الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 406

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 406
المشاهدات: 109284
تحميل: 5904


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 109284 / تحميل: 5904
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 10

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

جاء بعجل حنيذ مشويّا نضيجا.

وفي معاني الأخبار بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ: فضحكت فبشّرناها بإسحاق قال: حاضت.

وفي الدرّ المنثور أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر من طريق جويبر عن الضحّاك عن ابن عبّاس قال: لمّا رآى إبراهيم أنّه لا تصل إلى العجل أيديهم نكرهم وخافهم، وإنّما كان خوف إبراهيم أنّهم كانوا في ذلك الزمان إذا همّ أحدهم بامرء سوءً لم يأكل عنده يقول: إذا اُكرمت بطعامه حرم علىّ أذاه، فخاف إبراهيم أن يريدوا به سوءً فاضطربت مفاصله.

وامرأته سارة قائمة تخدمهم، وكان إذا أراد أن يكرم ضيفا أقام سارة ليخدمهم فضحكت سارة، وإنّما ضحكت أنّها قالت: يا إبراهيم وما تخاف؟ إنّهم ثلاثة نفر وأنت وأهلك وغلمانك. قال لها جبرئيل: أيّتها الضاحكة أمّا إنّك ستلدين غلاما يقال له: إسحاق ومن ورائه غلام يقال له: يعقوب فأقبلت في صرّة فصكّت وجهها فأقبلت والهة تقول: واويلتاه ووضعت يدها على وجهها استحياء فذلك قوله: فصكّت وجهها، وقالت: ءألد وأنا عجوز وهذا بعلى شيخا.

قال: لمّا بشّر إبراهيم يقول الله: فلمّا ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى بإسحاق يجادلنا في قوم لوط، وكان جداله أنّه قال: يا جبرئيل أين تريدون؟ وإلى من بعثتم؟ قال: إلى قوم لوط وقد أمرنا بعذابهم.

فقال إبراهيم إنّ فيها لوطا. قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجّينّه وأهله إلّا امرأته، وكانت فيما زعموا تسمّى والقة. فقال إبراهيم: إن كان فيهم مائة مؤمن أتعذّبونهم؟ قال جبرئيل: لا. قال: فإن كان فيهم تسعون مؤمنون تعذّبونهم؟ قال جبرئيل: لا. قال: فإن كان فيهم ثمانون مؤمنون تعذّبونهم؟ قال جبرئيل: لا. حتّى انتهى في العدد إلى واحد مؤمن قال جبرئيل: لا. فلمّا لم يذكروا لإبراهيم أنّ فيها مؤمنا واحدا قال: إنّ فيها لوطا. قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجّينّه وأهله إلّا امرأته.

٣٤١

أقول: وفي متن الحديث اضطراب مّا من حيث ذكره قول إبراهيم: إنّ فيها لوطا أوّلاً وثانياً لكنّ المراد واضح.

وفي تفسير العيّاشيّ عن أبى حمزة الثمالىّ عن أبى جعفرعليه‌السلام قال: إنّ الله تبارك وتعالى لمّا قضى عذاب قوم لوط وقدّره أحبّ أن يعوّض إبراهيم من عذاب قوم لوط بغلام عليم يسلّى به مصابه بهلاك قوم لوط.

قال: فبعث الله رسلا إلى إبراهيم يبشّرونه بإسماعيل. قال: فدخلوا عليه ليلاً ففزع منهم وخاف أن يكونوا سرّاقا فلمّا رأته الرسل فزعا مذعورا قالوا: سلاما. قال: سلام إنّا منكم وجلون. قالوا: لا توجل إنّا نبشّرك بغلام عليم. قال أبوجعفرعليه‌السلام : والغلام العليم إسماعيل من هاجر فقال إبراهيم للرسل: أبشّرتموني على أن مسنّى الكبر فبم تبشّرون. قالوا: بشّرناك بالحقّ فلا تكن من القانطين.

قال إبراهيم للرسل: فما خطبكم بعد البشارة؟ قالوا: إنّا اُرسلنا إلى قوم مجرمين قوم لوط إنّهم كانوا قوما فاسقين لننذرهم عذاب ربّ العالمين، قال أبوجعفرعليه‌السلام : قال إبراهيم: إنّ فيها لوطا. قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجّينّه وأهله إلّا امرأته قدّرنا إنّها لمن الغابرين.

فلمّا عذّبهم الله ارسل الله إلى إبراهيم رسلا يبشّرونه بإسحاق ويعزّونه بهلاك قوم لوط، وذلك قوله: ولمّا جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فما لبث أن جاء بعجل حنيذ يعنى زكيّا مشويّا نضيجا فلمّا رآى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنّا اُرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة. قال أبوجعفرعليه‌السلام : إنّما عنوا سارة قائمة فبشّروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب فضحكت يعنى فعجبت من قولهم.

أقول: والرواية - كما ترى - تجعل قصّة البشارة قصّتين: البشارة بإسماعيل والبشارة بإسحاق وقد ولد بعد إسماعيل بسنين. ثمّ تحمل آيات سورة الحجر - ولم يذكر فيها تقديم العجل المشوىّ إلى الضيوف - على البشرى بإسماعيل ولمّا يقع العذاب على قوم لوط حين ذاك، وتحمل آيات سورتي الذاريات وهود - وقد اختلطتا

٣٤٢

في الرواية - على البشرى لسارة بإسحاق ويعقوب، وأنّها إنّما كانت بعد هلاك قوم لوط فراجعوا إبراهيم وأخبروه بوقوع العذاب وبشّروه البشارة الثانية.

