الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 406

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114228 / تحميل: 6642
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

فقال أبوجعفرعليه‌السلام : رحم الله لوطا لو علم من معه في الحجرة لعلم أنّه منصور حيث يقول:( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ ) أيّ ركن أشدّ من جبرئيل معه في الحجرة؟ فقال عزّوجلّ لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و:( وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ) من ظالمي أمّتك إن عملوا ما عمل قوم لوط، وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من ألحّ في وطى الرجال لم يمت حتّى يدعو الرجال الى نفسه.

أقول: والرواية لا تخلو من تشويش مّا في اللفظ، وقد ذكر فيها الملائكة المرسلون ثلاثة، وفي بعض الروايات - كالرواية المذكورة في الباب السابق عن أبى يزيد الحمّار عن أبى عبداللهعليه‌السلام - أنّهم كانوا أربعة بزيادة كرّوبيل، وفي بعض الروايات من طرق أهل السنّة أنّهم كانوا ثلاثة وهم جبرئيل وميكائيل ورفائيل، والظاهر من الرواية أنّها تأخذ قول لوط:( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ) الخ خطابا منه للملائكة لا للقوم، وقد تقدّمت الإشارة إليه في بيان الآيات.

وقولهعليه‌السلام : رحم الله لوطا لو علم الخ في معنى قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - على ما روى عنه - رحم الله لوطا إن كان ليأوى إلى ركن شديد.

وقولهعليه‌السلام : فقال عزّوجلّ لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخ إشارة إلى ما تقدّم من احتمال كون الآية، مسوقا لتهديد قريش.

وفي تفسير القمّىّ بإسناده عن أبى بصير عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قوله:( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ ) قال: ما من عبد يخرج من الدنيا يستحلّ عمل قوم لوط إلّا رماه الله جندلة من تلك الحجارة تكون منيّته فيه ولكنّ الخلق لا يرونه.

أقول: وروى في الكافي بإسناده عن ميمون البان عنهعليه‌السلام مثله. وفيه من بات مصرّا على اللواط لم يمت حتّى يرميه الله بحجارة تكون فيه منيّته ولا يراه أحد، وفي الحديثين إشعار بكون قوله:( وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ) غير خاصّ بقريش، وإشعار بكون العذاب المذكور روحانيّا غير مادّىّ.

وفى الكافي بإسناده عن يعقوب بن شعيب عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قول لوط:

٣٦١

( هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) قال: عرض عليهم التزويج.

وفي التهذيب عن الرضاعليه‌السلام : عن إتيان الرجل المرأة من خلفها فقال: أحلّتها آية من كتاب الله عزّوجلّ: قول لوط:( هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) قد علم أنّهم لا يريدون الفرج.

وفي الدرّ المنثور أخرج أبوالشيخ عن علىّ رضى الله عنه أنّه خطب فقال: عشيرة الرجل للرجل خير من الرجل لعشيرته إنّه إن كفّ يده عنهم كفّ يدا واحدة، وكفوّا عنه أيدى كثيرة مع مودّتهم وحفاظتهم ونصرتهم حتّى لربّما غضب الرجل للرجل وما يعرفه إلّا بحسبه وسأتلو عليكم بذلك آيات من كتاب الله تعالى فتلا هذه الآية:( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ ) .

قال علىّ رضى الله عنه: والركن الشديد العشيرة فلم يكن للوط عشيرة فو الّذى لا إله غيره ما بعث الله نبيّا بعد لوط إلّا في ثروة من قومه.

أقول: وآخر الرواية مروىّ من طرق أهل السنّة والشيعة.

