الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 406

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 406
المشاهدات: 109304
تحميل: 5904


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 109304 / تحميل: 5904
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 10

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يقع في طريق الآخرة وينفع في الفوز بنعيمها كالبرّ والإحسان وحسن الخلق لا يوجب الثواب وارتفاع الدرجات ما لم يقصد به وجه الله ودار ثوابه.

ولذلك عقبه بقوله تعالى:( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) فأخبر أنّهم إذا وردوا الحياة الآخرة وقعوا في دار حقيقتها أنّها نار تأكل جميع أعمالهم في الحياة كما تأكل النار الحطب وتبير وتهلك كلّ ما تطيب به نفوسهم من محاسن الوجود، وتحبط جميع ما صنعوا فيها وتبطل ما أسلفوا من الأعمال في الدنيا، ولذلك سمّاها سبحانه في موضع آخر بدار البوار أي الهلاك فقال تعالى:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ) إبراهيم: ٢٩، وبذلك يظهر أنّ كلّا من قوله:( وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا ) وقوله:( وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) يفسّر قوله:( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ) نوعاً مّا من التفسير.

وبما تقدّم يظهر أوّلا: أنّ المراد من توفية أعمالهم إليهم توفية نتائجها وإيصال الآثار الّتى لها بحسب نظام الأسباب والمسبّبات لا ما يقصده الفاعل بفعله ويرجوه بمسعاه فإنّ الّذى يناله الفاعل في هذه النشأة بفعله هو نتيجة الفعل الّتى يعينه سائر الأسباب العاملة عليها لا ما يؤمّه الفاعل كيفما كان فما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه.

وقد عبّر تعالى عن هذه الحقيقة في موضع آخر بقوله:( وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ) الشورى: ٢٠، فقال تعالى:( نُؤْتِهِ مِنْهَا ) ولم يقل: نؤته إيّاها، وقال في موضع آخر:( مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا ) أسرى: ١٨ فذكر ما يريده الإنسان من الدنيا ويناله منها وزاد بياناً أنّه ليس كلّ من يريد أمراً يناله ولا كلّ ما يراد ينال بل الأمر إلى الله سبحانه يعطى ما يشاء ويمنع ما يشاء ويقدّم من يريد ويؤخّر من يريد على ما تجرى عليه سنّة الأسباب.

وثانياً: أنّ الايتين أعنى قوله:( مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ

١٨١

أَعْمَالَهُمْ ) إلى آخر الآيتين تبيّنان حقيقة من الحقائق الإلهيّة.

( بحث روائي)

في الكافي في قوله تعالى:( أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ) الآية بإسناده عن ابن محبوب عن جميل بن صالح عن سدير عن أبى جعفرعليه‌السلام قال: أخبرني جابر بن عبدالله أنّ المشركين كانوا إذا مرّوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول البيت طأطأ أحدهم رأسه وظهره هكذا وغطّى رأسه بثوب لا يراه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله:( أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ ) الآية.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن أبى شيبة وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبوالشيخ عن أبى رزين قال: كان أحدهم يحنّى ظهره ويستغشى بثوبه.

وفي المجمع روى عن علىّ بن الحسين وأبى جعفر وجعفر بن محمّدعليهم‌السلام يثنوني على يعفوعل.

وفي تفسير العيّاشيّ عن محمّد بن الفضيل عن جابر عن أبى جعفرعليه‌السلام قال: أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجل من أهل البادية فقال: يا رسول الله إنّ لى بنين وبنات وإخوة وأخوات وبنى بنين وبنى بنات وبنى إخوة وبنى أخوات والمعيشة علينا خفيفة فإن رأيت يا رسول الله أن تدعو الله أن يوسّع علينا.

قال: وبكى فرقّ له المسلمون فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) من كفّل بهذه الأفواه المضمونة على الله رزقها صبّ الله عليه الرزق صبّاً كالماء المنهمر إن قليل فقليلا وإن كثير فكثيرا. قال: ثمّ دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمّن له المسلمون.

قال: قال أبوجعفرعليه‌السلام : فحدّثني من رأى الرجل في زمن عمر فسأله عن حاله فقال: من أحسن من خوّله حلالاً وأكثرهم مالاً.

وفي الدرّ المنثور أخرج الحكيم الترمذيّ في نوادر الاُصول والحاكم وصحّحه وابن مردويه والبيهقيّ في شعب الإيمان عن ابن مسعود عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إذا

١٨٢

كان أجل أحدكم بأرض اُتيحت له إليها حاجة حتّى إذا بلغ أقصى أثره منها فيقبض فتقول الأرض يوم القيامة: هذا ما استودعتني.

أقول: والرواية غير ظاهرة في تفسير الآية.

وفي الكافي بإسناده عن أبى حمزة الثمالىّ عن أبى جعفرعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجّة الوداع: ألا إنّ الروح الأمين نفث في روعى أنّه لا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها فاتّقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنّكم استبطاء شئ من الرزق أن تطلبوه بشئ من معصية الله فإنّ الله تعالى قسم الأرزاق بين خلقه حلالاً ولم يقسّمها حراماً فمن اتّقى الله وصبر أتاه رزقه من حلّه، ومن هتك حجاب ستر الله عزّوجلّ وأخذه من غير حلّه قص به من رزقه الحلال وحوسب عليه.

أقول: الرواية من المشهورات رواها العامّة والخاصّة بطرق كثيرة.