أمّا آيات سورة الحجر فإنّها في نفسها تحتمل الحمل على البشارة بإسماعيل وكذا الآيات الواقعة في سورة الذاريات تحتمل أن تقصّ عمّا بعد هلاك قوم لوط وتكون البشرى بإسحاق ويعقوب عند ذلك.

وأمّا آيات سورة هود فإنّها صريحة في البشرى بإسحاق ويعقوب، ولكنّ ما في ذيلها من قوله:( يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ) إلى آخر الآيات تأبى أن تنطبق على ما بعد هلاك قوم لوط، وإن كان ما في صدرها من قوله:( إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ ) لا يأبى وحده الحمل على ما بعد الهلاك، وكذا جملة( إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ) لو لا ما يحفّها من قيود الكلام.

وبالجملة مفاد الآيات في سورة هود هو وقوع البشرى بإسحاق قبل هلاك قوم لوط، وعند ذلك كان جدال إبراهيمعليه‌السلام ، ومقتضى ذلك أن تكون ما وقع من القصّة في سورة الذاريات هي الواقعة قبل هلاك القوم لا بعد الهلاك، وكذا كون ما وقع من القصّة في سورة الحجر وفيه التصريح بكونه قبل هلاكهم وفيه جدال إبراهيمعليه‌السلام خاليا عن بشرى إسحاق ويعقوب لا بشرى إسماعيل.

والحاصل أنّ اشتمال آيات هود على بشرى إسحاق وجدال إبراهيمعليه‌السلام الظاهر في كونها قبل هلاك قوم لوط يوجب أن يكون المذكور من البشرى في جميع السور الثلاث: هود والحجر والذاريات قصّة واحدة هي قصّة البشرى بإسحاق قبل وقوع العذاب، وهذا ممّا يوهن الرواية جدّاً.

وفي الرواية شئ آخر وهو أنّها أخذت الضحك بمعنى العجب وأخذت قوله:( فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ) من التقديم والتأخير، وأنّ التقدير: فبشّرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب فضحكت وهو خلاف الظاهر من غير نكتة ظاهرة.

وفي تفسير العيّاشيّ أيضاً عن الفضل بن أبى قرّة قال: سمعت أباعبدالله

٣٤٣

عليه‌السلام يقول: أوحى الله إلى إبراهيم أنّه سيلد لك فقال لسارة فقالت: ءألد وأنا عجوز؟ فأوحى الله إليه: أنّها ستلد ويعذّب أولادها أربعمائة سنة بردّها الكلام علىّ.

قال: فلمّا طال على بنى إسرائيل العذاب ضجّوا وبكوا إلى الله أربعين صباحا فأوحى الله إلى موسى وهارون أن يخلّصهم من فرعون فحطّ عنهم سبعين ومائة سنة.

قال: وقال أبوعبداللهعليه‌السلام : هكذا أنتم. لو فعلتم فرّج الله عنّا فأمّا إذا لم تكونوا فإنّ الأمر ينتهى إلى منتهاه.

أقول: وجود الرابطة بين أحوال الإنسان وملكاته وبين خصوصيّات تركيب بدنه ممّا لا شكّ فيه فلكلّ من جانبى الربط استدعاء وتأثير خاصّ في الآخرة ثمّ النطفة مأخوذة من المادّة البدنيّة حاملة لما في البدن من الخصوصيّات المادّيّة والروحيّة طبعا فمن الجائز أن يرث الأخلاف بعض خصوصيّات أخلاق أسلافهم المادّيّة والروحيّة.

وقد تقدّم كرارا في المباحث السابقة أنّ بين صفات الإنسان الروحيّة وأعماله وبين الحوادث الخارجيّة خيرا وشرّا رابطة تامّة كما يشير إليه قوله تعالى:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ) الأعراف: ٩٦، وقوله:( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) الشورى: ٣٠.

فمن الجائز أن يصدر عن فرد من أفراد الإنسان أو عن مجتمع من المجتمعات الإنسانيّة عمل من الأعمال صالح اوطالح أو تظهر صفة من الصفات فضيلة أو رذيلة ثمّ يظهر أثره الجميل أو وباله السيّئ في أعقابه، والملاك في ذلك نوع من الوراثة كما مرّ، وقد تقدّم في ذيل قوله تعالى:( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ ) النساء: ٩ كلام في هذا المعنى في الجزء الرابع من الكتاب.

وفيه عن زرارة وحمران ومحمّد بن مسلم عن أبى جعفرعليه‌السلام وعن عبد الرحمن عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ) قال: دعاء.

أقول: وروى في الكافي عن زرارة عن أبى جعفرعليه‌السلام مثله.

٣٤٤

وفيه عن أبى بصير عن أحدهماعليهما‌السلام قال: إنّ إبراهيم جادل في قوم لوط وقال: إنّ فيها لوطا. قالوا: نحن أعلم بمن فيها فزاده إبراهيم فقال جبرئيل: يا إبراهيم أعرض عن هذا إنّه قد جاء أمر ربّك وإنّهم آتيهم عذاب غير مردود.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن الأنباريّ في كتاب الوقف والابتداء عن حسّان بن أبجر قال: كنت عند ابن عبّاس فجاءه رجل من هذيل فقال له ابن عبّاس: ما فعل فلان؟ قال: مات وترك أربعة من الولد وثلاثة من الوراء. فقال ابن عبّاس:( فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ) قال: ولد الولد.

