الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

الميزان في تفسير القرآن14%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 406

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114270 / تحميل: 6649
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

وبعد أشهر من القراءة والبحث عن الحقيقة والحوارات الطويلة حدث أمر أعتبره العامل المفصلي في اعتناقي للإسلام. كنت واقفة في غرفة ابني أحاول أن أصلي. وكان أمامي كتاب عن الإسلام مفتوح على فصل «كيفية الصلاة». وقفت هناك أصارع نفسي. لم أكن قد اعتدت الصلاة مباشرة؟. طيلة حياتي علموني أن أصلي ليسوع وهو سيوصل صلاتي إلى الله... لذا خشيت أنني أقوم بأمر خطأ، ولم أشأ أن يغضب يسوع عليّ! وفي تلك اللحظة، خطرت لي فكرة كموجة عاتية. هل يعقل أن الله سيغضب إذا أردت أن أكون أكثر قرباً منه؟ وهل يعقل أن يسوع سيستاء مني إذا حاولت أن أكون أكثر قرباً من الله..؟ أليس ذلك ما يريدني أن أفعله؟ إن الله.. أعلم بنيتي. حتى هذا اليوم، لا زلت أعتقد أن الله.... كان يتحدث إليّ - بهذه القوة كان الشعور والصوت الذي شعرت به في داخلي. ممَّ كنت أخشى؟ كيف يمكنني أن لا أعتنق الإسلام؟ في تلك اللحظة بكيت طويلاً.

كان ذلك ما احتجت سماعه. وعلمت حينها أنه يجب أن أدخل في الإسلام. شعرت بأن ذلك هو الأمر الصائب وما خلا ذلك أمور غير مهمة.

وبعد أن نطقت بالشهادتين أمام المدرسة كلها أصبحت إنسانة أخرى. لم يعد لديَّ ذلك الشعور بعدم الانتماء وبماذا أؤمن، فقد تحرّرت من القلق الذي كان لديَّ من قبل وولىَّ إلى غير رجعة. وعلمت أنني قد اتخذت القرار الصائب.

لم أكن قط على هذا القدر من القرب من الله.. كما أصبحت بعد أن اعتنقت الإسلام. الحمد لله.. أنا إنسانة محظوظة. وأشكركم على السماح لي بمشاطرتكم تجربتي.

٢٢١

بعد رحلة طويلة من البحث والإبحار في عالم الأفكار والأديان:

سفينة المسلم الهندي نيرڤان تحطّ بأمان على شاطئ الإِسلام

· قصة أخرى مشوّقة من قصص المهتدين للإِسلام، ذات دلالات وإيحاءات غنية بالتجارب الإنسانية والمشاعر الإيمانية الفياضة، يسردها بإيجاز للقرّاء المعتنق الجديد للإِسلام، الأخ الهندي نيرفان، بعدما غمرته أنوار الهداية الإلهية وأنقذته من مهاوي التيه والشك والضلال.

متى وكيف بدأت القصة كلها؟ وهل بدأت فعلاً أم كانت مجرد يقظة روحية؟ إنه إدراك للحقيقة التي طالما كانت كامنة في داخلي؟

إسمي نيرڤان، من التابعية الهندية. لقد وُلدت لعائلة مختلطة، فأبي هندوسي وأمي مسلمة. منذ طفولتي أذكر بوضوح أنني لم أتلقَّ أي تربية دينية من أي نوع كانت. فأبي لم يكن هندوسياً متديناً، فيما تخلت أمي عن الإِسلام، لذا فقد تربيتُ في ما يمكن وصفه بالـ «خواء» الديني والروحي، بيد أنني سأظل ممتناً لأبويَّ لزرعهما فيّ القيم الأخلاقية التي ستظل ترشدني طيلة حياتي. فمع أن عائلتي لم تكن متدينة، إلا أنها ربتني على مبادئ أخلاقية جيّدة تتمثّل في طاعة الأبوين، والصدق، والامتناع عن السرقة، وخدمة الناس كان حجر الزاوية لحياتنا اليومية.

أدركت مؤخراً خلال فترة المراهقة أنه كانت تجول في خلدي ألغاز الوجود: ما هي الغاية من الحياة على الأرض؟ هل الموت هو نهاية كل شيء؟ هل هناك إله؟ وقد تحرك شيء ما في أعماقي موجِّهاً عقلي نحو سعي دؤوب طلباً للحقيقة. كنت بحاجة إلى أجوبة منطقية واضحة وشاملة عن كل تلك الأسئلة التي أرّقت حياتي وحيّرت لُبّي. وعزمتُ على خوض المغامرة، مع أنها متاهة معقدة حول اللاهوت، وطقوس الغابرين، والفلسفة.

٢٢٢

إنطلاقاً من الإلحاد، شققت طريقي إلى البوذية، والمسيحية، والهندوسية، إلا أنني لم أجد أي طمأنينة في أي منها. تملّكني شعور بأن الحقيقة موجودة في مكان ما، ربما أمام عينيّ، إلا أنها لا تزال تراوغني. وفي مرحلة معينة، تخليت عن البحث وتملّكني اليأس. فَلُذت بنيتشه، وسارتر، وكانط، وهاديجر، وماركس، وفرويد، وأندريه جيد، وكريشنامورتي... ولَكَم بدا الإلحاد أكثر إغراءً لي! أقوال مثل «الله قد مات»، «الدين أفيون الجماهير»، «الأديان تنبع من الخوف الفطري من الأب في المجتمعات البدائية». كنت أحيا وأموت بكتب نيتشه وموسيقى مارلين مانسون. حتى أنني أخذتُ أقرأ «الكتاب الشيطاني المقدس» وأصبحتُ مهتماً بالويكا أو الوثنية. وقد قادني هذا الأمر إلى اكتشاف الميثولوجيا الإسكندناڤية، وآلهة الرومان والإغريق... بَيْدَ أن ظمأي للروحانية والحقيقة النهائية لم يتوقف.

عندئذٍ حصلت المعجزة! فذات يوم جمعة، قرّرت أن أذهب مع صديق مسلم إلى صلاة الجمعة لمجرد التسلية. لم يكن في نيتي أن أصلّي هناك، فقد كنت مجرد فضولي فيما يتعلق بالممارسات الدينية في الإِسلام. الدين الوحيد الذي لم أبحث فيه - لقد استمعنا إلى خطبة الإمام وأديتُ حركات الصلاة من خلال تقليدي لصديقي (القيام، والركوع والسجود). عند هذه النقطة، عشتُ تجربة سماوية روحية غريبة. لم أسمع أي صوت، ولم أرَ أي نور... شعرتُ فقط بعاطفة سماوية وكأنها تجذبني. وكلما لامست جبهتي الأرض، كنت أشعر وكأنها لا تريد أن تفارقها. لقد أرسل الله هدايته إليّ. ولن أعود لحالي السابق بعد الآن أبداً.

وبعد الصلاة، سألني صديقي عن شعوري، فلم أجبه، لأن لغة البشر لا يمكن أن تعبّر عن تلك العاطفة بشكلٍ كافٍ. ذلك الإحساس بالحبور تملّك عقلي لأيام، وكان يشير إلى اتجاه واضح جداً: «الإِسلام»، فتساءلت «هل أنخرط في البحث من جديد؟» كانت قوة خفية ما تدفعني إلى الأمام وترشدني للقيام بذلك. وبعد فترة قصيرة، ألفيت نفسي غارقاً في مطالعة الكتب الإِسلامية ومعجباً بأركان الإيمان الخمسة، والعقائد، والمعجزات العلمية في القرآن، والكمال الرياضي. وشرعتُ في الصلاة بحماسة والدراسة الجادة للقرآن، ولكن القصة لم تنته هنا.

٢٢٣

لقد سقطتُ مرات عديدة في بحور الشك، والشيطان يطاردني بإغراءاته. أمضيت ليالٍ طويلة أرقاً متسائلاً إذا ما كنت على الصراط المستقيم، وهل كنت أتصرف بتهور أم لا؟ حتى أنني بلغتُ حافة الارتداد وتملّكتني رغبة بالتخلي عن كل شيء. وتزامن ذلك مع مشاكل واجهتها في المنزل لكون عائلتي غير مسلمة، مما جعل ترك الإِسلام يروق لي، فتركتُ الصلاة، المعراج الشريف، وأصبحتُ أناظر المسلمين حول معتقداتهم وأساعد المواقع المعادية للإِسلام على شبكة الإنترنت. إلا أن شيئاً ما في قلبي ما كان ليتركني أتخلى عن الله. وأدركت أن تلك الأوقات العصيبة كانت فترة ابتلاء لي، فهل أنجح أم أفشل؟ أخذت أصلّي ليل نهار، وأتوسل إلى الله طالباً العون. شعرت بالخجل لأنني شككت في كلمة الله وتركتُ نفسي تتأثر بالحملات المعادية للإِسلام. شعرتُ بالغثيان لأنني كنت ضحية الشك في كل مرة، وتوسلت إلى الله طالباً الغفران. ولكن في النهاية غمرني النور.

شيئاً فشيئاً، قوّى الله تعالى إيماني وجعلني أصمد. واجهتُ النقد والقسوة من الآخرين بالصبر والسكينة، فلم أجادل أو أغتاظ قط. وإذا ما غمرتني الكآبة، توجهت إلى الله للهداية والعون. لقد عدت إلى دين الفطرة، فماذا هناك لأخافه، وأدركت أن المغامرة لم تنته... بل هي قد بدأت. رحلة فاتنة في أرجاء معجزات وأطايب الإِسلام.

لم أبلغ نهاية الطريق بعد، ولكنني الآن في حالة سلام مع نفسي ومع الله تعالى.

٢٢٤

الهداية إلى الصراط المستقيم

بقلم الأخت زهراء (جويس سلوتر) سابقاً

· الأخت الأميركية جويس سلوتر (زهراء) لاح لها شعاع الإِسلام في مراحل عديدة مرّت بها خلال حياتها وتجاربها الدينية السابقة، وظل يلاحقها حتى عمّها أخيراً سنا بريقه الساطع. فاهتدت إلى الصراط المستقيم، كما تقول في قصَّتها التالية التي بعثت بها إلى المجلة، وهي تعمل حالياً على إرساء دعائم الإِسلام ونشره في منطقتها في ولاية ميشغان إلى جانب أخواتها في منظمة المسلمات الأميركيات.

لقد وُلدت في تشرين الثاني/نوڤمبر 1947م من أبوين أميركيين، وقد رباني أهلي تربية كاثوليكية وكانت أمي قد اعتنقت الكاثوليكية قبل زواجها بأبي. وهي تنحدر من سلالة من البروتستانت المحافظين جداً وقد درس العديد من أفراد عائلتها في معهد مودي للكتاب المقدس، كما كان بعض أفراد عائلتها من اليهود، وقد شرحت لي أمي بعض الشرائع اليهودية.

ولطالما كنت مهتمة منذ الصغر بثقافات الآخرين. حيث كنت شغوفة بدراسة المعتقدات والممارسات الدينية المختلفة.

وقد أقنعتني عناصر التشابه في العديد من الممارسات والمعتقدات الدينية بأن هناك معتقداً أصلياً تم نسيانه وتغييره عبر الزمن.

لقد تعلمتُ في مدرسة كاثوليكية حتى المرحلة الثانوية. وقد فكرتُ بدايةً في أن أصبح ملتزمة دينياً، غير أنني لم أوفق لذلك مع أنني كنت أواظب على حضور الصلاة في الكنيسة بقلب مؤمن وأتلقى التعاليم الكنسية في الوقت المحدد.

في ذلك الوقت، تعرّفت لأول مرة على الإِسلام، حيث كنت قد بدأتُ بدراسة اللغة الإسبانية في المدرسة الثانوية. وكما هو معلوم فإن شبه الجزيرة الإيبيرية تأثرت إلى حد بعيد بالثقافة الإِسلامية منذ التواجد الإِسلامي في الأندلس.

وللأسف فإنني لدى شروعي في دراستي الجامعية تركتُ ممارساتي الدينية. حتى خلال العديد من المشاكل أثناء زواجي الأول، لم أذهب للصلاة في الكنيسة. كنت أتلو صلاتي بمفردي وأقرأ في الوقت عينه عن الأديان المختلفة.