وفي تفسير العيّاشيّ عن أبى الهذيل عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ الله قسّم الأرزاق بين عباده وأفضل فضلاً كبيراً لم يقسّمه بين أحد قال الله:( وَاسْأَلُوا اللهَ مِن فَضْلِهِ ) .

أقول: والرواية مرويّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد تقدّمت بعض ما في هذا المعنى من الأخبار في ذيل قوله تعالى:( وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) سورة آل عمران آية ٢٧، وقوله تعالى:( وَاسْأَلُوا اللهَ مِن فَضْلِهِ ) سورة النساء: آية ٣٢.

وفي الكافي عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: كان أميرالمؤمنينعليه‌السلام كثيراً ما يقول: اعلموا علماً يقيناً أنّ الله عزّوجلّ لم يجعل للعبد وإن اشتدّ جهده، وعظمت حيلته وكثرت مكايده أن يسبق ما سمّى له في الذكر الحكيم. أيّها الناس إنّه لن يزداد امرؤ نقيراً بحذقه، ولن ينقص امرؤ نقيراً لحمقه فالعالم بهذا العامل به أعظم الناس راحة في منفعته والعالم بهذا التارك له اعظم الناس شغلاً في مضرّته، وربّ منعم عليه مستدرج بالإحسان إليه وربّ مغرور في الناس مصنوع له.

فاتّق الله أيّها الساعي عن سعيك، وقصّر من عجلتك، وانتبه من سنة غفلتك وتفكّر فيما جاء عن الله عزّوجلّ على لسان نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . الحديث.

١٨٣

وفي الكافي بإسناده عن ابن أبى عمير عن عبدالله بن الحجّاج عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ محمّد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أظنّ أنّ علىّ بن الحسين يدع خلقاً أفضل منه حتّى رأيت ابنه محمّد بن علىّ فأردت أن أعظه فوعظني فقال له أصحابه: بأىّ شئ وعظك؟ فقال: خرجت إلى بعض نواحى المدينة في ساعة حارّة فلقينى أبوجعفر محمّد بن علىّ وكان رجلاً بادناً ثقيلاً وهو متّكئ على غلامين أسودين أو موليين فقلت في نفسي: سبحان الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على مثل هذه الحالة في طلب الدنيا أما إنّى لأعظنّه.

فدنوت منه وسلّمت عليه فردّ علىّ بنهر وهو ينصابّ عرقاً فقلت: أصلحك الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحالة في طلب الدنيا أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحال؟ فقال: لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعة الله عزّوجلّ أكفّ بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس، وإنّما كنت أخاف إن جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي الله. فقلت: صدقت يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني.

وفيه بإسناده عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: استقبلت أباعبدالله في بعض طرق المدينة في يوم صائف شديد الحرّ فقلت: جعلت فداك حالك عند الله عزّوجلّ وقرابتك من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنت تجهد نفسك في مثل هذا اليوم؟ فقال: يا عبد الأعلى خرجت في طلب الرزق لأستغنى به عن مثلك.

أقول: ولا منافات بين القضاء بالرزق وبين الأمر بطلبه. وهو ظاهر.

وفي الدرّ المنثور أخرج الطيالسيّ وأحمد والترمذيّ وحسنه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وأبوالشيخ في العظمة وابن مردويه والبيهقيّ في الأسماء والصفات عن أبى رزين قال: قلت: يا رسول الله أين كان ربّنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء، وخلق عرشه على الماء.

أقول: العماء الغيم الّذى يمنع نفوذ البصر فيه، و( ما ) في قوله:( ما تحته هواء وما فوقه هواء) موصولة والمراد بالهواء هو الخالى من كلّ شئ كما في قوله تعالى:

١٨٤

( وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ) أو أنّها نافية والمراد بالهواء معناه المعروف، والمراد به أنّه كان عماء لا يحيط به الهواء على خلاف سائر العماءات.

والرواية من أخبار التجسّم ولذا وجّه بأنّ قوله: في عماء الخ كناية عن غيب الذات الّذى تكلّ عنه الأبصار وتتحيّر فيه الألباب.

وفيه أخرج أحمد والبخاريّ والترمذيّ والنسائيّ وأبوالشيخ في العظمة وابن مردويه والبيهقيّ في الأسماء والصفات عن عمران بن حصين قال: قال أهل اليمن: يا رسول الله أخبرنا عن أوّل هذا الأمر كيف كان؟ قال: كان الله قبل كلّ شئ، وكان عرشه على الماء، وكتب في اللّوح المحفوظ ذكر كلّ شئ، وخلق السماوات الأرض. فنادى مناد: ذهبت ناقتك يا بن الحصين فانطلقت فإذا هي يقطع دونها السراب فو الله لوددت أنّى تركتها.

أقول: وروى عدّة من رجال الحديث هذه الرواية عن بريدة وقال بريدة في آخرها:( ثمّ أتانى آت فقال: هذه ناقتك قد ذهبت فخرجت والسراب ينقطع دونها فلوددت أنّى كنت تركتها) وهذا ممّا يوهن الحديثين.

وفيه في قوله تعالى:( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) أخرج داود بن المحبّر في كتاب العقل وابن جرير وابن أبى حاتم والحاكم في التاريخ وابن مردويه عن ابن عمر قال: تلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية:( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) فقلت: ما معنى ذلك يا رسول الله؟ قال: ليبلوكم أيّكم أحسن عقلا. ثم قال: وأحسنكم عقلا أورعكم عن محارم الله وأعلمكم(١) بطاعة الله.

