الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 406

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 406
المشاهدات: 109299
تحميل: 5904


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 109299 / تحميل: 5904
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 10

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

كذلك كانوا يحرّمون عليهم الكرامة الدينيّة ويقولون: إنّهم لا يسعدون بدين وإنّما يسعد به أشراف المجتمع وأقوياؤهم، وفيه أيضاً تعريض بأنّهم ظالمون.

وإنّما عقّب نوحعليه‌السلام قوله:( وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ) وهو ينفى فيه جهات الامتياز الّتى كانوا يتوقّعونها في الرسول عن نفسه، بقوله:( وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا ) الخ، مع أنّه راجع إلى الضعفاء الّذين آمنوا به من قومه لأنّ الملأ ألحقوهم به في قولهم:( وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ ) .

وتوضيحه أنّ معنى قولهم هذا أنّ اتّباعنا لك ولمن آمن بك من هؤلاء الأراذل إنّما يستقيم لفضل يتمّ لكم علينا ولا نرى لكم علينا من فضل أمّا أنت فليس معك ما يختصّ به الرسول من قدرة ملكوتيّة أو علم بالغيب أو أن تكون ملكا منزّها من ألواث المادّة والطبيعة، وأمّا المؤمنون بك فإنّما هم أراذلنا الآئسون من كرامة الإنسانيّة المحرومون من الرحمة والعناية.

فأجاب عنهم نوح بما معناه: أمّا أنا فلا أدّعى شيئاً ممّا تتوقّعون من رسالتي فليست للرسول إلّا الرسالة وأمّا هؤلاء الضعفاء الّذين لهم هوان عندكم فمن الجائز أن يعلم الله من نفوسهم خيرا فيؤتيهم خيرا وفضلا فهو أعلم بأنفسهم، وملاك الكرامة الدينيّة والرحمة الإلهيّة زكاء النفس وسلامة القلب دون الظاهر الّذى تزدريه أعينكم فلست أقول: لن يؤتيهم الله خيرا، فإنّه ظلم يدخلنى في زمرة الظالمين.

قوله تعالى: ( قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) كلام ألقوه إلى نوحعليه‌السلام بعد ما عجزوا عن دحض حجّته وإبطال ما دعا إليه من الحقّ، وهو مسوق سوق التعجيز والمراد بقولهم:( ِمَا تَعِدُنَا ) ما أنذرهم به في أوّل دعوته من عذاب يوم أليم.

وقد أورد الله سبحانه قولهم هذا فصلا من غير تفريع لأنّهم إنّما قالوه بعد ما لبث فيهم أمدا بعيدا يدعوهم إلى التوحيد ويخاصمهم ويحاجّهم بفنون الخصام والحجاج حتّى قطع جميع معاذيرهم وأنار الحقّ لهم كما يدلّ عليه قوله تعالى

٢٢١

فيما يحكى عنهعليه‌السلام في دعائه:( قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا - إلى أن قال -ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ) نوح: ٩ وفي سورة العنكبوت:( فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ) العنكبوت: ١٤. فهذا الّذى أورده الله من حجاجه قومه وجوابهم في شكل محاورة واحدة إنّما وقع في مآت من السنين، وهو كثير النظير في القرآن الكريم ولا بدع فيه فإنّ الّذى يقتصّ ذلك هو الله سبحانه المحيط بالدهر وبكلّ ما فيه والّذى يسمعها بالوحى هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد اُوتى من سعة النظر ما يجتمع عنده أشتات الاُمم وأطراف الزمان.

والمعنى - والله أعلم - يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا حتّى سئمنا ومللنا وما نحن لك بمؤمنين فأتنا بما تعدنا من العذاب، وهم لا يعترفون بالعجز عن خصامه وجداله بل يؤيسونه من أنفسهم في الحجاج ويطلبون منه أن يشتغل بما يشتغل الداعي الآئس من السمع والطاعة وهو الشرّ الّذى يهدّدهم به ويذكره وراء نصحه.

قوله تعالى: ( قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللهُ إِن شَاءَ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ) لمّا كان قولهم:( فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ) الخ، طلبا منه أن يأتيهم بالعذاب وليس ذلك إليه فإنّما هو رسول، أجاب عن اقتراحهم هذا أيضاً - في سياق قصر القلب - أنّ الإتيان بالعذاب ليس إلىّ بل إنّما هو إلى الله فهو الّذى يملك أمركم فيأتيكم بالعذاب الّذى وعدتكموه بأمره فهو ربّكم وإليه مرجع أمركم كلّه، ولا يرجع إلىّ من أمر. التدبير شئ حتّى أنّ وعدى إيّاكم بالعذاب واقتراحكم علىّ بطلبه لا يؤثّر في ساحة كبريائه شيئاً فإن يشأ يأتكم به وإن لم يشأ فلا.

ومن هنا يظهر أنّ قولهعليه‌السلام :( إِن شَاءَ ) من ألطف القيود في هذا المقام اُفيد به حقّ التنزيه وهو أنّ الله سبحانه لا يحكم فيه شئ ولا يقهره قاهر يفعل ما يشاء ولا يفعل ما يشاء غيره نظير ما سيأتي في آخر السورة من الاستثناء في قوله:( خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) هود: ١٠٨.

وقوله:( وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ) تنزيه آخر لله سبحانه وهو مع ذلك جواب عن الأمر التعجيزىّ الّذى ألقوه إليهعليه‌السلام فإنّ ظاهره أنّهم لا يعبأون بما هدّدهم

٢٢٢

به من العذاب كأنّهم معجزون لا يقدر عليهم.

