الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 406

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 406
المشاهدات: 109314
تحميل: 5904


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 109314 / تحميل: 5904
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 10

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

بسم الله الرحمن الرحيم

( سورة يونس وهي مائة وتسع آيات)

( سورة يونس آية ١ - ١٠)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ( ١) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ( ٢) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ( ٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ( ٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ( ٥) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ( ٦) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ( ٧) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ( ٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ( ٩) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ( ١٠)

٢

( بيان)

السورة - كما يلوح من آياتها - مكّيّة من السور النازلة في أوائل البعثة وقد نزلت دفعة للاتّصال الظاهر بين كرائم آياتها، وقد استثنى بعضهم قوله تعالى:( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ) إلى تمام ثلاث آيات فذكر أنّها مدنيّة، وبعضهم قوله تعالى:( وَمِنْهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لَّا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ) فذكر أنّها نزلت في اليهود بالمدينة، ولا دليل من جهة اللّفظ على شئ من القولين.

وغرض السورة وهو الّذى اُنزلت لأجل بيانه هو تأكيد القول في التوحيد من طريق الإنذار والتبشير كأنّها اُنزلت عقيب إنكار المشركين الوحى النازل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتسميتهم القرآن بالسحر فردّ الله سبحانه ذلك عليهم ببيان أنّ القرآن كتاب سماويّ نازل بعلمه تعالى، وأنّ الّذى يتضمّنه من معارف التوحيد كوحدانيّته تعالى وعلمه وقدرته وانتهاء الخلقة إليه وعجائب سننه في خلقه ورجوعهم جميعاً إليه بأعمالهم الّتى سيجزون بها خيراً أو شرّاً كلّ ذلك ممّا تدلّ عليه آيات السماء والأرض ويهتدى إليه العقل السليم فهى معان حقّة ولا يدلّ على مثلها إلّا كلام حكيم لا سحر مزوّق باطل.

والدليل على ما ذكرنا افتتاح السورة بالكلام على تكذيبهم القرآن:( أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا - إلى قوله -قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ ) واختتامها بمثل قوله:( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَاصْبِرْ ) الآية ثمّ عوده تعالى إلى مسألة الايحاء بالقرآن وتكذيبهم له في تضاعيف الآيات مرّة بعد مرّة كقوله:( وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ) الآية، وقوله:( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللهِ ) الآية، وقوله:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ ) الآية، وقوله:( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ) الآية.

فتكرّر هذه الآيات والافتتاح والاختتام بها يدلّ على أنّ الكلام مبنىّ على

٣

تعقيب إنكارهم لكلام الله وتكذيبهم الوحى ولذلك كان من عمدة الكلام في هذه السورة الوعيد على مكذّبى آيات الله من هذه الاُمّة بعذاب يقضى بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبينهم وأنّ ذلك من سنّة الله في خلقه، وعلى تعقيبه تختتم السورة حتّى كاد يكون بيان هذه الحقيقة من مختصّات هذه السورة فمن الحرىّ أن تعرّف السورة بأنّها سورة الإنذار بالقضاء العدل بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين اُمّته وقد اختتمت بقوله:( وَاصْبِرْ حتّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ) .

قوله تعالى: ( الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ) الإشارة باللّفظ الدالّ على البعد للدلالة على ارتفاع مكانة القرآن وعلوّ مقامه فإنّه كلام الله النازل من عنده وهو العلىّ الأعلى رفيع الدرجات ذو العرش.

والآية - ومعناها العلامة - وإن كان من الجائز أن يسمّى بها ما هو من قبيل المعاني أو الأعيان الخارجيّة كما في قوله:( أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) الشعراء: ١٩٧ وفي قوله:( وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ) الأنبياء: ٩١ وكذا ما هو من قبيل القول كما في قوله ظاهراً:( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ) النحل: ١٠١ ونحو ذلك لكنّ المراد بالآيات ههنا هي أجزاء الكلام الإلهىّ قطعاً فإنّ الكلام في الوحى النازل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو كلام متلوّ مقروّ بأىّ معنى من المعاني صوّرنا نزول الوحى.

فالمراد بالآيات أجزاء الكتاب الإلهىّ، وتتعيّن في الجملة من جهة المقاطع الّتى تفصل الآيات بعضها من بعض مع إعانة مّا من ذوق التفاهم، ولذلك ربّما وقع الخلاف في عدد آيات بعض السور بين علماء الإحصاء كالكوفيّين والبصريّين وغيرهم.

والمراد بالكتاب الحكيم هو الكتاب الّذى استقرّت فيه الحكمة، وربّما قيل: إنّ الحكيم من الفعيل بمعنى المفعول والمراد به المحكم غير القابل للانثلام والفساد، والكتاب الّذى هذا شأنه - وقد وصفه تعالى في الآية التالية بأنّه من الوحى - هو القرآن المنزل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤

وربّما قيل: إنّ الكتاب الحكيم هو اللّوح المحفوظ، وكون الآيات آياته هو أنّها نزلت منه وهى محفوظة فيه، وهو وإن لم يخل عن وجه بالنظر إلى أمثال قوله تعالى:( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) البروج: ٢٢ وقوله:( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ) الواقعة: ٧٨ لكنّ الأظهر من الآية الّتى نحن فيها وسائر ما في سياقها من آيات أوائل هذه السور المفتتحة بالحروف( الر ) وسائر الآيات المشابهة لها أو الناظرة إلى وصف القرآن أن المراد بالكتاب وبآياته هو هذا القرآن المتلوّ المقروّ وآياته المتلوّة المقروّة بما أنّه من اللوح المحفوظ من التغيير والبطلان كالكتاب المأخوذ بوجه من الكتاب كما يستفاد من مثل قوله تعالى:( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ ) الحجر: ١، وقوله:( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) هود: ١، وغير ذلك.

