الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

الميزان في تفسير القرآن14%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 406

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114218 / تحميل: 6642
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

اشتمال مراتب القرآن على المقدّرات الحادثة في كلّ عام:

وقال: (المسألة الثامنة) في تفسير مفردات هذه الألفاظ، أمّا قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) (1) فقد قيل فيه: إنّه تعالى أنزل كلّية القرآن، يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتُدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ونسخة الحروب إلى جبرائيل، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا، وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، انتهى كلامه.

وقال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن: (في تفسير قوله تعالى: ( إنّا أَنْزَلْناهُ ) يعني القرآن، وإن لم يجرِ له ذكر في هذه السورة؛ لأنّ المعنى معلوم، والقرآن كلّه كالسورة الواحدة، وقد قال: ( شَهْرُ رَمَضانُ الَّذي اُنْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ ) ، وقال: ( حم وَالْكِتابِ الْمُبينِ إنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) (2) يريد: في ليلة القدر.

وقال الشعبي: المعنى إنّا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقيل: بل نزل به جبريل عليه‌السلام جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، إلى بيت العزّة، وأملاه جبريل على السَفَرة، ثمّ كان جبريل ينزّله على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نُجوماً نُجوماً، وكان بين أوّله وآخره ثلاث وعشرون سنة. قاله ابن عبّاس، وقد تقدّم في سورة البقرة.

وحكى الماوردي عن ابن عبّاس، قال: نزل القرآن في شهر رمضان وفي ليلة القدر، في ليلة مباركة جملة واحدة من عند اللَّه، من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجّمته السفرة الكرام الكاتبون على جبريل عشرين سنة، ونجّمه جبريل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عشرين سنة.

قال ابن العربي: وهذا باطل؛ ليس بين جبريل وبين اللَّه واسطة، ولا بين جبريل

____________________

1) سورة الدخان: 3.

2) سورة الدخان: 1 - 3.

٢٨١

ومحمّد عليهما‌السلام واسطة.

قوله تعالى: ( في لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، قال مجاهد: في ليلة الحكم، ( وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) ، قال ليلة الحكم. والمعنى ليلة التقدير، سمّيت بذلك لأنّ اللَّه تعالى يقدّر فيها ما يشاء من أمره، إلى مثلها من السنة القابلة، من أمر الموت والأجل والرزق وغيره، ويسلّمه إلى مدبّرات الأُمور، وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وجبريل عليهم‌السلام .

أُمّ الكتاب في القرآن متضمّنة لتقدير كلّ شي‏ء:

وقال: وعن ابن عبّاس، قال: يكتب من أمّ الكتاب ما يكون في السنة من رزق ومطر، وحياة وموت، حتّى الحاجّ. قال عكرمة: يكتب حجّاج بيت اللَّه تعالى في ليلة القدر بأسمائهم وأسماء آبائهم، ما يغادر منهم أحد ولا يزاد فيهم.

وقاله سعيد بن جُبير، وقد مضى في أوّل سورة الدخان هذا المعنى. وعن ابن عبّاس أيضاً: إنّ اللَّه تعالى يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلّمها إلى أربابها في ليلة القدر. وقيل: إنّما سمّيت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم: لفلان قدر، أي شرف ومنزلة) (1) .

ليلة القدر عوض للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآلهعليهم‌السلام عن غصب الخلافة:

وقال: (وفي الترمذي عن الحسن بن علي رضي اللَّه عنهما: أنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى بني أُمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت ( إنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) ، يعني نهراً في الجنّة، ونزلت ( إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ

____________________

1) تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن، ج20، ص129 - 130، طبعة القاهرة.

٢٨٢

أَلْفِ شَهْرٍ ) ، يملكها بعدك بنو أُمية. قال القاسم بن الفضل الحدّاني: فعددناها فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوماً ولا تنقص يوماً. قال: حديث غريب.

قوله تعالى: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ ) أي تهبط من كلّ سماء، ومن سدرة المنتهى، ومسكن جبريل على وسطها، فينزلون إلى الأرض ويؤمّنون على دعاء الناس إلى وقت طلوع الفجر، فذاك قوله تعالى ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ ) .

حقيقة الروح النازل ليلة القدر:

وقال: ( وَالرُّوحُ فِيها بِإذْنِ رَبِّهِمْ ) (1) ، أي جبرئيل عليه‌السلام ، وحكى القُشيري: أنّ الروح صنف من الملائكة جُعلوا حفظة على سائرهم، وأنّ الملائكة لا يرونهم كما لا نرى نحن الملائكة. وقال مقاتل: هم أشرف الملائكة وأقربهم من اللَّه تعالى.

وقيل: إنّهم جند من جند اللَّه عزّ وجلّ من غير الملائكة، رواه مجاهد عن ابن عبّاس مرفوعاً، ذكره الماوردي، وحكى القُشيري: قيل هم صنف من خلق اللَّه، يأكلون الطعام، ولهم أيدٍ وأرجل وليسوا ملائكة.

وقيل: (الروح) خلق عظيم يقوم صفّاً، والملائكة كلّهم صفّاً. وقيل: (الروح) الرحمة ينزل بها جبريل عليه‌السلام مع الملائكة في هذه الليلة على أهلها، دليله: ( يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (2) ، أي بالرحمة، (فِيها) أي في ليلة القدر، ( بِإذْنِ رَبِّهِمْ ) أي بأمره، ( مِن كُلِّ أَمْرٍ ) (3) أمر بكلّ أمر قدّره اللَّه وقضاه في تلك السنة إلى قابل.

وقيل عنه: إنّها رُفعت - يعني ليلة القدر - وإنّها إنّما كانت مرّة واحدة.

____________________

1) سورة القدر: 4.

2) سورة النحل: 2.

3) سورة القدر: 5.

٢٨٣

بقاء ليلة القدر في كلّ عام:

وقال: (والصحيح أنّها باقية... والجمهور على أنّها من كلّ عام من رمضان... وقال الفرّاء: لا يقدّر اللَّه في ليلة القدر إلاّ السعادة والنعم، ويقدّر في غيرها البلايا والنقم) (1) .

وقال الطبري في تفسيره، في ذيل سورة البروج: ( فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) ، بسنده إلى مجاهد: في لوح، قال: ( فِي أُمِّ الْكِتَابِ ) (2) .

وقال ابن كثير في تفسيره، بعد ما نقل جملة ممّا ذكره عنه الرازي والقرطبي، والذي مرّ نقله، قال: (اختلف العلماء هل كانت ليلة القدر في الأُمم السالفة، أم هي من خصائص هذه الأُمّة؟

فقال الزهري:... وهذا الذي قاله مالك يقتضي تخصيص هذه الأُمّة بليلة القدر. وقيل: إنّها كانت في الأُمم الماضين كما هي في أُمّتنا، ثمّ هي باقية إلى يوم القيامة وفي رمضان خاصّة) (3) .

وقال الزمخشري في الكشّاف، بعد ما ذكره جملة ممّا ذكره عنه الرازي والقرطبي، في ذيل قوله تعالى: ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) (4) قال: (وسبب ارتقاء فضلها إلى هذه الغاية ما يوجد فيها من المصالح الدينية التي ذكرها، من تنزّل الملائكة والروح، وفصل كلّ أمر حكيم).

وقال في ذيل قوله تعالى ( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (5) : أي تتنزّل من أجل كلّ أمر قضاه اللَّه لتلك السنة إلى قابل... وروي عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (من قرأ سورة القدر أُعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيى ليلة القدر)، وذكر في هامش المطبوع: أنّ الحديث أخرجه الثعلبي، والواحدي، وابن مردويه، بسندهم إلى أُبَيّ ابن كعب.

____________________

1) تفسير القرطبي، ج20، ص133 - 137، في تفسير الجامع لأحكام القرآن طبعة القاهرة.

2) جامع البيان، ج30، ص176.

3) تفسير ابن كثير، ج4، ص 568.

4) سورة القدر: 2.

5) سورة القدر: 5.

٢٨٤

ليلة القدر عوض له صلى‌الله‌عليه‌وآله عن غصب بني أُمية خلافته، وتعدد مصادر الحديث لديهم:

وقال الآلوسي في روح المعاني: (ويستدلّ لكونها مدنية بما أخرجه الترمذي، والحاكم، عن الحسن ابن عليّ (رضي اللَّه تعالى عنهما): (أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أُري بني أُمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) (1) ، ونزلت: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) (2) .. الحديث). وهو كما قال المزني: حديث منكر، انتهى.

وقد أخرج الجلال هذا الحديث في الدرّ المنثور عن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل أيضاً، من رواية يوسف ابن سعد، وذكر فيه: أنّ الترمذي (3) أخرجه وضعّفه، وأنّ الخطيب أخرج عن ابن عبّاس نحوه، وكذا عن ابن نسيب، بلفظٍ: قال نبي اللَّه: (أُريتُ بني أُمية يصعدون منبري، فشقّ ذلك عليّ فأُنزِلت ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، ففي قول المزني هو منكر تردّد عندي.

وقد ورد في روايات أهل البيت عليهم‌السلام ما رواه الكافي بسنده إلى أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (أُري رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في منامه بني أُمية يصعدون على منبره من بعده ويضلّون الناس عن الصراط القهقري، فأصبح كئيباً حزيناً، قال: فهبط عليه جبرئيل فقال: يا رسول اللَّه مالي أراك كئيباً حزيناً؟ قال: يا جبرئيل إنّي رأيت بني أُمية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي، يضلّون الناس عن الصراط القهقري. فقال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً إنّي ما اطّلعت عليه. فعرّج إلى السماء فلم يلبث أن نزل بآي من القرآن يُؤنسه بها، قال: ( أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) (4) ، وأُنزل عليه: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) ، جعل اللَّه ليلة القدر لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

1) سورة الكوثر: 1.

2) سورة القدر: 1.

3) سنن الترمذي، ج5، ص444، ح 3350.

4) سورة الشعراء: 205 - 207.

٢٨٥

خيراً من ألف شهر ملك بني أُمية) (1) .

وروى الكُليني، عن علي بن عيسى القمّاط عن عمّه، قال: (سمعت أبا عبد اللَّه يقول: هبط جبرئيل عليه‌السلام على رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ورسول اللَّه كئيب حزين، فقال: رأيت بني أُمية يصعدون المنابر وينزلون منها. قال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً، ما علمت بشي‏ء من هذا. وصعد جبرئيل إلى السماء، ثمّ أهبطه اللَّه جلّ ذكره بآي من القرآن يعزّيه بها قوله: ( أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) (2) .

وأنزل اللَّه جلّ ذكره: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) للقوم، فجعل اللَّه ليلة القدر (لرسوله) خير، من ألف شهر) (3) .

