الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 406

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 117835 / تحميل: 7043
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

حين أمره أن يجمع الناجين معه في السفينة فقال له:( احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ ) .

وكان أهله - غير امرأته - حتّى ابنه هذا مؤمنين به ظاهراً ولو لم يكن ابنه هذا على ما كان يراه نوحعليه‌السلام مؤمناً لم يدعه البتّة إلى ركوب السفينة فهوعليه‌السلام الداعي على الكافرين السائل هلاكهم بقوله:( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) فقد كان يرى ابنه هذا مؤمناً ولم يكن مخالفته لأمر أبيه إذ أمره بركوب السفينة كفرا أو مؤدّيا إلى الكفر وإنّما هي معصية دون الكفر.

ولذلك كلّه قالعليه‌السلام :( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) فذكر وعد ربّه وضمّ إليه أنّ ابنه من أهله - على ما في الكلام من دلالة( رَبِّي ) على الاسترحام، ودلالة الإضافة في( ابْنِي ) على الحجّة في قوله:( مِنْ أَهْلِي ) ودلالة التأكيد بأنّ ولام الجنس في قوله:( وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) على أداء حقّ الإيمان.

وكانت الجملتان:( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) ( وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) ينتجان بانضمام بعضهما إلى بعض الحكم بلزوم نجاة ابنه لكنّهعليه‌السلام لم يأخذ بما ينتجه كلامه من الحكم أدباً في مقام العبوديّة فلا حكم إلّا لله بل سلّم الحكم الحقّ والقضاء الفصل إلى الله سبحانه فقال:( وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ) .

فالمعنى: ربّ إنّ ابني من أهلى، وإنّ وعدك حقّ كلّ الحقّ، وإنّ ذلك يدلّ على أن لا تأخذه بعذاب القوم بالغرق ومع ذلك فالحكم الحقّ إليك فأنت أحكم الحاكمين كأنّهعليه‌السلام يستوضح ما هو حقيقة الأمر ولم يذكر نجاة ابنه ولا زاد على هذا الّذى حكاه الله عنه شيئاً وسيوافيك بيان ذلك.

قوله تعالى: ( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) الخ. بيّن سبحانه لنوحعليه‌السلام وجه الصواب فيما ذكره بقوله:( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ ) الخ، وهو يستوجب به نجاة ابنه فقال تعالى:

٢٤١

( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) فارتفع بذلك أثر حجّته.

والمراد بكونه ليس من أهله - والله أعلم - أنّه ليس من أهله الّذين وعده الله بنجاتهم لأنّ المراد بالأهل في قوله:( وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) الأهل الصالحون، وهو ليس بصالح وإن كان ابنه ومن أهله بمعنى الاختصاص، ولذلك علل قوله:( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) بقوله:( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) .

فإن قلت: لازم ذلك أن يكون امرأته الكافرة من أهله لأنّها إنّما خرجت من الحكم بالاستثناء وهى داخلة موضوعا في قوله:( وَأَهْلَكَ ) ويكون ابنه ليس من أهله وخارجاً موضوعاً لا بالاستثناء وهو بعيد.

قلت: المراد بالأهل في قوله:( وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) هم الأهل بمعنى الاختصاص وبالمستثنى - من سبق عليه القول - غير الصالحين ومصداقه امرأته وابنه هذا، وأمّا الأهل الواقع في قوله هذا:( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) فهم الصالحون من المختصّين بهعليه‌السلام طبقا لما وقع في قوله:( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) فإنّهعليه‌السلام لا يريد بالأهل في قوله هذا غير الصالحين من اُولي الاختصاص وإلّا شمل امرأته وبطلت حجّته فافهم ذلك.

فهذا هو الظاهر من معنى الآية، ويؤيّده بعض ما ورد عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ممّا سيأتي في البحث الروائيّ التالى إن شاء الله.

وذكروا في تفسير الآية معان اُخر:

منها: أنّ المراد أنّه ليس على دينك فكان كفره أخرجه عن أن يكون له أحكام أهله. ونسب إلى جماعة من المفسّرين. وفيه أنّه في نفسه معنى لا بأس به إلّا أنّه غير مستفاد من سياق الآية لأنّ الله سبحانه ينفى عنه الأهليّة بالمعنى الّذى كان يثبتها له به نوحعليه‌السلام ولم يكن نوح يريد بأهليّته أنّه مؤمن غير كافر بل إنّما كان يريد أنّه أهله بمعنى الاختصاص والصلاح وإن كان لازمه الإيمان. اللّهمّ إلّا أن يرجع إلى المعنى المتقدّم.

ومنها: أنّه لم يكن ابنه على الحقيقة وإنّما ولد على فراشه فقال نوح

٢٤٢

عليه‌السلام : إنّه ابني على ظاهر الأمر فأعلمه الله أنّ الأمر على خلاف ذلك، ونبّهه على خيانة امرأته. وينسب إلى الحسن ومجاهد.

وفيه: أنّه على ما فيه من نسبة العار والشين إلى ساحة الأنبياءعليهم‌السلام ، والذوق المكتسب من كلامه تعالى يدفع ذلك عن ساحتهم وينزّه جانبهم عن أمثال هذه الأباطيل، أنّه ليس ممّا يدلّ عليه اللفظ بصراحة ولا ظهور فليس في القصّة إلّا قوله:( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) وليس بظاهر فيما تجرّؤا عليه وقوله في امرأة نوح:( امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا ) التحريم: ١٠ وليس إلّا ظاهراً في أنّهما كانتا كافرتين تواليان أعداء زوجيهما وتسرّان إليهم بأسرارهما وتستنجدانهم عليهما.

ومنها: أنّه كان ابن امرأتهعليه‌السلام وكان ربيبه لا ابنه من صلبه. وفيه أنّه ممّا لا دليل عليه من جهة اللفظ. على أنّه لا يلائم قوله في تعليل أنّه ليس من أهله:( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) ولو كان كذلك كان من حقّ الكلام ان يقال: إنّه ابن المرأة.

على أنّ من المستبعد جدّاً أن لا يكون نوحعليه‌السلام عالما بأنّه ربيبه وليس بابنه حتّى يخاطب ربّه بقوله:( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) أو يكون عالما بذلك ويتكلّم بالمجاز ويحتجّ على ربّه العليم الخبير بذلك فينبّه أنّه ليس ابنه وإنّما هو ربيب.

وقوله:( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) ظاهر السياق أنّ الضمير لابن نوحعليه‌السلام فيكون هو العمل غير الصالح، وعدّه عملاً غير صالح نوع من المبالغة نحو زيد عدل أي ذو عدل، وقولها: فإنّما هي إقبال وإدبار، أي ذات إقبال وإدبار.

فالمعنى: أنّ ابنك هذا ذو عمل غير صالح فليس من أهلك الّذين وعدتك أن أنجيهم. ويؤيّد هذا المعنى قراءة من قرأ:( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) بالفعل الماضي أي عمل عملاً غير صالح.

وذكر بعضهم: أنّ الضمير راجع إلى سؤال نوحعليه‌السلام المفهوم من قوله:( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) أي إنّ سؤالك نجاة ابنك عمل غير صالح لأنّه سؤال لما ليس لك به علم ولا ينبغى لنبىّ أن يخاطب ربّه بمثل ذلك.

٢٤٣

وهو من اسخف التفسير فإنّه معنى لا يلائم شيئاً من الجملتين المكتنفتين به لا قوله:( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) ولا قوله:( فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) وهو ظاهر، ولو كان كذلك كان من حقّ الكلام أن يتقدّم على قوله:( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) ويتّصل بقول نوحعليه‌السلام .

على أنّك عرفت أنّ قول نوحعليه‌السلام :( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) الخ، لا يتضمّن سؤالاً وإنّما كان يسوقه - لو جرى في كلامه - إلى السؤال لكنّ العناية الإلهيّة حالت بينه وبين السؤال.

وقوله:( فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) كأنّ قول نوحعليه‌السلام :( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) في مظنّة أن يسوقه إلى سؤال نجاة ابنه وهو لا يعلم أنّه ليس من أهله فأخذته العناية الإلهيّة، وحال التسديد الغيبيّ بينه وبين السؤال فأدركه النهى بقوله:( فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) بتفريع النهى على ما تقدّم أي فإذ ليس من أهلك لكونه عملاً غير صالح وأنت لا سبيل لك إلى العلم بذلك فإيّاك أن تبادر إلى سؤال نجاته لأنّه سؤال ما ليس لك به علم.

والنهى عن السؤال بغير علم لا يستلزم تحقّق سؤال ذلك منهعليه‌السلام لا مستقلّاً ولا في ضمن قوله:( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) لأنّ النهى عن الشى لا يستلزم الارتكاب قبلاً، وقد قال تعالى:( لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ ) الحجر: ٨٨ فنهى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حبّ الدنيا والافتتان بزينتها وحاشاه عن ذلك.

وإنّما يفتقر النهى في صحّة تعلّقه بفعل مّا أن يكون فعلاً اختياريّاً يمكن أن يبتلى به المكلّف، وما نهى عنه الأنبياءعليهم‌السلام على هذه الصفة وإن كانوا ذوى عصمة إلهيّة وتسديد غيبيّ، فإنّ من العصمة والتسديد أن يراقبهم الله سبحانه في أعمالهم وكلّما اقتربوا ممّا من شأنه أن يزلّ فيه الإنسان نبّههم على وجه الصواب ويدعوهم إلى السداد والتزام طريق العبوديّة، قال تعالى:( وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا )

٢٤٤

أسرى: ٧٥ فأنبأ تعالى أنّه هو الّذى ثبّته ولم يدعه يقترب من الركون إليهم فضلاً عن نفس الركون.

وقال تعالى:( وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) النساء: ١١٣.

ومن الدليل على أنّ النهى -( فَلَا تَسْأَلْنِ ) الخ - نهى عمّا لم يقع بعد قول نوحعليه‌السلام بعد استماع هذا النهى:( رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ) ولو كان سأل شيئاً لقيل: أعوذ بك من سؤالي ذلك ليفيد المصدر المضاف إلى المعمول التحقّق والإرتكاب.

ومن الدليل أيضاً على أنّهعليه‌السلام لم يسأل ذلك تعقيب قوله:( فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) بقوله:( إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) فإنّ معناه: إنّى أنصح لك في القول أن لا تكون بسؤالك ذلك من الجاهلين، ولو كان نوح سأل ذلك لكان من الجاهلين لأنّه سأل ما ليس له به علم.

فإن قلت: إنّه تعالى قال:( أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) أي ممّن استقرّت فيه صفة الجهل، و استقرارها إنّما يكون بالتكرار لا بالمرّة والدفعة، وبذلك يعلم أنّه سأل ما سأل وتحقّق منه الجهل مرّة وإنّما وعظه الله تعالى بما وعظ لئلّا يعود إلى مثله فيتكرّر منه ذلك فيدخل في زمرة الجاهلين.

قلت: زنة الفاعل كجاهل لا تدلّ على الاستقرار والتكرّر وإنّما تفيده الصفة المشبّهة كجهول على ما ذكروه، ويشهد لذلك قوله تعالى في قصّة البقرة:( قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) البقرة: ٦٧، وقوله في قصّة يوسف:( وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ) يوسف: ٣٣ وقوله خطاباً لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) الأنعام: ٣٥.

وأيضاً لو كان المراد من النهى عن السؤال أن لا يتكرّر منه ذلك بعد ما وقع

٢٤٥

مرّة لكان الأنسب أن يصرّح بالنهي عن العود إلى مثله دون النهى عن أصله كما وقع في نظير المورد من قوله تعالى:( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ - إلى أن قال -يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا ) النور: ١٧.

قوله تعالى: ( قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ) لمّا تبيّن لنوحعليه‌السلام أنّه لو ساقه طبع الخطاب الّذى خاطب به ربّه إلى السؤال كان سائلاً ما ليس له به علم وكان من الجاهلين وأنّ عناية الله حالت بينه وبين الهلكة، شكر ربّه فاستعاذ بمغفرته ورحمته عن ذلك السؤال المخسر فقال:( رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ) .