( كلام في قصّة البشرى)

قصّة البشرى وسمّاها الله تعالى حديث ضيف إبراهيمعليه‌السلام وقعت في خمس من السور القرآنيّة كلّها مكّيّة وهى على ترتيب القرآن سورة هود والحجر والعنكبوت والصافّات والذاريات.

فالاُولى ما في سورة هود ٦٩ - ٧٦ قوله تعالى:( وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ( ٦٩ ) فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ ( ٧٠ ) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ( ٧١ ) قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ( ٧٢ ) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ( ٧٣ ) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَىٰ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ( ٧٤ ) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ( ٧٥ ) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ( ٧٦ ) ) .

والثانية ما في سورة الحجر: ٥١ - ٦٠ قوله تعالى:( وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ( ٥١ ) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ ( ٥٢ ) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ( ٥٣ ) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ( ٥٤ ) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ ( ٥٥ ) قَالَ وَمَن يَقْنَطُ

٣٤٥

مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ( ٥٦ ) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ( ٥٧ ) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ( ٥٨ ) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ( ٥٩ ) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ( ٦٠ ) ) .

والثالثة ما في سورة العنكبوت: ٣١ - ٣٢ قوله تعالى:( وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ( ٣١ ) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ( ٣٢ ) ) .

والرابعة ما في سورة الصافات: ٩٩ - ١١٣ قوله تعالى:( وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ ( ٩٩ ) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ( ١٠٠ ) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ( ١٠١ ) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ( ١٠٢ ) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ( ١٠٣ ) وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ ( ١٠٤ ) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ١٠٥ ) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ( ١٠٦ ) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ( ١٠٧ ) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ( ١٠٨ ) سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ( ١٠٩ ) كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ١١٠ ) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ( ١١١ ) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ١١٢ ) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ ( ١١٣ ) ) .

والخامسة ما في سورة الذاريات: ٢٤ - ٣٠ قوله تعالى:( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ( ٢٤ ) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ( ٢٥ ) فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ( ٢٦ ) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ( ٢٧ ) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ( ٢٨ ) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ( ٢٩ ) قَالُوا كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ( ٣٠ ) ) .

ويقع البحث في قصّة البشرى من وجوه:

أحدها: أنّها هل هي بشرى واحدة وهى المشتملة على بشرى إبراهيم وسارة بإسحاق ويعقوب وقد وقعت قبيل هلاك قوم لوط أو أنّها قصّتان: إحداهما تشتمل على البشرى بإسماعيل والاُخرى تتضمّن البشرى بإسحاق ويعقوب.

ربّما رجّح الثاني بناء على أنّ ما وقع من القصّة في سورة الذاريات صريح في تقديم العجل المشوىّ، وأنّ إبراهيم خافهم لمّا امتنعوا من الأكل ثمّ بشرّوه

٣٤٦

وامرأته العجوز العقيم وهى سارة اُمّ إسحاق قطعاً، وذيل الآيات ظاهر في كون ذلك بعد إهلاك قوم لوط حيث يقول الملائكة:( إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ - إلى أن قالوا -فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ) الآيات ونظير ذلك ما في سورة هود وقد قال فيها الملائكة لإزالة الروع عن إبراهيم ابتداء: إنّا أرسلنا إلى قوم لوط.

وأمّا ما في سورة الحجر فليس يتضمّن حديث تقديم العجل المشوىّ بل ظاهره أنّ إبراهيم وأهله خافوهم لدى دخولهم عليه فأسكنوا رعبه بالبشارة كما يقول تعالى:( إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ) وذيل الآيات ظاهر في كون ذلك قبل هلاك لوط.

ونظيره ما في سورة العنكبوت من القصّة وهى أظهر في كون ذلك قبل الهلاك ويتضمّن جدال إبراهيم في قوم لوط، وقد تقدّمت في البحث الروائيّ السابق حديث العيّاشيّ في هذا المعنى.

لكنّ الحقّ أنّ الآيات في جميع السور الأربع سورة هود والحجر والعنكبوت والذاريات إنّما تقصّ قصّة البشارة بإسحاق ويعقوب دون إسماعيل.

وأمّا ما في ذيل آيات الذاريات من قوله:( قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا ) الظاهر في المضىّ والفراغ عن الأمر فنظيره واقع في آيات الحجر مع تسليمهم أنّها تقصّ ما قبل الفراغ.

على أنّ قول الملائكة المرسلين وهم بعد في الطريق:( إِنَّا أُرْسِلْنَا ) لا مانع منه بحسب اللغة والعرف.

وأمّا قوله:( فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) إلى آخر الآيات فهو من كلامه تعالى وليس من تتمّة كلام الملائكة لإبراهيم كما يدلّ عليه سياق القصص الواردة في سورة الذاريات.

٣٤٧

وأمّا ذكر الوجل في آيات الحجر في أوّل القصّة بخلاف سورتي الذاريات وهود فالوجه فيه عدم ذكر تقديم العجل المشوىّ في آيات الحجر بخلافهما، على أنّ الارتباط التامّ بين أجزاء قصّة ممّا يجوّز أن يقدّم بعضها على بعض حينا ويعكس الأمر حينا آخر كما أنّه تعالى يذكر إنكار إبراهيم في آيات الذاريات في صدر القصّة بعد سلامهم، وفي سورة هود في وسط القصّة بعد امتناعهم من الأكل، وهذا كثير الورود في نظم القرآن.

على أنّ آيات هود صريحة في البشرى بإسحاق ويعقوب وهى تتضمّن جدال إبراهيم في قوم لوط في سياق لا يشكّ معه أنّه كان قبل هلاك لوط، ولازمه كون بشرى إسحاق قبله لا بعده.

