الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 406

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 406
المشاهدات: 109328
تحميل: 5904


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 109328 / تحميل: 5904
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 10

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

حين أمره أن يجمع الناجين معه في السفينة فقال له:( احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ ) .

وكان أهله - غير امرأته - حتّى ابنه هذا مؤمنين به ظاهراً ولو لم يكن ابنه هذا على ما كان يراه نوحعليه‌السلام مؤمناً لم يدعه البتّة إلى ركوب السفينة فهوعليه‌السلام الداعي على الكافرين السائل هلاكهم بقوله:( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) فقد كان يرى ابنه هذا مؤمناً ولم يكن مخالفته لأمر أبيه إذ أمره بركوب السفينة كفرا أو مؤدّيا إلى الكفر وإنّما هي معصية دون الكفر.

ولذلك كلّه قالعليه‌السلام :( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) فذكر وعد ربّه وضمّ إليه أنّ ابنه من أهله - على ما في الكلام من دلالة( رَبِّي ) على الاسترحام، ودلالة الإضافة في( ابْنِي ) على الحجّة في قوله:( مِنْ أَهْلِي ) ودلالة التأكيد بأنّ ولام الجنس في قوله:( وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) على أداء حقّ الإيمان.

وكانت الجملتان:( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) ( وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) ينتجان بانضمام بعضهما إلى بعض الحكم بلزوم نجاة ابنه لكنّهعليه‌السلام لم يأخذ بما ينتجه كلامه من الحكم أدباً في مقام العبوديّة فلا حكم إلّا لله بل سلّم الحكم الحقّ والقضاء الفصل إلى الله سبحانه فقال:( وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ) .

فالمعنى: ربّ إنّ ابني من أهلى، وإنّ وعدك حقّ كلّ الحقّ، وإنّ ذلك يدلّ على أن لا تأخذه بعذاب القوم بالغرق ومع ذلك فالحكم الحقّ إليك فأنت أحكم الحاكمين كأنّهعليه‌السلام يستوضح ما هو حقيقة الأمر ولم يذكر نجاة ابنه ولا زاد على هذا الّذى حكاه الله عنه شيئاً وسيوافيك بيان ذلك.

قوله تعالى: ( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) الخ. بيّن سبحانه لنوحعليه‌السلام وجه الصواب فيما ذكره بقوله:( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ ) الخ، وهو يستوجب به نجاة ابنه فقال تعالى:

٢٤١

( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) فارتفع بذلك أثر حجّته.

والمراد بكونه ليس من أهله - والله أعلم - أنّه ليس من أهله الّذين وعده الله بنجاتهم لأنّ المراد بالأهل في قوله:( وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) الأهل الصالحون، وهو ليس بصالح وإن كان ابنه ومن أهله بمعنى الاختصاص، ولذلك علل قوله:( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) بقوله:( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) .

فإن قلت: لازم ذلك أن يكون امرأته الكافرة من أهله لأنّها إنّما خرجت من الحكم بالاستثناء وهى داخلة موضوعا في قوله:( وَأَهْلَكَ ) ويكون ابنه ليس من أهله وخارجاً موضوعاً لا بالاستثناء وهو بعيد.

قلت: المراد بالأهل في قوله:( وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) هم الأهل بمعنى الاختصاص وبالمستثنى - من سبق عليه القول - غير الصالحين ومصداقه امرأته وابنه هذا، وأمّا الأهل الواقع في قوله هذا:( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) فهم الصالحون من المختصّين بهعليه‌السلام طبقا لما وقع في قوله:( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) فإنّهعليه‌السلام لا يريد بالأهل في قوله هذا غير الصالحين من اُولي الاختصاص وإلّا شمل امرأته وبطلت حجّته فافهم ذلك.

فهذا هو الظاهر من معنى الآية، ويؤيّده بعض ما ورد عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ممّا سيأتي في البحث الروائيّ التالى إن شاء الله.

وذكروا في تفسير الآية معان اُخر:

منها: أنّ المراد أنّه ليس على دينك فكان كفره أخرجه عن أن يكون له أحكام أهله. ونسب إلى جماعة من المفسّرين. وفيه أنّه في نفسه معنى لا بأس به إلّا أنّه غير مستفاد من سياق الآية لأنّ الله سبحانه ينفى عنه الأهليّة بالمعنى الّذى كان يثبتها له به نوحعليه‌السلام ولم يكن نوح يريد بأهليّته أنّه مؤمن غير كافر بل إنّما كان يريد أنّه أهله بمعنى الاختصاص والصلاح وإن كان لازمه الإيمان. اللّهمّ إلّا أن يرجع إلى المعنى المتقدّم.

ومنها: أنّه لم يكن ابنه على الحقيقة وإنّما ولد على فراشه فقال نوح

٢٤٢

عليه‌السلام : إنّه ابني على ظاهر الأمر فأعلمه الله أنّ الأمر على خلاف ذلك، ونبّهه على خيانة امرأته. وينسب إلى الحسن ومجاهد.

وفيه: أنّه على ما فيه من نسبة العار والشين إلى ساحة الأنبياءعليهم‌السلام ، والذوق المكتسب من كلامه تعالى يدفع ذلك عن ساحتهم وينزّه جانبهم عن أمثال هذه الأباطيل، أنّه ليس ممّا يدلّ عليه اللفظ بصراحة ولا ظهور فليس في القصّة إلّا قوله:( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) وليس بظاهر فيما تجرّؤا عليه وقوله في امرأة نوح:( امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا ) التحريم: ١٠ وليس إلّا ظاهراً في أنّهما كانتا كافرتين تواليان أعداء زوجيهما وتسرّان إليهم بأسرارهما وتستنجدانهم عليهما.