وفي الكافي - في حديث أبى يزيد الحمّار عن أبى جعفرعليه‌السلام المنقول في البحث الروائيّ السابق - قال: فأتوا يعنى الملائكة لوطا وهو في زراعة قرب القرية فسلّموا عليه وهم معتمّون فلمّا رأى هيئة حسنة عليهم ثياب بيض وعمائم بيض قال لهم: المنزل فقالوا: نعم فتقدّمهم ومشوا خلفه فندم على عرضه المنزل عليهم فقال: أيّ شئ صنعت؟ آتى بهم قومي وأنا أعرفهم؟ فقال: إنّكم لتأتون شراراً من خلق الله. قال جبرئيل: لا نعجل عليهم حتّى يشهد عليهم ثلاث مرّات. فقال جبرئيل: هذه واحدة فمشى ساعة ثمّ التفت إليهم فقال: إنّكم لتأتون شراراً من خلق الله فقال جبرئيل: هذه ثنتان. ثمّ مشى فلمّا بلغ باب المدنيّة التفت إليهم ثمّ قال: إنّكم لتأتون شراراً من خلق الله. فقال جبرئيل: هذه الثالثة ثمّ دخل ودخلوا معه حتّى دخل منزله.

فلمّا رأتهم امرأته رأت هيئة حسنة فصعدت فوق السطح فصفّقت فلم يسمعوا فدخّنت فلمّا رأوا الدخان أقبلو إلى الباب يهرعون حتّى جاؤا على الباب فنزلت

٣٦٢

إليهم فقالت: عندنا قوم ما رأيت قطّ قوماً أحسن منهم هيئة فجاءوا إلى الباب ليدخلوا.

فلمّا رآهم لوط قام إليهم فقال لهم: يا قوم اتّقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد؟ ثمّ قال: هؤلاء بناتى هنّ أطهر لكم فدعاهم كلّهم إلى الحلال فقالوا: ما لنا في بناتك من حقّ وإنّك لتعلم ما نريد، فقال لهم: لو أنّ لى بكم قوّة أو آوى إلى ركن شديد، فقال جبرئيل: لو يعلم أيّ قوّة له.

فتكاثروه حتّى دخلوا الباب فصاح بهم جبرئيل فقال: يا لوط دعهم يدخلون فلمّا دخلوا أهوى جبرئيل بإصبعه نحوهم فذهبت أعينهم وهو قول الله عزّوجلّ:( فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ ) ثمّ ناداه جبرئيل فقال له: إنّا رسل ربّك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل، وقال له جبرئيل: إنّا بعثنا في إهلاكهم فقال: يا جبرئيل عجّل فقال: إنّ موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب.

فأمره يتحمّل ومن معه إلّا امرأته ثمّ اقتلعها يعنى المدينة جبرئيل بجناحه من سبع أرضين ثمّ رفعها حتّى سمع أهل السماء الدنيا نياح الكلاب وصراخ الديوك ثمّ قلبها وأمطر عليها وعلى من حول المدينة بحجارة من سجّيل.

أقول: وما اشتمل عليه آخر الرواية من اقتلاعها من سبع أرضين ثمّ رفعها إلى حيث سمع أهل السماء الدنيا نياح كلابهم وصراخ ديوكهم أمر خارق للعادة، وهو وإن كان لا يستبعد من قدرة الله سبحانه لكنّه ممّا لا يكفى في ثبوته أمثال هذه الرواية وهى من الآحاد.

على أنّ السنّة الإلهيّة جارية على أن تقتفى في الكرامات والمعجزات الحكمة وأىّ حكمة في رفعهم إلى هذا الحدّ ولا أثر له في عذابهم ولا في تشديده؟

وقول بعض أهل الكلام: من الجائز أن يكون هذا الفعال العجيب الخارق للعادة لطفا من الله ليكون الإخبار بذلك من طريق المعصومين مقرّبا للمؤمنين إلى الطاعة مبعّداً لهم من المعصية كلام مدخول فإنّ خلق الاُمور العظيمة المعجبة والحوادث الخارقة للعادة ليتأكّد بها إيمان المؤمنين ويعتبر بها المعتبرون وإن كان لا يخلو من لطف إلّا أنّه إنّما يكون لطفاً فيما كان بلوغه لهم من طريق الحسّ أو أيّ

٣٦٣

طريق علميّ آخر، وأمّا رواية واحدة أو ضعيفة وهى خالية عن الحجّيّة لا يعبا بها فلا معنى لإيجاد الاُمور الخارقة والحوادث العجيبة لأجل حصول اعتبار أو مخافة من طريقها، ولا وجه لتشديد عذاب قوم ليعتبر به قوم آخرون إلّا في سنّة الجهّال من طغاة البشر وجبابرتهم.