وفي سند الصحيفة السجّادية، عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (إنّ أبي حدّثني عن أبيه عن جدّه عن عليّ عليه‌السلام : إنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذته نَعسةٌ وهو على منبره، فرأى في منامه رجالاً ينزون على منبره نزو القردة، يردّون الناس على أعقابهم القهقري، فاستوى رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله جالساً والحزن يعرف في وجهه، فأتاه جبرئيل عليه‌السلام بهذه الآية ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إلاّ طُغْيَانًا كَبِيرًا ) ، يعني بني أُمية. قال: يا جبرئيل على عهدي يكونون وفي زمني؟

قال: لا، ولكن تدور رحى الإسلام من مُهاجرك فتلبث بذلك عشراً، ثمّ تدور رحى الإسلام على رأس خمسة وثلاثين من مهاجِرَك فتلبث بذلك خمساً، ثمّ لابدّ من رحى

____________________

1) الكافي، ج4، ص159.

2) سورة الشعراء:205 - 206.

3) الكافي، ج8، ص223.

٢٨٦

ضلاله هي قائمة على قطبها ثمّ ملك الفراعنة. قال: وأنزل اللَّه تعالى في ذلك: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) يملكها بنو أُمية. فيها ليلة القدر.

قال: فأَطلع اللَّه عزّ وجلّ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ بني أُمية تملك سلطان هذه الأُمّة وملكها طول هذه المدّة، فلو طاولتهم الجبال لطالوا عليها، حتّى يأذن اللَّه تعالى بزوال ملكهم، وهم في ذلك يستشعرون عداوتنا أهل البيت وبغضنا. أخبر اللَّه نبيّه بما يلقي أهل بيت محمّد وأهل مودّتهم وشيعتهم منهم في أيامهم وملكهم) (1) .

وفي تأويل الآيات: (روي عن أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: قوله عزّ وجلّ: ( خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ ) هو سلطان بني أُمية.

وقال: ليلة من إمام عادل خير من ألف شهر ملك بني أُمية.

وقال: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ) أيّ من عند ربّهم على محمّد وآل محمّد، بكلّ أمر سلام) (2) .

وفي تفسير القمّي: بسنده، في معنى سورة: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) فهو القرآن... قوله: ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) .

أقول: تكثر الروايات في غصب الخلافة من بني أُمية، وتأذّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتعويضه بليلة القدر، وسيأتي معنى تعويضه بليلة القدر، وتسالم كثير من علماء الجمهور بهذه الروايات، هذا الأمر أحد الأدلّة على أنّ الخلافة في الشريعة الإلهية هي منصب أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فتدبّر تبصُر.

____________________

1) الصحيفة السجّادية الكاملة: 15 - 16.

2) تأويل الآيات، ج2، ص817، ح2.

٢٨٧

حقيقة النازل الذي نزل في ليلة القدر:

وقال في ذيل قوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) : الضمير عند الجمهور للقرآن، وادّعى الإمام فيه إجماع المفسّرين، وكأنّه لم يعتقد بقول من قال منهم برجوعه لجبرئيل عليه‌السلام أو غيره؛ لضعفه. قالوا: وفي التعبير عنه بضمير الغائب مع عدم تقدّم ذكره تعظيم له، أي تعظيم لِما أنّه يشعر بأنّه لعلوّ شأنه كأنّه حاضر عند كلّ أحد.

جهل الخلق بحقيقة ليلة القدر:

وقال في ذيل قوله تعالى ( وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) (1) : لِما فيه من الدلالة على أنّ علوّها خارج عن دائرة دراية الخلق، لا يُعلم ذلك، ولا يَعلم به إلاّ علاّم الغيوب.

حقيقة نزول القرآن جملة واحدة:

ثمّ ذكر جملة في تعدّد نزول القرآن جملةً واحدةً ونجوماً، وذكر في ضمنها هذه الرواية، عن ابن عبّاس: (أُنزل القرآن جملةً واحدة حتّى وضع في بيت العزّة في السماء الدنيا، ونزل به جبريل عليه‌السلام على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بجواب كلام العباد وأعمالهم)... ثمّ نقل الاختلاف بين المفسّرين عندهم في قوله تعالى: ( أَنْزَلْنَاهُ ) من جهة نزول القرآن جملةً واحدة، فهل تضمّن القرآن النازل جملةً واحدة هذه العبارة أم لا؟ فلابدّ من ارتكاب المجاز في الإسناد؛ لأنّه إخبار عمّا وقع فيما مضى، فكيف يكون هذا اللفظ في ضمنه؟

____________________

1) سورة القدر: 2.

٢٨٨

فذكر قولاً للرازي في حلّ الإشكال، وللقرطبي، وابن كثير، وضعّف قولهم. ونقل عن ابن حجر في شرح البخاري أنّه أُنزل جملةً واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السماء الدنيا، بل حكى بعضهم الإجماع عليه، ثمّ نقل جواباً لحلّ الإشكال عن السيد عيسى الصفوي، ثمّ الاختلاف بين الدَّواني وغيره، وأنّه ألّف رسالة في ذلك، في الجواب عن مسألة الحذر الأصمّ.

ثمّ نقل عن الإتقان قول أبي شامة: فإن قلت ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) إن لم يكن من جملة القرآن الذي نزل جملة، فما نزل جملة؟ وإن كان من الجملة فما وجه هذه العبارة؟

قلت: لها وجهان:

أحدهما: أن يكون المعنى إنّا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر، وقضينا به وقدّرناه في الأزل.

والثاني: أنّ لفظ ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) ماضٍ ومعناه على الاستقبال، أي تنزّله جملة في ليلة القدر. ثمّ ذكر عدم ارتضائه لهذا القول وعدم حسنه.

ثمّ نقل أقوالاً أُخر، ثمّ قال: والمراد بالإنزال إظهار القرآن من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، أو إثباته لدى السَفَرة هناك، أو نحو ذلك ممّا لا يشكل نسبته إلى القرآن.

تقدير الأُمور في ليلة القدر على من تُنزّل؟

وقال في معنى ليلة القدر: إنّها ليلة التقدير، وسبب تسميتها بذلك لتقدير ما يكون في تلك السنة من أُمور. قال: المراد إظهار تقديره ذلك للملائكة عليهم‌السلام المأمورين بالحوادث الكونية. ثمّ نقل عن بعض تفسير ذلك: هاهنا ثلاثة أشياء:

الأوّل: نفس تقدير الأُمور، أي تعيين مقاديرها وأوقاتها، وذلك في الأزل.

٢٨٩

الثاني: إظهار تلك المقادير للملائكة عليهم‌السلام بأن تكتب في اللوح المحفوظ، وذاك في ليلة النصف من شعبان.

الثالث: إثبات تلك المقادير في نسخ وتسليمها إلى أربابها من المدبّرات، فتدفع نسخة الأرزاق، والنباتات، والأمطار، إلى ميكائيل عليه‌السلام ، ونسخة الحروب والرياح والجنود والزلازل والصواعق والخسف إلى جبرئيل عليه‌السلام ، ونسخة الأعمال إلى إسرافيل عليه‌السلام ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، وذلك في ليلة القدر.

وقيل: يقدّر في ليلة النصف الآجال والأرزاق، وفي ليلة القدر الأُمور التي فيها الخير والبركة والسلامة. وقيل: يقدّر في هذه ما يتعلّق به إعزاز الدين وما فيه النفع العظيم للمسلمين، وفي ليلة النصف يكتب أسماء من يموت ويسلّم إلى ملك الموت، واللَّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

أقول: إنّ المكتوب في ليلة القدر ويقدّر يُفترض أنّ كتابته وتقديره إنّما يُكتب ويقدّر لتسليمه إلى من يوكّل إليه تدبير الأُمور بإذن اللَّه، كالملائكة الموكّلين، فالتنزّل بكلّ هذه التقديرات والكتابة إلى الأرض إلى من يسلّم؟ ومن هو الذي يطّلع على ذلك من أهل الأرض؟ وما هو التناسب بين نزول ما فيه إعزاز الدين والأُمّة، والحديث النبويّ: (إنّ الإسلام لا يزال عزيزاً إلى اثني عشر خليفة... كلّهم من قريش) (1) ؟

أقوال علماء سنّة الجماعة في عِوَضية الليلة له عن غصب الخلافة:

قال في تفسير ( أَلْفِ شَهْرٍ ) : وقد سمعت إلى ما يدلّ أنّ الألف إشارة إلى مُلك بني أُميّة، وكان على ما قال القاسم بن الفضل: ألف شهر، لا يزيد يوماً ولا ينقص

____________________

1) المعجم الكبير للطبراني، ج2، ص232. ولاحظ: إحقاق الحق، ج13، 1 - 49.

٢٩٠

يوماً، على ما قيل: ثمانين سنة، وهي ألف شهر تقريباً؛ لأنّها ثلاثة وثمانون سنة وأربعة أشهر، ولا يعكّر على ذلك ملكُهم في جزيرة الأندلس بعد؛ لأنّه ملك يسير في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة العرب، ولذا لا يعدّ من مَلَكَ منهم هناك من خلفائهم، وقالوا بانقراضهم بهلاك مروان الحمار.

وطعن القاضي عبد الجبّار في كون الآية إشارة لما ذُكر؛ بأنّ أيام بني أُمية كانت مذمومة أي باعتبار الغالب، فيبعد أن يقال في شأن تلك الليلة إنّها خير من ألف شهر مذمومة:

ألم ترَ أنّ السيف ينقص قدره

إذا قيل إنّ السيف خيرٌ من العصا

وأُجيب: إنّ تلك الأيام كانت عظيمة بحسب السعادات الدنيوية، فلا يبعد أن يقول اللَّه تعالى: أعطيتك ليلة في السعادات الدينية أفضل من تلك في السعادات الدنيوية، فلا تبقى فائدة.

ليلة القدر مع الأنبياء في ما مضى فهي مع من في ما بقي:

الروح النازل في ليلة القدر قناة غيبية كانت مع الأنبياء، فهي مع من بعد النبيّ الخاتم؟ قال: وما أشير إليه من خصائص هذه الأُمّة هو الذي يقتضيه أكثر الأخبار الواردة في سبب النزول، وصرّح به الهيثمي وغيره.

وقال القسطَلاني: إنّه معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: (يا رسول اللَّه، أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت. قال: بل هي باقية). ثمّ ذكر أنّ عمدة القائلين بذلك الخبر الذي قدّمناه في سبب النزول من رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وآله تقاصر أعمار أُمّته عن أعمار الأُمم، وتعقّبه بقوله هذا محتمل للتأويل، فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر كما قاله الحافظان: ابن كثير في تفسيره، وابن حجر في فتح الباري.

