الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

الميزان في تفسير القرآن14%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 406

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114260 / تحميل: 6647
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الفصل الثالث و الخمسون في الفتن و الشبه و البدع

١٦١

١ في أوّل الباب الثالث من النهج باب المختار

من حكم امير المؤمنينعليه‌السلام و يدخل في ذلك المختار من أجوبة مسائله و الكلام القصير الخارج في ساير أغراضه .

قالعليه‌السلام :

كُنْ فِي اَلْفِتْنَةِ كَابْنِ اَللَّبُونِ لاَ ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ وَ لاَ ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ قول المصنّف : « باب المختار » هو القسم الأخير من كتابه « من حكم أمير المؤمنينعليه‌السلام » اقتصر عليه في ( المصرية ) و زاد ابن أبي الحديد و ابن ميثم : « و مواعظه » و هو الصحيح لأصحية نسختيهما لا سيما الأخير الذي نسخته بخط المصنف .

و لأنّ فيه مواعظ كثيرة و منها في العنوان ( ١٥٠ ) كلامهعليه‌السلام لرجل سأله أن يعظه الذي قال المصنف فيه « و لو لم يكن في هذا الكتاب إلاّ هذا الكلام لكفى به موعظة ناجعة » .

١٦٢

و وصف الشعبي كلامهعليه‌السلام في الحكم و غيرها فقال : تكلّم أمير المؤمنينعليه‌السلام بتسع كلمات ارتجلهن ارتجالا فقأن عيون البلاغة و أيتمن جواهر الحكمة و قطعن جميع الأنام عن اللحاق بواحدة منهن ، ثلاث منهن في الحكمة و ثلاث في المناجاة و ثلاث في الأدب ، أما اللائي في الحكمة فقال : قيمة كلّ امرى‏ء ما يحسنه ، و ما هلك امرؤ عرف قدره ، و المرء مخبوء تحت لسانه .

و أما اللائي في المناجاة فقال : اللّهم كفى بي عزّا أن أكون لك عبدا ، و كفى بي فخرا أن تكون لي ربا ، أنت كما أحب فاجعلني كما تحب و أما اللائي في الأدب فقال : امنن على من شئت تكن أميره ، و استغن عمّن شئت تكن نظيره و احتج إلى من شئت تكن أسيره(١) .

« و يدخل في ذلك المختار من أجوبة مسألته » ترى أجوبة مسألته في العناوين ( ١٦ ) ( ٣٠ ) ( ٩٤ ) ( ١٢٠ ) ( ١٥٠ ) ( ٢٢٧ ) ( ٢٢٩ ) ( ٢٣٥ ) ( ٢٦٦ ) ( ٢٨٧ ) ( ٢٩٤ ) ( ٣٠٠ ) ( ٣١٨ ) ( ٣٥٦ ) ( ٤٧٠ ) .

« و الكلام القصير » كان حاجب هشام بن عبد الملك يأمر منتجعيه بالإيجاز في الكلام ، فقام أعرابي فقال : إنّ اللَّه تعالى جعل العطاء محبة و المنع مبغضة فلأن نحبك خير من أن نبغضك فأعطاه و أجزل له .

« الخارج في سائر أغراضه » أي باقي مقاصده ، و الأصل في ( الغرض ) الهدف و ( سائر ) يأتي بمعنى الجميع و معنى الباقي ، و الأخير هو المراد هنا .

قوله « كن في الفتنة » الأصل في « الفتنة » قولهم « دينار مفتون » فتن بالنار ، و كلّ شي‏ء ادخل النار فقد فتن ، و قالوا « الناس عبيد الفتانين » أي الدرهم و الدينار .

« كابن اللبون » ابن اللبون : ولد الناقة الذكر إذا دخل في الثالثة ، لأن امّه

____________________

( ١ ) الخصال للصدوق : ١٨٦ .

١٦٣

وضعت غيره فصار لها لبن ، و الانثى بنت اللبون ، و يجمعان بنات اللبون .

« لا ظهر فيركب و لا ضرع فيحلب » نظيره قول حاجب بن زرارة في القعقاع :

ما هو رطب فيعصر و لا يابس فيكسر .

و في المثل : لا تكن حلوا فتزدرد و لا مرّا فتلفظ .

و من الأمثال في الاعتزال قولهم : لا ناقة لي في هذا و لا جمل و قالوا : ان كنت من أهل الفطن فلا تدر حول الفتن .

ثم كما لا ينتفع بابن اللبون لصغره كذلك بالثلب لكبره ، و هو الذي انكسرت أنيابه من شدّة هرمه ، و إنما الانتفاع الكامل بالناب الذي في وسط الشباب ، قال بعضهم :

ألم تر أن الناب يحلب علبة

و يترك ثلب لا ضراب و لا ظهر

قال ابن أبي الحديد : أيام الفتنة هي أيام الخصومة بين رئيسين ضالين يدعوان كلاهما إلى ضلالة ، كفتنة عبد الملك و ابن الزبير و فتنة مروان و الضحاك و فتنة الحجاج و ابن الأشعث ، و أما إذا كان أحدهما صاحب حق فليست أيام فتنة كالجمل و صفين(١) .

قلت : إن جانبوا العصبية و أرادوا فهم الحقيقة فأول أيام الفتنة أيام أوّلهم ، ففي ( الطبري ) : قال أبو مويهبة مولى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : بعث إليّ النبي من جوف الليل فقال : يا أبا مويهبة إنّي قد امرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم قال : السّلام عليكم أهل المقابر ، ليهن لكم ما أصبحتم ممّا أصبح الناس فيه ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أوّلها ، الآخرة شرّ من الاولى إلى أن قال ثم انصرف فبدأ

____________________

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٨٢ .

١٦٤

بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وجعه الذي قبض فيه(١) .

و في ( بلاغات نساء أحمد بن أبي طاهر البغدادي ) من رجالهم في ذكره خطبة سيّدة نساء العالمين باتفاق فرق المسلمين لما منعها أبو بكر فدك و في الخطبة : فأنقذكم اللَّه برسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد اللتيا و التي ، و بعد ما مني ببهم الرجال و ذؤبان العرب ، كلّما حشوا نارا للحرب أطفأها و نجم قرن للضلال و فغرت فاغرة من المشركين قذف بأخيه في لهواتها ، فلا ينكفي حتى يطأ صماخها بأخمصه و يخمد لهبها بحده ، مكدودا في ذات اللَّه قريبا من رسول اللَّه سيّدا في أولياء اللَّه ، و أنتم في بلهنية و ادعون آمنون ، حتى إذا اختار اللَّه تعالى لنبيه دار أنبيائه ظهرت خلّة النفاق و سمل جلباب الدين و نطق كاظم الغاوين و نبغ خامل الآفلين و هدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم و أطلع الشيطان رأسه من مغرزه صارخا بكم ، فوجدكم لدعائه مستجيبين و للغرة فيه ملاحظين ، فاستنهضكم فوجدكم خفافا و أحمشكم فألفاكم غضابا ، فوسمتم غير أبلكم و أوردتموها غير شربكم ، هذا و العهد قريب و الكلم رحيب و الجراح لما يندمل ، بدارا زعمتم خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا و إنّ جهنم لمحيطة بالكافرين(٢) .

و روى الإسكافي منهم في نقضه ( عثمانية الجاحظ ) عن أبي رافع قال :

أتيت أبا ذر بالربذة اودّعه ، فلما أردت الانصراف قال لي و لا ناس معي :

ستكون فتنة فاتقوا اللَّه و عليكم بالشيخ علي بن أبي طالب فاتبعوه ، فإني سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول له : أنت أوّل من آمن بي و أوّل من يصافحني يوم القيامة ، و أنت الصدّيق الأكبر ، و أنت الفاروق الذي تفرّق بين الحق و الباطل ،

____________________

( ١ ) تاريخ الطبري ٢ : ٤٣٢ .

( ٢ ) بلاغات النساء لابن طيفور : ١٣ ١٤ .

١٦٥

و أنت يعسوب المؤمنين و المال يعسوب الكافرين ، و أنت أخي و وزيري و خير من أترك بعدي(١) .

ثم ما قاله ابن أبي الحديد : من فتنة الحجاج و ابن الأشعث خلاف عقيدة أهل نحلته ، فإنّ عندهم كان قيام ابن الأشعث فتنة ، و أمّا الحجاج فكان عامل من بايعه جميع الناس و كان عندهم خليفة حقّا و أميرا للمؤمنين به .

و كذلك قوله « فتنة عبد الملك و ابن الزبير » غير صحيح عند أهل ملته ، فانّه عندهم كان ابتداء ابن الزبير ولي اللَّه و عبد الملك عدوّ اللَّه ، و لما غلب عبد الملك صار هو ولي اللَّه و ابن الزبير عدوّ اللَّه(٢) .

ففي ( كامل المبرد ) : خرج مصعب بن الزبير إلى باجميراء ، ثم أتى الخوارج خبر مقتله بمسكن و لم يأت المهلب و أصحابه ، فتواقفوا يوما على الخندق ، فناداهم الخوارج : ما تقولون في المصعب ؟ قالوا : إمام هدى قالوا : فما تقولون في عبد الملك ؟ قالوا : ضالّ مضل فلما كان بعد يومين أتى المهلب قتل صعب و إنّ أهل الشام اجتمعوا على عبد الملك ، و ورد عليه كتاب عبد الملك بولايته ، فلما تواقفوا ناداهم الخوارج : ما تقولون في مصعب ؟ قالوا : لا نخبركم قالوا : فما تقولون في عبد الملك ؟ قالوا : إمام هدى قالوا : يا أعداء اللَّه بالأمس ضال مضل و اليوم امام هدى ، يا عبيد الدّنيا عليكم لعنة اللَّه(٣) .

و الخوارج و إن طعنوا عليهم بكون ما عليهم خلاف العقل و خلاف الفطرة التي فطر الناس عليها ، إلاّ أنّه يقال لهم : إنّ ذلك لازم لكم أيضا بموافقة العامة في إمامة صديقهم و صديقه ، فلا يمكن القول بالملزوم و ترك اللازم .

____________________

( ١ ) نقض العثمانية لأبي جعفر الإسكافي : ٢٩٠ ملحقة بالعثمانية .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٨٢ .

( ٣ ) الكامل في الأدب للمبرّد ٣ : ١١٠١ ١١٠٢ .