قال صاحب المنار في تفسيره: وفي خرافات المفسّرين المرويّة عن الإسرائيليّات أنّ جبرئيل قلعها من تخوم الأرض بجناحه وصعد بها إلى عنان السماء حتّى سمع أهل السماء أصوات الكلاب والدجاج فيها ثمّ قلبها قلباً مستوياً فجعل عاليها سافلها.

وهذا تصوّر مبنىّ على اعتقاد متصوّره أنّ الأجرام السماويّة المأهولة بالسكّان ممّا يمكن أن يقرب منهم سكّان الأرض وما فيها من الحيوان ويبقون أحياء. وقد ثبت بالمشاهدة والاختبار الفعلىّ في هذه الأيّام الّتى يكتب هذا فيها أنّ الطيّارات والمناطيد الّتى تخلق في الجوّ تصل إلى حيث يخفّ ضغط الهواء ويستحيل حياة الناس فيها، وهم يصنعون أنواعاً منها يصنعون فيها من اُكسيجين الهواء ما يكفى استنشاقه وتنفّسه للحياة في طبقات الجوّ العليا ويصعدون فيها.

وقد اُشير في الكتاب العزيز إلى ما يكون للتصعيد في جوّ السماء من التأثير في ضيق الصدر من عسر التنفّس بقوله تعالى:( فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَام وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ) .

فإن قيل: إنّ هذا الفعل المروىّ عن جبرئيل من الممكنات العقليّة وكان وقوعه من خوارق العادات فلا يصحّ أن يجعل تصديقه موقوفا على ما عرف من سنن الكائنات.

قلت: نعم ولكنّ الشرط الأوّل لقبول الرواية في أمر جاء على غير السنن والنواميس الّتى أقام الله بها نظام العالم من عمران وخراب أن تكون الرواية عن وحى إلهىّ نقل بالتواتر عن المعصوم أو بسند صحيح متّصل الاسناد لا شذوذ فيه ولا علّة على الأقلّ، ولم يذكر في كتاب الله تعالى، ولم يرد فيه حديث مرفوع إلى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا تظهر حكمة الله فيه، وإنّما روى عن بعض التابعين دون الصحابة. ولا

٣٦٤

شكّ أنّه من الإسرائيليّات.

وممّا قالوه فيها: أنّ عدد أهلها كان أربعة آلاف ألف وبلاد فلسطين كلّها لا تسع هذا العدد، فأين كان هؤلاء الملايين يسكنون من تلك القرى الأربع؟ انتهى.

والّذى ذكره أنّ الحديث إنّما روى عن التابعين دون الصحابة فإنّه أنّ هذا المعنى مروىّ عن ابن عبّاس وعن الحذيفة بن اليمان، ففى رواية ابن عبّاس - كما في الدرّ المنثورعن إسحاق بن بشر وابن عساكر من طريق جويبر ومقاتل عن الضحّاك عنه - ( فلمّا كان عند وجه الصبح عمد جبريل إلى قرى لوط بما فيها من رجالها ونسائها وثمارها وطيرها فحواها وطواها ثمّ قلعها من تخوم الثرى ثمّ احتملها تحت جناحه ثمّ رفعها إلى السماء الدنيا فسمع سكّان سماء الدنيا أصوات الكلاب والطير والنساء والرجال من تحت جناح جبرئيل ثمّ أرسلها منكوسة ثمّ أتبعها بالحجارة، وكانت الحجارة للرعاة والتجّار ومن كان خارجاً عن مدائنهم ) الحديث.