٢٩١

وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافاً كثيراً، وتحصّل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثر من أربعين قولاً، كما وقع لنا نظير ذلك في ساعة الجمعة، وقد اشتركتا في إخفاء كلّ منهما ليقع الجدّ في طلبهما:

القول الأوّل: إنّها رُفعت أصلاً ورأساً. حكاه المتولّي في التتمّة عن الروافض، والفاكهاني في شرح العمدة عن الحنفية، وكأنّه خطأ منه، والذي حكاه السروجي أنّه قول الشيعة.

أقول: بل الشيعة الإمامية هم المذهب الوحيد على وجه الأرض القائلون ببقاء الاتّصال بين الأرض والسماء، وأنّ هناك سبب متّصل هو الإمام من عِترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن لم يكن هذا الاتّصال وحياً نبويّاً، وهو الذي يتنزّل عليه الروح الأعظم والملائكة كلّ عام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بينما المذاهب الإسلامية كلّها حتّى الزيدية، وإن قالوا باستمرار الإمامة السياسية وعدم حصرها بالأئمّة المنصوص عليهم وأنّ الإمامة هي لكلّ من قام بالثورة على الظلم ولا يشترط فيها العصمة، إلاّ أنّهم قائلون بانقطاع الاتّصال أيضاً بين الغيب والشهادة.

وانقطاع الاتّصال ذهبت إليه اليهود بعد النبيّ موسى عليه‌السلام ، كما ذهبت إليه النصارى بعد النبيّ عيسى عليه‌السلام .

وقال: وقد روى عبد الرزّاق من طريق داود بن أبي عاصم، عن عبد اللَّه بن يخنس: قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر رُفعت، قال: كذّب من قال ذلك. ومن طريق عبد اللَّه بن شُريك قال: ذكر الحجاج ليلة القدر فكأنّه أنكرها، فأراد زر بن حُبيش أن يحصبه فمنعه قومه.

الثاني: إنّها خاصّة بسنة واحدة وقعت في زمن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حكاه الفاكهاني أيضاً.

الثالث: إنّها خاصّة بهذه الأُمّة، ولم تكن في الأُمم قبلهم، جزم به ابن حبيب وغيره من المالكية ونقله الجمهور، وحكاه صاحب العدّة من الشافعية ورجّحه،

٢٩٢

وهو معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: قلت: يا رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت قال: لا، بل هي باقية.

وعمدتهم قول مالك في الموطأ: بلغني أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تقاصر أعمار أمّته عن أعمار الأُمم الماضية، فأعطاه اللَّه ليلة القدر، وهذا يحتمل التأويل، فلا يدفع التصريح في حديث أبي ذر (1) .

ليلة القدر يفصل فيها المقدّرات لأحداث كلّ السنة:

وقال الآلوسي في روح المعاني في تفسير قوله تعالى ( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (2) : أي من أجل كلّ أمر تعلّق به التقدير في تلك السنة إلى قابل وأظهره سبحانه وتعالى لهم، قاله غير واحد. ف)من(بمعنى اللام التعليلية متعلّقة بتنزّل، وقال أبو حاتم: (من) بمعنى الباء، أي تنزّل بكلّ أمر، فقيل: أي من الخير والبركة، وقيل: من الخير والشرّ وجعلت الباء عليه للسببية.

والظاهر على ما قالوا إنّ المراد بالملائكة المدبّرات؛ إذ غيرهم لا تعلّق له بالأُمور التي تعلّق بها التقدير ليتنزّلوا لأجلها على المعنى السابق، وهو خلاف ما تدلّ عليه الآثار من عدم اختصاصهم بالمدبّرات (3) .

ليلة القدر يتحقّقها وتتنزّل على من شاء اللَّه تعالى من عباده:

جاء في شرح صحيح مسلم للنووي قوله: (اعلم أنّ ليلة القدر موجودة... وأنّها تُرى ويتحققّها من شاء اللَّه تعالى من بني آدم كلّ سنة في رمضان، كما تظاهرت عليه الأحاديث... وأخبار الصالحين بها، ورؤيتهم لها أكثر من أن تُحصر. وأمّا قول القاضي عيّاض عن المهلّب بن أبي صُفرة: لا يمكن رؤيتها حقيقةً. فغلط فاحش

____________________

1) فتح الباري، ص262 - 263، كتاب فضل ليلة القدر.

2) سورة القدر: 6.

3) روح المعاني، ج30، ص196.

٢٩٣

نبهتُ عليه لئلاّ يُغترّ به) (1) .

وقال في ذيل سورة الدخان، في قوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) (2) : أي الكتاب المبين الذي هو القرآن على القول المعوّل عليه في ( لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ) هي ليلة القدر، على ما روي عن ابن عبّاس وقتادة.

وفي تحفة المحتاج لابن حَجَر الهيتمي: (ليس لرائيها كَتْمها، ولا ينال فضلها - أي كمالها - إلاّ من أطلعه اللَّه عليها)، انتهى.

والظاهر أنّه عَنى برؤيتها: رؤية ما يحصل به العلم له بها، ممّا خُصّت به من الأنوار، وتنزّل الملائكة عليهم‌السلام ، أي: نحوٍ من الكشف ممّا لا يعرف حقيقته إلاّ أهله، وهو كالنصّ في أنّها يراها من شاء اللَّه تعالى من عباده. ثمّ حكى عن ابن شاهين: إنّه لا يراها أحد من الأوّلين والآخرين إلاّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ قال: وفي بعض الأخبار ما يدلّ على أنّ رؤيتها مناماً وقعت لغيره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ففي صحيح مسلم وغيره، عن ابن عمر: (إنّ رجالاً من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحرّياً فليتحرَّها في السبع الأواخر) (3) .

وحُكي نحو قول ابن شاهين عن غيره أيضاً، وغلّط، ففي شرح صحيح مسلم وابن جُبير ومجاهد وابن زيد والحسن، وعليه أكثر المفسّرين والظواهر معهم.. والمراد بإنزاله في تلك الليلة إنزاله فيها جملةً إلى السماء الدنيا من اللوح، فالإنزال المنجّم في ثلاث وعشرين سنة أو أقل كان من السماء الدنيا، وروي هذا عن ابن جرير وغيره، وذكر أنّ المحلّ الذي أُنزل فيه من تلك السماء البيت المعمور، وهو

____________________

1) شرح مسلم، ج8، ص66.

2) سورة الدخان: 3.

3) صحيح مسلم، ج3، ص170.

٢٩٤

مسامِت للكعبة، بحيث لو نزل لنزل عليها.

وأخرج سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي أنّه قال: أُنزل القرآن جملةً على جبرئيل عليه‌السلام ، وكان جبرئيل عليه‌السلام يجي‏ء به بعدُ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ليلة القدر في سورة الشورى والنزول الأول للقرآن:

وقال في ذيل قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ... ) (1) : وهو ما أُوحي إليه (عليه الصلاة والسلام)، أو القرآن الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان حيث يحييها حياة أبدية. وقيل: أي ومثل الإيحاء المشهود لغيرك، أوحينا أبو القاسم إليك. وقيل: أي مثل ذلك الإيحاء المفصّل، أوحينا إليك، إذ كان عليه الصلاة والسلام اجتمعت له الطرق الثلاث، سواء فُسّر الوحي بالإلقاء، أم فُسّر بالكلام الشفاهي.

وقد ذُكر أنّه (عليه الصلاة والسلام) قد أُلقي إليه في المنام كما أُلقي إلى إبراهيم عليه‌السلام ، وأُلقي إليه عليه الصلاة والسلام في اليقظة على نحو إلقاء الزبور إلى داود عليه‌السلام . ففي (الكبريت الأحمر) للشعراني، نقلاً عن الباب الثاني من (الفتوحات المكّية): أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أُعطي القرآن مجملاً قبل جبرئيل عليه‌السلام ، من غير تفصيل الآيات والسور. وعن ابن عبّاس تفسير الروح بالنبوّة. وقال الربيع: هو جبرئيل عليه‌السلام .

وعليه، فأوحينا مضمّن معنى أرسلنا، والمعنى: أرسلناه بالوحي إليك؛ لأنّه لا يقال: أوحى الملك بل أرسله.

ونقل الطبرسي عن أبي جعفر، وأبي عبد اللَّه (رضي اللَّه تعالى عنهما): أنّ المراد بهذا الروح ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يصعد

____________________

1) سورة الشورى 52: 42.

٢٩٥

إلى السماء. وهذا القول في غاية الغرابة، ولعلّه لا يصحّ عن هذين الإمامين.

وتنوين (روحاً) للتعظيم، أي روحاً عظيماً (1) ... وقال في ذيل قوله تعالى ( وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ ) : أي الروح الذي أوحيناه إليك. وقال ابن عطية: الضمير للكتاب، وقيل للإيمان، ورجّح بالقرب، وقيل للكتاب والإيمان ووحّد؛ لأنّ مقصدهما واحد فهو نظير ( وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ) (2) .

____________________

1) روح المعاني، ج25، ص 80 - 81.

2) سورة التوبة: 62.

٢٩٦

ليلة القدر

في روايات أهل سنّة الخلافة

دوام ليلة القدر في كلّ عام إلى يوم القيامة:

1 - فقد روى عبد الرزّاق الصنعاني في (المصنّف) بسنده، عن مولى معاوية، قال: (قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر قد رُفعت، قال: كذّب من قال كذلك، قلت: فهي كلّ شهر رمضان استقبله؟ قال: نعم... الحديث) (1) ، ورواه عنه بطريق آخر (2) ، ورواه كنز العمّال أيضاً (3) .

2 - وروى عبد الرزّاق الصنعاني في المصنّف بسنده، عن ابن عبّاس، قال: (ليلةٌ في كلّ رمضان يأتي، قال: وحدّثني يزيد بن عبد اللَّه بن الهاد: أنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله سُئِل عن ليلة القدر، فقيل له: كانت مع النبيّين ثمّ رُفعت حين قُبضوا، أو هي في كلّ سنة؟ قال: بل هي في كلّ سنة، بل هي في كلّ سنة) (4) .

3 - وروي عن ابن جرير، قال: (حُدّثت: أنّ شيخاً من أهل المدينة سأل أبا ذر بمنى، فقال: رُفعت ليلة القدر أم هي في كلّ رمضان؟ فقال أبو ذر: سألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقلت: يا رسول اللَّه رُفعت ليلة القدر؟ قال: بل هي كلّ رمضان) (5) .

4 - وروى ابن أبي شيبة الكوفي في المصنّف في باب ليلة القدر، بسنده إلى ابن

____________________

1) المصنّف، ج3، ص216، ح 5586.