ومنها: أنّه كان ابن امرأتهعليه‌السلام وكان ربيبه لا ابنه من صلبه. وفيه أنّه ممّا لا دليل عليه من جهة اللفظ. على أنّه لا يلائم قوله في تعليل أنّه ليس من أهله:( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) ولو كان كذلك كان من حقّ الكلام ان يقال: إنّه ابن المرأة.

على أنّ من المستبعد جدّاً أن لا يكون نوحعليه‌السلام عالما بأنّه ربيبه وليس بابنه حتّى يخاطب ربّه بقوله:( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) أو يكون عالما بذلك ويتكلّم بالمجاز ويحتجّ على ربّه العليم الخبير بذلك فينبّه أنّه ليس ابنه وإنّما هو ربيب.

وقوله:( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) ظاهر السياق أنّ الضمير لابن نوحعليه‌السلام فيكون هو العمل غير الصالح، وعدّه عملاً غير صالح نوع من المبالغة نحو زيد عدل أي ذو عدل، وقولها: فإنّما هي إقبال وإدبار، أي ذات إقبال وإدبار.

فالمعنى: أنّ ابنك هذا ذو عمل غير صالح فليس من أهلك الّذين وعدتك أن أنجيهم. ويؤيّد هذا المعنى قراءة من قرأ:( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) بالفعل الماضي أي عمل عملاً غير صالح.

وذكر بعضهم: أنّ الضمير راجع إلى سؤال نوحعليه‌السلام المفهوم من قوله:( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) أي إنّ سؤالك نجاة ابنك عمل غير صالح لأنّه سؤال لما ليس لك به علم ولا ينبغى لنبىّ أن يخاطب ربّه بمثل ذلك.

٢٤٣

وهو من اسخف التفسير فإنّه معنى لا يلائم شيئاً من الجملتين المكتنفتين به لا قوله:( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) ولا قوله:( فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) وهو ظاهر، ولو كان كذلك كان من حقّ الكلام أن يتقدّم على قوله:( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) ويتّصل بقول نوحعليه‌السلام .

على أنّك عرفت أنّ قول نوحعليه‌السلام :( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) الخ، لا يتضمّن سؤالاً وإنّما كان يسوقه - لو جرى في كلامه - إلى السؤال لكنّ العناية الإلهيّة حالت بينه وبين السؤال.

وقوله:( فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) كأنّ قول نوحعليه‌السلام :( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) في مظنّة أن يسوقه إلى سؤال نجاة ابنه وهو لا يعلم أنّه ليس من أهله فأخذته العناية الإلهيّة، وحال التسديد الغيبيّ بينه وبين السؤال فأدركه النهى بقوله:( فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) بتفريع النهى على ما تقدّم أي فإذ ليس من أهلك لكونه عملاً غير صالح وأنت لا سبيل لك إلى العلم بذلك فإيّاك أن تبادر إلى سؤال نجاته لأنّه سؤال ما ليس لك به علم.

والنهى عن السؤال بغير علم لا يستلزم تحقّق سؤال ذلك منهعليه‌السلام لا مستقلّاً ولا في ضمن قوله:( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) لأنّ النهى عن الشى لا يستلزم الارتكاب قبلاً، وقد قال تعالى:( لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ ) الحجر: ٨٨ فنهى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حبّ الدنيا والافتتان بزينتها وحاشاه عن ذلك.

وإنّما يفتقر النهى في صحّة تعلّقه بفعل مّا أن يكون فعلاً اختياريّاً يمكن أن يبتلى به المكلّف، وما نهى عنه الأنبياءعليهم‌السلام على هذه الصفة وإن كانوا ذوى عصمة إلهيّة وتسديد غيبيّ، فإنّ من العصمة والتسديد أن يراقبهم الله سبحانه في أعمالهم وكلّما اقتربوا ممّا من شأنه أن يزلّ فيه الإنسان نبّههم على وجه الصواب ويدعوهم إلى السداد والتزام طريق العبوديّة، قال تعالى:( وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا )

٢٤٤

أسرى: ٧٥ فأنبأ تعالى أنّه هو الّذى ثبّته ولم يدعه يقترب من الركون إليهم فضلاً عن نفس الركون.

وقال تعالى:( وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) النساء: ١١٣.

ومن الدليل على أنّ النهى -( فَلَا تَسْأَلْنِ ) الخ - نهى عمّا لم يقع بعد قول نوحعليه‌السلام بعد استماع هذا النهى:( رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ) ولو كان سأل شيئاً لقيل: أعوذ بك من سؤالي ذلك ليفيد المصدر المضاف إلى المعمول التحقّق والإرتكاب.

ومن الدليل أيضاً على أنّهعليه‌السلام لم يسأل ذلك تعقيب قوله:( فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) بقوله:( إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) فإنّ معناه: إنّى أنصح لك في القول أن لا تكون بسؤالك ذلك من الجاهلين، ولو كان نوح سأل ذلك لكان من الجاهلين لأنّه سأل ما ليس له به علم.

فإن قلت: إنّه تعالى قال:( أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) أي ممّن استقرّت فيه صفة الجهل، و استقرارها إنّما يكون بالتكرار لا بالمرّة والدفعة، وبذلك يعلم أنّه سأل ما سأل وتحقّق منه الجهل مرّة وإنّما وعظه الله تعالى بما وعظ لئلّا يعود إلى مثله فيتكرّر منه ذلك فيدخل في زمرة الجاهلين.

قلت: زنة الفاعل كجاهل لا تدلّ على الاستقرار والتكرّر وإنّما تفيده الصفة المشبّهة كجهول على ما ذكروه، ويشهد لذلك قوله تعالى في قصّة البقرة:( قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) البقرة: ٦٧، وقوله في قصّة يوسف:( وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ) يوسف: ٣٣ وقوله خطاباً لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) الأنعام: ٣٥.

