الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

الميزان في تفسير القرآن14%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 406

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114272 / تحميل: 6649
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الحركات الرجعيّة

1

7

الجهميّة

قد عرفت أنّ المتّهمين بالقدرية كانوا دعاة الحرّية، لا نُفاة القضاء والقدر، بل كانوا قائلين بأنّه سبحانه تبارك وتعالى قدّر وقضى، ومع ذلك، لم يسلب الاختيار عن الإنسان، فخيّره بين الإيمان والكفر، بين الخير والشّر، فلو قدّر الخير فلعلم منه بأنّه يختار الخير عن اختيار، أو قدّر الشر فلعلم منه أنّ الفاعل يختار الشر كذلك، وهو نفس صميم الإسلام ولبّه، قال سبحانه: ( فَمَن شَاءَ فَلْيُوْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكُفُرْ ) (1) .

لكن ظهرت في القرن الثاني والثالث حركات رجعيّة استهدفت أركان الإسلام والعودة بالأُمّة إلى الأفكار الجاهلية الّتي سادت قبل الإسلام، من القول بالجبر والتجسيم، وإليك أبرز ممثّلي هذه الحركات الرجعية.

____________________

(1) الكهف: 29.

٨١

الجهميّة:

إنّ سمات الجهميّة، هي: القول بالجبر والتعطيل، أسّسها جهم بن صفوان السمرقندي (المتوفّى 128هـ).

قال الذهبي: جهم بن صفوان أبو محرز السمرقندي الضال المبتدع، رأس الجهميّة في زمان صغار التابعين، وما علِمْته روى شيئاً، لكنّه زرع شرّاً عظيماً.

وقال المقريزي: الجهميّة،أتباع جهم بن صفوان الترمذي، مولى راسب، وقُتل في آخر دولة بني أُميّة، وتتلخّص عقائده في الأُمور التالية:

1 - ينفي الصفات الإلهيّة كلّها، ويقول: لا يجوز أن يوصف الباري بصفة يوصف بها خَلْقه.

2 - إنّ الإنسان لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالقدرة ولا بالاستطاعة.

3 - إنّ الجنّة والنّار يفنيان، وتنقطع حركات أهلهما.

4 - إنّ من عرف الله ولم ينطق بالإيمان لم يكفر؛ لأنّ العلم لا يزول بالصمت، وهو مؤمن مع ذلك.

وقد كفّره المعتزلة في نفي الاستطاعة، وكفّره أهل السنّة بنفي الصفات وخلق القرآن ونفي الرؤية.

5 - وانفرد بجواز الخروج على السلطان الجائر.

6 - وزعم أنّ علم الله حادث لا بصفة يوصف بها غيره. (1)

____________________

(1). الخطط المقريزيّة: 3/349، ولاحظ: ص351.

٨٢

أقول: الظاهر أنّ قاعدة مذهبه أمران:

الأوّل: الجبر ونفي الاستطاعة، فجهم بن صفوان رأس الجبر وأساسه، ويُطْلق على أتباعه الجبريّة الخالصة، في مقابل غير الخالص منها.

الثاني: تعطيل ذاته سبحانه، عن التوصيف بصفات الجلال والجمال، ومن هنا نجمت المعطّلة.

وأمّا غير هذين الأمرين فمشكوك جداً.

التطورات الّتي مرّ بها مفهوم الجهمي:

لمّا كان نفي الصفات عن الله والقول بخلق القرآن ونفي الرؤية ممّا نسب إلى منهج الجهم، صار لفظ الجهمي رمزاً لكلِّ من قال بأحد هذه الأُمور، وإن كان غير قائل بالجبر ونفي القدر؛ ولأجل ذلك ربّما تطلق الجهميّة ويراد بها المعتزلة أو القدريّة، يقول أحد بن حنبل:

والقرآن كلام الله ليس بمخلوق، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله ووقف، ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق، فهو أخبث من الأوّل، ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة، والقرآن كلام الله، فهو جهمي، ومن لم يكفّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم. (1)

____________________

(1) السنّة: 49.

٨٣

الحركات الرجعيّة

2

8

المجسّمة

إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد، والبرهان عن التفكير، ألحق أضراراً جسيمة بالمجتمع الإسلامي، حيث ظهرت فيه حركات هدّامة ترمي إلى تقويض الأُسس الدينية والأخلاقيّة.

ومن تلك الحركات المجسّمة؛ الّتي رفع لواءها مقاتل بن سليمان المجسم (1) (المتوفّى عام 150هـ)، ونشر أقاصيص الأحبار والرهبان في القرن الثالث، فهو وجهم بن صفوان، مع تشاطرهما في دفع الأُمّة الإسلامية إلى حافة الجاهلية،على طرفي نقيض في مسألة التنزيه والتشبيه.

____________________

(1) مقاتل بن سليمان بن بشر الأزدي بالولاء، البلخي، أبو الحسن، من المفسرين، أصله من بلخ، انتقل إلى البصرة ودخل بغداد وحدّث بها، وتوفّي بالبصرة، كان متروك الحديث، من كتبه (التفسير الكبير)، و(نوادر التفسير)، و(الرّد على القدريّة)، و(متشابه القرآن)، و(الناسخ والمنسوخ)، و(القراءات)، و(الوجوه والنظائر)، [الأعلام: 7/281].

٨٤

أمّا صفوان، فقد بالغ في التنزيه حتّى عطّل وصف ذاته بالصفات.

وأمّا مقاتل، فقد أفرط في التشبيه فصار مجسّماً، وقد نقل المفسرون آراء مقاتل في كتب التفاسير.

فليعرف القارئ مكانه في الوثاقة وتنزيه الربّ عن صفات الخلق.

قال ابن حبّان: كان يأخذ من اليهود والنصارى - في علم القرآن - الّذي يوافق كتبهم، وكان يشبّه الربّ بالمخلوقات، وكان يكذب في الحديث.

وقال أبو حنيفة: أفرط جهم في نفي التشبيه، حتّى قال إنّه تعالى ليس بشيء، وأفرط مقاتل في الإثبات حتى جعله مثل خلقه. (1)

____________________

(1) لاحظ: ميزان الاعتدال، 4/173. وراجع تاريخ بغداد، 13/166.

٨٥

الحركات الرجعية

3

9

الكرّاميّة

وهذه الفرقة منسوبة إلى محمد بن كرام السجستاني (المتوفّى عام 255هـ) شيخ الكرامية.

قال الذهبي: ساقط الحديث على بدعته، أكَثَر عن أحمد الجويباري، ومحمد بن تميم السعدي؛ وكانا كذّابين.

وقال ابن حبّان: خذل، حتّى التقط من المذاهب أردأها، ومن الأحاديث أوهاها... وجعل الإيمان قولاً بلا معرفة.

وقال ابن حزم: قال ابن كرام: الإيمان قول باللسان، وإن اعتقد الكفر بقلبه، فهو مؤمن. ومن بِدَع الكرّاميّة قولهم في المعبود تعالى إنّه جسم لا كالأجسام، وقد سقت أخبار ابن كرّام في تاريخي الكبير، وله أتباع ومؤيّدون، وقد سجن في نيسابور لأجل بدعته ثمانية أعوام، ثُمَّ أُخرج وسار

٨٦

إلى بيت المقدس، ومات بالشام سنة 255هـ. (1)

إنّ للكرّامية نظريات في موضوعات أُخر، ذكرها البغدادي، وقد بلغت جُرأتهم في باب النبوّة حتّى قال بعضهم: إنّ النبي أخطأ في تبليغ قوله[ تعالى]: ( وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرَى ) ، حتّى قال بعده: (تلك الغرانيق العلى، وان شفاعتها لترتجى). (2)

مع أنّ قصة الغرانيق أُقصوصة ابتدعها قوم من أهل الضلالة، وقد أوضحنا حالها في كتابنا (سيد المرسلين (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم».

ونكتفي بهذا النزر في بيان عقائدهم، وكلّها وليد إقصاء العقل والمنطق عن ساحة العقائد، والاكتفاء بالروايات مع ما فيها من أباطيل وترّهات وضعها الأعداء واختلقتها الأهواء، فهي من أسوأ الحركات الرجعيّة الظاهرة في أواسط القرن الثالث.

____________________

(1) ميزان الاعتدال: 4/21.

(2) الفرق بين الفِرق: 222.

٨٧

الحركات الرّجعيّة

4

10

الظاهرية

وهذا المذهب منسوب إلى داود بن علي الأصفهاني الظاهري (200 - 270هـ).

وقد أسّس مذهباً في الفروع، فالمصدر الأصلي في الفقه عنده هو النصوص، بلا رأي في حكم من أحكام الشرع، فهم يأخذون بالنصوص وحدها، فإذا لم يكن بالنص، أخذوا بالإباحة الأصليّة.