وفي الكافي مسندا عن سفيان بن عيينة عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ:( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) قال: قال: ليس يعنى اكثر [ كم ظ ] عملا ولكن أصوبكم عملاً، وإنّما الإصابة خشية الله والنيّة الصادقة.

ثمّ قال: الإبقاء على العمل حتّى يخلص أشدّ من العمل، والعمل الخالص: الّذى لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلّا الله عزّوجلّ والنيّة أفضل من العمل ألا إنّ

____________________

(١) أعملكم ظ.

١٨٥

النيّة هي العمل ثمّ تلا قوله عزّوجلّ:( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ ) يعنى على نيّته.

أقول: قوله ألا إنّ النيّة هي العمل يعنى ليس للعمل أثر إلّا لما معه من النيّة.

وفي تفسير النعمانيّ بإسناده عن إسحاق بن عبد العزيز عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قوله:( وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ ) قال: العذاب خروج القائمعليه‌السلام والاُمّة المعدودة أهل بدر وأصحابه.

أقول: وروى هذا المعنى الكلينيّ في الكافي والقمّىّ والعيّاشيّ في تفسيريهما عن علىّ والباقر والصادقعليهم‌السلام .

وفي المجمع قيل: إنّ الاُمّة المعدودة هم أصحاب المهدىّ ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً كعدّة أهل بدر يجتمعون ساعة واحدة كما يجتمع قزع الخريف قال: وهو المروىّ عن أبى جعفر وأبى عبداللهعليهما‌السلام .

وفي تفسير القمّىّ في قوله:( إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) قال: صبروا في الشدّة وعملوا الصالحات في الرخاء.

وفي الدرّ المنثور في قوله:( مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) أخرج البيهقىّ في الشعب عن إنس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا كان يوم القيامة صارت اُمّتى ثلاث فرق: فرقة يعبدون الله خالصاً، وفرقة يعبدون الله رياء، وفرقة يعبدون الله يصيبون به دنيا فيقول للّذى كان يعبدالله للدنيا: بعزّتي وجلالى ما أردت بعبادتي؟ فيقول: الدنيا فيقول: لا جرم لا ينفعك ما جمعت ولا ترجع إليه انطلقوا به إلى النار، ويقول للّذى يعبدالله رياء: بعزّتي وجلالى ما أردت بعبادتي؟ قال: الرياء فيقول: إنّما كانت عبادتك الّتى كنت ترائى بها لا يصعد إلىّ منها شئ ولا ينفعك اليوم انطلقوا به إلى النار.

ويقول للّذى كان يعبدالله خالصاً: بعزّتي وجلالى ما أردت بعبادتي؟ فيقول: بعزّتك وجلالك لأنت أعلم به منّى كنت أعبدك لوجهك ولدارك قال: صدق عبدى انطلقوا به إلى الجنّة.

١٨٦

( سورة هود آية ١٧ - ٢٤)

أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ( ١٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ( ١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ( ١٩) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ( ٢٠) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ( ٢١) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ( ٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَىٰ رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ( ٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَىٰ وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ( ٢٤)

( بيان)

ظاهر الآيات أنّها واقعة موقع التطييب لنفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقوية إيمانه بكتاب الله وتأكيد ما عنده من البصيرة في أمره فالكلام جار على ما كان عليه من خطابهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد كان وجه الكلام إليه حتّى انتهى إلى ما اتّهموه به من الافتراء على الله سبحانه فأمره أن يتحدّى عليهم بإتيان عشر سور مثله مفتريات ثمّ أمره

١٨٧

أن يطيّب نفساً ويثبت على ما عنده من العلم بأنّه منزل من عند الله فإنّما هو على الحقّ وليس بمفتر فلا يستوحش من إعراض الأكثرين ولا يرتاب.

قوله تعالى: ( أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً ) الجملة تفريع على ما مضى من الكلام الّذى هو في محلّ الاحتجاج على كون القرآن كتاباً منزلا من عند الله سبحانه، و( من ) مبتدء خبره محذوف والتقدير: كغيره، أو ما يؤدّى معناه، والدليل عليه قوله تلواً:( أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُه ) .

والاستفهام إنكارىّ والمعنى: ليس من كان كذا وكذا كغيره ممّن ليس كذلك وأنت على هذه الصفات فلا تك في مرية من القرآن.

وقوله:( عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ ) البيّنة صفة مشبهة معناها الظاهرة الواضحة غير أنّ الاُمور الظاهرة الواضحة ربّما أوضحت ما ينضمّ إليها ويتعلّق بها كالنور الّذى هو بيّن ظاهر ويظهر به غيره، ولذلك كثر استعمال البيّنة فيما يتبيّن به غيره كالحجّة والآية، ويقال للشاهد على دعوى المدّعى بيّنة.

وقد سمّى الله تعالى الحجّة بيّنة كما في قوله:( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ) الانفال: ٤٢ وسمّى آيته بيّنة كما في قوله:( قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً ) الأعراف: ٧٣ وسمّى البصيرة الخاصّة الإلهيّة الّتى اُوتيها الأنبياء بيّنة كما في قوله حكاية عن نوحعليه‌السلام :( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ ) هود: ٢٨ أو مطلق البصيرة الإلهيّة كما هو ظاهر قوله تعالى:( أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم ) سورة محمّد: ١٤ وقد قال تعالى في معناه:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) الانعام: ١٢٢.

والظاهر أنّ المراد بالبيّنة في المقام هو هذا المعنى الأخير العامّ بقرينة قوله بعد:( ا أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) وإن كان المراد به بحسب المورد هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ الكلام مسوق ليتفرّع عليه قوله:( فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ ) .