وأيضاً لو كان المراد من النهى عن السؤال أن لا يتكرّر منه ذلك بعد ما وقع

٢٤٥

مرّة لكان الأنسب أن يصرّح بالنهي عن العود إلى مثله دون النهى عن أصله كما وقع في نظير المورد من قوله تعالى:( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ - إلى أن قال -يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا ) النور: ١٧.

قوله تعالى: ( قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ) لمّا تبيّن لنوحعليه‌السلام أنّه لو ساقه طبع الخطاب الّذى خاطب به ربّه إلى السؤال كان سائلاً ما ليس له به علم وكان من الجاهلين وأنّ عناية الله حالت بينه وبين الهلكة، شكر ربّه فاستعاذ بمغفرته ورحمته عن ذلك السؤال المخسر فقال:( رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ) .

والكلام في الاستعاذة ممّا لم يقع بعد من الاُمور المهلكة والمعاصي الموبقة كالنهي عمّا لم يقع من الذنوب والآثام وقد تقدّم الكلام فيه وقد أمر الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالاستعاذة من الشيطان وهو معصوم لا سبيل للشيطان إليه، قال تعالى:( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ - إلى أن قال -مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ) الناس: ٥ وقال:( وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ ) المؤمنون: ٩٨ والوحى مصون عن مسّ الشياطين كما قال تعالى:( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ ) الجنّ: ٢٨.

وقوله:( وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ) كلام صورته صورة التوبة وحقيقته الشكر على ما أنعم الله عليه من التعليم والتأديب.

أمّا صورة توبته فإنّ في ذلك رجوعاً إلى ربّه تعالى بالاستعاذة ولازمها طلب مغفرة الله ورحمته أي ستره على الإنسان ما فيه زلّته وهلاكته وشمول عنايته لحاله وقد تقدّم في أواخر الجزء السادس من الكتاب بيان أنّ الذنب أعمّ من مخالفة الأمر التشريعيّ بل كلّ وبال وأثر سيّئ الإنسان بوجه، وأنّ المغفرة أعمّ من الستر على المعصية المعروفة عند المتشرّعة بل كلّ ستر إلهىّ يسعد الإنسان ويجمع شمله.

٢٤٦

وأمّا حقيقة الشكر فإنّ العناية الإلهيّة الّتى حالت بينه وبين السؤال الّذى كان يوجب دخوله في زمرة الجاهلين وعصمته ببيان وجه الصواب كانت سترا إلهيّا على زلّة في طريقه ورحمة ونعمة أنعم الله سبحانه بها عليه فقولهعليه‌السلام :( وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ) أي إن لم تعذنى من الزلّات لخسرت، ثناء وشكر لصنعه الجميل.

قوله تعالى: ( قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ) الخ، السلام هو السلامة أو التحيّة غير أنّ ذكر مسّ العذاب في آخر الآية يؤيّد كون المراد به في صدرها السلامة من العذاب وكذا تبديل البركة في آخر الآية إلى التمتيع يدلّ على أنّ المراد بالبركات ليس مطلق النعم وأمتعة الحياة بل النعم من حيث تسوق الإنسان إلى الخير والسعادة والعاقبة المحمودة.

فقوله:( قِيلَ - ولم يذكر القائل وهو الله سبحانه للتعظيم -يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ ) معناه - والله أعلم - يا نوح انزل مع سلامة من العذاب - الطوفان - ونعم ذوات بركات وخيرات نازلة منّا عليك، أو انزل بتحيّة وبركات نازلة منّا عليك.

وقوله:( وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ) معطوف على قوله:( عَلَيْكَ ) وتنكير اُمم يدلّ على تبعيضهم لأنّ من الاُمم من يذكره تعالى بعد في قوله:( وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ) .

والخطاب أعنى قوله تعالى:( ي يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ ) إلى آخر الآية بالنظر إلى ظرف صدوره وليس وقتئذ متنفّس على وجه الأرض من إنسان أو حيوان وقد اُغرقوا جميعاً ولم يبق منهم إلّا جماعة قليلة في السفينة وقد رست واستوت على الجودىّ، وقد قضى أن ينزلوا إلى الأرض فيعمروها ويعيشوا فيها إلى حين.

خطاب عامّ شامل للبشر من لدن خروجهم منها إلى يوم القيامة نظير ما صدر من الخطاب الإلهىّ يوم اُهبط آدمعليه‌السلام من الجنّة إلى الأرض وقد حكاه الله تعالى في موضع بقوله:( وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ

٢٤٧

وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ - إلى أن قال -قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) البقرة: ٣٩ وفي موضع آخر بقوله:( قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) الأعراف: ٢٥.

وهذا الخطاب خطاب ثان مشابه لذاك الخطاب الأوّل موجّه الى نوحعليه‌السلام ومن معه من المؤمنين - وإليهم ينتهى نسل البشر اليوم - متعلّق بهم وبمن يلحق بهم من ذراريهم إلى يوم القيامة، وهو يتضمّن تقدير حياتهم الأرضيّة والإذن في نزولهم إليها واستقرارهم فيها وإيوائهم إيّاها.

وقد قسّم الله هؤلاء المأذون لهم قسمين فعبّر عن إذنه لطائفة منهم بالسلام والبركات وهم نوحعليه‌السلام واُمم ممّن معه، ولطائفة اُخرى بالتمتيع، وعقّب التمتيع بمسّ العذاب لهم كما أنّ كلمتي السلام والبركات لا تخلوان من بشرى الخير والسعادة بالنسبة إلى من تعلّقتا به.

فقد بان من ذلك أنّ الخطاب بالهبوط في هذه الآية مع ما يرتبط به من سلام وبركات وتمتيع موجّه إلى عامّة البشر من حين هبوط أصحاب السفينة إلى يوم القيامة، ووزانه وزان خطاب الهبوط الموجّه إلى آدم وزوجتهعليهما‌السلام ، وفي هذا الخطاب إذن في الحياة الأرضيّة ووعد لمن أطاع الله سبحانه ووعيد لمن عصاه كما أنّ في ذلك الخطاب ذلك طابق النعل بالنعل.