قوله تعالى: ( أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ ) إلى آخر الآية الاستفهام للإنكار فهو إنكار لتعجّبهم من إيحاء الله إلى رجل منهم ما اشتملت عليه الدعوة القرآنيّة.

وقوله:( أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ ) الخ تفسير لمّا أوحاه إليه، ويتبيّن به أنّ الّذى ألقاه إليه من الوحى هو بالنسبة إلى عامّة الناس إنذار وبالنسبة إلى الّذين آمنوا منهم خاصّة تبشير فهو لا محالة يضرّ الناس على بعض التقادير وهو تقدير الكفر والعصيان وينفعهم على تقدير الإيمان والطاعة.

وقد فسّر البشرى الّذى أمره أن يبشّر به المؤمنين بقوله:( أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ) والمراد بقدم الصدق هو المنزلة الصادقة كما يشير إليه قوله:( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ) القمر: ٥٥ فإنّ الإيمان لمّا استتبع الزلفى والمنزلة عند الله كان الصدق في الإيمان يستتبع الصدق في المنزلة الّتى يستتبعها فلهم منزلة الصدق كما أنّ لهم إيمان الصدق.

فإطلاق القدم على المنزلة والمكانة من الكناية ولمّا كان إشغال المكان عادة إنّما هو بالقدم استعملت القدم في المكان إن كان في المادّيّات، في المكانة والمنزلة

٥

إن كان في المعنويّات ثمّ اُضيفت القدم إلى الصدق، وهو صدق صاحب القدم في شأنه أي قدم منسوبة إلى صدق صاحبها أو قدم هي صادقة لصدق صاحبها في شأنه.

وهناك معنى آخر وهو أن يراد بالصدق طبيعته كأنّ للصدق قدما وللكذب قدما وقدم الصدق هي الّتى تثبت ولا تزول.

وقوله:( قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ ) أي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقرئ:( إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ ) أي القرآن ومآل القراءتين واحد فإنّهم إنّما كانوا يرمونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسحر من جهة القرآن الكريم.

والجملة كالتعليل لقوله:( كَانَ لِلنَّاسِ عَجَبً ) يمثّل به معنى تعجّبهم وهو أنّهم لمّا سمعوا ما تلاه عليهم من القرآن وجدوه كلاماً من غير نوع كلامهم خارقاً للعادة المألوفة في سنخ الكلام يأخذ بمجامع القلوب وتتوّله إليه النفوس فقالوا: إنّه لسحر مبين، وإنّ الجائى به لساحر مبين.

قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) لمّا ذكر في الآية السابقة عجبهم من نزول الوحى وهو القرآن على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتكذيبهم له برميه بالسحر شرع تعالى في بيان ما كذّبوا به من الجهتين أعنى من جهة أنّ ما كذّبوا به من المعارف المشتمل عليها القرآن حقّ لا ريب فيه، ومن جهة أنّ القرآن الّذى رموه بالسحر كتاب إلهىّ حقّ وليس من السحر الباطل في شئ.

فقوله:( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ ) الخ، شروع في بيان الجهة الاُولى وهى أنّ ما يدعوكم إليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا يعلّمكم القرآن حقّ لا ريب فيه ويجب عليكم أن تتّبعوه.

والمعنى: إنّ ربّكم معاشر الناس هو الله الّذى خلق هذا العالم المشهود كلّه سماواته وأرضه في ستّة أيّام ثمّ استوى على عرش قدرته وقام مقام التدبير الّذى إليه ينتهى كلّ تدبير وإدارة فشرع يدبّر أمر العالم، وإذا انتهى إليه كلّ تدبير من دون الاستعانة بمعين أو الاعتضاد بأعضاد لم يكن لشئ من الأشياء أن يتوسّط في تدبير أمر من الاُمور - وهو الشفاعة - إلّا من بعد إذنه تعالى فهو سبحانه هو السبب

٦

الأصلىّ الّذى لا سبب بالأصالة دونه، ومن دونه من الأسباب أسباب بتسبيبه وشفعاء من بعد إذنه.

وإذا كان كذلك كان الله تعالى هو ربّكم الّذى يدبّر أمركم لا غيره ممّا اتّخذتموها أرباباً من دون الله وشفعاء عنده، وهو المراد بقوله:( ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ) أي هلّا انتقلتم انتقالا فكريّا إلى ما يستنير به أنّ الله هو ربّكم لا ربّ غيره بالتأمّل في معنى الاُلوهيّة والخلقة والتدبير.

وقد تقدّم الكلام في معنى العرش والشفاعة والإذن وغير ذلك في ذيل قوله:( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ ) الأعراف: ٥٤ في الجزء الثامن من الكتاب.