١٨٨

فالمراد بها البصيرة الإلهيّة الّتى اُوتيها النبيّعليه‌السلام لا نفس القرآن النازل عليه فإنّه لا يحسن ظاهراً أن يتفرّع عليه قوله:( فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ ) وهو ظاهر ولا ينافيه كون القرآن في نفسه بيّنة من الله من جهة كونه آية منه تعالى كما في قوله:( قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ ) الأنعام: ٥٧، فإنّ المقام غير المقام.

وبما مرّ يظهر أنّ قول من يقول: إنّ المراد بمن كان الخ، النبيّ خاصّة إرادة استعماليّة ليس في محلّه وإنّما هو مراد بحسب انطباق المورد. وكذا قول من قال: إنّ المراد به المؤمنون من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا دليل على التخصيص.

ويظهر أيضاً فسادالقول بأنّ المراد بالبيّنة هو القرآن، وكذا القول بأنّها حجّة العقل واُضيفت إلى الربّ تعالى لأنّه ينصب الأدّلة العقليّة والنقليّة. ووجه فساده أنّه لا دليل على التخصيص ولا تقاس البيّنة القائمة للنبىّعليه‌السلام من ناحيته تعالى بالتعريف الإلهىّ القائم لنا من ناحية العقول.

وقوله تعالى:( وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ) المراد بالشهادة تأدية الشهادة الّتى تفيد صحّة الأمر المشهود له دون تحمّلها فإنّ المقام مقام تثبيت حقّيّة القرآن وهو إنّما يناسب الشهادة بمعنى التأدية لا بمعنى التحمّل.

والظاهر أنّ المراد بهذا الشاهد بعض ما أيقن بحقّيّة القرآن وكان على بصيرة إلهيّة من أمره فآمن به عن بصيرته وشهد بأنّه حقّ منزل من عند الله تعالى كما يشهد بالتوحيد والرسالة فإنّ شهادة الموقن البصير على أمر تدفع عن الإنسان مرية الاستيحاش وريب التفرّد فإنّ الإنسان إذا أذعن بأمر وتفرّد فيه ربّما أوحشه التفرّد فيه إذا لم يؤيّده أحد في القول به أمّا إذا قال به غيره من الناس وأيّد نظره في ذلك زالت عنه الوحشة وقوى قلبه وارتبط جاشه وقد احتجّ تعالى بما يمثّل هذا المعنى في قوله:( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ) الأحقاف: ١٠.

وعلى هذا فقوله:( يَتْلُوهُ ) من التلو لا من التلاوة، والضمير فيه راجع إلى( مِن )

١٨٩

أو إلى( بَيِّنَةٍ ) باعتبار أنّه نور أو دليل، ومال الوجهين واحد فإنّ الشاهد الّذى يلى صاحب البيّنة يلى بيّنته كما يلى نفسه والضمير في قوله:( مِّنْهُ ) راجع إلى( مِن ) دون قوله:( رَّبِّهِ ) وعدم رجوعه إلى البيّنة ظاهر ومحصّل المعنى: من كان على بصيرة إلهيّة من أمر ولحق به من هو من نفسه فشهد على صحّة أمره واستقامته.

وعلى هذا الوجه ينطبق ما ورد في روايات الفريقين أنّ المراد بالشاهد علىّعليه‌السلام إن اُريد به أنّه المراد بحسب انطباق المورد لا بمعنى الإرادة الاستعماليّة.

وللقوم في معنى الجملة أقوال شتّى فقيل: إنّ( يَتْلُوهُ ) من التلاوة كما قيل: إنّه من التلو، وقيل: إنّ الضمير في( يَتْلُوهُ ) راجع إلى( البَيِّنَةٍ ) كما قيل: إنّه راجع إلى( مِن ) .

وقيل: المراد بالشاهد القرآن: وقيل: جبرائيل يتلو القرآن على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولعلّه مأخوذ من قوله تعالى:( لَّكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ ) النساء: ١٦٦، وقيل: الشاهد ملك يسدّد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحفظه القرآن، ولعلّه لنوع من الاستناد إلى الآية المذكورة.

وقيل: الشاهد هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد قال تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) الأحزاب: ٤٥، وقيل: شاهد منه لسانه أي يتلو القرآن بلسانه.

وقيل: الشاهد علىّ بن أبى طالبعليه‌السلام ، وقد وردت به عدّة روايات من طرق الشيعة وأهل السنّة.

والتأمّل في سياق الآية وظاهر جملها يكفى مؤنة إبطال هذه الوجوه غير ما قدّمناه من معنى الآية فلا نطيل الكلام بالبحث عنها والمناقشة فيها.

وقوله تعالى:( وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً ) الضمير راجع إلى الموصول أو إلى البيّنة على حدّ ما ذكرناه في ضمير( يَتْلُوهُ ) والجملة حال بعد حال أي أفمن كان على بصيرة إلهيّة ينكشف له بها أنّ القرآن حقّ منزل من عند الله والحال أنّ

١٩٠

معه شاهداً منه يشهد بذلك عن بصيرة والحال أنّ هذا الّذى هو على بيّنة سبقه كتاب موسى إماماً ورحمة أو قبل بيّنته الّتى منها القرآن أو هي القرآن المشتمل على المعارف والشرائع الهادية إلى الحقّ كتاب موسى إماماً فليس هو أو ما عنده من البيّنة ببدع من الأمر غير مسبوق بمثل ونظير بل هناك طريق مسلوك من قبل يهدى إليه كتاب موسى.