ما هو السبب لظهور هذا المذهب؟

إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد يستلزم طرده عن ساحة الفقه بوجه أولى، لأنّ أساسه هو التعبُّد بالنصوص، وعدم الإفتاء بشيء لا يوجد له أصل في الكتاب والسنّة، لكن الجمود على حرفيّة النصوص شيء، والتعبّد بالنصوص وعدم الإفتاء في مورد لا يوجد فيه أصل ودلالة في المصدرين الرئيسيّين شيء آخر،

٨٨

فالظاهرية على الأوّل، والفقهاء على الثاني، ولأجل إيضاح الحال نأتي بمثالين:

1 - إنّ الشكّل الأوّل من الأشكال الأربعة ضروري الإنتاج، من غير فرق بين الأُمور التكوينيّة أو الأحكام الشرعيّة؛ فكما أنّ الحكم بحدوث العالم نتيجة حتمية لقولنا: العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث، فهكذا الحكم بحرمة كلّ مسكر، نتيجة قطعيّة لقولنا: الفقاع مسكر، وكل مسكر حرام، فالفقاع حرام؛ لكنّ الظاهري يقبل المقدّمتين، ولكن لا يفتي بالنتيجة؛ بحجة أنّها غير مذكورة في النصوص.

2 - ما يسمّيه الفقهاء بلحن الخطاب، وإن كان شيئاً غير مذكور في نفس الخطاب، لكنّه من اللوازم البيّنة له، بحيث يتبادر إلى الذّهن من سماعه، فإذا خاطبنا سبحانه بقوله: ( فَلَا تَقُل لَهُمَا أُفٍ ) (1) ، يتوجّه الذهن إلى حرمة ضربهما وشتمهما بطريق أولى، ولكن الفقيه الظاهري يأبى عن الأخذ به بحجّة كونه غير منصوص.

قال سبحانه: ( قُل لِلّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنّتُ الْأَوّلِينَ ) (2) .

فالموضوع للحكم (مغفرة ما سلف عند الانتهاء)؛ وإن كان هو الكافر، لكن الذهن السليم يتبادر إلى فهم شيء آخر، لازم لهذا الحكم بالضرورة، وهو تعميم الحكم إلى المسلم أيضاً بوجه آكد، ولكنّ الظاهري يتركه؛ بحجة أنّه غير مذكور في النص.

____________________

(1) الإسراء: 23.

(2) الأنفال: 38.

٨٩

وهذا النوع من الجمود يجعل النصوص غير كافلة لاستخراج الفروع الكثيرة، وتصبح الشريعة ناقصة من حيث التشريع والتقنين، وغير صالحة لجميع الأجيال والعصور، وفاقدة للمرونة اللازمة الّتي عليها أساس خاتميّة نبوّة نبيّناً محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وكتابه وسنّته.

ثمَّ إنّ الاكتفاء بظاهر الشريعة؛ وأخذ الأحكام من ظواهر النصوص؛ له تفسيران: أحدهما صحيح جداً، والآخر باطل، فإن أُريد منه نفي الظنون؛ الّتي لم يدلّ على صحة الاحتجاج بها دليل، فهو نفس نص الكتاب العزيز، قال سبحانه: ( قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (1) ، فالشيعة الإماميّة، وبفضل النصوص الوافرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) المتّصلة اسنادها إلى الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، استطاعت أن تستخرج أحكام الحوادث والموضوعات الكثيرة منها، وامتنعت عن العمل بالقياس والاستحسان وغيرهما من الأدلّة الظنية؛ الّتي لم يقم الدليل القطعي على صحّة الاحتجاج بها، بل قام الدليل على حرمة العمل على بعضها، كالقياس، وقد ورد في نصوص أئمتهم (عليهم السلام): «إنّ السنّة إذا قيست مُحق الدين» (2) .

وإن أُريد بها لوازم الخطاب؛ أي ما يكون في نظر العقلاء، كالمذكور أخذاً بقولهم: (الكناية أبلغ من التصريح)، ويكون التفكيك بينهما أمراً غير صحيح، فليس ذلك عملاً بغير المنصوص. نعم ليس عملاً بالظاهر الحرفي، ولكنّه عمل بها بما يفهمه المخاطبون بها.

____________________

(1) يونس: 59.

(2) الوسائل: 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10.

٩٠

أُفول نجمه:

إنّ هذا المذهب لأجل حرفيته قد أفل نجمه بسرعة.

نعم قد تبعه فقيه آخر باسم ابن حزم (384 - 458هـ)، وأعاد هذا المذهب إلى الساحة، وألّف حوله كتباً ورسائل، وخدمه بالتآليف التالية:

1 - الإحكام في أُصول الأحكام: بيّن فيه أُصول المذهب الظاهري.

2 - النُّبَذ: وهو خلاصة ذلك الكتاب.

3 - المحلّى: وهو كتاب كبير نشر في عشرة أجزاء، جمع أحاديث الأحكام وفقه علماء الأمصار، طبع في بيروت بتحقيق أحمد محمد شاكر، وله آراء شاذة - كبطلان الاجتهاد في استخراج الأحكام الفقهية، وجواز مس المصحف للمجنب، وقاتل الإمام عليّ كان مجتهداً - ذكرناها في موسوعتنا. (1)

وقد ذكرنا هذا المذهب، مع أنّه فقهي؛ لأجل اشتراكه مع ما سبق في الرجعيّة، وإقصاء العقل عن ساحة الاجتهاد الفقهي.

____________________

(1) بحوث في الملل والنحل: 3/141 - 146.

٩١

11

المعتزلة

المعتزلة بين المدارس الكلاميّة المختلفة؛ مدرسة فكريّة عقليّة أعطت للعقل القسط الأوفر، ومن المؤسف أنّ هوى العصبية، بل يد الخيانة، لعبت بكثير من مخلّفاتهم الفكريّة، فأطاحت به فأضاعتها بالخرق والتمزيق، فلم يبق فيما بأيدينا من آثارهم إلاّ الشيء القليل، وأكثرها يرجع إلى كتب عبد الجبار المعتزلي (المتوفّى عام 415هـ)، ولأجل ذلك فقد اعتمد في تحرير هذا المذهب غير واحد من الباحثين على كتب خصومهم كالأشاعرة، ومن المعلوم أنّ الاعتماد على كتاب الخصم لا يُورث يقيناً.

وقد اهتمّ المستشرقون في العصور الأخيرة بدراسة مذهب الاعتزال، ولقد أُعجبوا بمنهج الاعتزال في حرّية الإنسان وأفعاله، وصار ذلك سبباً لرجوع المعتزلة إلى الساحة من قبل المفكّرين الإسلاميّين، ولذلك نُشرت في هذه الآونة الأخيرة كتباً حول المعتزلة.

ومؤسّس المذهب هو واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصري، نقل الشهرستاني أنّه دخل شخص على الحسن البصري، فقال: يا إمام الدين!، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم تُخرج به

٩٢

عن الملّة، وهم وعيديّة الخوارج، وجماعة يُرجئون أصحاب الكبائر، ويقولون لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأُمّة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟

فتفكّر الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب، قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إنّ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً، ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ثُمّ قام واعتزل إلى اسطوانة المسجد؛ يقرّر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنّا واصل، فسمّي هو وأصحابه: معتزلة. (1)

سائر ألقاب المعتزلة:

إنّ للمعتزلة ألقاباً أُخر:

1 - العدليّة: لقولهم بعدل الله سبحانه وحكمته.

2 - الموحّدة: لقولهم لا قديم مع الله، وينفون قدم القرآن.

3 - أهل الحق: لأنّهم يعتبرون أنفسهم أهل الحق.

4 - القدريّة: يُعبَّر عن المعتزلة في الكتب الكلاميّة بالقدريّة، والمعتزلة يطلقونها على خصومهم، وذلك لما رُوي عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «أنّ القدريّة مجوس هذه الأُمّة». فلو قلنا بأنّ القدريّة منسوبة إلى القدر؛ عِدْل القضاء، فتنطبق على

____________________

(1) الملل والنحل: 1/62.

٩٣

خُصَماء المعتزلة؛ القائلين بالقدر السالب للاختيار. ولو قلنا بأنّها منسوبة إلى القدرة؛ أي القائلين بتأثير قدرة الإنسان في فعله واختياره وتمكّنه في إيجاده، فتنطبق - على زعم الخُصَماء - على المعتزلة؛ لقولهم بتأثير قدرة الإنسان في فعله. وقد طال الكلام بين المتكلّمين في تفسير الحديث وذِكْر كلِّ طائفة وجهاً لانطباقه على خصمها. (1)

5 - الثنويّة: ولعلّ وجهه ما يتراءى من بعضهم من نسبة الخير إلى الله والشر إلى العبد.

6 - الوعيدية: لقولهم إنّ الله صادق في وعده، كما هو صادق في وعيده، وإنّه لا يغفر الذنوب إلاّ بعد التوبة، فلو مات بدونها يكون معذّباً قطعاً ويخلَّد في النار.

7 - المعطّلة: لتعطيل ذاته سبحانه عن الصفات الذاتية، ولكن هذا اللقب أُلصق بالجهميّة، وأمّا المعتزلة فلهم في الصفات مذهبان:

أ - القول بالنيابة، أي خلو الذات عن الصفات، ولكن تنوب الذّات مكان الصفات في الآثار المطلوبة منها، وقد اشتهر قولهم: (خُذ الغايات واترك المبادئ)، وهذا مخالف لكتاب الله والسنّة والعقل. فإنّ النقل يدلّ بوضوح على اتّصافه سبحانه بالصفات الكماليّة، وأمّا العقل، فحدِّث عنه ولا حرج؛ لأنّ الكمال يساوق الوجود، وكلّما كان الوجود أعلى وأشرف، تكون الكمالات فيه آكد.

____________________

(1) كشف المراد: 195، شرح المقاصد للتفتازاني: 2/143.