قوله تعالى: ( وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ) الخ، قال في المفردات: النصح تحرّى فعل أو قول فيه صلاح صاحبه - قال - وهو من قولهم: نصحت له الودّ أي أخلصته وناصح العسل خالصه أو من قولهم: نصحت الجلد خطته و الناصح الخيّاط والنصاح الخيط.

وقال أيضاً: الغىّ جهل من اعتقاد فاسد، وذلك أنّ الجهل قد يكون من الإنسان غير معتقد اعتقاداً لا صالحاً ولا فاسداً، وقد يكون من اعتقاد شئ فاسد، وهذا النحو الثاني يقال له غىّ قال تعالى: ما ضلّ صاحبكم وما غوى، وقال: وإخوانهم يمدّونهم في الغىّ. انتهى.

وعلى هذا فالفرق بين الإغواء والإضلال أنّ الإضلال إخراج من الطريق مع بقاء المقصد في ذكر الضالّ، والإغواء إخراجه منه مع زواله عن ذكره لاشتغاله بغيره جهلا.

والإرادة والمشيّة كالمترادفتين، وهى من الله سبحانه تسبيب الأسباب المؤدّية لوجود شئ بالضرورة فكون الشئ مراداً له تعالى أنّه تمّم أسباب وجوده وأكملها فهو كائن لا محالة، وأمّا أصل السببيّة الجارية فهى مرادة بنفسها ولذا قيل: خلق الله الأشياء بالمشيّة والمشيّة بنفسها.

وبالجملة قوله:( وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي ) الخ، كأحد شقّى الترديد والشقّ الآخر قوله:( وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ) كأنّهعليه‌السلام يقول: أمركم إلى الله إن شاء أن يعذّبكم أتاكم بالعذاب ولا يدفع عذابه ولا يقهر مشيّته شئ فلا أنتم معجزوه، ولا نصحي ينفعكم إن أردت أن أنصح لكم بعد ما أراد الله أن يغويكم لتكفروا به فيحقّ عليكم كلمه العذاب، وقيّد نصحه بالشرط لأنّهم لم يكونوا يسلّمون له أنّه ينصحهم.

والإغواء كالإضلال وإن لم يجز نسبته إليه تعالى إذا كان إغواء ابتدائيّاً لكنّه جائز إذا كان بعنوان المجازاة كأن يعصى الإنسان ويستوجب به الغواية فيمنعه الله أسباب التوفيق ويخلّيه ونفسه فيغوى ويضلّ عن سبيل الحقّ، قال تعالى:

٢٢٣

( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ) البقره: ٢٦.

وفي الكلام إشارة إلى أنّ نزول عذاب الاستئصال عليهم مسبوق بالإغواء الإلهىّ كما يلوّح إليه قوله تعالى:( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) أسرى: ١٦، وقال:( وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ) حم السجدة: ٢٥.

وقوله:( هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) تعليل لقوله:( وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي ) الخ، أو لقوله:( قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللهُ إِن شَاءَ - إلى قوله -يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ) جميعاً ومحصّله أنّ أمر تدبير العباد إلى الربّ الّذى إليه يرجع الاُمور، والله سبحانه هو ربّكم وإليه ترجعون فليس لى أن آتيكم بعذاب موعود، وليس لكم أن تعجزوه إن شاء أن يأتيكم بالعذاب فأتاكم به لاستئصالكم وليس لنصحي أن ينفعكم إن أراد هو أن يغويكم ليعذّبكم.

وقد ذكروا في قوله:( إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ) وجوها من التأويل: منها: أن المعنى يعاقبكم على كفركم، وقد سمى الله تعالى العذاب غيا في قوله:( فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) مريم: ٥٩.

ومنها: أن المراد إن كان الله يريد عقوبة إغوائكم الخلق وإضلالكم إيّاهم ومن عادة العرب أن يسمّى العقوبة باسم الشئ المعاقب عليه، ومن هذا الباب قوله:( اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) أي يعاقبهم على استهزائهم وقوله:( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ ) آل عمران: ٥٤ أي عذّبهم على مكرهم إلى غير ذلك.

ومنها: أنّ الإغواء بمعنى الإهلاك فالمعنى يريد أن يهلككم فهو من قولهم: غوى الفصيل إذا فسد من كثرة شرب اللبن.

ومنها: أنّ قوم نوح كانوا يعتقدون أنّ الله تعالى يضلّ عباده عن الدين، وأنّ ما هم عليه بإرادة الله، ولو لا ذلك لغيّره وأجبرهم على خلافه فقال لهم نوح على وجه التعجّب لقولهم والإنكار لذلك إنّ نصحي لا ينفعكم إن كان القول كما تقولون.

وأنت بالتأمّل فيما قدّمناه تعرف أنّ الكلام في غنى من هذه التأويلات.

٢٢٤

قوله تعالى: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ ) أصل الجرم - على ما ذكره الراغب في مفرداته - قطع الثمرة من الشجرة وأجرم أي صار ذا جرم، واستعير لكلّ اكتساب مكروه فالجرم بضمّ الجيم وفتحها بمعنى الاكتساب المكروه وهو المعصية.

والآية واقعة موقع الاعتراض، والنكتة فيه أنّ دعوة نوح واحتجاجاته على وثنيّة قومه وخاصّة ما أورده الله تعالى في هذه السورة من احتجاجه أشبه شئ بدعوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واحتجاجه على وثنيّة اُمّته.