ومن هنا يظهر وجه توصيف كتاب موسى وهو التوراة بالإمام والرحمة فإنّه مشتمل على معارف حقّة وشريعة إلهيّة يؤتمّ به في ذلك ويتنعّم بنعمته، وقد ذكره الله بهذا الوصف في موضع آخر من كلامه فقال:( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ - إلى أن قال -وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ ) الأحقاف: ١٢.

والآيات - كما ترى - أقرب الآيات مضموناً من الآية المبحوث عنها تذكر أوّلا: أنّ القرآن بيّنة إلهيّة أو أمر قامت عليه بيّنة إلهيّة ثمّ تذكر شهادة الشاهد من بنى إسرائيل عليه وتأيّده بها ثمّ تذكر أنّه سبوق فيما يتضمّنه من المعارف والشرائع بكتاب موسى الّذى كان إماماً ورحمة يأتمّ به الناس ويهتدون، وطريقاً مسلوكاً مجرّباً، والقرآن كتاب مثله مصدّق له منزل من عند الله لإنذار الظالمين وتبشير المحسنين.

ومن هنا يظهر أيضاً: أنّ قوله:( إِمَامًا وَرَحْمَةً ) حال من كتاب موسى لا من قوله:( شَاهِدٌ مِّنْهُ ) على ما ذكره بعضهم.

قوله تعالى: ( أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ) المشار إليهم بقوله:( أُولَئِكَ ) بناء على ما تقدّم من معنى صدر الآية هم الّذين كانوا على بيّنة من ربّهم المدلول عليهم بقوله:( أَفَمَن كَانَ ) الخ، وأمّا إرجاع الإشارة إلى المؤمنين لدلالة السياق عليهم فبعيد عن الفهم.

١٩١

وكذا الضمير في قوله:( بِهِ ) راجع إلى القرآن من جهة أنّه بيّنة منه تعالى أو أمر قامت عليه البيّنة، وأمّا إرجاعه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يلائم ما قرّرناه من معنى الآية فإنّ في صدر الآية بيان حال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنحو العموم حتّى يتفرّع عليه قوله:( فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ ) كأنّه قيل: إنّك على بيّنة كذا ومعك شاهد وقبلك كتاب موسى، ومن كان على هذه الصفة يؤمن بما اُوتى من كتاب الله، ولا يصحّ أن يقال: ومن كان على هذه الصفة يؤمن بك، والكلام في الضمير في( وَمَن يَكْفُرْ بِهِ ) كالكلام في ضمير( يُؤْمِنُونَ بِهِ ) .

وأمر الآية فيما يحتمله مفردات ألفاظها وضمائرها عجيب فضرب بعضها في بعض يرقى إلى اُلوف من المحتملات بعضها صحيح وبعضها خلافه.

قوله تعالى: ( فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ) المرية كجلسة النوع من الشكّ، والجملة تفريع على صدر الآية، والمعنى أنّ من كان على بيّنة من ربّه في أمر وقد شهد عليه شاهد منه وقبله إمام ورحمة ككتاب موسى ليس كغيره من لناس الغافلين المغفّلين فهو يؤمن بما عنده من أمر الله ولا يوحشه إعراض أكثر الناس عمّا عنده، وأنت كذلك فإنّك على بيّنة من ربّك ويتلوك شاهد ومن قبلك كتاب موسى إماماً ورحمة وإذا كان كذلك فلا تك في مرية من أمر ما اُنزل إليك من القرآن إنّه محض الحقّ من جانب الله ولكنّ أكثر الناس لا يؤمنون.

وقوله:( إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ) تعليل للنهى وقد اُكّد بإنّ ولام الجنس للدلالة على توافر الأسباب النافية للمرية وهى قيام البيّنة وشهادة الشاهد وتقدّم كتاب موسى إماماً ورحمة.

قوله تعالى: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا ) إلى آخر الآية، من الممكن أن يكون ذيلا للسياق السابق من حيث كان تطييبا لنفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيؤل المعنى إلى أنّك إذ كنت على بيّنة من ربّك لست بظالم فحاشاك أن تكون مفتريا

١٩٢

على الله الكذب لأنّ المفترى على الله كذبا من أظلم الظالمين، ولهم من وبال كذبهم كذا وكذا.

وكيف كان فالمراد بافتراء الكذب على الله سبحانه توصيفه تعالى بما ليس فيه أو نسبة شئ إليه بغير الحقّ أو بغير علم، والافتراء من أظهر أفراد الظلم والإثم، ويعظم الظلم بعظم متعلّقه حتّى إذا انتهى إلى ساحة العظمة والكبرياء كان من أعظم الظلم.

والكلام واقع موقع قلب الدعوى عليهم إذ كانوا يقولون للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه افترى على الله كذبا بنسبة القرآن إليه فقلب القول عليهم أنّهم هم الّذين افتروا على الله كذباً إذا أثبتوا له شركاء بغير علم وهو الله لا إله إلّا هو، وإذ صدّوا عن سبيل الله ومعناه نفى كونه سبيلا لله وهو افتراء، وإذ طلبوا سبيلا اُخرى فاستنّوا بها في حياتهم وكان ذلك تغييراً لسبيل الله الّتى تهدى إليها الفطرة والنبوّة، وإذ كفروا بالآخرة فنفوها وذلك إثبات مبدء من غير معاد ونسبة اللغو وفعل الباطل إليه تعالى وهو افتراء عليه.

