الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

الميزان في تفسير القرآن19%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 406

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114195 / تحميل: 6639
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

ما وجب معه عليه الطلب والخروج. فلما انعكس ذلك وظهرت أمارات الغدر فيه وسوء الاتفاق ، رام الرجوع والمكافّة والتسليم كما فعل أخوه ، فمنع من ذلك وحيل بينه وبينه. فالحالان متفقان ، إلا أن التسليم والمكافّة عند ظهور أسباب الخوف لم يقبلا منه ، ولم يجب إلى الموادعة ، وطلبت نفسه فمنع منها بجهده ، حتّى مضى كريما إلى جنة الله ورضوانه ، وهذا واضح لمتأمله (انتهيكلام السيد المرتضى).

٢٨٧ ـ تعليق العلامة المجلسي :(أسرار الشهادة للدربندي ، ص ٢٦)

قال المحقق المحدث المجلسي بعد نقل كلام السيد المرتضى :

وقد مضى في كتابه (الإمامة) وكتاب (الفتن) أخبار كثيرة دالة على أن كلا منهمعليه‌السلام كان مأمورا بأمور خاصة ، مكتوبة في الصحف السماوية النازلة على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهم كانوا يعملون بها. ولا ينبغي قياس الأحكام المتعلقة بهم على أحكامنا. وبعد الاطلاع على أحوال الأنبياءعليهم‌السلام وأن كثيرا منهم كانوا يبعثون فرادى في ألوف من الكفرة ، ويسبّون آلهتهم ويدعونهم إلى دينهم ، ولا يبالون بما ينالهم من المكاره والضرب والحبس والقتل والإلقاء في النار ، ولا ينبغي الاعتراض على أئمة الدين في أمثال ذلك ، مع أنه بعد ثبوت عصمتهم بالبراهين والنصوص المتواترة ، لا مجال للاعتراض عليهم ، بل يجب التسليم لهم في كل ما صدر عنهم.

على أنك لو تأملت حق التأمل علمت أنهعليه‌السلام فدى بنفسه المقدسة دين جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم تنزلزل أركان دولة بني أمية إلا بعد شهادته ، ولم يظهر للناس كفرهم وضلالتهم إلا عند فوزه بسعادته. ولو كان يسالمهم ويوادعهم كان يقوى سلطانهم ويشتبه على الناس أمرهم ، فتعود بعد حين أعلام الدين طامسة وآثار الهداية مندرسة. مع أنه قد ظهر لك من الأخبار السابقة أنهعليه‌السلام هرب من المدينة خوفا من القتل.

إلى مكة ، وكذا خرج من مكة بعد ما غلب على ظنه أنهم يريدون غيلته وقتله ، حتّى لم يتيسّر له أن يتمّ حجّه ، فتحلل وخرج منها خائفا يترقب. وقد كانوا ضيّقوا عليه جميع الأقطار ولم يتركوا له موضعا للفرار.

ولقد رأيت في بعض الكتب المعتبرة أن يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر عظيم ، وولاه أمر الموسم ، وأمّره على الحاج كلهم ، وكان قد أوصاه بقبض

٢٨١

الحسينعليه‌السلام سرا ، وإن لم يتمكن منه بقتله غيلة. ثم إنه دسّ مع الحاج في تلك السنة ثلاثين رجلا من شياطين بني أمية ، وأمرهم بقتل الحسينعليه‌السلام على أي حال اتفق. فلما علم الحسينعليه‌السلام بذلك حلّ من إحرام الحج وجعلها عمرة مفردة.

وقد روي بأسانيد معتبرة ، أنهعليه‌السلام لما منعه محمّد بن الحنفية عن الخروج

إلى الكوفة ، قال : «والله يا أخي لو كنت في جحر هامّة من هوام الأرض ، لاستخرجوني منه حتّى يقتلونني». بل الظاهر أنه لو كان يسالمهم ويبايعهم لا يتركونه ، لشدة عداوتهم وكثرة وقاحتهم ، بل كانوا يغتالونه بكل حيلة ويدفعونه بكل وسيلة. وإنما كانوا يعرضون البيعة عليه أولا لعلمهم بأنه لا يوافقهم في ذلك.ألا ترى مروان ابن الحكم كيف كان يشير على والي المدينة بقتله قبل عرض البيعة عليه؟. وكان عبيد الله بن زياد يقول : اعرضوا عليه فلينزل على أمرنا ، ثم نرى فيه رأينا؟.

ألا ترى كيف أمنّوا مسلم بن عقيل ، ثم قتلوه؟!.

فأما معاوية فإنه مع شدة عداوته وبغضه لأهل البيتعليهم‌السلام كان ذا دهاء ونكراء وحزم ، وكان يعلم أن قتلهم علانية يوجب رجوع الناس عنه وذهاب ملكه وخروج الناس عليه ، فكان يداريهم ظاهرا على كل حال. ولذا صالحه الحسنعليه‌السلام ولم يتعرض له الحسينعليه‌السلام . ولذا كان معاوية يوصي ولده اللعين بعدم التعرض للحسينعليه‌السلام لأنه كان يعلم أن ذلك يصير سببا لذهاب دولته (انتهى كلام العلامة المجلسي).

٢٨٨ ـ لماذا خرج الحسينعليه‌السلام بعياله إلى العراق؟ :(مقتل المقرم ص ١٢٥)

ان الكلمة السديدة الناضجة في وجه حمل الحسين عياله إلى العراق مع علمه بما يقدم عليه ومن معه على القتل ، هو أنهعليه‌السلام لما علم بأن قتلته سوف تذهب ضياعا لو لم يتعقبها لسان ذرب(١) وجنان ثابت ، يعرّفان الأمة ضلال ابن ميسون(يزيد) وطغيان ابن مرجانة (ابن زياد) ، باعتدائهما على الذرية الطاهرة الثائرة في وجه المنكر ، ودحض ما ابتدعاه في الشريعة المقدسة.

وعرف سيد الشهداءعليه‌السلام من حرائر الرسالةعليه‌السلام الصبر على المكاره وملاقاة

__________________

(١) ذرب اللسان : ذو لسان حادّ. ولسان ذرب : أي فصيح.

٢٨٢

الخطوب والدواهي بقلوب أرسى من الجبال ، فلا يفوتهن تعريف الملأ المغمور بالترّهات والأضاليل ، نتائج أعمال هؤلاء المضلين ، وما يقصدونه من هدم الدين ، وأن الشهداء أرادوا بنهضتهم مع إمامهم إحياء شريعة جده محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي الحقيقة لقد أدت عقائل الوحي هذه الرسالة الجوهرية الخطيرة ، بجرأة وإخلاص ، وثبات ورباطة جأش ، رغم تفاقم الخطب وعظم المصيبة وقساوة المحنة فهاهي عقيلة الوحي زينبعليها‌السلام أخت الحسينعليه‌السلام تقف بجرأة وحزم أمام ابن زياد الجبار المتهور ، تفرغ عن لسان أبيها ، تقول له بكلام أنفذ من السهم ، وتلقمه حجرا وهي تقول :

«هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّ وتخاصم ، فانظر لمن الفلج (أي الفوز) ثكلتك أمك يابن مرجانة».ثم لا ننسى خطبها في الكوفة ومواقفها في الشامعليها‌السلام .

وها هي فاطمة بنت الحسين وأم كلثوم وسكينةعليهم‌السلام يتحدثن بمثل ما تحدثت به عمتهن زينبعليها‌السلام ، في ذلك الموقف الرهيب المحفوف بسيوف الخسف والغدر والجور ، فما يستطيع أحد أن يتفوه بكلمة واحدة مهما أوتي من الجرأة والثبات والصمود ، ومهما بلغ من القوة والمنعة والمنزلة ، فكيف بهنّ وقد أعلنّ للملأ أجمع عن كل موبقات ابن ميسون وابن مرجانة.

هذا على أنه وإن وضع الله الجهاد ومكافحة الأعداء عن المرأة وأمرها بلزوم بيتها ، فذاك فيما إذا قام بتلك المكافحة غيرها من الرجال ، وأما إذا توقف إقامة الحق عليها فقط ، بحيث لولا قيامها لدرست أسس الشريعة وذهبت الغاية من تضحية الصفوة ، كان الواجب القيام به.

ينتج من هذا أن جهاد العقيلات في معركة كربلاء كان في طرف موازنة مع جهاد الشهداء.

وجاء في (اللهوف) ص ٤٧ : ومما يمكن أن يكون سببا لحمل الحسينعليه‌السلام عياله ، أنه إن تركها بالحجاز أو غيرها من البلاد ، كان يزيد بن معاوية قد أنفذ ليأخذهن إليه ، وصنع بهن من الاستئصال وسيّئ الأعمال ، ما يمنع الحسين من الجهاد والشهادة.

٢٨٣

٥ ـ هل ألقى الحسينعليه‌السلام بيده إلى التهلكة؟

٢٨٩ ـ هل عرّض الحسينعليه‌السلام نفسه للتهلكة؟ :

(مقتل الحسين للمقرّم ، ص ٣٩)

يقول السيد عبد الرزاق المقرّم عن استشهاد الأئمةعليهم‌السلام :

وليس في إقدامهم على الشهادة إعانة على إزهاق نفوسهم القدسية وإلقائها في التهلكة الممنوع منه بنص الذكر المجيد ، فإن الإبقاء على النفس والحذر من إيرادها مورد الهلكة إنما يجب إذا كان مقدورا لصاحبها أو لم يقابل بمصلحة أهمّ من حفظها. وأما إذا وجدت هنا لك مصلحة تكافىء تعريض النفس للهلاك ، كما في الجهاد والدفاع عن النفس ، مع العلم بتسرب القتل إلى فئة من المجاهدين ، فيجب عندها بذل النفس والتضحية بها. ولقد أمر الله الأنبياء والمرسلين والمؤمنين فمشوا إليه قدما موطّنين أنفسهم على القتل وكم فيهم سعداء ، وكم من نبي قتل في سبيل دعوته ولم يبارح قوله دعوته حتّى أزهقت نفسه الطاهرة!. وقد تعبّد الله طائفة من بني إسرائيل بقتل أنفسهم فقال :( إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ ) [البقرة : ٥٤].

وقد أثنى سبحانه على المؤمنين في إقدامهم على القتل والمجاهدة في سبيل تأييد الدعوة الإلهية ، فقال تعالى :( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ) [التوبة : ١١١] وقال تعالى :( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ ) [البقرة : ٢٠٧] وقال تعالى :( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (١٦٩) [آل عمران : ١٦٩].

٢٩٠ ـ التعبّد بالقتل أسمى درجات السعادة ، وليس هو إلقاء إلى التهلكة :

(اللهوف للسيد ابن طاووس ، ص ١٢)

يقول السيد ابن طاووس : ولعل بعض من لا يعرف حقائق شرف السعادة بالشهادة ، يعتقد أن الله لا يتعبّد بمثل هذه الحالة. أما سمع في القرآن الصادق المقال ، أنه تعبّد قوما بقتل أنفسهم ، فقال تعالى :( إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ ) [البقرة : ٥٤] أنه هو القتل ، وليس الأمر كذلك ، وإنما التعبد به من أبلغ درجات السعادة.

٢٨٤

ثم يعرض تفسير آية التهلكة بما ذكره الإمام الصادقعليه‌السلام ، وهو أن بعض الصحابة تخلّفوا عن نصرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقاموا في بيوتهم لإصلاح أحوالهم ، فنزلت الآية :( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) [البقرة : ١٩٥] ومعناه : إن تخلّفتم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقمتم في بيوتكم ألقيتم بأيديكم إلى التهلكة وسخط الله عليكم فهلكتم. وليست هذه الآية في رجل يحرّض على العدو أو يطلب الشهادة بالجهاد في سبيل الله رجاء الثواب والآخرة.