١٦٦

و أما قوله « إذا كان أحدهما صاحب حق فليست أيام فتنة كالجمل و صفين » فأيضا أهل ملّته غير معترفين به ، فهذا ابن عبد البر من أئمتهم قال في سعد بن أبي وقاص الذي لم يشهد الجمل و صفين مع أمير المؤمنينعليه‌السلام :

كان ممّن قعد و لزم بيته في الفتنة و أمر أهله أن لا يخبروه من أخبار الناس بشي‏ء حتى تجتمع الامة على إمام(١) .

و قال في ترجمة ابن فاروقهم : قيل لنافع : ما بال ابن عمر بايع معاوية و لم يبايع عليّا ؟ فقال : كان ابن عمر لا يعطي يدا في فرقة و لا يمنعها من جماعة ، و لم يبايع معاوية حتى اجتمعوا عليه(٢) .

قبّح اللَّه هذا الدين الذي يصير معاوية الذي كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لعنه في غير موطن و عدوّ الدين أولى بالإمامة من أمير المؤمنينعليه‌السلام الذي جعله اللَّه تعالى في كتابه كنفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله .( و أنفسنا و أنفسكم . ) (٣) و جعله النبي بمنزلة نفسه في المتواتر منه في قوله للناس : من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه .

لا يقال : انّما قال « من كنت مولاه فعلي مولاه » لا ما قلت قلت : ما ذكرته ان لم يكن لفظه هو معناه ، ألم يكن قال تلك الجملة بعد قوله للناس « ألست بكم أولى من أنفسكم » و قول الناس له « بلى أنت أولى بنا من أنفسنا » فهل يصير معناها غير ما قلناه .

قبّح اللَّه هذا الدين الذي هو خلاف ناموس الإنسانية ، حتى ان الحجاج الذي قال عمر بن عبد العزيز الذي هو أحد خلفائهم : لو أنّ جميع الامم جاءت

____________________

( ١ ) الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر ٢ : ٦٠٩ .

( ٢ ) المصدر نفسه ٣ : ٩٥٣ .

( ٣ ) آل عمران : ٦١ .

١٦٧

يوم القيامة كلّ واحدة منهم بشرارهم و جئناهم بالحجاج لغلبنا جميعهم لم يرضه ، فقال الاسكافي أحد أئمتهم في نقض ( عثمانيته ) : امتنع ابن عمر من بيعة عليعليه‌السلام و طرق على الحجاج بابه ليلا ليبايع لعبد الملك كيلا يبيت تلك الليلة بلا إمام ، زعم لأنّه روي ان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال « من مات و لا إمام له مات ميتة جاهلية »(١) و حتى بلغ من احتقار الحجاج له و استرذاله حاله أن أخرج رجله من الفراش فقال : اصفق بيدك عليها قال و رواه بعضهم و زاد : و لما خرج قال الحجاج : ما أحمق هذا يترك بيعة علي و يأتيني مبايعا في ليله .

٢ الخطبة ( ٩١ ) إِنَّ اَلْفِتَنَ

إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ وَ إِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ يُنْكَرْنَ مُقْبِلاَتٍ وَ يُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ يَحُمْنَ حَوْلَ اَلرِّيَاحِ يُصِبْنَ بَلَداً وَ يُخْطِئْنَ بَلَداً أقول : رواه الثقفي في أول ( غاراته ) باسنادين عن زر بن حبيش عنهعليه‌السلام : الأول عن إسماعيل بن ابان عن عبد الغفار بن القاسم عن المنصور بن عمرو عن ذر و الثاني عن أحمد بن عمران الأنصاري عن أبيه عن أبن أبي ليلى عن المنهال بن عمرو عن زر قال : خطب عليعليه‌السلام بالنهروان إلى أن قال فقام إليه رجل آخر فقال لهعليه‌السلام : حدّثنا عن الفتن قال : ان الفتن إذا أقبلت شبهت و إذا أدبرت نبهت ، يشبهن مقبلات و يعرفن مدبرات ، ان الفتن تحوم كالرياح يصبن بلدا و يخطئن اخرى(٢) .

« ان الفتن إذا أقبلت شبهت و إذا أدبرت نبهت » في ( نهاية الجزري ) : التشابه قسمان ، قسم إذا ردّ إلى المحكم يفهم معناه ، و قسم لا سبيل إلى معرفة

____________________

( ١ ) نقض العثمانية : ٣٠١ .

( ٢ ) الغارات للثقفي : ٧ .

١٦٨

حقيقته ، فالمتتبع له متتبع للفتنة ، لأنّه لا يكاد ينتهي إلى شي‏ء تسكن إليه نفسه ، و منه حديث ذكر فيه فتنة « تشبه مقبلة و تبين مدبرة » أي أنّها إذا أقبلت شبهت على القوم و أرتهم أنّهم على الحق حتى يدخلوا فيها و يركبوا منها ما لا يجوز ، فإذا أدبرت بان أمرها فعلم من دخل فيها أنّه كان على الخطأ(١) .

« ينكرن مقبلات و يعرفن مدبرات » قد عرفت أنّ ( غارات الثقفي ) رواه « يشبهن مقبلات و يعرفن مدبرات » .

« يحمن حول الرياح » هكذا في ( المصرية )(٢) ، و الصواب : « حوم الرياح » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية )(٣) ، مع أنّه لا معنى لما في ( المصرية ) ، فالفتن لا يدرن حول الرياح بل يدرن حول الناس دور الرياح ، من قولهم « حام الطائر حول الشي‏ء حوما » أي دار .

« يصبن بلدا و يخطئن اخرى » أي كما أن الرياح الشديدة تصيب بلدا و تخطى‏ء بلدا كذلك الفتن يصبن بلدا فيبتلى الناس بوخامتهن و يخطئن بلدا فيسلمون منها .

٣ الحكمة ( ٧٦ ) و قالعليه‌السلام :

إِنَّ اَلْأُمُورَ إِذَا اِشْتَبَهَتْ اُعْتُبِرَ آخِرُهَا بِأَوَّلِهَا كان العباسيون يدّعون إجراء العدالة إذا ظهروا إلاّ انّه كان حالهم في الآخر معلومة من أوّلها .

____________________

( ١ ) النهاية لابن الأثير للجزري ٢ : ٤٤٢ .

( ٢ ) الطبعة المصرية : ٢٣٤ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٧ : ٤٤ الخطبة ( ١٩٢ ) ، أمّا شرح ابن ميثم ٢ : ٣٨٨ ، بلفظ « حول » ، أما الخطبة ٧٤ بلفظ « حوم » .

١٦٩

و لما بايعت الأوس أبا بكر لئلا يصير الأمر إلى الخزرج و كانت بينهما رقابة من الجاهلية ، قال لهم المنذر بن الحباب : فعلتموها أما و اللَّه لكأني بأبنائكم على أبواب أبنائهم قد وقفوا يسألونهم بأكفّهم و لا يسقون الماء .

و صار كما قال(١) .

٤ الحكمة ( ٩٣ ) و قالعليه‌السلام :

لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ اَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ اَلْفِتْنَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ إِلاَّ وَ هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فِتْنَةٍ وَ لَكِنْ مَنِ اِسْتَعَاذَ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ مُضِلاَّتِ اَلْفِتَنِ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ وَ اِعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ١ ٧ ٨ : ٢٨ وَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَخْتَبِرُهُمْ بِالْأَمْوَالِ وَ اَلْأَوْلاَدِ لِيَتَبَيَّنَ اَلسَّاخِطَ لِرِزْقِهِ وَ اَلرَّاضِيَ بِقِسْمِهِ وَ إِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمَ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ لَكِنْ لِتَظْهَرَ اَلْأَفْعَالُ اَلَّتِي بِهَا يُسْتَحَقُّ اَلثَّوَابُ وَ اَلْعِقَابُ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُحِبُّ اَلذُّكُورَ وَ يَكْرَهُ اَلْإِنَاثَ وَ بَعْضَهُمْ يُحِبُّ تَثْمِيرَ اَلْمَالِ وَ يَكْرَهُ اِنْثِلاَمَ اَلْحَالِ و هذا من غريب ما سمع منه في التفسير « لا يقولن أحدكم اللّهم اني أعوذ بك من الفتنة » قال ابن بابويه في ( توحيده ) :

الفتنة على عشرة أوجه : فوجه الضلال ، و الثاني : الاختبار و هو قوله تعالى .( و فتناك فتونا ) .(٢) ( ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون ) (٣) و الثالث : الحجّة و هو قوله تعالى( ثم لم تكن فتنتهم إلاّ أن قالوا

_ ___________________

( ١ ) التوحيد للصدوق : ٣٨٦ .

( ٢ ) طه : ٤٠ .

( ٣ ) العنكبوت : ١ ٢ .

١٧٠

 و اللَّه ربنا ما كنّا مشركين ) (١) و الرابع : الشرك و هو قوله تعالى .( و الفتنة أشدّ من القتل ) .(٢) و الخامس : الكفر و هو قوله تعالى .( ألا في الفتنة سقطوا ) .(٣) و السادس : الإحراق بالنار و هو قوله تعالى( إن الذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات ) . .(٤) و السابع : العذاب كقوله تعالى( يوم هم على النار يفتنون ) (٥) ( ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون ) (٦) .( و من يرد اللَّه فتنته فلن تملك له من اللَّه شيئا ) . .(٧) و الثامن : القتل كقوله تعالى .( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) .(٨) ( فما آمن لموسى إلاّ ذريّة من قومه على خوف من فرعون و ملئهم أن يفتنهم ) .(٩) و التاسع : الصدّ كقوله تعالى( و ان كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا اليك ) .(١٠) و العاشر : شدّة المحنة كقوله تعالى .( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) (١١) ، و قد زاد علي بن ابراهيم وجها آخر ، و هو المحبة كقوله تعالى .( انّما أموالكم و أولادكم فتنة ) .(١٢) و عندي أنّه المحنة بالنون لا المحبة بالباء لقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله « الولد مجبنة مبخلة »(١٣) .

____________________

( ١ ) الأنعام : ٢٣ .

( ٢ ) البقرة : ١٩١ .

( ٣ ) التوبة : ٤٩ .

( ٤ ) البروج : ١٠ .

( ٥ ) الذاريات : ١٣ .