٢٢٥

وبعدما مررتُ بمرحلة مليئة بالقلق. بدأتُ بالذهاب مجدداً إلى الكنيسة ومررتُ بتجربة «الولادة الجديدة». وهذه هي مرحلة قرب خاص من الله تعالى.

بَيْدَ أن الله تعالى كان قد رسم لي خطة أخرى ليقرّبني منه أكثر، أو هكذا يبدو الأمر لي عندما أعود بالذاكرة. لقد تصادقت ابنتي مع فتاة إيرانية في المدرسة. وقد التقيتُ بأهل تلك الفتاة وتعرفتُ على ثقافتهم. عندها اشتريتُ لأول مرة ترجمة للقرآن الكريم. وبعد حوالى عام انتقلنا إلى سكن آخر، حيث التقيت بإحدى صديقاتي التي كانت متزوجة من إيراني. ومجدداً تعرّفت أكثر على الثقافة الإيرانية وكيفية طهو بعض الأطباق الإيرانية. ومع أن صديقتي لم تكن مسلمة، إلا أنها حدثتني عن الإِسلام، ومجدداً شدّ ذلك اهتمامي. في العام 1997م بدأ يساورني شعور بأن الله تعالى يريدني أن أقوم بأمر ما، شيء أكثر من مجرد إطاعة تعاليم الكنيسة وقوانين البلاد. شعرتُ بأن عليّ أن أبدأ بتعلم قيادة سيارتي بمفردي إلى أماكن بعيدة، لذا كنت أذهب إلى أوماها في نبراسكا للعمل هناك طيلة أسبوع. وذهبتُ للاعتراف في فترة عيد الميلاد وأخبرتُ الكاهن بشعوري بأن لديَّ مهمة خاصة. أعتقد أنه ظن أنني إنسانة «غريبة الأطوار». ثم في كانون الثاني/يناير 1998م، توفي زوجي الثاني إثر ذبحة قلبية. كان عمره 46 عاماً فقط. وعندئذٍ أصبحت قريبة جداً من الله تعالى وقد منحني ذلك قدراً كبيراً من الراحة.

أمضيتُ قسماً كبيراً من وقتي باحثة عما عليّ القيام به لنفسي في ذلك الحين. أصبحتُ نشطة جداً في الكنيسة كالمساعدة في جمع التبرعات لبناء مدرسة، وقد تم انتخابي عضواً في مجلس الرعية. وعبر كنيستي التقيتُ أشخاصاً من سائر أنحاء العالم. وقد تمكنتُ من السفر إلى الهند وإسبانيا.

وفي الهند رأيتُ الناس من جميع الأديان يعيشون معاً منسجمين.

٢٢٦

وفي أيار/مايو 2001م قررت أخيراً الإصغاء لنداء الله وركزت على الصلاة من أجل السلام في العالم. وقد شعرتُ على امتداد السنوات أن لديَّ حافزاً قوياً للعمل من أجل السلام في العالم. وقد بدت تلك مهمة مستحيلة.

في الأعوام القليلة التالية واصلت حياتي كما في السابق، كنت أقرأ عن الأديان الأخرى واستمريت في الأنشطة التطوعية. في العام 2003م بدأتُ بحضور سلسلة من المحاضرات عن الإِسلام في مسجد في بلومنغتون. وبعد أن انتهت السلسلة بدأتُ بحضور جلسات في منزل إحدى الأخوات إلا أنني انتقلت بعد ذلك، لذا توقفتُ عن حضورها. عرفت بأنني سأصبح مسلمة إلا أنني لم أرد أن أستسلم وأتغير. لقد اشتريتُ نسخة من القرآن الكريم ترجمها يوسف علي وقرأتها كلها. وقد قرأتُ سيرة النبي محمد (ص) وكتباً عن الإِسلام. وعندما نفق كلبي، لم أحضر كلباً آخر بل قطة لأنني عرفتُ أن معظم المسلمين يعتقدون أن الكلاب نجسة.

حلّ العام 2006م وتلقيتُ المزيد من الإشارات من الله تعالى ذات مرة كنت وصديقة لي نتحدّث عن المشاكل في العالم الإِسلامي، فقالت لي إننا من غير المسلمين ولا يمكن لنا أن نكون ممن يحمل السلام للعالم الإِسلامي. واتفقنا أن ذلك يحدث فقط من خلال المسلمين أنفسهم. وأدركتُ أنني إذا ما أردت العمل من أجل السلام في العالم فإنه عليّ أن أصبح مسلمة، إلا أن نفسي الضعيفة لم ترغب بالتغيير. وقد تجاهلتُ المزيد من الإلهامات الإلهية التي وصلت إليّ عبر أشخاص في مجموعة دراسة الكتاب المقدس التي كنت أنتمي إليها. إحدى السيدات كانت تقول للجميع باستمرار إن علينا أن نستسلم لمشيئة الله أليس ذلك ما يتضمنه الإِسلام؟ سيدة أخرى قالت اختاروا طريقاً والتزموا به. أليس الإِسلام هو الصراط المستقيم؟ لقد حاولت خلال أعوام أن أحصل على شيء يربطني أكثر بالكنيسة الكاثوليكية، وتقدمت بطلبات لعدة وظائف في أبرشيتنا، إلا أنهم لم يجدوني ملائمة للوظيفة. أعرف أن الله تعالى بمشيئته قد حال دون توظيفي كي أكون حرة أكثر من أجل الإِسلام. ومع ذلك، لم أكن أخال نفسي عنيدة إلا أنني كنت كذلك فعلاً، لم أشأ التخلّي في هذا الوقت عن شرب الكحول وأكل لحم الخنزير ومن ثَمَّ المواظبة على الصلاة اليومية، والالتزام باللباس الشرعي الإِسلامي.

٢٢٧

أخيراً، وخلال حضوري دروساً جامعية، قررت التوقف عن شرب الكحول. وعندما تمكّنتُ من القيام بذلك، عرفتُ أنني قادرة على القيام بأي شيءٍ آخر. ورغم ذلك استمر خوفي من تلك الخطوة. إلى أن دعوت الله تعالى أن يهيء لي معلماً إذا أرادني أن أعتنق الإِسلام. وبما أنني كنت أدرس في جامعة كاثوليكية كنت متأكدة أن معلماً كهذا لن يظهر أبداً.

ولكن الله تعالى يقول في (سورة يس آية 82):﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَیْئًا أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ ﴿82﴾ ﴾ . فقد جاءني المعلم المسلم إلى صف اللاهوت المسيحي الذي كنت أتابع فيه، عندها، أدركتُ أنه لا مكان للتردد بعد الآن، فأدّيت الشهادة لله ولرسوله بعد فترة قصيرة. أعرف الآن أن عليّ الاستمرار في كفاحي كي أكون مسلمة صالحة عاملة ولكني أعرف أني بعون الله وبمساعدة إخواني وأخواتي المسلمين سأظل على الصراط المستقيم.

٢٢٨

(سيريل سفراك)

الشاب الفرنسي المهتدي للإِسلام

هكذا استنار قلبي بنور الإِسلام المتجلّي بالنبي الأكرم (ص) والمتجسّد بنهج أهل البيت (عليهم السلام)

«سيريل سفراك» شاب أخلص قلبه لله منذ طفولته، فأكرمه تعالى بنعمة الإِسلام في شبابه، وبرحمته أصبح شاباً مسلماً فخوراً بانتمائه الجديد رغم انتقادات الكثيرين من حوله لكونه فرنسياً اعتنق الإِسلام.

لكن قلب «سيريل» مطمئن بالإيمان مستنير بكلمة الحق التي تجلت في دين محمد (ص) وتجسدت في نهج آل البيت (عليهم السلام) ، وهو هنا يروي عبر مجلة (نور الإِسلام) قصة هذا التحول نحو الإِسلام الذي يراه: الحب الخالص لله.

يقول «سيريل»: وُلدت عام 1975م في أُسرة لا يؤمن أفرادها حقاً بوجوده تعالى. لم يلق تناولي للقربانة الأولى التي تمثل دخولي إلى الديانة المسيحية أي اعتراض بينهم ولا أي تشجيع. التحقتُ صغيراً بصفوف التعليم الديني. كنت متحمساً جداً فرحاً بما أتلقاه من تعاليم؛ خاصة عندما يتعلق الموضوع بالمسيح (ع) ، كانت معلومات سطحية بعض الشيء، لكنها كانت كافية لتغذي حلم كاهن صغير لا زال في سن الثانية عشر... صرتُ أقرأ التوراة والإنجيل بارتياح كبير حتى تعمّقتُ في قراءتهما، فبدا لي وقتذاك شرخاً كبيراً بين تعاليم الكتب المقدسة والدروس الكنسية، وبدأتُ أطرح على نفسي أسئلة جمة كتحريم زواج رجل الدين، مع أن الزواج خطوة مباركة يحثُّ عليها الدين، أو انتشار الأيقونات والمنحوتات كرموز دينية. حتى في الكنائس. مع أن ذلك لا يتناسب مع ما نص عليه الكتاب المقدس... كثرة الأسئلة، وكثرة التناقضات، دفعت بي إلى التمسك بإيماني (بديني) في حين أسقطت من اهتماماتي تعاليم الكنيسة، فكانت علاقتي بالله مباشرة لا تمر عبر كنيسة ولا تحدها سلطة دينية، هذا الخط الذي رسمته في سن الخامسة عشر، أخلصت له سنين طويلة.

٢٢٩

أذكر أني حين تعرفتُ إلى أصدقاء من «شهود يهوه» كنت أحاججهم بإيماني بالإنجيل، كانت أسئلتهم تحثني على البحث لاستخلاص الأجوبة، ولكن ما تعلمته من خصمي أن العقل هو السبيل لمعرفة الله «وهذا لا زال منهجاً في حياتي الدينية».

خلال أعوام دراستي الجامعية (كنت قد اخترت دراسة علم النفس) تعرفت على صديق سرعان ما صار بمثابة أخ لي، كان يجمعنا، عدا السكن الجامعي، سهرات قضيناها معاً تبادلنا فيها الآراء وأخرى ناقشنا فيها أفكاراً فلسفية لا حدود لها.

كان صديقي مسلماً، يصوم شهر رمضان لا أكثر، لكن إيمانه الداخلي كان يحاكي قناعاتي التي كونتها عن الله، ولما كنت أفتقر إلى كثير من المعلومات حول ديانته (الإِسلام) قدم لي مرة كتاب «القرآن» وعلمني كيفية الوضوء شارحاً لي ضرورة القيام به عند قراءة القرآن. ظل الكتاب على طاولتي شهوراً لم أفتحه، كنت أشعر أني لست جديراً بفتحه، وغاب صديقي عني فجأة.. واختفى! صدفة أخرى جمعتني بسيدة مغربية دعتني لحضور حلقات دينية كانت تعقد في شهر رمضان، بدا لي الحديث عن الإِسلام جلياً، فبادرتُ أطرح أسئلتي وأتعرف أكثر فأكثر على الإِسلام، ولا أنسى أني سمعتُ لأول مرة في حياتي عن الصهيونية العالمية وكان عمري قد تجاوز السابعة والعشرين.... وبدأتُ رحلة البحث عن الحقيقة: صرتُ أنهل من هذا العلم الواسع لأجد الأجوبة الشافية لأسئلتي، وأستغرقُ في البحث والتفكير فتمضي ليالٍ تلو أخرى والتساؤلات تكبر في داخلي، فأرويها بالمعرفة والتزود، ويقيني بوجود دين يجيب على أسئلتي (تطلعاتي وأفكاري) يتأكد يوماً بعد يوم، فعرفت أن الدين الإِسلامي هو آخر الديانات السماوية، وأن الله هو الرب الأوحد لكل هذه الديانات، فاعتقدتُ بذلك، وصرتُ أرى الإِسلام مُكمّلاً لها. ذات يوم تجرأت وفتحت القرآن، ومن قراءتي لأول آياته، تعلقت بكتابي، وصرت أقرأ وأزداد تعلقاً وأتمنى أن أصل إلى آخر صفحاته. فهمتُ أن المسلم يؤمن بوجود المسيح كرسول كريم وهذه الحقيقة لعيسى (ع) لاقت صورة رسمتها سابقاً في داخلي للمسيح الذي آمنت بوجوده على طريقتي (على فطرتي)، وتوضحت أكثر. اعتقدت ببعثة محمد (ص) خاتماً للرسل، صرتُ أراني مسلماً بشكلٍ عفوي وتلقائي؛ فكيف أتعبد؟ تودّدتُ لجار لي، سوري علوي، كنا نتحاور وحين يصعب سؤالي عليه، كان يتصل بأستاذه في سوريا ويجيبني، حدثني كثيراً عن الإمام علي (ع) ، شخصية جذبتني بعفوية، لكن مبالغات جاري وصديقي لم تخفَ عليّ.