٢٩١ ـ دفع شبهة : هل ألقى الحسينعليه‌السلام بنفسه إلى التهلكة؟ :

(الأنوار النعمانية لنعمة الله الجزائري ، ج ٢ ص ٢٣٦)

يقول السيد نعمة الله الجزائري :

واعلم أن جماعة من مخالفينا أورد واهنا شبهة ، بل وربما قاله بعض الجهال فينا ، وهو أن الحسينعليه‌السلام كان عالما بأن يجري عليه ما جرى قبل مسيره إلى العراق ، فلم سار إليها حتّى صار كالمعين على نفسه؟. وهذه شبهة ركيكة ، والجواب عنها من وجوه :

الوجه الأول : أن الإمام إذا وجد الأعوان وجب عليه القيام بأمر الجهاد ، ولا يجوز له التقاعد عنه لظنه بهم الخذلان له ، كما لم يجز للأنبياءعليهم‌السلام ترك الجهاد لهذه المظنّة ، بل قاموا بالدعوة حتّى أصيبوا من الأمة بالمصائب العظام ، كما وقع لأولي العزم وغيرهم ، استتماما لحجة الله تعالى على الخلائق.

الوجه الثاني : أنهعليه‌السلام لو لم يسر إلى العراق لما تركوه ، ولو ذهب إلى المكان البعيد ، مصداقا لقولهعليه‌السلام لأخيه محمّد بن الحنفية ، حين نصحه بأن يلحق بالرمال من اليمن حتّى ينظر بواطن أهل العراق ، فقال له : يا أخي نعم ما رأيت من الصلاح ، ولكن هؤلاء القوم ما يسكتون عن طلبي أينما ذهبت حتّى يسفكوا دمي ، فعند ذلك يلبسهم الله ذلّ الدنيا والآخرة.

الوجه الثالث : أن الأنبياء والأئمةعليهم‌السلام قد خصّهم الله تعالى بأنواع من التكاليف ، فلعل هذا ـ وهو الإلقاء إلى التهلكة ـ منها ، نظرا إلى الحكم والمصالح الإلهية.

فإن قلت : كيف لم يبايع ليزيد حتّى لا يصل إليه الضرر ، كما بايع أخوه الحسنعليه‌السلام ؟ قلت : هذا مجرد كلام ، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين. وذلك

٢٨٥

أنهعليه‌السلام رأى أخاه الحسنعليه‌السلام لما سالم معاوية ، وكيف فعل به أولا ، وكيف غدر به آخرا ، حتّى قتله مسموما. فما كان يصنع ابنه يزيد مع الحسينعليه‌السلام إلا أسوأ من هذا ، لأن معاوية كان فيه الدهاء ، وما كان يتجرأ على قتل الحسينعليه‌السلام ظاهرا ، ولهذا أوصى عند موته ليزيد ، أنك [إن] تظفر بالحسينعليه‌السلام فلا تقتله ، واذكر فيه القرابة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢٩٢ ـ بين هجرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهجرة السبطعليه‌السلام :

(من وحي الثورة الحسينية لهاشم معروف الحسني ، ص ٣١)

يقول السيد هاشم معروف الحسني :

هناك هجرتان من أجل الإسلام ورسالة الإسلام :

الأولى منهما : كانت فرارا من الموت الّذي استهدف رسالة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشخصه ، وقد نفّذها الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر من ربه ، ليتابع رسالته وينقذها من مشركي مكة وجبابرة قريش وعلى رأسهم أبو سفيان.

والثانية : قام بها سبطه الزكي الحسين بن عليعليه‌السلام ولكنها كانت للشهادة ، بعد أن أدرك أن الأخطار المحدقة برسالة جده ، لا يمكن تفاديها وتجاوزها إلا بشهادته.

لقد هاجر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكة إلى المدينة لأجل رسالته ، بعد أن تآمرت قريش على قتله لتتخلص منها ، لأن بقاءها وانتشارها مرهون بحياته ، وبعد أن وجدت أن جميع وسائل العنف التي استعملتها معه خلال ثلاثة عشر عاما لم تغير من موقفه شيئا ، كما لم تجدها جميع الاغراءات والعروض السخية. وكان ردّه الأخير على عروض أبي سفيان وأبي جهل ومغرياتهما أن قال : «والله لو وضعتم الشمس في يميني ، والقمر في شمالي ، على أن أترك هذا الأمر ما تركته ، حتّى يحكم الله أو أهلك دونه».

وظل الحزب الأموي بقيادة أبي سفيان وأبنائه يتحيّن الفرص ويستغل المناسبات ليجهض على الإسلام وعلى قادة الإسلام ، بعد أن عملوا بكل جهدهم لإفراغ الإسلام من مضمونه الحقيقي واتخاذه أداة ظاهرية للوصول إلى الحكم.

وحين عادت الجاهلية تعصف برياحها على بلاد الإسلام ، وتلقي بظلها على المسلمين ، سطع ضوء في الظلام ومن بين ركام الإسلام المتداعي ، وأضاءت للملأ

٢٨٦

ملامح أمل جديد في دياجي ذلك الظلام المطبق ، وبدا للعالم إنسان يخطّ على التراب بدمه هذه الكلمات :

«ألا وإني لا أرى الموت إلا سعادة ، والحياة مع الظالمين إلا برما».

إنه الحسين ، ابن علي وفاطمة الزهراءعليهم‌السلام سبط ذلك الرسول الّذي هاجر [الهجرة الأولى] من مكة إلى المدينة ، لأجل رسالته ولا نقاذها من الشرك والوثنية.جاء يهاجر [الهجرة الثانية] لأجل نفس الرسالة ولانقاذها من الشذوذ والانحراف والجور والفساد. خرج من مدينة جده محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عاصمة أبيه الكوفة ، خرج مهاجرا لإحياء دين جده ورسالته ، وإيقاظ الآمال في نفوس الفقراء والمستضعفين ، الذين باتوا يساقون كالأنعام بيد الولاة والحكام.

ولقد رضي الحسينعليه‌السلام أن يقدّم نفسه وأهله قربانا لهذه الرسالة ، حين رأى الموت والشهادة أحلى إلى قلبه من العقد الّذي يزيّن جيد الفتاة ، وحين أدرك أن لا عزّة ولا كرامة إلا بالجهاد والفداء.

لقد هاجر الحسينعليه‌السلام من مدينة جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أرض الشهادة والخلود ، ليقدّم دمه الزكي ودماء إخوته وأنصاره ثمنا لإحياء شريعة جده محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنقاذها من الضياع والاندثار.

وهكذا كانت نهضة الحسينعليه‌السلام الامتداد الطبيعي لرسالة جده محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجهاد الحسينعليه‌السلام امتدادا لجهاد جده وأبيهعليه‌السلام ، مصداقا لقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«حسين مني وأنا من حسين». فعقيدة الحسين هي من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورسالة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحيى وتبقى بالحسينعليه‌السلام .

٦ ـ معالم النهضة المقدسة

٢٩٣ ـ ثلاثة مشاعل من رسالة الحسينعليه‌السلام :

(مجلة الإسلام في معارفه وفنونه للشيخ حبيب آل إبراهيم ، بعلبك ،

السنة العاشرة ، العدد الأول ، نيسان ١٩٦٨)

ماهي رسالة الحسينعليه‌السلام ؟

تعال نسأل عنها الإمام الحسين نفسه

في يوم شهادته بالذات رفع الشهيد شعارات ثلاثة ،

٢٨٧

كانت خير عنوان للرسالة التي خرج يؤديها بدمه ،

ودم الشهداء الذين معه.

هذه الشعارات هي : المسؤولية ـ التصميم ـ العزّة.

١ ـ المسؤولية :

قال الإمام الحسينعليه‌السلام : «إني لم أخرج أشرا ولا بطرا ، ولا مفسدا ولا ظالما ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يحكم الله وهو خير الحاكمين».

هذه الكلمات مشاعل ، تضيء الطريق للسالكين ، بها يحدد سيد الشهداء أغراض نهضته : إنه لم يخرج طمعا بمنصب ولا عن انحراف ، إنما خرج يطلب الإصلاح في دين جده خاتم الرسلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يريد أمرا بمعروف ونهيا عن منكر.

ها هنا مشعل!. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إنه المسؤولية ؛ مسؤولية المسلم عن عقيدته وممارستها.

ولقد كان أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام حيثما سار وثار ، نموذجا مثاليا للمسلم حين تحيق بعقيدته الآفات والأخطار.

ثم قال الحسينعليه‌السلام : «فمن قبلني بقبول الحق ، فالله أولى بالحق ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر ، حتّى يحكم الله ، وهو خير الحاكمين».

إنه ينادي : أيها الناس لا يكن ميزان قبولكم إياي شخصي ، إنما اقبلوني لأني أمثّل حقا. فمن قبلني فإنما يقبل الحق ، ومن ردّ عليّ فإنما يردّ على الحق هكذا ترتفع المبادئ فوق الأشخاص. وحينذاك تضيع النفوس وحاجاتها ، ويبقى المبدأ هو القائم البارز. ونعم ، يبقى الشخص بمقدار ما يمثّل من مبدأ.

٢ ـ التصميم :

وقالعليه‌السلام : «ألا وإن الدعيّ ابن الدعيّ ، قد ركز بين اثنتين : بين السّلةّ والذلة ، وهيهات منا الذلة ، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وجدود طابت ، وحجور طهرت ، وأنوف حميّة ، ونفوس أبيّة ، لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام».

٢٨٨

ها هو الحسينعليه‌السلام يعلن تصميمه على أداء رسالته ، وأنه لن يتراجع. وأنه يؤثر أن يموت ميتة الكرام في سبيل الرسالة ، على أن يطيع اللئام ولكن لماذا؟. من أين ينبع هذا التصميم؟.

من الله ورسوله ، ومن تربيته ، ومن نفسه. فلا الله يرضى له التراجع ولا رسوله ، ولا حقّ من ربّوه ، ولا نفسه.

مزيج من الدوافع ، لا أشمل ولا أكمل : الدين والتربية والنفسية. كلها تدفعه لأن يعلنها صريحة مدوّية : أنه لن يتراجع عن أداء رسالته ، ولو كلّفه ذلك مصرعه ...والدين في المقدمة.

وهذا مشعل!. الدين حافز لا يرضى التراجع ، ولا يقبل بأنصاف الحلول.

٣ ـ العزّة :

ثم قالعليه‌السلام : «لا والله ، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أقرّ إقرار العبيد».

كلمات تنضح بالعزة

إنه لن يسكت ذليلا ، ولن يسكت عبدا والمنحرفون يريدونه ذليلا وعبدا معا. ولو أنه ذل واستعبد لربما أنالوه ما يرضيه ؛ ولكنه عزّ ، وإذ عزّ ثار ولكم تكلّف.

العزة غاليا( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) [المنافقون : ٨].

وهذا مشعل!. الإيمان عزّ ، ولا ذلّ مع الإيمان.

٧ ـ أهداف نهضة الحسينعليه‌السلام

* مدخل :

قبل أن يسير الحسينعليه‌السلام من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة ، دعا بدواة وبياض وكتب وصية تاريخية لأخيه محمّد بن الحنفية. وهذه الوصية هي أفضل وثيقة صادرة عن صاحب النهضة ، يوضح فيها بجلاء أهداف نهضته المباركة ، يقول فيها :

«إني لم أخرج أشرا (أي فرحا) ولا بطرا ، ولا مفسدا ولا ظالما ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن

٢٨٩

المنكر ، وأسير بسيرة جدي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسيرة أبي علي بن أبي طالبعليه‌السلام .فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق ، ويحكم بيني وبينهم وهو خير الحاكمين».

ففي هذه الوثيقة يبيّن الحسينعليه‌السلام ما يلي :

١ ـ أن نهضته ليس غرضها السلطان والدنيا وما يلازمها من الفرح والبطر ، ولا الإفساد والظلم.

٢ ـ أن نهضته تنطلق من مبدأ وجوب الإصلاح لكل فاسد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

٣ ـ أن غايته الأولى والأخيرة إحقاق الحق الّذي أبطله المتحكمون والمبطلون ، المتمثل بسيرة جده محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبيه عليعليه‌السلام .

٤ ـ أنه سوف يعمل جاهدا لتطبيق مبادئه السامية مستعينا بأنصار الحق ، وسوف يبذل في سبيل ذلك كل غال ورخيص ، ويصبر على تنفيذ ذلك ولو ضحّى بنفسه وما يملك.