( ٦ ) الذاريات : ١٤ .

( ٧ ) المائدة : ٤١ .

( ٨ ) النساء : ١٠١ .

( ٩ ) يونس : ٨٣ .

( ١٠ ) الاسراء : ٧٣ .

( ١١ ) يونس : ٨٥ .

( ١٢ ) الأنفال : ٢٨ .

( ١٣ ) بحار الأنوار ١٠٤ : ٩٧ رواية ٦٠ ب ٢ .

١٧١

قلت : و المفهوم من الخليل أن الأصل في معناه الإحراق ، فقال : الفتن الإحراق(١) ، قال تعالى( يوم هم على النار يفتنون ) (٢) ، و ورق فتين أي فضة محرقة و يقال للحرة فتين كأن حجارتها محرقة .

هذا ، و عن الأصمعي لا يقال أفتنته بل فتنته ، ورد عليه بقول أعشى همدان في سعيد بن جبير :

لئن أفتنتني فهي بالأمس أفتنت سعيدا فأمسى قد قلى كلّ مسلم(٣) و عن ام عمرو بنت الأهتم : مررنا بمجلس فيه سعيد بن جبير و نحن جوار و معنا جارية تغني بدف معها و تنشد البيت « لئن أفتنتني . » ، فقال سعيد : كذبتن كذبتن .

« لأنّه ليس أحد إلاّ و هو مشتمل على فتنة » و لو بالمال أو الولد ، و لأنّ سنته تعالى فتن عباده و لن تجد لسنته تبديلا ، قال تعالى( أحسب الناس ان يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون و لقد فتنا الذين من قبلهم فَليعلمنَّ اللَّه الذين صدقوا و ليعلَمَنَّ الكاذبين ) (٤) .

« و لكن من استعاذ فليستعذ باللَّه من مضلاّت الفتن » كما في فتنة بني اسرائيل بالعجل الذي أضلّهم السامري به حتى تركوا هارون و أرادوا قتله .

و كما في فتنة المسلمين بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بمثل فتنة بني اسرائيل بجعل الثاني الأول عجله حتى تركوا خليفة نبيّهم و أرادوا قتله ، و كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم في المتواتر : لتتبعن بني إسرائيل حذوا بحذو حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه .

____________________

( ١ ) العين لأحمد الفراهيدي ٨ : ١٢٧ مادة ( فتن ) .

( ٢ ) الذاريات : ١٣ .

( ٣ ) العين للفراهيدي ٨ : ١٢٨ مادة ( فتن ) .

( ٤ ) العنكبوت : ٢ ٣ .

١٧٢

و في ( خلفاء ابن قتيبة ) في قصة السقيفة فأخرجوا عليّا فمضوا به إلى أبي بكر ، فقالوا له : بايع فقال : إن أنا لم أفعل فمه ؟ قالوا : إذن و اللَّه الذي لا إله إلاّ هو لضرب عنقك قال : إذن تقتلون عبد اللَّه و أخا رسوله قال عمر : أما عبد اللَّه فنعم و أما أخو رسوله فلا و أبو بكر ساكت لا يتكلّم ، فقال له عمر : ألا تأمر فيه ؟ فقال : لا اكرهه على شي‏ء ما كانت فاطمة إلى جنبه فلحق علي بقبر رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يصيح و يبكي و ينادي : يابن امّ إن القوم استضعفوني و كادوا يقتلونني إلى آخر ما ذكر(١) .

هذا ، و روى ( توحيد الصدوق ) أنّه تعالى قال : إنّ من عبادي المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة فأكفّه عنه لئلا يدخله عجب فيفسده ، و إنّ منهم لمن لا يصلح ايمانه إلاّ بالفقر و لو أغنيته لأفسده ، و إنّ منهم لمن لا يصلح ايمانه إلاّ بالغنى و لو أفقرته لأفسده ، و ان منهم لمن لا يصلح إيمانه إلاّ بالسقم و لو صححت جسده لأفسده ذلك ، و إنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلاّ بالصحّة و لو أسقمته لأفسده ، و إنّي ادبر عبادي بعلمي بقلوبهم فإنّي عليم خبير(٢) .

« فإنّ اللَّه سبحانه يقول( و اعلموا أنّما أموالكم و أولادكم فتنة و أن اللَّه عنده أجر عظيم ) (٣) .

« و معنى ذلك أنّه سبحانه » سقطت كلمة « سبحانه » من ( المصرية )(٤) مع وجودها في ( ابن ميثم و ابن أبي الحديد و الخطية )(٥) .

____________________

( ١ ) الخلفاء لابن قتيبة : ١٣ .

( ٢ ) التوحيد للصدوق : ٣٩٨ ح ١ .

( ٣ ) الأنفال : ٢٨ .

( ٤ ) الطبعة المصرية : ٦٧٧ .

( ٥ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٢٤٨ ، و ابن ميثم ٥ : ٢٨٧ .

١٧٣

« يختبرهم » أي : يمتحنهم .

« بالأموال و الأولاد ليتبيّن الساخط لرزقه » في الأموال .

« و الراضي بقسمه » في الأولاد .

« و إن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم » .( فليعلمن اللَّه الذين صدقوا و ليعلمن الكاذبين ) (١) .

« و لكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب و العقاب » لأن الجزاء على العمل لا مجرّد النيّة و مقتضى الطوية ، و إن كان هو تعالى يثيب على مجردهما تفضلا و لا يؤاخذ على صرفهما تكرّما .

« لأنّ بعضهم يحب الذكور و يكره الاناث » حتى قال تعالى( في مثلهم و إذا بُشّر أحدهم بالانثى ظلّ وجهه مسودّا و هو كظيم يتوارى عن القوم من سوء ما بُشّر به أيمسكه على هون أم يدسّه في التراب ألا ساء ما يحكمون ) (٢) .

قالوا : و لحب الناس الذكور و كراهتم للإناث و كان الواجب عليهم التسليم لمشيته تعالى شأنه قدّم عز و جل هبة الإناث على الذكور فقال .( يهب لمن يشاء إناثا و يهب لمن يشاء الذكور ) (٣) .

« و بعضهم يحبّ تثمير المال و يكره انثلام الحال » أي وقوع الخلل فيه ، قال تعالى( و إنّه لحبّ الخير لشديد ) (٤) و فسر الخير هنا بالمال .

و قال تعالى في امتحان عبيده بالمال و الولد و غيرهما( و لنبلونكم بشي‏ء من الخوف و الجوع و نقص من الأموال و الأنفس و الثمرات

_ ___________________

( ١ ) العنكبوت : ٣ .

( ٢ ) النحل : ٥٨ ٥٩ .

( ٣ ) الشورى : ٤٩ .

( ٤ ) العاديات : ٨ .

١٧٤

 و بشّر الصابرين ) (١) .

« و هذا من غريب ما سمع منه في التفسير » و لو كان قال ما روي عنهعليه‌السلام بدل ما سمع منهعليه‌السلام كان أحسن .

جعله من غريب التفسير لأنّ المتبادر من كون الأموال فتنة أنّ الانسان يطغى أن رآه استغنى ، و أنّ كثيرا من الناس يميل المال بهم إلى الشهوات كما أنّ كثيرا منهم يصعب عليهم إخراج الحقوق التي أوجب اللَّه تعالى عليهم في المال فيهلكون كما ان المتبادر من كون الأولاد فتنة أنّهم يصيرون سببا للتخلّف عن الجهاد ، و البخل عن الزكاة ، و تحصيل المال لهم من غير طريق المشروع لو ضاق عليه المشروع و لموافقة الآباء غالبا أهواء أبنائهم المهوية ، كما اتفق للزبير مع ابنه ، فقالعليه‌السلام : ما زال الزبير منّا حتى نشأ ابنه الميشوم .

و روت العامة في تفسير الآية عن بريدة : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يخطب فجاء الحسن و الحسينعليهما‌السلام و عليهما قميصان أحمران يمشيان و يعثران ، فنزل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إليهما فأخذهما و وضعهما في حجره على المنبر و قال : صدق اللَّه تعالى( انّما أموالكم و أولادكم فتنة ) .(٢) نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان و يعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي و رفعتهما(٣) .

هذا ، و مما روي عنهعليه‌السلام من غريب التفسير غير ما مرّ أنّهعليه‌السلام قال :

الاستثناء في اليمين متى ما ذكر و لو بعد أربعين صباحا ثم تلا هذه الآية . و اذكر ربّك إذا نسيت .(٤) .

و أنّهعليه‌السلام قال : تستحب المقاربة مع أهله ليلة أول شهر الصيام لقوله

____________________

( ١ ) البقرة : ١٥٥ .

( ٢ ) التغابن : ١٥ .

( ٣ ) سنن الترمذي ٥ : ٦١٦ ح ٣٧٧٤ .

( ٤ ) الكافي ٧ : ٤٤٨ الرواية ٦ ، و الآية ٢٤ من سورة الكهف .

١٧٥

تعالى( اُحلّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) . .(١) .

٥ في الخطبة ( ١٤٣ ) منها :

وَ مَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلاَّ تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ فَاتَّقُوا اَلْبِدَعَ وَ اِلْزَمُوا اَلْمَهْيَعَ إِنَّ عَوَازِمَ اَلْأُمُورِ أَفْضَلُهَا إِنَّ مُحْدَثَاتِهَا شِرَارُهَا « و ما احدثت بدعة إلاّ ترك بها سنة » قال ابن أبي الحديد : البدعة كلّ ما لم يكن في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمنها الحسن كصلاة التراويح و منها القبيح كالمنكرات التي ظهرت أواخر الخلافة العثمانية و إن كانت قد تكلّفت الأعذار عنها(٢) .

قلت : صلاة التراويح أيضا من بدع ، قالعليه‌السلام ترك بها سنة ، و كيف تكون حسنة و كانت تشريعا في قبال الدين ، و إنما التشريع للَّه تعالى( ما لكم كيف تحكمون أم لكم كتاب فيه تدرسون إنّ لكم فيه لما تخيرون ) (٣) .

ما كان للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يشرّع شيئا من قبل نفسه إلاّ بوحي منه تعالى إليه ، فكيف كان لعمر الذي أفحمته مرأة في أنفها فطس في حظره جعل الصداق أكثر من خمسمائة درهم بأنّه تعالى قال .( و آتيتم إحداهن قنطاراً ) .(٤) فقال : كل الناس أفقه من عمر .