٢٣٠

نهج أهل البيت(عليهم السلام) :

واصلت البحث وتعمقت أكثر، وكان طريق أهل البيت بالنسبة لي هو المنهج السليم والنيّر، فخيانة يهوذا في الدين المسيحي حادثة تعيد نفسها بعد وفاة النبي (ص) وانقلاب بعض الأصحاب عليه، وهذه الخيانات يحذرنا منها القرآن الكريم في مواضع عدة، والنبي محمد (ص) الذي تأذى أكثر من كل الأنبياء في حياته، لم يرحمه أتباعه من بعده، فالتيار جرف كثيراً من المسلمين وقلة منهم تمسك بوصاياه. هنا، يرشدنا العقل إلى السبيل القويم، إلى نهج آل محمد (ص) ، ولمَ كان أتباعه الخلّص قلة تفانوا لأجله وما زالوا.

أصداء:

كان لاعتناقي الإِسلام صدى كبيراً لدى مَن حولي: أصدقائي وزملائي في الجامعة على وجه الخصوص. أحدهم (والذي جمعتني به صلة قرابة لاحقاً: صار أخ زوجتي) كان يأتي إليّ يحدثني عن الإِسلام، ونصلي معاً، ويصحح لي ما تعلمته، ويوضح لي الأحكام الشرعية، فصرت أتبع المدرسة الجعفرية. (مدرسة الإمام الصادق (ع) ):

وصارت تعقد في غرفتي حلقات الحوار والنقاشات الفلسفية والتي غالباً ما جمعت الكثير من الشبان والشابات، فكانت فرصتي للتعرف على زوجتي التي كانت وما زالت بالنسبة لي لطفاً إلهياً مباركاً أنار دربي؛ إذ كان لها الفضل أولاً في تعليمي حفظ بعض السور، وكذلك أداء الصلاة باللغة العربية. وفجأة ظهر صديقي وأخي الذي افتقدته طويلاً، أطل هذه المرة بحلة جديدة، فقد التزم دينياً واصطحبني إلى المسجد لأول مرة وشرح لي أحكام صلاة الجماعة، وتزوج هو أيضاً، وكلانا رزق بطفلة، فكبرت عائلتانا في نور الإِسلام.

إلهي وسيدي الذي أدعوه كلما شئت لحاجتي، وأخلو به حيث شئت لسري... الحمد لك والشكر لك على ما خلقتني وسوّيتني، وربّيتني وأعطيتني حمداً دائماً لا ينقطع أبداً.. اللّهمّ املأ قلبي حباً لك وخشية منك وتصديقاً لك وإيماناً بك.

٢٣١

قصة إسلام الشاب الأرجنتيني

«محمد عيسى غارسيا»

من آثار السمعة الحسنة التي حققها مسلمو الأرجنتين هي ظاهرة إسلام العديد من المواطنين من أصل أرجنتيني نظراً للقِيَم النبيلة التي لمسوها في الدين الإِسلامي والطابع الأخلاقي السليم لسلوك المهاجرين المسلمين.

في هذا الإطار تلقينا من الأخ الكاتب مجاهد شرارة المقيم في الأرجنتين قصة شيقة عن (محمد عيسى غارسيا) وهو شاب أرجنتيني وجد سعادته كما يقول في الإِسلام بعد بحث طويل عن الحقيقة مقتفياً آثار الصحابي الجليل سلمان الفارسي (رض)

حكاية محمد عيسى أنه ولد لأبوين نصرانيين وقد أمضى طفولته في التردد على الكنيسة، ولمّا بلغ العاشرة من عمره أنهضته نفسه البريئة إلى بداية رحلة جديدة للتأمل في الكون الذي حوله، ورغم صغر سنّه وقصور ذهنه على الاستدلال إلّا أن فطرته لم تكن لتتقبّل عقيدة التثليث فقد كان يميل ببراءته إلى أن عيسى بن مريم (ع) شخصية عظيمة وليس إلهاً، وهذه المسألة هي التي فتحت باب المناقشات والتساؤلات بينه وبين أهله في البيت ومع قساوسة الكنيسة التي يتردد إليها.

لم يجد محمد عيسى غارسيا وهو الطفل البريء جواباً شافياً على تساؤلاته المبكّرة وما يجيش في نفسه، وازدادت حيرته وقلقه عندما لم يعر أهله والكنيسة اهتماماً بسؤاله نظراً لصغر سنّه.

مرّت الأعوام بمحمد عيسى حتى بلغ الخامسة عشر وهو يحمل في نفسه تلك الأسئلة، ودخل الثانوية العامة، وتلقى في أثناء دراسته كلاماً سطحياً عن الإِسلام ومغلوطاً في الكثير من الأحيان، فالكتاب المدرسي يذكر أن المسلمين يعبدون الحجر الأسود ويسجدون للكعبة مصحوباً بصور للمسلمين وهم يصلون ويسجدون ويطوفون حول الكعبة.

٢٣٢

كبر محمد عيسى وكبرت معه حيرته فهو الآن شاب بإمكانه أن يحلّل ويستدل فقد قوِيَ تمسّكه وولعه بالبحث عن الحقيقة. وفي ليلة من ليالي شهر أكتوبر عام 1989 ضاقت به نفسه فالسؤال ما زال يتردد داخله، من هو خالق الكون؟! ووقف في جنح الليل ينظر إلى السماء هاتفاً: «يا أنت الذي خلقتني اهدني للحق وإلّا خذ روحي فإني أعيش حياة ضالة» وانهمرت من عينيه دموع الحيرة ثم استسلم للنوم. وفي الصباح استيقظ على طرق الباب فوجد محمد رجلاً مشرق الوجه يطلب منه أن يحدِّثه لبعض الوقت، وبدأ حديثه بقوله: أنا «ماشوركا»، مسلم جئت لأحدثك عن الإِسلام. وأخذ ماشوركا يحدّثه عن الله ووحدانيته وعظمته وكيف أنه يستحق العبادة ومنزّه عن كل نقص.

انشرح قلب محمد عيسى غارسيا لهذه الكلمات، ونظر إلى السماء متذكراً ما دعا به في الليلة الماضية، وشعر برحمة الله تحفه ونفحات الإيمان تتدافع في قلبه. دام حديث ماشوركا معه ثلاث ساعات بعدها استأذن لصلاة الجمعة. وقبل أن ينصرف طلب غارسيا أن يرافقه إلى المسجد، فقد وجد ضالته ولن يتركها تضيع من بين يديه، واستمع للخطبة التي تحدثت عن الإِسلام. وما إن فرغ المصلّون من الصلاة حتى توجه محمد غارسيا إلى ماشوركا مخاطباً: أريد أن أسلم، ماذا أفعل؟ فقال له: عليك بنطق الشهادتين ثم الاغتسال. ففعل محمد غارسيا ما طلب منه فكبّر المصلّون فرحاً بإسلامه.

طريق الأهل الشائك والهجرة إلى الحقيقة:

تعلّم محمد عيسى غارسيا في المدرسة والبيت الحرية في أن يعتقد ما يريد دون أن يؤثر ذلك في حياة الأسرة، لكن ما حدث بعد إسلامه كان خلاف ذلك، فقد واجهته المصاعب من جميع الجهات؛ فوالدته غضبت منه غضباً شديداً وتوعدته رغم حبها الجمّ له، وقام والده بطرده من المنزل وهو ما زال طالباً لم يتعدَّ 18 عاماً، فخرج حزيناً من بيته مصدوماً من أهله الذين طالما تغنوا بالحرية في المعتقد والسلوك.

٢٣٣

ليس لمحمد عيسى غارسيا أحد يلجأ إليه سوى «ماشوركا» الذي احتضنه ووفر له عملاً بسيطاً في شركة لتصنيع البلاستيك، ومأوى في بيته كي يعيش فيه. ظل محمد عيسى يعمل ويتردد إلى المسجد كي يتعلم العربية وتعاليم الإِسلام، كان جلّ همّه أن يستزيد من المعرفة وينهل من نهج نبي الإِسلام (ص)

رغب محمد عيسى أن يتعلم سيرة النبي (ص) فأقبل على كتاب السيرة النبوية «لمارتن لينكس»، وكلما قرأ عن الاضطهاد الذي تعرض له النبي وكيف صبر عليه، ازداد صلابة في مواجهة الحياة الصعبة التي يعيشها، وبعد فترة اجتهد محمد عيسى في حفظ القرآن والأحاديث النبوية حتى حفظ جزء «عم» و«الأربعون النووية».

ظلّت نفس محمد عيسى تهفو لزيارة البيت الحرام والوقوف أمام مقام الرسول (ص) حتى أتت فرصة الحج عام 1993 ووقف أمام الكعبة يصلّي معلناً أنه لا يسجد لها ولا يعبد الحجر الأسود بل يسجد ويعبد الله وحده.

بعد الحج عزم محمد عيسى على التخصص في علم الحديث بعدما تعلّم اللغة العربية، وكانت ترافقه أمنية في أن يهدي الله أُمه للإِسلام فأخذ يراسلها ويكتب إليها ويتصل بها بين الحين والحين، وفي إحدى المرات فاجأته أُمه بقولها: «لقد أسلمتُ يا محمد» حينها طار قلب محمد فرحاً لإِسلام أُمه.

عاد محمد عيسى عام 2004 إلى الأرجنتين بعد رحلة استغرقت إحدى عشر عاماً، حفظ خلالها عشرة أجزاء من القرآن الكريم وأتقن اللغة العربية، آنذاك حمل محمد عيسى لواء الدعو إلى الله وتبصير الناس بالله وبالإِسلام لكنه واجه ظروفاً صعبة، ولكن من براثن الظلام يتولد الضوء، فكثير من الأرجنتينيين بدأوا يسألونه عن الإِسلام وهو يشرح لهم حقيقة الافتراءات التي ألصقت بهذا الدين الحنيف، حتى أسلم على يديه 70 رجلاً وامرأة خصصوا لهم مكاناً للصلاة في حيّهم، ويقوم محمد عيسى بتدريس العربية للمسلمين الجدد وتعليمهم قراءة القرآن وتعاليم الإِسلام.

٢٣٤

أصبحت الدعوة إلى الإِسلام هي الشغل الشاغل لمحمد عيسى وتطورت أساليبه في التبليغ، فنظراً إلى أنه يجيد اللغة العربية والإسبانية اتجه إلى الترجمة عندما وجد ندرة في الكتب الإِسلامية باللغة الإسبانية، فعمل مديراً لقسم اللغة الإسبانية في الدار العالمية للكتاب الإِسلامي، وقد ترجم حتى الآن أكثر من سبعين كتاباً إسلامياً من العربية إلى الإسبانية، ويناشد محمد عيسى الجميع الحكومات والمؤسسات الإسلامية أن يدعموا الدعوة والتبليغ في الأرجنتين وأمريكا اللاتينية، وأن تزيد حركة الترجمة وتتسع حتى تشمل جميع الكتب التي تحتضن العلوم الشرعية.

وليس غريباً أن يلوم المسلم الأرجنتيني محمد عيسى المسلمين على تقصيرهم في تبليغ رسالة الإِسلام في أمريكا اللاتينية، بعدما اطلع على عظمة الإِسلام ونجاعته في سعادة الإنسان في هذا العصر، فالمسلمون بنظره لا يقدّرون إسلامهم حق قدره. ويضيف محمد عيسى غارسياً قائلاً: «كثير من الدعاة يسافرون إلى أماكن أخرى من العالم مقابل عدد قليل جداً يأتي إلينا للدعوة إلى الله، وهذا يحزنني كثيراً، فالناس هنا في الأرجنتين، متقبلون للإِسلام ولكنهم يحتاجون إلى من يرشدهم إليه».