٩٤

ب - عينيّة الصفات مع الذّات واشتمالها على حقائقها، من دون أن يكون ذات وصفة، بل الذّات بلغت في الكمال إلى درجة صار نفس العلم قدرة.

8 - الجهميّة، وهذا اللّقب منحه أحمد بن حنبل لهم، فكل ما يقول: قالت الجهميّة، أو يصف القائل بأنّه جهميّ؛ يُريد به المعتزلة، لِمَا وجد من موافقتهم الجهميّة في بعض المسائل.

9 - المفنية.

10 - اللّفظيّة.

وهذان اللّقبان ذكرهما المقريزي وقال: إنّهم يوصفون بالمفنية، لما نسب إلى أبي الهذيل من فناء حركات أهل الجنة والنار؛ واللفظية لقولهم: ألفاظ القرآن مخلوقة. (1)

الأُصول الخمسة عند المعتزلة:

اشتهرت المعتزلة بأُصول خمسة، فمن دان بها فهو معتزلي، ومن نقص منها أو زاد عليها فليس منهم، وتلك الأُصول المرتبة حسب أهميتها عبارة عن: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فمن دان بها، ثُمَّ خالف بقية المعتزلة في تفاصيلها، لم يخرج بذلك عنهم.

وإليك تفصيل هذه الأُصول بنحو موجز:

____________________

(1) الخطط المقريزيّة: 4/169.

٩٥

إيعاز إلى الأُصول الخمسة

وقبل كلّ شيء نطرح هذه الأُصول على وجه الإجمال، حتّى يُعلم ماذا يريد منها المعتزلة، ثُمَّ نأخذ بشرحها واحداً بعد احد؛ فنقول:

1 - التوحيد: ويراد منه العلم بأنّ الله واحد، لا يشاركه غيره فيما يستحقُّ من الصفات نفياً وإثباتاً على الحدّ الّذي يستحقّه. والتوحيد عندهم رمز لتنزيهه سبحانه عن شوائب الإمكان ووهم المثليّة وغيرهما ممّا يجب تنزيه ساحته عنه، كالتجسيم والتشبيه وإمكان الرؤية وطروء الحوادث عليه. غير أنّ المهمّ في هذا الأصل؛ هو الوقوف على كيفيّة جريان صفاته عليه سبحانه، ونفي الرؤية، وغيرهما يقع في الدّرجة الثانية من الأهمية في هذا الأصل؛ لأنّ كثيراً منها لم يختلف المسلمون فيه، إلاّ القليل منهم.

2 - العدل: إذا قيل إنّه تعالى عادل، فالمراد أنّ أفعاله كلّها حسنة، وأنّه لا يفعل القبيح، وأنّه لا يَخِلّ بما هو واجب عليه. وعلى ضوء هذا: لا يكذب في خبره، ولا يجور في حكمه، ولا يعذِّب أطفال المشركين بذنوب آبائهم، ولا يُظهر المعجزة على أيدي الكذّابين، ولا يكلِّف العباد وما لا يطيقون، وما لا يعلمون، بل يُقْدِرهم على ما كلّفهم، ويعلِّمهم صفة ما كلّفهم، ويدلّهم على ذلك، ويبيّن لهم ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى‏ مَنْ حَيّ عَنْ بَيّنَةٍ ) (1) ، وأنّه إذا كلّف المكلّف وأتى بما كلّف على الوجه الّذي كُلِّف، فإنّه يثيبه لا محالة، وأنّه سبحانه إذا آلم وأسقم، فإنّما فعله لصلاحه ومنافعه، وإلاّ كان مخلاًّ بواجب...

3 - الوعد والوعيد: والمراد منه أنّ الله وعد المطيعين بالثواب، وتوعّد

____________________

(1) الأنفال: 42.

٩٦

العصاة بالعقاب، وأنّه يفعل ما وعد به وتوعّد عليه لا محالة. ولا يجوز الخُلف، لأنّه يستلزم الكذب. فإذا أخبر عن الفعل، ثُمَّ تركه، يكون كذباً. ولو أخبر عن العزم، فبما أنّه محال عليه، كان معناه الإخبار عن نفس الفعل، فيكون الخُلف كذباً. وعلى ضوء هذا الأصل، حكموا بتخليد مرتكب الكبائر في النار؛ إذا مات بلا توبة.

4 - المنزلة بين المنزلتين: وتلقّب بمسألة الأسماء والأحكام؛ وهي أنّ صاحب الكبيرة ليس بكافر كما عليه الخوارج، ولا منافق كما عليه الحسن البصري، ولا مؤمن كما عليه بعضهم، بل فاسق لا يحكم عليه بالكفر ولا بالإيمان.

5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: والمعروف: كلّ فعل عرف فاعله حسنه أو دلّ عليه، والمنكر: كلّ فعل عرف فاعله قبحه أو دلّ عليه. ولا خلاف بين المسلمين في وجوبهما؛ إنّما الخلاف في أنّه هل يُعلم عقلاً أو لا يُعلم إلاّ سمعاً؟، ذهب أبو عليّ (المتوفّى 303هـ) إلى أنّه يُعلم عقلاً وسمعاً، وأبو هاشم (المتوفّى 321هـ) إلى أنّه يُعلم سمعاً، ولوجوبه شروط تُذكر في محلّها، ومنها أن لا يؤدّي إلى مضرّة في ماله أو نفسه، إلاّ أن يكون في تحمّله لتلك المذلّة إعزاز للدّين.

قال القاضي: وعلى هذا يحمل ما كان من الحسين بن عليّ (عليهما السّلام)؛ لِمَا كان في صبره على ما صبر، إعزاز لدين الله عزّ وجلّ، ولهذا نباهي به سائر الأُمم، فنقول: لم يبق من ولْد الرّسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلاّ سبط واحد، فلم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتّى قتل دون ذلك. (1)

____________________

(1) الأُصول الخمسة: 142، نقلاً عن، بحوث في الملل والنحل: 3/254 - 255.

٩٧

سبب الاقتصار على هذه الأُصول الخمسة:

هناك سؤال يطرح نفسه، وهو:

لماذا اقتصروا على هذه الأُصول، مع أنّ أمر النبوّة والمعاد أولى بأن يُعدَّ من الأُصول؟

وقد ذكروا في وجه ذلك أُموراً لا يُعتمد عليها، والحق أن يقال: إنّ الأُصول الخمسة الّتي يتبنّاها المعتزلة، مؤلّفة من أُمور تعدُّ من أُصول الدين كالتوحيد والعدل على وجه، ومن أُصول كلاميّة أنتجوها من البحث والنقاش، وأقحموها في الأُصول لغاية ردِّ الفرق المخالفة؛ الّتي لا توافقهم في هذه المسائل الكلامية.

وعند ذلك يستنتج القارئ أنّ ما اتّخذته المعتزلة من الأُصول، وجعلته في صدر آرائها، ليست إلاّ آراء كلاميّة لهذه الفرقة، تظاهروا بها للردّ على المجبّرة والمشبّهة والمرجئة والإماميّة وغيرهم من الفرق، على نحو لو لا تلكم الفِرَق لما سمعت من هذه الأُصول ذكراً.

أئمة المعتزلة:

المراد بأئمتهم؛ مشايخهم الكبار؛ الّذين نضج المذهب بأفكارهم وآرائهم، ووصل إلى القمة في الكمال.

نعم، في مقابل أئمة المذهب، أعلامهم الّذين كان لهم دور في تبيين هذا المنهج من دون أن يتركوا أثراً يستحق الذكر في الأُصول الخمسة، وها نحن نذكر من الطائفيتن نماذج:

٩٨

1. واصل بن عطاء (80 - 131هـ):

أبو حذيفة واصل بن عطاء، مؤسّس الاعتزال، المعروف بالغزّال، يقول ابن خلّكان: كان واصل أحد الأعاجيب، وذلك أنّه كان ألثغ، قبيح اللثغة في الرّاء، فكان يُخلِّص كلامه من الرّاء ولا يُفطن لذلك، لاقتداره على الكلام وسهولة ألفاظه، ففي ذلك يقول أبو الطروق؛ يمدحه بإطالة الخطب واجتنابه الراء على كثرة تردّدها في الكلام، حتّى كأنّها ليست فيه.

عـليم بـإبدال الحروف وقامع

لـكلّ خطيب يغلب الحقَّ باطلُه

وقال الآخر:

ويـجعل البرّ قمحاً في تصرّفه

وخالف الرّاء حتّى احتال للشعر

ولـم يطق مطراً والقول يعجله

فـعاذ بالغيث اشفاقاً من المطر

من آرائه ومصنّفاته:

إنّ واصل هو أوّل من أظهر المنزلة بين المنزلتين؛ لأنّ الناس كانوا في أسماء أهل الكبائر من أهل الصلاة على أقوال: كانت الخوارج تسمّيهم بالكفر والشرك، والمرجئة تسمّيهم بالإيمان، وكان الحسن وأصحابه يسمّونهم بالنفاق.

مؤلّفاته:

ذكر ابن النديم في (الفهرست)، وتبعه ابن خلّكان: إنّ لواصل التصانيف التالية:

٩٩

1 - كتاب أصناف المرجئة.

2 - كتاب التوبة.

3 - كتاب المنزلة المنزلتين.

4 - كتاب خطبه الّتي أخرج منها الرّاء.

5 - كتاب معاني القرآن.

6 - كتاب الخُطب في التوحيد والعدل.