على أنّ من المتّفق عليه أنّ إسماعيل كان أكبر سنّا من إسحاق وبين ولادتيهما سنون، ولو كانت هؤلاء الملائكة بشّروا إبراهيم بإسماعيل في مسيرهم إلى هلاك قوم لوط قبيل الهلاك وبشّروه بإسحاق في منصرفهم عن هلاكهم بعيده كان الفصل بين البشريين يوماً أو يومين فيكون الفصل بين البشرى بإسحاق وبين ولادته سنون من الزمان والبشرى لا تطلق إلا على الإخبار بالجميل إذا كان مشرفاً على الوقوع إلّا إذا كانت هناك عناية خاصّة وأمّا الإخبار بمطلق الجميل فهو وعد ونحو ذلك.

وثانيها أنّه هل هناك بشرى بإسماعيل؟ والحقّ أنّ ما ذكرت من البشرى في صدر آيات الصافّات إنّما هي بشرى بإسماعيل وهى غير ما ذكرت في ذيل الآيات من البشرى بإسحاق صريحاً فإنّ سياق الآيات في ذيل قوله:( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ) ثمّ استيناف البشارة بإسحاق في قوله أخيرا:( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ) لا يدع ريبا لمرتاب أنّ الغلام الحليم الّذى بشّر به أوّلا غير إسحاق الّذى بشّر به ثانياً، وليس إلّا إسماعيل.

وذكر الطبريّ في تاريخه أنّ المراد بالبشارة الاُولى في هذه السورة أيضاً البشارة بإسحاق قياساً على ذكر من البشارة في سائر السور، وهو كما ترى. و

٣٤٨

قد تقدّم كلام في هذا المعنى في قصص إبراهيمعليه‌السلام في الجزء السابع من الكتاب.

وثالثها: البحث في القصّة من جهة تطبيق ما في التوراة الحاضرة منها على ما استفيد من القرآن الكريم، وسيوافيك ذلك عند الكلام على قصّة لوطعليه‌السلام في ذيل الآيات التالية.

ورابعها: البحث فيها من جهة جدال إبراهيم الملائكة وقد وقع فيها مثل قوله:( يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ) وقوله:( يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ) .

وقد تقدّم أنّ سياق الآيات وخاصّة قوله:( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ) لا يدلّ إلّا على نعته بالجميل فلم يكن جداله إلّا حرصا منه في نجاة عبدالله رجاء أن يهتدوا إلى صراط الإيمان.

٣٤٩

( سورة هود آية ٧٧ - ٨٣)

وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ( ٧٧) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ( ٧٨) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ( ٧٩) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ( ٨٠) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ( ٨١) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ( ٨٢) مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ( ٨٣)

( بيان)

الآيات تذكر عذاب قوم لوط، وهى من وجه تتمّة الآيات السابقة الّتى قصّت نزول الملائكة ودخولهم على إبراهيمعليه‌السلام وتبشيره بإسحاق فإنّما كانت كالتوطئة لقصّة عذاب قوم لوط.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ) يقال: ساءه الأمر مساءة أي أوقع عليه السوء، وسيئ بالأمر بالبناء للمجهول أي أوقع عليه من ناحيته وبسببه.

والذرع مقايسة الأطوال مأخوذ من الذراع العضو المعروف لأنّهم كانوا

٣٥٠

يقيسون بها، ويطلق على نفس المقياس أيضاً، ويقال: ضاق بالأمر ذرعاً وهو كناية عن انسداد طريق الحيلة والعجز عن الاهتداء إلى مخلص ينجو به الإنسان من النائبة كالّذى يذرع ما لا ينطبق عليه ذرعه.

والعصيب فعيل بمعنى المفعول من العصب بمعنى الشدّ واليوم العصيب هو اليوم الّذى شدّ بالبلاء شدّاً لا يقبل الانحلال ولا بعض أجزائه ينفكّ عن بعض.

والمعنى لمّا جاءت رسلنا لوطاً وهم الملائكة النازلون بإبراهيمعليه‌السلام ساء مجيئهم لوطا، وعجز عن الاحتيال لنجاتهم من شرّ القوم فإنّهم دخلوا عليه في صور غلمان مرد صبيحى المنظر وكان قومه ذوى حرص شديد على إتيان الفحشاء ما كان من المترقّب أن يعرضوا عنهم ويتركوهم على حالهم، ولذلك لم يملك لوط نفسه دون أن قال:( هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ) أي شديد ملتفّ بعض شرّه ببعض.

قوله تعالى: ( وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ) قال الراغب: يقال: هرع وأهرع ساقه سوقا بعنف وتخويف، انتهى. وعن كتاب العين الإهراع السوق الحثيث، انتهى.

وقوله:( وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ) أي ومن قبل ذلك كانوا يقترفون المعاصي ويأتون بالمنكرات فكانوا مجترئين على إيقاع الفحشاء معتادين بذلك لا ينصرفون عنه بصارف، ولا يحجبهم عن ذلك استحياء أو استشناع، ولا ينزجرون بموعظة أو ملامة أو مذمّة لأنّ العادة تسهّل كلّ صعب وتزيّن كلّ قبيح ووقيح.

والجملة كالمعترضة بين قوله:( وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ ) وقوله:( قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي ) الخ، وهى نافعة في مضمون طرفيها أمّا فيما قبلها فإنّها توضح أنّ الّذى كان يهرعهم ويسوقهم إلى لوطعليه‌السلام هو أنّهم كانوا يعملون السيّئات وصاروا بذلك معتادين على إتيان الفحشاء ولعين به فساقهم ذلك إلى المجئ إليه وقصد السوء بأضيافه.