نداء إلى المسلمين:

وفي نهاية حديثه معنا قال: «60% من الأرجنتينيين الذين أسلموا تعرفوا على الإِسلام من خلال مواقع الإنترنت، وهناك مواقع إسبانية عن الإِسلام وكذلك منتديات للحوار باللغة الإسبانية، لذلك أناشد الشباب المسلم العربي أن يتعلم اللغة الإسبانية يدخل إلى هذه المواقع ليدعوا إلى الله، أرجو أن تهتموا بأمور المسلمين الجدد في أمريكا اللاتينية ونحن نرحب بكم جميعاً ونود أن نستقبلكم في بيوتنا».

٢٣٥

قصّة قسيس روسي

اعتنق الإسلام بعد صراع ضد الإلحاد :

من هو القسيس المسيحي الروسي الذي اعتنق الإسلام وما هي قصة الشيخ الذي دخل عليه إلى قلب الكنيسة وكان كلامه بمثابة دعوة للهدى، وماذا يفعل بولوسين ورفاقه لنصرة الإسلام في روسيا؟

قال الدكتور في الفلسفة والعلوم السياسية علي فيتشسلاف بولوسين: «لقد تربيت في عائلة غير مؤمنة ولكنني كنت أدرك بإحساسي وجود الله الذي أتوجه إليه في كل ضائقة وسرعان ما تنفرج».

وأضاف بولوسين الذي وضع عدداً من المؤلفات حول علوم الدنيا والآخرة أبرزها كتابه «الخرافات والدين والدولة» الذي صدر في موسكو في عام 9991م إنه التحق بكلية الفلسفة في جامعة موسكو من أجل الوصول إلى معرفة حقيقة الله (سبحانه وتعالى) حيث تخرَّج بعد أن أمعن في دراسة المسيحية الأرثوذكسية وقال «اكتشفت الكثير من التناقضات فيها».

وإبان العهد السوفياتي حيث كانت الشيوعية تمثل الإيديولوجية الرسمية للدولة وكانت الكنيسة الأرثوذكسية تمثل البديل الوحيد الموجود التحق بولوسين بمدرسة الرهبان وأصبح قسيساً في عام 3891م. وأقر بولوسين بأن وضعه كراهب كان يشكِّل رمزاً للصراع ضد الإلحاد وفي الوقت نفسه فإن مقامه كراهب كان يفرض عليه ممارسة طقوس تلبية لاحتياجات الناس المؤمنين التي يقول إنه «لم يقتنع بها مما خلق لديه ازدواجية بين الإيمان الشخصي والواجب الديني الاجتماعي ويعتقد بولوسين أن شكوكه ومواقفه التي لم يكن قادراً على إخفائها كانت السبب وراء إبعاده إلى آسيا الوسطى للخدمة في إحدى الكنائس في طاجكستان «حيث تعرفت لأول مرة وبصورة مباشرة على المسلمين والإسلام الذي بدأت أشعر بانشداد إليه».

وروى بولوسين أن شيخاً وقوراً دخل عليه إلى قلب الكنيسة التي كان يرعى أمورها وبدون أن يقدِّم نفسه «سألني عدة أسئلة أجبته عليها وبعدها قال لي إنك تنظر إلى الأمور بعيون مسلم وستكون إن شاء الله من المسلمين».

٢٣٦

وقال بولوسين: «بدا هذا الأمر عجيباً وغريباً إذ دخل الشيخ إلى قلب الكنيسة بكل احترام ولكنه غير آبه بأي مكروه قد يتعرض إليه ليدعو راعي الكنيسة إلى الإسلام، والعجيب في الأمر أن هذه الدعوة دخلت إلى روحي ولم تلقَ مني أي مقاومة».

وأضاف: إن الأمر الأكثر عجباً أنني لم أرَ هذا الشيخ قبل هذه الحادثة ولا بعدها وبعد وقت أدركت أن مجيئه إليّ كان مثابة «دعوة للهدى».

وبعد آسيا الوسطى تولى بولوسين رعاية كنيسة مهجورة أعيد ترميمها في مدينة كالوغا حيث يعترف بأنه بدأ فيها ممارسة قناعته بالإيمان بعيداً عن الطقوس التي لم يكن يؤمن بها.

وبفضل العلاقة الطيبة التي ارتسمت بينه وبين رواد الكنيسة سارع الناس في سنوات الانفتاح والانعتاق الديني التي دشنتها البيرسترويكا إلى ترشيحه لعضوية البرلمان الروسي في عام 0991م حيث أصبح نائباً في البرلمان وترأس لجنة برلمانية لحرية العقيدة وتفرغ للعمل النيابي بعد أن تقدم بطلب رسمي إلى الكنيسة حرره من التزاماته الشكلية الدينية.

وأضاف أن فترة عمله في البرلمان تُوِّجت بإقرار قانون حول الأديان منح الكثير من التسهيلات للمسلمين وظل العمل به مستمراً حتى عام 7991م.

ويعترف بولوسين أنه انكب في بداية التسعينيات على دراسة المصادر التاريخية القديمة للمسيحية في محاولة للوقوف على تفسيرات للشكوك التي انطوت عليها نفسه ولكن هذه الدراسة المتعمقة زادت شكوكه وعمقتها «حسب قوله».

واستطرد بأن عام 5991م كان عام التحول في قناعاته الدينية حيث توقف تماماً عن ممارسة عمله في الكنيسة وانتقل لدراسة الإسلام وقال: «لكن قراءة القرآن بالترجمة الروسية التي أعدها أغناتي كراتشكوفسكي شوهت المعاني السامية للقرآن التي لم تتضح بأبعادها العظيمة إلّا بعد مراجعة ترجمة عصرية للمعاني القرآنية والمؤلفات الإسلامية حول المسيح واستماعي إلى سلسلة محاضرات حول الدين الإسلامي حيث لم يبقَ لديّ أي شك في اعتناق الإسلام.

٢٣٧

وقال بولوسين «أعلنت إسلامي سراً ولم يكن يعلم به أحد سوى شخصين، وانطوى هذا القرار على خطر يتهدد حياتي وحياة زوجتي التي سبقتني إلى الإسلام وظللت على هذا الحال حتى العام الماضي حيث نطقت علناً بالشهادتين في حديث أدليت به لصحيفة «المسلمون» واتخذت لنفسي اسم علي وزوجتي علية».

ورداً على النظريات الغربية التي ترى أن الصراع بين الأديان والحضارات يبدو حتمياً أعرب بولوسين عن قناعته بأن روسيا تشكل نموذجاً يحتذى للتعايش السلمي بين الإسلام والمسيحية بالرغم من بعض الفترات التاريخية التي ألحقت فيها الدولة أذى بالمسلمين كما حدث في العهد القيصري إبان حكم إيفان الرهيب وغيرها.

وحذر بولوسين من وجود أطراف خارجية تسعى لإثارة النعرات الدينية في روسيا من أجل تقويض الوحدة الوطنية وإضعاف الدولة الروسية.

ويتهم بولوسين الصهيونية بأنها صاحبة المصلحة الأولى في الإيقاع بين المسلمين والمسيحيين في روسيا.

ودحض بولوسين بقوة محاولة إضفاء صفة الإرهاب على الإسلام قائلاً إن الأصولية اليهودية تشكل قمة التطرف لأنها تندرج في الإطار الإيديولوجي للصهيونية وتقوم على الخرافات التي كانت قائمة قبل ثلاثة آلاف عام.

وتساءل «كيف يتحدثون عن الأصولية الإسلامية وكلنا نعرف إن الأصولية اليهودية هي التي أقامت دولة على حساب شعب آخر استناداً إلى روايات خرافية وما زالت تسعى لإقامة دولة إسرائيل الكبرى على حساب الأمة العربية جمعاء».

وعن المهام الملحَّة التي يقوم بها بولوسين لنصرة الإسلام في روسيا قال إن المهمة الملحة تتمثل في «تقديم صورة صحيحة عن الإسلام للمواطنين الروس على جميع الأصعدة بما في ذلك أجهزة الدولة الأمنية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية».

وأضاف أننا نقوم بنشر صورة الإسلام المشرقة بصفته ديناً قائماً على المحبة والتعايش السلمي وسط المثقفين الروس وبدأنا بإصدار نشرة الصراط المستقيم التي تتضمن مقالات تطرح نظرة عصرية وحديثة للإسلام في روسيا وموقف المسلمين إزاء معضلات ومشكلات المجتمع الروسي.

٢٣٨

وذكر بولوسين الذي يعمل في الوقت الحاضر مستشاراً لدى رئيس الإدارة الدينية لمسلمي الجزء الأوروبي من روسيا أنه يعمل مع فريق من المسلمين الروس على وضع أسس لبرنامج اجتماعي للمسلمين الروس من أجل طرحه في الأوساط الروسية الرسمية والاجتماعية.

٢٣٩

الأخ الإسباني يوسف فرنانديز

يقول:

· أدركت أن الإسلام هو ما كنت أنتظره منذ فترة طويلة، فهو نهج حياة واضح لا يكتنفه غموض أو أسرار.

· قبل الإسلام كنت شخصاً عصبياً متشائماً لا يرى معنى لوجوده.. وقد أصبحت بعده إنساناً هادئاً وحيوياً وإيجابياً.

· في إسبانيا آفاق الدعوة إلى الإسلام جيّدة على الرغم من أن العمل في هذا المجال ليس كافياً.

يوسف فرنانديز.. أخ مسلم غربي آخر يروي قصّة تحوّله المشوّقة إلى جمال أنوار الإسلام، بعد رحلة طالت مع العقائد والأفكار السائدة في عالم الغرب، التي لم تشفِ غليله، ولم توفّر له قناعة بسلامتها وطمأنينة بصلاحيتها.. وقد تفضّل مشكوراً بالكتابة عن قصّة اعتناقه للإسلام، ليطّلع عليها قرّاء المجلة وكل من هو متيقِّن بعظمة هذا الدين الحنيف.

لقد وُلدت في العام 5691 في أستورياس، وهي منطقة في شمال إسبانيا زُعم أنها مهد الكاثوليكية الوطنية، أي العقيدة السياسية والدينية التي سادت في إسبانيا طيلة خمسة قرون. تقول أساطير الفكر الرسمي القديم إن المسلمين الذين جاؤوا في العام 711 ميلادي إلى إسبانيا عن طريق مضيق جبل طارق واستولوا على معظم أنحاء شبه الجزيرة الأيبيرية في سبع سنوات فقط، قد هُزموا من قبل الملك بيلايو وبعض أتباع المسيحية في كوفادونغا، وهي معقل جبلي في أستورياس. وقد قيل إن ذلك آذن ببدء الـatsiuqnoceR (الاسترداد) أي الحرب المسيحية المقدسة التي استمرت ثمانية قرون لفتح شبه الجزيرة بأكملها والقضاء على الدول الإسلامية فيها. وفي الثاني من كانون الثاني/يناير 2941، سقطت غرناطة؛ وقد مثل هذا التاريخ نهاية العصر الإسلامي المشرق في الأندلس.

بعد ذلك، أصبحت إسبانيا دولة كاثوليكية رسمية وذلك حتى وفاة الدكتاتور فرانشيسكو فرانكو في العام 5791. وفي عام 8791، تمت المصادقة على أول دستور ديمقراطي، وبعد ذلك بعامين صدر أول قانون للحرية الدينية.

نظراً لهذه الحقائق التاريخية، كان من المفترض أن تكون أستورياس مكاناً من الصعب أن يكتشف المرء الإسلام فيه، لا سيما وأن الهويتين الأستورية والإسبانية قد تم ربطهما بالكاثوليكية الوطنية لفترة طويلة.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

أفعاله يجرى في التفكّر والاستدلال أعنى القياس والاستنتاج إلى غايات بعيدة.

وهو مع ذلك لا يستقرّ في فحصه وبحثه على قرار دون أن يحكم في علّة هذا العالم المشهود الّذى هو أحد أجزائه بشئ من الإثبات والنفى لما يرى أنّ سعادة حياته الّتى لا بغية عنده أحبّ منها تختلف على تقديري إثبات هذه العلّة الفاعلة المسمّاة بالإله عزّ اسمه ونفيه اختلافاً جوهريّاً فمن البيّن أن لا مضاهاة بين حياة الإنسان المتألّه الّذى يثبت للعالم إلهاً حيّاً عليماً قديراً لا مناص عن الخضوع لعظمته وكبريائه والجرى على ما يحبّه ويرضاه، وبين حياة الإنسان الّذى يرى العالم سدى لا مبدء له ولا غاية، وليس فيه للإنسان إلّا الحياة المحدودة الّتى تفنى بالموت وتبطل بالفوت، ولا موقف للإنسانيّة فيه إلّا ما للحيوان العجم من موقف الشهوة والغضب وبغية البطن والفرج.