وفي رواية حذيفة بن اليمان - على ما في الدرّ المنثورعن عبد الرزّاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عنه - ( فاستأذن جبرئيل في هلاكهم فاُذن له فاحتمل الأرض الّتى كانوا عليها، وأهوى بها حتّى سمع أهل سماء الدنيا صغاء كلابهم وأوقد تحتهم نارا ثمّ قلبها بهم فسمعت امرأة لوط الوجبة وهى معهم فالتفتت فأصابها العذاب، وتبعت سفارهم الحجارة ) الحديث.

وأمّا من التابعين فقد روى هذا المعنى عن سعيد بن جبير ومجاهد وأبى صالح ومحمّد بن كعب القرظىّ وعن السدّىّ ما هو أغلظ من ذلك قال: ( لمّا أصبحوا نزل جبرئيل فاقتلع الأرض من سبع أرضين فحملها حتّى بلغ السماء الدنيا ثمّ أهوى بها جبرئيل إلى الأرض ) الحديث.

وأمّا ما ذكره من أنّه ( يشترط في قبول الرواية أن تكون منقولة بالتواتر عن المعصوم أو بسند صحيح متّصل الاسناد لا شذوذ فيه ولا علّة ) فمسألة اُصوليّة، والّذى استقرّ عليه النظر اليوم في المسألة أنّ الخبر إن كان متواتراً أو محفوفاً بقرينة

٣٦٥

قطعيّة فلا ريب في حجّيّتها، وأمّا غير ذلك فلا حجّيّة فيه إلّا الأخبار الواردة في الأحكام الشرعيّة الفرعيّة إذا كان الخبر موثوق الصدور بالظنّ النوعىّ فإنّ لها حجّيّة.

وذلك أنّ الحجّيّة الشرعيّة من الاعتبارات العقلائيّه فتتبع وجود أثر شرعىّ في المورد يقبل الجعل والاعتبار الشرعيّ والقضايا التاريخيّة والاُمور الاعتقاديّة لا معنى لجعل الحجّيّة فيها لعدم أثر شرعىّ ولا معنى لحكم الشارع بكون غير العلم علما وتعبيد الناس بذلك، والموضوعات الخارجيّة وإن أمكن أن يتحقّق فيها أثر شرعىّ إلّا أنّ آثارها جزئيّة والجعل الشرعيّ لا ينال إلّا الكلّيّات وليطلب تفصيل القول في المسألة من علم الاُصول.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن مردويه عن اُبىّ بن كعب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رحم الله لوطا إن كان ليأوى إلى ركن شديد.

أقول: مقتضى المقام الّذى كان يجارى فيه لوط قومه ويأمرهم بتقوى الله والاجتناب عن الفجور، وظاهر سياق الآيات الحاكية للمشاجرة بينه وبين قومه أنّ لوطا إنّما كان يتمنّى أنصاراً اُولى رشد من بين قومه أو من غيرهم فقوله:( أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ ) يريد به أنصاراً من غير القوم من عشيرة أو أخلّاء وأصدقاء في الله ينصرونه في الدفع عن أضيافه هذا والركن الشديد معه في داره وهم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل ولذلك لبّوه من غير فصل وقالوا: يا لوط إنّا رسل ربّك لن يصلوا إليك.

ولم يكن ليغفل في حال من تلك الأحوال عن ربّه وأنّ كلّ النصر من عنده حتّى ينساه ويتمنّى ناصراً غيره، وحاشا مقام هذا النبيّ الكريم عن مثل هذا الجهل المذموم وقد قال الله تعالى في حقّه:( آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا - إلى أن قال -وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) الأنبياء: ٧٥.

فقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إن كان ليأوى إلى ركن شديد) معناه أنّ معه جبرئيل

٣٦٦

وسائر الملائكة وهو لا يعلم بذلك، وليس معناه أنّ معه الله سبحانه وهو جاهل بمقام ربّه.