و روى سليم بن قيس الهلالي في كتابه أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام خطب فقال : قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدين لخلافه

____________________

( ١ ) البقرة : ١٨٧ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٩ : ٩٤ .

( ٣ ) القلم : ٣٦ ٣٨ .

( ٤ ) النساء : ٢٠ .

١٧٦

ناقضين لعهده مغيّرين لسنّته ، و لو حملت الناس على تركها تفرّق عني جندي حتى أبقى وحدي و قليل من شيعتي ، و اللَّه لقد أمرت أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة و أعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممّن يقاتل معي يا أهل الاسلام لقد غيرت سنّة عمر نهينا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعا ، و قد خفت أن يثوروا في ناحية عسكري(١) .

و روى محمد بن علي بن بابويه عن الباقر و الصادقعليهما‌السلام : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان في جماعة بدعة ، و صلاة الضحى بدعة ، ألا و إنّ كلّ بدعة ضلالة و كلّ ضلالة سبيلها إلى النار(٢) .

و روى محمد بن يعقوب الكليني : إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام مر برجل يصلّي الضحى في مسجد الكوفة ، فغمز جنبه بالدرة و قال : نحرت صلاة الأوابين نحرك اللَّه(٣) .

و أما أعمال عثمان و لم قال كالمنكرات التي ظهرت أواخر الخلافة العثمانية كنفيه أبا ذر و ضربه عمارا و نهبه بيت المال لأقاربه و توليته لهم حتى يصلّوا بالناس سكارى و يصلّوا الصبح أربعا و يغنوا في الصلاة و غيرها من نظائرها فشنائع ينكرها الموحد و الملحد و المسلم و الكافر .

و أما ما قاله من تكلّف الأعذار الذي نوريهم ، فالتكلّف لعدم منكرية عداوة أبي جهل مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أقرب إلى العقول منه .

ثم جعلها في عداد البدع كصلاة التراويح في غير محله .

____________________

( ١ ) سليم بن قيس ، لا وجود له في الطبعة النجفية ، لعل المؤلف أخذه من البحار حيث ذكر المجلسي في ٩٦ : ٢٠٣ الرواية ٢١ باب ٢٤ .

( ٢ ) الفقيه للصدوق ٢ : ١٣٧ الرواية ١٩٦٤ باب ٢ .

( ٣ ) الكافي ٣ : ٤٥٢ رواية ٨ .

١٧٧

« فاتقوا البدع » روى ابن بابويه عن الصادقعليه‌السلام : من مشى إلى صاحب بدعة فوقرها فقد مشى في هدم الإسلام(١) .

« و الزموا المهيع » أي الطريق الواسع و هو طريق الاسلام ، قال تعالى( و إنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله ) . .(٢) .

« إنّ عوازم الامور أفضلها » قال ابن أبي الحديد : عوازم ما تقادم منها من قولهم « عجوز عوزم » أي مسنّة ، و يجوز أن يكون جمع عازمة بمعنى مفعول أي معزوم عليها ، أي مقطوع معلوم بيقين صحتها ، و الأول أظهر لأن في مقابلته « و ان محدثاتها » و المحدث في مقابلة القدم(٣) .

قلت : بل الظاهر أن « عوازم » محرف « قدائم » جمع قديم للتشابه الخطي بينهما ، لأن العزم في مقابل الرخصة لا المحدث ، يقال عزائم القرآن و رخصه ، ثم جمع العوزم بالعوازم كما قاله غير معلوم .

٦ الخطبة ( ٥٠ ) و من كلام لهعليه‌السلام :

إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ اَلْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وَ أَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اَللَّهِ وَ يَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالاً عَلَى غَيْرِ دِينِ اَللَّهِ فَلَوْ أَنَّ اَلْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ اَلْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى اَلْمُرْتَادِينَ وَ لَوْ أَنَّ اَلْحَقَّ خَلَصَ مِنْ اَلْبَاطِلِ اِنْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ اَلْمُعَانِدِينَ وَ لَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَ مِنْ هَذَا

____________________

( ١ ) الفقيه للصدوق ٣ : ٥٧٢ ح ٤٩٥٧ الباب ٢ .

( ٢ ) الأنعام : ١٥٣ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٩ : ٩٤ .

١٧٨

ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي اَلشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَ يَنْجُو اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ ٢ ٤ ٢١ : ١٠١ مِنَ اَللَّهِ اَلْحُسْنى‏ ٦ ٦ ٢١ : ١٠١ أقول : رواه الكليني في ( بدع كافيه ) بإسنادين عن عاصم بن حميد عن محمد ابن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال : خطب أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال : أيها الناس إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع و أحكام تبتدع ، يخالف فيها كتاب اللَّه ، يؤخذ من هذا ضغث و من هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معا ، فهنا لك استحوذ الشيطان على أوليائه و نجا الذين سبقت لهم منه الحسنى(١) .

و رواه في ( روضته ) مع زيادات ، فروى عن سليم بن قيس قال : خطب عليعليه‌السلام فقال : إنّما بدء وقوع الفتن من أهواء تتبع و أحكام تبتدع ، يخالف فيها حكم اللَّه ، يتولى فيها رجال رجالا ، إنّ الحق لو خلص لم يكن اختلاف و لو أنّ الباطل خلص لم يخف على ذي حجى ، لكنّه يؤخذ من هذا ضغث و من هذا ضغث فيمزجان فيجتمعان فيجللان معا ، فهنا لك يستولي الشيطان على أوليائه و نجا الذين سبقت لهم الحسنى ، إنّي سمعت رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول :

كيف أنتم إذا لبستكم فتنة تربو فيها الصغير و يهرم فيها الكبير يجري الناس عليها و يتخذونها سنة ، فإذا غيّر منها شي‏ء قيل قد غيّرت السنّة ، و قد أتى الناس منكرا ثم تشتدّ البلية و تسبى الذريّة و تدقهم الفتنة كما تدقّ النار الحطب و كما تدقّ الرحى بثفالها ، و يتفقهون لغير اللَّه و يتعلمون لغير العمل و يطلبون الدنيا بأعمال الآخرة .

ثم أقبل بوجهه و حوله ناس من أهل بيته و خاصته و شيعته فقال : قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدين لخلافه ناقضين بعهده مغيّرين لسنّته ، و لو حملت الناس على تركها و حوّلتها إلى مواضعها

____________________

( ١ ) الكافي ١ : ٥٤ رواية ١ و أيضا ٨ : ٥٨ الرواية ٢١ .

١٧٩

و الى ما كانت في عهد رسول اللَّه لتفرّق عني جندي حتى أبقى وحدي أو مع قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي و فرض إمامتي من كتاب اللَّه و سنّة رسوله ، أرأيتم لو أمرت بمقام ابراهيم فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول اللَّه و رددت فدك إلى ذريّة فاطمة و رددت صاع رسول اللَّه كما كان و أمضيت قطائع أقطعها النبي لأقوام لم تمض لهم و لم تنفذ و رددت دار جعفر إلى ورثته و هدمتها من المسجد و رددت قضايا من الجور قضي بها و نزعت نساء تحت رجال بغير حق فرددتهن إلى أزواجهن و استقبلت بهن الحكم ( في الفروج و الأحكام ) و سبيت ذراري بني تغلب و رددت ما قسم من أرض خيبر و محيت دواوين العطاء و أعطيت كما كان النبي يعطي بالسوية و لم أجعلها دولة بين الأغنياء و ألقيت المساحة و سويت بين المناكح و أنفذت خمس الرسول كما أنزل اللَّه عز و جل و فرضه و رددته إلى ما كان عليه و سددت ما فتح من الأبواب و فتحت ما سد منه و حرمت المسح على الخفين و حددت على النبيذ و أمرت باحلال المتعتين و أمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات و ألزمت الناس الجهر ببسم اللَّه الرحمن الرحيم و أخرجت من ادخل مع رسول اللَّه في مسجده ممن كان رسول اللَّه أخرجه و أدخلت من اخرج بعد رسول اللَّه و حملت الناس على حكم القرآن ( في ) الطلاق على السنّة و أخذت الصدقات على أصنافها و حدودها و رددت الوضوء و الغسل و الصلاة إلى مواقيتها و شرائعها و حدودها و رددت أهل نجران إلى مواضعهم و رددت سبايا فارس و سائر الامم إلى كتاب اللَّه و سنّة نبيّه ، إذن لتفرّقوا عني ، و اللَّه لقد أمرت الناس ألا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة و أعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي : يا أهل الاسلام غيّرت سنّة عمر نهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعا ، و لقد خفت أن

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

في حياته التالية وهى آخرته.

لكنّ البرهم لمّا كان ذاتا مطلقة محيطا بكلّ شئ غير محاط لشئ كان أعلى وأجلّ من أن يعرفه الإنسان إلّا بنوع من نفى النقائص أو يناله بعبادة أو قربان فمن الواجب علينا أن نتقرّب بالعبادة إلى أوليائه وأقوياء خلقه حتّى يكونوا شفعاء لنا عنده، وهؤلاء هم الآلهة الّذين يعبدون من دون الله بعبادة أصنامهم، وهم على كثرتهم إمّا من الملائكة أو من الجنّ أو من أرواح المكمّلين من البراهمة، وإنّما يعبد الجنّ خوفاً من شرّهم، وغيرهم طمعا في رحمتهم وخوفا من سخطهم ومنهم الأزواج والبنون والبنات لله تعالى.

فهذه جمل ما تتضمّنه البرهميّة ويعلّمه علماء المذهب من البراهمة.

لكنّ الّذى يتحصّل من (اُوبانيشاد)(١) وهو القسم الرابع من كتاب (ويدا) المقدّس ربّما لم يوافق ما تقدّم من كلّيّات عقائدهم وإن أوّله علماء المذهب من البراهمة.