وإن شئت زيادة تصديق في ذلك فارجع إلى سورة الأنعام - وهى في الحقيقة سورة الاحتجاج - وقابل ما حكاه الله تعالى عن نوح في هذه السورة ما أمر الله به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك السورة بقوله:( قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ - إلى أن قال -وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ - إلى أن قال -قُل لَّا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ ) .

ولك أن تطبّق سائر ما ذكر من حججهعليه‌السلام في سورة نوح والأعراف على ما ذكر من الحجج في سورة الأنعام وفي هذه السورة فتشاهد صدق ما ادّعيناه.

ولهذه المشابهة والمناسبة ناسب أن يعطف بعد ذكر حجج نوحعليه‌السلام في إنذاره قومه بأمر من الله سبحانه على ما اتّهموا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورموه بالافتراء على الله، وهو لا ينذرهم ولا يلقى إليهم من الحجج إلّا كما أنذر به نوحعليه‌السلام وألقاه من الحجج إلى قومه، وهذا كما ينذر رسول الملك قومه والمتمرّدين المستنكفين عن الطاعة ويلقى إليهم النصح ويتمّ عليهم الحجّة فيرمونه بأنّه مفتر على الملك ولا طاعة ولا وظيفة فيرجع إليهم بالنصح ثانياً، ويذكر لهم قصّة رسول ناصح آخر من الملك إلى قوم آخرين نصح لهم بمثل ما نصح هو لهم فلم يتبصّروا به فهلكوا فحيثما يذكر لهم حججه ومواعظه يبعثه الوجد والأسف إلى أن يتذكّر رميهم إيّاه بالافتراء فيأسف

٢٢٥

لذلك قائلا: إنّكم ترموننى بالافتراء ولم أذكر لكم إلّا ما بثّه هذا الرسول في قومه من كلمة الحكمة والنصيحة لا جرم إن افتريته فعلى إجرامي ولا تقبلوا قولى غير أنّى برئ من عملكم.

وقد عاد سبحانه إلى الأمر بمثل هذه المباراة ثانياً في آخر السورة بعد إيراد قصص عدّة من الرسل حيث قال:( وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ - إلى أن قال -وَقُل لِّلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ ) هود: ١٢٢.

وذكر بعض المفسّرين أنّ الآية، من تمام القصّة والخطاب فيها لنوح، والمعنى أم يقول قوم نوح افتراه نوح قل يا نوح إن افتريته فعلىّ إجرامي وأنا برئ ممّا تجرمون، وعلى هذا فالكلام مشتمل على نوع التفات من الغيبة إلى الخطاب وهذا بعيد عن سياق الكلام غايته.

وفي قوله:( وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ ) إثبات إجرام مستمرّ لهم وقد اُرسل إرسال المسلّمات كما في قوله:( فَعَلَيَّ إِجْرَامِي ) من إثبات الجرم وذلك أنّ الّذى ذكر من حجج نوح إن كان من الافتراء كان كذبا من حيث إنّ نوحاعليه‌السلام لم يحتجّ بهذه الحجج وهى حقّة، لكنّها من حيث إنّها حجج عقليّة قاطعة لا تقبل الكذب وهى تثبت لهؤلاء الكفّار إجراماً مستمرّاً في رفض ما يهديهم إليه من الإيمان والعمل الصالح فهم في خروجهم عن مقتضى هذه الحجج مجرمون قطعاً، والنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجرم لا قطعاً بل على تقدير أن يكون مفتريا وليس بمفتر.

٢٢٦

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ عن ابن أبى نصر البزنطىّ عن أبى الحسن الرضاعليه‌السلام قال: قال الله في نوحعليه‌السلام ( وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ) قال: الأمر إلى الله يهدى ويضلّ.

أقول: قد مرّ بيانه.

وفي تفسير البرهان في قوله تعالى:( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ) الآية، الشيبانيّ في نهج البيان عن مقاتل قال: إنّ كفّار مكّة قالوا: إنّ محمّدا افترى القرآن. قال: وروى مثل ذلك عن أبى جعفر وأبى عبداللهعليهما‌السلام .

٢٢٧

( سورة هود آية ٣٦ - ٤٩)

وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ( ٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ( ٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ( ٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ( ٣٩) حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ( ٤٠) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ( ٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ( ٤٢) قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ( ٤٣) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ( ٤٤) وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ( ٤٥) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ( ٤٦) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ

٢٢٨

أأَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ( ٤٧) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ( ٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ( ٤٩)

( بيان)

تتمّة قصّة نوحعليه‌السلام وهى تشتمل على فصول كإخبارهعليه‌السلام بنزول العذاب على قومه، وأمره بصنع الفلك، وكيفيّة نزول العذاب وهو الطوفان، وقصّة ابنه الغريق، وقصّة نجاته ونجات من معه لكنّها جميعاً ترجع من وجه إلى فصل واحد وهو فصل القضاء بينهعليه‌السلام وبين قومه.

قوله تعالى: ( وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) الابتئاس من البؤس وهو حزن مع استكانة.

وقوله:( لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ ) إيئاس وإقناط لهعليه‌السلام من إيمان الكفّار من قومه بعد ذلك، ولذلك فرّع عليه قوله:( فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) لأنّ الداعي إلى أمر إنّما يبتئس ويغتمّ من مخالفة المدعوّين وتمرّدهم ما دام يرجو منهم الإيمان والاستجابة لدعوته، وأمّا إذا يئس من إجابتهم فلا يهتمّ بهم ولا يتعب نفسه في دعوتهم إلى السمع والطاعة والإلحاح عليهم بالإقبال إليه ولو دعاهم بعدئذ فإنّما يدعوهم لغرض آخر كإتمام الحجّة وإبراز المعذرة.