والكلام في الاستعاذة ممّا لم يقع بعد من الاُمور المهلكة والمعاصي الموبقة كالنهي عمّا لم يقع من الذنوب والآثام وقد تقدّم الكلام فيه وقد أمر الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالاستعاذة من الشيطان وهو معصوم لا سبيل للشيطان إليه، قال تعالى:( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ - إلى أن قال -مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ) الناس: ٥ وقال:( وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ ) المؤمنون: ٩٨ والوحى مصون عن مسّ الشياطين كما قال تعالى:( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ ) الجنّ: ٢٨.

وقوله:( وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ) كلام صورته صورة التوبة وحقيقته الشكر على ما أنعم الله عليه من التعليم والتأديب.

أمّا صورة توبته فإنّ في ذلك رجوعاً إلى ربّه تعالى بالاستعاذة ولازمها طلب مغفرة الله ورحمته أي ستره على الإنسان ما فيه زلّته وهلاكته وشمول عنايته لحاله وقد تقدّم في أواخر الجزء السادس من الكتاب بيان أنّ الذنب أعمّ من مخالفة الأمر التشريعيّ بل كلّ وبال وأثر سيّئ الإنسان بوجه، وأنّ المغفرة أعمّ من الستر على المعصية المعروفة عند المتشرّعة بل كلّ ستر إلهىّ يسعد الإنسان ويجمع شمله.

٢٤٦

وأمّا حقيقة الشكر فإنّ العناية الإلهيّة الّتى حالت بينه وبين السؤال الّذى كان يوجب دخوله في زمرة الجاهلين وعصمته ببيان وجه الصواب كانت سترا إلهيّا على زلّة في طريقه ورحمة ونعمة أنعم الله سبحانه بها عليه فقولهعليه‌السلام :( وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ) أي إن لم تعذنى من الزلّات لخسرت، ثناء وشكر لصنعه الجميل.

قوله تعالى: ( قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ) الخ، السلام هو السلامة أو التحيّة غير أنّ ذكر مسّ العذاب في آخر الآية يؤيّد كون المراد به في صدرها السلامة من العذاب وكذا تبديل البركة في آخر الآية إلى التمتيع يدلّ على أنّ المراد بالبركات ليس مطلق النعم وأمتعة الحياة بل النعم من حيث تسوق الإنسان إلى الخير والسعادة والعاقبة المحمودة.

فقوله:( قِيلَ - ولم يذكر القائل وهو الله سبحانه للتعظيم -يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ ) معناه - والله أعلم - يا نوح انزل مع سلامة من العذاب - الطوفان - ونعم ذوات بركات وخيرات نازلة منّا عليك، أو انزل بتحيّة وبركات نازلة منّا عليك.

وقوله:( وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ) معطوف على قوله:( عَلَيْكَ ) وتنكير اُمم يدلّ على تبعيضهم لأنّ من الاُمم من يذكره تعالى بعد في قوله:( وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ) .

والخطاب أعنى قوله تعالى:( ي يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ ) إلى آخر الآية بالنظر إلى ظرف صدوره وليس وقتئذ متنفّس على وجه الأرض من إنسان أو حيوان وقد اُغرقوا جميعاً ولم يبق منهم إلّا جماعة قليلة في السفينة وقد رست واستوت على الجودىّ، وقد قضى أن ينزلوا إلى الأرض فيعمروها ويعيشوا فيها إلى حين.

خطاب عامّ شامل للبشر من لدن خروجهم منها إلى يوم القيامة نظير ما صدر من الخطاب الإلهىّ يوم اُهبط آدمعليه‌السلام من الجنّة إلى الأرض وقد حكاه الله تعالى في موضع بقوله:( وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ

٢٤٧

وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ - إلى أن قال -قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) البقرة: ٣٩ وفي موضع آخر بقوله:( قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) الأعراف: ٢٥.

وهذا الخطاب خطاب ثان مشابه لذاك الخطاب الأوّل موجّه الى نوحعليه‌السلام ومن معه من المؤمنين - وإليهم ينتهى نسل البشر اليوم - متعلّق بهم وبمن يلحق بهم من ذراريهم إلى يوم القيامة، وهو يتضمّن تقدير حياتهم الأرضيّة والإذن في نزولهم إليها واستقرارهم فيها وإيوائهم إيّاها.

وقد قسّم الله هؤلاء المأذون لهم قسمين فعبّر عن إذنه لطائفة منهم بالسلام والبركات وهم نوحعليه‌السلام واُمم ممّن معه، ولطائفة اُخرى بالتمتيع، وعقّب التمتيع بمسّ العذاب لهم كما أنّ كلمتي السلام والبركات لا تخلوان من بشرى الخير والسعادة بالنسبة إلى من تعلّقتا به.

فقد بان من ذلك أنّ الخطاب بالهبوط في هذه الآية مع ما يرتبط به من سلام وبركات وتمتيع موجّه إلى عامّة البشر من حين هبوط أصحاب السفينة إلى يوم القيامة، ووزانه وزان خطاب الهبوط الموجّه إلى آدم وزوجتهعليهما‌السلام ، وفي هذا الخطاب إذن في الحياة الأرضيّة ووعد لمن أطاع الله سبحانه ووعيد لمن عصاه كما أنّ في ذلك الخطاب ذلك طابق النعل بالنعل.

وظهر بذلك أنّ المراد بقوله:( وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ) الاُمم الصالحون من أصحاب السفينة ومن سيظهر من نسلهم من الصالحين، والظاهر على هذا أن يكون( مَّن ) في قوله:( ٍ مِّمَّن مَّعَكَ ) ابتدائيّة لا بيانيّة، والمعنى وعلى اُمم يبتدى تكونهم ممّن معك، وهم أصحاب السفينة والصالحون من نسلهم.

وظاهر هذا المعنى أن يكون أصحاب السفينة كلّهم سعداء ناجين، والاعتبار يساعد ذلك فإنّهم قد محّصوا بالبلاء تمحيصا وآثروا ما عند الله من زلفى وقد صدّق الله سبحانه إيمانهم مرّتين في أثناء القصّة حيث قال عزّ من قائل:( إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ )

٢٤٨

آية: ٣٦ من السورة، وقال:( وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ) آية: ٤٠ من السورة.

وقوله:( وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) كأنّه مبتدء لخبر محذوف والتقدير: وممّن معك اُمم أو وهناك اُمم سنمتّعهم الخ، وقد أخرجهم الله سبحانه من زمرة المخاطبين بخطاب الإذن فلم يقل: ومتاع لاُمم آخرين سيعذّبون طرداً لهم من موقف الكرامة، فأخبر أنّ هناك اُمما آخرين سنمتّعهم ثمّ نعذّبهم وهم غير مأذون لهم في التصرّف في أمتعة الحياة إذن كرامة وزلفى.

وفي الآية جهات من تعظيم القائل لا تخفى كالبناء للمفعول في( قِيلَ ) وتخصيص نوحعليه‌السلام بخطاب الهبوط والتكلّم مع الغير في قوله:( مِّنَّا ) في موضعين( سَنُمَتِّعُهُمْ ) وغير ذلك.

وظهر أيضاً: أنّ ما فسّروا به قوله:( عَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ) أنّ معناه: على اُمم من ذرّيّة من معك ليس على ما ينبغى مع ما فيه من خروج من معه من الخطاب وكذا قول من قال: يعنى بالاُمم سائر الحيوان الّذين كانوا معه لأنّ الله جعل فيهم البركة. وفساده أظهر.

قوله تعالى: ( تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ) أي هذه القصص أو هذه القصّة من أنباء الغيب نوحيها إليك.

وقوله:( ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا) أي كانت وهى على محوضة الصدق والصحّة مجهولة لك ولقومك من قبل هذا، والّذى عند أهل الكتاب منها محرّف مقلوب عن وجه الصواب كما سيوافيك ما في التوراة الحاضرة من قصّتهعليه‌السلام .

وقوله:( فَاصْبِرْإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) أمر منتزع عن تفصيل القصّة أي إذا علمت ما آل إليه أمر نوحعليه‌السلام وقومه من هلاك قومه ونجاته ونجاة من معه من المؤمنين وقد ورّثهم الله الأرض على ما صبروا، ونصر نوحاً على أعدائه على ما صبر فاصبر على الحقّ فإنّ العاقبة للمتّقين، وهم الصابرون في جنب الله سبحانه.

٢٤٩

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عبّاس قال: إنّ نوحاًعليه‌السلام كان يضرب ثمّ يلفّ في لبد فيلقى في بيته يرون أنّه قد مات ثمّ يخرج فيدعوهم حتّى إذا أيس من إيمان قومه جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكّأ على عصا فقال: يا بنىّ اُنظر هذا الشيخ لا يغرّنّك قال: يا أبت أمكنّى من العصا ثمّ أخذ العصا ثمّ قال: ضعني في الأرض فوضعه فمشى إليه فضربه فشجّه موضحة في رأسه وسالت الدماء.

قال نوحعليه‌السلام : ربّ قد ترى ما يفعل بى عبادك فإن يكن لك في عبادك حاجة فاهدهم، وإن يكن غير ذلك فصبّرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين فأوحى الله إليه وآيسه من إيمان قومه وأخبره أنّه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن قال: يا نوح إنّه لن يؤمن من قومك إلّا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون يعنى لا تحزن عليهم واصنع الفلك. قال: يا ربّ وما الفلك؟ قال: بيت من خشب يجرى على وجه الماء فاُغرق أهل معصيتى واُطهّر أرضى منهم. قال: يا ربّ وأين الماء؟ قال: إنّى على ما أشاء قدير.

وفي الكافي بإسناده عن المفضّل قال: كنت عند أبى عبداللهعليه‌السلام بالكوفة أيّام قدم على أبى العبّاس فلمّا انتهينا إلى الكناسة قال: ههنا صلب عمّى زيد رحمه الله، ثمّ مضى حتّى انتهى إلى طاق الزيّاتين وهو آخر السرّاجين فنزل وقال: انزل فإنّ هذا الموضع كان مسجد الكوفة الأوّل الّذى كان خطّه آدم وأنا أكره أن أدخله راكبا. قلت: فمن غيّره عن خطّته؟ قال: أمّا أوّل ذلك فالطوفان في زمن نوح ثمّ غيّره أصحاب كسرى والنعمان ثمّ غيّره بعد زياد بن أبى سفيان فقلت: وكانت الكوفة ومسجدها في زمن نوح؟ فقال لى: نعم يا مفضّل وكان منزل نوح وقومه في قرية على منزل من الفرات ممّا يلى غربيّ الكوفة.

٢٥٠

قال: وكان نوح رجلاً نجّاراً فجعله الله عزّوجلّ نبيّاً وانتجبه، ونوح أوّل من عمل سفينة تجرى على ظهر الماء. قال: ولبث نوح في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما يدعوهم إلى الله عزّوجلّ فيهزؤن به ويسخرون منه فلمّا رأى ذلك منهم دعا عليهم فقال: ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا إنّك إن تذرهم يضلّوا عبادك ولا يلدوا إلّا فاجراً كفّاراً، فأوحى الله عزّوجلّ إلى نوح أن اصنع سفينة وأوسعها وعجّل عملها فعمل نوح سفينة في مسجد الكوفة بيده، فأتى بالخشب من بعد حتّى فرغ منها.

قال المفضّل: ثمّ انقطع حديث أبى عبداللهعليه‌السلام عند زوال الشمس فقام أبوعبداللهعليه‌السلام فصلّى الظهر والعصر ثمّ انصرف من المسجد فالتفت عن يساره وأشار بيده إلى موضع دار الدارين وهى موضع دار ابن حكيم وذلك فرات اليوم فقال: يا مفضّل وههنا نصبت أصنام قوم نوح: يغوث ويعوق ونسر. ثم مضى حتّى ركب دابّته.