2) المصنّف، ج3، ص255، ح 7707.

3) كنز العمّال، ج3، ص634، ح 24490.

4) المصنّف، ج4، ص255، ح 7708.

5) المصنّف، ج4، ص255، ح 7709، وأخرجه هق، ج4، ص307، والطحاوي، ج2، ص50.

٢٩٧

أبي مرثد عن أبيه، قال: (كنت مع أبي ذر عند الجمرة الوسطى، فسألته عن ليلة القدر، فقال: كان أسأل الناس عنها رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنا: ليلة القدر كانت تكون على عهد الأنبياء فإذا ذهبوا رُفعت؟ قال: لا ولكن تكون إلى يوم القيامة) (1) .

5 - أخرج السيوطي في الدرّ المنثور: (عن محمّد بن نصر، عن سعيد بن المسيّب أنّه سُئل عن ليلة القدر، أهي شي‏ء كان فذهب، أم هي في كلّ عام؟ فقال: بل هي لأُمّة محمّد ما بقي منهم اثنان) (2) .

أقول: وفي هذه الرواية - وإن كانت مقطوعة - دلالةٌ على أن لو بقي في الأرض رجلٌ واحد لكان الثاني هو الحجّة وخليفة اللَّه في الأرض، الذي تنزّل عليه ليلة القدر بمقادير الأُمور، وأنّ ليلة القدر هي من حقائق وخصائص روح الحجّة في الأرض.

6 - وروى الطبري بسنده عن ربيعة بن كلثوم، قال: (قال رجل للحسن وأنا أسمع: أرأيت ليلة القدر في كلّ رمضان هي؟ قال: نعم، واللَّه الذي لا إله إلاّ هو إنّها لفي كلّ رمضان، وأنّها ليلة القدر، فيها يُفرق كلّ أمر حكيم، فيها يقضي اللَّه كلّ أجل وعمل ورزق إلى مثلها) (3) .

النزول في ليلة القدر وحي للأنبياء، واستمراره بعد الأنبياء:

قال ابن خزيمة في صحيحه (4) : باب ذكر أبواب ليلة القدر، والتأليف بين الأخبار المأثورة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيها ما يحسب كثيراً من حملة العلم، ممّن لا يفهم صناعة العلم، أنّها متهاتِرةٌ متنافية، وليس كذلك هي عندنا بحمد اللَّه ونعمته، بل هي

____________________

1) المصنّف لابن أبي شيبة، ج2، ص394، ح 5، باب 341.

2) الدرّ المنثور، ج6، ص371، في ذيل سورة القدر.

3) جامع البيان، ج25، ص139، ح24000.

4) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص320.

٢٩٨

مختلفة الألفاظ متّفقة المعنى، على ما سأبيّنه إن شاء اللَّه.

قال أيضاً: باب ذكر دوام ليلة القدر في كلّ رمضان إلى قيام الساعة، ونفي انقطاعها بنفي الأنبياء.

7 - وروى بسنده إلى أبي مرثد، قال: (قال: لقينا أبا ذر وهو عند الجمرة الوسطى، فسألته عن ليلة القدر، فقال: ما كان أحد بأَسأل لها منّي، قلت: يا رسول اللَّه ليلة القدر أُنزلت على الأنبياء بوحي إليهم فيها ثمّ ترجع؟ فقال: بل هي إلى يوم القيامة.. الحديث) (1) ، ورواه بطريق آخر أيضاً، في باب أنّ ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان (2) .

8 - وروى النسائي، والقسطلاني، والهيثمي، وابن حجر في فتح الباري، وابن كثير في تفسيره حديث أبي ذر - في ليلة القدر - قال: (يا رسول اللَّه أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت؟ قال: بل هي باقية).

9 - وروى أحمد بن محمّد بن سلمة في شرح معاني الآثار، في باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟ بسنده، إلى مالك ابن مرثد عن أبيه، قال: (سألت أبا ذر فقلت: أسألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ليلة القدر؟ قال: نعم، كنت أسأل الناس عنها، قال عكرمة: يعني أشبع سؤلاً، قلت: يا رسول اللَّه، ليلة القدر أفي رمضان هي أم في غيره؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : في رمضان. قلت: وتكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا رُفعوا رُفعت؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة) (3) .

10 - وفي صحيح ابن حِبان، قال في باب ذكر البيان بأنّ ليلة القدر تكون في العشر الأواخر كلّ سنة إلى أن تقوم الساعة، ثمّ روى بسند متّصل رواية أبي ذر

____________________

1) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص320.

2) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص321.

3) شرح معاني الآثار، ج3، ص85.

٢٩٩

المتقدِّمة واللفظ فيها... (تكون في زمان الأنبياء ينزل عليهم الوحي، فإذا قُبضوا رُفعت؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : بل هي إلى يوم القيامة) (1) .

وروى البيهقي في فضائل الأوقات رواية أبي ذر المتقدّمة بإسناده (2) ، وقال - قبل تلك الرواية -: وليلة القدر التي ورد القرآن بفضيلتها إلى يوم القيامة وهي في كلّ رمضان... ثمّ نقل الخبر المزبور. وروى الهيثمي في موارد الظمآن رواية أبي ذر بسنده (3) .

11 - وروى أحمد بن محمّد بن سَلمة في معاني الآثار، في باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟ بسنده إلى سعيد بن جبير عن ابن عمر، قال: (سُئل رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا أسمع عن ليلة القدر؟ فقال: في كلّ رمضان). ففي هذا الحديث أنّها في كلّ رمضان، فقال قوم هذا دليل على أنّها تكون في أوّله وفي وسطه، كما قد تكون في آخره. وقد يحتمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (في كلّ رمضان)، هذا المعنى، ويحتمل أنّها في كلّ رمضان إلى يوم القيامة (4) ، ورواه بطرق أخرى غير مرفوعة.

أقول: هذه الروايات عند العامّة مطابقة لما يأتي من الروايات عند أهل البيت عليهم‌السلام ، من عدّة وجوه، أهمّها:

أوّلاً: ليلة القدر كانت من لَدُن آدم عليه‌السلام ، واستمرّت إلى النبيّ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي مستمرّة إلى يوم القيامة نزولاً على خلفاء النبيّ الاثني عشر.

وثانياً: إنّ هذا الروح النازل في ليلة القدر هو قناة ارتباط الأنبياء والأوصياء مع الغيب.

وثالثاً: ممّا يدلّل على عموم الخلافة الإلهية: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ

____________________

1) صحيح ابن حِبّان، ج8، ص438.

2) البيهقي، ص 219.

3) موارد الظمآن، ص 231.

4) شرح معاني الحديث، ج3، ص84.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

غَيْرُهُ ) تقدّم الكلام في نظيرة الآية في قصّة هود.

قوله تعالى: ( هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) إلى آخر الآية. قال الراغب الإنشاء إيجاد الشئ وتربيته وأكثر ما يقال ذلك في الحيوان قال:( هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ ) . انتهى، وقال: العمارة ضدّ الخراب يقال: عمر أرضه يعمرها عمارة قال:( وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) يقال: عمرته فعمر فهو معمور قال:( وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا ) ( وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ) وأعمرته الأرض واستعمرته إذا فوّضت إليه العمارة قال:( وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) انتهى، فالعمارة تحويل الأرض إلى حال تصلح بها أن ينتفع من فوائدها المترقّبة منها كعمارة الدار للسكنى والمسجد للعبادة والزرع للحرث والحديقة لاجتناء فاكهتها والتنزّه فيها والاستعمار هو طلب العمارة بأن يطلب من الإنسان أن يجعل الأرض عامرة تصلح لأن ينتفع بما يطلب من فوائدها.

وعلى ما مرّ يكون معنى قوله:( هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) - والكلام يفيد الحصر - أنّه تعالى هو الّذى أوجد على الموادّ الأرضيّة هذه الحقيقة المسمّاة بالإنسان ثمّ كمّلها بالتربية شيئاً فشيئاً وأفطره على أن يتصرّف في الأرض بتحويلها إلى حال ينتفع بها في حياته، ويرفع بهاما يتنبّه له من الحاجة والنقيصة أي إنّكم لا تفتقرون في وجودكم وبقائكم إلّا إليه تعالى وتقدّس.

فقول صالح:( هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) في مقام التعليل وحجّة يستدلّ بها على ما ألقاه إليهم من الدعوة بقوله:( يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) ولذلك جئ بالفصل كأنّه قيل له: لم نعبده وحده؟ فقال: لأنّه هو الّذى أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها.

وذلك لأنّهم إنّما كانوا يعبدون الأوثان ويتّخذونها شركاء لله تعالى لأنّهم كانوا يقولون - على مزعمتهم - إنّ الله سبحانه أعظم من أن يحيط به فهم وأرفع وأبعد من أن تناله عبادة أو ترتفع إليه مسألة، ولا بدّ للإنسان من ذلك فمن الواجب أن نعبد بعض مخلوقاته الشريفة الّتى فوض إليه أمر هذا العالم الأرضىّ وتدبير النظام

٣٢١

الجارى فيه ونتقرّب بالتضرّع إليه حتّى يرضى عنّا فينزل علينا الخيرات، ولا يسخط علينا ونأمن بذلك الشرور، وهذا الإله الربّ بالحقيقة شفيعنا عند الله لأنّه إله الآلهة وربّ الأرباب، وإليه يرجع الأمر كلّه.

فدين الوثنيّة مبنىّ على انقطاع النسبة بين الله سبحانه وبين الإنسان واستقرارها بينه وبين تلك الوسائط الشريفة الّتى يتوجّهون إليها مع استقلال هذه الوسائط في التأثير، وشفاعتها عند الله.

ولمّا كان الله تعالى هو الّذى أنشأ الإنسان من الأرض واستعمره فيها فهو تعالى ذو نسبة إلى الإنسان قريب منه، ولا استقلال لشئ من هذه الأسباب الّتى نظمها وأجراها في هذا العالم حتّى يرجى منها خير بالإرضاء أو يترقّب شرّ بالإسخاط.

فالله سبحانه هو الّذى يجب أن يعبد فيرجى بذلك رضاه، ويتّقى بذلك سخطه لمكان أنّه هو الخالق للإنسان ولكلّ شئ المدبّر أمره وأمر كلّ شئ فقوله:( هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) مسوق لتعليل سابقه والاحتجاج عليه من طريق إثبات النسبة بينه تعالى وبين الإنسان ونفى الاستقلال من الأسباب.

ولذلك عقّبه بقوله:( فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) على وجه التفريع أي فإذا كان الله تعالى هو الّذى يجب عليكم أن تعبدوه وتتركوا غيره لكونه هو خالقكم المدبّر لأمر حياتكم فاسألوه أن يغفر لكم معصيتكم بعبادة غيره، وارجعوا إليه بالإيمان به وعبادته. إنّه قريب مجيب.