وعلى هذا ففى قوله:( فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) تسلية من الله لنوحعليه‌السلام وتطييب لنفسه الشريفة من جهة ما في الكلام من الإشارة إلى حلول حين فصل القضاء بينه وبين قومه، وصيانة لنفسه من الوجد والغمّ لما كان يشاهد من فعلهم به

٢٢٩

وبالمؤمنين به من قومهم من إيذائهم إيّاهم في دهر طويل( ممّا يقرب من ألف سنة) لبث فيه بينهم.

ويظهر من كلام بعضهم أنّه استفاد من قوله:( لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ ) أنّ من كفر منهم فليس يؤمن بعد هذا الحين أبداً كما أنّ الّذين آمنوا به ثابتون على إيمانهم دائمون عليه. وفيه أنّ العناية في الكلام إنّما تعلّقت ببيان عدم إيمان الكفّار بعد ذلك فحسب وأمّا إيمان المؤمنين فلم يعن به إلّا بمجرّد التحقّق سابقاً ولا دلالة في الاستثناء على أزيد من ذلك، وأمّا ثباتهم ودوامهم على الإيمان فلا دليل عليه.

ويستفاد من الآية أوّلا: أنّ الكفّار لا يعذّبون ما كان الإيمان مرجوّا منهم فإذا ثبتت فيهم ملكة الكفر ورجس الشرك حقّ عليهم كلمة العذاب.

وثانياً: أنّ ما حكاه الله سبحانه من دعاء نوح بقوله:( وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ) نوح: ٢٧ كان واقعاً بين قوله:( أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ ) الخ، وبين قوله:( وَاصْنَعِ الْفُلْكَ - إلى قوله -إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ) .

وذلك لأنّه - كما ذكر بعضهم - لا سبيل إلى العلم بعدم إيمان الكفّار في المستقبل من طريق العقل وإنّما طريقه السمع بالوحى فهوعليه‌السلام علم أوّلاً من وحيه تعالى إليه أنّه لن يؤمن من قومك إلّا من قد آمن أنّ أحداً منهم لا يؤمن بعد ذلك ولا في نسلهم من سيؤمن بالله ثمّ دعا عليهم بالعذاب وذكر في دعائه ما اُوحى إليه فلمّا استجاب الله دعوته وأراد إهلاكهم أمرهعليه‌السلام باتّخاذ السفينة أخبره أنّهم مغرقون.

قوله تعالى: ( وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ) الفلك هي السفينة مفردها وجمعها واحد والأعين جمع قلّة للعين وإنّما جمع للدلالة على كثرة المراقبة وشدّتها فإنّ الجملة كناية عن المراقبة في الصنع.

٢٣٠

وذكر الأعين قرينة على أنّ المراد بالوحى ليس هو هذا الوحى أعنى قوله:( وَاصْنَعِ الْفُلْكَ ) الخ، حتّى يكون وحيا للحكم بل وحى في مقام العمل وهو تسديد وهداية عمليّة بتأييده بروح القدس الّذى يشير إليه أن افعل كذا وافعل كذا كما ذكره تعالى في الأئمّة من آل ابراهيمعليهم‌السلام بقوله:( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) الأنبياء: ٧٣، قد تقدّمت الإشارة إليه في المباحث السابقة وسيجئ إن شاء الله في تفسير الآية.

وقوله:( وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ) أي لا تسألني في امرهم شيئاً تدفع به الشرّ والعذاب وتشفع لهم لتصرّف عنهم السوء لأنّ القضاء فصل والحكم حتم وبذلك يظهر أنّ قوله:( إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ) في محلّ التعليل لقوله:( وَلَا تُخَاطِبْنِي ) الخ، أو لمجموع قوله:( وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ) ويظهر أيضاً أن قوله:( وَلَا تُخَاطِبْنِي ) الخ، كناية عن الشفاعة.

والمعنى: واصنع السفينة تحت مراقبتنا الكاملة وتعليمنا إيّاك ولا تسألني صرف العذاب عن هؤلاء الّذين ظلموا فإنّهم مقضىّ عليهم الغرق قضاء حتم لا مردّ له.

قوله تعالى: ( وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ) قال في المجمع: السخريّة إظهار خلاف الإبطان على وجه يفهم منه استضعاف العقل، ومنه التسخير لتذليل يكون استضعافاً بالقهر، والفرق بين السخريّة واللعب أنّ في السخريّة خديعة واستنقاصا ولا تكون إلّا في الحيوان وقد يكون اللعب بجماد، انتهى.

وقال الراغب في المفردات: سخرت منه واستسخرته للهزء منه قال تعالى:( إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) ( بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ) وقيل: رجل سخرة - بالضمّ فالفتح - لمن سخر وسخرة - بالضمّ فالسكون - لمن يسخر منه، والسخريّة - بالضمّ - والسخريّة - بالكسر - لفعل الساخر، انتهى.

٢٣١

وقوله:( وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ ) حكاية الحال الماضية يمثّل بها ما يجرى على نوحعليه‌السلام من إيذاء قومه وقيام طائفة منهم بعد طائفة على إهانته والاستهزاء به في عمل السفينة وصبره عليه في جنب الدعوة الإلهيّة وإقامة الحجّة عليهم من غير أن يفشل وينثنى.