فقلت: جعلت فداك في كم عمل نوح سفينته؟ قال: في دورين. قلت: وكم الدوران؟ قال: ثمانين(١) سنة. قلت: فإنّ العامّة يقولون عملها في خمس مائة سنة؟ فقال: كلّا. كيف؟ والله يقول:( وَوَحْيِنَا ) قال: قلت: فأخبرني عن قول الله عزّوجلّ:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ) فأين كان موضعه؟ وكيف كان؟ فقال: كان التنّور في بيت عجوز مؤمنة في دبر قبلة ميمنة المسجد. قلت له: فأين ذلك؟ قال: موضع زاوية باب الفيل اليوم. ثمّ قلت له: وكان بدؤ خروج الماء من ذلك التنّور؟ فقال: نعم إنّ الله عزّوجلّ أحبّ أن يرى قوم نوح آية ثمّ إنّ الله تبارك وتعالى أرسل عليهم المطر يفيض فيضاً والعيون كلّهنّ فيضاً فغرقهم الله وأنجا نوحا ومن معه في السفينة - الحديث.

أقول: والرواية على طولها غير متعلّقة بالتفسير غير أنّا أوردناها لتكون كالاُنموذجة من روايات كثيرة وردت في هذه المعاني من طرق الشيعة وأهل السنّة

____________________

(١) ثمانون ظ.

٢٥١

ولتكون عونا لفهم قصص الآيات من طريق الروايات.

وفي الرواية استفادة التعجيل في صنع السفينة من قوله تعالى:( وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ) الآية، وفي الرواية نسبة زياد إلى أبى سفيان ولعلّ الوارد في لفظ الإمام (زياد) فاُضيف إليه (ابن أبى سفيان) في لفظ بعض الرواة.

وفيه بإسناده عن أبى رزين الأسديّ عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام قال: إنّ نوحاعليه‌السلام لمّا فرغ من السفينة وكان ميعاده فيما بينه وبين ربّه في إهلاك قومه أن يفور التنّور ففار التنّور في بيت امرأة فقالت: إنّ التنّور قد فار فقام إليه فختمه فقام الماء وأدخل من أراد أن يدخل وأخرج من أراد أن يخرج ثمّ جاء إلى خاتمه فنزعه، يقول الله عزّوجلّ: ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجّرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر.

قال: وكان نجره في وسط مسجدكم. ولقد نقص عن ذرعه سبعمائة ذراع.

أقول: وكون فوران التنّور علامة لهعليه‌السلام يعلم به اقتراب الطوفان من الوقوع واقع في عدّة من روايات الخاصّة والعامّة وسياق الآية:( إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ ) الآية، لا يخلو من ظهور في كونه ميعادا.

وفيه بإسناده عن إسماعيل الجعفيّ عن أبى جعفرعليه‌السلام قال: كان شريعة نوح أن يعبدالله بالتوحيد والإخلاص وخلع الأنداد وهى الفطرة الّتى فطر الناس عليها وأخذ الله ميثاقه على نوح والنبيّين أن يعبدوا الله تبارك وتعالى ولا يشركوا به شيئاً واُمر بالصلاة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والحلال والحرام، ولم يفرض عليه أحكام حدود ولا فرائض مواريث فهذه شريعته. فلبث فيهم نوح ألف سنة إلّا خمسين عاماً يدعوهم سرّاً وعلانية فلمّا أبوا وعتوا قال:( رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ) فأوحى الله عزّوجلّ إليه:( لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) فذلك قول نوح:( وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ) فأوحى الله إليه: أن أصنع الفلك.

أقول: ورواه العيّاشيّ عن الجعفيّ مرسلاً وظاهر الرواية أنّ لهعليه‌السلام دعاءين

٢٥٢

على قومه أحدهما وهو أوّلهما قوله:( رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ) الواقع في سورة القمر، وثانيهما بعد ما أيأسه الله من إيمان قومه وهو قوله:( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ) الواقع في سورة نوح.

وفي معاني الأخبار بإسناده عن حمران عن أبى جعفرعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ( وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌٌ ) قال: كانوا ثمانية.

أقول: ورواه العيّاشيّ أيضاً عن حمران عنهعليه‌السلام ، وللناس في عددهم أقوال اُخر: ستّة أو سبعة أو عشرة أو اثنان وسبعون أو ثمانون ولا دليل على شئ منها.

وفي العيون بإسناده عن عبد السلام بن صالح الهرويّ قال: قال الرضاعليه‌السلام لمّا هبط نوح إلى الأرض كان نوح وولده ومن تبعه ثمانين نفسا فبنى حيث نزل قرية فسمّاها قرية الثمانين.

أقول: ولا تنافى بين الروايتين لجواز كون ما عدا الثمانية من أهل نوحعليه‌السلام وقد عمّر ما يقرب من ألف سنة يومئذ.

وفيه بإسناده عن الحسن بن علىّ الوشّاء عن الرضاعليه‌السلام قال: سمعته يقول: قال أبى: قال أبو عبداللهعليه‌السلام : إنّ الله عزّوجلّ قال لنوح:( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) لأنّه كان مخالفاً له، وجعل من اتّبعه من أهله.

قال: وسألني كيف يقرؤن هذه الآية في ابن نوح؟ فقلت: يقرؤها الناس على وجهين: إنّه عملٌ غيرُ صالح، وإنّه عملَ غيرَ صالح. فقال: كذبوا هو ابنه ولكنّ الله نفاه عنه حين خالفه في دينه.

أقول: ولعلّهعليه‌السلام يشير بقوله:( وجعل من اتّبعه من أهله) إلى قوله تعالى( فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) الأنبياء: ٧٦. فإنّ الظاهر أنّ المراد بأهله جميع من نجا معه.

وكأنّ المراد من قراءة الآية تفسيرها والراوي يشير بايراد القراءتين إلى تفسير من فسّر الآية بأنّ المراد أنّ امرأة نوح حملت الإبن من غيره فألحقه بفراشه

٢٥٣

ولذلك قرأ بعضهم:( وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهاُ ) أو( وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهاُ ) بفتح الهاء مخفّف ابنها ونسبوا القراءتين إلى علىّ وبعض الأئمّة من ولدهعليهم‌السلام .

قال في الكشّاف: وقرأ علىّ رضى الله عنه( ابْنَهاُ ) والضمير لامرأته، وقرأ محمّد بن علىّ وعروة بن الزبير( ابْنَهاُ ) بفتح الهاء يريدان( ابْنَهُا ) فاكتفيا بالفتحة عن الألف وبه ينصر مذهب الحسن قال قتادة: سألته فقال: والله ما كان ابنه فقلت: إنّ الله حكى عنه( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) وأنت تقول: لم يكن ابنه، وأهل الكتاب لا يختلفون أنّه كان ابنه ! فقال: ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب؟ واستدلّ بقوله من أهلي ولم يقل: منّى. انتهى.

واستدلاله بما استدلّ به سخيف فإنّ الله وعده بنجاة أهله ولم يعده بنجاة من كان منه حتّى يضطرّ إلى قول: إنّ ابني منّى عند سؤال نجاته، وقد تقدّم بيان أنّ لفظ الآيات لا يلائم هذا الوجه.

وما ذكر من عدم الخلاف بين أهل الكتاب منظور فيه فإنّ التوراة ساكتة عن قصّة ابن نوح هذا الغريق.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن الأنباريّ في المصاحف وأبوالشيخ عن علىّ رضى الله عنه أنّه قرأ:( وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهاُ ) .

وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبوالشيخ عن أبى جعفر محمّد ابن علىّ في قوله:( وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ ) قال هي بلغة طئ لم يكن ابنه وكان ابن امرأته.

أقول: ورواه العيّاشيّ في تفسيره عن محمّد بن مسلم عنهعليه‌السلام .

وفي تفسير العيّاشيّ عن موسى عن العلاء بن سيابة عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ ) قال ليس بابنه إنّما هو ابن امرأته وهى لغة طئ يقولون لابن امرأته: ابنه. الحديث.

وفيه عن زرارة عن أبى جعفرعليه‌السلام في قول نوح:( يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا ) قال: ليس بابنه. قال: قلت: إنّ نوحا قال: يا بنىّ؟ قال: فإنّ نوحاً قال ذلك وهو لا يعلم.

٢٥٤

أقول: والمعتمد ما تقدّم من رواية الوشّاء عن الرضاعليه‌السلام .

وفيه عن إبراهيم بن أبى العلاء عن أحدهماعليهما‌السلام قال: لمّا قال الله:( يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي ) قالت الأرض: إنّما اُمرت أن أبلع مائى أنا فقطّ، ولم اُؤمر أن أبلع ماء السماء فبلعت الأرض ماءها وبقى ماء السماء فصيّر بحراً حول الدنيا.

وفيه عن أبى بصير عن أبى الحسن موسىعليه‌السلام في حديث ذكر فيه الجودىّ قال: وهو جبل بالموصل.

وفيه عن المفضّل بن عمر عن أبى عبداللهعليه‌السلام ( وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ) هو فرات الكوفة.

أقول: ويؤيّد الرواية السابقة روايات اُخر.

وفيه عن عبد الحميد بن أبى الديلم عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: لمّا ركب نوحعليه‌السلام في السفينة قيل: بعداً للقوم الظالمين.

وفي المجمع في قوله تعالى:( قِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ ) الآية، قال: ويروى أنّ كفّار قريش أرادوا أن يتعاطوا معارضة القرآن فعكفوا على لباب البرّ ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوماً لتصفو أذهانهم فلمّا أخذوا فيما أرادوا سمعوا هذه الآية فقال بعضهم لبعض: هذا كلام لا يشبهه شئ من الكلام، ولا يشبه كلام المخلوقين وتركوا ما أخذوا فيه وافترقوا.

( أبحاث حول قصّة نوح في فصول وهى أبحاث قرآنيّة وروائيّة)

( وتاريخيّة وفلسفيّة)

١ - الإشارة إلى قصّته: ذكر اسمهعليه‌السلام في القرآن في بضع وأربعين موضعا يشار فيها إلى شئ من قصّته إجمالاً أو تفصيلاً، ولم تستوف قصّتهعليه‌السلام في شئ منها استيفاء على نهج الاقتصاص التاريخيّ بذكر نسبه وبيته ومولده ومسكنه ونشوئه وشغله وعمره ووفاته ومدفنه وسائر ما يتعلّق بحياته الشخصيّة لما أنّ

٢٥٥

القرآن لم ينزل كتاب تاريخ يقتصّ تواريخ الناس من برّ أو فاجر.

وإنّما هو كتاب هداية يصف للناس ما فيه سعادتهم، ويبيّن لهم الحقّ الصريح ليأخذوا به فيفوزوا في حياتهم الدنيا والآخرة، وربّما أشار إلى طرف من قصص الأنبياء والاُمم لتظهر به سنّة الله في عباده، ويعتبر به من شملته العناية ووفّق للكرامة، وتتمّ به الحجّة على الباقين.

وقد فصّلت قصّة نوحعليه‌السلام في ستّ من السور القرآنيّة وهى سورة الأعراف وسورة هود، وسورة المؤمنون، وسورة الشعراء، وسورة القمر، وسورة نوح وأكثرها تفصيلاً سورة هود الّتى ذكرت قصّتهعليه‌السلام فيها في خمس وعشرين آية (٢٥ - ٤٩).

٢ - قصّتهعليه‌السلام في القرآن.

بعثه وارساله:

كان الناس بعد آدمعليه‌السلام يعيشون اُمّة واحدة على بساطة وسذاجة، وهم على الفطرة الإنسانيّة حتّى فشا فيهم روح الاستكبار وآل إلى استعلاء البعض على البعض تدريجا واتّخاذ بعضهم بعضا أربابا وهذه هي النواة الأصليّة الّتى لو نشأت واخضرّت وأينعت لم تثمر إلّا دين الوثنيّة والاختلاف الشديد بين الطبقات الاجتماعيّة باستخدام القوىّ للضعيف، واسترقاق العزيز واستدراره للذليل، وحدوث المنازعات والمشاجرات بين الناس.

فشاع في زمن نوحعليه‌السلام الفساد في الأرض، وأعرض الناس عن دين التوحيد وعن سنّة العدل الاجتماعيّ وأقبلوا على عبادة الأصنام، وقد سمّى الله سبحانه منها ودّا وسواعاً ويغوث ويعوق ونسرا (سورة نوح).