وأمّا فيما بعدها فإنّها تفيد أنّهم لرسوخ الملكة واستقرار العادة سلبوا سمع القبول وأن يزجرهم زاجر من عظة أو نصيحة، ولذلك بدأ لوط في تكليمهم

٣٥١

بعرض بناته عليهم ثمّ قال لهم:( فَاتَّقُوا اللهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ) الخ.

قوله تعالى: ( قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) إلى آخر الآية، لمّا رآهم تجمّعوا على الشرّ لا يصرفهم عن ذلك مجرّد القول بعظة أو إغلاظ في الكلام أراد أن يصرفهم عنه بتبديل ما يريدون من الفحشاء ممّا لا معصية فيه من الحلال فعرض بناته عليهم ورجّحه لهم بأنّهنّ أطهر لهم.

وإنّما المراد بصيغة التفضيل - أطهر - مجرّد الاشتمال على الطهارة من غير شوب بقذارة، والمراد هي طهارة محضا، وهو استعمال شائع، قال تعالى:( مَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ مِّنَ اللهْوِ ) الجمعة: ١١، وقال( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) النساء: ١٢٨. وتفيد معنى الأخذ بالمتيقّن.

وتقييد قوله:( هَؤُلَاءِ بَنَاتِي ) بقوله:( هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) شاهد صدق على أنّه إنّما عرض لهم مسّهنّ عن نكاح لا عن سفاح وحاشا مقام نبىّ الله عن ذلك، وذلك لأنّ السفاح لا طهارة فيه أصلا وقد قال تعالى:( وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ) أسرى: ٣٢، وقال:( وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) الأنعام: ١٥١، وقد تقدّم في تفسير هذه الآية أنّ ما تتضمّنه هو من الأحكام العامّة المشرّعة في جميع الشرائع الإلهيّة النازلة على أنبيائه.

ومن هنا يظهر فساد قول من يقول: إنّه عرض عليهم بناته من غير تقييده بنكاح. ولست أدرى ما معنى علاج فحشاء بفحشاء غيرها؟ وما معنى قوله حينئذ:( فَاتَّقُوا اللهَ ) ؟ ولو كان يريد دفع الفضيحة والعار عن نفسه فقطّ لاكتفى بقوله:( وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ) .

وربّما قيل: إنّ المراد بقوله:( هَؤُلَاءِ بَنَاتِي ) الإشارة إلى نساء القوم لأنّ النبيّ أبو أمّته فنساؤهم بناته كما أنّ رجالهم بنوه، يريد أنّ قصد الإناث وهو سبيل فطرىّ خير لكم وأطهر من قصد الذكور من طريق الفحشاء.

وهو تحكّم لا دليل عليه من جهة اللّفظ البتّة، وأمّا كونهم كفّاراً وبناته مسلمات ولا يجوز إنكاح المسلمة من الكافر فليس من المعلوم أنّ ذلك من شريعة

٣٥٢

إبراهيم حتّى يتّبعه لوطعليهما‌السلام فمن الجائز أن يكون تزويج المؤمنة بالكافر جائزاً في شرعه كما أنّه كان جائزاً في صدر الإسلام، وقد زوّج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنته من أبى العاص بن الربيع وهو كافر قبل الهجرة ثمّ نسخ ذلك.

على أنّ قولهم في جوابه:( لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ ) لا يلائم كون المراد بالبنات في كلامه إنّما هي نساؤهم لا بناته من صلبه فإنّهم ما كانوا مؤمنين به حتّى يعترفوا بكون نسائهم بناته إلّا أن يكون المراد التهكّم ولا قرينه عليه.

لا يقال تعبيرهعليه‌السلام بالبنات وليس له عندئذ إلّا بنتان يدلّ على أنّ مراده بناته من نساء أمّته لا بنتاه غير الصادق عليه لفظ الجمع.

لأنّا نقول: لا دليل على ذلك من كلامه تعالى ولا وقع ذلك في نقل يعتمد عليه، نعم وقع في التوراة الحاضرة أنّه كان للوط بنتان فقطّ، ولا اعتماد على ما تتضمّنه.

وقوله:( فَاتَّقُوا اللهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ) بيان للمطلوب، وقوله:( وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ) عطف تفسيرى لقوله:( فَاتَّقُوا اللهَ ) فإنّهعليه‌السلام إنّما كان يطلب منهم أن لا يتعرّضوا لضيفه لتقوى الله لا لهوى نفسه وعصبيّة جاهليّة منه، ولم يكن عنده فرق بين ضيفه وغيرهم فيما كان يردعهم، وقد وعظهم بالردع عن هذا الذنب الشنيع وألحّ على ذلك سنين متمادية.

وإنّما علّق الردع على معنى الضيافة وأضاف الضيف إلى نفسه وذكر الخزى الوارد عليه من التعرّض لهم كلّ ذلك رجاء أن يهيّج صفه الفتوّة والكرامة فيهم ولذلك عقّب ذلك بالاستغاثة والاستنصار بقوله:( أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ ) لعلّه يجد فيهم ذا رشد إنسانيّ فينتصر له وينجيه وضيوفه من أيدى اُولئك الظالمين لكنّ القوم كانوا كما قال الله تعالى:( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) الحجر: ٧٢ ولم يؤثّر ذلك فيهم أثراً ولم ينتهوا عن قوله بل أجابوا بما أيأسوه به من أيّ إلحاح في ذلك.

٣٥٣

قوله تعالى: ( قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ) هذا جواب القوم عمّا دعاهم إليه لوط من النكاح المباح أجابوا بنفى أن يكون لهم في بناته من حقّ وأنّه يعلم ذلك ويعلم ما هو بغيتهم في هذا الهجوم وما ذا يريدون.