وقوله:( كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ) حال من فاعل يصنع والملأ ههنا الجماعة الّذين يعبأبهم، وفي الكلام دلالة على أنّهم كانوا يأتونه وهو يصنع الفلك جماعة بعد جماعة بالمرور عليه ساخرين، وأنّهعليه‌السلام كان يصنعها في مرآى منهم وممرّ عامّ.

وقوله:( قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ) في موضع الجواب لسؤال مقدّر كأنّ قائلاً قال: فما ذا قال نوحعليه‌السلام ؟ فقيل:( قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ ) ولذا فصل الكلام من غير عطف.

ولم يقلعليه‌السلام : إن تسخروا منّى فإنّى أسخر منكم ليدفع به عن نفسه وعن عصابة المؤمنين به وكأنّه كان يستمدّ من أهله وأتباعه في ذلك وكانوا يشاركونه في عمل السفينة وكانت السخريّة تتناولهم جميعاً فظاهر الكلام أنّ الملأ كانوا يواجهون نوحاً ومن معه في عمل السفينة بسخريّة نوح ورميهعليه‌السلام بالخبل والجنون فيشمل هزؤهم نوحاً ومن معه وإن كانوا لم يذكروا في هزئهم إلّا نوحاً فقطّ.

على أنّ الطبع والعادة يقضيان أن يكونوا يسخرون من أتباعه أيضاً كما كانوا يسخرون منه فهم أهل مجتمع واحد تربط المعاشرة بعضهم ببعض وإن كنت سخريّتهم من أتباعه سخريّة منه في الحقيقة لأنّه هو الأصل الّذى تقوم به الدعوة، ولذا قيل:( سَخِرُوا مِنْهُ ) ولم يقل: سخروا منه ومن المؤمنين.

والسخريّة وإن كنت قبيحة ومن الجهل إذا كانت ابتدائيّة لكنّها جائزة إذا كانت مجازاة وبعنوان المقابلة وخاصّة إذا كانت تترتّب عليها فائدة عقلائيّة كانفاذ العزيمة وإتمام الحجّة، قال تعالى:( فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ

٢٣٢

أَلِيمٌ ) التوبة: ٧٩، ويدلّ على اعتبار المجازاة والمقابلة بالمثل في الآية قوله:( كَمَا تَسْخَرُونَ ) .

قوله تعالى: ( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ) السياق يقضى أن يكون قوله:( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) تفريعا على الجملة الشرطيّة السابقة( إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ ) وتكون الجملة المتفرّعة هو متن السخريّة الّتى أتى بها نوحعليه‌السلام ، ويكون قوله:( مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ) الخ، متعلّقا بتعلمون على أنّه معلوم العلم.

والمعنى: إن تسخروا منّا فإنّا نسخر منكم فنقول لكم: سوف تعلمون من يأتيه العذاب؟ نحن أو أنتم؟ وهذه سخريّة بقول حقّ.

وقوله:( مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ) المراد به عذاب الاستئصال في الدنيا وهو الغرق الّذى أخزاهم وأذلّهم، والمراد بقوله:( وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ) أي ينزل عليه عذاب ثابت لازم لا يفارق، هو عذاب النار في الآخرة، والدليل على ما ذكرنا من كون العذاب الأوّل هو الّذى في الدنيا والثانى هو عذاب الآخرة هو المقابلة وتكرّر العذاب - منكّرا - في اللّفظ وتوصيف الأوّل بالإخزاء والثانى بالإقامة.

وربّما أخذ بعضهم قوله:( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) تامّا من غير ذكر متعلّق العلم وقوله:( مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ) الخ، ابتداء كلام من نوحعليه‌السلام وهو بعيد عن السياق.

قوله تعالى: ( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ) إلى آخر الآية، يقال: فار القدر يفور فورا وفورانا إذا غلا واشتدّ غليانه، وفارت النار إذا اشتعلت وارتفع لهيبها، والتنّور تنّور الخبز، وهو ممّا اتّفقت فيه اللغتان: العربيّة والفارسيّة أو الكلمة فارسيّة في الأصل.

وفوران التنّور نبع الماء وارتفاعه منه، وقد ورد في الروايات: أنّ أوّل ما ابتدأ الطوفان يومئذ كان ذلك بتفجّر الماء من تنّور، وعلى هذا فاللّام في التنّور للعهد يشار بها إلى تنّور معهود في الخطاب، ويحتمل اللّفظ أن يكون كناية عن

٢٣٣

اشتداد غضب الله تعالى فيكون من قبيل قولهم:( حمى الوطيس ) إذا اشتدّ الحرب.

فقوله:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ) : أي كان الأمر على ذلك حتّى إذا جاء أمرنا أي تحقّق الأمر الربوبىّ وتعلّق بهم وفار الماء من التنّور أو اشتدّ غضب الربّ تعالى قلنا له كذا وكذا.

وفي التنّور أقوال اُخر بعيدة من الفهم كقول من قال: إنّ المراد به طلوع الفجر وكان عند ذلك أوّل ظهور الطوفان، وقول بعضهم: إنّ المراد به أعلى الأرض وأشرفها أي انفجر الماء من الأمكنة المرتفعة ونجود الأرض، وقول آخرين: إنّ التنّور وجه الأرض هذا.

وقوله:( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) أي أمرنا نوحاًعليه‌السلام أن يحمل في السفينة من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين وهى الذكر والاُنثى.