قوله تعالى: ( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا ) تذكير بالمعاد بعد التذكير بالمبدء، وقوله:( وَعْدَ اللهِ حَقًّا ) من قيام المفعول المطلق مقام فعله، والمعنى: وعده الله وعدا حقّا.

والحقّ هو الخبر الّذى له أصل في الواقع يطابق الخبر فكون وعده تعالى بالمعاد حقّا معناه كون الخلقة الإلهيّة بنحو لا تتمّ خلقة إلّا برجوع الأشياء - ومن جملتها الإنسان - إليه تعالى وذلك كالحجر الهابط من السماء فإنّه يعد بحركته السقوط على الأرض فإنّ حركته سنخ أمر لا يتمّ إلّا بالاقتراب التدريجيّ من الأرض والسقوط والاستقرار عليها، والأشياء على حال كدح إلى ربّها حتّى تلاقيه، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ) الانشقاق: ٦ فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ ) الخ تأكيد لقوله:( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ) وتفصيل لإجمال ما يتضمّنه من معنى الرجوع والمعاد.

ويمكن أن يكون في مقام التعليل لمّا تقدّمه من قوله:( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ) الخ اُشير به إلى حجّتين من الحجج المستعملة في القرآن لإثبات المعاد: أمّا قوله:( إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) فلأنّ الجارى من سنّة الله سبحانه أنّه يفيض الوجود على

٧

ما يخلقه من شئ ويمدّه من رحمته بما تتمّ له به الخلقة فيوجد ويعيش ويتنعّم برحمة منه تعالى ما دام موجودا حتّى ينتهى إلى أجل معدود.

وليس انتهاؤه إلى أجله المعدود المضروب له فناءً منه وبطلانا للرحمة الإلهيّة الّتى كان بها وجوده وبقاؤه وسائر ما يلحق بذلك من حياة وقدرة وعلم ونحو ذلك بل بقبضه تعالى ما بسطه عليه من الرحمة فإنّ ما أفاضه الله عليه من عنده هو وجهه تعالى ولن يهلك وجهه.

فنفاد وجود الأشياء وانتهاؤها إلى أجلها ليس فناء منها وبطلانا لها على ما نتوهّمه بل رجوعاً وعوداً منها إلى عنده وقد كانت نزلت من عنده، وما عند الله باق فلم يكن إلّا بسطا ثمّ قبضا فالله سبحانه يبدؤ الأشياء ببسط الرحمة، ويعيدها إليه بقبضها وهو المعاد الموعود.

وأمّا قوله:( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ ) الخ فإنّ الحجّة فيه أنّ العدل والقسط الإلهىّ - وهو من صفات فعله - يأبى أن يستوى عنده من خضع له بالإيمان به وعمل صالحاً ومن استكبر عليه وكفر به وبآياته، والطائفتان لا يحسّ بينهما بفرق في الدنيا فإنّما السيطرة فيها للأسباب الكونيّة بحسب ما تنفع وتضرّ بإذن الله.

فلا يبقى إلّا أن يفرّق الله بينهما بعدله بعد إرجاعهما إليه فيجزى المؤمنين المحسنين جزاء حسنا والكفّار المسيئين جزاء سيّئاً من جهة ما يتلذّذون به أو يتألّمون.

فالحجّة معتمدة على تمايز الفريقين بالإيمان والعمل الصالح وبالكفر وعلى قوله:( بِالْقِسْطِ ) هذا، وقوله:( لِيَجْزِيَ ) متعلّق بقوله:( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ) على ظاهر التقرير.

ويمكن أن يكون قوله:( لِيَجْزِيَ ) الخ متعلّقا بقوله:( ثُمَّ يُعِيدُهُ ) ويكون الكلام مسوقا للتعليل وإشارة إلى حجّة واحدة وهى الحجّة الثانية المذكورة، والأقرب من جهة اللفظ هو الاخير.

قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ) إلى آخر الآية،

٨

الضياء - على ما قيل - مصدر ضاء يضوء ضوءاً وضياء كعاذ يعوذ عوذا وعواذا، وربّما كان جمع ضوء كسياط جمع سوط، واللفظ - على ما قيل - على تقدير مضاف والأصل جعل الشمس ذات ضياء والقمر ذا نور.

وكذلك قوله:( وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ ) أي وقدّر القمر ذا منازل في مسيره ينزل كلّ ليلة منزلا من تلك المنازل غير ما نزله في الليلة السابقة فلا يزال يتباعد من الشمس حتّى يوافيها من الجانب الآخر، وذلك في شهر قمرىّ كامل فترتسم بذلك الشهور وترتسم بالشهور السنون، ولذلك قال:( لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ) .

والآية تنبئ عن حجّة من الحجج الدالّة على توحّده تعالى في ربوبيّته للناس وتنزّهه عن الشركاء، والمعنى أنّه هو الّذى جعل الشمس ضياء تستفيدون منه في جميع شؤون حياتكم كما يستفيد منه ما في عالمكم الأرضىّ من موجود مخلوق، وكذا جعل القمر نورا يستفاد منه، وقدّره ذا منازل يؤدّى اختلاف منازله إلى تكوّن الشهور والسنين فتستفيدون من ذلك في العلم بعدد السنين والحساب ولم يخلق ما خلق من ذلك بما يترتّب عليه من الغايات والفوائد إلّا بالحقّ فإنّها غايات حقيقيّة منتظمة تترتّب على خلقة ما خلق فليست بلغو باطل ولا صدفة اتّفاقيّة.