والحسينعليه‌السلام رغم علمه بمصيره وشهادته ، التي وصلت حدّ الاشتهار ، إلا أنه كان يعمل وفق تكليفه الشرعي المبني على ظواهر الأمور.

٢٩٤ ـ هدفان رئيسيان للنهضة :

(الوثائق الرسمية لثورة الحسين لعبد الكريم الحسيني القزويني ، ص ١٢)

لو تصفحنا الوثائق الأولى لقائد هذه الثورة ـ الحسينعليه‌السلام ـ لرأيناها تحمل الهدفين التاليين :

١ ـ الثورة على حكم يزيد ، أي تغيير الجهاز الحاكم.

٢ ـ إقامة الشريعة الاسلامية وتطبيقها ، في مقابل المخالفات التي أشاعها الحكام آنذاك.

٢٩٥ ـ الحسينعليه‌السلام فاتح وليس مغامرا :(مقتل الحسين للمقرم ، ص ٥٦)

كان الحسينعليه‌السلام يعتقد في نهضته أنه فاتح منصور ، لما في شهادته من إحياء دين الرسول وإماتة البدعة وتفظيع أعمال المناوئين وتفهيم الأمة أنه أحق بالخلافة من غيره ، وإليه يشير في كتابه إلى بني هاشم :

٢٩٠

«من لحق بي منكم استشهد ، ومن تخلفّ لم يبلغ الفتح»(١) .

فإنهعليه‌السلام لم يرد بالفتح إلا ما يترتب على نهضته وتضحيته من نقض دعائم الضلال وكسح أشواك الباطل عن الشريعة المطهرة ، وإقامة أركان العدل والتوحيد ، وأن الواجب على الأمة القيام في وجه المنكر.

وهذا معنى كلمة الإمام زين العابدينعليه‌السلام لإبراهيم بن طلحة بن عبيد الله

لما سأله حين رجوعه إلى المدينة : «من الغالب؟». فقال السجّادعليه‌السلام : إذا دخل وقت الصلاة فأذّن وأقم ، تعرف الغالب!(٢) .

فإنه يشير إلى تحقّق الغاية التي ضحّى سيد الشهداء بنفسه القدسية من أجلها ، وفشل يزيد بما سعى له من إطفاء نور الله تعالى ومحو ذكر أهل البيتعليهم‌السلام ، وما أراده أبوه من نقض مساعي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإمائة الشهادة له بالرسالة ، بعد أن كان الواجب على الأمة في أوقات الصلوات الخمس الإعلان بالشهادة لنبي الإسلام ، ذلك الّذي هدم صروح الشرك وأبطل عبادة الأوثان. كما وجب على الأمة الصلاة على النبي وعلى آله الطاهرين في التشهدين ، وأن الصلاة عليه بدون الصلاة على آله : بتراء(٣) .

كما أن العقيلة زينبعليها‌السلام أشارت إلى هذا الفتح بقولها ليزيد : «فكد كيدك ، واسع سعيك ، وناصب جهدك ، فو الله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ، ولا يرحض عنك عارها وشنارها».

تصريحات الفيلسوف الألماني ماربين

٢٩٦ ـ أسرار شهادة الحسينعليه‌السلام للفيلسوف الألماني (ماربين):

(ذكرى الحسين للشيخ حبيب آل إبراهيم ، ج ٨ ص ٥٢)

قال الحكيم الألماني ماربين في كتابه (السياسة الإسلامية) من جملة كلام طويل :

لا يشك صاحب الوجدان إذا دقّق النظر في أوضاع ذاك العصر ، وكيفية نجاح بني

__________________

(١) كامل الزيارات ، ص ٧٥ ؛ وبصائر الدرجات للصفار ، ج ١٠ ص ١٤١.

(٢) أمالي الشيخ الطوسي.

(٣) الصواعق المحرقة ، ص ٨٧.

٢٩١

أمية في مقاصدهم واستيلائهم على جميع طبقات الناس وتزلزل المسلمين ، أن الحسين قد أحيا بقتله دين جده وقوانين الإسلام. ولو لم تقع تلك الواقعة ، ولم تظهر تلك الحسّيات الصادقة بين المسلمين لأجل قتل الحسين ، لم يكن الإسلام على ماهو عليه الآن قطعا ، بل كان من الممكن ضياع رسومه وقوانينه حيث كان يومئذ حديث العهد.

عزم الحسينعليه‌السلام على إنجاح هذا المقصد وإعلان الثورة ضد بني أمية من يوم توفي والده ، فلما قام يزيد مقام معاوية خرج الحسينعليه‌السلام من المدينة ، وكان يظهر مقصده العالي ، ويبث روح الثورة في المراكز الإسلامية المهمة كمكة والعراق وأينما حل ، فازدادت نفرة قلوب المسلمين ، التي هي مقدمة الثورة على بني أمية ، ولم يكن يجهل يزيد مقاصد الحسينعليه‌السلام ، وكان يعلم أن الثورة إذا أعلنت في جهة والحسين قائدها مع تنفر المسلمين عموما من حكومة بني أمية وميل القلوب وتوجه الانظار إلى الحسينعليه‌السلام ، عمّت جميع البلدان ، وفي ذلك زوال ملكهم وسلطانهم ، فعزم يزيد قبل كل شيء من يوم بويع على قتل الحسينعليه‌السلام . ولقد كان هذا أعظم خطأ سياسي صدر من بني أمية ، فجعلهم نسيا منسيا ولم يبق منهم أثر ولا خبر.

وأعظم الأدلة على أن الحسينعليه‌السلام أقدم على قتل نفسه ولم تكن من غرضه سلطنة ولا رئاسة ، هو أنه مضافا إلى ما كان عليه من العلم والسياسة والتجربة التي وقف عليها زمن أبيه وأخيه في قتال بني أمية ، كان يعلم أنه مع عدم تهيئة الأسباب له واقتدار يزيد ، لا يمكنه المقاومة والغلبة.

وكان يقول من يوم توفي والده إنه يقتل وأعلن يوم خروجه من المدينة أنه يمضي إلى القتل ، وأظهر ذلك لأصحابه والذين أتبعوه من باب إتمام الحجة ، حتى يتفرق الذين التفوا حوله طمعا بالدنيا ، وطالما كان يقول «وخير لي مصرع أنا لاقيه». ولو لم يكن قصده ذلك ولم يكن عالما عامدا ، لجمع الجنود ولسعى في تكثير أصحابه وزيادة استعداده ، لا أن يفرق الذين كانوا معه. ولكن لما لم يكن له قصد إلا القتل مقدمة لذلك المقصد العالي ، وإعلان الثورة المقدسة ضد يزيد ، رأى أن خير الوسائل إلى ذلك (الانفراد والمظلومية) ، فإنّ أثر هذه المصائب أشد وأكثر في القلوب.

من الظاهر أن الحسينعليه‌السلام مع ما كانت له من المحبوبية في قلوب المسلمين

٢٩٢

في ذلك الزمان ، لو كان يطلب قوة واستعدادا لأمكنه أن يخرج إلى حرب يزيد جيشا جرارا ، ولكنه لو صنع ذلك لكان قتله في سبيل السلطة والإمارة ، ولم يفز (بالمظلومية) التي انتجت تلك الثورة العظيمة. هذا هو الذي جعله لا يبقي معه إلا الذين لا يمكن انفكاكهم عنه ، كأولاده وإخوانه وبني أخوته وبني أعمامه وجماعة من خواص أصحابه ، حتى أنه أمر هؤلاء أيضا بمفارقته ، ولكنهم أبوا عليه ذلك ، وهؤلاء أيضا كانوا من المعروفين بين المسلمين بجلالة القدر وعظم المنزلة وقتلهم معه مما يزيد في عظم المصيبة وأثر الوقعة. نعم إن الحسينعليه‌السلام بمبلغ علمه وحسن سياسته بذل كمال جهده في إفشاء ظلم بني أمية وإظهار عداوتهم لبني هاشم وسلك في ذلك كل طريق.

ولما كان يعلم الحسينعليه‌السلام عداوة بني أمية له ولبني هاشم ، ويعرف أنهم بعد قتله يأسرون عياله وأطفاله ـ وذلك يؤيد مقصده ويكون له أثر عظيم في قلوب المسلمين سيما العرب كما قد وقع ـ حملهم معه وجاء بهم من المدينة.

نعم إن ظلم بني أمية وقساوة قلوبهم في معاملاتهم مع حرم محمد وصباياه أثّر في قلوب المسلمين تأثيرا عظيما لا ينقص عن أثر قتله وأصحابه. ولقد أظهر في عمله هذا عقيدة بني أمية في الإسلام وسلوكهم مع المسلمين سيما ذراري نبيهم. لهذا كان الحسين يقول في جواب أصحابه والذين كانوا يمنعونه عن هذا السفر : «إني أمضي إلى القتل» ولما كانت أفكار المانعين محدودة وأنظارهم قاصرة لا يدركون مقاصد الحسينعليه‌السلام العالية ، لم يألوا جهدهم في منعه ، وآخر ما أجابهم به أن قال لهم «شاء الله ذلك وجدي أمرني به». فقالوا إن كنت تمضي إلى القتل فما وجه حملك النسوة والأطفال ، فقال : «إن الله شاء أن يراهن سبايا». ولما كان الحسين بينهم رئيسا روحانيا لم يكن لهم بدّ من السكوت.

ومما يدل على أنه لم يكن له غرض إلا ذلك المقصد العالي الذي كان في نفسه ، ولم يتحمل تلك المصائب لسلطنة وإمارة ولم يقدم على هذا الخطر من غير علم ودارية ـ كما تصوره بعض المؤرخين منا ـ أنه قال لبعض ذوي النباهة قبل الواقعة بأعوام كثيرة ، على سبيل السلوة : إنه بعد قتلي وظهور تلك المصائب المحزنة ، يبعث الله رجالا يعرفون الحق من الباطل ، يزورون قبورنا ، ويبكون على مصابنا ، ويأخذون بثأرنا من أعدائنا ، أولئك جماعة ينشرون دين الله وشريعة جدي ، وأنا وجدي نحبهم وهو يحشرون معنا يوم القيامة. وليتأمل المتأمل في كلام

٢٩٣

الحسينعليه‌السلام وحركاته يرى أنه لم يترك طريقا من السياسة إلا سلكه في إظهار شنائع بني أمية وعداوتهم القلبية لبني هاشم ومظلومية نفسه ، وهذا مما يدل على حسن سياسته وقوة قلبه وتضحية نفسه ، في طريق الوصول إلى المقصد الذي كان في نظره ، حتى أنه في آخر ساعات حياته عمل عملا حير عقول الفلاسفة ، ولم يصرف نظره عن ذلك المقصد العالي مع تلك المصائب المحزنة والهموم المتراكمة وكثرة العطش والجراحات ، وهو قصة (عبد الله الرضيع). فلما كان الحسينعليه‌السلام يعلم أن بني أمية لا يرحمون له صغيرا رفع طفله الصغير تعظيما للمصيبة على يده أمام القوم وطلب منهم أن يأتوه بشربة من الماء فلم يجيبوه إلا بالسهم.

ويغلب على الظن أن غرض الحسينعليه‌السلام من هذا العمل تفهيم العالم بشدة عداوة بني أمية لبني هاشم وأنها إلى أي درجة بلغت. ولا يظن أحد أن يزيد كان مجبورا على تلك الأعمال المفجعة لأجل الدفاع عن نفسه ، لأن قتل الطفل الرضيع في تلك الحال بتلك الكيفية ، ليس هو إلا توحش وعداوة سبعية ، منافية لقواعد كل دين وشريعة ، ويمكن أن تكون هذه الفاجعة كافية لافتضاح بني أمية ورفع الستار عن قبائح أعمالهم ونياتهم السيئة بين العالم ، سيما المسلمين ، وأنهم يخالفون الإسلام في حركاتهم بل يسعون بعصبية جاهلية إلى إبادة آل محمد وجعلهم أيدي سبأ.