وبالجملة انتحالهم بغير دين الله ونحلته، وأخذهم بالعقائد الباطلة في المبدء والمعاد واستنانهم بغير سنّة الله في حياتهم الدنيويّة الاجتماعيّة - والّذى من الله إنّما هو الحقّ ولا سنّة عند الله إلّا دين الحقّ - افتراء على الله، وسيشهد عليهم الاشهاد بذلك يوم يعرضون على ربّهم.

وقوله تعالى:( أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ ) العرض إظهار الشئ ليرى ويوقف عليه، ولما كان ارتفاع الحجب بينهم وبين ربّهم يوم القيامة بظهور آياته ووضوح الحقّ الصريح من غير شاغل يشغل عنه حضوراً اضطراريّاً منهم لفصل القضاء سمّاه عرضاً لهم على ربّهم كما سمّى بوجه آخر بروزا منهم لله فقال:( يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَىٰ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ) المؤمن: ١٦، وقال:( وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) إبراهيم: ٤٨ فقال:( أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ ) أي يأتي بهم الملائكة الموكّلون بهم فيوقفونهم موقفاً ليس بينهم وبين ربّهم حاجب حائل لفصل القضاء.

١٩٣

وقوله:( وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ ) الأشهاد جمع شهيد كأشراف جمع شريف وقيل: جمع شاهد كأصحاب جمع صاحب، ويؤيّد الأوّل قوله تعالى:( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ) النساء: ٤١ وقوله:( وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ) ق: ٢١.

وقول الأشهاد هؤلاء الّذين كذبوا على ربّهم شهادة منهم عليهم بالافتراء على الله أي سجّل عليهم بأنّهم المفترون من جهة شهادة الأشهاد عليهم بذلك في موقف لا يذكر فيه إلّا الحقّ ولا مناص فيه عن الاعتراف والقبول كما قال تعالى:( لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ) النبأ: ٣٨ وقال تعالى:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ) آل عمران: ٣٠.

قوله تعالى: ( أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ ) الخ، تتمّة قول الأشهاد، والدليل عليه قوله تعالى:( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ ) الاعراف: ٤٥.

وهذا القول منهم المحكىّ في كلامه تعالى تثبيت منهم للبعد واللّعن على الظالمين وتسجيل للعذاب، وليس اللعن والرحمة يوم القيامة كاللعن والرحمة في الدنيا كما في قوله تعالى:( أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) البقرة: ١٥٩ وذلك أنّ الدنيا دار عمل ويوم القيامة يوم جزاء فما فيه من لعنة أو رحمة هو إيصال ما ادّخر لهم إليهم فلعن اللّاعن أحداً يوم القيامة طرده من رحمة الله الخاصّة بالمؤمنين وتسجيل عذاب البعد عليه.

ثمّ فسّر سبحانه الظالمين بقوله حكاية عنهم:( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) فهم الّذين لا يذعنون بيوم الحساب حتّى يعملوا له وإنّما يعملون للدنيا ويسلكون من طريق الحياة ما يتمتّعون به للدنيا المادّيّة فحسب، وهو السنّة الاجتماعيّة غير المعتنية بما يريده الله من عباده من

١٩٤

دين الحقّ وملّة الفطرة فهؤلاء سواء اعتقدوا بصانع وعملوا بسنّة محرّفة منحرفة عن دين الفطرة وهو الإسلام أم لم يعتقدوا به ممّن يقول: إن هي إلّا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلّا الدهر، ظالمون مفترون على الله الكذب، وقد تقدّم بعض الكلام المتعلّق بهذه المعاني في سورة الأعراف آية ٤٤ - ٤٥.

وقد بان ممّا تقدّم من البحث في الآيتين أوّلا: أنّ الدين في عرف القرآن هو السنّة الاجتماعيّة الدائرة في المجتمع.

وثانياً: أنّ السنن الاجتماعيّة إمّا دين حقّ فطرىّ وهو الإسلام أو دين محرّف عن الدين الحقّ وسبيل الله عوجا.

قوله تعالى: ( أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ) إلى آخر الآية. الإشارة إلى المفترين على الله الموصوفين بما مرّ في الآيتين السابقتين.

والمقام يدلّ على أنّ المراد من كونهم غير معجزين في الأرض أنّهم لم يكونوا معجزين لله سبحانه في حياتهم الأرضيّة حيث خرجوا عن زىّ العبوديّة فأخذوا يفترون على الله الكذب ويصدّون عن سبيله ويبغونها عوجاً فكلّ ذلك لا لأنّ قدرتهم المستعارة فاقت قدرة الله سبحانه ومشيّتهم سبقت مشيّته، ولا لأنّهم خرجوا من ولآية الله فدخلوا في ولآية غيره وهم الّذين اتّخذوهم أولياء من أصنامهم وكذا سائر الأسباب الّتى ركنوا إليها، وذلك قوله:( وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ) .

وبالجملة لا قدرتهم غلبت قدرة الله سبحانه ولا شركاؤهم الّذين يسمّونهم أولياء لأنفسهم أولياء لهم بالحقيقة يدبّرون أمرهم ويحملونهم على ما يأتون به من البغى والظلم بل الله سبحانه هو وليّهم وهو المدبّر لأمرهم يجازيهم على سوء نيّاتهم وأعمالهم بما يجرّهم إلى سوء العذاب ويستدرجهم من حيث لا يشعرون كما قال تعالى:( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ) الصفّ: ٥، وقال:( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ) البقرة: ٢٦.