ومن المحتمل أنّه قام بجمع خطب الإمام عليّ (عليه السّلام) في التوحيد والعدل فأفرده تأليفاً.

7 - كتاب ما جرى بينه وبين عمرو بن عبيد.

8 - كتاب السبيل إلى معرفة الحق.

9 - كتاب في الدعوة.

10 - كتاب طبقات أهل العلم والجهل. (1)

2. عمرو بن عبيد (80 - 143هـ):

وهو الإمام الثاني للمعتزلة بعد واصل بن عطاء، وكان من أعضاء حلقة الحسن البصري، مثل واصل، لكن التحق به بعد مناظرة جرت بينهما في مرتكب الكبيرة.

روى ابن المرتضى، عن الجاحظ، أنّه قال: صلَّى عمرو أربعين عاماً صلاة

____________________

(1) فهرست ابن النديم: 203، الفن الأوّل من المقالة الخامسة.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

حين أمره أن يجمع الناجين معه في السفينة فقال له:( احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ ) .

وكان أهله - غير امرأته - حتّى ابنه هذا مؤمنين به ظاهراً ولو لم يكن ابنه هذا على ما كان يراه نوحعليه‌السلام مؤمناً لم يدعه البتّة إلى ركوب السفينة فهوعليه‌السلام الداعي على الكافرين السائل هلاكهم بقوله:( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) فقد كان يرى ابنه هذا مؤمناً ولم يكن مخالفته لأمر أبيه إذ أمره بركوب السفينة كفرا أو مؤدّيا إلى الكفر وإنّما هي معصية دون الكفر.

ولذلك كلّه قالعليه‌السلام :( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) فذكر وعد ربّه وضمّ إليه أنّ ابنه من أهله - على ما في الكلام من دلالة( رَبِّي ) على الاسترحام، ودلالة الإضافة في( ابْنِي ) على الحجّة في قوله:( مِنْ أَهْلِي ) ودلالة التأكيد بأنّ ولام الجنس في قوله:( وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) على أداء حقّ الإيمان.

وكانت الجملتان:( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) ( وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) ينتجان بانضمام بعضهما إلى بعض الحكم بلزوم نجاة ابنه لكنّهعليه‌السلام لم يأخذ بما ينتجه كلامه من الحكم أدباً في مقام العبوديّة فلا حكم إلّا لله بل سلّم الحكم الحقّ والقضاء الفصل إلى الله سبحانه فقال:( وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ) .

فالمعنى: ربّ إنّ ابني من أهلى، وإنّ وعدك حقّ كلّ الحقّ، وإنّ ذلك يدلّ على أن لا تأخذه بعذاب القوم بالغرق ومع ذلك فالحكم الحقّ إليك فأنت أحكم الحاكمين كأنّهعليه‌السلام يستوضح ما هو حقيقة الأمر ولم يذكر نجاة ابنه ولا زاد على هذا الّذى حكاه الله عنه شيئاً وسيوافيك بيان ذلك.

قوله تعالى: ( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) الخ. بيّن سبحانه لنوحعليه‌السلام وجه الصواب فيما ذكره بقوله:( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ ) الخ، وهو يستوجب به نجاة ابنه فقال تعالى:

٢٤١

( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) فارتفع بذلك أثر حجّته.

والمراد بكونه ليس من أهله - والله أعلم - أنّه ليس من أهله الّذين وعده الله بنجاتهم لأنّ المراد بالأهل في قوله:( وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) الأهل الصالحون، وهو ليس بصالح وإن كان ابنه ومن أهله بمعنى الاختصاص، ولذلك علل قوله:( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) بقوله:( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) .

فإن قلت: لازم ذلك أن يكون امرأته الكافرة من أهله لأنّها إنّما خرجت من الحكم بالاستثناء وهى داخلة موضوعا في قوله:( وَأَهْلَكَ ) ويكون ابنه ليس من أهله وخارجاً موضوعاً لا بالاستثناء وهو بعيد.

قلت: المراد بالأهل في قوله:( وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) هم الأهل بمعنى الاختصاص وبالمستثنى - من سبق عليه القول - غير الصالحين ومصداقه امرأته وابنه هذا، وأمّا الأهل الواقع في قوله هذا:( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) فهم الصالحون من المختصّين بهعليه‌السلام طبقا لما وقع في قوله:( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) فإنّهعليه‌السلام لا يريد بالأهل في قوله هذا غير الصالحين من اُولي الاختصاص وإلّا شمل امرأته وبطلت حجّته فافهم ذلك.

فهذا هو الظاهر من معنى الآية، ويؤيّده بعض ما ورد عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ممّا سيأتي في البحث الروائيّ التالى إن شاء الله.

وذكروا في تفسير الآية معان اُخر:

منها: أنّ المراد أنّه ليس على دينك فكان كفره أخرجه عن أن يكون له أحكام أهله. ونسب إلى جماعة من المفسّرين. وفيه أنّه في نفسه معنى لا بأس به إلّا أنّه غير مستفاد من سياق الآية لأنّ الله سبحانه ينفى عنه الأهليّة بالمعنى الّذى كان يثبتها له به نوحعليه‌السلام ولم يكن نوح يريد بأهليّته أنّه مؤمن غير كافر بل إنّما كان يريد أنّه أهله بمعنى الاختصاص والصلاح وإن كان لازمه الإيمان. اللّهمّ إلّا أن يرجع إلى المعنى المتقدّم.

ومنها: أنّه لم يكن ابنه على الحقيقة وإنّما ولد على فراشه فقال نوح

٢٤٢

عليه‌السلام : إنّه ابني على ظاهر الأمر فأعلمه الله أنّ الأمر على خلاف ذلك، ونبّهه على خيانة امرأته. وينسب إلى الحسن ومجاهد.

وفيه: أنّه على ما فيه من نسبة العار والشين إلى ساحة الأنبياءعليهم‌السلام ، والذوق المكتسب من كلامه تعالى يدفع ذلك عن ساحتهم وينزّه جانبهم عن أمثال هذه الأباطيل، أنّه ليس ممّا يدلّ عليه اللفظ بصراحة ولا ظهور فليس في القصّة إلّا قوله:( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) وليس بظاهر فيما تجرّؤا عليه وقوله في امرأة نوح:( امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا ) التحريم: ١٠ وليس إلّا ظاهراً في أنّهما كانتا كافرتين تواليان أعداء زوجيهما وتسرّان إليهم بأسرارهما وتستنجدانهم عليهما.

ومنها: أنّه كان ابن امرأتهعليه‌السلام وكان ربيبه لا ابنه من صلبه. وفيه أنّه ممّا لا دليل عليه من جهة اللفظ. على أنّه لا يلائم قوله في تعليل أنّه ليس من أهله:( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) ولو كان كذلك كان من حقّ الكلام ان يقال: إنّه ابن المرأة.

على أنّ من المستبعد جدّاً أن لا يكون نوحعليه‌السلام عالما بأنّه ربيبه وليس بابنه حتّى يخاطب ربّه بقوله:( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) أو يكون عالما بذلك ويتكلّم بالمجاز ويحتجّ على ربّه العليم الخبير بذلك فينبّه أنّه ليس ابنه وإنّما هو ربيب.

وقوله:( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) ظاهر السياق أنّ الضمير لابن نوحعليه‌السلام فيكون هو العمل غير الصالح، وعدّه عملاً غير صالح نوع من المبالغة نحو زيد عدل أي ذو عدل، وقولها: فإنّما هي إقبال وإدبار، أي ذات إقبال وإدبار.

فالمعنى: أنّ ابنك هذا ذو عمل غير صالح فليس من أهلك الّذين وعدتك أن أنجيهم. ويؤيّد هذا المعنى قراءة من قرأ:( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) بالفعل الماضي أي عمل عملاً غير صالح.

وذكر بعضهم: أنّ الضمير راجع إلى سؤال نوحعليه‌السلام المفهوم من قوله:( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) أي إنّ سؤالك نجاة ابنك عمل غير صالح لأنّه سؤال لما ليس لك به علم ولا ينبغى لنبىّ أن يخاطب ربّه بمثل ذلك.

٢٤٣

وهو من اسخف التفسير فإنّه معنى لا يلائم شيئاً من الجملتين المكتنفتين به لا قوله:( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) ولا قوله:( فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) وهو ظاهر، ولو كان كذلك كان من حقّ الكلام أن يتقدّم على قوله:( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) ويتّصل بقول نوحعليه‌السلام .

على أنّك عرفت أنّ قول نوحعليه‌السلام :( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) الخ، لا يتضمّن سؤالاً وإنّما كان يسوقه - لو جرى في كلامه - إلى السؤال لكنّ العناية الإلهيّة حالت بينه وبين السؤال.

وقوله:( فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) كأنّ قول نوحعليه‌السلام :( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) في مظنّة أن يسوقه إلى سؤال نجاة ابنه وهو لا يعلم أنّه ليس من أهله فأخذته العناية الإلهيّة، وحال التسديد الغيبيّ بينه وبين السؤال فأدركه النهى بقوله:( فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) بتفريع النهى على ما تقدّم أي فإذ ليس من أهلك لكونه عملاً غير صالح وأنت لا سبيل لك إلى العلم بذلك فإيّاك أن تبادر إلى سؤال نجاته لأنّه سؤال ما ليس لك به علم.