وظهر بذلك أنّ المراد بقوله:( وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ) الاُمم الصالحون من أصحاب السفينة ومن سيظهر من نسلهم من الصالحين، والظاهر على هذا أن يكون( مَّن ) في قوله:( ٍ مِّمَّن مَّعَكَ ) ابتدائيّة لا بيانيّة، والمعنى وعلى اُمم يبتدى تكونهم ممّن معك، وهم أصحاب السفينة والصالحون من نسلهم.

وظاهر هذا المعنى أن يكون أصحاب السفينة كلّهم سعداء ناجين، والاعتبار يساعد ذلك فإنّهم قد محّصوا بالبلاء تمحيصا وآثروا ما عند الله من زلفى وقد صدّق الله سبحانه إيمانهم مرّتين في أثناء القصّة حيث قال عزّ من قائل:( إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ )

٢٤٨

آية: ٣٦ من السورة، وقال:( وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ) آية: ٤٠ من السورة.

وقوله:( وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) كأنّه مبتدء لخبر محذوف والتقدير: وممّن معك اُمم أو وهناك اُمم سنمتّعهم الخ، وقد أخرجهم الله سبحانه من زمرة المخاطبين بخطاب الإذن فلم يقل: ومتاع لاُمم آخرين سيعذّبون طرداً لهم من موقف الكرامة، فأخبر أنّ هناك اُمما آخرين سنمتّعهم ثمّ نعذّبهم وهم غير مأذون لهم في التصرّف في أمتعة الحياة إذن كرامة وزلفى.

وفي الآية جهات من تعظيم القائل لا تخفى كالبناء للمفعول في( قِيلَ ) وتخصيص نوحعليه‌السلام بخطاب الهبوط والتكلّم مع الغير في قوله:( مِّنَّا ) في موضعين( سَنُمَتِّعُهُمْ ) وغير ذلك.

وظهر أيضاً: أنّ ما فسّروا به قوله:( عَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ) أنّ معناه: على اُمم من ذرّيّة من معك ليس على ما ينبغى مع ما فيه من خروج من معه من الخطاب وكذا قول من قال: يعنى بالاُمم سائر الحيوان الّذين كانوا معه لأنّ الله جعل فيهم البركة. وفساده أظهر.

قوله تعالى: ( تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ) أي هذه القصص أو هذه القصّة من أنباء الغيب نوحيها إليك.

وقوله:( ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا) أي كانت وهى على محوضة الصدق والصحّة مجهولة لك ولقومك من قبل هذا، والّذى عند أهل الكتاب منها محرّف مقلوب عن وجه الصواب كما سيوافيك ما في التوراة الحاضرة من قصّتهعليه‌السلام .

وقوله:( فَاصْبِرْإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) أمر منتزع عن تفصيل القصّة أي إذا علمت ما آل إليه أمر نوحعليه‌السلام وقومه من هلاك قومه ونجاته ونجاة من معه من المؤمنين وقد ورّثهم الله الأرض على ما صبروا، ونصر نوحاً على أعدائه على ما صبر فاصبر على الحقّ فإنّ العاقبة للمتّقين، وهم الصابرون في جنب الله سبحانه.

٢٤٩

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عبّاس قال: إنّ نوحاًعليه‌السلام كان يضرب ثمّ يلفّ في لبد فيلقى في بيته يرون أنّه قد مات ثمّ يخرج فيدعوهم حتّى إذا أيس من إيمان قومه جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكّأ على عصا فقال: يا بنىّ اُنظر هذا الشيخ لا يغرّنّك قال: يا أبت أمكنّى من العصا ثمّ أخذ العصا ثمّ قال: ضعني في الأرض فوضعه فمشى إليه فضربه فشجّه موضحة في رأسه وسالت الدماء.

قال نوحعليه‌السلام : ربّ قد ترى ما يفعل بى عبادك فإن يكن لك في عبادك حاجة فاهدهم، وإن يكن غير ذلك فصبّرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين فأوحى الله إليه وآيسه من إيمان قومه وأخبره أنّه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن قال: يا نوح إنّه لن يؤمن من قومك إلّا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون يعنى لا تحزن عليهم واصنع الفلك. قال: يا ربّ وما الفلك؟ قال: بيت من خشب يجرى على وجه الماء فاُغرق أهل معصيتى واُطهّر أرضى منهم. قال: يا ربّ وأين الماء؟ قال: إنّى على ما أشاء قدير.

وفي الكافي بإسناده عن المفضّل قال: كنت عند أبى عبداللهعليه‌السلام بالكوفة أيّام قدم على أبى العبّاس فلمّا انتهينا إلى الكناسة قال: ههنا صلب عمّى زيد رحمه الله، ثمّ مضى حتّى انتهى إلى طاق الزيّاتين وهو آخر السرّاجين فنزل وقال: انزل فإنّ هذا الموضع كان مسجد الكوفة الأوّل الّذى كان خطّه آدم وأنا أكره أن أدخله راكبا. قلت: فمن غيّره عن خطّته؟ قال: أمّا أوّل ذلك فالطوفان في زمن نوح ثمّ غيّره أصحاب كسرى والنعمان ثمّ غيّره بعد زياد بن أبى سفيان فقلت: وكانت الكوفة ومسجدها في زمن نوح؟ فقال لى: نعم يا مفضّل وكان منزل نوح وقومه في قرية على منزل من الفرات ممّا يلى غربيّ الكوفة.