وقد قيل في معنى نفيهم الحقّ: إنّ معناه ما لنا في بناتك من حاجة وما ليس للإنسان فيه حاجة فكأنّه لا حقّ له فيه ففى الكلام نوع استعارة.

وقيل: إنّ المراد ليس لنا في بناتك من حقّ لأنّا لا نتزوّجهنّ ومن لم يتزوّج بامرأة فلا حقّ له فيها فالمراد بنفى الحقّ نفى سببه وهو الازدواج.

وقيل: المراد بالحقّ هو الحظّ والنصيب دون الحقّ الشرعيّ أو العرفيّ أي لا رغبة لنا فيهنّ لأنّهنّ نساء ولا ميل لنا إليهنّ.

والّذى يجب الالتفات إليه أنّهم لم يقولوا: ما لنا في بناتك من حقّ بل قالوا:( لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ ) فلم يجيبوا عنه بذلك بل بعلمه بذلك وبين القولين فرق فالظاهر أنّهم ذكّروه بما كان يعلم من السنّة القوميّة الجارية بينهم، وهو المنع من التعرّض لنساء الناس وخاصّة بالقهر والغلبة أو ترك إتيان النساء بالمرّة واستباحة التعرّض للغلمان وقضاء الوطر منهم، وقد كان لوط يردعهم عن سنّتهم ذلك إذ يقول لهم:( إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ ) الأعراف: ٨١( أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم ) الشعراء: ١٦٦( أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ ) العنكبوت: ٢٩، ولا شكّ أنّ السنّة القوميّة الجارية على فعل شئ يثبت حقّا فيه، والجارية على تركه ينفى الحقّ.

وبالجملة هم يلفتون نظرهعليه‌السلام إلى ما يعلم من انتفاء حقّهم عن بناته بما هنّ نساء بحسب السنّة القوميّة وما يعلم من إرادتهم في الهجوم على داره هذا ولعلّ هذا أحسن الوجوه، وبعده الوجه الثالث.

قوله تعالى: ( الَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ ) يقال: أوى

٣٥٤

إلى كذا يأوى اُويّا ومأوى أي انضمّ إليه، وآواه إليه يؤويه إيواء أي ضمّه إليه. والركن هو ما يعتمد عليه البناء بعد الأساس.

الظاهر أنّه لمّا وعظهم لوطعليه‌السلام بالأمر بتقوى الله وتهييج فتوّتهم في حفظ موقعه ورعاية حرمته في عدم التعرّض لضيفه بما يجلب إليه العار والخزى، وقد قطع عذرهم بعرض بناته عليهم بالنكاح ثمّ استغاث بالاستنصار من اُولى الرشد منهم رجاء أن يوجد فيهم رجل رشيد ينصره عليهم ويدفعهم عنه فلم يجبه أحد فيما سأل ولا انماز من بينهم ذو رشد ينصره ويدفع عنه بل أيأسوه بقولهم:( لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ) لم يبق له إلّا أن يظهر ما به من البثّ والحزن في صورة التمنّى فتمنّى أن يكون له منهم قوّة يقوى به على دفع عتاتهم الظالمين - وهو الرجل الرشيد الّذى كان يسأل عنه في استغاثته - أو يكون له ركن شديد وعشيرة منيعة ينضمّ إليهم فيدفعهم بهم.

فقوله:( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ) أي ليت لى قدرة بسببكم بانضمام رجل منكم رشيد إلى يقوم بنصرتي فأدفعكم به، وقوله:( أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ ) أي أو كنت أنضمّ إلى ركن شديد أي عشيرة منيعة يمنعكم منّى هذا ما يعطيه ظاهر السياق.

وقيل: إنّ معنى قوله:( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ) أتمنّى أن يكون لى منعة وقدرة وجماعة أتقوىّ بها عليكم فأدفعكم عن أضيافي. وفيه أنّ فيه تبديل قوله:( بِكُمْ ) إلى قولنا: بهم عليكم. وهو كما ترى.

وقيل: إنّ معنى( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ) لو قويت عليكم بنفسى. وفيه أنّه أبعد من لفظ الآية.

وقيل: إنّ الخطاب في الآية للأضياف دون القوم، ومعنى الآية أنّه قال لأضيافه: أتمنّى أن يكون لى بسببكم قوّة ألقاهم بها. وفيه أنّ الانتقال من خطاب القوم إلى خطاب الأضياف ولا دليل من اللفظ ظاهراً يدلّ عليه إبهام وتعقيد من غير موجب، وكلامه تعالى أجلّ من ذلك.

قوله تعالى: ( قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ ) إلى آخر الآية

٣٥٥

عدم وصولهم إليه كناية عن عدم قدرتهم على ما يريدون، والمعنى لمّا بلغ الأمر هذا المبلغ قالت الملائكة مخاطبين للوط: إنّا رسل ربّك فأظهروا له أنّهم ملائكة وعرّفوه أنّهم مرسلون من عند الله، وطيّبوا نفسه أنّ القوم لن يصلوا إليه ولن يقدروا أن يصيبوا منه ما يريدون فكان ما ذكره الله تعالى في موضع آخر من كلامه:( وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ ) القمر: ٣٧، فأذهب الله بأبصار الّذين تابعوا على الشرّ وازدحموا على بابه فصاروا عميانا يتخبّطون.