والنهى عن السؤال بغير علم لا يستلزم تحقّق سؤال ذلك منهعليه‌السلام لا مستقلّاً ولا في ضمن قوله:( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) لأنّ النهى عن الشى لا يستلزم الارتكاب قبلاً، وقد قال تعالى:( لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ ) الحجر: ٨٨ فنهى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حبّ الدنيا والافتتان بزينتها وحاشاه عن ذلك.

وإنّما يفتقر النهى في صحّة تعلّقه بفعل مّا أن يكون فعلاً اختياريّاً يمكن أن يبتلى به المكلّف، وما نهى عنه الأنبياءعليهم‌السلام على هذه الصفة وإن كانوا ذوى عصمة إلهيّة وتسديد غيبيّ، فإنّ من العصمة والتسديد أن يراقبهم الله سبحانه في أعمالهم وكلّما اقتربوا ممّا من شأنه أن يزلّ فيه الإنسان نبّههم على وجه الصواب ويدعوهم إلى السداد والتزام طريق العبوديّة، قال تعالى:( وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا )

٢٤٤

أسرى: ٧٥ فأنبأ تعالى أنّه هو الّذى ثبّته ولم يدعه يقترب من الركون إليهم فضلاً عن نفس الركون.

وقال تعالى:( وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) النساء: ١١٣.

ومن الدليل على أنّ النهى -( فَلَا تَسْأَلْنِ ) الخ - نهى عمّا لم يقع بعد قول نوحعليه‌السلام بعد استماع هذا النهى:( رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ) ولو كان سأل شيئاً لقيل: أعوذ بك من سؤالي ذلك ليفيد المصدر المضاف إلى المعمول التحقّق والإرتكاب.

ومن الدليل أيضاً على أنّهعليه‌السلام لم يسأل ذلك تعقيب قوله:( فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) بقوله:( إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) فإنّ معناه: إنّى أنصح لك في القول أن لا تكون بسؤالك ذلك من الجاهلين، ولو كان نوح سأل ذلك لكان من الجاهلين لأنّه سأل ما ليس له به علم.

فإن قلت: إنّه تعالى قال:( أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) أي ممّن استقرّت فيه صفة الجهل، و استقرارها إنّما يكون بالتكرار لا بالمرّة والدفعة، وبذلك يعلم أنّه سأل ما سأل وتحقّق منه الجهل مرّة وإنّما وعظه الله تعالى بما وعظ لئلّا يعود إلى مثله فيتكرّر منه ذلك فيدخل في زمرة الجاهلين.

قلت: زنة الفاعل كجاهل لا تدلّ على الاستقرار والتكرّر وإنّما تفيده الصفة المشبّهة كجهول على ما ذكروه، ويشهد لذلك قوله تعالى في قصّة البقرة:( قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) البقرة: ٦٧، وقوله في قصّة يوسف:( وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ) يوسف: ٣٣ وقوله خطاباً لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) الأنعام: ٣٥.

وأيضاً لو كان المراد من النهى عن السؤال أن لا يتكرّر منه ذلك بعد ما وقع

٢٤٥

مرّة لكان الأنسب أن يصرّح بالنهي عن العود إلى مثله دون النهى عن أصله كما وقع في نظير المورد من قوله تعالى:( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ - إلى أن قال -يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا ) النور: ١٧.

قوله تعالى: ( قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ) لمّا تبيّن لنوحعليه‌السلام أنّه لو ساقه طبع الخطاب الّذى خاطب به ربّه إلى السؤال كان سائلاً ما ليس له به علم وكان من الجاهلين وأنّ عناية الله حالت بينه وبين الهلكة، شكر ربّه فاستعاذ بمغفرته ورحمته عن ذلك السؤال المخسر فقال:( رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ) .

والكلام في الاستعاذة ممّا لم يقع بعد من الاُمور المهلكة والمعاصي الموبقة كالنهي عمّا لم يقع من الذنوب والآثام وقد تقدّم الكلام فيه وقد أمر الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالاستعاذة من الشيطان وهو معصوم لا سبيل للشيطان إليه، قال تعالى:( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ - إلى أن قال -مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ) الناس: ٥ وقال:( وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ ) المؤمنون: ٩٨ والوحى مصون عن مسّ الشياطين كما قال تعالى:( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ ) الجنّ: ٢٨.

وقوله:( وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ) كلام صورته صورة التوبة وحقيقته الشكر على ما أنعم الله عليه من التعليم والتأديب.

أمّا صورة توبته فإنّ في ذلك رجوعاً إلى ربّه تعالى بالاستعاذة ولازمها طلب مغفرة الله ورحمته أي ستره على الإنسان ما فيه زلّته وهلاكته وشمول عنايته لحاله وقد تقدّم في أواخر الجزء السادس من الكتاب بيان أنّ الذنب أعمّ من مخالفة الأمر التشريعيّ بل كلّ وبال وأثر سيّئ الإنسان بوجه، وأنّ المغفرة أعمّ من الستر على المعصية المعروفة عند المتشرّعة بل كلّ ستر إلهىّ يسعد الإنسان ويجمع شمله.

٢٤٦

وأمّا حقيقة الشكر فإنّ العناية الإلهيّة الّتى حالت بينه وبين السؤال الّذى كان يوجب دخوله في زمرة الجاهلين وعصمته ببيان وجه الصواب كانت سترا إلهيّا على زلّة في طريقه ورحمة ونعمة أنعم الله سبحانه بها عليه فقولهعليه‌السلام :( وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ) أي إن لم تعذنى من الزلّات لخسرت، ثناء وشكر لصنعه الجميل.

قوله تعالى: ( قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ) الخ، السلام هو السلامة أو التحيّة غير أنّ ذكر مسّ العذاب في آخر الآية يؤيّد كون المراد به في صدرها السلامة من العذاب وكذا تبديل البركة في آخر الآية إلى التمتيع يدلّ على أنّ المراد بالبركات ليس مطلق النعم وأمتعة الحياة بل النعم من حيث تسوق الإنسان إلى الخير والسعادة والعاقبة المحمودة.

فقوله:( قِيلَ - ولم يذكر القائل وهو الله سبحانه للتعظيم -يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ ) معناه - والله أعلم - يا نوح انزل مع سلامة من العذاب - الطوفان - ونعم ذوات بركات وخيرات نازلة منّا عليك، أو انزل بتحيّة وبركات نازلة منّا عليك.

وقوله:( وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ) معطوف على قوله:( عَلَيْكَ ) وتنكير اُمم يدلّ على تبعيضهم لأنّ من الاُمم من يذكره تعالى بعد في قوله:( وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ) .

والخطاب أعنى قوله تعالى:( ي يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ ) إلى آخر الآية بالنظر إلى ظرف صدوره وليس وقتئذ متنفّس على وجه الأرض من إنسان أو حيوان وقد اُغرقوا جميعاً ولم يبق منهم إلّا جماعة قليلة في السفينة وقد رست واستوت على الجودىّ، وقد قضى أن ينزلوا إلى الأرض فيعمروها ويعيشوا فيها إلى حين.

خطاب عامّ شامل للبشر من لدن خروجهم منها إلى يوم القيامة نظير ما صدر من الخطاب الإلهىّ يوم اُهبط آدمعليه‌السلام من الجنّة إلى الأرض وقد حكاه الله تعالى في موضع بقوله:( وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ

٢٤٧

وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ - إلى أن قال -قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) البقرة: ٣٩ وفي موضع آخر بقوله:( قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) الأعراف: ٢٥.

وهذا الخطاب خطاب ثان مشابه لذاك الخطاب الأوّل موجّه الى نوحعليه‌السلام ومن معه من المؤمنين - وإليهم ينتهى نسل البشر اليوم - متعلّق بهم وبمن يلحق بهم من ذراريهم إلى يوم القيامة، وهو يتضمّن تقدير حياتهم الأرضيّة والإذن في نزولهم إليها واستقرارهم فيها وإيوائهم إيّاها.

وقد قسّم الله هؤلاء المأذون لهم قسمين فعبّر عن إذنه لطائفة منهم بالسلام والبركات وهم نوحعليه‌السلام واُمم ممّن معه، ولطائفة اُخرى بالتمتيع، وعقّب التمتيع بمسّ العذاب لهم كما أنّ كلمتي السلام والبركات لا تخلوان من بشرى الخير والسعادة بالنسبة إلى من تعلّقتا به.

فقد بان من ذلك أنّ الخطاب بالهبوط في هذه الآية مع ما يرتبط به من سلام وبركات وتمتيع موجّه إلى عامّة البشر من حين هبوط أصحاب السفينة إلى يوم القيامة، ووزانه وزان خطاب الهبوط الموجّه إلى آدم وزوجتهعليهما‌السلام ، وفي هذا الخطاب إذن في الحياة الأرضيّة ووعد لمن أطاع الله سبحانه ووعيد لمن عصاه كما أنّ في ذلك الخطاب ذلك طابق النعل بالنعل.

وظهر بذلك أنّ المراد بقوله:( وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ) الاُمم الصالحون من أصحاب السفينة ومن سيظهر من نسلهم من الصالحين، والظاهر على هذا أن يكون( مَّن ) في قوله:( ٍ مِّمَّن مَّعَكَ ) ابتدائيّة لا بيانيّة، والمعنى وعلى اُمم يبتدى تكونهم ممّن معك، وهم أصحاب السفينة والصالحون من نسلهم.