وقد علّل قوله:( فَاسْتَغْفِرُوهُ ) الخ، بقوله:( إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ) لأنّه استنتج من حجّته المذكورة أنّه تعالى يقوم بإيجاد الإنسان وتربيته وتدبير أمر حياته، وأنّه لا استقلال لشئ من الأسباب العمّالة في الكون بل الله تعالى هو الّذى يسوق هذا إلى هنا، ويصرف ذاك عن هناك فهو تعالى الحائل بين الإنسان وبين حوائجه وجميع الأسباب العمّالة فيها، القريب منه لا كما يزعمون أنّه لا يدركه فهم ولا يناله عبادة وقربان، وإذا كان قريبا فهو مجيب، وإذا كان قريبا مجيبا وهو الله لا إله غيره فمن الواجب أن يستغفروه ثمّ يتوبوا إليه.

٣٢٢

قوله تعالى: ( قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) الخ، الرجاء إنّما يتعلّق بالإنسان لا من جهة ذاته بل من جهة أفعاله وآثاره، ولا يرجى منها إلّا الخير والنفع فكونه مرجوّا هو أن يوجد ذا رشد وكمال في شخصه وبيته فيستهلّ منه الخير ويترقّب منه النفع، وقوله:( قَدْ كُنتَ فِينَا ) دليل على كونه مرجوّا لعامّتهم وجمهورهم.

فقولهم:( يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا ) معناه أنّ ثمود كانت ترجو منك أن تكون من أفرادها الصالحة تنفع بخدماتك مجتمعهم وتحمل الاُمّة على صراط الترقّي والتعالى لما كانت تشاهد فيك من أمارات الرشد والكمال لكنّهم يئسوا منك ومن رزانة رأيك اليوم بما أبدعت من القول وأقمت من الدعوة.

وقولهم:( أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) استفهام إنكارىّ بداعي المذمّة والملامة، والاستفهام في مقام التعليل لما قبله محصّله أنّ سبب يأسهم منك اليوم أنّك تنهاهم من إقامة سنّة من سنن ملّيّتهم وتمحو أظهر مظاهر قوميّتهم فإنّ اتّخاذ الأوثان من سنن هذا المجتمع المقدّسة، واستمرار إقامة السنن المقدّسة من المجتمع دليل على أنّهم ذوو أصل عريق ثابت، ووحدة قوميّة لها استقامة في الرأى والإرادة.

والدليل على ما ذكرنا قوله:( أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) الدالّ على معنى العبادة المستمرّة باتّصال عبادة الأبناء بعبادة الآباء ولم يقل: أتنهانا أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا؟ والفرق بين التعبيرين من جهة المعنى واضح.

ومن هنا يظهر أنّ تفسير بعض المفسّرين كصاحب المنار وغيره قوله:( أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) بقولهم:( أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا) من الخطاء.

وقوله:( وإنّنا لفى شكّ ممّا تدعونا إليه مريب ) حجّة ثانية لهم في ردّ دعوة صالحعليه‌السلام ، وحجّتهم الاُولى ما يتضمّنه صدر الآية ومحصّلها أنّ ما تدعو إليه من رفض عبادة الأصنام بدعة منكرة تذهب بسنّة ثمود المقدّسة وتهدم بنيان ملّيّتهم، وتميت ذكرهم فعلينا أن نردّه، والثانية أنّك لم تأت بحجّة بيّنة على ما تدعو إليه

٣٢٣

تورث اليقين وتميط الشكّ عنّا فنحن في شكّ مريب ممّا تدعونا إليه وليس لنا أن نقبل ما تندب إليه على شكّ منّا فيه.

والإرابة الاتّهام وإساءة الظنّ يقال: رابنى منه كذا إذا أوجب فيه الشكّ وأرابني كذا إرابة إذا حملك على اتّهامه وسوء الظنّ به.

قوله تعالى: ( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً ) إلى آخر الآية. المراد بالبيّنة الآية المعجزة وبالرحمة النبوّة، وقد تقدّم الكلام في نظير الآية من قصّة نوحعليه‌السلام في السورة.

وقوله:( فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ ) جواب الشرط، وحاصل المعنى: أخبروني إن كنت مؤيّداً بآية معجزة تنبئ عن صحّة دعوتي و أعطاني الله الرسالة فأمرني بتبليغ رسالته فمن ينجنى من الله ويدفع عنّى إن أطعتكم فيما تسألون ووافقتكم فيما تريدونه منّى وهو ترك الدعوة.

ففى الكلام جواب عن كلتا حجّتيهم واعتذار عمّا لاموه عليه من الدعوة المبتدعة.

و قوله:( فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ) تفريع على قوله السابق الّذى ذكره في مقام دحض الحجّتين والاعتذار عن مخالفتهم والقيام بدعوتهم إلى خلاف سنّتهم القوميّة فالمعنى فما تزيدونني في حرصكم على ترك الدعوة والرجوع اليكم واللحوق بكم غير أن تخسرونى فما مخالفة الحقّ إلّا خسارة.

وقيل: المراد أنّكم ما تزيدونني في قولكم: أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ غير نسبتى إيّاكم إلى الخسارة. وقيل: المعنى ما تزيدونني إلّا بصيرة في خسارتكم والوجه الأوّل أوجه.

قوله تعالى: ( وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ) إضافة الناقة إلى الله إضافة تشريف كبيت الله و كتابه الله. وكانت الناقة آية معجزة لهعليه‌السلام تؤيّد نبوّته، وقد أخرجها عن مسألتهم من صخر الجبل بإذن الله، وقال لهم: إنّها تأكل في أرض الله محرّرة، وحذّرهم

٣٢٤

أن يمسّوها بسوء أي يصيبوها بضرب أو جرح أو قتل. وأخبرهم أنّهم إن فعلوا ذلك أخذهم عذاب قريب معجّل، وهذا معنى الآية.

قوله تعالى: ( فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) عقر الناقة نحرها، والدار هي المكان الّذى يبنيه الإنسان فيسكن فيه ويأوى إليه هو وأهله، والمراد بها في الآية المدينة سمّيت دارا لأنّها تجمع أهلها كما تجمع الدار أهلها، وقيل المراد بالدار الدنيا، وهو بعيد.

والمراد بتمتّعهم في مدينتهم العيش والتنعّم بالحياة لأنّ الحياة الدنيا متاع يتمتّع به، أو الالتذاذ بأنواع النعم الّتى هيّؤوها فيها من مناظر ذات بهجة والأثاث والمأكول والمشروب والاسترسال في أهواء أنفسهم.

وقوله:( ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) الإشارة إلى قوله:( تَمَتَّعُوا ) الخ، و( وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) بيان له.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا ) إلى آخر الآية. أمّا قوله:( فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ) فقد تقدّم الكلام في مثله في قصّة هود.

وأمّا قوله:( وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ) فمعطوف على حذوف والتقدير نجّيناهم من العذاب ومن خزى يومئذ، والخزى العيب الّذى تظهر فضيحته ويستحيى من إظهاره أو أنّ التقدير: نجّيناهم من القوم ومن خزى يومئذ على حدّ قوله:( وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

وقوله:( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) في موضع التعليل لمضمون صدر الآية وفيه التفات من التكلّم بالغير إلى الغيبة، وقد تقدّم نظيره في آخر قصّة هود في قوله:( أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ ) والوجه فيه ذكر صفة الربوبيّة ليدلّ به على خروجهم من زىّ العبوديّة وكفرهم بالربوبيّة وكفرانهم نعم ربّهم.

قوله تعالى: ( وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) يقال: جثم جثوما إذا وقع على وجهه، والباقى ظاهر.

٣٢٥

قوله تعالى: ( كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا ) غنى بالمكان أي أقام فيه، والضمير راجع إلى الديار.

قوله تعالى: ( أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِّثَمُودَ ) الجملتان تلخيص ما تقدّم تفصيله من القصّة فالجملة الاُولى تلخيص ما انتهى إليه أمر ثمود ودعوة صالحعليه‌السلام ، والثانية تلخيص ما جازاهم الله به، وقد تقدّم نظيرة الآية في آخر قصّة هود.

( بحث روائي)

في الكافي مسندا عن أبى بصير عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: قلت له:( كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ) قال: هذا فيما كذّبوا صالحاً، وما أهلك الله عزّوجلّ قوماً قطّ حتّى يبعث قبل ذلك الرسل فيحتجّوا عليهم.

فبعث الله إليهم صالحاً فلم يجيبوه وعتوا عليه، وقالوا: لن نؤمن لك حتّى تخرج إلينا من هذه الصخرة ناقة عشراء وكانت الصخرة يعظّمونها ويعبدونها ويذبحون عندها في رأس كلّ سنة ويجتمعون عندها، فقالوا: إن كنت كما تزعم نبيّا رسولا فادع لنا إلهك حتّى يخرج لنا من هذه الصخرة الصمّاء ناقة عشراء فأخرجها الله كما طلبوا منه.

ثم أوحى الله تبارك وتعالى إليه أن يا صالح قل لهم: إنّ الله قد جعل لهذه الناقة لها شرب يوم ولكم شرب يوم فكانت الناقة إذا كان يومها شربت الماء ذلك اليوم فيحبسونها فلا يبقى صغير وكبير إلّا شرب من لبنها يومهم ذلك فإذا كان الليل وأصبحوا غدوا إلى مائهم فشربوا منه ذلك اليوم ولم تشرب الناقة ذلك اليوم فمكثوا بذلك ما شاء الله.

ثمّ إنّهم عتوا على الله ومشى بعضهم إلى بعض قال: اعقروا هذه الناقة واستريحوا منها لا نرضى أن يكون لنا شرب يوم ولها شرب يوم. ثم قالوا: من الّذى

٣٢٦

يلى قتلها ونجعل له جعلا ما أحبّ؟ فجاءهم رجل أحمر أشقر أزرق ولد زنا لا يعرف له أب يقال له: قدار شقىّ من الأشقياء مشؤم عليهم فجعلوا له جعلا.

فلمّا توجّهت الناقة إلى الماء الّذى كانت ترده تركها حتّى شربت وأقبلت راجعة فقعد لها في طريقها فضربها بالسيف ضربة فلم يعمل شيئاً فضربها ضربة اُخرى فقتلها وخرّت على الأرض على جنبها، وهرب فصيلها حتّى صعد إلى الجبل فرغا ثلاث مرّات إلى السماء، وأقبل قوم صالح فلم يبق منهم أحد إلّا شركه في ضربته، واقتسموا لحمها فيما بينهم فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلّا أكل منها.