ونظرا لتلك المقاصد العالية التي كانت في نظر الحسينعليه‌السلام مضافا إلى وفور علمه وسياسته التي كان لا يشك فيها اثنان لم يرتكب أمرا يوجب إجبار بني أمية للدفاع عن أنفسهم ، حتى أنه مع ذلك النفوذ والاقتدار الذي كان له في ذلك العصر لم يسع في تسخير البلاد الإسلامية وضمها إليه ولا هاجم ولاية من ولايات يزيد إلى أن حاصروه في واد غير ذي زرع ، قبل أن تبدو منه أقل حركة عدائية أو تظهر منه ثورة ضد بني أمية لم يقل الحسينعليه‌السلام سأكون ملكا أو سلطانا أو أصبح صاحب سلطة. نعم كان يبث روح الثورة في المسلمين بنشره شنائع بني أمية واضمحلال الدين إن دام ذلك الحال ، وكان يخبر بقتله ومظلوميته وهو مسرور. ولما حوصر في تلك الأرض القفراء أظهر لهم من باب إتمام الحجة بأنهم لو تركوه لرحل بعياله وأطفاله وخرج من سلطة يزيد ، ولقد كان لهذا الإظهار الدال على سلامة نفس الحسينعليه‌السلام في قلوب المسلمين غاية التأثير.

لقد قتل قبل الحسينعليه‌السلام ظلما وعدوانا كثير من الرؤساء الروحانيين وأرباب

٢٩٤

الديانات وقامت الثورة بعد قتلهم بين تابعيهم ضد الأعداء ، كما وقع مكررا في بني إسرائيل ، وقصة يحيى من أعظم الحوادث التاريخية ، ومعاملة اليهود مع المسيح لم ير نظيرها إلى ذلك العهد ، ولكن واقعة الحسينعليه‌السلام فاقت الجميع لم يرشدنا التاريخ إلى أحد من الروحانيين وأرباب الديانات أنه أقدم على قتل نفسه عالما عامدا لمقاصد عالية لا تنجح إلا بقتله ، فإن كل واحد من أرباب الديانات الذين قتلوا ، ثار عليهم أعداؤهم وقتلوهم ظلما ، وبمقدار مظلوميتهم قامت الثورة بعدهم ، ومقاصد الحسينعليه‌السلام كانت على علم وحكمة وسياسة وليس لها نظير في التاريخ ، فإنه لم يزل يوالي السعي في تهيئة أسباب قتله نظرا لذلك المقصد العالي ، ولم نجد في التاريخ رجلا ضحّى بحياته عالما عامدا لترويج ديانته من بعده إلا الحسينعليه‌السلام .

المصائب التي تحمّلها الحسينعليه‌السلام في طريق إحياء دين جده تفوق على مصائب أرباب الديانات السابقين ، ولم ترد على أحد منهم. نعم إن هناك رجالا قتلوا في طريق إحياء الدين ولكنهم لم يكونوا كالحسين ، فإنه ضحّى بنفسه العزيزة في طريق إحياء دين جده وفداه بأولاده وإخوانه وأقربائه وأحبابه وأمواله وعياله ، ولم تقع هذه المصائب دفعة واحدة حتى تكون في حكم مصيبة واحدة ، بل وقعت متوالية واحدة بعد أخرى ، ويختص الحسينعليه‌السلام دون غيره بتواتر أمثال هذه المصائب كما يشهد له التاريخ.

لم تنته المصائب التي وردت على الحسينعليه‌السلام من قتله وقتل أصحابه وتسيير نسائه وبناته ، إلا وانكشف الغطاء عن سرائر بني أمية وقبائح أعمالهم ، وظهرت بين المسلمين الحسيات السياسية ، وتوطدت أسباب الثورة ضد سلطنة يزيد وبني أمية ، وعلم الجميع أن بني أمية مخربو الإسلام ، وصار الجميع يرفض بدعهم وتقولاتهم ، وعرفوا بالظلم والغصب ، بالعكس من بني هاشم فإنهم عرفوا بالمظلومية وأن لهم الرئاسة الروحانية بالاستحقاق ، وإليهم تنمى الحقيقة الروحانية.

كأن المسلمين بعد قتل الحسينعليه‌السلام قد دخلوا في دور جديد وظهرت الروحانية الإسلامية بأجلى مظاهرها وتجددت بعد أن كانت مندرسة غائبة عن أذهان المسلمين وكما أنه لا يشك اثنان في تفوق مصائب الحسينعليه‌السلام على جميع مصائب روحاني السلف ، فكذلك لا يشك في الثورة التي حدثت بعده بأنها فاقت جميع الثورات السالفة وأن امتدادها وأثرها أكثر ، وأن بها ظهرت للعالم (مظلومية

٢٩٥

آل محمد) فكانت أولى نتائج هذه الثورة اختصاص الرئاسة الروحانية التي لها أهمية عظمى في عالم السياسة ببني هاشم ، وخصوصا في أولاد الحسينعليه‌السلام (فكان منهم أئمة الشيعة) ونظرة عموم المسلمين إلى بني هاشم سيما أولاد الحسين نظرهم إلى الروحانيين. ولم يطل العهد حتى نزعت تلك السلطة من بني أمية وزالت السلطة والقدرة من آل يزيد في أقل من قرن ، واندرست آثارهم على وجه لم يبق منهم عين ولا أثر. وأينما ذكرت أسماؤهم في متون الكتب قرنها المسلمون بكلمة الشماتة ، وكل ذلك نتيجة سياسة الحسين الذي يمكن أن يقال إنه لم يأت في أرباب الديانات والروحانيين رجل عرف عواقب الأمور مع بعد نظر وحسن سياسة كالحسينعليه‌السلام .

قبل أن تصل سبايا الحسين إلى الشام قامت الثورة ضد يزيد وظهرت بمظلومية الحسين سرائر بني أمية ، وكشف الغطاء عن نياتهم وتوجه اللوم على يزيد حتى من أهل بيته وحرمه(١) . وصار يزيد يسمع تقديس الحسينعليه‌السلام وأولاد علي وعظمتهم ومظلوميتهم بعد أن لم يكن يمكن ذكرهم عنده بخير. وكان يصعب عليه ذلك إلا أنه لم يكن له بدّ غير السكوت ، ولما أراد تبرئة نفسه من تلك الأعمال ألقى المسؤولية على عماله ولم يزل يسمع محامد الحسينعليه‌السلام . قال يزيد ذات يوم : إن سلطنة الحسين كانت أهون عليّ من هذا المقام العالي الذي فاز به آل علي وبنو هاشم.

وأخيرا فشيعة الحسينعليه‌السلام لم يزالوا يستفيدون من هذه الثورات ، وتزيد قوة بني هاشم وعظمتهم حتى لم يمض أقل من قرن إلا وصارت السلطنة الإسلامية الوسيعة في بني هاشم من دون مزاحم ، وأبادوا بني أمية على وجه لم يبق منهم اسم ولا رسم. (انتهى كلام ماربين).

__________________

(١) قال السيد عبد الرزاق المقرم في مقتله صفحة ٢٠ : ولقد فشا الانكار على يزيد حتى من حريمه وأهل بيته ، حتى أن زوجته هند بنت عمرو بن سهيل وكان زوجة عبد الله بن عامر بن كريز ، فأجبره معاوية على طلاقها لرغبة يزيد فيها فإنها لما أبصرت الرأس مصلوبا على باب دارها ، والأنوار النبوية تتصاعد منه إلى عنان السماء ، وشاهدت الدم يتقاطر طريا ويشم منه رائحة طيبة ، عظم مصابه في قلبها فلم تتمالك أن دخلت على يزيد في مجلسه مهتوكة الحجاب وهي تصيح : رأس ابن بنت رسول الله مصلوب على دارنا. فقام إليها وغطاها وقال لها : أعولي على الحسين فإنه صريخة بني هاشم ، عجّل عليه ابن زياد قصد بذلك تعمية الامر وإبعاد السبة عنه وذلك بإلقاء التبعة على عامله

٢٩٦

إنها لكلمات حرة صادقة جاءت على لسان رجل غربي مدقق مطّلع. ومن المؤسف أن نرى أمثال هذا الفيلسوف من الغربيين أشد إنصافا ودفاعا عن الحق ، حتى من علماء العرب أنفسهم (وإن تتولّوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) صدق الله العظيم.

٢٩٧ ـ مختصر ما حصل للحسينعليه‌السلام حتّى مقتله :

(تاريخ الخلفاء للسيوطي ، ص ٢٠٧)

يقول السيوطي : فأما ابن الزبير فلم يبايع ، ولا دعا إلى نفسه.

وأما الحسينعليه‌السلام فكان أهل الكوفة يكتبون إليه يدعونه إلى الخروج إليهم زمن معاوية ، وهو يأبى. فلما بويع يزيد أقام على ما هو مهموما ، يجمع الإقامة مرة ، ويريد المسير إليهم أخرى. فأشار عليه ابن الزبير بالخروج.

وكان ابن عباس يقول له : لا تفعل.

وقال له ابن عمر : «لا تخرج ، فإن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيّره الله بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة. وإنك بضعة منه ، ولا تنالها (أي الدنيا).

(وفي رواية تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني ، ج ٢ ص ٣٥٧) : «لا ينالها أحد منكم ، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير ، فأبى».

واعتنقه [ابن عمر] وبكى ، وقال : أستودعك الله من قتيل!. فكان ابن عمر يقول :غلبنا حسين بالخروج ، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة.

وكلّمه في ذلك أيضا جابر بن عبد الله الأنصاري وأبو سعيد الخدري وأبو واقد الليثي وغيرهم ، فلم يطع أحدا منهم.

وصمم على المسير إلى العراق. فقال له ابن عباس : والله إني لأظنك ستقتل بين نسائك وبناتك كما قتل عثمان ، فلم يقبل منه. فبكى ابن عباس وقال : أقررت عين ابن الزبير.

وبعث أهل العراق إلى الحسينعليه‌السلام الرسل والكتب يدعونه إليهم ، فخرج من مكة إلى العراق في عشر ذي الحجة ، ومعه طائفة من آل بيته ، رجالا ونساء وصبيانا.

فكتب يزيد إلى واليه بالعراق عبيد الله بن زياد بقتاله ، فوجّه إليه جيشا من أربعة آلاف ، عليهم عمر بن سعد بن أبي وقاص ، فخذله أهل الكوفة ، كما هو شأنهم مع

٢٩٧

أبيه من قبله. فلما رهقه السلاح عرض عليهم الاستسلام والرجوع ، والمضي إلى يزيد فيضع يده في يده [هذه الدعوى مغلوطة من وضع الإعلام الأموي] فأبوا إلا قتله!. فقتل وجيء برأسه في طست ، حتّى وضع بين يدي ابن زياد ؛ لعن الله قاتله ، وابن زياد معه ويزيد أيضا.

ويتابع السيوطي حديثه فيقول : وكان قتله بكربلاء. وفي قتله قصة فيها طول ، لا يحتمل القلب ذكرها ، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقتل معه ستة عشر رجلا من أهل بيته

ولما قتل الحسينعليه‌السلام وبنو أمية ، بعث ابن زياد برؤوسهم إلى يزيد ، فسرّ بقتلهم أولا ، ثم ندم لمّا مقته المسلمون على ذلك ، وأبغضه الناس ، وحقّ لهم أن يبغضوه. اه

٨ ـ ثمرات النهضة الحسينية

٢٩٨ ـ نهضة الحسينعليه‌السلام تحقق أهدافها القريبة والبعيدة ، ثمرات نهضة الحسينعليه‌السلام :

(الأئمة الاثنا عشر لعادل الأديب ، ص ١٣٦)

لقد استطاعت ثورة الحسينعليه‌السلام أن تحقق من قيامها الثمرات التالية :

١ ـ وضع الحدّ الفاصل أمام الجماهير ، بين الإسلام الصحيح والحكم الأموي الخادع ، وتحطيم الإطار الديني المزيّف الّذي كان الأمويون يحيطون به سلطانهم ، وبيان مدى بعده عن الدين.

٢ ـ الشعور بالإثم : ولّد استشهاد الحسينعليه‌السلام المفجع في كربلاء في ضمير كل مسلم استطاع أن ينصره فلم ينصره ، بعد أن عاهده على الثورة ولّد فيهم الشعور بالإثم ، ولزوم التكفير عن ذلك التقصير.