٢٥٠

قال: وكان نوح رجلاً نجّاراً فجعله الله عزّوجلّ نبيّاً وانتجبه، ونوح أوّل من عمل سفينة تجرى على ظهر الماء. قال: ولبث نوح في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما يدعوهم إلى الله عزّوجلّ فيهزؤن به ويسخرون منه فلمّا رأى ذلك منهم دعا عليهم فقال: ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا إنّك إن تذرهم يضلّوا عبادك ولا يلدوا إلّا فاجراً كفّاراً، فأوحى الله عزّوجلّ إلى نوح أن اصنع سفينة وأوسعها وعجّل عملها فعمل نوح سفينة في مسجد الكوفة بيده، فأتى بالخشب من بعد حتّى فرغ منها.

قال المفضّل: ثمّ انقطع حديث أبى عبداللهعليه‌السلام عند زوال الشمس فقام أبوعبداللهعليه‌السلام فصلّى الظهر والعصر ثمّ انصرف من المسجد فالتفت عن يساره وأشار بيده إلى موضع دار الدارين وهى موضع دار ابن حكيم وذلك فرات اليوم فقال: يا مفضّل وههنا نصبت أصنام قوم نوح: يغوث ويعوق ونسر. ثم مضى حتّى ركب دابّته.

فقلت: جعلت فداك في كم عمل نوح سفينته؟ قال: في دورين. قلت: وكم الدوران؟ قال: ثمانين(١) سنة. قلت: فإنّ العامّة يقولون عملها في خمس مائة سنة؟ فقال: كلّا. كيف؟ والله يقول:( وَوَحْيِنَا ) قال: قلت: فأخبرني عن قول الله عزّوجلّ:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ) فأين كان موضعه؟ وكيف كان؟ فقال: كان التنّور في بيت عجوز مؤمنة في دبر قبلة ميمنة المسجد. قلت له: فأين ذلك؟ قال: موضع زاوية باب الفيل اليوم. ثمّ قلت له: وكان بدؤ خروج الماء من ذلك التنّور؟ فقال: نعم إنّ الله عزّوجلّ أحبّ أن يرى قوم نوح آية ثمّ إنّ الله تبارك وتعالى أرسل عليهم المطر يفيض فيضاً والعيون كلّهنّ فيضاً فغرقهم الله وأنجا نوحا ومن معه في السفينة - الحديث.

أقول: والرواية على طولها غير متعلّقة بالتفسير غير أنّا أوردناها لتكون كالاُنموذجة من روايات كثيرة وردت في هذه المعاني من طرق الشيعة وأهل السنّة

____________________

(١) ثمانون ظ.

٢٥١

ولتكون عونا لفهم قصص الآيات من طريق الروايات.

وفي الرواية استفادة التعجيل في صنع السفينة من قوله تعالى:( وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ) الآية، وفي الرواية نسبة زياد إلى أبى سفيان ولعلّ الوارد في لفظ الإمام (زياد) فاُضيف إليه (ابن أبى سفيان) في لفظ بعض الرواة.

وفيه بإسناده عن أبى رزين الأسديّ عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام قال: إنّ نوحاعليه‌السلام لمّا فرغ من السفينة وكان ميعاده فيما بينه وبين ربّه في إهلاك قومه أن يفور التنّور ففار التنّور في بيت امرأة فقالت: إنّ التنّور قد فار فقام إليه فختمه فقام الماء وأدخل من أراد أن يدخل وأخرج من أراد أن يخرج ثمّ جاء إلى خاتمه فنزعه، يقول الله عزّوجلّ: ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجّرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر.

قال: وكان نجره في وسط مسجدكم. ولقد نقص عن ذرعه سبعمائة ذراع.

أقول: وكون فوران التنّور علامة لهعليه‌السلام يعلم به اقتراب الطوفان من الوقوع واقع في عدّة من روايات الخاصّة والعامّة وسياق الآية:( إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ ) الآية، لا يخلو من ظهور في كونه ميعادا.

وفيه بإسناده عن إسماعيل الجعفيّ عن أبى جعفرعليه‌السلام قال: كان شريعة نوح أن يعبدالله بالتوحيد والإخلاص وخلع الأنداد وهى الفطرة الّتى فطر الناس عليها وأخذ الله ميثاقه على نوح والنبيّين أن يعبدوا الله تبارك وتعالى ولا يشركوا به شيئاً واُمر بالصلاة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والحلال والحرام، ولم يفرض عليه أحكام حدود ولا فرائض مواريث فهذه شريعته. فلبث فيهم نوح ألف سنة إلّا خمسين عاماً يدعوهم سرّاً وعلانية فلمّا أبوا وعتوا قال:( رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ) فأوحى الله عزّوجلّ إليه:( لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) فذلك قول نوح:( وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ) فأوحى الله إليه: أن أصنع الفلك.

أقول: ورواه العيّاشيّ عن الجعفيّ مرسلاً وظاهر الرواية أنّ لهعليه‌السلام دعاءين

٢٥٢

على قومه أحدهما وهو أوّلهما قوله:( رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ) الواقع في سورة القمر، وثانيهما بعد ما أيأسه الله من إيمان قومه وهو قوله:( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ) الواقع في سورة نوح.

وفي معاني الأخبار بإسناده عن حمران عن أبى جعفرعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ( وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌٌ ) قال: كانوا ثمانية.

أقول: ورواه العيّاشيّ أيضاً عن حمران عنهعليه‌السلام ، وللناس في عددهم أقوال اُخر: ستّة أو سبعة أو عشرة أو اثنان وسبعون أو ثمانون ولا دليل على شئ منها.

وفي العيون بإسناده عن عبد السلام بن صالح الهرويّ قال: قال الرضاعليه‌السلام لمّا هبط نوح إلى الأرض كان نوح وولده ومن تبعه ثمانين نفسا فبنى حيث نزل قرية فسمّاها قرية الثمانين.

أقول: ولا تنافى بين الروايتين لجواز كون ما عدا الثمانية من أهل نوحعليه‌السلام وقد عمّر ما يقرب من ألف سنة يومئذ.

