (الفتوحات المكّية): أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أُعطي القرآن مجملاً قبل جبرئيل عليه‌السلام ، من غير تفصيل الآيات والسور. وعن ابن عبّاس تفسير الروح بالنبوّة. وقال الربيع: هو جبرئيل عليه‌السلام .

وعليه، فأوحينا مضمّن معنى أرسلنا، والمعنى: أرسلناه بالوحي إليك؛ لأنّه لا يقال: أوحى الملك بل أرسله.

ونقل الطبرسي عن أبي جعفر، وأبي عبد اللَّه (رضي اللَّه تعالى عنهما): أنّ المراد بهذا الروح ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يصعد

____________________

1) سورة الشورى 52: 42.

٢٩٥

إلى السماء. وهذا القول في غاية الغرابة، ولعلّه لا يصحّ عن هذين الإمامين.

وتنوين (روحاً) للتعظيم، أي روحاً عظيماً (1) ... وقال في ذيل قوله تعالى ( وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ ) : أي الروح الذي أوحيناه إليك. وقال ابن عطية: الضمير للكتاب، وقيل للإيمان، ورجّح بالقرب، وقيل للكتاب والإيمان ووحّد؛ لأنّ مقصدهما واحد فهو نظير ( وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ) (2) .

____________________

1) روح المعاني، ج25، ص 80 - 81.

2) سورة التوبة: 62.

٢٩٦

ليلة القدر

في روايات أهل سنّة الخلافة

دوام ليلة القدر في كلّ عام إلى يوم القيامة:

1 - فقد روى عبد الرزّاق الصنعاني في (المصنّف) بسنده، عن مولى معاوية، قال: (قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر قد رُفعت، قال: كذّب من قال كذلك، قلت: فهي كلّ شهر رمضان استقبله؟ قال: نعم... الحديث) (1) ، ورواه عنه بطريق آخر (2) ، ورواه كنز العمّال أيضاً (3) .

2 - وروى عبد الرزّاق الصنعاني في المصنّف بسنده، عن ابن عبّاس، قال: (ليلةٌ في كلّ رمضان يأتي، قال: وحدّثني يزيد بن عبد اللَّه بن الهاد: أنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله سُئِل عن ليلة القدر، فقيل له: كانت مع النبيّين ثمّ رُفعت حين قُبضوا، أو هي في كلّ سنة؟ قال: بل هي في كلّ سنة، بل هي في كلّ سنة) (4) .

3 - وروي عن ابن جرير، قال: (حُدّثت: أنّ شيخاً من أهل المدينة سأل أبا ذر بمنى، فقال: رُفعت ليلة القدر أم هي في كلّ رمضان؟ فقال أبو ذر: سألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقلت: يا رسول اللَّه رُفعت ليلة القدر؟ قال: بل هي كلّ رمضان) (5) .

4 - وروى ابن أبي شيبة الكوفي في المصنّف في باب ليلة القدر، بسنده إلى ابن

____________________

1) المصنّف، ج3، ص216، ح 5586.

2) المصنّف، ج3، ص255، ح 7707.

3) كنز العمّال، ج3، ص634، ح 24490.

4) المصنّف، ج4، ص255، ح 7708.

5) المصنّف، ج4، ص255، ح 7709، وأخرجه هق، ج4، ص307، والطحاوي، ج2، ص50.

٢٩٧

أبي مرثد عن أبيه، قال: (كنت مع أبي ذر عند الجمرة الوسطى، فسألته عن ليلة القدر، فقال: كان أسأل الناس عنها رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنا: ليلة القدر كانت تكون على عهد الأنبياء فإذا ذهبوا رُفعت؟ قال: لا ولكن تكون إلى يوم القيامة) (1) .

5 - أخرج السيوطي في الدرّ المنثور: (عن محمّد بن نصر، عن سعيد بن المسيّب أنّه سُئل عن ليلة القدر، أهي شي‏ء كان فذهب، أم هي في كلّ عام؟ فقال: بل هي لأُمّة محمّد ما بقي منهم اثنان) (2) .

أقول: وفي هذه الرواية - وإن كانت مقطوعة - دلالةٌ على أن لو بقي في الأرض رجلٌ واحد لكان الثاني هو الحجّة وخليفة اللَّه في الأرض، الذي تنزّل عليه ليلة القدر بمقادير الأُمور، وأنّ ليلة القدر هي من حقائق وخصائص روح الحجّة في الأرض.

6 - وروى الطبري بسنده عن ربيعة بن كلثوم، قال: (قال رجل للحسن وأنا أسمع: أرأيت ليلة القدر في كلّ رمضان هي؟ قال: نعم، واللَّه الذي لا إله إلاّ هو إنّها لفي كلّ رمضان، وأنّها ليلة القدر، فيها يُفرق كلّ أمر حكيم، فيها يقضي اللَّه كلّ أجل وعمل ورزق إلى مثلها) (3) .