وظاهر هذا المعنى أن يكون أصحاب السفينة كلّهم سعداء ناجين، والاعتبار يساعد ذلك فإنّهم قد محّصوا بالبلاء تمحيصا وآثروا ما عند الله من زلفى وقد صدّق الله سبحانه إيمانهم مرّتين في أثناء القصّة حيث قال عزّ من قائل:( إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ )

٢٤٨

آية: ٣٦ من السورة، وقال:( وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ) آية: ٤٠ من السورة.

وقوله:( وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) كأنّه مبتدء لخبر محذوف والتقدير: وممّن معك اُمم أو وهناك اُمم سنمتّعهم الخ، وقد أخرجهم الله سبحانه من زمرة المخاطبين بخطاب الإذن فلم يقل: ومتاع لاُمم آخرين سيعذّبون طرداً لهم من موقف الكرامة، فأخبر أنّ هناك اُمما آخرين سنمتّعهم ثمّ نعذّبهم وهم غير مأذون لهم في التصرّف في أمتعة الحياة إذن كرامة وزلفى.

وفي الآية جهات من تعظيم القائل لا تخفى كالبناء للمفعول في( قِيلَ ) وتخصيص نوحعليه‌السلام بخطاب الهبوط والتكلّم مع الغير في قوله:( مِّنَّا ) في موضعين( سَنُمَتِّعُهُمْ ) وغير ذلك.

وظهر أيضاً: أنّ ما فسّروا به قوله:( عَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ) أنّ معناه: على اُمم من ذرّيّة من معك ليس على ما ينبغى مع ما فيه من خروج من معه من الخطاب وكذا قول من قال: يعنى بالاُمم سائر الحيوان الّذين كانوا معه لأنّ الله جعل فيهم البركة. وفساده أظهر.

قوله تعالى: ( تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ) أي هذه القصص أو هذه القصّة من أنباء الغيب نوحيها إليك.

وقوله:( ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا) أي كانت وهى على محوضة الصدق والصحّة مجهولة لك ولقومك من قبل هذا، والّذى عند أهل الكتاب منها محرّف مقلوب عن وجه الصواب كما سيوافيك ما في التوراة الحاضرة من قصّتهعليه‌السلام .

وقوله:( فَاصْبِرْإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) أمر منتزع عن تفصيل القصّة أي إذا علمت ما آل إليه أمر نوحعليه‌السلام وقومه من هلاك قومه ونجاته ونجاة من معه من المؤمنين وقد ورّثهم الله الأرض على ما صبروا، ونصر نوحاً على أعدائه على ما صبر فاصبر على الحقّ فإنّ العاقبة للمتّقين، وهم الصابرون في جنب الله سبحانه.

٢٤٩

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عبّاس قال: إنّ نوحاًعليه‌السلام كان يضرب ثمّ يلفّ في لبد فيلقى في بيته يرون أنّه قد مات ثمّ يخرج فيدعوهم حتّى إذا أيس من إيمان قومه جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكّأ على عصا فقال: يا بنىّ اُنظر هذا الشيخ لا يغرّنّك قال: يا أبت أمكنّى من العصا ثمّ أخذ العصا ثمّ قال: ضعني في الأرض فوضعه فمشى إليه فضربه فشجّه موضحة في رأسه وسالت الدماء.

قال نوحعليه‌السلام : ربّ قد ترى ما يفعل بى عبادك فإن يكن لك في عبادك حاجة فاهدهم، وإن يكن غير ذلك فصبّرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين فأوحى الله إليه وآيسه من إيمان قومه وأخبره أنّه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن قال: يا نوح إنّه لن يؤمن من قومك إلّا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون يعنى لا تحزن عليهم واصنع الفلك. قال: يا ربّ وما الفلك؟ قال: بيت من خشب يجرى على وجه الماء فاُغرق أهل معصيتى واُطهّر أرضى منهم. قال: يا ربّ وأين الماء؟ قال: إنّى على ما أشاء قدير.

وفي الكافي بإسناده عن المفضّل قال: كنت عند أبى عبداللهعليه‌السلام بالكوفة أيّام قدم على أبى العبّاس فلمّا انتهينا إلى الكناسة قال: ههنا صلب عمّى زيد رحمه الله، ثمّ مضى حتّى انتهى إلى طاق الزيّاتين وهو آخر السرّاجين فنزل وقال: انزل فإنّ هذا الموضع كان مسجد الكوفة الأوّل الّذى كان خطّه آدم وأنا أكره أن أدخله راكبا. قلت: فمن غيّره عن خطّته؟ قال: أمّا أوّل ذلك فالطوفان في زمن نوح ثمّ غيّره أصحاب كسرى والنعمان ثمّ غيّره بعد زياد بن أبى سفيان فقلت: وكانت الكوفة ومسجدها في زمن نوح؟ فقال لى: نعم يا مفضّل وكان منزل نوح وقومه في قرية على منزل من الفرات ممّا يلى غربيّ الكوفة.

٢٥٠

قال: وكان نوح رجلاً نجّاراً فجعله الله عزّوجلّ نبيّاً وانتجبه، ونوح أوّل من عمل سفينة تجرى على ظهر الماء. قال: ولبث نوح في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما يدعوهم إلى الله عزّوجلّ فيهزؤن به ويسخرون منه فلمّا رأى ذلك منهم دعا عليهم فقال: ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا إنّك إن تذرهم يضلّوا عبادك ولا يلدوا إلّا فاجراً كفّاراً، فأوحى الله عزّوجلّ إلى نوح أن اصنع سفينة وأوسعها وعجّل عملها فعمل نوح سفينة في مسجد الكوفة بيده، فأتى بالخشب من بعد حتّى فرغ منها.

قال المفضّل: ثمّ انقطع حديث أبى عبداللهعليه‌السلام عند زوال الشمس فقام أبوعبداللهعليه‌السلام فصلّى الظهر والعصر ثمّ انصرف من المسجد فالتفت عن يساره وأشار بيده إلى موضع دار الدارين وهى موضع دار ابن حكيم وذلك فرات اليوم فقال: يا مفضّل وههنا نصبت أصنام قوم نوح: يغوث ويعوق ونسر. ثم مضى حتّى ركب دابّته.

فقلت: جعلت فداك في كم عمل نوح سفينته؟ قال: في دورين. قلت: وكم الدوران؟ قال: ثمانين(١) سنة. قلت: فإنّ العامّة يقولون عملها في خمس مائة سنة؟ فقال: كلّا. كيف؟ والله يقول:( وَوَحْيِنَا ) قال: قلت: فأخبرني عن قول الله عزّوجلّ:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ) فأين كان موضعه؟ وكيف كان؟ فقال: كان التنّور في بيت عجوز مؤمنة في دبر قبلة ميمنة المسجد. قلت له: فأين ذلك؟ قال: موضع زاوية باب الفيل اليوم. ثمّ قلت له: وكان بدؤ خروج الماء من ذلك التنّور؟ فقال: نعم إنّ الله عزّوجلّ أحبّ أن يرى قوم نوح آية ثمّ إنّ الله تبارك وتعالى أرسل عليهم المطر يفيض فيضاً والعيون كلّهنّ فيضاً فغرقهم الله وأنجا نوحا ومن معه في السفينة - الحديث.

أقول: والرواية على طولها غير متعلّقة بالتفسير غير أنّا أوردناها لتكون كالاُنموذجة من روايات كثيرة وردت في هذه المعاني من طرق الشيعة وأهل السنّة

____________________

(١) ثمانون ظ.

٢٥١

ولتكون عونا لفهم قصص الآيات من طريق الروايات.

وفي الرواية استفادة التعجيل في صنع السفينة من قوله تعالى:( وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ) الآية، وفي الرواية نسبة زياد إلى أبى سفيان ولعلّ الوارد في لفظ الإمام (زياد) فاُضيف إليه (ابن أبى سفيان) في لفظ بعض الرواة.

وفيه بإسناده عن أبى رزين الأسديّ عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام قال: إنّ نوحاعليه‌السلام لمّا فرغ من السفينة وكان ميعاده فيما بينه وبين ربّه في إهلاك قومه أن يفور التنّور ففار التنّور في بيت امرأة فقالت: إنّ التنّور قد فار فقام إليه فختمه فقام الماء وأدخل من أراد أن يدخل وأخرج من أراد أن يخرج ثمّ جاء إلى خاتمه فنزعه، يقول الله عزّوجلّ: ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجّرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر.

قال: وكان نجره في وسط مسجدكم. ولقد نقص عن ذرعه سبعمائة ذراع.

أقول: وكون فوران التنّور علامة لهعليه‌السلام يعلم به اقتراب الطوفان من الوقوع واقع في عدّة من روايات الخاصّة والعامّة وسياق الآية:( إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ ) الآية، لا يخلو من ظهور في كونه ميعادا.

وفيه بإسناده عن إسماعيل الجعفيّ عن أبى جعفرعليه‌السلام قال: كان شريعة نوح أن يعبدالله بالتوحيد والإخلاص وخلع الأنداد وهى الفطرة الّتى فطر الناس عليها وأخذ الله ميثاقه على نوح والنبيّين أن يعبدوا الله تبارك وتعالى ولا يشركوا به شيئاً واُمر بالصلاة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والحلال والحرام، ولم يفرض عليه أحكام حدود ولا فرائض مواريث فهذه شريعته. فلبث فيهم نوح ألف سنة إلّا خمسين عاماً يدعوهم سرّاً وعلانية فلمّا أبوا وعتوا قال:( رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ) فأوحى الله عزّوجلّ إليه:( لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) فذلك قول نوح:( وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ) فأوحى الله إليه: أن أصنع الفلك.