وقوله:( وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) أي واحمل فيها أهلك وهم المختصّون به من زوج وولد وأزواج الأولاد وأولادهم إلّا من سبق عليه قولنا وتقدّم عليه عهدنا أنّه هالك، وكان هذا المستثنى زوجته الخائنة الّتى يذكرها الله تعالى في قوله:( ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا ) التحريم: ١٠. وابن نوح الّذى يذكره الله تعالى في الآيات التالية وكان نوحعليه‌السلام يرى أنّ المستثنى هو امرأته فحسب حتّى بين الله سبحانه أنّ ابنه ليس من أهله وأنّه عمل غير صالح فعند ذلك علم أنّه من الّذين ظلموا.

وقوله:( وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ) أي واحمل فيها من آمن بك من قومك غير أهلك لأنّ من آمن به من أهله اُمر بحمله بقوله:( وَأَهْلَكَ ) ولم يؤمن به من القوم إلّا قليل.

في قوله:( وَمَا آمَنَ مَعَهُ ) دون أن يقال: وما آمن به تلويح إلى أنّ المعنى: وما آمن بالله مع نوح إلّا قليل، وذلك أنسب بالمقام وهو مقام ذكر من أنجاه الله من عذاب الغرق، والملاك فيه هو الإيمان بالله والخضوع لربوبيّته، وكذا في قوله:

٢٣٤

( إِلَّا قَلِيلٌ ) دون أن يقال: إلّا قليل منهم بلوغاً في استقلالهم أنّ من آمن كان قليلا في نفسه لا بالقياس إلى القوم فقد كانوا في نهاية القلّة.

قوله تعالى: ( وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) قرئ مجراها بفتح الميم وهو مجرى السفينة وسيرها، ومجراها بضمّ الميم وهو إجراء السفينة وسياقها، ومرساها بضمّ الميم مصدر ميمىّ مرادف الإرساء، والإرساء الإثبات والإيقاف، قال تعالى:( وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ) النازعات: ٣٢.

وقوله:( وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا ) معطوف على قوله في الآية السابقة:( جَاءَ أَمْرُنَا ) أي حتّى إذا قال نوح الخ، وخطابه لأهله وسائر المؤمنين أو لجميع من في السفينة.

وقوله:( بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ) تسمية منهعليه‌السلام يجلب به الخير والبركة لجرى السفينة وإرسائها فإنّ في تعليق فعل من الأفعال أو أمر من الاُمور على اسم الله تعالى وربطه به صيانة له من الهلاك والفساد واتّقاء من الضلال والخسران لما أنّه تعالى رفيع الدرجات منيع الجانب لا سبيل للدثور والفناء والعىّ والعناء إليه فما تعلّق به مصون لا محالة من تطرّق عارض السوء.

فهوعليه‌السلام يعلّق جرى السفينة وإرساءها باسم الله وهذان هما السببان الظاهران في نجاة السفينة ومن فيها من الغرق، وإنّما ينجح هذان السببان لو شملت العناية الإلهيّة من ركبها، وإنّما تشمل العناية بشمول المغفرة الإلهيّة لخطايا ركّابها والرحمة الإلهيّة لهم لينجوا من الغرق ويعيشوا على رسلهم في الأرض، ولذلك علّلعليه‌السلام تسميته بقوله:( إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) أي إنّما أذكر اسم الله على مجرى سفينتي ومرساها لأنّه ربّى الغفور الرحيم، له أن يحفظ مجراها ومرساها من الاختلال والتخبّط حتّى ننجو بذلك من الغرق بمغفرته ورحمته.

ونوحعليه‌السلام أوّل إنسان حكى الله سبحانه عنه التسمية باسمه الكريم فيما أوحاه من كتابه فهوعليه‌السلام أوّل فاتح فتح هذا الباب كما أنّه أوّل من أقام الحجّة على التوحيد، وأوّل من جاء بكتاب وشريعة وأوّل من انتهض لتعديل الطبقات

٢٣٥

ورفع التناقض عن المجتمع الإنسانيّ.

وما قدّمناه من معنى قوله:( بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ) مبنىّ على ما هو الظاهر من كون الجملة تسمية من نوحعليه‌السلام والمجرى والمرسى مصدرين ميميّين وربّما احتمل كونه تسمية ممّن مع نوح بأمره أو كون مجراها ومرساها اسمين للزمان أو المكان فيختلف المعنى.

قال في الكشّاف في الآية: يجوز أن يكون كلاماً واحداً وكلامين: فالكلام الواحد أن يتّصل باسم الله باركبوا حالاً من الواو بمعنى اركبوا فيها مسمّين الله أو قائلين بسم الله وقت إجرائها ووقت إرسائها إمّا لأنّ المجرى والمرسى للوقت وإمّا لأنّهما مصدران كالإجراء والإرساء حذف منهما الوقت المضاف كقولهم: خفوق النجم ومقدم الحاجّ، ويجوز أن يراد مكانا الإجراء والإرساء، وانتصابهما بما في بسم الله من معنى الفعل أو بما فيه من إرادة القول.

والكلامان أن يكون بسم الله مجراها ومرساها جملة من مبتدء وخبر مقتضبة(١) أي بسم الله إجراؤها وإرساؤها، يروى أنّه كان إذا أراد أن تجرى قال: بسم الله فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال: بسم الله فرست، ويجوز أن يقحم(٢) الاسم كقوله: ثمّ اسم السلام عليكما ويراد بالله إجراؤها وإرساءها.