فإنّ الباحث الناقد يجد أنّ رسائل (اُوبانيشاد) المعلّمة للمعارف الإلهيّة وإن كانت تصف العالم الاُلوهىّ والشؤون المتعلّقة به من الأسماء والصفات والأفعال من إبداء وإعادة وخلق ورزق وإحياء وإماتة وغير ذلك بما يوصف به الاُمور الجسمانيّة المادّيّة كالانقسام والتبعّض والسكون والحركة والانتقال والحلول والاتّحاد والعظم والصغر وسائر الأحوال الجسمانيّة المادّيّة إلّا أنّها تصرّح في مواضع منها أنّ برهم(٢) ذات مطلقة متعالية من أن يحيط به حدّ له الأسماء الحسنى والصفات العليا من حياة وعلم وقدرة، منزّه عن نعوت النقص وأعراض المادّة، والجسم ليس كمثله شئ.

____________________

(١) اُوبانيشاد كالخاتمة لكتب (ويدا) المقدّسة وهى رسائل متفرّقة مأثورة من كبار رجال الدين من عرفائهم القدماء الاقدمين تحتوى جمل ما حصلوه من المعارف الإلهيّة بالكشف ويعتبرها البراهمة وحيّاً سماويّاً.

(٢) هذا كثير الورود يعثر عليه الراجع في أغلب فصول اُوبانيشاد.

٣٠١

وتصرّح(١) بأنّه تعالى أحدىّ الذات لم يولد من شئ ولم يلد شيئاً وليس له كفو ومثل البتّة.

وتصرّح(٢) بأنّ الحقّ أن لا يعبد غيره تعالى ولا يتقرّب إلى غيره بقربان بل الحرىّ بالعبادة هو وحده لا شريك له.

وتصرّح(٣) كثيراً بالقيامة وأنّه الأجل الّذى ينتهى إليه الخلقة، وتصف ثواب الأعمال وعقابها بعد الموت بما لا يأبى الانطباق على البرزخ من دون أن يتعيّن حمله على التناسخ.

ولا خبر في هذه الأبحاث الإلهيّة الموردة فيها عن الأوثان والأصنام وتوجيه العبادات وتقديم القرابين إليها.

وهذه الّتى نقلناها من (اُوبانيشاد) - وما تركناه أكثر - حقائق سامية ومعارف حقّة تطمئنّ إليها الفطرة الإنسانيّة السليمة، وهى - كما ترى - تنفى جميع اُصول الوثنيّة الموردة في أوّل البحث.

والّذى يهدى إليه عميق النظر أنّها كانت حقائق عالية كشفها آحاد من أهل ولاية الله ثمّ أخبروا بما وجدوا بعض تلامذتهم الآخذين منهم غير أنّهم تكلّموا غالبا بالرمز واستعملوا في تعاليمهم الأمثال.

ثمّ جعل ما اُخذ من هؤلاء أساساً تبتنى عليه سنّة الحياة الّتى هي الدين المجتمع عليه عامّة الناس، وهى معارف دقيقة لا يحتملها إلّا الآحاد من أهل المعرفة لارتفاع سطحها عن الحسّ والخيال للّذين هما حظّ العامّة من الإدراك وكمال صعوبة إدراكها على العقول الراجلة غير المتدرّبة في المعارف الحقّة.

____________________

(١) ( لم يولد منه شئ ولم يتولد من شئ وليس له كفوا أحد ) اُوبانيشاد (شيت استر) ادهيا السادس آية ٨ ( السر الأكبر ).

(٢) قال شبت استر: ( اعمل الصالحات لتلك الذات النورانيّة إلى أي ملك اقدم القربان وأترك تلك الذات الظاهرة؟ ) اُوبانيشاد شيت استر. ادهيا الرابع آية ١٣.

(٣) وهذا كثير الورود في فصول اُوبانيشاد يعثر عليه المراجع.

٣٠٢

واختصاص نيلها بالأقلّين من الناس وحرمان الأكثرين من ذلك وهى دين إنسانيّ أوّل المحذور فإنّ الفطرة أنشأت العالم الإنسانيّ مغروزة على الاجتماع المدنىّ، وانفصال بعضهم عن بعض في سنّة الحياة وهى الدين إلغاء لسنّة الفطرة وطريقة الخلقة.

على أنّ في ذلك تركا لطريق العقل وهو أحد الطرق الثلاث: الوحى والكشف والعقل، وأعمّها وأهمّها بالنظر إلى حياة الإنسان الدنيويّة فالوحي لا يناله إلّا أهل العصمة من الأنبياء المكرمين، والكشف لا يكرم به إلّا الآحاد من أهل الإخلاص واليقين، الناس حتّى أهل الوحى والكشف في حاجة مبرمة إلى تعاطى الحجّة العقليّة في جميع شؤون الحياة الدنيويّة ولا غنى لها عن ذلك، وفي إهمال هذا الطريق تسليط التقليد الإجباريّ على جميع شؤن المجتمع الحيويّة من اعتقادات وأخلاق وأعمال، وفي ذلك سقوط الإنسانيّة.

على أنّ في ذلك إنفاذاً لسنّة الاستعباد في المجتمع الإنسانيّ ويشهد بذلك التجارب التاريخيّ المديد في الاُمم البشريّة الّتى عاشت في دين الوثنيّة أو جرت فيهم سنن الاستعباد باتّخاذ أرباب من دون الله.

٢ - سريان هذه المحاذير إلى سائر الأديان:

الأديان العامّة الاُخر على ما فيها من القول بتوحيد الاُلوهيّة لم تسلم من شرك العبادة فساقهم ذلك إلى الابتلاء بعين ما ابتليت به الوثنيّة البرهميّة من المحاذير الّتى أهمّها الثلاثة المتقدّمة.

أمّا البوذيّة والصابئة فذلك فيهم ظاهر والتاريخ يشهد بذلك، وقد تقدّم شئ ممّا يتعلّق بعقائدهم وأعمالهم.

وأمّا المجوس فهم يوحّدون (أهورامزدا) بالاُلوهيّة لكنّهم يخضعون بالتقديس ليزدان وأهريمن والملائكة الموكّلين بشؤون الربوبيّة وللشمس والنار وغير ذلك، والتاريخ يقصّ ما كانت تجرى فيهم من سنّة الاستعباد واختلاف الطبقات والتدبّر والاعتبار يقضى أنّه إنّما تسرّب ذلك كلّه إليهم من ناحية تحريف الدين

٣٠٣

الأصيل، وقد ورد عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم:( أنّه كان لهم نبىّ فقتلوه وكتاب فأحرقوه) .

وأمّا اليهود فالقرآن يقصّ كثيراً من أعمالهم وتحريفهم كتاب الله واتّخاذهم العلماء أرباباً من دون الله، وما ابتلاهم الله به من انتكاس الفطرة ورداءة السليقة.

وأمّا النصارى فقد فصّلنا القول فيما انحرفوا فيه من النظر والعمل في الجزء الثالث من الكتاب فراجع وإن شئت فطبّق مفتتح إنجيل يوحنّا ورسائل بولس على سائر الأناجيل وتمّمه بمراجعة تاريخ الكنيسة فالكلام في ذلك طويل.

فالبحث العميق في ذلك كلّه ينتج أنّ المصائب العامّة في المجتمعات الدينيّة في العالم الإنسانيّ من مواريث الوثنيّة الاُولى الّتى أخذت المعارف الإلهيّة والحقائق العالية الحقّة مكشوفة القناع مهتوكة الستر فجعلتها أساس السنن الدينيّة، وحملتها على الأفهام العامّة الّتى لا تأنس إلّا بالحسّ والمحسوس فأنتج ذلك ما أنتج.

٣ - إصلاح الاسلام لهذه المفاسد:

أمّا الإسلام فإنّه أصلح هذه المفاسد إذ قلب هذه المعارف العالية في قالب البيان الساذج الّذى يصلح لهضم الأفهام الساذجة والعقول العاديّة فصارت تلامسها من وراء حجاب وتتناولها ملفوفة محفوفة، وهذا هو الّذى يصلح به حال العامّة وأمّا الخاصّة فإنّهم ينالونها مسفرة مكشوفة في جمالها الرائع وحسنها البديع آمنين مطمئنّين وهم في زمرة الّذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن اُولئك رفيقا، قال الله تعالى:( وَالْكِتَابِ الْمُبِين إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف: ٤، وقال:( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الواقعة: ٧٩، وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّا معاشر الأنبياء اُمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم) .

وعالج غائلة الشرك والوثنيّة في مرحلة التوحيد بنفى الاستقلال في الذات والصفات عن كلّ شئ إلّا الله سبحانه فهو تعالى القيّوم على كلّ شئ، وركز الأفهام في معرفة الاُلوهيّة بين التشبيه والتنزيه فوصفه تعالى بأنّ له حياة لكن لا كحياتنا، وعلما لا كعلمنا، وقدرة لا كقدرتنا وسمعا لا كسمعنا، وبصرا

٣٠٤

لا كبصرنا، وبالجملة ليس كمثله شئ وأنّه أكبر من أن يوصف، وأمر الناس مع ذلك أن لا يقولوا في ذلك قولا إلّا عن علم، ولا يركنوا إلى اعتقاد إلّا عن حجّة عقليّة يهضمها عقولهم وأفهامهم.

فوفّق بذلك أوّلا لعرض الدين على العامّة والخاصّة شرعاً سواء، وثانياً أن استعمل العقل السليم من غير أن يترك هذه الموهبة الإلهيّة سدى لا ينتفع بها، وثالثاً أن قرّب بين الطبقات المختلفة في المجتمع الإنسانيّ غاية ما يمكن فيها من التقريب من غير أن ينعم على هذا ويحرم ذاك أو يقدّم واحداً ويؤخّر آخر قال تعالى:( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) الأنبياء: ٩٢ وقال:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ) الحجرات: ١٣.

وهذا إجمال من القول يمكنك أن تعثر على تفصيل القول في أطرافه في أبحاث متفرّقة تقدّمت في هذا الكتاب والله المستعان.

٤ - إشكال الاستشفاع والتبرّك في الإسلام : ربّما يظنّ أنّ ما ورد في الأدعية من الاستشفاع بالنبيّ و آله المعصومين صلوات الله عليهم ومسألته تعالى بحقّهم وزيارة قبورهم وتقبيلها والتبرّك بتربتهم وتعظيم آثارهم من الشرك المنهىّ عنه وهو الشرك الوثنيّ محتجّا بأنّ هذا النوع من التوجّه العباديّ فيه إعطاء تأثير ربوبيّ لغيره تعالى وهو شرك وأصحاب الأوثان إنّما أشركوا لقولهم في أوثانهم: إنّ هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وقولهم: إنّما نعبدهم ليقرّبونا إلى الله زلفى، ولا فرق في عبادة غير الله سبحانه بين أن يكون ذلك الغير نبيّا أو وليّا أو جبّارا من الجبابرة أو غيرهم فالجميع من الشرك المنهىّ عنه.