١٩٥

وقوله:( يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ) ذلك لأنّهم فسقوا ثمّ لجّوا عليه أو لأنّهم عصوا الله بأنفسهم وحملوا غيرهم على معصية الله فيضاعف لهم العذاب كما ضاعفوا المعصية قال تعالى:( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ) النحل: ٢٥ وقال:( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) يس ١٢.

وقوله:( مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ) في مقام التعليل ولذا جئ بالفصل يقول تعالى إنّهم لم يكفروا ولم يعصوا لظهور إرادتهم على إرادة الله ولا لأنّ لهم أولياء من دون الله يستظهرون بهم على الله بل لأنّهم ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا ما يأتيهم من الإنذار والتبشير من ناحيته أو يذكر لهم من البعث والزجر من قبله وما كانوا يبصرون آياته حتّى يؤمنوا بها كما وصفهم في قوله:( لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ) الأعراف: ١٧٩، وفى قوله:( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) الأنعام: ١١٠، وقوله:( خَتَمَ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) البقرة: ٧، وآيات اُخرى كثيرة تدلّ على أنّه تعالى سلبهم عقولهم وأعينهم وآذانهم غير أنّه تعالى يحكى عنهم مثل قولهم:( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ ) ، الملك: ١١، واعترافهم بأنّ عدم سمعهم وعقلهم كان ذنبا منهم مع أنّ ذلك مستند إلى سلبه تعالى منهم ذلك يدلّ على أنّهم أنفسهم توسّلوا إلى سلب هذه النعم بالذنوب كما يدلّ عليه ما تقدّم من قوله تعالى:( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ) البقرة: ٢٦ غيره.

وذكروا في معنى قوله:( مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ) وجوها اُخرى:

منها: أنّ قوله: ما كانوا الخ، في محلّ النصب بنزع الخافض وهو متعلّق بقوله: يضاعف الخ، والأصل: بما كانوا يستطيعون السمع وبما كانوا يبصرون، والمعنى يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع فلا يسمعون وبما كانوا يستطيعون الإبصار فلا يبصرون.

١٩٦

ومنها: أنّه عنى بقوله:( مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ ) الخ، نفى السمع والبصر عن آلهتهم وأوثانهم، وتقدير الكلام اُولئك الكفّار وآلهتهم لم يكونوا معجزين في الأرض، وقال مخبراً عن الآلهة: ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون.

ومنها: أنّ لفظة ما في( مَا كَانُوا ) ليست للنفي بل تجرى مجرى قولهم: لاُواصلنّك ما لاح نجم، والمعنى أنّهم معذّبون ما داموا أحياء.

ومنها: أنّ نفى السمع والبصر بمعنى نفى الفائدة فإنّهم لاستثقالهم استماع آيات الله والنظر فيها وكراهيتهم لذلك اُجروا مجرى من لا يستطيع السمع ولا يبصر فالكلام على الكناية.

وأعدل الوجوه آخرها وهى جميعاً سخيفة ظاهرة السخافة. والوجه ما قدّمناه.

قوله تعالى: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) أمّا خسرانهم فإنّ الإنسان لا يملك بالحقيقة - وذلك بتمليك من الله تعالى - إلّا نفسه وإذا اشترى لنفسه ما فيه هلاكها وضيعتها بالكفر والمعصية فقد خسر في هذه المعاملة الّتى أقدم عليها نفسه فخسران النفس كناية عن الهلاك، وأمّا ضلال ما كانوا يفترون فإنّه كان كذبا وافتراء ليس له وجود في الخارج من أوهامهم ومزاعمهم الّتى زيّنتها لهم الأهواء والهوسات الدنيويّة وبانطواء بساط الحياة الدنيا يزول وينمحى تلك الأوهام ويضلّ ما لاح واستقرّ فيها من الكذب والافتراء ويومئذ يعلمون أنّ الله هو الحقّ المبين، ويبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون.

قوله تعالى: ( لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ) عن الفرّاء: أنّ( لَا جَرَمَ ) في الأصل بمعنى لا بدّ ولا محالة ثمّ كثرت فحوّلت إلى معنى القسم وصارت بمعنى( حَقًّا ) ولهذا تجاب باللّام نحو لا جرم لأفعلنّ كذا. انتهى، وقد ذكروا أنّ( جَرَمَ ) بفتحتين بمعنى القطع فلعلّها كانت في الأصل تستعمل في نتائج الكلام كلفظة( لا محالة) وتفيد أنّه لا يقطع هذا القول قاطع - إنّ كذا كذا كما يتصوّر نظير المعنى في( لا محالة) فمعنى الآية على هذا: حقّا أنّهم في الآخرة هم الأخسرون.

ووجه كونهم في الآخرة هم الأخسرين إن فرض أنّهم أخسر بالنسبة إلى

١٩٧

غيرهم من أهل المعاصي هو أنّهم خسروا أنفسهم بإهلاكها وإضاعتها بالكفر والعناد فلا مطمع في نجاتهم من النار في الآخرة كما لا مطمع في أن يفوزوا في الدنيا ويسعدوا بالإيمان ما داموا على العناد، قال تعالى:( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) الانعام: ١٢. وقال تعالى في هؤلاء المختوم على سمعهم وأبصارهم وقلوبهم:( وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) يس: ١٠. وقال أيضاً في سبب عدم إمكان إيمانهم:( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ ) الجاثية: ٢٣.

وإن فرض أنّهم أخسر بالنسبة إلى الدنيا فذلك لكونهم بكفرهم وصدّهم عن سبيل الله حرموا سعادة الحياة الّتى يمهّدها لهم الدين الحقّ فخسروا في الدنيا كما خسروا في الآخرة لكنّهم في الآخرة أخسر لكونها دائمة مخلّدة وأمّا الدنيا فليست إلّا قليلاً، قال تعالى:( يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ) الأحقاف: ٣٥.