وفيه بإسناده عن الحسن بن علىّ الوشّاء عن الرضاعليه‌السلام قال: سمعته يقول: قال أبى: قال أبو عبداللهعليه‌السلام : إنّ الله عزّوجلّ قال لنوح:( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) لأنّه كان مخالفاً له، وجعل من اتّبعه من أهله.

قال: وسألني كيف يقرؤن هذه الآية في ابن نوح؟ فقلت: يقرؤها الناس على وجهين: إنّه عملٌ غيرُ صالح، وإنّه عملَ غيرَ صالح. فقال: كذبوا هو ابنه ولكنّ الله نفاه عنه حين خالفه في دينه.

أقول: ولعلّهعليه‌السلام يشير بقوله:( وجعل من اتّبعه من أهله) إلى قوله تعالى( فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) الأنبياء: ٧٦. فإنّ الظاهر أنّ المراد بأهله جميع من نجا معه.

وكأنّ المراد من قراءة الآية تفسيرها والراوي يشير بايراد القراءتين إلى تفسير من فسّر الآية بأنّ المراد أنّ امرأة نوح حملت الإبن من غيره فألحقه بفراشه

٢٥٣

ولذلك قرأ بعضهم:( وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهاُ ) أو( وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهاُ ) بفتح الهاء مخفّف ابنها ونسبوا القراءتين إلى علىّ وبعض الأئمّة من ولدهعليهم‌السلام .

قال في الكشّاف: وقرأ علىّ رضى الله عنه( ابْنَهاُ ) والضمير لامرأته، وقرأ محمّد بن علىّ وعروة بن الزبير( ابْنَهاُ ) بفتح الهاء يريدان( ابْنَهُا ) فاكتفيا بالفتحة عن الألف وبه ينصر مذهب الحسن قال قتادة: سألته فقال: والله ما كان ابنه فقلت: إنّ الله حكى عنه( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) وأنت تقول: لم يكن ابنه، وأهل الكتاب لا يختلفون أنّه كان ابنه ! فقال: ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب؟ واستدلّ بقوله من أهلي ولم يقل: منّى. انتهى.

واستدلاله بما استدلّ به سخيف فإنّ الله وعده بنجاة أهله ولم يعده بنجاة من كان منه حتّى يضطرّ إلى قول: إنّ ابني منّى عند سؤال نجاته، وقد تقدّم بيان أنّ لفظ الآيات لا يلائم هذا الوجه.

وما ذكر من عدم الخلاف بين أهل الكتاب منظور فيه فإنّ التوراة ساكتة عن قصّة ابن نوح هذا الغريق.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن الأنباريّ في المصاحف وأبوالشيخ عن علىّ رضى الله عنه أنّه قرأ:( وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهاُ ) .

وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبوالشيخ عن أبى جعفر محمّد ابن علىّ في قوله:( وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ ) قال هي بلغة طئ لم يكن ابنه وكان ابن امرأته.

أقول: ورواه العيّاشيّ في تفسيره عن محمّد بن مسلم عنهعليه‌السلام .

وفي تفسير العيّاشيّ عن موسى عن العلاء بن سيابة عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ ) قال ليس بابنه إنّما هو ابن امرأته وهى لغة طئ يقولون لابن امرأته: ابنه. الحديث.

وفيه عن زرارة عن أبى جعفرعليه‌السلام في قول نوح:( يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا ) قال: ليس بابنه. قال: قلت: إنّ نوحا قال: يا بنىّ؟ قال: فإنّ نوحاً قال ذلك وهو لا يعلم.

٢٥٤

أقول: والمعتمد ما تقدّم من رواية الوشّاء عن الرضاعليه‌السلام .

وفيه عن إبراهيم بن أبى العلاء عن أحدهماعليهما‌السلام قال: لمّا قال الله:( يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي ) قالت الأرض: إنّما اُمرت أن أبلع مائى أنا فقطّ، ولم اُؤمر أن أبلع ماء السماء فبلعت الأرض ماءها وبقى ماء السماء فصيّر بحراً حول الدنيا.

وفيه عن أبى بصير عن أبى الحسن موسىعليه‌السلام في حديث ذكر فيه الجودىّ قال: وهو جبل بالموصل.

وفيه عن المفضّل بن عمر عن أبى عبداللهعليه‌السلام ( وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ) هو فرات الكوفة.

أقول: ويؤيّد الرواية السابقة روايات اُخر.

وفيه عن عبد الحميد بن أبى الديلم عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: لمّا ركب نوحعليه‌السلام في السفينة قيل: بعداً للقوم الظالمين.

وفي المجمع في قوله تعالى:( قِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ ) الآية، قال: ويروى أنّ كفّار قريش أرادوا أن يتعاطوا معارضة القرآن فعكفوا على لباب البرّ ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوماً لتصفو أذهانهم فلمّا أخذوا فيما أرادوا سمعوا هذه الآية فقال بعضهم لبعض: هذا كلام لا يشبهه شئ من الكلام، ولا يشبه كلام المخلوقين وتركوا ما أخذوا فيه وافترقوا.

( أبحاث حول قصّة نوح في فصول وهى أبحاث قرآنيّة وروائيّة)

( وتاريخيّة وفلسفيّة)

١ - الإشارة إلى قصّته: ذكر اسمهعليه‌السلام في القرآن في بضع وأربعين موضعا يشار فيها إلى شئ من قصّته إجمالاً أو تفصيلاً، ولم تستوف قصّتهعليه‌السلام في شئ منها استيفاء على نهج الاقتصاص التاريخيّ بذكر نسبه وبيته ومولده ومسكنه ونشوئه وشغله وعمره ووفاته ومدفنه وسائر ما يتعلّق بحياته الشخصيّة لما أنّ

٢٥٥

القرآن لم ينزل كتاب تاريخ يقتصّ تواريخ الناس من برّ أو فاجر.