فهذه نزعة فكريّة اُولى للإنسان إلى الحكم بأنّه: هل للوجود من إله؟ وتتلوه نزعة ثانية وهى القضاء الفطريّ بالإثبات، والحكم بأنّ للعالم إلها خلق كلّ شئ بقدرته وأجرى النظام العامّ بربوبيّته فهدى كلّ شئ إلى غايته وكمال وجوده بمشيّته وسيعود كلّ إلى ربّه كما بدئ. هذا.

ثم إنّ مزاولة الإنسان للحسّ والمحسوس مدى حياته وانكبابه على المادّة وإخلاده إلى الأرض عوّده أن يمثّل كلّ ما يعقله ويتصوّره تمثيلاً حسّيّاً وإن كان ممّا لا طريق للحسّ والخيال إليه البتّة كالكلّيّات والحقائق المنزّهة عن المادّة على أنّ الإنسان إنّما ينتقل الى المعقولات من طريق الإحساس والتخيّل فهو أنيس الحسّ وأليف الخيال.

وقد قضت هذه العادة اللازمة على الإنسان أن يصوّر لربّه صورة خياليّة على حسب ما يألفه من الاُمور المادّيّة المحسوسة حتّى أنّ أكثر الموحّدين ممّن يرى تنزّه ساحة ربّ العالمين تعالى وتقدّس عن الجسميّة وعوارضها يثبت في ذهنه له تعالى صورة مبهمة خياليّة معتزلة للعالم تبادر ذهنه إذا توجّه إليه في مسألة أو حدّث عنه بحديث غير أنّ التعليم الدينىّ أصلح ذلك بما قرّر من الجمع بين النفى والاثبات

٢٨١

والمقارنة بين التشبيه والتنزيه يقول الموحّد المسلم: إنّه تعالى شئ ليس كمثله شئ له قدرة لا كقدرة خلقه، وعلم لا كالعلوم وعلى هذا القياس.

وقلّ أن يتّفق لإنسان أن يتوجّه إلى ساحة العزّة والكبرياء ونفسه خالية عن هذه المحاكاة، وما أشذّ أن يسمح الوجود برجل قد أخلص نفسه لله سبحانه غير متعلّق القلب بمن دونه، ولا ممسوس بالتسويلات الشيطانيّة، قال تعالى:( سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات: ١٦٠، وقال حكاية عن إبليس:( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) ص: ٨٣.

وبالجملة الإنسان شديد الولع بتخيّل الاُمور غير المحسوسة في صورة الاُمور المحسوسة فإذا سمع أنّ وراء الطبيعة الجسميّة ما هو أقوى وأقدر وأعظم وأرفع من الطبيعة وأنّه فعّال فيها محيط بها أقدم منها مدبّر لها حاكم فيها لا يوجد شئ إلّا بأمره ولا يتحوّل عن حال إلى حال إلّا بإرادته ومشيّته لم يتلقّ من جميع ذلك إلّا ما يضاهى أوصاف الجسمانيّات وما يتحصّل من قياس بعضها إلى بعض.

وكثيراً مّا حاكاه في نفسه بصورة إنسان فوق السماوات جالس على عرش الملك يدبّر أمر العالم بالتفكّر ويتمّمه بالإرادة والمشيّة والأمر والنهى، وقد صرّحت التوراة الموجودة بأنّ الله سبحانه كذلك، وأنّه تعالى خلق الإنسان على صورته، وظاهر الأناجيل أيضاً ذلك.

فقد تحصّل أنّ الأقرب إلى طبع الإنسان وخاصّة الإنسان الأوّلىّ الساذج أن يصنع لربّه المنزّه عن الشبه والمثل صورة يضاهى بها الذوات الجسمانيّة وتناسب الأوصاف والنعوت الّتى يصفها بها كما يمثّل الثالوث بإنسان ذو وجوه ثلاثة كأنّ كلّا من النعوت العامّة وجه للربّ يواجه به خلقه.

٢ - الاقبال إلى الله بالعبادة : إذا قضى الإنسان أنّ للعالم إلهاً خلقه بعلمه وقدرته لم يكن له بدّ من أن يخضع له خضوع عبادة اتّباعاً للناموس العالمّ الكونىّ وهو خضوع الضعيف للقوىّ ومطاوعة العاجز للقادر، وتسليم الصغير الحقير للعظيم الكبير فإنّه ناموس عامّ جار في الكون حاكم في جميع أجزاء الوجود، وبه يؤثّر

٢٨٢

الأسباب في مسبّباتها وتتأثّر المسبّبات عن أسبابها.

وإذا ظهر الناموس المذكور لذوات الشعور والإرادة من الحيوان كان مبدءً للخضوع والمطاوعة من الضعيف للقوىّ كما نشاهده من حال الحيوانات العجم إذا شعر الضعيف منها بقوّة القوىّ آئساً من الظهور عليه والقدرة على مقاومته.

وظهوره في العالم الإنسانيّ أوسع وأبين من سائر الحيوان لما في هذا النوع من عمق الإدراك وخصيصة الفكر فهو متفنّن في إجرائه في غالب مقاصده وأعماله جلباً للنفع أو دفعاً للضرر كخضوع الرعيّة للسلطان والفقير للغنىّ والمرؤس للرئيس والمأمور للآمر والخادم للمخدوم والمتعلّم للعالم والمحبّ للمحبوب والمحتاج للمستغنى والعبد للسيّد والمربوب للربّ.

وجميع هذه الخضوعات من نوع واحد وهو تذلّل وهوان نفسانيّ قبال عزّة وقهر مشهود، والعمل البدنيّ الّذى يظهر هذا التذلّل والهوان هي العبادة أيّاً ما كانت؟ وممّن ولمن تحقّقت؟ ولا فرق في ذلك بين الخضوع للربّ تعالى وبينه إذا تحقّق من العبد بالنسبة إلى مولاه أو من الرعيّة بالنسبة إلى السلطان أو من المحتاج بالنسبة إلى المستغنى أو غير ذلك فالجميع عبادة.

وعلى أيّ حال لا سبيل إلى ردع الإنسان عن هذا الخضوع لاستناده إلى قضاء فطرىّ ليس للإنسان أن يتجافى عنه إلّا أن يتبيّن له أنّ الّذى كان يظنّه قويّاً ويستضعف نفسه دونه ليس على ما كان يظنّه بل هما سواء مثلاً.

ومن هنا ما نرى أنّ الإسلام لم ينه عن اتّخاذ آلهة دون الله وعبادتهم إلّا بعد ما بيّن للناس أنّهم مخلوقون مربوبون أمثالهم، وأنّ العزّة والقوّة لله جميعاً قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) الأعراف: ١٩٤ وقال:( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ) الأعراف: ١٩٨ وقال تعالى:( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا

٢٨٣

بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) آل عمران: ٦٤ ختم الآية بحديث التسليم لله تعالى بعد ما دعاهم إلى ترك عبادة غير الله تعالى من الآلهة ورفض الخضوع لسائر المخلوقين المماثلين لهم وقال تعالى:( أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ) البقرة: ١٦٥، وقال:( فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ) النساء: ١٣٩ وقال:( مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ ) ألم السجدة: ٤ إلى غير ذلك من الآيات.

فليس عند غيره تعالى ما يدعو إلى الخضوع له فلا يسوغ الخضوع لأحد ممّن دونه إلّا أن يؤول إلى الخضوع لله ويرجع تعزيره أو تعظيمه وولايته إلى ناحيته قال تعالى:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ - إلى أن قال -فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) الأعراف: ١٥٧، وقال:( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا - إلى قوله -وَهُمْ رَاكِعُونَ ) المائدة: ٥٥، وقال:( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) التوبة: ٧١، وقال:( وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ) الحجّ: ٣٢. فلا خضوع في الإسلام لأحد دون الله إلّا ما يرجع إليه تعالى ويقصد به.

٣ - كيف نشأت الوثنية؟ وبما ذا بدأت؟ اتّضح في الفصل المتقدّم أنّ الإنسان في مزلّة من تجسيم الاُمور المعنويّة وسبك غير المحسوس في قالب المحسوس بالتمثيل والتصوير وهو مع ذلك مفطور للخضوع أمام أيّ قوّة فائقة قاهرة والاعتناء بشأنها.

ولذا كانت روح الشرك والوثنيّة سارية في المجتمع الإنسانيّ سراية تكاد لا تقبل التحرّز والاجتناب حتّى في المجتمعات الراقية الحاضرة وحتّى في المجتمعات المبنيّة على أساس رفض الدين فترى فيها من النصب وتماثيل الرجال وتعظيمها واحترامها والبلوغ في الخضوع لها ما يمثّل لك وثنيّة العهود الاُولى والإنسان الأوّلىّ. على أنّ اليوم من الوثنيّة على ظهر الأرض ما يبلغ مآت الملايين قاطنين في شرقها وغربها.

ومن هنا يتأيّد بحسب الاعتبار أن تكون الوثنيّة مبتدئة بين الناس باتّخاذ

٢٨٤

تماثيل الرجال العظماء ونصب أصنامهم وخاصّة بعد الموت ليكون في ذلك ذكرى لهم، وقد ورد في روايات أئمّة أهل البيت ما يؤيّد ذلك ففى تفسير القمّىّ مضمر أو في علل الشرائع مسنداً عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى:( وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ) الآية، قال: كانوا يعبدون الله عزّوجلّ فماتوا فضجّ قومهم وشقّ ذلك عليهم فجاءهم إبليس لعنه الله وقال لهم: أتّخذ لكم أصناماً على صورهم فتنظرون إليهم وتأنسون بهم وتعبدون الله، فأعد لهم أصناماً على مثالهم فكانوا يعبدون الله عزّوجلّ وينظرون إلى تلك الأصنام، فلمّا جاءهم الشتاء والأمطار أدخلوا الأصنام البيوت.

فلم يزالوا يعبدون الله عزّوجلّ حتّى هلك ذلك القرن ونشأ أولادهم فقالوا: إنّ آباءنا كانوا يعبدون هؤلاء فعبدوهم من دون الله عزّوجلّ فذلك قول الله تبارك وتعالى:( وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا ) الآية.

وكان ربّ البيت في الروم واليونان القديمين - على ما يذكره التاريخ - يعبد في بيته فإذا مات اتّخذ له صنم يعبده أهل بيته، وكان كثير من الملوك والعظماء معبودين في قومهم، وقد ذكر القرآن الكريم منهم نمرود الملك المعاصر لإبراهيمعليه‌السلام الّذى حاجّه في ربّه، وفرعون موسى.

وهوذا يوجد في بيوت الأصنام الموجودة اليوم وكذا بين الآثار العتيقة المحفوظة عنهم أصنام كثير من عظماء رجال الدين كصنم بوذا وأصنام كثير من البراهمة وغيرهم.

واتّخاذهم أصنام الموتى وعبادتهم لها من الشواهد على أنّهم كانوا يرون أنّهم لا يبطلون بالموت وأنّ أرواحهم باقية بعده، لها من العناية والأثر ما كان في حال حياتهم بل هي بعد الموت أقوى وجوداً وأنفذ إرادة وأشدّ تأثيراً لما أنّها خلصت من شوب المادّة ونجت من التأثّرات الجسمانيّة والانفعالات الجرمانيّة، وكان فرعون موسى يعبد أصناماً له وهو إله ومعبود في قومه، قال تعالى:( وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) الأعراف: ١٢٧.

٤ - اتّخاذ الأصنام لأرباب الأنواع وغيرهم : كأنّ اتّخاذ تماثيل

٢٨٥

الرجال هو الّذى نبّه الناس على اتّخاذ صنم الإله إلّا أنّه لم يعهد منهم أن يتّخذوا تمثالاً لله سبحانه المتعالى أن يحيط به حدّ أو يناله وهم، وكأنّ هذا هو الّذى صرفهم عن اتّخاذ صنمه بل تفرّقوا في ذلك فأخذ كلّ ما يهمّه من جهات التدبير المشهود في العالم فتوسّلوا إلى عبادة الله بعبادة من وكلّه إلى الله على تدبير تلك الجهة المعنىّ بها بزعمهم.