أقول: ورواه العيّاشيّ عن الجعفيّ مرسلاً وظاهر الرواية أنّ لهعليه‌السلام دعاءين

٢٥٢

على قومه أحدهما وهو أوّلهما قوله:( رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ) الواقع في سورة القمر، وثانيهما بعد ما أيأسه الله من إيمان قومه وهو قوله:( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ) الواقع في سورة نوح.

وفي معاني الأخبار بإسناده عن حمران عن أبى جعفرعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ( وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌٌ ) قال: كانوا ثمانية.

أقول: ورواه العيّاشيّ أيضاً عن حمران عنهعليه‌السلام ، وللناس في عددهم أقوال اُخر: ستّة أو سبعة أو عشرة أو اثنان وسبعون أو ثمانون ولا دليل على شئ منها.

وفي العيون بإسناده عن عبد السلام بن صالح الهرويّ قال: قال الرضاعليه‌السلام لمّا هبط نوح إلى الأرض كان نوح وولده ومن تبعه ثمانين نفسا فبنى حيث نزل قرية فسمّاها قرية الثمانين.

أقول: ولا تنافى بين الروايتين لجواز كون ما عدا الثمانية من أهل نوحعليه‌السلام وقد عمّر ما يقرب من ألف سنة يومئذ.

وفيه بإسناده عن الحسن بن علىّ الوشّاء عن الرضاعليه‌السلام قال: سمعته يقول: قال أبى: قال أبو عبداللهعليه‌السلام : إنّ الله عزّوجلّ قال لنوح:( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) لأنّه كان مخالفاً له، وجعل من اتّبعه من أهله.

قال: وسألني كيف يقرؤن هذه الآية في ابن نوح؟ فقلت: يقرؤها الناس على وجهين: إنّه عملٌ غيرُ صالح، وإنّه عملَ غيرَ صالح. فقال: كذبوا هو ابنه ولكنّ الله نفاه عنه حين خالفه في دينه.

أقول: ولعلّهعليه‌السلام يشير بقوله:( وجعل من اتّبعه من أهله) إلى قوله تعالى( فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) الأنبياء: ٧٦. فإنّ الظاهر أنّ المراد بأهله جميع من نجا معه.

وكأنّ المراد من قراءة الآية تفسيرها والراوي يشير بايراد القراءتين إلى تفسير من فسّر الآية بأنّ المراد أنّ امرأة نوح حملت الإبن من غيره فألحقه بفراشه

٢٥٣

ولذلك قرأ بعضهم:( وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهاُ ) أو( وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهاُ ) بفتح الهاء مخفّف ابنها ونسبوا القراءتين إلى علىّ وبعض الأئمّة من ولدهعليهم‌السلام .

قال في الكشّاف: وقرأ علىّ رضى الله عنه( ابْنَهاُ ) والضمير لامرأته، وقرأ محمّد بن علىّ وعروة بن الزبير( ابْنَهاُ ) بفتح الهاء يريدان( ابْنَهُا ) فاكتفيا بالفتحة عن الألف وبه ينصر مذهب الحسن قال قتادة: سألته فقال: والله ما كان ابنه فقلت: إنّ الله حكى عنه( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) وأنت تقول: لم يكن ابنه، وأهل الكتاب لا يختلفون أنّه كان ابنه ! فقال: ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب؟ واستدلّ بقوله من أهلي ولم يقل: منّى. انتهى.

واستدلاله بما استدلّ به سخيف فإنّ الله وعده بنجاة أهله ولم يعده بنجاة من كان منه حتّى يضطرّ إلى قول: إنّ ابني منّى عند سؤال نجاته، وقد تقدّم بيان أنّ لفظ الآيات لا يلائم هذا الوجه.

وما ذكر من عدم الخلاف بين أهل الكتاب منظور فيه فإنّ التوراة ساكتة عن قصّة ابن نوح هذا الغريق.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن الأنباريّ في المصاحف وأبوالشيخ عن علىّ رضى الله عنه أنّه قرأ:( وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهاُ ) .

وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبوالشيخ عن أبى جعفر محمّد ابن علىّ في قوله:( وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ ) قال هي بلغة طئ لم يكن ابنه وكان ابن امرأته.

أقول: ورواه العيّاشيّ في تفسيره عن محمّد بن مسلم عنهعليه‌السلام .

وفي تفسير العيّاشيّ عن موسى عن العلاء بن سيابة عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ ) قال ليس بابنه إنّما هو ابن امرأته وهى لغة طئ يقولون لابن امرأته: ابنه. الحديث.

وفيه عن زرارة عن أبى جعفرعليه‌السلام في قول نوح:( يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا ) قال: ليس بابنه. قال: قلت: إنّ نوحا قال: يا بنىّ؟ قال: فإنّ نوحاً قال ذلك وهو لا يعلم.

٢٥٤

أقول: والمعتمد ما تقدّم من رواية الوشّاء عن الرضاعليه‌السلام .

وفيه عن إبراهيم بن أبى العلاء عن أحدهماعليهما‌السلام قال: لمّا قال الله:( يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي ) قالت الأرض: إنّما اُمرت أن أبلع مائى أنا فقطّ، ولم اُؤمر أن أبلع ماء السماء فبلعت الأرض ماءها وبقى ماء السماء فصيّر بحراً حول الدنيا.

وفيه عن أبى بصير عن أبى الحسن موسىعليه‌السلام في حديث ذكر فيه الجودىّ قال: وهو جبل بالموصل.

وفيه عن المفضّل بن عمر عن أبى عبداللهعليه‌السلام ( وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ) هو فرات الكوفة.

أقول: ويؤيّد الرواية السابقة روايات اُخر.

وفيه عن عبد الحميد بن أبى الديلم عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: لمّا ركب نوحعليه‌السلام في السفينة قيل: بعداً للقوم الظالمين.

وفي المجمع في قوله تعالى:( قِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ ) الآية، قال: ويروى أنّ كفّار قريش أرادوا أن يتعاطوا معارضة القرآن فعكفوا على لباب البرّ ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوماً لتصفو أذهانهم فلمّا أخذوا فيما أرادوا سمعوا هذه الآية فقال بعضهم لبعض: هذا كلام لا يشبهه شئ من الكلام، ولا يشبه كلام المخلوقين وتركوا ما أخذوا فيه وافترقوا.

( أبحاث حول قصّة نوح في فصول وهى أبحاث قرآنيّة وروائيّة)

( وتاريخيّة وفلسفيّة)

١ - الإشارة إلى قصّته: ذكر اسمهعليه‌السلام في القرآن في بضع وأربعين موضعا يشار فيها إلى شئ من قصّته إجمالاً أو تفصيلاً، ولم تستوف قصّتهعليه‌السلام في شئ منها استيفاء على نهج الاقتصاص التاريخيّ بذكر نسبه وبيته ومولده ومسكنه ونشوئه وشغله وعمره ووفاته ومدفنه وسائر ما يتعلّق بحياته الشخصيّة لما أنّ

٢٥٥

القرآن لم ينزل كتاب تاريخ يقتصّ تواريخ الناس من برّ أو فاجر.

وإنّما هو كتاب هداية يصف للناس ما فيه سعادتهم، ويبيّن لهم الحقّ الصريح ليأخذوا به فيفوزوا في حياتهم الدنيا والآخرة، وربّما أشار إلى طرف من قصص الأنبياء والاُمم لتظهر به سنّة الله في عباده، ويعتبر به من شملته العناية ووفّق للكرامة، وتتمّ به الحجّة على الباقين.

وقد فصّلت قصّة نوحعليه‌السلام في ستّ من السور القرآنيّة وهى سورة الأعراف وسورة هود، وسورة المؤمنون، وسورة الشعراء، وسورة القمر، وسورة نوح وأكثرها تفصيلاً سورة هود الّتى ذكرت قصّتهعليه‌السلام فيها في خمس وعشرين آية (٢٥ - ٤٩).

٢ - قصّتهعليه‌السلام في القرآن.

بعثه وارساله:

كان الناس بعد آدمعليه‌السلام يعيشون اُمّة واحدة على بساطة وسذاجة، وهم على الفطرة الإنسانيّة حتّى فشا فيهم روح الاستكبار وآل إلى استعلاء البعض على البعض تدريجا واتّخاذ بعضهم بعضا أربابا وهذه هي النواة الأصليّة الّتى لو نشأت واخضرّت وأينعت لم تثمر إلّا دين الوثنيّة والاختلاف الشديد بين الطبقات الاجتماعيّة باستخدام القوىّ للضعيف، واسترقاق العزيز واستدراره للذليل، وحدوث المنازعات والمشاجرات بين الناس.

فشاع في زمن نوحعليه‌السلام الفساد في الأرض، وأعرض الناس عن دين التوحيد وعن سنّة العدل الاجتماعيّ وأقبلوا على عبادة الأصنام، وقد سمّى الله سبحانه منها ودّا وسواعاً ويغوث ويعوق ونسرا (سورة نوح).

وتباعدت الطبقات فصار الأقوياء بالأموال والأولاد يضيعون حقوق الضعفاء الجبابرة يستضعفون من دونهم ويحكمون عليهم بما تهواه أنفسهم (الأعراف هود - نوح).