وإنّما هو كتاب هداية يصف للناس ما فيه سعادتهم، ويبيّن لهم الحقّ الصريح ليأخذوا به فيفوزوا في حياتهم الدنيا والآخرة، وربّما أشار إلى طرف من قصص الأنبياء والاُمم لتظهر به سنّة الله في عباده، ويعتبر به من شملته العناية ووفّق للكرامة، وتتمّ به الحجّة على الباقين.

وقد فصّلت قصّة نوحعليه‌السلام في ستّ من السور القرآنيّة وهى سورة الأعراف وسورة هود، وسورة المؤمنون، وسورة الشعراء، وسورة القمر، وسورة نوح وأكثرها تفصيلاً سورة هود الّتى ذكرت قصّتهعليه‌السلام فيها في خمس وعشرين آية (٢٥ - ٤٩).

٢ - قصّتهعليه‌السلام في القرآن.

بعثه وارساله:

كان الناس بعد آدمعليه‌السلام يعيشون اُمّة واحدة على بساطة وسذاجة، وهم على الفطرة الإنسانيّة حتّى فشا فيهم روح الاستكبار وآل إلى استعلاء البعض على البعض تدريجا واتّخاذ بعضهم بعضا أربابا وهذه هي النواة الأصليّة الّتى لو نشأت واخضرّت وأينعت لم تثمر إلّا دين الوثنيّة والاختلاف الشديد بين الطبقات الاجتماعيّة باستخدام القوىّ للضعيف، واسترقاق العزيز واستدراره للذليل، وحدوث المنازعات والمشاجرات بين الناس.

فشاع في زمن نوحعليه‌السلام الفساد في الأرض، وأعرض الناس عن دين التوحيد وعن سنّة العدل الاجتماعيّ وأقبلوا على عبادة الأصنام، وقد سمّى الله سبحانه منها ودّا وسواعاً ويغوث ويعوق ونسرا (سورة نوح).

وتباعدت الطبقات فصار الأقوياء بالأموال والأولاد يضيعون حقوق الضعفاء الجبابرة يستضعفون من دونهم ويحكمون عليهم بما تهواه أنفسهم (الأعراف هود - نوح).

فبعث الله نوحاًعليه‌السلام وأرسله إليهم بالكتاب و الشريعة يدعوهم إلى توحيد

٢٥٦

الله سبحانه وخلع الأنداد والمساواة فيما بينهم (البقرة آية ٢١٣) بالتبشير والإنذار.

دينه وشريعتهعليه‌السلام :

كانعليه‌السلام يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه ورفض الشركاء (كما يظهر من جميع قصصه القرآنيّة) والإسلام لله (كما يظهر من سورتي نوح ويونس وسورة آل عمران آية ١٩) والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر (كما يظهر من سورة هود آية ٢٧) والصلاة (كما يظهر من آية ١٠٣ من سورة النساء وآية ٨ من سورة الشورى) والمساواة والعدالة وأن لا يقربوا الفواحش والمنكرات وصدق الحديث والوفاء بالعهد (سورة الأنعام آية ١٥١ - ١٥٢) وهوعليه‌السلام أوّل من حكى عنه في القرآن التسمية باسم الله في الاُمور الهامّة (سورة هود آية ٤١).

اجتهادهعليه‌السلام في دعوته:

وكانعليه‌السلام يدعو قومه إلى الإيمان بالله وآياته، ويبذل في ذلك غاية وسعه فيندبهم إلى الحقّ ليلاً ونهاراً وإعلانا وإسرارا فلا يجيبونه إلّا بالعناد والاستكبار وكلّما زاد في دعائهم زادوا في عتوهّم وكفرهم، ولم يؤمن به غير أهله وعدّة قليلة من غيرهم حتّى أيس من إيمانهم وشكا ذلك إلى ربّه وطلب منه النصر (سورة نوح والقمر والمؤمنون).

لبثه في قومه:

لبثعليه‌السلام في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما يدعوهم إلى الله سبحانه فلم يجيبوه إلّا بالهزء والسخريّة ورميه بالجنون وأنّه يقصد به أن يتفضّل عليهم حتّى استنصر ربّه (سورة العنكبوت) فأوحى إليه ربّه أنّه لن يؤمن من قومه إلّا من قد آمن وعزّاه فيهم (سورة هود) فدعا عليهم بالتبار والهلاك، وأن يطهّر الله الأرض منهم عن آخرهم (سورة نوح) فأوحى الله إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا (سورة هود).

٢٥٧

صنعهعليه‌السلام الفلك:

أمره الله تعالى أن يصنع الفلك بتأييده سبحانه وتسديده فأخذ في صنعها وكان القوم يمرّون عليه طائفة بعد طائفة فيسخرون منه وهو يصنعها على بسيط الأرض من غير ماء، ويقولعليه‌السلام : إن تسخروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم (سورة هود) وقد نصب الله لنزول العذاب علما وهو أن يفور الماء من التنّور (سورتا هود و المؤمنون).

نزول العذاب ومجيئ الطوفان:

حتّى إذا تمّت صنعة الفلك وجاء أمر الله وفار التنّور أوحى الله تعالى إليه أن يحمل في السفينة من كلّ من الحيوان زوجين اثنين وأن يحمل أهله إلّا من سبق عليه القول الإلهىّ بالغرق وهو امرأته الخائنة وابنه الّذى تخلّف عن ركوب السفينة، وأن يحمل الّذين آمنوا (سورتا هود والمؤمنون) فلمّا حملهم وركبوا جميعاً فتح الله أبواب السماء بماء منهمر وفجّر الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر (سورة القمر) وعلا الماء وارتفعت السفينة عليه وهى تسير في موج كالجبال (سورة هود) فأخذ الناس الطوفان وهم ظالمون وقد أمره الله تعالى إذا استوى هو ومن معه على الفلك أن يحمد الله على ما نجّاه من القوم الظالمين وأن يسأله البركة في نزوله فيقول: الحمد لله الّذى نجّانا من القوم الظالمين، ويقول: ربّ أنزلنى منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين.