فما في بعض الروايات الناقلة للفظة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الإشعار بأنّ مراده بالركن الشديد هو الله سبحانه دون الملائكة إنّما نشأ عن فهم بعض رواة الحديث كما عن أبى هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رحم الله لوطا كان يأوى إلى ركن شديد يعنى الله تعالى. الحديث.

وكما عنه من طريق آخر قال: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال:( يغفر الله للوط إن كان ليأوى إلى ركن شديد) ولعلّ فيه نقلا بالمعنى وأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: رحم الله لوطا فغيّره الراوى إلى قوله: يغفر الله للوط المشعر بكون لوط أهمل أدبا من آداب العبوديّة أو أذنب ذنبا بجهله مقام ربّه ونسيانه ما لم يكن له أن ينساه.

( كلام في قصّة لوط وقومه في فصول)

١ - قصّته وقصّة قومه في القرآن : كان لوطعليه‌السلام من كلدان في أرض بابل ومن السابقين الأوّلين ممّن آمن بإبراهيمعليه‌السلام آمن به وقال: إنّى مهاجر إلى ربّى ( العنكبوت: ٢٦ ) فنجّاه الله مع إبراهيم إلى الأرض المقدّسة أرض فلسطين ( الأنبياء: ٧١ ) فنزل في بعض بلادها ( وهى مدينة سدوم على ما في التواريخ والتوراة وبعض الروايات ).

وكان أهل المدينة وما والاها من المدائن وقد سمّاها الله في كلامه بالمؤتفكات ( التوبة: ٧٠ ) يعبدون الأصنام، ويأتون بالفاحشة: اللواط، وهم أوّل قوم شاع فيهم ذلك ( الأعراف: ٨٠ ) حتّى كانوا يأتون به في نواديهم من غير إنكار ( العنكبوت: ٢٩ ) ولم يزل تشيع الفاحشة فيهم حتّى عادت سنّة قوميّة ابتلت به عامّتهم وتركوا النساء وقطعوا السبيل ( العنكبوت: ٢٩ ).

فأرسل الله لوطا إليهم ( الشعراء: ١٦٢ ) فدعاهم إلى تقوى الله وترك الفحشاء

٣٦٧

والرجوع إلى طريق الفطرة وأنذرهم وخوّفهم فلم يزدهم إلّا عتوّا ولم يكن جوابهم إلّا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين، وهدّدوه بالإخراج من بلدتهم وقالوا له: لئن لم تنته لتكوننّ من المخرجين ( الشعراء: ١٦٧ ) وقالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنّهم اُناس يتطهّرون ( النمل: ٥٦ ).

٢ - عاقبة أمرهم : لم يزل لوطعليه‌السلام يدعوهم إلى سبيل الله وملازمة سنّة الفطرة وترك الفحشاء وهم يصرّون على عمل الخبائث حتّى استقرّ بهم الطغيان وحقّت عليهم كلمة العذاب فبعث الله رسلاً من الملائكة المكرّمين لإهلاكهم فنزلوا أوّلا على إبراهيمعليه‌السلام وأخبروه بما أمرهم الله به من إهلاك قوم لوط فجادلهم إبراهيمعليه‌السلام لعلّه يردّ بذلك عنهم العذاب، وذكّرهم بأنّ فيهم لوطا فردّوا عليه بأنّهم أعلم بموقع لوط وأهله، وأنّه قد جاء أمر الله وأنّ القوم آتيهم عذاب غير مردود ( العنكبوت: ٣٢ - هود: ٧٦ ).