فالقاطنون في سواحل البحار عبدوا ربّ البحر لينعم عليهم بفوائدها ويسلموا من الطوفان والطغيان، وسكّان الأودية ربّ الوادي، وأهل الحرب ربّ الحرب، وهكذا.

ولم يلبثوا دون أن اتّخذ كلّ منهم ما يهواه من إله فيما يتوهّمه من الصورة والشكل، وممّا يختاره من فلزّ أو خشب أو حجارة أو غير ذلك حتّى روى أنّ بنى حنيفة من اليمامة اتّخذوا لهم صنما من أقط ثمّ أصابهم جدب وشملهم الجوع فهجموا عليه فأكلوه.

وكان الرجل إذا وجد شجرة حسنة أو حجراً حسناً وهواه عبده، وكانوا يذبحون غنما أو ينحرون إبلا فيلطّخونه بدمه فإذا أصاب مواشيهم داء جاؤا بها إليه فمسحوها به، وكانوا يتّخذون كثيراً من الأشجار أرباباً فيتبرّكون بها من غير أن يمسّوها بقطع أو كسر ويتقرّبون إليها بالقرابين ويأتون إليها بالنذورات والهدايا.

وساقهم هذا الهرج إلى أن ذهبوا في أمر الأصنام مذاهب شتّى لا يكاد يضبطها ضابط، ولا يحيط بها إحصاء غير أنّ الغالب في معتقداتهم أنّهم يتّخذونها شفعاء يستشفعون بها إلى الله سبحانه ليجلب إليهم الخير ويدفع عنهم الشرّ، وربّما أخذها بعض عامّتهم معبودة لنفسها مستقلّة بالاُلوهيّة من غير أن تكون شفعاء، وربّما كانوا يتّخذونها شفعاء ويقدّمونها أو يفضّلونها على الله سبحانه كما يحكيه القرآن في قوله تعالى:( فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ ) الآية، الأنعام: ١٣٦.

٢٨٦

وكان بعضهم يعبد الملائكة، وآخرون يعبدون الجنّ، وقوم يعبدون الكواكب الثابتة كشعري، وطائفة تتّخذ بعض السيّارات إلها - وقد اُشير إلى جميع ذلك في الكتاب الإلهىّ - كلّ ذلك طمعاً في خيرها أو خوفاً من شرّها.

وقلّ أن يتّخذ إله من دون الله ولا يتّخذ له صنم يتوجّه إليه في العبادات به بل كانوا إذا اتّخذوا شيئاً من الأشياء إلهاً شفيعاً عملوا له صنماً من خشب أو حجر أو فلزّ، ومثلوا به ما يتوهّمونه عليه من صورة الحياة فيسوّونه في صورة إنسان أو حيوان وإن كان صاحب الصنم على غير إلهيأة الّتى حكوه بها كالكواكب الثابتة والسيّارة وإله العلم والحبّ والرزق والحرب ونحوها.

وكان الوجه في اتّخاذ أصنام الشركاء قولهم: إنّ الإله لتعاليه عن الصورة المحسوسة كأرباب الأنواع وسائر الآلهة غير المادّيّة أو لعدم ثباته على حالة الظهور كالكوكب الّذى يتحوّل من طلوع الغروب يصعب التوجّه إليه كلّما اُريد بالتوجّه فمن الواجب أن يتّخذ له صنم يمثّله في صفاته ونعوته فيصمد إليه بوسيلته كلّما اُريد.

٥ - الوثنيّة الصابئة . الوثنيّة وإن رجعت - بالتقريب - إلى أصل واحد هو اتّخاذ الشفعاء إلى الله وعبادة أصنامها وتماثيلها، ولعلّها استولت على الأرض وشملت العالم البشرىّ مراراً كما يحكيه القرآن الكريم عن الاُمم المعاصرة لنوح وإبراهيم وموسىعليه‌السلام إلّا أنّ اختلاف المنتحلين بها بلغ من التشتّت واتّباع الأهواء والخرافات مبلغاً كان حصر المذاهب الناشئة فيها كالمحال وأكثرها لا تبتنى على اُصول متقرّرة وقواعد منتظمة متلائمة.

وممّا يمكن أن يعدّ منها مذهباً قريباً من الانتظام والتحصّل مذهب الصابئة والوثنيّة البرهميّة والبوذيّة:

أمّا الوثنيّة الصابئة فهى تبتنى على ربط الكون والفساد وحوادث العالم الأرضىّ إلى الأجرام العلويّة كالشمس والقمر وعطارد والزهرة ومرّيخ والمشترى

٢٨٧

وزحل وأنّها بما لها من الروحانيّات المتعلّقة بها هي المدبّرة للنظام المشهود يدبّر كلّ منها ما يتعلّق به من الحوادث على ما يصفه فنّ أحكام النجوم، ويتكرّر بتكرّر دوراتها الأدوار والأكوار من غير أن تقف أو تنتهى إلى أمد.

فهى وسائط بين الله سبحانه وبين هذا العالم المشهود تقرّب عبادتها الإنسان منه تعالى ثمّ من الواجب أن يتّخذ لها أصنام وتماثيل فيتقرّب إليها بعبادة تلك الأصنام والتماثيل.

وذكر المورّخون أنّ الّذى أسّس بنيانها وهذّب اُصولها وفروعها هو (يوذاسف) المنجّم ظهر بأرض الهند في زمن طهمورث ملك إيران، ودعا إلى مذهب الصابئة فاتّبعه خلق كثير، وشاع مذهبه في أقطار الأرض كالروم واليونان وبابل وغيرها، وبنيت لها هياكل ومعابد مشتملة على أصنام الكواكب، ولهم أحكام وشرائع وذبائح وقرابين يتولّاها كهنتهم. وربّما ينسب إليهم ذبح الناس.

وهؤلاء يوحّدون الله في اُلوهيّته لا في عبادته، وينزّهونه عن النقائص والقبائح، ويصفونه بالنفى لا بالإثبات كقولهم: لا يعجز ولا يجهل ولا يموت ولا يظلم ولا يجور، ويسمّون ذلك بالأسماء الحسنى مجازاً وليسوا بقائلين باسم حقيقة وقد قدّمنا شيئاً من تاريخهم في تفسير قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ ) الآية، البقرة: ٦٢ في الجزء الأوّل من هذا الكتاب.

٦ - الوثنيّة البرهميّة : والبرهميّة - على ما تقدّم - من مذاهب الوثنيّة المتأصّلة، ولعلّها أقدمها بين الناس فإنّ المدنيّة الهنديّة من أقدم المدنيّات الإنسانيّة لا يضبط بدء تاريخيّ لها على التحقيق، ولا يضبط بدء تاريخيّ لوثنيّة الهند غير أنّ بعض المورّخين كالمسعوديّ وغيره ذكروا أنّ برهمن اسم أوّل ملوك الهند الّذى عمّر بلادها وأسّس قواعد المدنيّة فيها وبسط العدل بين أهلها.

ولعلّ البرهميّة نشأت بعده باسمه فكثيرا مّا كانت الاُمم الماضية يعبدون ملوكهم والأعاظم من أقوامهم لاعتقادهم أنّهم ذووا سلطة غيبيّة وأنّ اللاهوت ظهر فيهم نوع ظهور، ويؤيّده بعض التأييد أنّ الظاهر من (ويدا) وهو كتابهم المقدّس

٢٨٨

أنّه مجموع من رسائل ومقالات شتّى ألّف كلّ شطر منها بعض رجال الدين في أزمنة مختلفة ورّثوها من بعدهم فجمعت وألّفت كتاباً يشير إلى دين ذى نظام وقد صرّح به علماء سانسكريت ولازم ذلك أن يكون البرهميّة كغيرها من مذاهب الوثنيّة مبتدئة من أفكار عامّيّة غير قيّمة، متطوّرة في مراحل التكامل حتّى بلغت حظّها من الكمال.

ذكر البستانىّ في دائرة المعارف ما ملخّصه:

برهم (بفتحتين فسكون أو بفتح الباء والهاء وسكون الراء) هو المعبود الأوّل والأكبر عند الهنود، وهو عندهم أصل كلّ الموجودات واحد غير متغيّر وغير مدرك أزلىّ مطلق سابق كلّ مخلوق خلق العالم كلّه بمجرّد ما أراد دفعة واحدة بقوله: أوم أي كن.

وحكاية برهم تشبه من كلّ وجه حكاية (أي بوذة) فليس الفرق إلّا في الاسم والصفات وكثيراً مّا يجعلون نفس برهم اسما للأقانيم الثلاثة المؤلّف منها ثالوث الهنود، وهى: (برهما ووشنو وسيوا) ويقال لعبدة برهم: البرهميّون أو البراهمة.

وأمّا برهما فهو نفس برهم معبود الهنود بعد أن شرع في أعماله (بدليل زيادة الألف في آخره وهو من اصطلاحاتهم) وهو الاُقنوم الأوّل من الثالوث الهنديّ أي إنّ برهم ينبثق في نفسه في ثلاثة أقانيم كلّ مرّة في اُقنوم فالاُقنوم الأوّل الّذى يظهر به أوّل مرّة هو برهما، والثانى وشنو، والثالث سيوا.

فلمّا انبثق برهما لبث مدّة طويلة جالساً على سدرة تسمّى بالهنديّة (كمالا) وبالسنسكريتية بدما، وكان ينظر من كلّ جهة، وكان له أربعة رؤس بثماني أعين فلم ير إلّا فضاء واسعاً مظلماً مملوءً ماءً فارتاع لذلك ولم يقدر أن يدرك سرّ أصله فلبث ساكتا أبكم غارقا في التأمّلات.

فمضت على ذلك أجيال وإذا بصوت قد طرق اُذنيه بغتة ونبّهه من سباته وأشار عليه أن يفزع إلى (باغادان) وهو لقب برهم فظهر برهم بصورة رجل له ألف رأس فسجد له برهما وجعل يسبّحه فانشرح صدر باغادان وأبدع النور وكشف

٢٨٩

الظلمات، وأظهر لعبده حالة كينونته والكائنات بصور جراثيم متخدّرة وأعطاه القوّة لإخراجها من هذا الخمول.

فبقى برهما يتأمّل في ذلك مائة سنة إلهيّة وهى عبارة عن ستّة و ثلاثين ألف سنة شمسيّة ثمّ ابتدأ بالعمل فأبدع أوّلا سبع السماوات المسمّاة عندهم (سُوَرغة) وأنارها بالأجرام المسمّاة (ديقانة) ثمّ أبدع (مريثلوكا) أي مقرّ الموت ثمّ الأرض وقمرها، ثمّ المساكن السبعة السفلى المسمّاة بتالة، وأنارها بثمانية جواهر موضوعة على رؤس ثمانى حيّات.

فالسماوات السبع والمساكن السفلى السبعة هي العوالم الأربعة عشر في الميثولوجيا الهنديّه.

ثمّ خلق الأزواج السبعة لكى تعيّنه في أعماله فامتنع من مساعدته عشرة منها وهى (مونى) والريشة التسعة الّتى منها (ناريدا أو نوردام) واقتصرت على التأمّلات الدنيويّة فتزوّج حينئذ اُخته (ساراسواتى) وأولدها مائة ولد، وكان البكر اسمه (دكشا) فولد لدكشا خمسون بنتا فتزوّجت ثلث عشرة منهنّ (كاسيابا) الّذى يسمّونه أحيانا برهمان الأوّل، وهو الّذى ولد لبرهما ولدا يسمّى (مارتشى).

وولدت إحدى البنات المذكورات واسمها (أديتى) الأرواح المنيرة المسمّاة (ديقانة) وهى الّتى تفعل الخير وتسكن السماوات، وأمّا اُختها (ديتي) فولدت جمهورا غفيرا من الأرواح الشريرة المسمّاة (داتينة) أو (اسورة) وهى سكّان الظلام وفاعلة كلّ شرّ في العالم.

وكانت الأرض إلى ذلك الوقت خالية من السكّان فقال بعضهم: إنّ برهما أخرج من نفسه (مانوسويامبوقا) الّذى يقول الآخرون: إنّه سابق له وأنّه نفس برهم المعبود الواحد ثمّ إنّ برهما زوّجه (ساتاروبا) وقال لهما أن يكثرا وينميا.

وقال آخرون: إنّ برهما ولد أربعة أولاد وهم برهمان وكشتريا وقايسيا وسودارا فالأوّل خرج من فمه، والثانى من ذراعه اليمنى، والثالث من فخذه اليمنى

٢٩٠

والرابع من رجله اليمنى فكانوا أربع اُرومات لأربع فرق أصليّة.