قضاء الأمر ونزوله ومن معه إلى الأرض:

فلمّا عمّ الطوفان واُغرق الناس (كما يظهر من سورة الصافّات آية ٧٧) أمر الله الأرض أن تبلع ماءها والسماء أن تقلع وغيض الماء واستوت السفينة على جبل الجودىّ وقيل بعداً للقوم الظالمين، واُوحى إلى نوحعليه‌السلام أن اهبط إلى الأرض بسلام منّا وبركات عليك وعلى اُمم ممّن معك فلا يأخذهم بعد هذا طوفان عامّ، ومنهم اُمم سيمتّعهم الله بأمتعة الحياة ثمّ يمسّهم عذاب أليم فخرج هو ومن معه ونزلوا الأرض يعبدون الله بالتوحيد والإسلام، وتوارثت ذرّيّتهعليه‌السلام الأرض

٢٥٨

وجعل الله ذرّيّته هم الباقين (سورتا هود والصافّات).

قصّة ابن نوح الغريق:

كان نوحعليه‌السلام عند ما ركب السفينة لم يركبها واحد من أبنائه، وكان لا يصدّق أباه في أنّ من تخلف عنها فهو غريق لا محالة فرآه أبوه وهو في معزل فناداه: يا بنىّ اركب معنا ولا تكن مع الكافرين فردّ على أبيه قائلا: سآوى إلى جبل يعصمني من الماء قال نوحعليه‌السلام : لا عاصم اليوم من الله إلّا من رحم - يريد أهل السفينة - فلم يلتفت الابن إلى قوله وحال بينهما الموج فكان من المغرقين.

ولم يكن نوحعليه‌السلام يعلم منه إبطان الكفر كما كان يعلم ذلك من امرأته ولو كان علم ذلك لم يحزنه أمره وهو القائل في دعائه:( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ) الدعاء نوح: ٢٧ وهو القائل:( فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) الشعراء: ١١٨ وقد مع قوله تعالى فيما أوحى إليه:( وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ) هود: ٣٧.

فوجد نوحعليه‌السلام وحزن فنادى ربّه من وجده قائلاً: ربّ إنّ ابني من أهلى وإنّ وعدك الحقّ وعدتني بإنجاء أهلى وأنت أحكم الحاكمين لا تجور في حكمك ولا تجهل في قضائك، فما الّذى جرى على ابني؟ فأخذته العناية الإلهيّة وحالت بينه وبين أن يصرّح بالسؤال في نجاة ابنه - وهو سؤال لما ليس له به علم - وأوحى الله إليه: يا نوح إنّه ليس من أهلك إنّه عمل غير صالح فإيّاك أن تواجهني فيه بسؤال النجاة فيكون سؤالاً فيما ليس لك به علم إنّى أعظك أن تكون من الجاهلين.

فانكشف الأمر لنوحعليه‌السلام والتجأ إلى ربّه تعالى قائلاً ربّ إنّى أعوذ بك أن أسألك ما ليس لى به علم أسألك أن تشملنى بعنايتك وتستر علىّ بمغفرتك، وتعطف علىّ برحمتك، ولو لا ذلك لكنت من الخاسرين.

٣ - خصائص نوح عليه‌السلام : هوعليه‌السلام أوّل اُولى العزم سادة الأنبياء أرسله الله إلى عامّة البشر بكتاب وشريعة فكتابه أوّل الكتب السماويّة المشتملة

٢٥٩

على شرائع الله، وشريعته أوّل الشرائع الإلهيّة.

وهوعليه‌السلام الأب الثاني للنسل الحاضر من الإنسان إليه ينتهى أنسابهم والجميع ذرّيّته لقوله تعالى:( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) الصافّات: ٧٧ وهوعليه‌السلام أبو الأنبياء المذكورين في القرآن ما عدا آدم وإدريسعليهما‌السلام قال تعالى:( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ) الصافّات: ٧٨.

وهوعليه‌السلام أوّل من فتح باب التشريع وأتى بكتاب وشريعة وكلّم الناس بمنطق العقل وطريق الاحتجاج مضافاً إلى طريق الوحى فهو الأصل الّذى ينتهى إليه دين التوحيد في العالم فله المنّة على جميع الموحّدين إلى يوم القيامة، ولذلك خصّه الله تعالى بسلام عامّ لم يشاركه فيه أحد غيره فقال عزّ من قائل:( سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ) الصافّات: ٧٩.

وقد اصطفاه الله على العالمين (آل عمران آية ٣٣) وعدّه من المحسنين (الانعام ٨٤ الصافات ٨٠) وسمّاه عبداً شكوراً (أسرى آية ٣) وعدّه من عباده المؤمنين (الصافّات ٨١) وسمّاه عبداً صالحاً (التحريم ١٠).

وآخر ما نقل من دعائه قوله:( رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا ) نوح: ٢٨.

٤ - قصّتهعليه‌السلام في التوراة الحاضرة:

وحدث(١) لمّا ابتدأ الناس يكثرون على الأرض وولد لهم بنات أنّ أبناء الله رأوا بنات الناس أنّهنّ حسنات. فاتّخذوا لأنفسهم نساء من كلّ ما اختاروا. فقال الربّ لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد. لزيغانه هو بشر وتكون أيّامه مائة وعشرين سنة. كان في الأرض طغاة في تلك الأيّام. وبعد ذلك أيضاً إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادا هؤلاء هم الجبابرة الّذين منذ الدهر ذوو اسم.

ورأى الربّ أنّ شرّ الإنسان قد كثر في الأرض. وأنّ كلّ تصوّر أفكار

____________________

(١) الاصحاح السادس من سفر التكوين.

٢٦٠