فبعث الله نوحاًعليه‌السلام وأرسله إليهم بالكتاب و الشريعة يدعوهم إلى توحيد

٢٥٦

الله سبحانه وخلع الأنداد والمساواة فيما بينهم (البقرة آية ٢١٣) بالتبشير والإنذار.

دينه وشريعتهعليه‌السلام :

كانعليه‌السلام يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه ورفض الشركاء (كما يظهر من جميع قصصه القرآنيّة) والإسلام لله (كما يظهر من سورتي نوح ويونس وسورة آل عمران آية ١٩) والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر (كما يظهر من سورة هود آية ٢٧) والصلاة (كما يظهر من آية ١٠٣ من سورة النساء وآية ٨ من سورة الشورى) والمساواة والعدالة وأن لا يقربوا الفواحش والمنكرات وصدق الحديث والوفاء بالعهد (سورة الأنعام آية ١٥١ - ١٥٢) وهوعليه‌السلام أوّل من حكى عنه في القرآن التسمية باسم الله في الاُمور الهامّة (سورة هود آية ٤١).

اجتهادهعليه‌السلام في دعوته:

وكانعليه‌السلام يدعو قومه إلى الإيمان بالله وآياته، ويبذل في ذلك غاية وسعه فيندبهم إلى الحقّ ليلاً ونهاراً وإعلانا وإسرارا فلا يجيبونه إلّا بالعناد والاستكبار وكلّما زاد في دعائهم زادوا في عتوهّم وكفرهم، ولم يؤمن به غير أهله وعدّة قليلة من غيرهم حتّى أيس من إيمانهم وشكا ذلك إلى ربّه وطلب منه النصر (سورة نوح والقمر والمؤمنون).

لبثه في قومه:

لبثعليه‌السلام في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما يدعوهم إلى الله سبحانه فلم يجيبوه إلّا بالهزء والسخريّة ورميه بالجنون وأنّه يقصد به أن يتفضّل عليهم حتّى استنصر ربّه (سورة العنكبوت) فأوحى إليه ربّه أنّه لن يؤمن من قومه إلّا من قد آمن وعزّاه فيهم (سورة هود) فدعا عليهم بالتبار والهلاك، وأن يطهّر الله الأرض منهم عن آخرهم (سورة نوح) فأوحى الله إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا (سورة هود).

٢٥٧

صنعهعليه‌السلام الفلك:

أمره الله تعالى أن يصنع الفلك بتأييده سبحانه وتسديده فأخذ في صنعها وكان القوم يمرّون عليه طائفة بعد طائفة فيسخرون منه وهو يصنعها على بسيط الأرض من غير ماء، ويقولعليه‌السلام : إن تسخروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم (سورة هود) وقد نصب الله لنزول العذاب علما وهو أن يفور الماء من التنّور (سورتا هود و المؤمنون).

نزول العذاب ومجيئ الطوفان:

حتّى إذا تمّت صنعة الفلك وجاء أمر الله وفار التنّور أوحى الله تعالى إليه أن يحمل في السفينة من كلّ من الحيوان زوجين اثنين وأن يحمل أهله إلّا من سبق عليه القول الإلهىّ بالغرق وهو امرأته الخائنة وابنه الّذى تخلّف عن ركوب السفينة، وأن يحمل الّذين آمنوا (سورتا هود والمؤمنون) فلمّا حملهم وركبوا جميعاً فتح الله أبواب السماء بماء منهمر وفجّر الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر (سورة القمر) وعلا الماء وارتفعت السفينة عليه وهى تسير في موج كالجبال (سورة هود) فأخذ الناس الطوفان وهم ظالمون وقد أمره الله تعالى إذا استوى هو ومن معه على الفلك أن يحمد الله على ما نجّاه من القوم الظالمين وأن يسأله البركة في نزوله فيقول: الحمد لله الّذى نجّانا من القوم الظالمين، ويقول: ربّ أنزلنى منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين.

قضاء الأمر ونزوله ومن معه إلى الأرض:

فلمّا عمّ الطوفان واُغرق الناس (كما يظهر من سورة الصافّات آية ٧٧) أمر الله الأرض أن تبلع ماءها والسماء أن تقلع وغيض الماء واستوت السفينة على جبل الجودىّ وقيل بعداً للقوم الظالمين، واُوحى إلى نوحعليه‌السلام أن اهبط إلى الأرض بسلام منّا وبركات عليك وعلى اُمم ممّن معك فلا يأخذهم بعد هذا طوفان عامّ، ومنهم اُمم سيمتّعهم الله بأمتعة الحياة ثمّ يمسّهم عذاب أليم فخرج هو ومن معه ونزلوا الأرض يعبدون الله بالتوحيد والإسلام، وتوارثت ذرّيّتهعليه‌السلام الأرض

٢٥٨

وجعل الله ذرّيّته هم الباقين (سورتا هود والصافّات).

قصّة ابن نوح الغريق:

كان نوحعليه‌السلام عند ما ركب السفينة لم يركبها واحد من أبنائه، وكان لا يصدّق أباه في أنّ من تخلف عنها فهو غريق لا محالة فرآه أبوه وهو في معزل فناداه: يا بنىّ اركب معنا ولا تكن مع الكافرين فردّ على أبيه قائلا: سآوى إلى جبل يعصمني من الماء قال نوحعليه‌السلام : لا عاصم اليوم من الله إلّا من رحم - يريد أهل السفينة - فلم يلتفت الابن إلى قوله وحال بينهما الموج فكان من المغرقين.

ولم يكن نوحعليه‌السلام يعلم منه إبطان الكفر كما كان يعلم ذلك من امرأته ولو كان علم ذلك لم يحزنه أمره وهو القائل في دعائه:( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ) الدعاء نوح: ٢٧ وهو القائل:( فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) الشعراء: ١١٨ وقد مع قوله تعالى فيما أوحى إليه:( وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ) هود: ٣٧.

فوجد نوحعليه‌السلام وحزن فنادى ربّه من وجده قائلاً: ربّ إنّ ابني من أهلى وإنّ وعدك الحقّ وعدتني بإنجاء أهلى وأنت أحكم الحاكمين لا تجور في حكمك ولا تجهل في قضائك، فما الّذى جرى على ابني؟ فأخذته العناية الإلهيّة وحالت بينه وبين أن يصرّح بالسؤال في نجاة ابنه - وهو سؤال لما ليس له به علم - وأوحى الله إليه: يا نوح إنّه ليس من أهلك إنّه عمل غير صالح فإيّاك أن تواجهني فيه بسؤال النجاة فيكون سؤالاً فيما ليس لك به علم إنّى أعظك أن تكون من الجاهلين.

فانكشف الأمر لنوحعليه‌السلام والتجأ إلى ربّه تعالى قائلاً ربّ إنّى أعوذ بك أن أسألك ما ليس لى به علم أسألك أن تشملنى بعنايتك وتستر علىّ بمغفرتك، وتعطف علىّ برحمتك، ولو لا ذلك لكنت من الخاسرين.

٣ - خصائص نوح عليه‌السلام : هوعليه‌السلام أوّل اُولى العزم سادة الأنبياء أرسله الله إلى عامّة البشر بكتاب وشريعة فكتابه أوّل الكتب السماويّة المشتملة

٢٥٩

على شرائع الله، وشريعته أوّل الشرائع الإلهيّة.

وهوعليه‌السلام الأب الثاني للنسل الحاضر من الإنسان إليه ينتهى أنسابهم والجميع ذرّيّته لقوله تعالى:( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) الصافّات: ٧٧ وهوعليه‌السلام أبو الأنبياء المذكورين في القرآن ما عدا آدم وإدريسعليهما‌السلام قال تعالى:( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ) الصافّات: ٧٨.

وهوعليه‌السلام أوّل من فتح باب التشريع وأتى بكتاب وشريعة وكلّم الناس بمنطق العقل وطريق الاحتجاج مضافاً إلى طريق الوحى فهو الأصل الّذى ينتهى إليه دين التوحيد في العالم فله المنّة على جميع الموحّدين إلى يوم القيامة، ولذلك خصّه الله تعالى بسلام عامّ لم يشاركه فيه أحد غيره فقال عزّ من قائل:( سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ) الصافّات: ٧٩.

وقد اصطفاه الله على العالمين (آل عمران آية ٣٣) وعدّه من المحسنين (الانعام ٨٤ الصافات ٨٠) وسمّاه عبداً شكوراً (أسرى آية ٣) وعدّه من عباده المؤمنين (الصافّات ٨١) وسمّاه عبداً صالحاً (التحريم ١٠).

وآخر ما نقل من دعائه قوله:( رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا ) نوح: ٢٨.

٤ - قصّتهعليه‌السلام في التوراة الحاضرة:

وحدث(١) لمّا ابتدأ الناس يكثرون على الأرض وولد لهم بنات أنّ أبناء الله رأوا بنات الناس أنّهنّ حسنات. فاتّخذوا لأنفسهم نساء من كلّ ما اختاروا. فقال الربّ لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد. لزيغانه هو بشر وتكون أيّامه مائة وعشرين سنة. كان في الأرض طغاة في تلك الأيّام. وبعد ذلك أيضاً إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادا هؤلاء هم الجبابرة الّذين منذ الدهر ذوو اسم.

ورأى الربّ أنّ شرّ الإنسان قد كثر في الأرض. وأنّ كلّ تصوّر أفكار

____________________

(١) الاصحاح السادس من سفر التكوين.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406