قال: وقرى مجراها ومرساها(٣) بفتح الميم من جرى ورسى إمّا مصدرين أو وقتين أو مكانين، وقرأ مجاهد: مجريها ومرسيها بلفظ اسم الفاعل مجرورى المحلّ صفتين لله.

قوله تعالى: ( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ ) الضمير للسفينة، والموج

____________________

(١) اقتضاب الكلام ارتجاله والمراد من كون الجملة مقتضبة كونه ابتدائية أي كونها كلاماً ابتدائياً من نوح مقطوعاً عمّا قبله.

(٢) التقحيم إدخال الكلمة بين الكلمتين المتلازمتين المتّصلتين كالمضاف والمضاف إليه والمراد كون الاسم معترض بين( ثمّ) و( السلام) وكذا بين الباء ولفظ الجلالة في قوله: بسم الله.

(٣) قراءة مرساها بفتح الميم من الشواذ منسوب إلى ابن محيصن.

٢٣٦

اسم جنس كتمر أو جمع موجة - على ما قيل - وهى قطعة عظيمة ترتفع عن جملة الماء وفي الآية إشعار بأنّ السفينة كانت تسير على الماء ولم تكن تسبح جوف الماء كالحيتان كما قيل.

قوله تعالى: ( وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ ) المعزل اسم مكان من العزل وقد عزل ابنه نفسه عن أبيه والمؤمنين في مكان لا يقرب منهم، ولذلك قال:( وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ ) ولم يقل: وقال نوح لابنه.

والمعنى: ونادى نوح ابنه وكان ابنه في مكان منعزل بعيد منهم وقال في ندائه: يا بنىّ - بالتصغير والإضافة دلالة على الإشفاق والرحمة - اركب معنا السفينة ولا تكن مع الكافرين فتشاركهم في البلاء كما شاركتهم في الصحبه وعدم ركوب السفينة، ولم يقلعليه‌السلام : ولا تكن من الكافرين لأنّه لم يكن يعلم نفاقه وأنّه غير مؤمن إلّا باللّفظ، ولذلك دعاه إلى الركوب.

قوله تعالى: ( قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ ) الخ، قال الراغب: المأوى مصدر أوى يأوى اُويّاً ومأوى تقول: أوى إلى كذا: انضمّ إليه يأوى أويّا ومأوى وآواه غيره يؤويه إيواء، انتهى.

والمعنى: قال ابن نوح مجيبا لأبيه رادّاً لأمره: سأنضمّ إلى جبل يعصمني ويقينى من الماء فلا أغرق، قال نوح: لا عاصم اليوم - وهو يوم اشتدّ غضب الله وقضى بالغرق لأهل الأرض إلّا من التجأ منهم إلى الله - من الله لا جبل ولا غيره، وحال بين نوح وابنه الموج فكان ابنه من المغرقين ولو لم يحل الموج بينهما ولم ينقطع الكلام بذلك لعرف كفره وتبرّأ منه.

وفي الكلام إشارة إلى أنّ أرضهم كانت أرضاً جبليّة لا مؤنة زائدة في صعود الإنسان إلى بعض جبال كانت هناك.

قوله تعالى: ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) البلع إجراء الشئ في الحلق إلى الجوف، والإقلاع الإمساك وترك الشئ من أصله، والغيض جذب

٢٣٧

الأرض المائع الرطب من ظاهرها إلى باطنها وهو كالنشف يقال: غاضت الأرض الماء أي نقّصته.

والجودىّ مطلق الجبل والأرض الصلبة، وقيل: هو جبل بأرض موصل في سلسلة جبال تنتهى إلى أرمينيّة وهى المسمّاة ( آرارات ).

وقوله:( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي ) نداء صادر من ساحة العظمة والكبرياء لم يصرّح باسم قائله وهو الله عزّ اسمه للتعظيم، والأمر تكوينيّ تحمله كلمة( كن ) الصادرة من ذى العرش تعالى يترتّب عليه من غير فصل أن تبتلع الأرض ما على وجهها من الماء المتفجّر من عيونها، وأن تكفّ السماء عن إمطارها.

وفيه دلالة على أنّ الأرض والسماء كانتا مشتركتين في إطغاء الماء بأمر الله كما يبيّنه قوله تعالى:( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) القمر: ١٢.

وقوله:( وَغِيضَ الْمَاءُ ) أي نقص الماء ونشف عن ظاهر الأرض وانكشف البسيط، وذلك إنّما يكون بالطبع باجتماع ما يمكن اجتماعه منه في الغدران وتشكيل البحار والبحيرات، وانتشاف ما على سائر البسيطة.

وقوله:( وَقُضِيَ الْأَمْرُ ) أي اُنجز ما وعد لنوحعليه‌السلام من عذاب القوم واُنفذ الأمر الإلهىّ بغرقهم وتطهّر الأرض منهم أي كان ما قيل له كن كما قيل فقضاء الأمر كما يقال على جعل الحكم وإصداره كذلك يقال على إمضائه وإنفاذه وتحقيقه في الخارج، غير أنّ القضاء الإلهىّ والحكم الربوبىّ الّذى هو عين الوجود الخارجيّ جعله وإنفاذه واحد، وإنّما الاختلاف بحسب التعبير.

وقوله:( وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ) أي استقرّت السفينة على الجبل أو على جبل الجودىّ المعهود، وهو إخبار عن اختتام ما كان يلقاه نوح ومن معه من أمر الطوفان.

و قوله:( وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) أي قال الله عزّ اسمه: بعداً للقوم الظالمين أي ليبعدوا بعداً فأبعدهم بذلك من رحمته وطردهم عن دار كرامته، والكلام

٢٣٨

في ترك ذكر فاعل( َقِيلَ ) ههنا كالكلام فيه في( َقِيلَ ) السابق.