فلمّا رأى ذلك صالح أقبل إليهم وقال: يا قوم ما دعاكم إلى ما صنعتم؟ أعصيتم أمر ربّكم؟ فأوحى الله تبارك وتعالى إلى صالحعليه‌السلام : إنّ قومك قد طغوا وبغوا وقتلوا ناقة بعثها الله إليهم حجّة عليهم ولم يكن لهم فيها ضرر وكان لهم أعظم المنفعة فقل لهم: إنّى مرسل إليهم عذابي إلى ثلاثة أيّام فإن هم تابوا ورجعوا قبلت توبتهم وصددت عنهم، وإن هم لم يتوبوا ولم يرجعوا بعثت إليهم عذابي في اليوم الثالث.

فأتاهم صالح وقال: يا قوم إنّى رسول ربّكم إليكم وهو يقول لكم: إن تبتم ورجعتم واستغفرتم غفرت لكم وتبت عليكم، فلمّا قال لهم ذلك [ قالوا ظ ] كانوا أعتى ما قالوا وأخبث وقالوا: يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين.

قال: يا قوم إنّكم تصبحون غدا ووجوهكم مصفرّة، واليوم الثاني وجوهكم محمرّة واليوم الثالث وجوهكم مسودّة فلمّا إن كان أوّل يوم أصبحوا وجوههم مصفرّة فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا: قد جاءكم ما قال صالح فقال العتاة منهم: لا نسمع قول صالح ولا نقبل قوله وإن كان عظيما. فلمّا كان اليوم الثاني أصبحت وجوههم محمرّة فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: يا قوم قد جاءكم ما قال لكم صالح فقال العتاة منهم لو أهلكنا جميعاً ما سمعنا قول صالح ولا تركنا آلهتنا الّتى كان آباؤنا يعبدونها ولم يتوبوا ولم يرجعوا فلمّا كان اليوم الثالث أصبحوا ووجوههم مسودّة فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: يا قوم أتاكم ما قال لكم صالح فقال العتاة منهم: قد

٣٢٧

أتانا ما قال لنا صالح.

فلمّا كان نصف الليل أتاهم جبرئيل فصرخ لهم صرخة خرقت تلك الصرخة أسماعهم وفلقت قلوبهم وصدعت أكبادهم وقد كانوا في تلك الثلاثة الأيّام قد تحنّطوا وتكفّنوا وعلموا أنّ العذاب نازل بهم فماتوا جميعاً في طرفة عين: صغيرهم وكبيرهم فلم يبق لهم ناعقة ولا راعيه ولا شئ إلّا أهلكه الله فأصبحوا في ديارهم ومضاجعهم موتى فأرسل الله إليهم مع الصيحة النار من السماء فأحرقهم أجمعين، وكانت هذه قصّتهم.

أقول: واشتمال الحديث على اُمور خارقة للعادة كشرب الناس جميعاً من لبن الناقة وكذا تغيّر ألوان وجوههم يوماً فيوماً لا ضير فيه بعد ما كان أصل وجودها عن إعجاز، وقد نصّ القرآن الكريم بذلك، وبأنّها كانت لها شرب يوم ولأهل المدينة كلّهم شرب يوم معلوم.

وأمّا كون الصيحة من جبرئيل فلا ينافى كونها صاعقة سماويّة نازلة عليهم أماتتهم بصوتها وأحرقتهم بنارها إذ لا مانع من نسبة حادث من الحوادث الكونيّة خارق للعادة أو جار عليها إلى ملك روحانيّ إذا كان هو في مجرى صدوره كما أنّ سائر الحوادث الكونيّة من الموت والحياة والرزق وغيرها منسوبة إلى الملائكة العمّالة.

وقولهعليه‌السلام : إنّهم قد كانوا في الثلاثة الأيّام قد تحنّطوا وتكفّنوا كأنّه كناية عن تهيّؤهم للموت.

وقد وقع في بعض الروايات في وصف الناقة أنّه كانت بين جنبيها مسافة ميل وهو ممّا يوهن الرواية لا لاستحالة وقوعه فإنّ ذلك ممكن الدفع من جهة أنّ كينونتها كانت عن إعجاز بل لأنّ اعتبار النسبة بين أعضائها حينئذ يوجب بلوغ ارتفاع سنامها ممّا يقرب من ثلاثة أميال ولا يتصوّر مع ذلك ان يتمكّن واحد من الناس من قتله بسيفه ولم يقع ذلك عن إعجاز من عاقر الناقة قطعاً، ومع ذلك لا يخلو قوله تعالى:( لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ) من دلالة أو إشعار على كون جثّتها عظيمه جدّاً.

٣٢٨

( كلام في قصّة صالح في فصول)

١ - ثمود قوم صالح عليه‌السلام : ثمود قوم من العرب العاربة كانوا يسكنون وادى القرى بين المدينة والشام، وهم من بشر ما قبل التاريخ لا يضبط التاريخ إلّا شيئاً يسيرا من أخبارهم، ولقد عفت الدهور آثارهم فلا اعتماد على ما يذكر من جزئيّات قصصهم.

والّذى يقصّه كتاب الله من أخبارهم أنّهم كانوا اُمّة من العرب على ما يدلّ عليه اسم نبيّهم وقد كان منهم (هود: ٦١) نشؤوا بعد قوم عاد ولهم حضارة ومدنيّة يعمرون الأرض ويتّخذون من سهولها قصورا و( يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ ) (الأعراف: ٧٤) ومن شغلهم الفلاحة بإجراء العيون وإنشاء الجنّات والنخيل والحرث (الشعراء: ١٤٨).

كانت ثمود تعيش على سنّة الشعوب والقبائل يحكم فيهم سادتهم وشيوخهم وقد كانت في المدينة الّتى بعث فيها صالح( تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ) (النمل: ٤٨) فطغوا في الأرض وعبدوا الأصنام وأفرطوا عتوّا وظلما.

٢ - بعثة صالح عليه‌السلام : لمّا نسيت ثمود ربّها وأسرفوا في أمرهم أرسل الله إليهم صالحاً النبيّعليه‌السلام وكان من بيت الشرف والفخار معروفا بالعقل والكفاية (هود ٦٢ - النمل ٤٩) فدعاهم إلى توحيد الله سبحانه وأن يتركوا عباده الأصنام وأن يسيروا في مجتمعهم بالعدل والإحسان، ولا يعلوا في الأرض ولا يسرفوا ولا يطغوا وأنذرهم بالعذاب (هود - الشعراء - الشمس وغيره).

فقامعليه‌السلام بالدعوة إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة وصبر على الأذى في جنب الله فلم يؤمن به إلّا جماعة قليلة من ضعفائهم (الأعراف: ٧٥) وأمّا الطغاة المستكبرون وعامّة من تبعهم فأصرّوا على كفرهم واستذلّوا الّذين آمنوا به ورموه بالسفاهة والسحر (الأعراف ٦٦ - الشعراء ١٥٣ - النمل ٤٧).

٣٢٩

وطلبوا منه البيّنة على مقاله، وسألوه آية معجزة تدلّ على صدقه في دعوى الرسالة، واقترحوا له أن يخرج لهم من صخر الجبل ناقة فأتاهم بناقة على ما وصفوها به، وقال لهم: إنّ الله يأمركم أن تشربوا من عين مائكم يوما وتكفّوا عنها يوما فتشربها الناقة فلها شرب يوم ولكم شرب يوم معلوم، وأن تذروها تأكل في أرض الله كيف شاءت( وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ) (الأعراف ٧٢ - هود ٦٤ - الشعراء ١٥٦).

وكان الأمر على ذلك حينا ثمّ إنّهم طغوا ومكروا وبعثوا أشقاهم لقتل الناقة فعقرها، وقالوا لصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال صالحعليه‌السلام :( تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) (هود ٦٥).

ثمّ مكرت شعوب المدينة وأرهاطها بصالح وتقاسموا بينهم لنبيّتنّه وأهله ثمّ نقولنّ لوليّه ما شهدنا مهلك أهله وإنّا لصادقون،( وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) (النمل ٥٠)( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ ) (الذاريات ٤٤) والرجفة و الصيحة فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولّى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربّى ونصحت لكم ولكن( لَّا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ) (الأعراف ٧٩ - هود ٦٧)( وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ) (حم السجدة ١٨) ونادى بعدهم المنادى الإلهىّ: ألا إنّ ثمود كفروا ربّهم ألا بعداً لثمود.

٣ - شخصيّة صالح عليه‌السلام : لم يرد لهذا النبيّ الصالح في التوراة الحاضرة ذكر. كانعليه‌السلام من قوم ثمود ثالث الأنبياء المذكورين في القرآن بالقيام بأمر الله والنهضة للتوحيد على الوثنيّة يذكره الله تعالى بعد نوح وهود، ويحمده ويثنى عليه بما أثنى به على أنبيائه ورسله، وقد اختاره وفضّله كسائرهم على العالمين عليه وعليهم السلام.

٣٣٠

( سورة هود آية ٦٩ - ٧٦)

وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ( ٦٩) فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ( ٧٠) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ( ٧١) قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ( ٧٢) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ( ٧٣) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَىٰ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ( ٧٤) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ( ٧٥) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ( ٧٦)

( بيان)

تتضمّن الآيات قصّة بشرى إبراهيمعليه‌السلام بالولد، وإنّها كالتوطئة لما سيذكر بعده من قصّة ذهاب الملائكة الى لوط النبيّعليه‌السلام لإهلاك قومه فإنّ تلك القصّة ذيل هذه القصّة وفي آخر قصّة البشرى ما يتبيّن به وجه قصّة الإهلاك وهو قوله:( إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ) الآية.

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ ) إلى آخر الآية، البشرى هي البشارة، والعجل ولد البقرة، والحنيذ فعيل بمعنى المفعول أي المحنوذ وهو اللحم المشوىّ على حجارة محماة بالنار كما أنّ القديد هو المشوىّ على حجارة

٣٣١

محماة بالشمس على ما ذكره بعض اللغويّين، وذكر بعضهم أنّه المشوىّ الّذى يقطر ماء وسمنا، وقيل: هو مطلق المشوىّ، وقوله تعالى في سورة الذاريات في القصّة:( فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ) لا يخلو من تأييد مّا للمعنى الثاني.

وقوله:( وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ ) معطوف على قوله سابقاً:( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ ) قال في المجمع: وإنّما دخلت اللّام لتأكيد الخبر ومعنى قد ههنا أنّ السامع لقصص الأنبياء يتوقّع قصّة بعد قصّة، وقد للتوقّع فجاءت لتؤذن أنّ السامع في حال توقّع. انتهى.