وقد فاتهم أوّلا: أنّ ثبوت التأثير سواء كان مادّيّا أو غير مادّىّ في غيره تعالى ضروريّ لا سبيل إلى إنكاره، وقد أسند تعالى في كلامه التأثير بجميع أنواعه إلى غيره، ونفى التأثير عن غيره تعالى مطلقا يستلزم إبطال قانون العلّيّة والمعلوليّة العامّ الّذى هو الركن في جميع أدلّة التوحيد، وفيه هدم بنيان التوحيد. نعم المنفىّ من التأثير عن غيره تعالى هو الاستقلال في التأثير ولا كلام لأحد فيه، وأمّا نفى

٣٠٥

مطلق التأثير ففيه إنكار بديهة العقل والخروج عن الفطرة الإنسانيّة.

ومن يستشفع بأهل الشفاعة الّذين ذكرهم الله في مثل قوله:( وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف: ٨٦ وقوله:( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) الأنبياء: ٢٨.

أو يسأل الله بجاههم ويقسمه بحقّهم الّذى جعله لهم عليه بمثل قوله مطلقا:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) الصافّات: ١٧٣ وقوله:( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ) المؤمن: ٥١.

أو يعظّمهم ويظهر حبّهم بزيارة قبورهم وتقبيلها والتبرّك بتربتهم بما أنّهم آيات الله وشعائره تمسّكا بمثل قوله تعالى:( وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ) الحجّ: ٣٢، وآية القربى وغير ذلك من كتاب وسنّة.

فهو في جميع ذلك يبتغى بهم إلى الله الوسيلة وقد قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) المائدة: ٣٥ فشرع به ابتغاء الوسيلة، وجعلهم بما شرع من حبّهم وتعزيرهم وتعظيمهم وسائل إليه، ولا معنى لإيجاب حبّ شئ وتعظيمه وتحريم آثار ذلك فلا مانع من التقرّب إلى الله بحبّهم وتعظيم أمرهم وما لذلك من الآثار إذا كان على وجه التوسّل والاستشفاع من غير أن يعطوا استقلال التأثير والعبادة البتّة.

وثانياً: أنّه فاتهم الفرق بين أن يعبد غير الله رجاء أن يشفع عند الله أو يقرّب إلى الله، وبين أن يعبدالله وحده مع الاستشفاع والتقرّب بهم إليه ففى الصورة الاُولى إعطاء الاستقلال وإخلاص العبادة لغيره تعالى وهو الشرك في العبوديّة والعبادة، وفي الصورة الثانية يتمحّض الاستقلال لله تعالى ويختصّ العبادة به وحده لا شريك له.

وإنّما ذمّ تعالى المشركين لقولهم:( إنّما نعبدهم ليقرّبونا إلى الله زلفى) حيث أعطوهم الاستقلال وقصدوهم بالعبادة دون الله سبحانه، ولو قالوا: إنّما نعبدالله وحده ونرجو مع ذلك أن يشفع لنا ملائكته أو رسله وأولياؤه بإذنه أو نتوسّل

٣٠٦

إلى الله بتعظيم شعائره وحبّ أوليائه، لما كفروا بذلك بل عادت شركاؤهم كمثل الكعبة في الإسلام هي وجهة وليست بمعبودة، وإنّما يعبد بالتوجّه إليها الله.

وليت شعرى ما ذا يقول هؤلاء في الحجر الأسود وما شرع في الإسلام من استلامه وتقبيله؟ وكذا في الكعبة؟ فهل ذلك كلّه من الشرك المستثنى من حكم الحرمة؟ فالحكم حكم ضروريّ عقليّ لا يقبل تخصّصا ولا استثناء، أو أنّ ذلك من عبادة الله محضاً وللحجر حكم الطريق والجهة، وحينئذ فما الفرق بينه وبين غيره إذا لم يكن تعظيمه على وجه إعطاء الاستقلال وتمحيض العبادة، ومطلقات تعظيم شعائر الله وتعزير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحبّه ومودّته وحبّ أهل بيته ومودّتهم وغير ذلك في محلّها.

٣٠٧

( سورة هود آية ٥٠ - ٦٠)

وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ( ٥٠) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ( ٥١) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ( ٥٢) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ( ٥٣) إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ( ٥٤) مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ( ٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ( ٥٦) فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ( ٥٧) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ( ٥٨) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ( ٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ( ٦٠)

( بيان)

تذكر الآيات قصّة هود النبيّ وقومه وهم عاد الاُولى، وهوعليه‌السلام ، أوّل نبىّ يذكره الله تعالى في كتابه بعد نوحعليه‌السلام ، ويشكر مسعاه في إقامة الدعوة الحقّة والانتهاض على الوثنيّة، ويعقب ذكر قوم نوح بذكر قوم هود، قال تعالى في عدّة

٣٠٨

مواضع من كلامه:( قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ) .

قوله تعالى: ( وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً ) كان أخاهم في النسب لكونه منهم وأفراد القبيلة يسمّون إخوة لانتسابهم جميعاً إلى أب القبيلة، والجملة معطوفة على قوله تعالى سابقاً:( نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ ) والتقدير:( ولقد أرسلنا وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً ) ولعلّ حذف الفعل هو الموجب لتقديم الظرف على المفعول في المعطوف على خلاف المعطوف عليه حيث قيل:( وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ ) الخ، ولم يقل: وهودا إلى عاد مثلا كما قال:( نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ ) لأنّ دلالة الظرف أعنى:( َإِلَىٰ عَادٍ ) على تقدير الإرسال أظهر وأوضح.

قوله تعالى: ( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ) الكلام وارد مورد الجواب كأنّ السامع لمّا سمع قوله:( وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً ) قال: فماذا قال لهم؟ فقيل:( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ) الخ، ولذا جئ بالفصل من غير عطف.

وقوله:( اعْبُدُوا اللهَ ) في مقام الحصر أي اعبدوه ولا تعبدوا غيره من آلهة اتّخذتموها أرباباً من دون الله تعبدونها لتكون لكم شفعاء عند الله من غير أن تعبدوه تعالى. والدليل على الحصر المذكور قوله بعد:( مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ) حيث يدلّ على أنّهم كانوا قد اتّخذوا آلهة يعبدونها افتراء على الله بالشركة والشفاعة.

قوله تعالى: ( يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ) إلى آخر الآية، قال في المجمع الفطر الشقّ عن أمر الله كما ينفطر الورق عن الشجر، ومنه فطر الله الخلق لأنّه بمنزلة ما شقّ منه فظهر. انتهى، وقال الراغب: أصل الفطر الشقّ طولا يقال: فطر فلان كذا فطرا وأفطر هو فطورا وانفطر انفطارا - إلى أن قال - وفطرالله الخلق وهو إيجاد الشئ وإبداعه على هيئة مترشّحة لفعل من الأفعال فقوله: فطرة الله الّتى فطر الناس عليها إشارة منه تعالى إلى ما فطر أي أبدع وركز في الناس من معرفته، وفطرة الله هي ما ركز فيه من قوّته على معرفه الإيمان وهو المشار

٣٠٩

إليه بقوله: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله. انتهى.

والظاهر أنّ الفطر هو الإيجاد عن عدم بحت، والخصوصيّة المفهومة من مثل قوله:( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) إنّما نشأت من بناء النوع الّذى تشتمل عليه فطرة وهى فعلة، وعلى هذا فتفسير بعضهم الفطرة بالخلقة بعيد من الصواب، وإنّما الخلق هو إيجاد الصورة عن مادة على طريق جمع الأجزاء، قال تعالى:( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) المائدة: ١١٠.

والكلام مسوق لرفع التهمة والعبث والمعنى يا قوم لا أسألكم على ما أدعوكم أجراً وجزاء حتّى تتّهموني أنّى أستدرّ به نفعاً يعود إلىّ وإن أضرّ بكم، ولست أدعوكم من غير جزاء مطلوب حتّى يكون عبثا من الفعل بل إنّما أطلب به جزاء من الله الّذى أوجدني وأبدعنى أفلا تعقلون عنّى ما أقوله لكم حتّى يتّضح لكم أنّى ناصح لكم في دعوتي، ما اُريد إلّا أن أحملكم على الحقّ.

قوله تعالى: ( وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ) إلى آخر الآية تقدّم الكلام في معنى قوله:( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) في صدر السورة.

وقوله:( يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ) في موقع الجزاء لقوله:( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ) الخ، أي إن تستغفروه وتتوبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً، والمراد بالسماء السحاب فإنّ كلّ ما علا وأظلّ فهو سماء، وقيل المطر وهو شائع في الاستعمال، والمدرار مبالغة من الدرّ، وأصل الدرّ اللبن ثمّ استعير للمطر ولكلّ فائدة ونفع فارسال السماء مدراراً إرسال سحب تمطر أمطاراً متتابعة نافعة تحيى بها الأرض وينبت الزرع والعشب، وتنضر بها الجنّات والبساتين.

وقوله:( وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ ) قيل المراد بها زيادة قوّة الإيمان على قوّة الأبدان وقد كان القوم اُولى قوّة وشدّة في أبدانهم ولو أنّهم آمنوا انضافت قوّة الإيمان على قوّة أبدانهم، وقيل المراد بها قوّة الأبدان كما قال نوح لقومه:( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَ

٣١٠

بَنِينَ ) نوح: ١٢ ولعلّ التعميم أولى.

وقوله:( وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ) بمنزلة التفسير لقوله:( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) أي إنّ عبادتكم لما اتّخذتموه من الآلهة دون الله إجرام منكم ومعصية توجب نزول السخط الإلهىّ عليكم فاستغفروا الله من إجرامكم وارجعوا إليه بالإيمان حتّى يرحمكم بإرسال سحب هاطلة ممطرة وزيادة قوّة إلى قوّتكم.

وفي الآية( أوّلاً ) إشعار أو دلالة على أنّهم كانوا مبتلين بإمساك السماء والجدب والسنة كما ربّما أومأ إليه قوله:( يُرْسِلِ السَّمَاءَ ) وكذا قولهم على ما حكاه الله تعالى في موضع آخر:( فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) الأحقاف: ٢٤.