ولقد قدّر لهذا الشعور بالإثم أن يظل دائم الأوار ، حافزا دائما إلى الثورة والانتقام ، من رؤوس الفتنة والانحراف ، وقدّر له أن يدفع الناس إلى الثورات على الأمويين والظالمين كلما سنحت الفرصة.

٣ ـ تنمية الروح النضالية في الإنسان المسلم ، وتحطيم كل الحواجز النفسية والاجتماعية التي حالت دون الثورة.

٢٩٨

ولكي نخرج بفكرة واضحة عن مدى تأثير ثورة الحسينعليه‌السلام في بعث روح الثورة والنضال في المجتمع الإسلامي ، يحسن بنا أن نلاحظ أن هذا المجتمع خلال عشرين عاما من مقتل الإمام عليعليه‌السلام وحتى ثورة الحسينعليه‌السلام أخلد إلى السكون ولم يقم بأي ثورة أو احتجاج جدّي جماعي على ألوان الاضطهاد والظلم والقتل وسرقة أموال الأمة ، التي كان يقوم بها الأمويون وأعوانهم ، بل خلد إلى الخنوع والنوم والتسليم.

أما بعد ثورة الحسينعليه‌السلام واستشهاده ، فقد اندلعت الثورات على يد الجماهير وتوثّبت الروح النضالية فيهم ، وبدؤوا يبحثون عن زعيم يقودهم لنزع قيد الخنوع والاستسلام ، وإرجاع الحياة والحركة للإسلام. ونلاحظ هذه الروح الثورية في كل الثورات التي حملت شعار الثأر لدم الحسينعليه‌السلام والتي هي في واقعها تثأر لكرامة الإسلام والمسلمين.

٢٩٩ ـ ثورات على خطّ الحسينعليه‌السلام :(المصدر السابق ، ص ١٣٩)

ونجمل هنا ذكر بعض هذه الثورات :

١ ـ ثورة التوابين : التي اندلعت في الكوفة بقيادة الصحابي سليمان بن صرد الخزاعي ، وكانت ردّ فعل مباشر لمقتل الحسينعليه‌السلام ، وانطلقت من مبدأ الشعور بالإثم والتقصير في نصرة الحسينعليه‌السلام . وكانت سنة ٦٥ ه‍.

٢ ـ ثورة أهل المدينة : وكانت تهدف إلى تقويض سلطان الأمويين الظالم اللاإسلامي ، وقد بدأت هذه الثورة بطرد حاكم يزيد من المدينة ، ومعه كل الأمويين وعددهم ألف شخص. فكان من نتيجة ذلك أن بعث يزيد بالمجرم السفّاك مسلم بن عقبة المرّي ، الّذي اشتهر باسم (مسرف) من شدة ما أسرف في قتل أهل المدينة من أبناء الصحابة والتابعين. وقد سبى المدينة ثلاثة أيام ، حتّى أن جيشه افتضّ ألف فتاة عذراء من بنات الصحابة الأجلاء.

٣ ـ ثورة المختار الثقفي : الّذي خرج من العراق طالبا الأخذ بالثأر من قتلة الحسينعليه‌السلام ، وذلك سنة ٦٦ ه‍. فتتبّع المختار قتلة الحسينعليه‌السلام وآله ، وقتلهم ومثّل بهم. فقتل منهم في يوم واحد مائتين وثمانين رجلا ، حتّى قتل منهم الآلاف.ولم ينج منه أحد ، حتّى عبيد الله بن زياد وعمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن وأضرابهم.

٢٩٩

٤ ـ ثورة ابن الأشعث : وفي سنة ٨١ ه‍ ثار عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث على الحجاج في العراق ، وخلع عبد الملك بن مروان. وقد استمرت ثورته إلى سنة ٨٣ ه‍ ، وأحرزت انتصارات عسكرية ، ثم قضى عليها الحجاج بمساعدة جيوش شامية.

٥ ـ ثورة الشهيد زيد بن علي : وفي سنة ١٢٢ ه‍ ثار في الكوفة على طغيان الأمويين زيد بن علي ، وهو ابن الإمام زين العابدينعليه‌السلام . ولكن سرعان ما أخمدت ثورته ، وقتل وصلبرحمه‌الله .

وكان من نتيجة هذه الثورات تقويض ملك بني أمية خلال تسعين سنة ، وقد كان يتوقع له أن يستمر مئات السنين.

فلسفة الابتلاء

٣٠٠ ـ الدنيا دار ابتلاء :

(الأنوار النعمانية للسيد نعمة الله الجزائري ، ج ٢ ص ٢٣٦)

يقول السيد نعمة الله الجزائري : اعلم أيّدك الله أن البلاء إنما كتب على المؤمن ، وأن الدنيا ليست بدار ثواب ولا بدار عقاب ، لم يرض سبحانه بأن يجعل ثواب المؤمن فيها ولا عقاب الكافر فيها ، وذلك لقلة أيامها ونقصان الأعمار فيها ، ومن ثم بعث الدواهي والمصائب فيها إلى أحبابه وأقاربه.

ولا مصيبة مثل مصيبة مولانا الحسينعليه‌السلام ، فإنها هدّت أركان الدين وصدّعت قواعد الشرع المبين ، وأبكت الأجفان وأقرحت القلوب. ولعمري إنها المصيبة التي يتسلى بها المؤمن عن كل مصاب ، والداهية المنسية له مفارقة الخلان والأحباب.

٣٠١ ـ المؤمن أشدّ ابتلاء :

(المنتخب للطريحي ، ص ١٦٨)

روي أن رجلا جاء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوقف بين يديه ، فقال : يا رسول الله إني أحب اللهعزوجل ، فقال : استعدّ للبلاء!. فقال : يا رسول الله وإني أحبك ، فقال له : استعدّ للفقر!. فقال : وإني أحبّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، فقال : استعدّ لكثرة الأعداء!.

٣٠٠

في حياته التالية وهى آخرته.

لكنّ البرهم لمّا كان ذاتا مطلقة محيطا بكلّ شئ غير محاط لشئ كان أعلى وأجلّ من أن يعرفه الإنسان إلّا بنوع من نفى النقائص أو يناله بعبادة أو قربان فمن الواجب علينا أن نتقرّب بالعبادة إلى أوليائه وأقوياء خلقه حتّى يكونوا شفعاء لنا عنده، وهؤلاء هم الآلهة الّذين يعبدون من دون الله بعبادة أصنامهم، وهم على كثرتهم إمّا من الملائكة أو من الجنّ أو من أرواح المكمّلين من البراهمة، وإنّما يعبد الجنّ خوفاً من شرّهم، وغيرهم طمعا في رحمتهم وخوفا من سخطهم ومنهم الأزواج والبنون والبنات لله تعالى.

فهذه جمل ما تتضمّنه البرهميّة ويعلّمه علماء المذهب من البراهمة.

لكنّ الّذى يتحصّل من (اُوبانيشاد)(١) وهو القسم الرابع من كتاب (ويدا) المقدّس ربّما لم يوافق ما تقدّم من كلّيّات عقائدهم وإن أوّله علماء المذهب من البراهمة.

فإنّ الباحث الناقد يجد أنّ رسائل (اُوبانيشاد) المعلّمة للمعارف الإلهيّة وإن كانت تصف العالم الاُلوهىّ والشؤون المتعلّقة به من الأسماء والصفات والأفعال من إبداء وإعادة وخلق ورزق وإحياء وإماتة وغير ذلك بما يوصف به الاُمور الجسمانيّة المادّيّة كالانقسام والتبعّض والسكون والحركة والانتقال والحلول والاتّحاد والعظم والصغر وسائر الأحوال الجسمانيّة المادّيّة إلّا أنّها تصرّح في مواضع منها أنّ برهم(٢) ذات مطلقة متعالية من أن يحيط به حدّ له الأسماء الحسنى والصفات العليا من حياة وعلم وقدرة، منزّه عن نعوت النقص وأعراض المادّة، والجسم ليس كمثله شئ.

____________________

(١) اُوبانيشاد كالخاتمة لكتب (ويدا) المقدّسة وهى رسائل متفرّقة مأثورة من كبار رجال الدين من عرفائهم القدماء الاقدمين تحتوى جمل ما حصلوه من المعارف الإلهيّة بالكشف ويعتبرها البراهمة وحيّاً سماويّاً.

(٢) هذا كثير الورود يعثر عليه الراجع في أغلب فصول اُوبانيشاد.

٣٠١

وتصرّح(١) بأنّه تعالى أحدىّ الذات لم يولد من شئ ولم يلد شيئاً وليس له كفو ومثل البتّة.

وتصرّح(٢) بأنّ الحقّ أن لا يعبد غيره تعالى ولا يتقرّب إلى غيره بقربان بل الحرىّ بالعبادة هو وحده لا شريك له.

وتصرّح(٣) كثيراً بالقيامة وأنّه الأجل الّذى ينتهى إليه الخلقة، وتصف ثواب الأعمال وعقابها بعد الموت بما لا يأبى الانطباق على البرزخ من دون أن يتعيّن حمله على التناسخ.

ولا خبر في هذه الأبحاث الإلهيّة الموردة فيها عن الأوثان والأصنام وتوجيه العبادات وتقديم القرابين إليها.

وهذه الّتى نقلناها من (اُوبانيشاد) - وما تركناه أكثر - حقائق سامية ومعارف حقّة تطمئنّ إليها الفطرة الإنسانيّة السليمة، وهى - كما ترى - تنفى جميع اُصول الوثنيّة الموردة في أوّل البحث.

والّذى يهدى إليه عميق النظر أنّها كانت حقائق عالية كشفها آحاد من أهل ولاية الله ثمّ أخبروا بما وجدوا بعض تلامذتهم الآخذين منهم غير أنّهم تكلّموا غالبا بالرمز واستعملوا في تعاليمهم الأمثال.

ثمّ جعل ما اُخذ من هؤلاء أساساً تبتنى عليه سنّة الحياة الّتى هي الدين المجتمع عليه عامّة الناس، وهى معارف دقيقة لا يحتملها إلّا الآحاد من أهل المعرفة لارتفاع سطحها عن الحسّ والخيال للّذين هما حظّ العامّة من الإدراك وكمال صعوبة إدراكها على العقول الراجلة غير المتدرّبة في المعارف الحقّة.

____________________

(١) ( لم يولد منه شئ ولم يتولد من شئ وليس له كفوا أحد ) اُوبانيشاد (شيت استر) ادهيا السادس آية ٨ ( السر الأكبر ).

(٢) قال شبت استر: ( اعمل الصالحات لتلك الذات النورانيّة إلى أي ملك اقدم القربان وأترك تلك الذات الظاهرة؟ ) اُوبانيشاد شيت استر. ادهيا الرابع آية ١٣.

(٣) وهذا كثير الورود في فصول اُوبانيشاد يعثر عليه المراجع.

٣٠٢

واختصاص نيلها بالأقلّين من الناس وحرمان الأكثرين من ذلك وهى دين إنسانيّ أوّل المحذور فإنّ الفطرة أنشأت العالم الإنسانيّ مغروزة على الاجتماع المدنىّ، وانفصال بعضهم عن بعض في سنّة الحياة وهى الدين إلغاء لسنّة الفطرة وطريقة الخلقة.

على أنّ في ذلك تركا لطريق العقل وهو أحد الطرق الثلاث: الوحى والكشف والعقل، وأعمّها وأهمّها بالنظر إلى حياة الإنسان الدنيويّة فالوحي لا يناله إلّا أهل العصمة من الأنبياء المكرمين، والكشف لا يكرم به إلّا الآحاد من أهل الإخلاص واليقين، الناس حتّى أهل الوحى والكشف في حاجة مبرمة إلى تعاطى الحجّة العقليّة في جميع شؤون الحياة الدنيويّة ولا غنى لها عن ذلك، وفي إهمال هذا الطريق تسليط التقليد الإجباريّ على جميع شؤن المجتمع الحيويّة من اعتقادات وأخلاق وأعمال، وفي ذلك سقوط الإنسانيّة.