وتباعدت الطبقات فصار الأقوياء بالأموال والأولاد يضيعون حقوق الضعفاء الجبابرة يستضعفون من دونهم ويحكمون عليهم بما تهواه أنفسهم (الأعراف هود - نوح).

فبعث الله نوحاًعليه‌السلام وأرسله إليهم بالكتاب و الشريعة يدعوهم إلى توحيد

٢٥٦

الله سبحانه وخلع الأنداد والمساواة فيما بينهم (البقرة آية ٢١٣) بالتبشير والإنذار.

دينه وشريعتهعليه‌السلام :

كانعليه‌السلام يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه ورفض الشركاء (كما يظهر من جميع قصصه القرآنيّة) والإسلام لله (كما يظهر من سورتي نوح ويونس وسورة آل عمران آية ١٩) والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر (كما يظهر من سورة هود آية ٢٧) والصلاة (كما يظهر من آية ١٠٣ من سورة النساء وآية ٨ من سورة الشورى) والمساواة والعدالة وأن لا يقربوا الفواحش والمنكرات وصدق الحديث والوفاء بالعهد (سورة الأنعام آية ١٥١ - ١٥٢) وهوعليه‌السلام أوّل من حكى عنه في القرآن التسمية باسم الله في الاُمور الهامّة (سورة هود آية ٤١).

اجتهادهعليه‌السلام في دعوته:

وكانعليه‌السلام يدعو قومه إلى الإيمان بالله وآياته، ويبذل في ذلك غاية وسعه فيندبهم إلى الحقّ ليلاً ونهاراً وإعلانا وإسرارا فلا يجيبونه إلّا بالعناد والاستكبار وكلّما زاد في دعائهم زادوا في عتوهّم وكفرهم، ولم يؤمن به غير أهله وعدّة قليلة من غيرهم حتّى أيس من إيمانهم وشكا ذلك إلى ربّه وطلب منه النصر (سورة نوح والقمر والمؤمنون).

لبثه في قومه:

لبثعليه‌السلام في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما يدعوهم إلى الله سبحانه فلم يجيبوه إلّا بالهزء والسخريّة ورميه بالجنون وأنّه يقصد به أن يتفضّل عليهم حتّى استنصر ربّه (سورة العنكبوت) فأوحى إليه ربّه أنّه لن يؤمن من قومه إلّا من قد آمن وعزّاه فيهم (سورة هود) فدعا عليهم بالتبار والهلاك، وأن يطهّر الله الأرض منهم عن آخرهم (سورة نوح) فأوحى الله إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا (سورة هود).

٢٥٧

صنعهعليه‌السلام الفلك:

أمره الله تعالى أن يصنع الفلك بتأييده سبحانه وتسديده فأخذ في صنعها وكان القوم يمرّون عليه طائفة بعد طائفة فيسخرون منه وهو يصنعها على بسيط الأرض من غير ماء، ويقولعليه‌السلام : إن تسخروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم (سورة هود) وقد نصب الله لنزول العذاب علما وهو أن يفور الماء من التنّور (سورتا هود و المؤمنون).

نزول العذاب ومجيئ الطوفان:

حتّى إذا تمّت صنعة الفلك وجاء أمر الله وفار التنّور أوحى الله تعالى إليه أن يحمل في السفينة من كلّ من الحيوان زوجين اثنين وأن يحمل أهله إلّا من سبق عليه القول الإلهىّ بالغرق وهو امرأته الخائنة وابنه الّذى تخلّف عن ركوب السفينة، وأن يحمل الّذين آمنوا (سورتا هود والمؤمنون) فلمّا حملهم وركبوا جميعاً فتح الله أبواب السماء بماء منهمر وفجّر الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر (سورة القمر) وعلا الماء وارتفعت السفينة عليه وهى تسير في موج كالجبال (سورة هود) فأخذ الناس الطوفان وهم ظالمون وقد أمره الله تعالى إذا استوى هو ومن معه على الفلك أن يحمد الله على ما نجّاه من القوم الظالمين وأن يسأله البركة في نزوله فيقول: الحمد لله الّذى نجّانا من القوم الظالمين، ويقول: ربّ أنزلنى منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين.

قضاء الأمر ونزوله ومن معه إلى الأرض:

فلمّا عمّ الطوفان واُغرق الناس (كما يظهر من سورة الصافّات آية ٧٧) أمر الله الأرض أن تبلع ماءها والسماء أن تقلع وغيض الماء واستوت السفينة على جبل الجودىّ وقيل بعداً للقوم الظالمين، واُوحى إلى نوحعليه‌السلام أن اهبط إلى الأرض بسلام منّا وبركات عليك وعلى اُمم ممّن معك فلا يأخذهم بعد هذا طوفان عامّ، ومنهم اُمم سيمتّعهم الله بأمتعة الحياة ثمّ يمسّهم عذاب أليم فخرج هو ومن معه ونزلوا الأرض يعبدون الله بالتوحيد والإسلام، وتوارثت ذرّيّتهعليه‌السلام الأرض

٢٥٨

وجعل الله ذرّيّته هم الباقين (سورتا هود والصافّات).

قصّة ابن نوح الغريق:

كان نوحعليه‌السلام عند ما ركب السفينة لم يركبها واحد من أبنائه، وكان لا يصدّق أباه في أنّ من تخلف عنها فهو غريق لا محالة فرآه أبوه وهو في معزل فناداه: يا بنىّ اركب معنا ولا تكن مع الكافرين فردّ على أبيه قائلا: سآوى إلى جبل يعصمني من الماء قال نوحعليه‌السلام : لا عاصم اليوم من الله إلّا من رحم - يريد أهل السفينة - فلم يلتفت الابن إلى قوله وحال بينهما الموج فكان من المغرقين.

ولم يكن نوحعليه‌السلام يعلم منه إبطان الكفر كما كان يعلم ذلك من امرأته ولو كان علم ذلك لم يحزنه أمره وهو القائل في دعائه:( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ) الدعاء نوح: ٢٧ وهو القائل:( فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) الشعراء: ١١٨ وقد مع قوله تعالى فيما أوحى إليه:( وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ) هود: ٣٧.

فوجد نوحعليه‌السلام وحزن فنادى ربّه من وجده قائلاً: ربّ إنّ ابني من أهلى وإنّ وعدك الحقّ وعدتني بإنجاء أهلى وأنت أحكم الحاكمين لا تجور في حكمك ولا تجهل في قضائك، فما الّذى جرى على ابني؟ فأخذته العناية الإلهيّة وحالت بينه وبين أن يصرّح بالسؤال في نجاة ابنه - وهو سؤال لما ليس له به علم - وأوحى الله إليه: يا نوح إنّه ليس من أهلك إنّه عمل غير صالح فإيّاك أن تواجهني فيه بسؤال النجاة فيكون سؤالاً فيما ليس لك به علم إنّى أعظك أن تكون من الجاهلين.

فانكشف الأمر لنوحعليه‌السلام والتجأ إلى ربّه تعالى قائلاً ربّ إنّى أعوذ بك أن أسألك ما ليس لى به علم أسألك أن تشملنى بعنايتك وتستر علىّ بمغفرتك، وتعطف علىّ برحمتك، ولو لا ذلك لكنت من الخاسرين.

٣ - خصائص نوح عليه‌السلام : هوعليه‌السلام أوّل اُولى العزم سادة الأنبياء أرسله الله إلى عامّة البشر بكتاب وشريعة فكتابه أوّل الكتب السماويّة المشتملة

٢٥٩

على شرائع الله، وشريعته أوّل الشرائع الإلهيّة.

وهوعليه‌السلام الأب الثاني للنسل الحاضر من الإنسان إليه ينتهى أنسابهم والجميع ذرّيّته لقوله تعالى:( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) الصافّات: ٧٧ وهوعليه‌السلام أبو الأنبياء المذكورين في القرآن ما عدا آدم وإدريسعليهما‌السلام قال تعالى:( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ) الصافّات: ٧٨.

وهوعليه‌السلام أوّل من فتح باب التشريع وأتى بكتاب وشريعة وكلّم الناس بمنطق العقل وطريق الاحتجاج مضافاً إلى طريق الوحى فهو الأصل الّذى ينتهى إليه دين التوحيد في العالم فله المنّة على جميع الموحّدين إلى يوم القيامة، ولذلك خصّه الله تعالى بسلام عامّ لم يشاركه فيه أحد غيره فقال عزّ من قائل:( سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ) الصافّات: ٧٩.

وقد اصطفاه الله على العالمين (آل عمران آية ٣٣) وعدّه من المحسنين (الانعام ٨٤ الصافات ٨٠) وسمّاه عبداً شكوراً (أسرى آية ٣) وعدّه من عباده المؤمنين (الصافّات ٨١) وسمّاه عبداً صالحاً (التحريم ١٠).

وآخر ما نقل من دعائه قوله:( رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا ) نوح: ٢٨.

٤ - قصّتهعليه‌السلام في التوراة الحاضرة:

وحدث(١) لمّا ابتدأ الناس يكثرون على الأرض وولد لهم بنات أنّ أبناء الله رأوا بنات الناس أنّهنّ حسنات. فاتّخذوا لأنفسهم نساء من كلّ ما اختاروا. فقال الربّ لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد. لزيغانه هو بشر وتكون أيّامه مائة وعشرين سنة. كان في الأرض طغاة في تلك الأيّام. وبعد ذلك أيضاً إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادا هؤلاء هم الجبابرة الّذين منذ الدهر ذوو اسم.

ورأى الربّ أنّ شرّ الإنسان قد كثر في الأرض. وأنّ كلّ تصوّر أفكار

____________________

(١) الاصحاح السادس من سفر التكوين.

٢٦٠

قلبه إنّما هو شرّ ير كلّ يوم. فحزن الربّ أنّه عمل الإنسان في الأرض. وتأسّف في قلبه. فقال الربّ: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الّذى خلقته. الإنسان مع بهائم ودبّابات وطيور السماء. لأنّى حزنت أنّى عملتهم. وأمّا نوح فوجد نعمة في عين الربّ.

هذه مواليد نوح. كان نوح رجلاً بارّاً كاملاً في أجياله - وسار نوح مع الله. وولد نوح ثلاثة بنين ساما وحاما ويافث. وفسدت الأرض أمام الله وامتلأت الأرض ظلما. ورأى الله الأرض فإذا هي قد فسدت. إذ كان كلّ بشر قد أفسد طريقه على الأرض.

فقال الله لنوح نهاية كلّ بشر قد أتت أمامى. لأنّ الأرض امتلأت ظلما منهم. فها أنا مهلكهم مع الأرض. اصنع لنفسك فلكا من خشب جفر، تجعل الفلك مساكن. وتطليه من داخل ومن خارج بالقار. وهكذا تصنعه. ثلاث مائة ذراع يكون طول الفلك وخمسين ذراعاً عرضه وثلاثين ذراعاً ارتفاعه. وتصنع كوّاً للفلك وتكمّله إلى حدّ ذراع من فوق. وتضع باب الفلك في جانبه. مساكن سفليّة ومتوسّطة وعلويّة تجعله. فها أنا آت بطوفان الماء على الأرض لاُهلك كلّ جسد فيه روح حياة من تحت السماء. كلّ ما في الأرض يموت. ولكن اُقيم عهدي معك. فتدخل الفلك أنت وبنوك امرأتك ونساء بنيك معك. ومن كلّ حىّ من كلّ ذى جسد اثنين من كلّ تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك. تكون ذكرا واُنثى. من الطيور كأجناسها. ومن البهائم كأجناسها ومن كلّ دبّابات الأرض كأجناسها. اثنين من كلّ تدخل إليك لاستبقائها. وأنت فخذ لنفسك من كلّ طعام يؤكل واجمعه عندك. فيكون لك ولها طعاماً. ففعل نوح حسب كلّ ما أمره به الله. هكذا فعل.

وقال(١) الربّ لنوح: ادخل أنت وجميع بنيك إلى الفلك. لأنّى إيّاك

____________________

(١) الاصحاح السابع من سفر التكوين.