وثانياً: أنّ هناك ارتباطا تامّا بين الأعمال الإنسانيّة وبين الحوادث الكونيّة الّتى تمسّه فالأعمال الصالحة توجب فيضان الخيرات ونزول البركات، والأعمال الطالحة تستدعى تتابع البلايا والمحن، وتجلب النقمة والشقوة والهلكة كما يشير إليه قوله تعالى:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ) الآية الأعراف: ٩٦، وقد تقدّم تفصيل الكلام فيه في بيان الآيات ٩٤ - ١٠٢ من سورة الأعراف في الجزء الثامن من الكتاب، وفي أحكام الأعمال في الجزء الثاني منه.

قوله تعالى: ( قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ) سألهم هود في قوله:( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) إلى آخر الآيات الثلاث أمرين هما أن يتركوا آلهتهم ويعودوا إلى عبادة الله وحده وأن يؤمنوا به ويطيعوه فيما ينصح لهم فردّوا عليه القول بما في هذه الآية إجمالاً وتفصيلاً:

أمّا إجمالاً فبقولهم:( مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ) يعنون أنّ دعوتك خالية عن الحجّة والآية المعجزة ولا موجب للإصغاء إلى ما هذا شأنه.

وأمّا تفصيلاً فقد أجابوا عن دعوته إيّاهم إلى رفض الشركاء بقولهم:( وَمَا

٣١١

نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ ) وعن دعوته إيّاهم إلى الإيمان والطاعة بقولهم:( وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ) فآيسوه في كلتا المسألتين.

ثمّ ذكروا له ما ارتاؤا فيه من الرأى لييأس من إجابتهم بالمرّة فقالوا:( إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) والاعتراء الاعتراض والإصابة يقولون: إنّما نعتقد في أمرك أنّ بعض آلهتنا أصابك بسوء كالخبل والجنون لشتمك إيّاها وذكرك لها بسوء فذهب بذلك عقلك فلا يعبأ بما تفوّهت به في صورة الدعوة.

قوله تعالى: ( قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ ) أجاب هودعليه‌السلام عن قولهم باظهار البراءة من شركائهم من دون الله ثمّ التحدّي عليهم بأن يكيدوا به جميعاً ولا ينظروه.

فقوله:( إنّى برئ ممّا تشركون من دونه) إنشاء وليس بإخبار كما هو المناسب لمقام التبرّى، ولا ينافى ذلك كونه بريئا من أوّل أمره فإنّ التبرّز بالبراءة لا ينافى تحقّقها من قبل، وقوله:( فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ ) أمر ونهى تعجيزيّان.

وإنّما أجابعليه‌السلام بما أجاب ليشاهد القوم من آلهتهم أنّها لا تمسّهعليه‌السلام بسوء مع تبرّزه بالبراءة، ولو كانت آلهة ذات علم وقدرة لقهرته وانتقمت منه لنفسها كما ادّعوا أنّ بعض آلهتهم اعتراه بسوء وهذه حجّه بيّنة على أنّها ليست بآلهة وعلى أنّها لم تعتره بسوء كما ادّعوه، ثمّ يشاهدوا من أنفسهم أنّهم لا يقدرون عليه بقتل أو تنكيل مع كونهم ذوى شدّة وقوّة لا يعادلهم غيرهم في الشدّة والبطش، ولو لا أنّه نبىّ من عند الله صادق في ما يقوله مصون من عند ربّه لقدروا عليه بكلّ ما أرادوه من عذاب أو دفع.

ومن هنا يظهر وجه إشهادهعليه‌السلام في تبرّيه ربّه سبحانه وقومه أمّا إشهاده الله فليكون تبرّيه على حقيقته وعن ظهر القلب من غير تزويق ونفاق، وأمّا إشهاده إيّاهم فليعلموا به ثمّ يشاهدوا ما يجرى عليه الأمر من سكوت آلهتهم وعجز أنفسهم من الانتقام منه ومن تنكيله.

٣١٢

وظهر أيضاً صحّة ما احتمله بعضهم أنّ هذا التعجيز هو معجزة هودعليه‌السلام ذلك أنّ ظاهر الجواب أن يقطع به ما ذكر من الردّ في صورة الحجّة، وفيها قولهم:( مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ) ومن المستبعد جدّاً أن يهمل النبيّ هودعليه‌السلام في دعوته وحجّته التعرّض للجواب عنه مع كون هذا التحدّي والتعجيز صالحاً في نفسه لأن يتّخذ آية معجزة كما أنّ التبرّى من الشركاء من دون الله صالح لأن يكشف عن عدم كونهم آلهة من دون الله وعن أنّ بعض آلهتهم لم يعتره بسوء.

فالحقّ أنّ قوله:( إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا ) إلى آخر الآيتين مشتمل على حجّة عقليّة على بطلان اُلوهيّة الشركاء، وعلى آية معجزة لصحّة رسالة هودعليه‌السلام .

وفي قوله( جَمِيعًا ) إشارة إلى أنّ مراده تعجيزهم وتعجيز آلهتهم جميعاً فيكون أتمّ دلالة على كونه على الحقّ وكونهم على الباطل.

قوله تعالى: ( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ) إلى آخر الآية. لمّا كان الأمر الّذى في صورة التعجيز صالحا لأن يكون بداعي إظهار عجز الخصم وعدم قدرته، وصالحاً لأن يصدر بداعي أنّ الآمر لا يخاف الخصم وإن كان الخصم قادراً على الإتيان بما يؤمر به لكنّه غير قادر على تخويفه وإكراهه على الطاعة وحمله على ما يريد منه كقول السحرة لفرعون:( فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) طه: ٧٢.

وكان قوله:( فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ ) محتملا لأن يكون المراد به إظهار أنّه لا يخافهم وإن فعلوا به ما فعلوا، عقّبه لدفع هذا الاحتمال بقوله:( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ) فذكر أنّه متوكّل في أمره على الله الّذى هو يدبّر أمره وأمرهم ثمّ عقّبه بقوله:( مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) فذكر أنّه ناجح في توكّله هذا فإنّ الله محيط بهم جميعاً قاهر لهم يحكم على سنّة واحدة هي نصرة الحقّ وإظهاره على الباطل إذا تقابلا وتغالبا.

فتبرّيه من أصنامهم وتعجيزهم على ما هم عليه من الحال بقوله:( فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ ) ثمّ لبثه بينهم في عافية وسلامة لا يمسّونه بسوء ولا يستطيعون

٣١٣

أن ينالوه بشرّ آية معجزة وحجّة سماويّة على أنّه رسول الله إليهم.

وقوله:( مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) الدابّة كلّ ما يدبّ في الأرض من أصناف الحيوان، والأخذ بالناصية كناية عن كمال السلطة ونهاية القدرة، وكونه تعالى على صراط مستقيم هو كون سنّته في الخليقة واحدة ثابتة غير متغيّرة وهو تدبير الاُمور على منهاج العدل والحكمة فهو يحقّ الحقّ ويبطل الباطل إذا تعارضا.

فالمعنى إنّى توكّلت على الله ربّى وربّكم في نجاح حجّتى الّتى ألقيتها إليكم وهو التبرّز بالبراءة من آلهتكم وأنّكم وآلهتكم لا تضرّوننى شيئاً فإنّه المالك ذو السلطنة علىّ وعليكم وعلى كلّ دابّة، وسنّته العادلة ثابتة غير متغيّرة فسوف ينصر دينه ويحفظني من شرّكم.

ولم يقل:( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ) على وزان قوله:( عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ) فإنّه في مقام الدعاء لنفسه على قومه يتوقّع أن يحفظه الله من شرّهم، وهو يأخذه تعالى ربّا بخلاف القوم فكان الأنسب أن يعدّه ربّا لنفسه ويستمسك برابطة العبوديّة الّتى بينه وبين ربّه حتّى ينجح طلبته، وهذا بخلاف مقام قوله:( تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ) فإنّه يريد هناك بيان عموم السلطة والاحاطة.

قوله تعالى: ( فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ) وهذه الجملة من كلامهعليه‌السلام ناظر إلى قولهم في آخر جدالهم:( إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) الدالّ على أنّهم قاطعون على أن لا يؤمنوا به ودائمون على الجحد، والمعنى إن تتولّوا وتعرضوا عن الإيمان بى والإطاعة لأمرى فقد أبلغتكم رسالة ربّى وتمّت عليكم الحجّة ولزمتكم البليّة.

قوله تعالى: ( وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) هذا وعيد وإخبار بالتبعة الّتى يستتبعها إجرامهم، فإنّه كان وعدهم إن يستغفروا الله ويتوبوا إليه أن يرسل السماء عليهم مدراراً ويزيد قوّة إلى قوّتهم، ونهاهم أن يتولّوا مجرمين ففيه العذاب الشديد.

٣١٤

وقوله:( وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ ) أي يجعل قوما غيركم خلفاء في الأرض مكانكم فإنّ الإنسان خليفة منه في الأرض كما قال تعالى:( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) البقرة: ٣٠، وقد كانعليه‌السلام بيّن لهم أنّهم خلفاء في الأرض من بعد قوم نوح كما قال تعالى حكاية عن قوله لقومه:( وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ) الآية، الأعراف: ٦٩.

وظاهر السياق أنّ الجملة الخبريّة معطوفة على اُخرى مقدّرة، والتقدير: وسيذهب بكم ربّى ويستخلف قوما غيركم على حدّ قوله:( إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ ) الأنعام: ١٣٣.

وقوله:( وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا ) ظاهر السياق أنّه تتمّة لما قبله أي لا تقدرون على إضراره بشئ من الفوت وغيره إن أراد أن يهلككم ولا أنّ تعذيبكم وإهلاككم يفوّت منه شيئاً ممّا يريده فإنّ ربّى على كلّ شئ حفيظ لا يعزب عن علمه عازب ولا يفوت من قدرته فائت، وللمفسّرين في الآية وجوه اُخر بعيدة عن الصواب أعرضنا عنها.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ) المراد بمجئ الأمر نزول العذاب وبوجه أدقّ صدور الأمر الإلهىّ الّذى يستتبع القضاء الفاصل بين الرسول وبين قومه كما قال تعالى:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ) المؤمن: ٧٨.

وقوله:( بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ) الظاهر أنّ المراد بها الرحمة الخاصّة بالمؤمنين المستوجبة نصرهم في دينهم وإنجاءهم من شمول الغضب الإلهىّ وعذاب الاستئصال، قال تعالى:( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ) المؤمن: ٥١.