والرسل هم الملائكة المرسلون إلى إبراهيم للبشارة وإلى لوط لإهلاك قومه وقد اختلفت كلمات المفسّرين في عددهم مع القطع بكونهم فوق الأثنين لدلالة لفظ الجمع - الرسل - على ذلك، وفي بعض الروايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّهم كانوا أربعة من الملائكة الكرام، وسيأتى نقلها إن شاء الله في البحث الروائيّ.

والبشرى الّتى جاءت بها الرسل إبراهيمعليه‌السلام لم يذكر بلفظها في القصّة، والّتى ذكرت فيها منها هي البشارة لامرأته، وإنّما ذكرت بشارة إبراهيم نفسه في غير هذا المورد كسورتي الحجر والذاريات، ولم يصرّح فيهما باسم من بشّر به إبراهيم أهو إسحاق أم إسماعيلعليهم‌السلام أو أنّهم بشّروه بكليهما؟ وظاهر سياق القصّة في هذه السورة أنّها البشارة بإسحاق، وسيأتى البحث المستوفى عن ذلك في آخر القصّة.

وقوله:( قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ ) أي تسالموا هم وإبراهيم فقالوا: سلاما أي سلّمنا عليك سلاما، وقال إبراهيم: سلام أي عليكم سلام.

والسلام الواقع في تحيّة إبراهيمعليه‌السلام نكرة ووقوعه نكرة في مقام التحيّة دليل على أنّ المراد به الجنس أو أنّ له وصفا محذوفا للتفخيم ومزيد التكريم والتقدير: عليكم سلام زاك طيّب أو ما في معناه، ولذا ذكر بعض المفسّرين: أنّ رفع السلام أبلغ من نصبه فقد حيّاهم بأحسن تحيّتهم فبالغ في إكرامهم ظنّا منه أنّهم ضيف.

٣٣٢

وقوله:( فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ) أي ما أبطأ في أن قدّم إليهم عجلا مشويّا يقطر ماء وسمنا وأسرع في ذلك.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ) عدم وصول أيديهم إليه كناية عن أنّهم ما كانوا يمدّون أيديهم إلى الطعام، وذلك أمارة العداوة وإضمار الشرّ، ونكرهم وأنكرهم بمعنى واحد وإنّما كان أنكرهم لإنكاره ما شاهد منهم من فعل غير معهود.

والإيجاس الخطور القلبىّ، قال الراغب: الوجس الصوت الخفىّ، والتوجّس التسمّع، والإيجاس وجود ذلك النفس قال: وأوجس منهم خيفة، فالوجس قالوا: هو حالة تحصل من النفس بعد الهاجس لأنّ الهاجس مبتدأ التفكير ثمّ يكون الواجس الخاطر. انتهى. فالجملة من الكناية كأنّ لطروق الخيفة - وهو النوع من الخوف - وخطوره في النفس صوتا تسمع بالسمع القلبىّ، والمراد أنّه استشعر في نفسه خوفا ولذلك أمّنوه وطيّبوا نفسه بقولهم:( لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ ) .

ومعنى الآية: أنّ إبراهيمعليه‌السلام لمّا قدّم إليهم العجل المشوىّ رآهم لا يأكلون منه كالممتنع من الأكل - وذلك أمارة الشرّ - استشعر في نفسه منهم خوفا قالوا تأميناً له وتطييباً لنفسه: لا تخف إنّا اُرسلنا إلى قوم لوط فعلم أنّهم من الملائكة الكرام المنزّهين من الأكل والشرب وما يناظر ذلك من لوازم البدن المادّيّة، وأنّهم مرسلون لخطب جليل.

ونسبة استشعار الخوف إلى إبراهيمعليه‌السلام لا ينافى ما كان عليه من مقام النبوّة الملازم للعصمة الإلهيّة من المعصية والرذائل الخلقية فإنّ مطلق الخوف وهو تأثّر النفس عن مشاهدة المكروه الّتى تبعثها إلى التحذّر منه والمبادرة إلى دفعه ليس من الرذائل، وإنّما الرذيلة هي التأثّر الّذى يستوجب بطلان مقاومة النفس وظهور العىّ والفزع والذهول عن التدبير لدفع المكروه وهو المسمّى بالجبن كما أنّ عدم التأثّر عن مشاهدة المكروه مطلقا وهو المسمّى تهوّراً ليس من الفضيلة في شئ.

٣٣٣

وذلك أنّ الله سبحانه لم يخلق هذه الحالات النفسانيّة الّتى تظهر في النفوس ومنها التأثّر والانفعال عند مشاهدة المكروه والشرّ كالشوق والميل والحبّ وغير ذلك عند مشاهدة المحبوب والخير عبثا باطلا فإنّ جلب الخير والنفع ودفع الشرّ والضرر ممّا فطر على ذلك أنواع الموجودات على كثرتها، وعليه يدور رحى الوجود في نظامه العامّ.

ولمّا كان هذا النوع المسمّى بالإنسان إنّما يسير في مسير بقائه بالشعور والإرادة كان عمل الجلب والدفع فيه مترشّحا عن شعوره وإرادته، ولا يتمّ إلّا عن تأثّر نفسانيّ يسمّى في جانب الحبّ ميلا وشهوة وفي جانب البغض والكراهة خوفا ووجلا.

ثمّ لمّا كانت هذه الأحوال النفسانيّة الباطنة ربّما ساقت الإنسان إلى أحد جانبى الإفراط والتفريط كان من الواجب على الإنسان أن يقوم من الدفع على ما ينبغى وهو فضيلة الشجاعة كما أنّ من الواجب عليه أن يبادر من الجلب إلى ما ينبغى على ما ينبغى، وهو فضيلة العفّة وهما حدّا الاعتدال بين الإفراط والتفريط، وأمّا انتفاء التأثّر بأن يلقى الإنسان بنفسه إلى التهلكة الصريحة في باب الدفع وهو التهوّر، أولا تنزع نفسه إلى شئ مطلوب قطّ في باب الجلب والشهوة وهو الخمول وكذا بلوغ التأثّر من القوّة إلى حيث ينسى الأنسان نفسه ويذهل عن واجب رأيه وتدبيره فيجزع عن كلّ شبح يتراآى له في باب الدفع وهو الجبن أو ينكبّ على كلّ ما تهواه نفسه وتشتهيه كالبهيمة على عليقها في باب الشهوة وهو الشره فجميع هذه من الرذائل.

والّذى آثر الله سبحانه به أنبيائه من العصمة إنّما يثبت في نفوسهم فضيلة الشجاعة دون التهوّر، وليست الشجاعة تقابل الخوف الّذى هو مطلق التأثّر عن مشاهدة المكروه، وهو الّذى يدعو النفس إلى القيام بواجب الدفع، وإنّما تقابل الجبن الّذى هو بلوغ التأثّر النفسانيّ إلى حيث يبطل الرأى والتدبير ويستتبع العىّ والانهزام.

قال تعالى:( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ ) الأحزاب: ٣٩،

٣٣٤

وقال مخاطبا لموسىعليه‌السلام :( لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ ) طه: ٦٨، وقال حكاية عن قول شعيب لهعليهما‌السلام :( لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) القصص: ٢٥، وقال مخاطبا لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ) الأنفال: ٥٨.

والخليلعليه‌السلام هو النبيّ الكريم الّذى قام بالدعوة الحقّة إذ لا يذكر اسم الله وحده، ونازع وثنيّة قومه فحاجّ أباه آزر وقومه وحاجّ الملك الجبّار نمرود وكان يدعى الاُلوهيّة، وكسر أصنام القوم حتّى ألقوه في النار فأنجاه الله من النار فلم يجبنه شئ من تلك المهاول، ولا هزمه في جهاده في سبيل الله هازم، ومثل هذا النبيّ على ما له من الموقف الروحيّ إن خاف من شئ أو وجل من أحد أو ارتاعه أمر - على اختلاف تعبير الآيات - فإنّما يخافه خوف حزم ولا يخافه خوف جبن، وإذا خاف من شئ على نفسه أو عرضه أو ماله فإنّما يخاف لله لا لهوى من نفسه.

قوله تعالى: ( وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ) ضحكت من الضحك بفتح الضاد أي حاضت، ويؤيّده تفريع البشارة عليه في قوله عقيبه:( فَبَشَّرْنَاهَا ) الخ، ويكون ضحكها أمارة تقرّب البشرى إلى القبول، وآية تهيّئ نفسها للإذعان بصدقهم فيما يبشّرون به، ويكون ذكر قيامها لتمثيل المقام وأنّها ما كانت تخطر ببالها أنّها ستحيض وهى عجوز، وإنّما كانت قائمة تنظر ما يجرى عليه الأمر بين بعله وبين الضيفان النازلين به وتحادثهم.

والمعنى أنّ إبراهيمعليه‌السلام كان يكلّمهم ويكلّمونه في أمر الطعام والحال أنّ امرأته قائمة هناك تنظر إلى ما يجرى بين الضيفان وبين إبراهيم وما كان يخطر ببالها شئ دون ذلك ففاجأها أنّها حاضت فبشّرته الملائكة بالولد.

وأكثر المفسّرين أخذوا الكلمة من الضحك بكسر الضاد ضد البكاء ثمّ اختلفوا في توجيه سببه، وأقرب الوجوه هو أن يقال: إنّها كانت قائمة هناك وقد ذعرت من امتناع الضيوف من الأكل وهو يهتف بالشرّ فلمّا لاحت لها أنّهم ملائكة مكرمون نزلوا ببيتهم وأن لا شرّ في ذلك يتوجّه إليهم سرّت وفرحت فضحكت فبشّروه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب.

٣٣٥

وهناك وجوه اُخر ذكروها خالية عن الدليل كقولهم: إنّها ضحكت تعجّبا من غفله قوم لوط، وقولهم: إنّها ضحكت تعجّبا من امتناع الضيوف من الأكل والحال أنّها تخدمهم بنفسها، وقولهم: إنّها كانت أشارت إلى إبراهيم أن يضمّ إليه لوطا لأنّ فحشاء قومه سيعقّبهم العذاب والهلاك فلمّا سمعت من الملائكة قولهم: إنّا اُرسلنا إلى قوم لوط سرّت وضحكت لإصابتها في الرأى، وقولهم: إنّها ضحكت تعجّبا ممّا بشّروها به من الولد وهى عجوز عقيم، وعلى هذا ففى الكلام تقديم وتأخير والتقدير: فبشّرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب فضحكت.

وقوله:( فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ) إسحاق هو ابنها من إبراهيم، ويعقوب هو ابن إسحاقعليهما‌السلام فالمراد أنّ الملائكة بشّروها بأنّها ستلد إسحاق وإسحاق سيولد له يعقوب ولد بعد ولد. هذا على قراءة يعقوب بالفتح وهو منزوع الخافض وقرئ برفع يعقوب وهو بيان لتتمّة البشارة، والاُولى أرجح.