٢٦١

رأيت بارّا لدىّ في هذا الجيل. من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكرا واُنثى. ومن البهائم الّتى ليست بطاهرة اثنين ذكر واُنثى. ومن طيور السماء أيضاً سبعة سبعة ذكرا واُنثى. لاستبقاء نسل على وجه كلّ الأرض. لأنّى بعد سبعة أيّام أيضاً أمطر على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة. وأمحو عن وجه الأرض كلّ قائم عملته. ففعل نوح حسب كلّ ما أمره به الربّ.

ولمّا كان نوح ابن ستّمائة سنة صار طوفان الماء على الأرض. فدخل نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه إلى الفلك من وجه مياه الطوفان. ومن البهائم الطاهرة والبهائم الّتى ليست بطاهرة ومن الطيور وكلّ ما يدبّ على الأرض. دخل اثنان اثنان إلى نوح إلى الفلك ذكر واُنثى. كما أمر الله نوحاً.

وحدث بعد السبعة الأيّام أنّ مياه الطوفان صارت على الأرض. في سنة ستّمائة من حياة نوح في الشهر الثاني في اليوم السابع عشر من الشهر في ذلك اليوم انفجرت كلّ ينابيع الغمر العظيم وانفتحت طاقات السماء. وكان المطر على الأرض أربعين يوماً وأبعين ليلة. في ذلك اليوم عينه دخل نوح وسام وحام ويافث بنو نوح وامرأة نوح وثلاث نساء بنيه معهم إلى الفلك. هم وكلّ الوحوش كأجناسها وكلّ الدبّابات الّتى تدبّ على الأرض كأجناسها وكلّ الطيور كأجناسها كلّ عصفور ذى جناح. ودخل إلى نوح إلى الفلك اثنين اثنين من كلّ جسد فيه روح حياة. والداخلات دخلت ذكرا واُنثى من كلّ ذى جسد كما أمره الله. وأغلق الربّ عليه.

وكان الطوفان أربعين يوماً على الأرض. وتكاثرت المياه ورفعت الفلك فارتفع عن الأرض. وتعاظمت المياه كثيراً جدّاً على الأرض فكان الفلك يسير على وجه المياه. وتعاظمت المياه كثيراً جدّاً على الأرض فتغطّت جميع الجبال الشامخة الّتى تحت كلّ السماء. خمسة عشرة ذراعاً في الارتفاع تعاظمت المياه فتغطّت الجبال. فمات كلّ ذى جسد كان يدبّ على الأرض من الطيور والبهائم والوحوش وكلّ الزحّافات الّتى كانت تزحف على الأرض وجميع الناس. كلّ ما في أنفه نسمة روح حياة من كلّ ما في اليابسة مات. فمحا الله كلّ قائم كان على وجه الأرض. الناس

٢٦٢

والبهائم والدبّابات وطيور السماء فانمحت من الأرض. وتبقّى نوح والّذين معه في الفلك فقطّ. وتعاظمت المياه على الأرض مائة وخمسين يوماً.

ثم(١) ذكر الله نوحاً وكلّ الوحوش وكلّ البهائم الّتى معه في الفلك وأجاز الله ريحاً على الأرض فهدأت المياه. وانسدّت ينابيع الغمر وطاقات السماء فامتنع المطر من السماء. ورجعت المياه عن الأرض رجوعاً متوالياً وبعد مائة وخمسين يوماً نقصت المياه. واستقرّ الفلك في الشهر السابع في اليوم السابع عشر من الشهر على جبال أراراط. وكانت المياه تنقص نقصا متوالياً إلى الشهر العاشر وفي العاشر في أوّل الشهر ظهرت رؤس الجبال.

وحدث من بعد أربعين يوماً أنّ نوحاً فتح طاقة الفلك الّتى كان قد عملها. وأرسل الغراب فخرج متردّدا حتّى نشفت المياه عن الأرض. ثمّ أرسل الحمامة من عنده ليرى هل قلّت المياه عن وجه الأرض. فلم يجد الحمامة مقرّا لرجلها فرجعت إليه إلى الفلك لأنّ مياها كانت على وجه كلّ الأرض فمدّ يده وأخذها وأدخلها عنده إلى الفلك. فلبث أيضاً سبعة أيّام اُخر وعاد فأرسل الحمامة من الفلك. فأتت إليه الحمامة عند المساء وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها فعلم نوح أنّ المياه قد قلّت عن الأرض. فلبث أيضاً سبعة أيّام اُخر فأرسل الحمامة فلم يعد يرجع إليه أيضاً.

وكان في السنة الواحدة والستّمائة في الشهر الأوّل في أوّل الشهر أنّ المياه نشفت عن الأرض فكشف نوح الغطاء عن الفلك ونظر فإذا وجه الأرض قد نشف. وفي الشهر الثاني في اليوم السابع والعشرين من الشهر جفّت الأرض.

وكلّم الله نوحاً قائلا. اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك. وكلّ الحيوانات الّتى معك من كلّ ذى جسد الطيور والبهائم وكلّ الدبّابات الّتى تدبّ على الأرض أخرجها معك ولتتوالد في الأرض وتثمر وتكثر على الأرض. فخرج نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه، وكلّ الحيوانات وكلّ

____________________

(١) الاصحاح الثامن من سفر التكوين.

٢٦٣

الدبّابات وكلّ الطيور كلّ ما يدبّ على الأرض كأنواعها خرجت من الفلك.

وبنى نوح مذبحا للربّ. وأخذ من كلّ البهائم الطاهرة ومن كلّ الطيور الطاهرة وأصعد محرّقات على المذبح. فتنسّم الربّ رائحة الرضا وقال الربّ في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضاً من أجل الإنسان لأنّ تصوّر قلب الإنسان شرّير منذ حداثته ولا أعود أيضاً اُميت كلّ حىّ كما فعلت. مدّة كلّ أيّام الأرض زرع وحصاد وبرد وحرّ وصيف وشتاء ونهار وليل لا يزال.

وبارك الله(١) نوحاً وبنيه وقال لهم أثمروا واكثروا واملأوا الأرض ولتكن خشيتكم ورهبتكم على كلّ حيوانات الأرض وكلّ طيور السماء مع كلّ ما يدبّ على الأرض وكلّ أسماك البحر قد دفعت إلى أيديكم. كلّ دابّة حيّة تكون لكم طعاماً كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع. غير أنّ لحما بجنابة دمه لا تأكلوه. وأطلب أنا دمكم لأنفسكم فقطّ من يد كلّ حيوان أطلبه ومن يد الإنسان أطلب نفس الإنسان من يد الإنسان أخيه. سافك دم الإنسان بالإنسان يسفك دمه لأنّ الله على صورته عمل الإنسان. فأثمروا أنتم واكثروا وتوالدوا في الأرض وتكاثروا فيها.

وكلّم الله نوحاً وبنيه معه قائلا. وها أنا مقيم ميثاقي معكم ومع نسلكم من بعدكم. ومع كلّ ذوات الأنفس الحيّة الّتى معكم الطيور والبهائم وكلّ وحوش الأرض الّتى معكم من جميع الخارجين من الفلك حتّى كلّ حيوان الأرض. اُقيم ميثاقي معكم فلا ينقرض كلّ ذى جسد أيضاً بمياه الطوفان ولا يكون أيضاً طوفان ليخرّب الأرض. وقال الله هذه علامة الميثاق الّذى أنا واضعه بينى وبينكم وبين كلّ ذوات الأنفس الحيّة الّتى معكم إلى أجيال الدهر. وضعت قوسى في السحاب فتكون علامة ميثاق بينى وبين الأرض.فيكون متى أنشر سحابا على الأرض وتظهر القوس في السحاب. أنّى أذكر ميثاقي الّذى بينى وبينكم وبين كلّ نفس حيّة في كلّ جسد فلا يكون أيضاً المياه طوفانا لتهلك كلّ ذى جسد. فمتى كانت القوس في السحاب أبصرها لاذكر ميثاقاً أبديّاً بين الله وبين كلّ نفس حيّة في كلّ جسد على

____________________

(١) الاصحاح التاسع من سفر التكوين.

٢٦٤

الأرض. وقال الله لنوح: هذه علامة الميثاق الّذى أنا أقمته بينى وبين كلّ ذى جسد على الأرض.

وكان بنو نوح الّذين خرجوا من الفلك ساما وحاما ويافث وحام هو ابوكنعان هؤلاء الثلاثة هم بنو نوح ومن هؤلاء تشعّبت كلّ الأرض.

وابتدأ نوح يكون فلّاحا وغرس كرما. وشرب من الخمر فسكر وتعرّى داخل خبائه. فأبصر حام أبوكنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجا. فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء فلم يبصرا عورة أبيهما.

فلمّا استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير. فقال: ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته. وقال: مبارك الربّ إله سام وليكن كنعان عبداً لهم. ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام وليكن كنعان عبداً لهم.

وعاش نوح بعد الطوفان ثلاثماوة وخمسين سنة. فكانت كلّ أيّام نوح تسع ماءة وخمسين سنة ومات. انتهى ما قصدنا إيراده.

وهو - كما ترى - يخالف ما جاء في القرآن الكريم من وجوه:

منها: أنّه لم يذكر فيه حديث استثناء امرأة نوح بل صرّح بدخولها الفلك ونجاتها مع بعلها، وقد اعتذر عنه بعض: أنّ من الجائز أن يكون لنوح زوجان اُغرقت إحداهما ونجت الاُخرى.

ومنها: أنّه لم يذكر فيه ابن نوح الغريق وقد قصّه القرآن.

ومنها: أنّه لم يذكر فيه المؤمنون غير نوح وأهله بل اقتصر عليه وعلى بنيه وامرأته ونساء بنيه.

ومنها: أنّه ذكر فيه جملة عمر نوح تسعمائة وخمسين سنة، وظاهر الكتاب العزيز أنّها المدّة الّتى لبث فيها بين قومه يدعوهم إلى الله قبل الطوفان. قال تعالى:( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ) العنكبوت: ١٤.

٢٦٥

ومنها: ما ذكر فيه من حديث قوس قزح وقصّة إرسال الغراب والحمامة للاستخبار وخصوصيّات السفينة من عرضها وطولها وارتفاعها وطبقاتها الثلاث ومدّة الطوفان وارتفاع الماء وغير ذلك فهى خصوصيّات لم تذكر في القرآن الكريم وبعضها بعيد مستبعد كالميثاق بالقوس، وقد كثر الاقتصاص بمثل هذه المعاني في قصّة نوحعليه‌السلام في لسان الصحابة والتابعين، وأكثرها بالاسرائيليّات أشبه.

٥ - ما جاء في أمر الطوفان في أخبار الاُمم وأساطيرهم:

قال صاحب المنار في تفسيره: قد ورد في تواريخ الاُمم القديمة ذكر للطوفان منها الموافق لخبر سفر التكوين إلّا قليلا ومنها المخالف له إلّا قليلا.

وأقرب الروايات إليه رواية الكلدانيّين، وهم الّذين وقع الطوفان في بلادهم فقد نقل عنهم (برهوشع) و (يوسيفوس) أنّ (زيزستروس) رأى في الحلم بعد موت والده (اُوتيرت) أنّ المياه ستطغى وتغرق جميع البشر، وأمره ببناء سفينة يعتصم فيها هو وأهل بيته وخاصّة أصدقائه ففعل. وهو يوافق سفر التكوين في أنّه كان في الأرض جيل من الجبّارين طغوا فيها وأكثروا الفساد فعاقبهم الله بالطوفان.

وقد عثر بعض الإنجليز على ألواح من الآجر نقشت فيها هذه الرواية بالحروف المسماريّة في عصر آشور بانيبال من نحو ستّمائة وستّين سنة قبل ميلاد المسيح، وأنّها منقولة من كتابة قديمة من القرن السابع عشر قبل المسيح أو قبله فهى أقدم من سفر التكوين.

وروى اليونان خبرا عن الطوفان أورده أفلاطون وهو أنّ كهنة المصريّين قالوا لسولون - الحكيم اليونانىّ - أنّ السماء أرسلت طوفانا غيّر وجه الأرض فهلك البشر مراراً بطرق مختلفة فلم يبق للجيل الجديد شئ من آثار من قبله ومعارفهم.