والأمر أيضاً في قوله:( بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) كالأمرين السابقين:( يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي ) تكوينيّ فهو عين ما أنفذه الله فيهم من الغرق المؤدّى إلى خزيهم في الدنيا وخسرانهم في الآخرة، وإن كان من وجه آخر من جنس الأمر التشريعيّ لتفرّعه على مخالفتهم الأمر الإلهىّ بالإيمان والعمل، وكونه جزاء لهم على استكبارهم واستعلائهم على الله عزّوجلّ.

وللصفح عن ذكر الفواعل في قوله:( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ) الخ، وقوله:( وَقُضِيَ الْأَمْرُ ) وقوله:( وَقِيلَ بُعْدًا ) الخ، في الآية وجه آخر مشترك وهو أنّ هذه الاُمور العظيمة الهائلة المدهشة لن يقدر عليها إلّا الواحد القاهر الّذى لا شريك له في أمره فلا يذهب الوهم إلى غيره لو لم يذكر على فعله فما هو إلّا فعله ذكر أم لم يذكر.

ولمثل هذه النكتة حذف فاعل( غِيضَ الْمَاءُ ) وهو الأرض، وفاعل( اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ) وهو السفينة، ولم يعيّن القوم الظالمون بأنّهم قوم نوح، ولا الناجون بأنّهم نوحعليه‌السلام ومن معه في السفينة فإنّ الآية بلغت في بلاغتها العجيبة من حيث سياق القصّة مبلغا ليس فيه إلّا سماء تنزل أمطارها، وأرض انفجرت بعيونها وانغمرت بالماء وسفينة تجرى في أمواجه، وأمر مقضىّ، وقوم ظالمون هم قوم نوح وأمر إلهىّ يوعد القوم بالهلاك فلو غيض الماء فإنّما تغيضه الأرض، ولو استقرّ شئ واستوى فإنّما هي السفينة تستقرّ على الأرض كما أنّه لو قيل: يا أرض ابلعى ماءك ويا سماء أقلعي وقيل: بعدا للقوم الظالمين فإنّما القائل هو الله عزّ اسمه والقوم الظالمون هم المقضىّ عليهم بالعذاب، ولو قيل: قضى الأمر فإنّما القاضى هو الله سبحانه، والأمر هو ما وعده نوحاً ونهاه أن يراجعه في ذلك وهو أنّهم مغرقون، ولو قيل للسماء: أقلعي بعد ما قيل للأرض: ابلعى ماءك فإنّما يراد إقلاعها وإمساكها ماءها.

ففى الآية الكريمة اجتماع عجيب من أسباب الإيجاز وتوافق لطيف فيما

٢٣٩

بينها كما أنّ الآية واقفة على موقف عجيب من بلاغة القرآن المعجزة يبهر العقول ويدهش الألباب وإن كانت الآيات القرآنيّة كلّها معجزة في بلاغتها.

وقد اهتمّ بأمرها رجال البلاغة وعلماء البيان فغاصوا لجّىّ بحرها وأخرجوا ما استطاعوا نيله من لئاليها، وما هو - وقد اعترفوا بذلك - إلّا كغرفة من بحر أو حصاة من برّ.

قوله تعالى: ( وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ) دعاء نوحعليه‌السلام لابنه الّذى تخلّف عن ركوب السفينة وقد كان آخر عهده به يوم ركب السفينة فوجده في معزل فناداه وأمره بركوب السفينة فلم يأتمر ثمّ حال بينهما الموج فوجد نوحعليه‌السلام وهو يرى أنّه مؤمن بالله من أهله وقد وعده الله بإنجاء أهله.

ولما به من الوجد والحزن رفع صوته بالدعاء كما يدلّ عليه قوله تعالى:( وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ ) ولم يقل: سأل أو قال أو دعا، ورفع الصوت بالاستغاثة من المضطرّ الّذى اشتدّ به الضرّ وهاج به الوجد امر طبعيّ. والدعاء أعني نداء نوحعليه‌السلام ربّه في ابنه وإن ذكر في القصّة بعد ذكر إنجاز غرق القوم وظاهره كون النداء بعد تمام الأمر واستواء الفلك لكن مقتضى ظاهر الحال أن يكون النداء بعد حيلولة الموج بينهما وعلى هذا فذكره بعد ذكر انقضاء الطوفان إنّما هو لمكان العناية ببيان جميع ما في القصّة من الهيئة الهائلة في محلّ واحد لتكميل تمثيل الواقعة ثمّ الأخذ ببيان بعض جهاته الباقية.

وقد كانعليه‌السلام رسولاً أحد الأنبياء اُولى العزم عالماً بالله عارفاً بمقام ربّه بصيراً بموقف نفسه في العبوديّة، والظرف ظهرت فيه آية الربوبيّة والقهر الإلهىّ أكمل ظهورها فأغرقت الدنيا وأهلها، ونودى من ساحة العظمة والكبرياء على الظالمين بالبعد، فأخذ نوحعليه‌السلام يدعو لابنه والظرف هذا الظرف لم يجترءعليه‌السلام - على ما يقتضيه أدب النبوّة - على أن يسأل ما يريده من نجاة ابنه بالتصريح، بل أورد القول كالمستفسر عن حقيقة الأمر، وابتدر بذكر ما وعده الله من نجاة أهله

٢٤٠