فهو تعالى إنّما خلق ذلك ورتّبة على هذا الترتيب لتدبير شؤون حياتكم وإصلاح اُمور معاشكم ومعادكم فهو ربّكم الّذى يملك أمركم ويدبّر شأنكم لا ربّ سواه.

وقوله:( يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) من المحتمل أن يراد به التفصيل بحسب التكوين الخارجيّ أو بحسب البيان اللفظىّ، ولعلّ الأوّل أقرب إلى سياق الآية.

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ ) قال في المجمع: الاختلاف ذهاب كلّ واحد من الشيئين في جهة غير جهة الآخر فاختلاف الليل والنهار ذهاب أحدهما في جهة الضياء والآخر في جهة الظلام، انتهى. والظاهر أنّه مأخوذ من الخلف، والأصل في معناه أخذ

٩

أحد الشيئين الاخر في جهة خلفه ثمّ اتسع فاستعمل في كل تغاير كائن بين شيئين يقال: اختلفه أي جعله خلفه، واختلف الناس في كذا ضد اتفقوا فيه، واختلف الناس إليه أي ترددوا بالدخول عليه والخروج من عنده فجعل بعضهم بعضا خلفه.

والمراد باختلاف الليل والنهار إما ورود كل منهما على الأرض خلف الاخر وهو توالى الليل والنهار الراسم للاسابيع والشهور والسنين، وإما اختلاف كل من الليل والنهار في أغلب بقاع الأرض المسكونة فالليل والنهار يتساويان في الاعتدال الربيعي ثمّ يأخذ النهار في الزيادة في المناطق الشمالية فيزيد النهار كل يوم على النهار السابق عليه حتّى يبلغ اول الصيف فيأخذ في النقيصة حتّى يبلغ الاعتدال الخريفى وهو اول الخريف فيتساويان.

ثم يأخذ الليل في الزيادة على النهار إلى اول الشتاء وهو منتهى طول الليالى ثمّ يعود راجعا إلى التساوى حتّى ينتهى إلى الاعتدال الربيعي وهو اول الربيع هذا في المناطق الشمالية والامر في المناطق الجنوبية بالخلاف منه فكلما زاد النهار طولا في احد الجانبين زاد الليل طولا في الجانب الاخر بنفس النسبة.

والاختلاف الاول بالليل والنهار هو الّذى يدبّر أمر اهل الأرض بتسليط حرارة الاشعة ثمّ بسط برد الظلمة ونشر الرياح وبعث الناس للحركة المعاشية ثمّ جمعهم للسكن والراحة، قال تعالى:( وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ) النبأ: ١١.

والاختلاف الثاني هو الّذى يرسم الفصول الاربعة السنوية الّتى يدبّر بها أمر الاقوات والارزاق كما قال تعالى:( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ ) حم السجدة: ١٠.

والنهار واليوم مترادفان إلا أن في النهار - على ما قيل - فائدة اتساع الضياء ولعله لذلك لا يستعمل النهار إلا بعنآية مقابلته الليل بخلاف اليوم فإنّه يستعمل فيما لا عنآية فيه بذلك كما في مورد الاحصاء يقال: عشرة أيّام وعشرين يوما وهكذا، ولا يقال: عشرة نهارات وعشرين نهارا وهكذا.

١٠

والآية تشتمل على حجّة تامّة على توحّده تعالى في ربوبيّته فإنّ اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض يحمل نظاماً واحداً عامّاً متقنا يدبّر به أمر الموجودات الأرضيّة والسماويّة وخاصّة العالم الإنسانيّ تدبيراً واحداً يتّصل بعض أجزائه ببعض على أحسن ما يتصوّر.

وهو يكشف عن ربوبيّة واحدة تربّ كلّ شئ ومنه الإنسان فلا ربّ إلّا الله سبحانه لا شريك له في ربوبيّته.

ومن المحتمل أن يكون قوله:( إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) الخ، في مقام التعليل لقوله في الآية السابقة:( يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) لمكان إنّ، والأنسب على هذا أن يكون المراد باختلاف اللّيل والنهار تواليهما على الأرض دون الاختلاف بالمعنى الآخر فإنّ هذا المعنى من الاختلاف هو الّذى يسبق إلى الذهن من قوله في الآية السابقة:( جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ ) وهو ظاهر.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا ) إلى آخر الآيتين. شروع في بيان ما يتفرّع على الدّعوة السابقة المذكورة بقوله:( ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ) من حيث عاقبة الأمر في استجابته وردّه وطاعته ومعصيته.

فبدء سبحانه بالكافرين بهذا الأمر فقال:( إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ) فوصفهم أوّلاً بعدم رجائهم لقاءه، وهو الرجوع إلى الله بالبعث يوم القيامة، وقد تقدّم الكلام في وجه تسميته بلقاء الله في مواضع من هذا الكتاب ومنها ما في تفسير آية الرؤية من سورة الأعراف فهؤلاء هم المنكرون ليوم الجزاء، وبإنكاره يسقط الحساب والجزاء فالوعد والوعيد والأمر والنهى، وبسقوطها يبطل الوحى والنبوّة وما يتفرّع عليه من الدين السماويّ.