وأورد (مانيتون) خبر طوفان حدث بعد هرمس الأوّل الّذى كان بعد ميناس الأوّل، وهذا أقدم من تاريخ التوراة أيضاً، وروى عن قدماء اليونان خبر طوفان عمّ الأرض كلّها إلّا (دوكاليون) وامرأته (بيرا) فقد نجوا منه.

وروى عن قدماء الفرس طوفان أغرق الله به الأرض بما انتشر فيها من الفساد و

٢٦٦

الشرور بفعل أهريمان إله الشرّ، وقالوا: إنّ هذا الطوفان فار أوّلا من تنّور العجوز (زول كوفه) إذ كانت تخبز خبزها فيه، ولكنّ المجوس أنكروا عموم الطوفان وقالوا: إنّه كان خاصّاً بإقليم العراق وانتهى إلى حدود كردستان.

وكذا قدماء الهنود يثبتون وقوع الطوفان سبع مرّات في شكل خرافيّ آخرها أنّ ملكهم نجا هو وامرأته في سفينة عظيمة أمره بصنعها إلهه فشنو وسدّها بالدسر حتّى استوت على جبل جيمافات - هملايا - ولكنّ البراهمة كالمجوس ينكرون وقوع طوفان عامّ أغرق الهند كلّها، وروى تعدّد الطوفان عن اليابان والصين وعن البرازيل والمكسيك وغيرهما، وكلّ هذه الروايات تتّفق في أنّ سبب ذلك عقاب الله للبشر بظلمهم وشرورهم. انتهى.

وقد(١) وقع في (أوستا) وهو كتاب المجوس المقدّس أنّ (أهورامزدا) أوحى إلى (إيما) (وتعتقد المجوس أنّه جمشيد الملك) أنّه سيقع طوفان يغرق الأرض، وأمره أن يبنى حائطا مرتفعا غايته يحفظ من في داخله من الغرق، وأن يجمع في داخله جماعة من الرجال والنساء صالحة للنسل، ويدخل فيه من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين، ويبنى في داخل السور بيوتا وقبابا في طبقات مختلفة يسكنها الناس المجتمعون هناك ويأوى إليها الدوابّ والطيور، وأن يغرس في داخله ما ينفع في حياة الناس من الأشجار المثمرة، ويحرث ما يرتزق به الناس من الحبوب الكريمة فيحتفظ بذلك ما به حياة الدنيا وعمارتها.

وفي تاريخ الأدب الهندي(٢) في قصّة الطوفان: أنّه بينما كان (مانو) (هو ابن الإله عند الوثنيّين) يغسل يديه إذ جاءت في يده سمكة، وممّا اندهش به أنّ السمكة كلّمته وطلبت إنقاذها من الهلاك ووعدته جزاء عليه أنّها ستنقذ (مانو) في المستقبل من خطر عظيم، والخطر العظيم المحدق الّذى أنبأت به السمكة كان طوفاناً سيجرف جميع المخلوقات، وعلى ذلك حفظ (مانو) السمكة في المرتبان.

____________________

(١) ترجمة كتاب أوستا بالفرنسية المطبوعة بباريس.

(٢) على ما في قصص الأنبياء لعبد الوهاب النجار.

٢٦٧

فلمّا كبرت أخبرت (مانو) عن السنة الّتى سيأتي فيها الطوفان ثمّ أشارت على مانو أن يصنع سفينة كبيرة ويدخل فيها عند طوفان الماء قائلة: أنا اُنقذك من الطوفان، فمانو صنع السفينة والسمكة كبرت أكثر من سعة المرتبان لذلك ألقاها في البحر.

ثم جاء الطوفان كما أنبأت السمكة، وحين دخل (مانو) السفينة عامت السمكة إليه فربط السفينة بقرن على رأسها فجرّتها إلى الجبال الشماليّة، وهنا ربط مانو السفينة بشجرة، وعند ما تراجع الماء وجفّ بقى مانو وحده. انتهى.

٦ - هل كانت نبوّتهعليه‌السلام عامّة للبشر؟

مسألة اختلفت فيها آراء العلماء. فالمعروف عند الشيعة عموم رسالته، وقد ورد من طرق أهل البيتعليهم‌السلام ما يدلّ عليه، وعلى أنّ اُولى العزم من الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد (صلّى الله عليه وآله وعليهم) كانوا مبعوثين إلى الناس كافّة.

وأمّا أهل السنّة فمنهم من قال بعموم رسالته مستندا إلى ظاهر الآيات الناطقة بشمول الطوفان لأهل الأرض كلّهم كقوله:( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) نوح: ٢٦ وقوله:( لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ) هود: ٤٣، وقوله:( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) الصافّات: ٧٧، وما ورد في الصحيح من حديث الشفاعة أنّ نوحاً أوّل رسول أرسله الله إلى أهل الأرض ولازمه كونه مبعوثاً إليهم كافّة.

ومنهم من أنكر ذلك مستنداً إلى ما ورد في الصحيح عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وكان كلّ نبىّ يبعث إلى قومه خاصّة وبعثت إلى الناس كافّة) وأجابوا عن الآيات أنّها قابلة للتأويل فمن الجائز أن يكون المراد بالأرض هي الّتى كانوا يسكنونها وهى وطنهم كقول فرعون لموسى وهارون:( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ ) يونس: ٧٨.

فمعنى الآية الاُولى: لا تذر على هذه الأرض من كافرى قومي ديارا، وكذا المراد بالثانية: لا عاصم اليوم لقومي من أمر الله، والمراد بالثالثة: وجعلنا ذرّيّته هم الباقين من قومه.

والحقّ أنّ البحث لم يستوف حقّه في كلامهم، والّذى ينبغى أن يقال: أنّ النبوّة إنّما ظهرت في المجتمع الإنسانيّ عن حاجة واقعيّة إليها ورابطة حقيقيّة بين

٢٦٨

الناس وبين ربّهم وهى تعتمد على حقيقة تكوينيّة لا اعتباريّة جزافيّة فإنّ من القوانين الحقيقيّة الحاكمة في نظام الكون ناموس تكميل الأنواع وهدايتها إلى غاياتها الوجوديّة، وقد قال تعالى:( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ) الأعلى: ٣، وقال:( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه: ٥١.

فكلّ نوع من أنواع الكون متوجّه منذ أوّل تكوّنه إلى كمال وجوده وغاية خلقه الّذى فيه خيره وسعادته، والنوع الإنسانيّ أحد هذه الأنواع غير مستثنى من بينها فله كمال وسعادة يسير إليها ويتوجّه نحوها أفراده فرادى ومجتمعين.

ومن الضرورىّ عندنا أنّ هذا الكمال لا يتمّ للإنسان وحده لوفور حوائجه الحيويّة وكثرة الأعمال الّتى يجب أن يقوم بها لأجل رفعها فالعقل العمليّ الّذى يبعثه إلى الاستفادة من كلّ ما يمكنه الاستفادة منه واستخدام الجماد وأصناف النبات والحيوان في سبيل منافعه يبعثه إلى الانتفاع بأعمال غيره من بنى نوعه.

غير أنّ الأفراد أمثال وفي كلّ واحد منهم من العقل العمليّ والشعور الخاصّ الإنسانيّ ما في الآخر ويبعثه من الانتفاع إلى مثل ما يبعث إليه الآخر ما عنده من العقل العمليّ، واضطرّهم ذلك إلى الاجتماع التعاونيّ بأن يعمل الكلّ للكلّ وينتفع من عمل الغير بمثل ما ينتفع الغير من عمله فيتسخّر كلّ لغيره بمقدار ما يسخّره كما قال تعالى:( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ) الزخرف: ٣٢.

وهذا الّذى ذكرناه من بناء الإنسان على الاجتماع التعاونيّ اضطرارىّ له ألزمه عليه حاجة الحياة وقوّة الرقباء فهو في الحقيقة مدنىّ تعاونيّ بالطبع الثانيّ وإلّا فطبعه الأوّلىّ أن ينتفع بكلّ ما يتيسّر له الانتفاع حتّى أعمال أبناء نوعه، ولذلك مهما قوى الإنسان واستغنى واستضعف غيره عدا عليه واُخذ يسترقّ الناس ويستثمرهم من غير عوض قال تعالى:( إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) إبراهيم: ٣٤ وقال:( إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ ) العلق: ٨.

ومن الضرورىّ أنّ الاجتماع التعاونيّ بين الأفراد لا يتمّ إلّا بقوانين يحكم

٢٦٩

فيها وحفّاظ تقوم بها، وهذا ممّا استمرّت سيرة النوع عليه فما من مجتمع من المجتمعات الإنسانيّة كاملاً كان أو ناقصاً، راقياً كان أو منحطّاً إلّا ويجرى فيه رسوم وسنن جرياناً كليّاً أو أكثريّاً ، التاريخ والتجربة والمشاهدة أعدل شاهد في تصديقه وهذه الرسوم والسنن وإن شئت فسمّها القوانين هي موادّ وقضايا فكريّة تطبّق عليها أعمال الناس تطبيقاً كلّيّاً أو أكثريّاً في المجتمع فينتج سعادتهم حقيقة أو ظنّاً فهى اُمور متخلّلة بين كمال الإنسان ونقصه، وأشياء متوسّطة بين الإنسان وهو في أوّل نشأته وبينه وهو مستكمل في حياته عائش في مجتمعه تهدى الإنسان إلى غاية وجوده فافهم ذلك.

وقد علم أنّ من الواجب في عناية الله أن يهدى الإنسان إلى سعادة حياته وكمال وجوده على حدّ ما يهدى سائر الأنواع إليه فكما هداه بواجب عنايته من طريق الخلقة والفطرة إلى ما فيه خيره وسعادته وهو الّذى يبعثها إليه نظام الكون والجهازات الّتى جهّز بها إلى أن يشعر بما فيه نفعه ويميّز خيره من شرّه وسعادته من شقائه كما قال تعالى:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) الشمس: ١٠.

يهديه بواجب عنايته إلى اُصول وقوانين اعتقاديّة وعمليّة يتمّ له بتطبيق شؤون حياته عليها كماله وسعاته فإنّ العناية الإلهيّة بتكميل الأنواع بما يناسب نوع وجودها توجب هذا النوع من الهداية كما توجب الهداية التكوينيّة المحضة.

ولا يكفى في ذلك ما جهّز به الإنسان من العقل - وهو ههنا العمليّ منه - فإنّ العقل كما سمعت يبعث نحو الاستخدام ويدعو إلى الاختلاف، ومن المحال أن يفعل شئ من القوى الفعّالة فعلين متقابلين ويفيد أثرين متناقضين، على أنّ المتخلّفين من هذه القوانين والمجرمين بأنواع الجرائم المفسدة للمجتمع كلّهم عقلاء ممتّعون بمتاع العقل مجهّزون به.

فظهر أنّ هناك طريقا آخر لتعليم الإنسان شريعة الحقّ ومنهج الكمال والسعادة غير طريق التفكّر والتعقّل وهو طريق الوحى، وهو نوع تكليم إلهىّ يعلّم

٢٧٠

الإنسان مايفوز بالعمل به والاعتقاد له في حياته الدنيويّة والاُخرويّة.

فإن قلت: الأمر سواء فإنّ شرع النبوّة لم يأت بأزيد ممّا لو كان العقل لأتى به فإنّ العالم الإنسانيّ لم يخضع لشرائع الأنبياء كما لم يصغ إلى نداء العقل، ولم يقدر الوحى أن يدير المجتمع الإنسانيّ ويركّبه صراط الحقّ فما هي الحاجة إليه؟

قلت: لهذا البحث جهتان: جهة أنّ العناية الإلهيّة من واجبها أن تهدى المجتمع الإنسانيّ إلى تعاليم تسعده وتكمّله لو عمل بها وهى الهداية بالوحى ولا يكفى فيها العقل، وجهة أنّ الواقع في الخارج والمتحقّق بالفعل ما هو؟ وإنّما نبحث في المقام من الجهة الاُولى دون الثانية، ولا يضرّ بها أنّ هذه الطريقة لم تجر بين الناس إلى هذه الغاية إلّا قليلا. وذلك كما أنّ العناية الإلهيّة تهدى انواع النبات والحيوان إلى كمال خلقها وغاية وجودها ومع ذلك يسقط أكثر أفراد كلّ نوع دون الوصول إلى غايته النوعيّة ويفسد ويموت قبل البلوغ إلى عمره الطبيعيّ.