على أنّ في ذلك إنفاذاً لسنّة الاستعباد في المجتمع الإنسانيّ ويشهد بذلك التجارب التاريخيّ المديد في الاُمم البشريّة الّتى عاشت في دين الوثنيّة أو جرت فيهم سنن الاستعباد باتّخاذ أرباب من دون الله.

٢ - سريان هذه المحاذير إلى سائر الأديان:

الأديان العامّة الاُخر على ما فيها من القول بتوحيد الاُلوهيّة لم تسلم من شرك العبادة فساقهم ذلك إلى الابتلاء بعين ما ابتليت به الوثنيّة البرهميّة من المحاذير الّتى أهمّها الثلاثة المتقدّمة.

أمّا البوذيّة والصابئة فذلك فيهم ظاهر والتاريخ يشهد بذلك، وقد تقدّم شئ ممّا يتعلّق بعقائدهم وأعمالهم.

وأمّا المجوس فهم يوحّدون (أهورامزدا) بالاُلوهيّة لكنّهم يخضعون بالتقديس ليزدان وأهريمن والملائكة الموكّلين بشؤون الربوبيّة وللشمس والنار وغير ذلك، والتاريخ يقصّ ما كانت تجرى فيهم من سنّة الاستعباد واختلاف الطبقات والتدبّر والاعتبار يقضى أنّه إنّما تسرّب ذلك كلّه إليهم من ناحية تحريف الدين

٣٠٣

الأصيل، وقد ورد عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم:( أنّه كان لهم نبىّ فقتلوه وكتاب فأحرقوه) .

وأمّا اليهود فالقرآن يقصّ كثيراً من أعمالهم وتحريفهم كتاب الله واتّخاذهم العلماء أرباباً من دون الله، وما ابتلاهم الله به من انتكاس الفطرة ورداءة السليقة.

وأمّا النصارى فقد فصّلنا القول فيما انحرفوا فيه من النظر والعمل في الجزء الثالث من الكتاب فراجع وإن شئت فطبّق مفتتح إنجيل يوحنّا ورسائل بولس على سائر الأناجيل وتمّمه بمراجعة تاريخ الكنيسة فالكلام في ذلك طويل.

فالبحث العميق في ذلك كلّه ينتج أنّ المصائب العامّة في المجتمعات الدينيّة في العالم الإنسانيّ من مواريث الوثنيّة الاُولى الّتى أخذت المعارف الإلهيّة والحقائق العالية الحقّة مكشوفة القناع مهتوكة الستر فجعلتها أساس السنن الدينيّة، وحملتها على الأفهام العامّة الّتى لا تأنس إلّا بالحسّ والمحسوس فأنتج ذلك ما أنتج.

٣ - إصلاح الاسلام لهذه المفاسد:

أمّا الإسلام فإنّه أصلح هذه المفاسد إذ قلب هذه المعارف العالية في قالب البيان الساذج الّذى يصلح لهضم الأفهام الساذجة والعقول العاديّة فصارت تلامسها من وراء حجاب وتتناولها ملفوفة محفوفة، وهذا هو الّذى يصلح به حال العامّة وأمّا الخاصّة فإنّهم ينالونها مسفرة مكشوفة في جمالها الرائع وحسنها البديع آمنين مطمئنّين وهم في زمرة الّذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن اُولئك رفيقا، قال الله تعالى:( وَالْكِتَابِ الْمُبِين إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف: ٤، وقال:( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الواقعة: ٧٩، وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّا معاشر الأنبياء اُمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم) .

وعالج غائلة الشرك والوثنيّة في مرحلة التوحيد بنفى الاستقلال في الذات والصفات عن كلّ شئ إلّا الله سبحانه فهو تعالى القيّوم على كلّ شئ، وركز الأفهام في معرفة الاُلوهيّة بين التشبيه والتنزيه فوصفه تعالى بأنّ له حياة لكن لا كحياتنا، وعلما لا كعلمنا، وقدرة لا كقدرتنا وسمعا لا كسمعنا، وبصرا

٣٠٤

لا كبصرنا، وبالجملة ليس كمثله شئ وأنّه أكبر من أن يوصف، وأمر الناس مع ذلك أن لا يقولوا في ذلك قولا إلّا عن علم، ولا يركنوا إلى اعتقاد إلّا عن حجّة عقليّة يهضمها عقولهم وأفهامهم.

فوفّق بذلك أوّلا لعرض الدين على العامّة والخاصّة شرعاً سواء، وثانياً أن استعمل العقل السليم من غير أن يترك هذه الموهبة الإلهيّة سدى لا ينتفع بها، وثالثاً أن قرّب بين الطبقات المختلفة في المجتمع الإنسانيّ غاية ما يمكن فيها من التقريب من غير أن ينعم على هذا ويحرم ذاك أو يقدّم واحداً ويؤخّر آخر قال تعالى:( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) الأنبياء: ٩٢ وقال:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ) الحجرات: ١٣.

وهذا إجمال من القول يمكنك أن تعثر على تفصيل القول في أطرافه في أبحاث متفرّقة تقدّمت في هذا الكتاب والله المستعان.

٤ - إشكال الاستشفاع والتبرّك في الإسلام : ربّما يظنّ أنّ ما ورد في الأدعية من الاستشفاع بالنبيّ و آله المعصومين صلوات الله عليهم ومسألته تعالى بحقّهم وزيارة قبورهم وتقبيلها والتبرّك بتربتهم وتعظيم آثارهم من الشرك المنهىّ عنه وهو الشرك الوثنيّ محتجّا بأنّ هذا النوع من التوجّه العباديّ فيه إعطاء تأثير ربوبيّ لغيره تعالى وهو شرك وأصحاب الأوثان إنّما أشركوا لقولهم في أوثانهم: إنّ هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وقولهم: إنّما نعبدهم ليقرّبونا إلى الله زلفى، ولا فرق في عبادة غير الله سبحانه بين أن يكون ذلك الغير نبيّا أو وليّا أو جبّارا من الجبابرة أو غيرهم فالجميع من الشرك المنهىّ عنه.

وقد فاتهم أوّلا: أنّ ثبوت التأثير سواء كان مادّيّا أو غير مادّىّ في غيره تعالى ضروريّ لا سبيل إلى إنكاره، وقد أسند تعالى في كلامه التأثير بجميع أنواعه إلى غيره، ونفى التأثير عن غيره تعالى مطلقا يستلزم إبطال قانون العلّيّة والمعلوليّة العامّ الّذى هو الركن في جميع أدلّة التوحيد، وفيه هدم بنيان التوحيد. نعم المنفىّ من التأثير عن غيره تعالى هو الاستقلال في التأثير ولا كلام لأحد فيه، وأمّا نفى

٣٠٥

مطلق التأثير ففيه إنكار بديهة العقل والخروج عن الفطرة الإنسانيّة.

ومن يستشفع بأهل الشفاعة الّذين ذكرهم الله في مثل قوله:( وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف: ٨٦ وقوله:( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) الأنبياء: ٢٨.

أو يسأل الله بجاههم ويقسمه بحقّهم الّذى جعله لهم عليه بمثل قوله مطلقا:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) الصافّات: ١٧٣ وقوله:( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ) المؤمن: ٥١.

أو يعظّمهم ويظهر حبّهم بزيارة قبورهم وتقبيلها والتبرّك بتربتهم بما أنّهم آيات الله وشعائره تمسّكا بمثل قوله تعالى:( وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ) الحجّ: ٣٢، وآية القربى وغير ذلك من كتاب وسنّة.

فهو في جميع ذلك يبتغى بهم إلى الله الوسيلة وقد قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) المائدة: ٣٥ فشرع به ابتغاء الوسيلة، وجعلهم بما شرع من حبّهم وتعزيرهم وتعظيمهم وسائل إليه، ولا معنى لإيجاب حبّ شئ وتعظيمه وتحريم آثار ذلك فلا مانع من التقرّب إلى الله بحبّهم وتعظيم أمرهم وما لذلك من الآثار إذا كان على وجه التوسّل والاستشفاع من غير أن يعطوا استقلال التأثير والعبادة البتّة.

وثانياً: أنّه فاتهم الفرق بين أن يعبد غير الله رجاء أن يشفع عند الله أو يقرّب إلى الله، وبين أن يعبدالله وحده مع الاستشفاع والتقرّب بهم إليه ففى الصورة الاُولى إعطاء الاستقلال وإخلاص العبادة لغيره تعالى وهو الشرك في العبوديّة والعبادة، وفي الصورة الثانية يتمحّض الاستقلال لله تعالى ويختصّ العبادة به وحده لا شريك له.

وإنّما ذمّ تعالى المشركين لقولهم:( إنّما نعبدهم ليقرّبونا إلى الله زلفى) حيث أعطوهم الاستقلال وقصدوهم بالعبادة دون الله سبحانه، ولو قالوا: إنّما نعبدالله وحده ونرجو مع ذلك أن يشفع لنا ملائكته أو رسله وأولياؤه بإذنه أو نتوسّل

٣٠٦

إلى الله بتعظيم شعائره وحبّ أوليائه، لما كفروا بذلك بل عادت شركاؤهم كمثل الكعبة في الإسلام هي وجهة وليست بمعبودة، وإنّما يعبد بالتوجّه إليها الله.

وليت شعرى ما ذا يقول هؤلاء في الحجر الأسود وما شرع في الإسلام من استلامه وتقبيله؟ وكذا في الكعبة؟ فهل ذلك كلّه من الشرك المستثنى من حكم الحرمة؟ فالحكم حكم ضروريّ عقليّ لا يقبل تخصّصا ولا استثناء، أو أنّ ذلك من عبادة الله محضاً وللحجر حكم الطريق والجهة، وحينئذ فما الفرق بينه وبين غيره إذا لم يكن تعظيمه على وجه إعطاء الاستقلال وتمحيض العبادة، ومطلقات تعظيم شعائر الله وتعزير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحبّه ومودّته وحبّ أهل بيته ومودّتهم وغير ذلك في محلّها.

٣٠٧

( سورة هود آية ٥٠ - ٦٠)

وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ( ٥٠) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ( ٥١) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ( ٥٢) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ( ٥٣) إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ( ٥٤) مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ( ٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ( ٥٦) فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ( ٥٧) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ( ٥٨) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ( ٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ( ٦٠)

( بيان)

تذكر الآيات قصّة هود النبيّ وقومه وهم عاد الاُولى، وهوعليه‌السلام ، أوّل نبىّ يذكره الله تعالى في كتابه بعد نوحعليه‌السلام ، ويشكر مسعاه في إقامة الدعوة الحقّة والانتهاض على الوثنيّة، ويعقب ذكر قوم نوح بذكر قوم هود، قال تعالى في عدّة

٣٠٨

مواضع من كلامه:( قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ) .

قوله تعالى: ( وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً ) كان أخاهم في النسب لكونه منهم وأفراد القبيلة يسمّون إخوة لانتسابهم جميعاً إلى أب القبيلة، والجملة معطوفة على قوله تعالى سابقاً:( نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ ) والتقدير:( ولقد أرسلنا وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً ) ولعلّ حذف الفعل هو الموجب لتقديم الظرف على المفعول في المعطوف على خلاف المعطوف عليه حيث قيل:( وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ ) الخ، ولم يقل: وهودا إلى عاد مثلا كما قال:( نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ ) لأنّ دلالة الظرف أعنى:( َإِلَىٰ عَادٍ ) على تقدير الإرسال أظهر وأوضح.

قوله تعالى: ( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ) الكلام وارد مورد الجواب كأنّ السامع لمّا سمع قوله:( وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً ) قال: فماذا قال لهم؟ فقيل:( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ) الخ، ولذا جئ بالفصل من غير عطف.

وقوله:( اعْبُدُوا اللهَ ) في مقام الحصر أي اعبدوه ولا تعبدوا غيره من آلهة اتّخذتموها أرباباً من دون الله تعبدونها لتكون لكم شفعاء عند الله من غير أن تعبدوه تعالى. والدليل على الحصر المذكور قوله بعد:( مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ) حيث يدلّ على أنّهم كانوا قد اتّخذوا آلهة يعبدونها افتراء على الله بالشركة والشفاعة.