وبإنكار البعث والمعاد ينعطف همّ الإنسان على الحياه الدنيا فإنّ الإنسان وكذا كلّ موجود ذى حياة له همّ فطرىّ ضروريّ في بقائه وطلب لسعادة تلك

١١

الحياة فإن كان مؤمناً بحياة دائمة تسع الحياة الدنيويّة والاُخرويّة معاً فهو، وإن لم يذعن إلّا بهذه الحياة المحدودة الدنيويّة علقت همّته الفطريّة بها، ورضى بها وسكن بسببها عن طلب الآخرة، وهو المراد بقوله:( وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا ) .

ومن هنا يظهر أنّ الوصف الثاني أعنى قوله:( وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا ) من لوازم الوصف الأوّل أعنى قوله:( لا يرجون لقاءنا ) وهو بمنزلة المفسّر بالنسبة إليه، وأنّ الباء في قوله:( اطْمَأَنُّوا بِهَا ) للسببيّة أي سكنوا بسببها عن طلب اللقاء وهو الآخرة.

وقوله:( وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ) في محلّ التفسير لمّا تقدّمه من الوصف لمكان ما بينهما من التلازم فإنّ نسيان الآخرة وذكر الدنيا لا ينفكّ عن الغفلة عن آيات الله.

والآية قريبة المضمون من قوله تعالى:( فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ) الآية النجم: ٣٠ حيث دلّ على أنّ الإعراض عن ذكر الله وهو الغفلة عن آياته يوجب قصر علم الإنسان في الحياة الدنيا وشؤونها فلا يريد إلّا الحياة الدنيا وهو الضلال عن سبيل الله، وقد عرّف هذا الضلال بنسيان يوم الحساب في قوله:( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) ص - ٢٦.

فقد تبيّن أنّ إنكار اللقاء ونسيان يوم الحساب يوجب رضى الإنسان بالحياة الدنيا والاطمئنان إليها من الآخرة وقصر العلم عليه وانحصار الطلب فيه، وإذ كان المدار على حقيقة الذكر والطلب لم يكن فرق بين إنكاره والرضى بالحياة الدنيا قولا وفعلا أو فعلا مع القول الخالى به.

وتبيّن أيضاً أنّ الاعتقاد بالمعاد أحد الاُصول الّتى يتقوّم بها الدين إذ بسقوطه يسقط الأمر والنهى والوعد والوعيد والنبوّة والوحى وهو بطلان الدين الإلهىّ من رأس.

١٢

وقوله:( أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) بيان لجزائهم بالنار الخالدة قبال أعمالهم الّتى كسبوها.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ ) إلى آخر الآية، هذا بيان لعاقبة أمر المؤمنين وما يثيبهم الله على استجابتهم لدعوته وطاعتهم لأمره.

ذكر سبحانه أنّه يهديهم بإيمانهم، وإنّما يهديهم إلى ربّهم لأنّ الكلام في عاقبة أمر من يرجو لقاء الله، وقد قال تعالى:( وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ) الرعد: ٢٧. فإنّما يهدى الإيمان بإذن الله إلى الله سبحانه وكلّما اهتدى المؤمنون إلى الحقّ أو إلى الصراط المستقيم أو غير ذلك ممّا يشتمل عليه كلامه فإنّما هي وسائل ومدارج تنتهى بالآخرة إليه تعالى، قال تعالى:( وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ ) النجم: ٤٢.

وقد وصف المؤمنين بالإيمان والأعمال الصالحة ثمّ نسب هدايتهم إليه إلى الإيمان وحده فإنّ الإيمان هو الّذى يصعد بالعبد إلى مقام القرب، وليس للعمل الصالح إلّا إعانة الإيمان وإسعاده في عمله كما قال تعالى:( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) المجادلة: ١١ حيث ذكر للرفع الإيمان والعلم وسكت عن العمل الصالح، وأوضح منه في الدلالة قوله تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) فاطر: ١٠.

هذا في الهدآية الّتى هي شأن الإيمان، وأمّا نعم الجنّة فإنّ للعمل الصالح دخلاً فيها كما أنّ للعمل الصالح دخلاً في أنواع العذاب وقد ذكر تعالى في المؤمنين قوله:( تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) كما ذكر في الكافرين قوله:( أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) .

وليتنبّه الباحث المتدبّر أنّه تعالى ذكر لهؤلاء المهتدين بإيمانهم من مسكن القرب جنّات النعيم، ومن نعيمها الأنهار الّتى تجرى من تحتهم فيها، وقد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) الحمد: ٧ وقوله:( فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم ) الآية النساء: ٦٩ أنّ النعيم بحقيقة معناه في القرآن الكريم

١٣

هو الولآية الإلهيّة، وقد خصّ الله أولياءه المقرّبين بنوع من شراب الجنّة اعتنى به في حقّهم كما قال:( إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ) الإنسان: ٦، وقال أيضاً:( إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ - إلى أن قال -يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ - إلى أن قال -عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ) المطفّفين: ٢٨، وعليك بالتدبّر في الآيات وتطبيق بعضها على بعض حتّى ينجلى لك بعض ما أودعه الله سبحانه في كلامه من الأسرار اللطيفة.