وبالجملة فطريق النبوّة ممّا لا مناص منه في تربية النوع بالنظر إلى العناية الإلهيّة وإلّا لم تتمّ الحجّة بمجرّد العقل لأنّ له شغلاً غير الشغل وهو دعوة الإنسان إلى ما فيه صلاح نفسه، ولو دعاه إلى شئ من صلاح النوع فإنّما يدعوه إليه بما فيه صلاح نفسه فأفهم ذلك وأحسن التدبّر في قوله تعالى:( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) النساء: ١٦٥.

فمن الواجب في العناية أن ينزّل الله على المجتمع الإنسانيّ دينا يدينون به وشريعة يأخذون بها في حياتهم الاجتماعيّة دون أن يخصّ بها قوماً ويترك الآخرين سدى لا عناية بهم، ولازمه الضرورىّ أن يكون أوّل شريعة نزلت عليهم شريعة عامّة.

وقد أخبر الله سبحانه عن هذه الشريعة بقوله عزّ من قائل:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً

٢٧١

وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) البقرة: ٢١٣، فبيّن أنّ الناس كانوا أوّل ما نشأوا وتكاثروا على فطرة ساذجة لا يظهر فيهم أثر الاختلافات والمنازعات الحيويّة ثمّ ظهر فيهم الاختلافات فبعث الله الأنبياء بشريعة وكتاب يحكم بينهم بالحقّ فيما اختلفوا فيه، ويحسم مادّة الخصومة والنزاع.

ثمّ قال تعالى فيما امتنّ به على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ) الشورى: ١٣. ومقام الامتنان يقضى بأنّ الشرائع الإلهيّة المنزلة على البشر هي هذه الّتى ذكرت لا غير، وأوّل ما ذكر من الشريعة هي شريعة نوح، ولو لم يكن عامّة للبشر كلّهم وخاصّة في زمنهعليه‌السلام لكان هناك إمّا نبىّ آخر ذو شريعة اُخرى لغير قوم نوح ولم يذكر في الآية ولا في موضع آخر من كلامه تعالى، وإمّا إهمال سائر الناس غير قومهعليه‌السلام في زمنه وبعده إلى حين.

فقد بان أنّ نبوّة نوحعليه‌السلام كانت عامّة، وأنّ له كتاباً وهو المشتمل على شريعته الرافعة للاختلاف، وأنّ كتابه أوّل الكتب السماويّة المشتملة على الشريعة، وأنّ قوله تعالى في الآية السابقة( وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) هو كتابه أو كتابه وكتاب غيره من اُولى العزم: إبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد (صلّى الله عليه وآله وعليهم).

وظهر أيضاً أنّ ما يدلّ من الروايات على عدم عموم دعوتهعليه‌السلام مخالف للكتاب وفي حديث الرضاعليه‌السلام أنّ اُولى العزم من الأنبياء خمسة لكلّ منهم شريعة وكتاب ونبوّتهم عامّة لجميع من سواهم نبيّا أو غير نبىّ، وقد تقدّم الحديث في ذيل قوله تعالى:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) البقرة ٢١٣، في الجزء الثاني من الكتاب.

٧ - هل الطوفان كانت عامّة لجميع الأرض؟ تبيّن الجواب عن هذا السؤال في الفصل السابق فإنّ عموم دعوتهعليه‌السلام يقضى بعموم العذاب ، وهو نعم القرينة على أنّ المراد بسائر الآيات الدالّة بظاهرها على العموم ذلك كقوله تعالى حكاية عن نوح

٢٧٢

عليه‌السلام :( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) نوح: ٢٦، وقوله حكاية عنه:( لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ) هود: ٤٣، وقوله: و( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) الصافّات: ٧٧.

ومن الشواهد من كلامه تعالى على عموم الطوفان ما ذكر في موضعين من كلامه تعالى أنّه أمر نوحاً أن يحمل من كلّ زوجين اثنين فمن الواضح أنّه لو كان الطوفان خاصّاً بصقع من أصقاع الأرض وناحية من نواحيها كالعراق - كما قيل - لم يكن أيّ حاجة إلى أن يحمل في السفينة من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين. وهو ظاهر.

واختار بعضهم كون الطوفان خاصّاً بأرض قوم نوحعليه‌السلام قال صاحب المنار في تفسيره: أمّا قوله في نوحعليه‌السلام بعد ذكر تنجيته وأهله:( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) فالحصر فيهم يجوز أن يكون إضافيّاً أي الباقين دون غيرهم من قومه، وأمّا قوله:( وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) فليس نصّاً في أنّ المراد بالأرض هذه الكرة كلّها فإنّ المعروف من كلام الأنبياء والأقوام وفي أخبارهم أن تذكر الأرض ويراد بها أرضهم ووطنهم كقوله تعالى حكاية عن خطاب فرعون لموسى وهارون:( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ ) يعنى أرض مصر، وقوله:( وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ) فالمراد بها مكّة، وقوله:( وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) والمراد بها الأرض الّتى كانت وطنهم، والشواهد عليه كثيرة.

ولكن ظواهر الآيات تدلّ بمعونة القرائن والتقاليد الموروثة عن أهل الكتاب على أنّه لم يكن في الأرض كلّها في زمن نوح إلّا قومه وأنّهم هلكوا كلّهم بالطوفان ولم يبق بعده فيها غير ذرّيّته، وهذا يقتضى أن يكون الطوفان في البقعة الّتى كانوا فيها من الأرض سهلها وجبلها لا في الأرض كلّها إلّا إذا كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة لقرب العهد بالتكوين وبوجود البشر عليها فإنّ علماء التكوين وطبقات الأرض - الجيولوجيّة - يقولون إنّ الأرض كانت عند انفصالها من الشمس

٢٧٣

كرة ناريّة ملتهبة ثمّ صارت كرة مائيّة ثمّ ظهرت فيها اليابسة بالتدريج.

ثمّ أشار إلى ما استدلّ به بعض أهل النظر على عموم الطوفان لجميع الأرض من أنّا نجد بعض الأصداف والأسماك المتحجّرة في أعالي الجبال وهذه الأشياء ممّا لا تتكوّن إلّا في البحر فظهورها في رؤس الجبال دليل على أنّ الماء قد صعد إليها مرّة من المرّات، ولن يكون ذلك حتّى يكون قد عمّ الأرض هذا.

وردّ عليه بأنّ وجود الأصداف والحيوانات البحريّة في قلل الجبال لا يدلّ على أنّه من أثر ذلك الطوفان بل الأقرب أنّه من أثر تكون الجبال وغيرها من اليابسة في الماء كما قلنا آنفاً فإنّ صعود الماء إلى الجبال أيّاماً معدودة لا يكفى لحدوث ما ذكر فيها.

ثمّ قال ما ملخّصه: أنّ هذه المسائل التاريخيّة ليست من مقاصد القرآن ولذلك لم يبيّنها بنصّ قطعيّ فنحن نقول بما تقدّم إنّه ظاهر النصوص ولا نتّخذه عقيده دينيّة قطعيّة فإن أثبت علم الجيولوجيّة خلافه لا يضرّنا لأنّه لا ينقض نصّاً قطعيّاً عندنا. انتهى.

أقول: أمّا ما ذكره من تأويل الآيات فهو من تقييد الكلام من غير دليل، وأمّا قوله في ردّ قولهم بوجود الأصداف والأسماك في قلل الجبال: إنّ صعود الماء إليها في أيّام معدودة لا يكفى في حدوثها ! ففيه أنّ من الجائز أن تحملها أمواج الطوفان العظيمة إليها ثمّ تبقى عليها بعد النشف فإنّ ذلك من طوفان يغمر الجبال الشامخة في أيّام معدودة غير عزيز.

وبعد ذلك كلّه قد فاته ما ينصّ عليه الآيات أنّهعليه‌السلام اُمر أن يحمل من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين فإنّ ذلك كالنصّ في أنّ الطوفان عمّ البقاع اليابسة من الأرض جميعاً أو معظمها الّذى هو بمنزلة الجميع.

فالحقّ أنّ ظاهر القرآن الكريم - ظهوراً لا ينكر - أنّ الطوفان كان عامّا للأرض، وأنّ من كان عليها من البشر اُغرقوا جميعاً، ولم يقم لهذا الحين حجّة قطعيّة تصرّفها عن هذا الظهور.

٢٧٤

وقد كنت سألت صديقى الفاضل الدكتور سحابيّ المحترم اُستاذ الجيولوجيا بكلّيّة طهران أن يفيدني بما يرشد إليه الأبحاث الجيولوجيّة في أمر هذا الطوفان العامّ إن كان فيها ما يؤيّد ذلك على وجه كلّىّ فأجابني بإيفاد مقال محصّله ما يأتي مفصّلا في فصول:

١ - الأراضي الرسوبيّة: تطلق الأراضي الرسوبيّة في الجيولوجيا على الطبقات الأرضيّة الّتى كوّنتها رسوبات المياه الجارية على سطح الأرض كالبطائح والمسيلات الّتى غطّتها الرمال ودقاق الحصى.

نعرف الأراضي الرسوبيّة بما تراكم فيها من الرمال ودقاق الحصى الكرويّة المدوّرة فإنّها كانت في الأصل قطعات من الحجارة حادّة الأطراف والزوايا حوّلتها إلى هذه الحالة الاصطكاكات الواقعة بينها في المياه الجارية والسيول العظيمة ثمّ إنّ الماء حملها وبسطها على الأرض في غايات قريبة أو بعيدة بالرسوب.

وليست تنحصر الأراضي الرسوبيّة في البطائح فغالب الأراضي الترابيّة من هذا القبيل تخالطها أو تكوّنها رمال بالغة في الدقّة، وقد حملها لدقّتها وخفّتها إليها جريان المياه والسيول.

نجد الأراضي الرسوبيّة وقد غطّتها طبقات مختلفة من الرمل والتراب بعضها فوق بعض من غير ترتيب ونظم، وذلك - أوّلا - أمارة أنّ تلك الطبقات لم تتكوّن في زمان واحد بعينه - وثانياً - أنّ مسير المياه والسيول أو شدّة جريانها قد تغيّر بحسب اختلاف الأزمنة.

ويتّضح بذلك أنّ الأراضي الرسوبيّة كانت مجارى ومسايل في الأزمنة السابقة لمياه وسيول هامّة وإن كانت اليوم في معزل من ذلك.

وهذه الأراضي الّتى تحكى عن جريان مياه كثيرة جدّاً وسيلان سيول هائلة عظيمة توجد في أغلب مناطق الأرض منها أغلب نقاط إيران كأراضي طهران وقزوين وسمنان وسبزوار ويزد وتبريز وكرمان وشيراز وغيرها، ومنها مركز بين النهرين وجنوبه، وما وراء النهر، وصحراء الشام، والهند، وجنوب فرنسا، وشرقيّ

٢٧٥

الصين، ومصر، وأكثر قطعات إمريكا، وتبلغ صخامة الطبقة الرسوبيّة في بعض الأماكن إلى مآت الأمتار كما أنّها في أرض طهران تجاوز أربعمائة مترا.

وينتج ممّا مرّ أوّلا: أنّ سطح الأرض في عهد ليس بذاك البعيد (على ما سيأتي توضيحه) كان مجرى سيول هائلة عظيمة ربّما غطّت معظم بقاعها.