وقوله:( وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ) ظاهر السياق أنّه العذاب الّذى شمل الكفّار من القوم فيكون من قبيل عطف التفسير بالنسبة إلى ما قبله، وقيل: المراد به عذاب الآخرة وليس بشئ.

٣١٥

قوله تعالى: ( وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) الآية وما بعدها تلخيص بعد تلخيص لقصّة عاد فأوّل التلخيصين قوله:( وَتِلْكَ عَادٌ - إلى قوله -وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ) يذكر فيه أنّهم جحدوا بآيات ربّهم من الحكمة والموعظة ولاية المعجزة الّتى أبانت لهم طريق الرشد وميّزت لهم الحقّ من الباطل فجحدوا بها بعد ما جاءهم من العلم.

وعصوا رسل ربّهم وهم هود ومن قبله من الرسل فإنّ عصيان الواحد منهم عصيان للجميع فكلّهم يدعون إلى دين واحد فهم إنّما عصوا شخص هود وعصوا بعصيانه سائر رسل الله وهو ظاهر قوله في موضع آخر:( كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ ) الشعراء: ١٢٤. ويشعر به أيضاً قوله:( وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ) الأحقاف: ٢١، ومن الممكن أن يكون لهم رسل آخرون بعثوا إليهم فيما بين هود ونوحعليهما‌السلام لم يذكروا في الكتاب العزيز لكن سياق الآيات لا يساعد على ذلك.

واتّبعوا أمر كلّ جبار عنيد من جبابرتهم فألهاهم ذلك عن اتّباع هود وما كان يدعو إليه، والجبّار العظيم الّذى يقهر الناس بإرادته ويكرههم على ما أراد والعنيد الكثير العناد الّذى لا يقبل الحقّ، فهذا ملخّص حالهم وهو الجحد بالآيات وعصيان الرسل وطاعة الجبابرة.

ثمّ ذكر الله وبال أمرهم بقوله:( وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ) أي وأتبعهم الله في هذه الدنيا لعنة وإبعادا من الرحمة، ومصداق هذا اللعن العذاب الّذى عقّبهم فلحق بهم، أو الآثام والسيّئات الّتى تكتب عليهم ما دامت الدنيا فإنّهم سنّوا سنّة الإشراك والكفر لمن بعدهم، قال تعالى:( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) يس: ١٢.

وقيل: المعنى لحقت بهم لعنة في هذه الدنيا فكان كلّ من علم بحالهم من بعدهم، ومن أدرك آثارهم، وكلّ من بلّغهم الرسل من بعدهم خبرهم يلعنونهم.

وأمّا اللعنة يوم القيامة فمصداقه العذاب الخالد الّذى يلحق بهم يومئذ فإنّ

٣١٦

يوم القيامة يوم جزاء لا غير.

وفي تعقيب قوله في الآية:( وَأُتْبِعُوا ) بقوله:( وَأُتْبِعُوا ) لطف ظاهر.

قوله تعالى: ( أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ) أي كفروا بربّهم فهو منصوب بنزع الخافض وهذا هو التلخيص الثاني الّذى أشرنا إليه لخصّ به التلخيص الأوّل فقوله:( أَلَا إِنَّ عَادًا ) الخ، يحاذي به وصف حالهم المذكور في قوله:( وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا ) الخ، وقوله:( أَلَا بُعْدًا لِّعَادٍ ) الخ، يحاذي به قوله:( وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ) الخ.

ويتأيّد من هذه الجملة أنّ المراد باللعنة السابقة اللعنة الإلهيّة دون لعن الناس، والأنسب به أحد الوجهين الأوّلين من الوجوه الثلاثة السابقة وخاصّة الوجه الثاني دون الوجه الثالث.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ عن أبى عمرو السعدىّ قال: قال علىّ بن أبى طالبعليه‌السلام في قوله:( إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) يعنى أنّه على حقّ يجزى بالإحسان إحساناً، وبالسيّئ سيّئاً، ويعفو عمّن يشاء ويغفر، سبحانه وتعالى.

أقول: وقد تقدّم توضيحه، وقد ورد في الرواية عنهمعليهم‌السلام : أنّ عادا كانت بلادهم في البادية، وكان لهم زرع ونخيل كثيرة، ولهم أعمار طويلة وأجساد طويلة فعبدوا الأصنام، وبعث الله إليهم هوداً يدعوهم إلى الإسلام وخلع الأنداد فأبوا ولم يؤمنوا بهود وآذوه فكفّت عنهم السماء سبع سنين حتّى قحطوا. الحديث.

وروى إمساك السماء عنهم من طريق أهل السنّة عن الضحّاك أيضاً قال: اُمسك عن عاد القطر ثلاث سنين فقال لهم هود:( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ) فأبوا إلّا تماديا، وقد تقدّم أنّ الآيات لا تخلو من إشارة إليه.

واعلم أنّ الروايات في قصّة هود وعاد كثيرة إلّا أنّها تشتمل على اُمور لا

٣١٧

سبيل إلى تصحيحها من طريق الكتاب ولا إلى تأييدها بالاعتبار ولذلك طوينا ذكرها.

وورد أيضاً أخبار اُخر من طرق الشيعة وأهل السنّة في وصف جنّة عاد الّتى تنسب إلى شدّاد الملك وهى المذكورة في قوله تعالى:( إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ) الفجر: ٨، وسيأتى الكلام عليها إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الفجر.

( كلام في قصّة هود)

١ - عاد قوم هود:

هؤلاء قوم من العرب من بشر ما قبل التاريخ كانوا يسكنون الجزيرة انقطعت أخبارهم وانمحت آثارهم لا يحفظ التاريخ من حياتهم إلّا أقاصيص لا يطمئنّ إليها وليس في التوراة الموجودة منهم ذكر.

والّذى يذكره القرآن الكريم من قصّتهم هو أنّ عادا - وربّما يسمّيهم عادا الاُولى (النجم: ٥٠) وفيه إشارة إلى أنّ هناك عادا ثانية - كانوا قوما يسكنون الأحقاف(١) من شبه جزيرة العرب (الاحقاف: ٢١) بعد قوم نوح (الاعراف: ٦٩).

كانت لهم أجساد طويلة (القمر: ٢٠، الحاقّة: ٧) وكانوا ذوى بسطة في الخلق (الاعراف: ٦٩) اُولى قوّة وبطش شديد (حم السجدة: ١٥، الشعراء: ١٣٠) وكان لهم تقدّم ورقىّ في المدينة والحضارة، لهم بلاد عامرة وأراض خصبة ذات جنّات ونخيل وزروع ومقام كريم (الشعراء وغيره)، وناهيك في رقيّهم وعظيم مدنيّتهم قوله تعالى في وصفهم:( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ) الفجر: ٨.

لم يزل القوم يتنعّمون بنعمة الله حتّى غيّروا ما بأنفسهم فتعرّقت فيهم الوثنيّة وبنوا بكلّ ريع آية يعبثون واتّخذوا مصانع لعلّهم يخلدون وأطاعوا طغاتهم المستكبرين فبعث الله إليهم أخاهم هودا يدعوهم إلى الحقّ ويرشدهم إلى أن يعبدوا

____________________

(١) الأحقاف جمع حقف وهو الرمل المعوج، والأحقاف المذكور في الكتاب العزيز واد بين عمان وأرض مهرة وقيل من عمان إلى حضر موت وهى رمال مشرقة على البحر بالشحر وقال الضحّاك: الأحقاف جبل بالشام (المراصد).

٣١٨

الله ويرفضوا الأوثان، ويعملوا بالعدل والرحمة (الشعراء: ١٣٠) فبالغ في وعظهم وبثّ النصيحة فيهم، وأنار الطريق وأوضح السبيل، وقطع عليهم العذر فقابلوه بالإباء والامتناع، وواجهوه بالجحد والإنكار ولم يؤمن به إلّا شرذمة منهم قليلون وأصرّ جمهورهم على البغى والعناد، ورموه بالسفه والجنون، وألحّوا عليه بأن ينزّل عليهم العذاب الّذى كان ينذرهم ويتوعّدهم به قال: إنّما العلم عند الله و اُبلّغكم ما اُرسلت به ولكنّي أراكم قوما تجهلون (الأحقاف: ٢٣).

فأنزل الله عليهم العذاب وأرسل إليهم الريح العقيم ما تذر من شئ أتت عليه إلّا جعلته كالرميم (الذاريات: ٤٢) ريحا صرصرا في أيّام نحسات سبع ليال وثمانية أيّام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنّهم أعجاز نخل خاوية (الحاقة: ٧) وكانت تنزع الناس كأنّهم أعجاز نخل منقعر (القمر: ٢٠).

وكانوا بادئ ما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم استبشروا وقالوا: عارض ممطرنا وقد أخطأوا بل كان هو الّذى استعجلوا به ريح فيها عذاب أليم تدمّر كلّ شئ بأمر ربّها فأصبحوا لا يرى إلّا مساكنهم (الأحقاف: ٢٥) فأهلكهم الله عن آخرهم وأنجى هودا والّذين آمنوا معه برحمة منه (هود: ٥٨).

٢ - شخصيّة هود المعنويّة:

وأمّا هودعليه‌السلام فهو من قوم عاد وثاني الأنبياء الّذين انتهضوا للدفاع عن الحقّ ودحض الوثنيّة ممّن ذكر الله قصّته وما قاساه من المحنة والأذى في جنب الله سبحانه، وأثنى عليه بما أثنى على رسله الكرام وأشركه بهم في جميل الذكرعليه سلام الله.

٣١٩

( سورة هود آية ٦١ - ٦٨)

وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ( ٦١) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ( ٦٢) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ( ٦٣) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ( ٦٤) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ( ٦٥) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ( ٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ( ٦٧) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِّثَمُودَ( ٦٨)

( بيان)

تذكر الآيات الكريمة قصّة صالح النبيّعليه‌السلام وقومه وهم ثمود، وهوعليه‌السلام ثالث الأنبياء القائمين بدعوة التوحيد الناهضين على الوثنيّة. دعا ثمود إلى التوحيد وتحمّل الأذى والمحنة في جنب الله حتّى قضى بينه وبين قومه بهلاكهم ونجاته ونجاة من معه من المؤمنين.

قوله تعالى: ( وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406