قوله تعالى: ( دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) أوّل ما يكرم به الله سبحانه أولياءه - وهم الّذين ليس في قلوبهم إلّا الله ولا مدبّر لأمرهم غيره - أنّه يطهّر قلوبهم عن محبّة غيره فلا يحبّون إلّا الله فلا يتعلّقون بشئ إلّا الله وفي الله سبحانه فهم ينزّهونه عن كلّ شريك يجذب قلوبهم إلى نفسه عن ذكر الله سبحانه، وعن أيّ شاغل يشغلهم عن ربّهم.

وهذا تنزيه منهم لربّهم عن كلّ ما لا يليق بساحة قدسه من شريك في الاسم أو في المعنى أو نقص أو عدم، وتسبيح منهم له لا في القول واللفظ فقط بل قولا وفعلا ولسانا وجنانا، وما دون ذلك فإنّ له شوباً من الشرك، وقد قال تعالى:( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ) يوسف: ١٠٦.

وهؤلاء الّذين طهّر الله قلوبهم عن قذارة حبّ غيره الشاغلة عن ذكره وملأها بحبّه فلا يريدون إلّا إيّاه وهو سبحانه الخير الّذى لا شرّ معه قال:( وَاللهُ خَيْرٌ ) طه: ٧٣.

فلا يواجهون بقلوبهم الّتى هي ملآى بالخير والسلام أحداً إلّا بخير وسلام اللّهمّ إلّا أن يكون الّذى واجهوه بقلوبهم هو الّذى يبدّل الخير والسلام شرّاً وضرّاً كما أنّ القرآن شفاء لمن استشفى به لكنّه لا يزيد الظالمين إلّا خساراً.

ثمّ إنّ هذه القلوب الطاهرة لا تواجه شيئاً من الأشياء إلّا وهى تجده وتشاهده نعمة لله سبحانه حاكية لصفات جماله ومعانى كماله واصفة لعظمته وجلاله فكلّما وصفوا شيئاً من الأشياء وهم يرونه نعمة من نعم الله ويشاهدون فيه جماله تعالى في أسمائه

١٤

وصفاته ولا يغفلون ولا يسهون عن ربّهم في شئ كان وصفهم لذلك الشئ وصفاً منهم لربّهم بالجميل من أفعاله وصفاته فيكون ثناء منهم عليه وحمداً منهم له فليس الحمد إلّا الثناء على الجميل من الفعل الاختياريّ.

فهذا شأن أوليائه تعالى وهم قاطنون في دار العمل يجتهدون في يومهم لغد فإذا لقوا ربّهم فوفى لهم بوعده وأدخلهم في رحمته وأسكنهم دار كرامته أتمّ لهم نورهم الّذى كان خصّهم به في الدنيا كما قال تعالى:( نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا ) التحريم: ٨.

فسقاهم شراباً طهوراً يطهر به سرائرهم من كلّ شرك جلىّ وخفىّ، وغشيهم بنور العلم واليقين، وأجرى من قلوبهم على ألسنتهم عيون التوحيد فنزّهوا الله وسبّحوه أوّلاً وسلّموا على رفقائهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين ثمّ حمدوا الله سبحانه وأثنوا عليه بأبلغ الحمد وأحسن الثناء.

وهذا هو الّذى يقبل الانطباق عليه - والله أعلم - قوله في الآيتين:( تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) وفيه ذكر جنّة الولآية وتطهير قلوبهم:( دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ ) وفيه تنزيهه تعالى وتسبيحه عن كلّ نقص وحاجة وشريك تنزيها على وجه الحضور لأنّهم غير محجوبين عن ربّهم( وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ) وهو توسيم اللقاء بالأمن المطلق، ولا يوجد في غيرها من الأمن إلّا اليسير النسبىّ( وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) وفيه ذكر ثنائهم على الله بالجميل بعد تسبيحهم له وتنزيههم، وهذا آخر ما ينتهى إليه أهل الجنّة في كمال العلم.

وقد قدّمنا في تفسير قوله تعالى:( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) الحمد: ٢ أنّ الحمد توصيف، ولا يسع وصفه تعالى لأحد من خلقه إلّا للمخلصين من عباده الّذين أخلصهم لنفسه وخصّهم بكرامة من القرب لا واسطة فيها بينهم وبينه قال تعالى:( سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات: ١٦٠.

ولذلك لم يحك في كلامه حمده إلّا عن آحاد من كرام أنبيائه كنوح وإبراهيم ومحمّد وداود وسليمانعليهم‌السلام كقوله فيما أمر به نوحا:( فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا

١٥

مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) المؤمنون: ٢٨، وقوله حكاية عن إبراهيم:( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ) إبراهيم: ٣٩، وقوله فيما أمر به محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عدّة مواضع:( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ) النمل: ٩٣، وقوله حكاية عن داود وسليمان:( وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ ) النمل: ١٥.