وكأنّ في هذا التعبير:( وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ) إشارة إلى وجه تسمية يعقوبعليه‌السلام بهذا الاسم، وهو أنّه كان يعقب بحسب هذه البشارة أباه إسحاق وقد ذكر فيها أنّه وراءه، ويكون فيها تخطئة لما في التوراة من السبب في تسمية يعقوب به.

قال في التوراة الحاضرة: وكان إسحاق ابن أربعين سنة لمّا اتّخذ لنفسه زوجه( رفقة) بنت بنوئيل الأرامىّ اُخت لابان الأرامىّ من فدّان الأرام، وصلّى إسحاق إلى الربّ لأجل امرأته لأنّها كانت عاقرا فاستجاب له الربّ فحبلت رفقة امرأته وتزاحم الولدان في بطنها فقالت: إن كان هكذا فلماذا أنا، فمضت لتسأل الربّ فقال لها الربّ: في بطنك اُمّتان، ومن أحشائك يفترق شعبان: شعب يقوى على شعب، وكبير يستعبد لصغير.

فلمّا كملت أيّامها لتلد إذا في بطنها توأمان فخرج الأوّل أحمر كلّه كفروة شعر فدعو اسمه عيسو، وبعد ذلك خرج أخوه ويده قابضة بعقب عيسو فدعى اسمه يعقوب. انتهى موضع الحاجة وهذا من لطائف القرآن الكريم.

قوله تعالى: ( قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ

٣٣٦

عَجِيبٌ ) الويل القبح وكلّ مساءة توجب التحسّر من هلكة أو مصيبة أو فجيعة أو فضيحة، ونداؤه كناية عن حضوره وحلوله يقال: يا ويلى أي حضرني وحلّ بى ما فيه تحسّرى، ويا ويلتا بزيادة التاء عند النداء مثل يا أبتا.

والعجوز الشيخة من النساء، والبعل زوج المرأة والأصل في معناه القائم بالأمر المستغنى عن الغير يقال للنخل الّذى يستغنى بماء السماء عن سقى الأنهار والعيون بعل، ويقال للصاحب وللربّ: بعل. ومنه بعلبك لأنّه كان فيه هيكل بعض أصنامهم.

والعجيب صفة مشبّهة من العجب وهو الحال العارض للإنسان من مشاهدة ما لا يعلم سببه، ولذا يكثر في الاُمور الشاذّة النادرة للجهل بسببها عادة وقولها:( يا ويلتى ءألد ) الخ، وارد مورد التعجّب والتحسّر فإنّها لمّا سمعت بشارة الملائكة تمثّل لها الحال بتولّد ولد من عجوز عقيم وشيخ هرم بالغين في الكبر لا يعهد من مثلهما الاستيلاد فهو أمر عجيب على ما فيه من العار والشين عند الناس فيضحكون منهما ويهزؤن بهما وذلك فضيحة.

قوله تعالى: ( قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) المجد هو الكرم والمجيد الكريم كثير النوال وقد تقدّم معنى بقيّة مفردات الآية.

وقولهم:( أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ ) استفهام إنكارىّ أنكرت الملائكة تعجّبها عليها لأنّ التعجّب إنّما يكون للجهل بالسبب واستغراب الأمر، والأمر المنسوب إلى الله سبحانه وهو الّذى يفعل ما يشاء وهو على كلّ شئ قدير لا وجه للتعجّب منه.

على أنّه تعالى خصّ بيت إبراهيم بعنايات عظيمة ومواهب عالية يتفرّدون بها من بين الناس فلا ضير إن ضمّ إلى ما مضى من نعمه النازلة عليهم نعمة اُخرى مختصّة بهم من بين الناس وهو ولد من زوجين شائخين لا يولد من مثلهما ولد عادة.

ولهذا الّذى ذكرنا قالت الملائكة لها في إنكار ما رأوا من تعجّبها أوّلا:( أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ ) فأضافوا الأمر إلى الله لينقطع بذلك كلّ استعجاب واستغراب لأنّ ساحة الاُلوهيّة لا يشقّ شئ عليها وهو الخالق لكلّ شئ.

٣٣٧

وثانياً:( رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) فنبّهوها بذلك أنّ الله أنزل رحمته وبركاته عليهم أهل البيت، وألزمهم ذلك فليس من البعيد أن يكون من ذلك تولّد مولود من والدين في غير سنّهما العادىّ المألوف لذلك.

وقوله:( إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) في مقام التعليل لقوله:( رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) أي إنّه تعالى مصدر كلّ فعل محمود ومنشأ كلّ كرم وجود يفيض من رحمته وبركاته على من يشاء من عباده.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَىٰ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ) الروع الخوف والرعب والمجادلة في الأصل الإلحاح في البحث والمسألة للغلبة في الرأى، والمعنى أنّه لمّا ذهب عن إبراهيم ما اعتراه من الخيفة بتبيّن أنّ النازلين به لا يريدون به سوءاً ولا يضمرون له شرّاً. وجاءته البشرى بأنّ الله سيرزقه وزوجه إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب أخذ يجادل الملائكة في قوم لوط يريد بذلك أن يصرف عنهم العذاب.

فقوله:( يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ) لحكاية الحال الماضية أو بتقدير فعل ماض قبله وتقديره: أخذ يجادلنا الخ، لأنّ الأصل في جواب لمّا أن يكون فعلا ماضيا.

ويظهر من الآية أنّ الملائكة أخبروه أوّلا: بأنّهم مرسلون إلى قوم لوط ثمّ ألقوا إليه البشارة ثمّ جرى بينهم الكلام في خصوص عذاب قوم لوط فأخذ إبراهيمعليه‌السلام يجادلهم ليصرف عنهم العذاب فأخبروه بأنّ القضاء حتم، والعذاب نازل لا مردّ له.

والّذى ذكره الله من مجادلتهعليه‌السلام الملائكة هو قوله في موضع آخر:( وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) العنكبوت: ٣٢.

قوله تعالى: ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ) الحليم هو الّذى لا يعاجل العقوبة والانتقام، والأوّاه كثير التأوّه ممّا يصيبه أو يشاهده من السوء، والمنيب من

٣٣٨

الإنابة وهو الرجوع والمراد الرجوع في كلّ أمر إلى الله.

ولاية مسوقة لتعليل قوله في الآية السابقة:( يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ) وفيه مدح بالغ لإبراهيمعليه‌السلام وبيان أنّه إنّما كان يجادل فيهم لأنّه كان حليما لا يعاجل نزول العذاب على الظالمين رجاء أن يأخذهم التوفيق فيصلحوا ويستقيموا، وكان كثير التأثّر من ضلال الناس وحلول الهلاك بهم مراجعاً إلى الله في نجاتهم. لا أنّهعليه‌السلام كان يكره عذاب الظالمين وينتصر لهم بما هم ظالمون وحاشاه عن ذلك.

قوله تعالى: ( يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ) هذا حكاية قول الملائكة لإبراهيمعليه‌السلام وبذلك قطعوا عليه جداله فانقطع حيث علم أنّ الإلحاح في صرف العذاب عنهم لن يثمر ثمرا فإنّ القضاء حتم والعذاب واقع لا محالة. فقولهم:( يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ) أي انصرف عن هذا الجدال ولا تطمع في نجاتهم فإنّه طمع فيما لا مطمع فيه.

وقولهم:( إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ) أي بلغ أمره مبلغا لا يدفع بدافع ولا يتبدّل بمبدّل ويؤيّده قوله في الجملة التالية:( وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ) فإنّ ظاهره المستقبل ولو كان الأمر صادرا لم يتخلّف القضاء عن المقضىّ البتّة ويؤيّده أيضاً قوله في ما سيأتي من آيات قصّة قوم لوط:( فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا ) الخ، آية: ٨٢ من السورة.

وقولهم:( وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ) أي غير مدفوع عنهم بدافع فللّه الحكم لا معقّب لحكمه، والجملة بيان لما اُمر به جيئ بها تأكيدا للجملة السابقة والمقام مقام التأكيد، ولذلك جئ في الجملة الاُولى بضمير الشأن وقد المفيد للتحقيق، وصدّرت الجملتان معاً بإنّ، وأضافوا الأمر إلى ربّ إبراهيمعليه‌السلام دون أمر الله ليعينهم ذلك على انقطاعه عن الجدال.

٣٣٩

( بحث روائي)

في الكافي بإسناده عن أبى يزيد الحمّار عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ الله بعث أربعة أملاك في إهلاك قوم لوط: جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وكرّوبيل فمرّوا بإبراهيم فسلّموا عليه وهم معتمّون فلم يعرفهم، ورأى هيئة حسنة فقال: لا يخدم هؤلاء إلّا أنا بنفسى وكان صاحب ضيافة فشوّى لهم عجلا سمينا حتّى أنضجه فقرّبه إليهم فلمّا وضع بين أيديهم رآى أيديهم لا تصل إليه فنكرهم وأوجس منهم خيفة فلمّا رآى ذلك جبرئيل حسر العمامة عن وجهه فعرفه إبراهيم فقال: أنت هو؟ قال: نعم فمرّت به امرأته فبشّرها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب فقالت: ما قال الله عزّوجلّ وأجابوها بما في الكتاب.

فقال لهم إبراهيم: لماذا جئتم؟ فقالوا في إهلاك قوم لوط. قال: إن كان فيها مائة من المؤمنين أتهلكونها؟ قال جبرئيل: لا. قال: وإن كان فيهم خمسون؟ قال: لا. قال: وإن كان فيهم ثلاثون؟ قال: لا. قال: وإن كان فيهم عشرون؟ قال: لا. قال: وإن كان فيهم عشرة؟ قال: لا. قال: وإن كان فيهم خمسة؟ قال: لا. قال: وإن كان فيهم واحد؟ قال: لا. قال: فإنّ فيها لوطا. قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجّينّه وأهله إلّا امرأته كانت من الغابرين ثمّ مضوا..

قال: وقال الحسن بن علىّ: لا أعلم هذا القول إلّا وهو يستبقيهم وهو قول الله عزّوجلّ:( يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ) الحديث وله تتمّة ستوافيك في قصّة لوط.

أقول: وقوله:( لا أعلم هذا القول إلّا وهو يستقبيهم) يمكن استفادته من قوله تعالى:( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ) فإنّه انسب بكون غرضه استبقاء القوم لا استبقاء نبىّ الله لوط. على أنّ قوله:( يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ) وقوله:( وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ) إنّما يناسب استبقاء القوم.

وفي تفسير العيّاشيّ عن عبدالله بن سنان قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول:

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406