على أنّ الأعمال تشتدّ وتتضاعف في الآخرة بنتائجها كما قال تعالى:( وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا ) أسرى: ٧٢، وأحسن الوجهين أوّلهما لأنّ ظاهر الآية حصر الأخسرين فيهم دون إثبات أخسريّتهم في الآخرة قبال الدنيا.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَىٰ رَبِّهِمْ ) إلى آخر الآية، قال الراغب في المفردات: الخبت المطمئنّ من الأرض وأخبت الرجل قصد الخبت أو نزله نحو أسهل وأنجد ثمّ استعمل الإخبات في استعمال اللين والتواضع قال الله تعالى: وأخبتوا إلى ربّهم، وقال: وبشّر المخبتين أي المتواضعين نحو لا يستكبرون عن عبادته، وقوله: فتخبت له قلوبهم أي تلين وتخشع.انتهى.

فالمراد بإخباتهم إلى الله اطمئنانهم إليه بحيث لا يتزلزل ما في قلوبهم من الإيمان به فلا يزيغون ولا يرتابون كالأرض المطمئنة الّتى تحفظ ما استقرّ فيها

١٩٨

فلا وجه لما قيل إنّ الأصل، أخبتوا لربّهم فإنّ ما في معنى الاطمئنان يتعدّى بإلى دون اللّام.

وتقييده تعالى الإيمان والعمل الصالح بالإخبات إليه يدلّ على أنّ المراد بهم طائفة خاصّة من المؤمنين وهم المطمئنّون منهم إلى الله ممّن هم على بصيرة من ربّهم، وهو الّذى أشرنا إليه في صدرالآيات عند قوله:( أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ ) الخ أنّ الآيات تقيس ما بين فريقين خاصّين من الناس وهم أهل البصيرة الإلهيّة ومن عميت عين بصيرته.

ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسّرين أنّ هذه الآيات السبع يعنى قوله:( أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ - إلى قوله -أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ) بيان لحال الفريقين وهم الّذين يكفرون بالقرآن والّذين يؤمنون به.

قوله تعالى: ( مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَىٰ وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيع هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ) المثل هو الوصف، وغلب في المثل السائر وهو بيان معنى من المعاني الخفيّة على المستمع بأمر محسوس أو كالمحسوس يأنس به ذهنه ويتلقّاه فهمه لينتقل به إلى المعنى المعقول المقصود بيانه، والمراد بالفريقين من بيّن حالهما في الآيات السابقة، والباقى واضح.

( بحث روائي)

في الكافي بإسناده عن أحمد بن عمر الخلّال قال: سألت أبا الحسنعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ) فقال: أميرالمؤمنينعليه‌السلام هو الشاهد من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورسول الله على بيّنة من ربّه.

وفي أمالى الشيخ بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه علىّ بن الحسين عن الحسنعليهم‌السلام في خطبة طويلة خطبها بمحضر معاوية - منها - فأدّت الاُمور وأفضت الدهور إلى أن بعث الله محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للنبوّة واختاره

١٩٩

للرسالة، وأنزل عليه كتابه ثمّ أمره بالدعاء إلى الله عزّوجلّ فكان أبى أوّل من استجاب لله عزّوجلّ ولرسله وأوّل من آمن وصدّق الله ورسوله، وقد قال الله عزّوجلّ في كتابه المنزل على نبيّه المرسل:( أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ) فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذى على بيّنة من ربّه، وأبى الّذى يتلوه وهو شاهد منه.الخطبة.

أقول: وكلامهعليه‌السلام أحسن شاهد على ما قدّمناه في معنى الآية أنّ إرادتهعليه‌السلام بالشاهد من باب الانطباق.

وفي بصائر الدرجات بإسناده عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : لو كسرت لى الوسادة فقعدت عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم وأهل الإنجيل بإنجيلهم وأهل الفرقان بفرقانهم بقضاء يصعد إلى الله يزهر، والله ما نزلت آية في كتاب الله في ليل أو نهار إلّا وقد علمت فيمن اُنزلت، ولا أحد ممّن مرّ على رأسه المواسى إلّا وقد اُنزلت آية فيه من كتاب الله تسوقه إلى الجنّة أو النار.

فقام إليه رجل فقال: يا أميرالمؤمنين ما الآية الّتى نزلت فيك؟ قال: أما سمعت الله يقول:( أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ) فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بيّنة من ربّه وأنا الشاهد له ومنه.

أقول: وروى هذا المعنى المفيد في الأمالى مسنداً وفي كشف الغمّة مرسلاً عن عباد بن عبدالله الأسديّ عنهعليه‌السلام ، والعيّاشيّ في تفسيره مرسلاً عن جابر عن عبدالله بن يحيى عنهعليه‌السلام وكذا ابن شهراشوب عن الطبريّ بإسناده عن جابر بن عبدالله عنهعليه‌السلام وكذا عن الأصبغ وعن زين العابدين والباقر والصادقعليهم‌السلام عنهعليه‌السلام .

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن علىّ بن أبى طالبعليه‌السلام قال: ما من رجل من قريش إلّا نزل فيه طائفه من القرآن فقال له رجل: ما نزل فيك؟ قال: أما تقرأ سورة هود( أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ) رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بيّنة من ربّه، وأنا شاهد منه.

٢٠٠