قوله تعالى: ( يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ) إلى آخر الآية، قال في المجمع الفطر الشقّ عن أمر الله كما ينفطر الورق عن الشجر، ومنه فطر الله الخلق لأنّه بمنزلة ما شقّ منه فظهر. انتهى، وقال الراغب: أصل الفطر الشقّ طولا يقال: فطر فلان كذا فطرا وأفطر هو فطورا وانفطر انفطارا - إلى أن قال - وفطرالله الخلق وهو إيجاد الشئ وإبداعه على هيئة مترشّحة لفعل من الأفعال فقوله: فطرة الله الّتى فطر الناس عليها إشارة منه تعالى إلى ما فطر أي أبدع وركز في الناس من معرفته، وفطرة الله هي ما ركز فيه من قوّته على معرفه الإيمان وهو المشار

٣٠٩

إليه بقوله: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله. انتهى.

والظاهر أنّ الفطر هو الإيجاد عن عدم بحت، والخصوصيّة المفهومة من مثل قوله:( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) إنّما نشأت من بناء النوع الّذى تشتمل عليه فطرة وهى فعلة، وعلى هذا فتفسير بعضهم الفطرة بالخلقة بعيد من الصواب، وإنّما الخلق هو إيجاد الصورة عن مادة على طريق جمع الأجزاء، قال تعالى:( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) المائدة: ١١٠.

والكلام مسوق لرفع التهمة والعبث والمعنى يا قوم لا أسألكم على ما أدعوكم أجراً وجزاء حتّى تتّهموني أنّى أستدرّ به نفعاً يعود إلىّ وإن أضرّ بكم، ولست أدعوكم من غير جزاء مطلوب حتّى يكون عبثا من الفعل بل إنّما أطلب به جزاء من الله الّذى أوجدني وأبدعنى أفلا تعقلون عنّى ما أقوله لكم حتّى يتّضح لكم أنّى ناصح لكم في دعوتي، ما اُريد إلّا أن أحملكم على الحقّ.

قوله تعالى: ( وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ) إلى آخر الآية تقدّم الكلام في معنى قوله:( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) في صدر السورة.

وقوله:( يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ) في موقع الجزاء لقوله:( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ) الخ، أي إن تستغفروه وتتوبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً، والمراد بالسماء السحاب فإنّ كلّ ما علا وأظلّ فهو سماء، وقيل المطر وهو شائع في الاستعمال، والمدرار مبالغة من الدرّ، وأصل الدرّ اللبن ثمّ استعير للمطر ولكلّ فائدة ونفع فارسال السماء مدراراً إرسال سحب تمطر أمطاراً متتابعة نافعة تحيى بها الأرض وينبت الزرع والعشب، وتنضر بها الجنّات والبساتين.

وقوله:( وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ ) قيل المراد بها زيادة قوّة الإيمان على قوّة الأبدان وقد كان القوم اُولى قوّة وشدّة في أبدانهم ولو أنّهم آمنوا انضافت قوّة الإيمان على قوّة أبدانهم، وقيل المراد بها قوّة الأبدان كما قال نوح لقومه:( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَ

٣١٠

بَنِينَ ) نوح: ١٢ ولعلّ التعميم أولى.

وقوله:( وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ) بمنزلة التفسير لقوله:( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) أي إنّ عبادتكم لما اتّخذتموه من الآلهة دون الله إجرام منكم ومعصية توجب نزول السخط الإلهىّ عليكم فاستغفروا الله من إجرامكم وارجعوا إليه بالإيمان حتّى يرحمكم بإرسال سحب هاطلة ممطرة وزيادة قوّة إلى قوّتكم.

وفي الآية( أوّلاً ) إشعار أو دلالة على أنّهم كانوا مبتلين بإمساك السماء والجدب والسنة كما ربّما أومأ إليه قوله:( يُرْسِلِ السَّمَاءَ ) وكذا قولهم على ما حكاه الله تعالى في موضع آخر:( فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) الأحقاف: ٢٤.

وثانياً: أنّ هناك ارتباطا تامّا بين الأعمال الإنسانيّة وبين الحوادث الكونيّة الّتى تمسّه فالأعمال الصالحة توجب فيضان الخيرات ونزول البركات، والأعمال الطالحة تستدعى تتابع البلايا والمحن، وتجلب النقمة والشقوة والهلكة كما يشير إليه قوله تعالى:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ) الآية الأعراف: ٩٦، وقد تقدّم تفصيل الكلام فيه في بيان الآيات ٩٤ - ١٠٢ من سورة الأعراف في الجزء الثامن من الكتاب، وفي أحكام الأعمال في الجزء الثاني منه.

قوله تعالى: ( قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ) سألهم هود في قوله:( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) إلى آخر الآيات الثلاث أمرين هما أن يتركوا آلهتهم ويعودوا إلى عبادة الله وحده وأن يؤمنوا به ويطيعوه فيما ينصح لهم فردّوا عليه القول بما في هذه الآية إجمالاً وتفصيلاً:

أمّا إجمالاً فبقولهم:( مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ) يعنون أنّ دعوتك خالية عن الحجّة والآية المعجزة ولا موجب للإصغاء إلى ما هذا شأنه.

وأمّا تفصيلاً فقد أجابوا عن دعوته إيّاهم إلى رفض الشركاء بقولهم:( وَمَا

٣١١

نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ ) وعن دعوته إيّاهم إلى الإيمان والطاعة بقولهم:( وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ) فآيسوه في كلتا المسألتين.

ثمّ ذكروا له ما ارتاؤا فيه من الرأى لييأس من إجابتهم بالمرّة فقالوا:( إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) والاعتراء الاعتراض والإصابة يقولون: إنّما نعتقد في أمرك أنّ بعض آلهتنا أصابك بسوء كالخبل والجنون لشتمك إيّاها وذكرك لها بسوء فذهب بذلك عقلك فلا يعبأ بما تفوّهت به في صورة الدعوة.

قوله تعالى: ( قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ ) أجاب هودعليه‌السلام عن قولهم باظهار البراءة من شركائهم من دون الله ثمّ التحدّي عليهم بأن يكيدوا به جميعاً ولا ينظروه.

فقوله:( إنّى برئ ممّا تشركون من دونه) إنشاء وليس بإخبار كما هو المناسب لمقام التبرّى، ولا ينافى ذلك كونه بريئا من أوّل أمره فإنّ التبرّز بالبراءة لا ينافى تحقّقها من قبل، وقوله:( فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ ) أمر ونهى تعجيزيّان.

وإنّما أجابعليه‌السلام بما أجاب ليشاهد القوم من آلهتهم أنّها لا تمسّهعليه‌السلام بسوء مع تبرّزه بالبراءة، ولو كانت آلهة ذات علم وقدرة لقهرته وانتقمت منه لنفسها كما ادّعوا أنّ بعض آلهتهم اعتراه بسوء وهذه حجّه بيّنة على أنّها ليست بآلهة وعلى أنّها لم تعتره بسوء كما ادّعوه، ثمّ يشاهدوا من أنفسهم أنّهم لا يقدرون عليه بقتل أو تنكيل مع كونهم ذوى شدّة وقوّة لا يعادلهم غيرهم في الشدّة والبطش، ولو لا أنّه نبىّ من عند الله صادق في ما يقوله مصون من عند ربّه لقدروا عليه بكلّ ما أرادوه من عذاب أو دفع.

ومن هنا يظهر وجه إشهادهعليه‌السلام في تبرّيه ربّه سبحانه وقومه أمّا إشهاده الله فليكون تبرّيه على حقيقته وعن ظهر القلب من غير تزويق ونفاق، وأمّا إشهاده إيّاهم فليعلموا به ثمّ يشاهدوا ما يجرى عليه الأمر من سكوت آلهتهم وعجز أنفسهم من الانتقام منه ومن تنكيله.

٣١٢

وظهر أيضاً صحّة ما احتمله بعضهم أنّ هذا التعجيز هو معجزة هودعليه‌السلام ذلك أنّ ظاهر الجواب أن يقطع به ما ذكر من الردّ في صورة الحجّة، وفيها قولهم:( مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ) ومن المستبعد جدّاً أن يهمل النبيّ هودعليه‌السلام في دعوته وحجّته التعرّض للجواب عنه مع كون هذا التحدّي والتعجيز صالحاً في نفسه لأن يتّخذ آية معجزة كما أنّ التبرّى من الشركاء من دون الله صالح لأن يكشف عن عدم كونهم آلهة من دون الله وعن أنّ بعض آلهتهم لم يعتره بسوء.

فالحقّ أنّ قوله:( إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا ) إلى آخر الآيتين مشتمل على حجّة عقليّة على بطلان اُلوهيّة الشركاء، وعلى آية معجزة لصحّة رسالة هودعليه‌السلام .

وفي قوله( جَمِيعًا ) إشارة إلى أنّ مراده تعجيزهم وتعجيز آلهتهم جميعاً فيكون أتمّ دلالة على كونه على الحقّ وكونهم على الباطل.

قوله تعالى: ( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ) إلى آخر الآية. لمّا كان الأمر الّذى في صورة التعجيز صالحا لأن يكون بداعي إظهار عجز الخصم وعدم قدرته، وصالحاً لأن يصدر بداعي أنّ الآمر لا يخاف الخصم وإن كان الخصم قادراً على الإتيان بما يؤمر به لكنّه غير قادر على تخويفه وإكراهه على الطاعة وحمله على ما يريد منه كقول السحرة لفرعون:( فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) طه: ٧٢.

وكان قوله:( فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ ) محتملا لأن يكون المراد به إظهار أنّه لا يخافهم وإن فعلوا به ما فعلوا، عقّبه لدفع هذا الاحتمال بقوله:( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ) فذكر أنّه متوكّل في أمره على الله الّذى هو يدبّر أمره وأمرهم ثمّ عقّبه بقوله:( مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) فذكر أنّه ناجح في توكّله هذا فإنّ الله محيط بهم جميعاً قاهر لهم يحكم على سنّة واحدة هي نصرة الحقّ وإظهاره على الباطل إذا تقابلا وتغالبا.

فتبرّيه من أصنامهم وتعجيزهم على ما هم عليه من الحال بقوله:( فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ ) ثمّ لبثه بينهم في عافية وسلامة لا يمسّونه بسوء ولا يستطيعون

٣١٣

أن ينالوه بشرّ آية معجزة وحجّة سماويّة على أنّه رسول الله إليهم.

وقوله:( مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) الدابّة كلّ ما يدبّ في الأرض من أصناف الحيوان، والأخذ بالناصية كناية عن كمال السلطة ونهاية القدرة، وكونه تعالى على صراط مستقيم هو كون سنّته في الخليقة واحدة ثابتة غير متغيّرة وهو تدبير الاُمور على منهاج العدل والحكمة فهو يحقّ الحقّ ويبطل الباطل إذا تعارضا.

فالمعنى إنّى توكّلت على الله ربّى وربّكم في نجاح حجّتى الّتى ألقيتها إليكم وهو التبرّز بالبراءة من آلهتكم وأنّكم وآلهتكم لا تضرّوننى شيئاً فإنّه المالك ذو السلطنة علىّ وعليكم وعلى كلّ دابّة، وسنّته العادلة ثابتة غير متغيّرة فسوف ينصر دينه ويحفظني من شرّكم.

ولم يقل:( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ) على وزان قوله:( عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ) فإنّه في مقام الدعاء لنفسه على قومه يتوقّع أن يحفظه الله من شرّهم، وهو يأخذه تعالى ربّا بخلاف القوم فكان الأنسب أن يعدّه ربّا لنفسه ويستمسك برابطة العبوديّة الّتى بينه وبين ربّه حتّى ينجح طلبته، وهذا بخلاف مقام قوله:( تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ) فإنّه يريد هناك بيان عموم السلطة والاحاطة.

قوله تعالى: ( فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ) وهذه الجملة من كلامهعليه‌السلام ناظر إلى قولهم في آخر جدالهم:( إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) الدالّ على أنّهم قاطعون على أن لا يؤمنوا به ودائمون على الجحد، والمعنى إن تتولّوا وتعرضوا عن الإيمان بى والإطاعة لأمرى فقد أبلغتكم رسالة ربّى وتمّت عليكم الحجّة ولزمتكم البليّة.