وتزوّج الثلاثة الأخيرون بثلاث نساء منه أيضاً خرجت واحدة من ذراعه اليمنى والثانية من فخذه اليسرى، والثالثة من رجله اليسرى، وسمّين باسم بعولتهنّ بزيادة علامة التأنيث وهى (نى)، وتزوّج برهمان أيضاً زوجة من أبيه، ولكن كانت من نسل الأسورة الشريرة، فهذا ما في الفيداس عن كيفيّة خلق العالم.

ثمّ إنّ برهما بعد إن كان الإله الخالق القدير سقط عن رتبة وشنو الاُقنوم الثاني وسيوا الاُقنوم الثالث وذلك أنّه انتفخ بالكبرياء والعجب، وظنّ نفسه نظير العلىّ فسقط في ناراك أي الجحيم، ولم ينل العفو إلّا بشرط أن يتجسّد مرّة في كلّ من الأجيال الأربعة، فتجسّد أوّل مرّة بصورة غراب شاعر اسمه (كاكابوسندا) وفي الثانية بصورة (بارباقلميكى) فكان أوّلا لصّا ثمّ رجلاً عبوساً رزينا نادما ثمّ ترجمانا مشهورا للفيداس ومؤلّفا للراميانا، وفي المرّة الثالثة بصورة (قياسا) وهو شاعر ومؤلّف (المهابارانا) والبغاقة وعدّة بورانات، وفي المرّة الرابعة وهو العصر الحالىّ المسمّى (كالى يوغ) بصورة (كاليداسا) الشاعر التشخيصىّ العظيم ومؤلّف (ساكنتالا) ومنقّح مؤلّفات (قلميكى).

ثمّ إنّ برهما ظهر في ثلاث أحوال، ففى الحال الاُولى كان الواحد الصمد والكلّ الأعظم العلىّ، وفي الحال الثانية ظهر منبثقا من الأوّل أي شارعا في العمل وفي الحال الثالثة ظهر متجسّدا بصورة إنسان وحكيم.

وليس لبرهما عبادة عامّة في الهند، وله هناك هيكل واحد فقطّ غير أنّ البراهمة يجعلونه موضوع عبادتهم، ويدعونه مساء وصباحا، وهم يرمون الماء ثلاث مرّات براحة أيديهم على الأرض ونحو الشمس، ويجدّدون له عبادتهم وقت الظهر بتقديمهم له زهرة، وفي تقديس النار يقدّمون له سمنا مصفّى كما يقدّمون لإله النار، وهذا التقديس أهمّ وأقدس من كلّ ما سواه. واسمه هوم أو هوما ورغيب.

ويمثّل برهما بصورة رجل ذى لحية طويلة بإحدى يديه سلسلة الكائنات و

٢٩١

بالاُخرى الإناء الّذى فيه ماء الحياة السماويّ راكباً الهمسا وهو الطير الإلهىّ الّذى يشبه اللقلق والنسر.

وأمّا برهمان فهو ابن برهما البكر أخرجه من فيه كما تقدّم، وجعل نصيبه أربعة الكتب المقدّسة المسمّاة (فيداس) كناية عن الكلمات الأربع الّتى نطق بها بأفواهه الأربعة.

فلمّا أراد برهمان أن يتزوّج نظير إخوته قال له برهما: إنّك ولدت للدرس والصلاة فيجب أن تبتعد عن العلاقات الجسديّة فلم يقتنع برهمان بقول أبيه فغضب برهما وزوّجه بواحدة من جنّيّات الشرّ المسمّاة أسورة، ومن هذا ولد البراهمة وهم الكهنة المقدّسون الّذين خصّوا بتفسير الفيداس، وكانوا يتولّون أمر كلّ التقدّمات الّتى يقدّمها الهنود للآلهة.

وولد كشتريا صنف الحربيّين من البراهمة، وقايسيا صنف أهل الزراعة منهم، وسودرا صنف العبيد، فالبراهمة أربعه أصناف، انتهى ملخّصا من دائرة المعارف للبستانيّ.

وذكر غيره أنّ البرهميّة منقسمة إلى طبقات أربع هم البراهمة (علماء المذهب) والحربيّون والزرّاع والتجّار، ولا يعبؤ بغيرهم كالنساء والعبيد، وقد نقلنا في ذيل قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ) الآية، المائدة: ١٠٥ في الجزء السادس من الكتاب في بحث علميّ عن كتاب ما للهند من مقولة لأبي ريحان البيرونىّ شيئاً من وظائف البراهمة وعباداتهم، وكذا عن الملل والنحل للشهرستانيّ شطراً من شرائع الصابئين.

والمذاهب الوثنيّة الهنديّة وكان الصابئين مثلهم أيضاً مطبقون على القول بالتناسخ وهو أنّ العوالم غير متناهية من ناحيتى الأزل والأبد ولكلّ منها حظّا من البقاء مؤجّلا فإذا انقضى أمد بقائه بطلت صورته وتولّد منه عالم آخر يعيش فيموت فيحدث ثالث وهكذا، والنفوس الإنسانيّة المتعلّقة بالأبدان لا تموت بموت أبدانها بل موت أبدانها مبدء حياة جديدة لها فإنّها تتعلّق بأبدان اُخر تعيش فيها

٢٩٢

عيشة سعيدة إن كسبت في بدنها السابق فضائل نفسانيّة وعملت عملاً صالحاً، وعيشة شقيّة إن تلبّست بالرذائل واقترفت السيّئات إلّا الكاملون في معرفة البرهم (الله سبحانه) فإنّهم أحياء بحياة الأبد آمنون من التولّد الثاني خارجون عن سلطان التناسخ.

٧ - الوثنيّة البوذيّة:

وقد اُصلحت الوثنيّة البرهميّة(١) بالبوذيّة منسوبة إلى بوذا (سقيامونى) المتوفّى سنة خمسمائة وثلاث وأربعين قبل المسيح على ما نقل عن التاريخ السيلانىّ وقيل غير ذلك حتّى أنّ الاختلاف في ذلك ينسحب إلى ألفى سنة، ولذلك ربّما ظنّ أنّه شخص خرافيّ لا حقيقة له لكنّ الحفريّات الأخيرة الّتى وقعت في غايا الحديثة وآثارا اُخرى في بطنة دلّت على صحّة وجوده، وقد انكشفت بها آثار اُخرى من تاريخ حياته وتعاليمه الّتى ألقاها إلى تلامذته وأتباعه.

وكان بوذا من بيت الملك ابن ملك يدعى (سوذودانا) فعزفت نفسه الدنيا وشهواتها واعتزل الناس في شبابه ولبث في بعض الغابات الموحشة سنين من عمره مكبّا على التزهّد والارتياض حتّى تنّورت نفسه بالمعرفة فخرج إلى الناس وهو ابن ستّ وثلاثين سنة على ما قيل فدعاهم إلى التخلّص عن الشقاء والآلام والفوز بالراحة الكبرى والحياة السماويّة الأبديّة السرمديّة، ووعظهم وحثّهم على التمسّك بذيل شريعته بالتخلّق بالأخلاق الكريمة ورفض الشهوات واجتناب الرذائل.

وكان بوذا - على ما نقل - يقول عن نفسه من دون كبرياء برهميّة: (أنا(٢) متسوّل، ولا توجد إلّا شريعة واحدة للجميع، وهى العقاب الشديد للمجرمين والثواب العظيم للصالحين، وشريعتي شريعة نعمة للجميع، وفيها كالسماء مكان

____________________

(١) ملخص ما في دائرة المعارف للبستاني.

(٢) أي تصيبني التسويلات والوساوس النفسانيّة وفى كلامه هذا نسخ لحكم الطبقات في الشريعة البرهميّة القاضى بتفاوت الناس في التشرف بالسعادة الدينيّة وتحريم بعضهم كالنساء والصبيان منها.

٢٩٣

للرجال والنساء والصبيان والبنات والأغنياء والفقراء على أنّه يعسر على الغنىّ أن يسلك طريقها).

وكان تعليمه على ما عند البوذيّين: أنّ الطبيعة ذات فراغ وأنّها وهميّة خدّاعة وأنّ العدم يوجد في كلّ مكان وكلّ زمان، وهو مملوء من الغشّ، ونفس هذا العدم يزيل كلّ الحواجز بين أصناف الناس وجنسيّاتهم وأحوالهم الدنيويّة، ويجعل أحقر الديدان إخوة للبوذيّين.

وهم يعتقدون أنّ آخر عبارة نطق بها سقيامونى هي (كلّ مركّب فان) والغاية القصوى عندهم هي نجاة النفس من كلّ ألم وغرور، وأنّ دور التناسخ الّذى لا نهاية له ينتهى أو ينقطع بمنع النفس أن تولد ثانية، ويتوصّل إلى ذلك بتطهيرها حتّى من رغبة الوجود.

فهذه القواعد الأساسيّة للبوذيّة موجودة صريحاً في أقدم تعليمها المدرّج في (الأريانى ستيانس) وهى أربع حقائق سامية تنسب إلى سقيامونى ذكرها في عظته الاُولى الّتى قام بها في غابة تعرف بغابة الغزال بالقرب من بنارس.

وتلك الحقائق الأربع تتعلّق بالألم وأصله وملاشاته وبالطريقة المؤدّية إلى الملاشاة فالألم هو الولادة والسنّ والمرض والموت ومصادفة المكروه ومفارقة المحبوب والعجز عمّا يرام، وأسباب الألم الشهوات النفسانيّة والجسديّة والأهواء، وملاشاة جميع هذه الأسباب هي الحقيقة الثالثة، ولطريقة الملاشاة أيضاً ثمانية أقسام وهى: نظر صحيح وحسّ صحيح، ونطق صحيح، وفعل صحيح، ومركز صحيح، وجدّ صحيح وذكر صحيح، وتأمّل صحيح، فهذه صورة الإيمان عندهم وقد وجدت محفورة على أبنية كثيرة ومدّونة في عدّة كتب.

وأمّا خلاصة الأدب البوذىّ فهى اجتناب كلّ شئ ردىّ، وعمل كلّ شئ صالح وتهذيب العقل.

فهذا هو الّذى سلّموه من تعليم بوذا، وما عداه من العبادات والذبائح والكهنوت والفلسفة والأسرار اُمور اُضيفت إليه بكرور الأيّام ومرور الدهور،

٢٩٤

وهى تشتمل على أقاويل وآراء عجيبة في خلق العالم ونظمه وغير ذلك.

وممّا يقال إنّ بوذا لم يتكلّم عن الإله قطّ، غير أنّ ذلك لم يكن لإعراض منه عن مبدء الوجود ولا لإنكار بل لأنّ الرجل كان يبذل كلّ جهده في تجهيز الناس بالزهد عن زهرة الحياة الدنيا وتنفيرهم عن هذه الدار الغارّة.

٨ - وثنيّة العرب . وهم أوّل من عارضهم الإسلام بالدعوة إلى التوحيد من عبدة الأوثان، كان معظم العرب في عهد الجاهليّة بدويّين وأهل الحضارة منهم كاليمن في طبع البداوة يحكم فيهم من السنن والآداب رسوم مختلطة مختلفة مأخوذة من جيرانهم الأقوياء كالفرس والروم ومصر والحبشة والهند، ومنها السنن الدينيّة.

وكان أسلافهم الأقدمون وهم العرب العاربة ومنهم عاد إرم وثمود على دين الوثنيّة كما يحكيه الله سبحانه في كتابه عن قوم هود وصالح وعن أصحاب مدين وعن أهل سبأ في قصّة سليمان والهدهد، حتّى أن جاء إبراهيمعليه‌السلام بابنه إسماعيل واُمّه هاجر إلى أرض مكّة وهى واد غير ذى زرع وبها قبيلة جرهم، وأسكنهما هناك فنشأ إسماعيلعليه‌السلام وبنيت بلدة مكّة، وبنى إبراهيمعليه‌السلام الكعبة البيت الحرام ودعا الناس إلى دينه الحنيف وهو الإسلام فاستجيب له في الحجاز وما والاها وشرع لهم الحجّ كما يدلّ على جملة ذلك قول الله تعالى له فيما يحكيه القرآن:( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) ، الحجّ: ٢٧ ثمّ تهوّد بعض الأعراب لمعاشرة كانت بينهم وبين اليهود النازلين بالحجاز، وتسربت النصرانيّة إلى بعض أقطار الجزيرة، والمجوسيّة إلى بعضها الآخر.