وقد حكى سبحانه حمده عن أهل الجنّة في عدّة مواضع من كلامه كقوله:( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا ) الأعراف: ٤٣، وقوله أيضاً:( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) فاطر: ٣٤، وقوله أيضاً:( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ ) الزمر: ٧٤، وقوله في هذه الآية:( وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) .

والآية تدلّ على أنّ الله سبحانه يلحق أهل الجنّة من المؤمنين بالآخرة بعباده المخلصين ففيها وعد جميل وبشارة عظيمة للمؤمنين.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ عن يونس بن عبد الرحمن عمّن ذكره عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قوله تعالى:( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ) الآية قال: الولآية.

وفي الكافي بإسناده عن إبراهيم بن عمر اليمانيّ عمّن ذكره عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ) قال: هو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: ورواه القمّىّ في تفسيره مسنداً والعيّاشيّ في تفسيره مرسلا عن إبراهيم بن عمر عمّن ذكره عنهعليه‌السلام . والظاهر أنّ المراد به شفاعتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويدلّ على ذلك ما رواه الطبرسيّ في المجمع حيث قال: قيل: قدم صدق شفاعة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال: وهو المروىّ عن أبى عبداللهعليه‌السلام .

وما رواه في الدرّ المنثورعن ابن مردويه عن علىّ بن أبى طالبعليه‌السلام في قوله:( قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ) قال: محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شفيع لهم يوم القيامة.

١٦

وفي تفسير العيّاشيّ عن زيد الشحّام عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن التسبيح قال: هو اسم من أسماء الله ودعوى أهل الجنّة.

أقول: ومراده بالتسبيح قولنا: سبحان الله، ومعنى اسميّته دلالته على تنزيهه تعالى.

وفي الاختصاص بإسناده عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه الحسين بن علىّ بن أبى طالبعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث طويل مع يهودىّ وقد سأله عن مسائل:

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا قال العبد: سبحان الله سبّح كلّ شئ معه ما دون العرش فيعطى قائلها عشر أمثالها، وإذا قال: الحمد لله أنعم الله عليه بنعيم الدنيا حتّى يلقاه بنعيم الآخرة، وهي الكلمة الّتي يقولها أهل الجنّة إذا دخلوها، والكلام ينقطع في الدنيا ما خلا الحمدلله، وذلك قوله: تحيّتهم يوم يلقونه سلام.

اقول: وقوله:( والكلام ينقطع في الدنيا ما خلا الحمدلله) أي جميع الكلام المستعمل في الدنيا لمقاصد تعود إلى مستعمله كالكلام المستعمل لمقاصد المعاش كجميع المحاورات الإنسانيّة والكلام المستعمل في العبادات لغرض الثواب ونحو ذلك ينقطع بانقطاع الدنيا إذ لا خبر بعد ذلك عن هذه المقاصد الدنيويّة، ولا يبقى بعدئذ إلّا الحمدلله والثناء عليه بالجميل وهو كلام أهل الجنّة فيها.

وقوله: وذلك قوله:( تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ ) معناه أنّ كون التحيّة يومئذ هو السلام المطلق يدلّ على أن ليس هناك إلّا موافقة كلّ شئ وملائمته لما يريده الإنسان فكلّ ما يريده فهو له فلا يستعمل هناك كلام لتحصيل غاية من الغايات على حدّ الكلام الدنيويّ إلّا الثناء على جميل ما يشاهد منه تعالى فافهم ذلك.

١٧

( سورة يونس آية ١١ - ١٤)

وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ( ١١) وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ( ١٣) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ( ١٤)

( بيان)

لمّا ذكر سبحانه الأصلين من أصول الدعوة الحقّة وهما التوحيد والمعاد واحتجّ عليهما من طريق العقل الفطريّ ثمّ أخبر عن عاقبة الإيمان والكفر بهما بحث عن سبب إمهال الناس وعدم تعجيل نزول العذاب بساحتهم مع تماديهم في غيّهم وضلالتهم وعمههم في طغيانهم وما هو السبب الّذى يوجب لهم ذلك فبيّن أنّ الأمر بيّن لا ستر عليه، وقد بيّنه لهم رسل الله بالبيّنات لكن الشيطان زيّن لهؤلاء المسرفين أعمالهم فأغفلهم عن ذكر المعاد فذهلوا ونسوا بعد ما ذكروا ثمّ لم يعجّل الله لهم العذاب بل أمهلهم في الدنيا إلى حين ليبتليهم ويمتحنهم فإنّما الدار دار ابتلاء وامتحان.

قوله تعالى: ( وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْر ) الخ، تعجيل الشئ الإتيان به بسرعة وعجلة، والاستعجال بالشئ طلب حصوله بسرعة وعجلة، والعمه شدّة الحيرة.

ومعنى الآية: ولو يعجّل الله للناس الشرّ وهو العذاب كما يستعجلون بالخير

١٨

كالنعمة لأنزل عليهم العذاب بقضاء أجلهم لكنّه تعالى لا يعجّل لهم الشرّ فيذر هؤلاء المنكرين للمعاد المارقين عن ربقة الدين يتحيّرون في طغيانهم أشدّ التحيّر.