وقوله:( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ ) الإسراء والسرى بالضمّ السير بالليل فيكون قوله:( بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ ) نوع توضيح له، والباء للمصاحبة أو بمعنى في. والقطع من الشئ طائفة منه وبعضه، والالتفات افتعال من اللفت، قال الراغب: يقال: لفته عن كذا صرفه عنه، قال تعالى:( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا ) أي تصرفنا، ومنه التفت فلان إذا عدل عن قبله بوجهه، وامرأة لفوت تلفت من زوجها إلى ولدها من غيره. انتهى.

والقول دستور من الملائكة للوطعليه‌السلام إرشاداً له إلى النجاة من العذاب النازل بالقوم صبيحة ليلتهم هاتيك، وفيه معنى الاستعجال كما يشعر به قوله بعد:( إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ) .

والمعنى أنّا مرسلون لعذاب القوم وهلاكهم فانج أنت بنفسك وأهلك وسيروا أنت وأهلك بقطع من هذا الليل واخرجوا من ديارهم فإنّهم هالكون بعذاب الله صبيحة ليلتهم هذه، ولا كثير وقت بينك وبين الصبح، ولا ينظر أحدكم إلى وراء.

وما ذكره بعضهم أنّ المراد بالالتفات الالتفات إلى مال أو متاع في المدينة يأخذه معه أو الالتفات بمعنى التخلّف عن السرى ممّا لا يلتفت إليه.

وقوله:( إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ) ظاهر السياق أنّه استثناء من قوله:( ِأَهْلِكَ ) لا من قوله:( أَحَدٌ ) وفي قوله:( إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ) بيان السبب لاستثنائها، وقال تعالى في غير هذا الموضع:( إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ) الحجر: ٦٠.

٣٥٦

وقوله:( إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ) أي موعد هلاكهم الصبح وهو صدر النهار بعد طلوع الفجر حين الشروق، كما قال تعالى في موضع آخر:( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ) الحجر: ٧٣.

والجملة الاُولى تعليل لقوله:( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ ) وفيه نوع استعجال كما تقدّم، ويؤكّده قوله:( أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ) ومن الجائز أن يكون لوطعليه‌السلام يستعجلهم في عذاب القوم فيجيبوه بقولهم:( إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ) أي إنّ من المقدّر أن يهلكوا بالصبح وليس موعداً بعيداً أو يكون الجملة الاُولى استعجالاً من الملائكة، والثانية تسلية منهم للوط في استعجاله.

ولم يذكر في الآيات ما هي الغاية لسراهم والمحلّ الّذى يتوجّهون إليه، وقد قال تعالى في موضع آخر من كلامه:( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ) الحجر: ٦٥، وظاهره أنّ الملائكة لم يذكروا له المقصد وأحالوا ذلك إلى ما سيأتيه من الدلالة بالوحى الإلهىّ.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ ) ضمائر التأنيث الثلاث راجعة إلى أرض القوم أو القرية أو بلادهم المعلومة من السياق، والسجّيل على ما في المجمع بمعنى السجّين وهو النار، وقال الراغب: السجّين حجر وطين مختلط، وأصله فيما قيل فارسيّ معرّب، انتهى. يشير إلى ما قيل إنّ أصله سنك كل، وقيل: إنّه مأخوذ من السجلّ بمعنى الكتاب كأنّها كتب فيها ما فيها من عمل الإهلاك، وقيل: مأخوذ من أسجلت بمعنى أرسلت.

والظاهر أنّ الأصل في جميع هذه المعاني هو التركيب الفارسىّ المعرّب المفيد معنى الحجر والطين، والسجلّ بمعنى الكتاب أيضاً منه فإنّهم على ما قيل كانوا يكتبون على الحجر المعمول ثمّ توسّع فسمّي كلّ كتاب سجلّا وإن كان من قرطاس، والإسجال بمعنى الإرسال مأخوذ من ذلك.

٣٥٧

والنضد هو النظم والترتيب، والتسويم جعل الشئ ذا علامة من السيماء بمعنى العلامة.

والمعنى: ولمّا جاء أمرنا بالعذاب وهو أمره تعالى الملائكة بعذابهم وهو كلمة( كُن ) الّتى أشار إليها في قوله:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ - كُن ) يس: ٨٣، جعلنا عالى أرضهم وبلادهم سافلها بتقليبها عليهم وأمطرنا عليها حجارة من سجّيل منضود معلّمة عند ربّك وفي علمه ليس لها أن تخطئ هدفها الّذى رميت لأجل إصابته.

وذكر بعضهم أنّ القلب وقع على بلادهم والإمطار بالسجّيل عذّب به الغائبون منهم، وقيل: إنّ القرية هي الّتى اُمطرت حين رفعها جبرئيل ليخسفها، وقيل: إنّما اُمطرت عليهم الحجارة بعد ما قلبت قريتهم تغليظا في العقوبة. والأقوال جميعاً من التحكّم من غير دليل من اللفظ.

وفي قوله تعالى في غير هذا الموضع:( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ) الحجر: ٧٣، فقد كان هناك قلب وصيحة وإمطار بالحجارة ومن الممكن أن يكون ذلك بحدوث بركان من البراكين بالقرب من بلادهم وتحدث به زلزلة في أرضهم وانفجار أرضىّ بصيحة توجب قلب مدنهم، ويمطر البركان عليهم من قطعات الحجارة الّتى يثيرها ويرميها، والله أعلم.

قوله تعالى: ( وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ) قيل المراد بالظالمين ظالموا أهل مكّة أو المشركون من قوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والكلام مسوق للتهديد، والمعنى وليست هذه الحجارة من ظالمي مكّة ببعيد أو المعنى: ليست هذه القرى المخسوفة من ظالمي قومك ببعيد فإنّه في طريقهم بين مكّة والشام، كما قال تعالى في موضع آخر:( وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ ) الحجر: ٧٦، وقال:( وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) الصافّات: ١٣٨.