ثمّ وقعت وقائع بين آل إسماعيل وجرهم بمكّة حتّى آل إلى غلبة آل إسماعيل وإجلاء جرهم منها واستولى عمرو بن لّحىّ على مكّة وما والاها.

ثمّ إنّه مرض مرضاً شديداً فقيل له: إنّ البلقاء من أرض الشام حمّة لو استحممت بها برئت فقصدها واستحمّ بها فبرئ، ورأى هناك قوما يعبدون الأصنام فسألهم عنها

٢٩٥

فقالوا: هذه أرباب اتّخذناها على شكل الهياكل العلويّة والأشخاص البشريّة نستنصر بها فننصر ونستسقى بها فنسقى فأعجبه ذلك فطلب منهم صنما من أصنامهم فدفعوا إليه هبل فرجع إلى مكّة ووضعه على الكعبة، وكان معه إساف ونائلة وهما صنمان على شكل زوجين - كما في الملل والنحل - أو شابّين - كما في غيره - فدعا الناس إلى عبادة الأصنام وروّج ذلك بين قومه فعادوا يعبدونها بعد إسلامهم وقد كانوا يسمّون حنفاء لاتّباعهم ملّة إبراهيمعليه‌السلام فبقى عليهم الاسم وهجرهم المعنى وصار الحنفاء اسما للوثنيّين(١) منهم.

وكان ممّا يقرّبهم إلى الوثنيّة أنّ الكعبة المشرّفة كان يعظّمها اليهود والنصارى والمجوس والوثنيّة جميعاً فكان لا يظعن من مكّة ظاعن إلّا حمل معه شيئاً من حجارة الحرم تبرّكا وصبابة، وحيثما حلّوا وضعوه وطافوا به تيمّنا وحبّا للكعبة والحرم.

وعن هذه الأسباب شاعت الوثنيّة بين العرب عاربهم ومستعربهم ولم يبق من أهل التوحيد بينهم إلّا آحاد لا يذكرون، وكان من الأصنام المعروفة بينهم هبل وإساف ونائلة، وهى الّتى أتى بها عمرو بن لُحىّ ودعا إليها الناس، واللّات والعزّى ومناة وودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وقد ذكرت هذه الثمان في القرآن ونسبت الخمس الأواخر منها إلى قوم نوح.

وروى في الكافي بإسناده إلى عبد الرحمان بن الأشلّ بيّاع الأنماط عن الصادقعليه‌السلام أنّ يغوث كان موضوعاً قبالة باب الكعبة، وكان يعوق عن يمين الكعبة ونسر عن يسارها.

وفي الرواية أيضاً أنّ هبل كان على سطح الكعبة وإساف ونائلة على الصفا والمروة.

وفي تفسير القمّىّ قال: كانت ودّ لكلب، وكانت سواع لهذيل ويغوث لمراد، وكانت يعوق لهمدان، وكانت نسر لحصين.

____________________

(١) ولعلّ هذا هو الوجه في اصرار القرآن على توصيف إبراهيم بالحنيف والإسلام بالحنيفيّة.

٢٩٦

وكانت في الوثنيّة الّتى عندهم آثار من وثنيّة الصابئة كالغسل من الجنابة وغيره.

وفيها آثار من البرهميّة كالقول بالأنواء والقول بالدهر كما تقدّم عن وثنيّة بوذه قال تعالى:( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ) الجاثية: ٢٤ وإن ذكر بعضهم أنّه قول المادّيّين المنكرين لوجود الصانع.

وفيها شئ من الدين الحنيف وهو إسلام إبراهيمعليه‌السلام كالختنة والحجّ إلّا أنّهم خلطوه بسنن وثنيّة كالتمسّح بالأصنام الّتى حول الكعبة والطواف عريانا، والتلبية بقولهم: لبّيك لبّيك اللّهمّ لبّيك لا شريك لك، إلّا شريك هو لك، تملكه وما ملك.

وعندهم اُمور اُخر اختلقوه من عند أنفسهم كالقول بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام والقول بالصدى والهام والأنصاب والأزلام واُمور اُخر مذكورة في التواريخ وقد تقدّم تفسير البحيرة والسائبة والوصيلة والحام في سورة المائدة في ذيل آية ١٠٣ وكذا ذكر الأزلام والأنصاب في ذيل آية ٣ وآية ٩٠.

٩ - دفاع الاسلام عن التوحيد و منازلته الوثنيّة . لم تزل الدعوة الإلهيّة تخاصم الوثنيّة وتقاومه وتندب إلى التوحيد كما ذكره الله في كتابه فيما يقصّه من دعوة الأنبياء والرسل كنوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب وموسىعليهم‌السلام ، واُشير إلى ذلك في قصص عيسى ولوط ويونسعليهم‌السلام .

وقد اُجمل القول في ذلك في قوله تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) الأنبياء: ٢٥.

وقد بدأ النبيّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دعوته العامّة بدعاء الوثنيّين من قومه إلى التوحيد بالحكمة والموعظة والجدال بالّتى هي أحسن فلم يجيبوه إلّا بالاستهزاء والأذى وفتنة من آمن به منهم وتعذيبه أشدّ العذاب حتّى اضطرّ جمع من المسلمين إلى ترك مكّة والهجرة إلى الحبشة، ثمّ مكروا لقتلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهاجر إلى المدينة ثمّ هاجر إليها بعده عدّة من المؤمنين.

ولم يلبثوا حتّى تعلّقوا به بالقتال، وقاتلوه ببدر واُحد والخندق وفي غزوات

٢٩٧

اُخرى كثيرة حتّى أظهره الله تعالى عليهم بفتح مكّة فطهّرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البيت والحرم من أوثانهم، وكسر الأصنام المنصوبة حول الكعبة المشرّفة، وكان هبل منصوبا على سطح الكعبة فأصعد عليّاعليه‌السلام إليه فرماه إلى الأرض وكان - على ما يقال - أعظم أصنامهم فدفن - على ما ذكروه - في عتبة باب المسجد.

والإسلام شديد العناية بحسم مادّة الوثنيّة وتخلية القلوب عن الخواطر الداعية إليها وصرف النفوس حتّى عن الحومان حولها والإشراف عليها، وذلك مشهود ممّا ندب إليه من المعارف الأصليّة والأخلاق الكريمة والأحكام الشرعيّة فتراه يعدّ الاعتقاد الحقّ أنّه لا إله إلّا الله له الأسماء الحسنى يملك كلّ شئ، له الوجود الأصيل الّذى يستقلّ بذاته وهو الغنىّ عن العالمين، وكلّ ما هو غيره منه يبتدئ واليه يعود، وإليه يفتقر في جميع شؤون ذاته حدوثا وبقاء فمن أسند إلى شئ شيئاً من الاستقلال بالقياس إليه تعالى - لا بالقياس إلى غيره - في شئ من ذاته أو صفاته أو أعماله فهو مشرك بحسبه.

وتراه يأمر بالتوكّل على الله، والثقة بالله، والدخول تحت ولآية الله، والحبّ في الله، والبغض في الله، وإخلاص العمل لله، و ينهى عن الاعتماد بغير الله، والركون إلى غيره، والاطمئنان إلى الأسباب الظاهرة ورجاء من دونه، والعجب والكبر إلى غير ذلك ممّا يوجب إعطاء الاستقلال لغيره والشرك به.

وتراه ينهى عن السجدة لغيره تعالى، وينهى عن اتّخاذ التماثيل ذوات الأظلال وعن تصوير ذوى الأرواح، وينهى عن طاعة غير الله والإصغاء إليه فيما يأمر وينهى إلّا ما رجع إلى طاعة الله كطاعة الأنبياء وأئمّة الدين، وينهى عن البدعة واتّباعها وعن اتّباع خطوات الشيطان.

والأخبار المأثورة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام متظافرة في أنّ الشرك ينقسم إلى جلىّ وخفىّ، وأنّ الشرك ذو مراتب كثيرة لا يسلم من جميعها إلّا المخلصون، وأنّه أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء، وقد روى في الكافي عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى:( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ

٢٩٨

بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) الشعراء: ٨٩، القلب السليم الّذى يلقى ربّه ليس فيه أحد سواه. قال: وكلّ قلب فيه شرك أو شكّ فهو ساقط وإنّما أرادوا بالزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة.

وورد أيضاً أنّ عبادته تعالى طمعا في الجنّة عبادة الاجراء، وعبادته خوفاً من النار عبادة العبيد، وحقّ العبادة أن يعبد تعالى حبّاً له وتلك عبادة الكرام، وهذا مقام مكنون لا يمسّه إلّا المطهّرون وقد تقدّمت عدّة من هذه الروايات في بعض الأبحاث السابقة من الكتاب.

١٠ - بناء سيرة النبيّ على التوحيد ونفى الشركاء : أجمل تعالى سيرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّتى أمره باتّخاذها والسير بها في المجتمع البشرىّ في قوله:( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) آل عمران: ٦٤، وقال تعالى يشير إلى ما داخل دينهم من عقائد الوثنيّة:( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ ) المائدة: ٧٧.

وقال أيضاً يذمّ أهل الكتاب:( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) التوبة: ٣١.

وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد سوى بين الناس في إجراء الأحكام والحدود وقارب بين طبقات المجتمع كالحاكم والمحكوم، والرئيس والمرؤس، والخادم والمخدوم، والغنىّ والفقير، والرجل والمرأة، والشريف والوضيع فلا كرامة ولا فخر ولا تحكّم لأحد على أحد إلّا كرامة التقوى والحساب إلى الله والحكم إليه.

وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقسّم بالسويّة، وينهى عن تظاهر القوىّ بقوّته بما يتأثّر وينكسر به قلب الضعيف المهين كتظاهر الأغنياء بزينتهم على الفقير المسكين، والحكّام والرؤساء بشوكتهم على الرعيّة.

٢٩٩

وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعيش كأحد من الناس لا يمتاز منهم في مأكل أو مشرب أو ملبس أو مجلس أو مشية أو غير ذلك، وقد تقدّم جوامع سيرته في آخر الجزء السادس من هذا الكتاب.

( كلام آخر ملحق بالكلام السابق)

نزن فيه تعليم القرآن الكريم بقياسه إلى تعاليم ويدا، و أوستا، والتوراة، والإنجيل على نحو الإجمال والكلّيّة في فصول وهذا بحث تحليليّ شريف.

١ - التناسخ عند الوثنيّين:

من الاُصول الأوّليّة الّتى تبتنى عليها البرهميّة ومثلها البوذيّة والصابئيّة هو التناسخ وهو أنّ العالم محكوم بالكون والفساد دائماً فهذا العالم المشهود لنا وكذا ما فيه من الأجزاء مكوّن عن عالم مثله سابق عليه وهكذا إلى غير النهاية، وسيفسد هذا العالم كما لا يزال يفسد أجزاؤه ويتكوّن منه عالم آخر وهكذا إلى غير النهاية، والإنسان يعيش في كلّ من هذه العوالم على ما اكتسبه في عالم يسبقه فمن عمل صالحاً واكتسب ملكة حسنة فستتعلّق نفسه بعد مفارقة البدن بالموت ببدن سعيد ويعيش على السعادة، وهو ثوابه، ومن أخلد إلى الأرض واتّبع هواه فسوف يعيش بعد الموت في بدن شقىّ ويقاسي فيه أنواع العذاب إلّا من عرف البرهم واتّحد به فإنّه ينجو من الولادة الثانية ويعود ذاتاً أزليّة أبديّة هي عين البهاء والسرور والحياة والقدرة والعلم لا سبيل للفناء والبطلان إليها.

ولذلك كان من الواجب الدينىّ على الإنسان أن يؤمن بالبرهم (وهو الله أصل كلّ شئ) ويتقرّب إليه بالقرابين والعبادات، ويتحلّى بالأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة فإن عزفت نفسه الدنيا وتخلّق بكرائم الأخلاق وتحلّى بصوالح الأعمال وعرف البرهم بمعرفة نفسه صار برهمنا واتّحد بالبرهم وصار هو هو، وهو السعادة الكبرى والحياة البحتة، وإلّا فليؤمن بالبرهم وليعمل صالحاً حتّى يسعد

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406