وتوضيحه أنّ الإنسان عجول بحسب طبعه يستعجل بما فيه خيره ونفعه أي إنّه يطلب من الأسباب أن تسرع في إنتاج ما يبتغيه ويريده فهو في الحقيقة يطلب الإسراع المذكور من الله سبحانه لأنّه السبب في ذلك بالحقيقة فهذه سنّة الإنسان وهى مبنيّة على الأهواء النفسانيّة فإنّ الأسباب الواقعة ليست في نظامها تابعة لهوى الإنسان بل العالم الإنسانيّ هو التابع الجارى على ما يجريه عليه نظام الأسباب اضطراراً أحبّ ذلك أو كرهه.

ولو أنّ السنّة الإلهيّة في خلق الأشياء والإتيان بالمسبّبات عقيب أسبابها اتّبعت أو شابهت هذه السنّة الإنسانيّة المبنيّة على الجهل فعجّلت المسبّبات والآثار عقيب أسبابها لأسرع الشرّ وهو الهلاك بالعذاب إلى الإنسان فإنّ سببه قائم معه، وهو الكفر بعدم رجاء لقاء الله والطغيان في الحياة الدنيا لكنّه تعالى لا يعجّل الشرّ لهم كاستعجالهم بالخير لأنّ سنّته مبنيّة على الحكمة بخلاف سنّتهم المبنيّة على الجهالة فيذرهم في طغيانهم يعمهون.

وقد بان بذلك أوّلاً: أنّ في قوله( لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ) نوعاً من التضمين فقد ضمّن فيه( قضى ) معنى مثل الإنزال أو الإبلاغ ولذا عدّى بإلى.

والمعنى قضى منزلا أو مبلغا إليهم أجلهم أو أنزل أو أبلغ إليهم أجلهم مقضيّا وهو كناية عن نزول العذاب فالكلمة من الكناية المركّبة.

وثانياً: أنّ في قوله:( فَنَذَرُ الَّذِينَ ) التفاتا من الغيبة إلى التكلّم مع الغير، ولعلّ النكتة فيه الإشارة إلى توسيط الأسباب في ذلك فإنّ المذكور من أفعاله تعالى في الآية وما بعدها كتركهم في عمههم وكشف الضرّ والتزيين والإهلاك أمور يتوسّل إليها بتوسيط الأسباب، والعظماء إذا أرادوا أن يشيروا إلى دخل أعوانهم وخدمهم في بعض أمورهم أتوا بصيغة المتكلّم مع الغير.

قوله تعالى: ( وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا ) إلى

١٩

آخر الآية. الضرّ بالضمّ ما يمسّ الإنسان من الضرر في نفسه، وقوله:( دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا ) أي دعانا منبطحا لجنبه الخ، والظاهر أنّ الترديد للتعميم أي دعانا على أيّ حال من أحواله فرض من انبطاح أو قعود أو قيام مصرّاً على دعائه لا ينسانا في حال، ويمكن أن يكون( لِجَنبِهِ ) الخ، أحوالاً ثلاثة من الإنسان لا من فاعل دعانا والعامل فيه( مَسَّ ) والمعنى إذا مسّ الإنسان الضرّ وهو منبطح أو قاعد أو قائم دعانا في تلك الحال وهذا معنى ما ورد في بعض المرسلات:( دَعَانَا لِجَنبِهِ ) العليل الّذى لا يقدر أن يجلس( أَوْ قَاعِدًا ) الّذى لا يقدر أن يقوم( أَوْ قَائِمًا ) الصحيح.

وقوله:( مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ ) كناية عن النسيان والغفلة عمّا كان لا يكاد ينساه.

والمعنى: وإذا مسّ الإنسان الضرّ لم يزل يدعونا لكشف ضرّه وأصرّ على الدعاء فإذا كشفنا عنه ضرّه الّذى مسّه نسينا وترك ذكرنا وانجذبت نفسه إلى ما كان يتمتّع به من أعماله كذلك زيّن للمسرفين المفرطين في التمتّع بالزخارف الدنيويّة أعمالهم فأورثهم نسيان جانب الربوبيّة والإعراض عن ذكر الله تعالى.

وفي الآية بيان السبب في تمادى منكري المعاد في غيّهم وضلالتهم وخصوصيّة سببه وهو أنّ هؤلاء مثلهم كمثل الإنسان يمسّه الضرّ فيذكر ربّه ويلحّ عليه بالدعاء لكشف ضرّه حتّى إذا كشف عنه الضرّ - ولذلك كان يدعوه - مرّ لوجهه متوغّلا في شهواته وقد نسى ما كان يدعوه ويذكره فلم يكن تركه لدعاء ربّه بعد ذكره إلّا معلولاً لما زيّن له من عمله فأورثه النسيان بعد الذكر.

فكذلك هؤلاء المسرفون زيّن لهم أعمالهم فجذبتهم إلى نفسها فنسوا ربّهم بعد ذكره، وقد ذكّرهم الله مقامه بإرسال الرسل إلى من قبلهم بالبيّنات وما كانوا ليؤمنوا وإهلاك القرون من قبلهم بظلمهم وهذه هي السنّة الإلهيّة يجزى القوم المجرمين.

ومن هنا يظهر أنّ الآية التالية:( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ ) الخ،

٢٠