وثانياً: أنّ الطغيان والطوفان - بالنظر إلى ضخامة القشر الرسوبيّ في بعض الأماكن - لم يحدث مرّة واحدة ولا في سنة أو سنين معدودة بل دام أو تكرّر في مآت من السنين كلّما حدث مرّة كون طبقة رسوبيّة ثمّ إذا انقطع غطّتها طبقة ترابيّة ثمّ إذا عاد كوّن اُخرى وهكذا وكذلك اختلاف الطبقات الرسوبيّة في دقّة رمالها وعدمها يدلّ على اختلاف السيلان بالشدّة والضعف.

٢ - الطبقات الرسوبيّة أحدث القشور والطبقات الجيولوجيّة: ترسب الطبقات الرسوبيّة عادة رسوباً اُفقيّاً ولكن ربّما وقعت أجزاؤها المتراكمة تحت ضغطات جانبيّة قويّة شديدة على ما بها من الدفع من فوق ومن تحت فتخرج بذلك تدريجاً عن الاُفقيّة إلى التدوير والالتواء، وهذا غير ظاهر الأثر في الأزمنة القصيرة المحدودة لكن إذا تمادى الزمان بطوله كمرور الملايين من السنين ظهر الأثر وتكوّنت بذلك الجبال بسلاسلها الملتوية بعض تلالها في بعض وترتفع بقللها من سطوح البحار.

ويستنتج من ذلك أنّ الطبقات الرسوبيّة والقشور الاُفقيّة الباقية على حالها من أحدث الطبقات المتكوّنة على البسيط، والدلائل الفنّيّة الموجودة تدلّ على أنّ عمرها لا يجاوز عشرة آلاف إلى خمس عشرة ألف سنة من زماننا هذا(١) .

٣ - انبساط البحار واتساعها بانحدار المياه إليها . كان تكوّن القشور الرسوبيّة الجديدة عاملاً في انبساط أكثر بحار الكرة واتّساعها بأطرافها فارتفعت

____________________

(١) ويستثنى من ذلك بعض ما في أطراف بالّتيك وسائر المناطق الشماليّة من طبقات رسوبيّة اُفقيّة باقية على حالها من أقدم العهود الجيولوجيّة لجهات مذكورة في محلّها.

٢٧٦

مياهها وغطّت أكثر سواحلها، وعملت جزائر في السواحل أحاطت بها من معظم جوانبها.

فمن ذلك جزيرة بريطانيّة انقطعت في هذا الحين من فرنسا وانفصلت من اُوربه بالكلّيّة، وكانت اُوربه من ناحية جنوبها وإفريقا من ناحية شمالها مرتبطتين برابط برّىّ إلى هذا الحين فانفصلتا باتّساع البحر المتوسّط (مديترانه) وتكوّن بذلك شبه جزيرة إيطاليا وشبه جزيرة تونس من شمالها الشرقيّ وجزائر صقلية وسردينيا وغيرها وكانت جزائر أندنيسيا من ناحية جاوا وسوماترا إلى جنوبىّ جزيرة اليابان متّصلة بآسيا من جهة الجنوب الشرقيّ إلى هذا الحين فانفصلت وتحوّلت إلى صورتها الفعليّة، وكذا انقطاع إمريكا الشماليّة من جهة شمالها عن شمال اُوربه أحد الآثار الباقية من هذا العهد عهد الطوفان.

وللحركات والتحوّلات الأرضيّة الداخليّة آثار قويّة في سير هذه المياه واستقرارها في البقاع الخافضة المنحدرة ولذلك كان ينكشف الماء عن بعض البقاع الساحليّة المغمورة بماء البحار في حين كان الطوفان مستوليا على أكثر البسيط يكوّن بحيرات ويوسّع بحارا، ومن هذا الباب سواحل خوزستان الجنوبيّة انكشف عنها ماء الخليج(١) .

٤ - العوامل المؤثّرة في إزدياد المياه وغزارة عملها في عهد الطوفان . الشواهد الجيولوجيّة الّتى أشرنا إلى بعضها تؤيّد أنّ النزولات الجوّيّة كانت غير عاديّة في أوائل الدور الحاضر من أدوار الحياة الإنسانيّة وهو عهد الطوفان، وقد كان ذلك عن تغيّرات جوّيّة هامّة خارقة للعادة قطعاً.

فكان الهواء حارّاً في هذه الدورة نسبة لكن كان ذلك مسبوقا ببرد شديد وقد غطّى معظم النصف الشماليّ من الكرة الثلج والجمد والجليد فمن المحتمل قويّاً أنّ المتراكم من جمد الدورة السابقة عليه كان باقيا لم يذب بعد في النجود في أكثر بقاع المنطقة المعتدلة الشماليّة.

____________________

(١) وقد كانت مدينة شوش وقصر الكرخة في زمن الملوك الهخامنشيّة بإيران على ساحل البحر وكانت السفن الشرعيّة الجارية في خليج فارس تلقى مراسيها امام القصر.

٢٧٧

فعمل الحرارة في سطح الأرض في دورتين متواليتين على ما به من متراكم الجمد والجليد يوجب تغيّراً شديداً في الجوّ وانقلاباً عظيماً مؤثّراً في ارتفاع بخار الماء إليه وتراكمه فيه تراكماً هائلاً غير عادىّ وتعقّبه نزولات شديدة وأمطار غزيرة غير معهودة.

نزول هذه الأمطار الغزيرة الهاطلة ثمّ استدامتها النزول على الارتفاعات والنجود وخاصّة على سلاسل الجبال الجديدة الحدوث في جنوب آسيا ومغربها وجنوب اُوربه وشمال إفريقا كجبال(١) ألبرز وهيماليا وآلب وفي مغرب إمريكا عقّب جريان سيول عظيمة هائلة عليها تنحت الصخور وتحفر الأرض وتقلع أحجاراً وتحملها إلى الأراضي والبقاع المنحدرة وتحدث أودية جديدة وتعمّق اُخرى قديمة وتوسّعها ثمّ تبسط ما تحمله من الحجارة والحصى والرمل تجاهها قشورا رسوبيّة جديدة.

وممّا كان يمدّ الطوفان السماويّ في شدّة عمله يزيد حجم السيول الجارية أنّ حفر الأودية الجديدة كان يكشف عن ذخائر مائيّة في بطن الأرض هي منابع الآبار والعيون الجارية فيزيل القشور الحافظة لها المانعة من سيلانها فيفجّر العيون ويجريها مع السيول المطريّة، ويزيد في قوّة تخريبها ويعينها في إغراق ما على الأرض من سهل وجبل وغمره.

غير أنّ الذخائر الأرضيّة متناهية محدودة تنفد بالسيلان وبنفادها وإمساك السماء عن الإمطار ينقضى الطوفان وتنحدر المياه إلى البحار والأرضي المنخفضة وإلى بعض الخلاء والسرب الموجود في داخل الأرض الّذى أفرغته السيول بالتفجير والمصّ.

٥ - نتيجة البحث . وعلى ما قدّمناه من البحث الكلّىّ يمكن أن ينطبق ما قصّه الله تعالى من خصوصيّات الطوفان الواقع في زمن نوحعليه‌السلام كقوله تعالى:

____________________

(١) فهى أقل عمرا من سائر جبال الأرض لم تعمر أكثر من مليونى سنة ولذلك كانت أشهق جبال الأرض وأعلى قللا من غيرها لقلة ما ورد عليها من أسباب النحت كالا مطار والرياح.

٢٧٨

( ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجّرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر) القمر: ١٢، وقوله:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ) هود: ٤٠، وقوله:( وقيل يا أرض ابلعى ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضى الأمر) هود: ٤٤. انتهى.

وممّا يناسب هذا المقام ما نشره بعض جرائد(١) طهران في هذه الأيّام وملخّصه: أنّ جماعة من رجال العلم من إمريكا بهداية من بعض رجال الجند التركيّ عثروا في بعض قلل جبل آراراط في شرقيّ تركيا في مرتفع ١٤٠٠ قدم على قطعات أخشاب يعطى القياس أنّها قطعات متلاشية من سفينة قديمة وقعت هناك تبلغ بعض هذه القطعات من القدمة ٢٥٠٠ قبل الميلاد.

والقياس يعطى أنّها قطعات من سفينة يعادل حجمه ثلثى حجم مركب (كوئين مارى) الإنجليزيّة الّتى طولها ١٠١٩ قدما وعرضها ١١٨ قدما، وقد حملت الأخشاب إلى سانفرانسيسكو لتحقيق أمرها وأنّها هل تقبل الانطباق على ما تعتقده أرباب النحل من سفينة نوح؟عليه‌السلام .

٦ - عمره عليه‌السلام الطويل : القرآن الكريم يدلّ على أنّهعليه‌السلام عمّر طويلا، وأنّه دعا قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما يدعوهم إلى الله سبحانه، وقد استبعده بعض الباحثين لما أنّ الأعمار الإنسانيّة لا تتجاوز في الأغلب المائة أو المائة والعشرين سنة حتّى ذكر بعضهم أنّ القدماء كانوا يعدّون كلّ شهر من الشهور سنة فالألف سنة إلّا خمسين عاما يعدل ثمانين سنة إلّا عشرة شهور. وهو بعيد غايته.

وذكر بعضهم أنّ طول عمرهعليه‌السلام كان كرامة له خارقة للعادة، قال الثعلبيّ في قصص الأنبياء في خصائصهعليه‌السلام : وكان أطول الأنبياء عمرا وقيل له أكبر الأنبياء وشيخ المرسلين، وجعل معجزته في نفسه لأنّه عمّر ألف سنة ولم ينقص له سنّ ولم تنقص له قوّة. انتهى.

____________________

(١) جريدة كيهان المنتشرة أوّل سبتامبر ١٩٦٢ المطابق لغرة ربيع الاول ١٣٨٢ الهجرية القمرية عن لندن. آسوشتيدبرس.

٢٧٩

والحقّ أنّه لم يقم حتّى الآن دليل على امتناع أن يعمّر الإنسان مثل هذه الأعمار بل الأقرب في الاعتبار أن يعمّر البشر الأوّلىّ بأزيد من الأعمار الطبيعيّة اليوم بكثير لما كان لهم من بساطة العيش وقلّة الهموم وقلّة الأمراض المسلّطة علينا اليوم وغير ذلك من الأسباب الهادمة للحياة، ونحن كلّما وجدنا معمّرا عمّر مائة وعشرين إلى مائة وستّين وجدناه بسيط العيش قليل الهمّ ساذج الفهم فليس من البعيد أن يرتقى بعض الأعمار في السابقين إلى مآت من السنين.

على أنّ الاعتراض على كتاب الله في مثل عمر نوحعليه‌السلام وهو يذكر من معجزات الأنبياء الخارقة للعادة شيئاً كثيراً لعجيب. وقد تقدّم كلام في المعجزة في الجزء الأوّل من الكتاب.

٧ - أين هو جبل الجودى : ذكروا أنّه بديار بكر من موصل في جبال تتّصل بجبال أرمينيّة، وقد سمّاه في التوراة أراراط. قال قى القاموس: و الجودىّ جبل بالجزيرة استوت عليه سفينة نوحعليه‌السلام ، ويسمّى في التوراة (أراراط) انتهى، وقال في مراصد الاطّلاع: الجودىّ مشدّدة جبل مطلّ على جزيرة ابن عمر في شرقيّ دجلة من أعمال الموصل استوت عليه سفينة نوح لمّا نضب الماء.

٨ - ربّما قيل : هب إنّه أغرق قوم نوح بذنبهم فما هو ذنب سائر الحيوان الّذى على الأرض حيث هلكت بطاغية المياه؟ وهذا من أسقط الاعتراض فما كلّ هلاك ولو كان عامّا عقوبة وانتقاماً، والحوادث العامّة الّتى تهلك الاُلوف ثمّ الاُلوف مثل الزلازل والطوفانات والوباء والطاعون كثير الوقوع في الدهر، ولله فيما يقضى حكم.

( كلام في عبادة الأصنام في فصول)

١ - الإنسان واطمئنانه إلى الحسّ : الإنسان يجرى في حياته الاجتماعيّة على اعتبار قانون العلّيّة والمعلوليّة الكلّىّ وسائر القوانين الكلّيّة الّتى أخذها من هذا النظام العامّ المشهود، وهو على خلاف ما نشاهده من أعمال سائر الحيوان و

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406