قوله تعالى: ( وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) هذا وعيد وإخبار بالتبعة الّتى يستتبعها إجرامهم، فإنّه كان وعدهم إن يستغفروا الله ويتوبوا إليه أن يرسل السماء عليهم مدراراً ويزيد قوّة إلى قوّتهم، ونهاهم أن يتولّوا مجرمين ففيه العذاب الشديد.

٣١٤

وقوله:( وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ ) أي يجعل قوما غيركم خلفاء في الأرض مكانكم فإنّ الإنسان خليفة منه في الأرض كما قال تعالى:( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) البقرة: ٣٠، وقد كانعليه‌السلام بيّن لهم أنّهم خلفاء في الأرض من بعد قوم نوح كما قال تعالى حكاية عن قوله لقومه:( وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ) الآية، الأعراف: ٦٩.

وظاهر السياق أنّ الجملة الخبريّة معطوفة على اُخرى مقدّرة، والتقدير: وسيذهب بكم ربّى ويستخلف قوما غيركم على حدّ قوله:( إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ ) الأنعام: ١٣٣.

وقوله:( وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا ) ظاهر السياق أنّه تتمّة لما قبله أي لا تقدرون على إضراره بشئ من الفوت وغيره إن أراد أن يهلككم ولا أنّ تعذيبكم وإهلاككم يفوّت منه شيئاً ممّا يريده فإنّ ربّى على كلّ شئ حفيظ لا يعزب عن علمه عازب ولا يفوت من قدرته فائت، وللمفسّرين في الآية وجوه اُخر بعيدة عن الصواب أعرضنا عنها.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ) المراد بمجئ الأمر نزول العذاب وبوجه أدقّ صدور الأمر الإلهىّ الّذى يستتبع القضاء الفاصل بين الرسول وبين قومه كما قال تعالى:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ) المؤمن: ٧٨.

وقوله:( بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ) الظاهر أنّ المراد بها الرحمة الخاصّة بالمؤمنين المستوجبة نصرهم في دينهم وإنجاءهم من شمول الغضب الإلهىّ وعذاب الاستئصال، قال تعالى:( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ) المؤمن: ٥١.

وقوله:( وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ) ظاهر السياق أنّه العذاب الّذى شمل الكفّار من القوم فيكون من قبيل عطف التفسير بالنسبة إلى ما قبله، وقيل: المراد به عذاب الآخرة وليس بشئ.

٣١٥

قوله تعالى: ( وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) الآية وما بعدها تلخيص بعد تلخيص لقصّة عاد فأوّل التلخيصين قوله:( وَتِلْكَ عَادٌ - إلى قوله -وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ) يذكر فيه أنّهم جحدوا بآيات ربّهم من الحكمة والموعظة ولاية المعجزة الّتى أبانت لهم طريق الرشد وميّزت لهم الحقّ من الباطل فجحدوا بها بعد ما جاءهم من العلم.

وعصوا رسل ربّهم وهم هود ومن قبله من الرسل فإنّ عصيان الواحد منهم عصيان للجميع فكلّهم يدعون إلى دين واحد فهم إنّما عصوا شخص هود وعصوا بعصيانه سائر رسل الله وهو ظاهر قوله في موضع آخر:( كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ ) الشعراء: ١٢٤. ويشعر به أيضاً قوله:( وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ) الأحقاف: ٢١، ومن الممكن أن يكون لهم رسل آخرون بعثوا إليهم فيما بين هود ونوحعليهما‌السلام لم يذكروا في الكتاب العزيز لكن سياق الآيات لا يساعد على ذلك.

واتّبعوا أمر كلّ جبار عنيد من جبابرتهم فألهاهم ذلك عن اتّباع هود وما كان يدعو إليه، والجبّار العظيم الّذى يقهر الناس بإرادته ويكرههم على ما أراد والعنيد الكثير العناد الّذى لا يقبل الحقّ، فهذا ملخّص حالهم وهو الجحد بالآيات وعصيان الرسل وطاعة الجبابرة.

ثمّ ذكر الله وبال أمرهم بقوله:( وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ) أي وأتبعهم الله في هذه الدنيا لعنة وإبعادا من الرحمة، ومصداق هذا اللعن العذاب الّذى عقّبهم فلحق بهم، أو الآثام والسيّئات الّتى تكتب عليهم ما دامت الدنيا فإنّهم سنّوا سنّة الإشراك والكفر لمن بعدهم، قال تعالى:( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) يس: ١٢.

وقيل: المعنى لحقت بهم لعنة في هذه الدنيا فكان كلّ من علم بحالهم من بعدهم، ومن أدرك آثارهم، وكلّ من بلّغهم الرسل من بعدهم خبرهم يلعنونهم.

وأمّا اللعنة يوم القيامة فمصداقه العذاب الخالد الّذى يلحق بهم يومئذ فإنّ

٣١٦

يوم القيامة يوم جزاء لا غير.

وفي تعقيب قوله في الآية:( وَأُتْبِعُوا ) بقوله:( وَأُتْبِعُوا ) لطف ظاهر.

قوله تعالى: ( أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ) أي كفروا بربّهم فهو منصوب بنزع الخافض وهذا هو التلخيص الثاني الّذى أشرنا إليه لخصّ به التلخيص الأوّل فقوله:( أَلَا إِنَّ عَادًا ) الخ، يحاذي به وصف حالهم المذكور في قوله:( وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا ) الخ، وقوله:( أَلَا بُعْدًا لِّعَادٍ ) الخ، يحاذي به قوله:( وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ) الخ.

ويتأيّد من هذه الجملة أنّ المراد باللعنة السابقة اللعنة الإلهيّة دون لعن الناس، والأنسب به أحد الوجهين الأوّلين من الوجوه الثلاثة السابقة وخاصّة الوجه الثاني دون الوجه الثالث.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ عن أبى عمرو السعدىّ قال: قال علىّ بن أبى طالبعليه‌السلام في قوله:( إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) يعنى أنّه على حقّ يجزى بالإحسان إحساناً، وبالسيّئ سيّئاً، ويعفو عمّن يشاء ويغفر، سبحانه وتعالى.

أقول: وقد تقدّم توضيحه، وقد ورد في الرواية عنهمعليهم‌السلام : أنّ عادا كانت بلادهم في البادية، وكان لهم زرع ونخيل كثيرة، ولهم أعمار طويلة وأجساد طويلة فعبدوا الأصنام، وبعث الله إليهم هوداً يدعوهم إلى الإسلام وخلع الأنداد فأبوا ولم يؤمنوا بهود وآذوه فكفّت عنهم السماء سبع سنين حتّى قحطوا. الحديث.

وروى إمساك السماء عنهم من طريق أهل السنّة عن الضحّاك أيضاً قال: اُمسك عن عاد القطر ثلاث سنين فقال لهم هود:( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ) فأبوا إلّا تماديا، وقد تقدّم أنّ الآيات لا تخلو من إشارة إليه.

واعلم أنّ الروايات في قصّة هود وعاد كثيرة إلّا أنّها تشتمل على اُمور لا

٣١٧

سبيل إلى تصحيحها من طريق الكتاب ولا إلى تأييدها بالاعتبار ولذلك طوينا ذكرها.

وورد أيضاً أخبار اُخر من طرق الشيعة وأهل السنّة في وصف جنّة عاد الّتى تنسب إلى شدّاد الملك وهى المذكورة في قوله تعالى:( إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ) الفجر: ٨، وسيأتى الكلام عليها إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الفجر.

( كلام في قصّة هود)

١ - عاد قوم هود:

هؤلاء قوم من العرب من بشر ما قبل التاريخ كانوا يسكنون الجزيرة انقطعت أخبارهم وانمحت آثارهم لا يحفظ التاريخ من حياتهم إلّا أقاصيص لا يطمئنّ إليها وليس في التوراة الموجودة منهم ذكر.

والّذى يذكره القرآن الكريم من قصّتهم هو أنّ عادا - وربّما يسمّيهم عادا الاُولى (النجم: ٥٠) وفيه إشارة إلى أنّ هناك عادا ثانية - كانوا قوما يسكنون الأحقاف(١) من شبه جزيرة العرب (الاحقاف: ٢١) بعد قوم نوح (الاعراف: ٦٩).

كانت لهم أجساد طويلة (القمر: ٢٠، الحاقّة: ٧) وكانوا ذوى بسطة في الخلق (الاعراف: ٦٩) اُولى قوّة وبطش شديد (حم السجدة: ١٥، الشعراء: ١٣٠) وكان لهم تقدّم ورقىّ في المدينة والحضارة، لهم بلاد عامرة وأراض خصبة ذات جنّات ونخيل وزروع ومقام كريم (الشعراء وغيره)، وناهيك في رقيّهم وعظيم مدنيّتهم قوله تعالى في وصفهم:( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ) الفجر: ٨.

لم يزل القوم يتنعّمون بنعمة الله حتّى غيّروا ما بأنفسهم فتعرّقت فيهم الوثنيّة وبنوا بكلّ ريع آية يعبثون واتّخذوا مصانع لعلّهم يخلدون وأطاعوا طغاتهم المستكبرين فبعث الله إليهم أخاهم هودا يدعوهم إلى الحقّ ويرشدهم إلى أن يعبدوا

____________________

(١) الأحقاف جمع حقف وهو الرمل المعوج، والأحقاف المذكور في الكتاب العزيز واد بين عمان وأرض مهرة وقيل من عمان إلى حضر موت وهى رمال مشرقة على البحر بالشحر وقال الضحّاك: الأحقاف جبل بالشام (المراصد).

٣١٨

الله ويرفضوا الأوثان، ويعملوا بالعدل والرحمة (الشعراء: ١٣٠) فبالغ في وعظهم وبثّ النصيحة فيهم، وأنار الطريق وأوضح السبيل، وقطع عليهم العذر فقابلوه بالإباء والامتناع، وواجهوه بالجحد والإنكار ولم يؤمن به إلّا شرذمة منهم قليلون وأصرّ جمهورهم على البغى والعناد، ورموه بالسفه والجنون، وألحّوا عليه بأن ينزّل عليهم العذاب الّذى كان ينذرهم ويتوعّدهم به قال: إنّما العلم عند الله و اُبلّغكم ما اُرسلت به ولكنّي أراكم قوما تجهلون (الأحقاف: ٢٣).

فأنزل الله عليهم العذاب وأرسل إليهم الريح العقيم ما تذر من شئ أتت عليه إلّا جعلته كالرميم (الذاريات: ٤٢) ريحا صرصرا في أيّام نحسات سبع ليال وثمانية أيّام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنّهم أعجاز نخل خاوية (الحاقة: ٧) وكانت تنزع الناس كأنّهم أعجاز نخل منقعر (القمر: ٢٠).

وكانوا بادئ ما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم استبشروا وقالوا: عارض ممطرنا وقد أخطأوا بل كان هو الّذى استعجلوا به ريح فيها عذاب أليم تدمّر كلّ شئ بأمر ربّها فأصبحوا لا يرى إلّا مساكنهم (الأحقاف: ٢٥) فأهلكهم الله عن آخرهم وأنجى هودا والّذين آمنوا معه برحمة منه (هود: ٥٨).

٢ - شخصيّة هود المعنويّة:

وأمّا هودعليه‌السلام فهو من قوم عاد وثاني الأنبياء الّذين انتهضوا للدفاع عن الحقّ ودحض الوثنيّة ممّن ذكر الله قصّته وما قاساه من المحنة والأذى في جنب الله سبحانه، وأثنى عليه بما أثنى على رسله الكرام وأشركه بهم في جميل الذكرعليه سلام الله.

٣١٩

( سورة هود آية ٦١ - ٦٨)

وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ( ٦١) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ( ٦٢) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ( ٦٣) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ( ٦٤) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ( ٦٥) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ( ٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ( ٦٧) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِّثَمُودَ( ٦٨)

( بيان)

تذكر الآيات الكريمة قصّة صالح النبيّعليه‌السلام وقومه وهم ثمود، وهوعليه‌السلام ثالث الأنبياء القائمين بدعوة التوحيد الناهضين على الوثنيّة. دعا ثمود إلى التوحيد وتحمّل الأذى والمحنة في جنب الله حتّى قضى بينه وبين قومه بهلاكهم ونجاته ونجاة من معه من المؤمنين.

قوله تعالى: ( وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406