ويؤيّده العدول من سياق التكلّم إلى الغيبة في قوله:( مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ ) فكأنّه تعالى عدل عن مثل قولنا: مسوّمة عندنا، إلى هذا التعبير ليتعرّض لقومهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٣٥٨

بالتهديد أو بإنهاء الحديث إلى حسّهم ليكون أقوى تأثيراً في الحجاج عليهم.

وربّما احتمل أنّ المراد تهديد مطلق الظالمين والمراد أنّه ليست الحجارة أي إمطارها من عند الله من معشر الظالمين ومنهم قوم لوط الظالمون ببعيد، ويكون وجه الالتفات في قوله:( عند ربّك ) أيضاً التعريض لقوم النبيّ الظالمين المشركين.

( بحث روائي)

في الكافي بإسناده عن زكريّا بن محمّد [عن أبيه] عن عمرو عن أبى جعفرعليه‌السلام قال: كان قوم لوط من أفضل قوم خلقهم الله فطلبهم إبليس الطلب الشديد، وكان من فضلهم وخيرتهم أنّهم إذا خرجوا إلى العمل خرجوا بأجمعهم وتبقى النساء خلفهم فلم يزل إبليس يعتادهم فكانوا إذا رجعوا خرّب إبليس ما يعملون.

فقالوا بعضهم لبعض: تعالوا نرصد هذا الّذى يخرّب متاعنا فرصدوه فإذا هو غلام أحسن ما يكون من الغلمان فقالوا له: أنت الّذى تخرّب متاعنا مرّة بعد اُخرى، فاجتمع رأيهم على أن يقتلوه فبيّتوه عند رجل فلمّا كان الليل صاح له فقال له: مالك؟ فقال: فإنّ أبى ينوّمني على بطنه فقال له: تعال فنم على بطني.

قال: فلم يزل يدلك الرجل حتّى علمه أن يفعل بنفسه فأوّلا علّمه إبليس والثانى علّمه هو ثمّ انسلّ يفرّ منهم، فأصبحوا فجعل الرجل يخبر بما فعل بالغلام ويعجبهم منه وهم لا يعرفونه فوضعوا أيديهم فيه حتّى اكتفى الرجال بعضهم ببعض ثمّ جعلوا يرصدون مارّة الطريق فيفعلون بهم حتّى تنكّب مدينتهم الناس ثمّ تركوا نسائهم وأقبلوا على الغلمان.

فلمّا رآى أنّه قد أحكم أمره في الرجال جاء إلى النساء فصيّر نفسه امرأة فقال لهنّ: إنّ رجالكنّ يفعل بعضهم ببعض؟ قلن: نعم رأينا ذلك وكلّ ذلك يعظهم لوط ويوصيهم وإبليس يغويهم حتّى استغنى النساء بالنساء.

٣٥٩

فلمّا كملت عليهم الحجّة بعث الله جبرئيل وميكائيل وإسرافيل في زىّ غلمان عليهم أقبية فمرّوا بلوط وهو يحرث. قال: أين تريدون؟ ما رأيت أجمل منكم قطّ. فقالوا: إنّا رسل سيّدنا إلى ربّ هذه البلدة. قال: أو لم يبلغ سيّدكم ما يفعل أهل هذه القرية؟ إنّهم والله يأخذون الرجال فيفعلون بهم حتّى يخرج الدم. قالوا: أمرنا سيّدنا أن نمرّ وسطها. قال: فلى إليكم حاجة. قالوا: وما هي؟ قال: تصبرون هنا إلى اختلاط الظلام.

قال: فجلسوا. قال: فبعث ابنته. قال فجيئي لهم بخبز وجيئى لهم بماء في القرعة وجيئى لهم بعباء يتغطّون بها من البرد فلمّا أن ذهبت الابنة أقبل المطر والوادى فقال لوط: الساعة تذهب بالصبيان الوادي قال: قوموا حتّى نمضى، وجعل لوط يمشى في أصل الحائط، د وجعل جبرئيل وميكائيل واسرافيل يمشون وسط الطريق. قال: يا بنىّ امشوا ههنا فقالوا: أمرنا سيّدنا أن نمرّ في وسطها وكان لوط يستغنم الظلام.

ومرّ إبليس فأخذ من حجر مرّة صبيّا فطرحه في البئر فتصايح أهل المدينة كلّهم على باب لوط فلمّا أن نظروا إلى الغلمان في منزل لوط قالوا: يا لوط قد دخلت في عملنا؟ فقال: هؤلاء ضيفي فلا تفضحون في ضيفي. قالوا: هم ثلاثة خذ واحداً وأعطنا اثنين. قال: وأدخلهم الحجرة وقال: لو أنّ لى أهل بيت تمنعوني منكم.

قال: وتدافعوا على الباب وكسروا باب لوط وطرحوا لوطا فقال له جبرئيل: إنّا رسل ربّك لن يصلوا إليك فأخذ كفّا من بطحاء فضرب بها وجوههم وقال: شاهت الوجوه فعمى اهل المدينة كلّهم فقال لهم لوط: يا رسل ربّى فما أمركم ربّى فيهم؟ قالوا: أمرنا أن نأخذهم بالسحر. قال: فلى إليكم حاجة. قالوا: وما حاجتك؟ قال: تأخذوهم الساعة فإنّى أخاف أن يبدوا لربّى فيهم. فقالوا: يا لوط إنّ موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب لمن يريد أن يأخذ فخذ أنت بناتك وامض ودع امرأتك.

٣٦٠