النزول في ليلة القدر وحي للأنبياء، واستمراره بعد الأنبياء:

قال ابن خزيمة في صحيحه (4) : باب ذكر أبواب ليلة القدر، والتأليف بين الأخبار المأثورة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيها ما يحسب كثيراً من حملة العلم، ممّن لا يفهم صناعة العلم، أنّها متهاتِرةٌ متنافية، وليس كذلك هي عندنا بحمد اللَّه ونعمته، بل هي

____________________

1) المصنّف لابن أبي شيبة، ج2، ص394، ح 5، باب 341.

2) الدرّ المنثور، ج6، ص371، في ذيل سورة القدر.

3) جامع البيان، ج25، ص139، ح24000.

4) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص320.

٢٩٨

مختلفة الألفاظ متّفقة المعنى، على ما سأبيّنه إن شاء اللَّه.

قال أيضاً: باب ذكر دوام ليلة القدر في كلّ رمضان إلى قيام الساعة، ونفي انقطاعها بنفي الأنبياء.

7 - وروى بسنده إلى أبي مرثد، قال: (قال: لقينا أبا ذر وهو عند الجمرة الوسطى، فسألته عن ليلة القدر، فقال: ما كان أحد بأَسأل لها منّي، قلت: يا رسول اللَّه ليلة القدر أُنزلت على الأنبياء بوحي إليهم فيها ثمّ ترجع؟ فقال: بل هي إلى يوم القيامة.. الحديث) (1) ، ورواه بطريق آخر أيضاً، في باب أنّ ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان (2) .

8 - وروى النسائي، والقسطلاني، والهيثمي، وابن حجر في فتح الباري، وابن كثير في تفسيره حديث أبي ذر - في ليلة القدر - قال: (يا رسول اللَّه أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت؟ قال: بل هي باقية).

9 - وروى أحمد بن محمّد بن سلمة في شرح معاني الآثار، في باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟ بسنده، إلى مالك ابن مرثد عن أبيه، قال: (سألت أبا ذر فقلت: أسألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ليلة القدر؟ قال: نعم، كنت أسأل الناس عنها، قال عكرمة: يعني أشبع سؤلاً، قلت: يا رسول اللَّه، ليلة القدر أفي رمضان هي أم في غيره؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : في رمضان. قلت: وتكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا رُفعوا رُفعت؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة) (3) .

10 - وفي صحيح ابن حِبان، قال في باب ذكر البيان بأنّ ليلة القدر تكون في العشر الأواخر كلّ سنة إلى أن تقوم الساعة، ثمّ روى بسند متّصل رواية أبي ذر

____________________

1) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص320.

2) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص321.

3) شرح معاني الآثار، ج3، ص85.

٢٩٩

المتقدِّمة واللفظ فيها... (تكون في زمان الأنبياء ينزل عليهم الوحي، فإذا قُبضوا رُفعت؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : بل هي إلى يوم القيامة) (1) .

وروى البيهقي في فضائل الأوقات رواية أبي ذر المتقدّمة بإسناده (2) ، وقال - قبل تلك الرواية -: وليلة القدر التي ورد القرآن بفضيلتها إلى يوم القيامة وهي في كلّ رمضان... ثمّ نقل الخبر المزبور. وروى الهيثمي في موارد الظمآن رواية أبي ذر بسنده (3) .

11 - وروى أحمد بن محمّد بن سَلمة في معاني الآثار، في باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟ بسنده إلى سعيد بن جبير عن ابن عمر، قال: (سُئل رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا أسمع عن ليلة القدر؟ فقال: في كلّ رمضان). ففي هذا الحديث أنّها في كلّ رمضان، فقال قوم هذا دليل على أنّها تكون في أوّله وفي وسطه، كما قد تكون في آخره. وقد يحتمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (في كلّ رمضان)، هذا المعنى، ويحتمل أنّها في كلّ رمضان إلى يوم القيامة (4) ، ورواه بطرق أخرى غير مرفوعة.

أقول: هذه الروايات عند العامّة مطابقة لما يأتي من الروايات عند أهل البيت عليهم‌السلام ، من عدّة وجوه، أهمّها:

أوّلاً: ليلة القدر كانت من لَدُن آدم عليه‌السلام ، واستمرّت إلى النبيّ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي مستمرّة إلى يوم القيامة نزولاً على خلفاء النبيّ الاثني عشر.

وثانياً: إنّ هذا الروح النازل في ليلة القدر هو قناة ارتباط الأنبياء والأوصياء مع الغيب.

وثالثاً: ممّا يدلّل على عموم الخلافة الإلهية: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ

____________________

1) صحيح ابن حِبّان، ج8، ص438.

2) البيهقي، ص 219.

3) موارد الظمآن، ص 231.

4) شرح معاني الحديث، ج3، ص84.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406