فمضوا إلى لوط في صور غلمان مرد ودخلوا عليه ضيفا فشقّ ذلك على لوط وضاق بهم ذرعا لما كان يعلم من قومه أنّهم سيتعرّضون لهم وأنّهم غير تاركيهم البتّة فلم يلبث دون أن سمع القوم بذلك وأقبلوا يهرعون إليه وهم يستبشرون وهجموا على داره فخرج إليهم وبالغ في وعظهم واستثارة فتوّتهم ورشدهم حتّى عرض عليهم بناته وقال: يا قوم إنّ هؤلاء بناتى هنّ أطهر لكم فاتّقوا الله ولا تخزوني في ضيفي ثمّ استغاث وقال: أليس منكم رجل رشيد فردّوا عليه أنّه ليس لهم في بناته إربة وأنّهم غير تاركى أضيافه البتّة حتّى أيس لوط وقال: لو أنّ لى بكم قوّة أو آوى إلى ركن شديد ( هود: ٨٠ ).

قالت الملائكة عند ذلك يا لوط: إنّا رسل ربّك طب نفسا إنّ القوم لن يصلوا إليك فطمسوا أعين القوم فعادوا عميانا يتخبّطون وتفرّقوا ( القمر: ٣٧ ).

ثمّ أمروا لوطاعليه‌السلام أن يسرى بأهله من ليلته بقطع من الليل ويتّبع أدبارهم ولا يلتفت منهم أحد إلّا امرأته فإنّه مصيبها ما أصابهم، وأخبروه أنّهم سيهلكون القوم مصبحين ( هود: ٨١ - الحجر: ٦٦ ).

٣٦٨

فأخذت الصيحة القوم مشرقين، وأرسل الله عليهم حجارة من طين مسوّمة عند ربّك للمسرفين، وقلب مدائنهم عليهم فجعل عاليها سافلها وأخرج من كان فيها من المؤمنين فلم يجد فيها غير بيت من المسلمين وهو بيت لوط وترك فيها آية للّذين يخافون العذاب الأليم ( الذاريات: ٣٧ - وغيرها ).

وفي اختصاص الإيمان والإسلام بيت لوطعليه‌السلام ، وشمول العذاب لمدائنهم دلالة - أوّلا - على أنّ القوم كانوا كفّاراً غير مؤمنين و - ثانياً - على أنّ الفحشاء ما كانت شائعة فيما بين الرجال منهم فحسب إذ لو كان الأمر على ذلك والنساء بريئات منها وكان لوط يدعو الناس إلى الرجوع إلى سبيل الفطرة وسنّة الخلقة الّتى هي مواصلة الرجال والنساء لاتّبعته عدّة من النساء واجتمعن حوله وآمنّ به طبعا، ولم يذكر من ذلك شئ في كلامه سبحانه.

وفي ذلك تصديق ما تقدّم في الأخبار المأثورة أنّ الفحشاء شاعت بينهم، واكتفى الرجال بالرجال باللواط، والنساء بالنساء بالسحق.

٣ - شخصيّة لوط المعنويّة : كانعليه‌السلام رسولاً من الله إلى أهل المؤتفكات وهى مدينة سدوم وما والاها من المدائن - ويقال: كانت أربع مداين: سدوم وعمورة وصوغر وصبوييم وقد أشركه في جميع المقامات الروحيّة الّتى وصف بها أنبياءه الكرام.

وممّا وصفه به خاصّة ما في قوله:( وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) الأنبياء: ٧٥.

٤ - لوط وقومه في التوراة : ذكرت(١) التوراة أنّ لوطا كان ابن أخى أبرام - إبراهيم - هاران بن تارخ وكان هو وأبرام في بيت تارخ في اُور الكلدانيّين ثمّ هاجر تارخ اُورا قاصداً أرض الكنعانيّين فأقام بلدة حاران ومعه أبرام ولوط ومات هناك.

____________________

(١) الاصحاح الحادى عشر والثانى عشر من سفر التكوين.

٣٦٩

ثمّ إنّ أبرام بأمر من الربّ خرج من حاران ومعه لوط ولهما مال كثير وغلمان اكتسبا ذلك في حاران فأتى أرض كنعان، وكان يرتحل أبرام ارتحالاً متوالياً نحو الجنوب، ثمّ أتى مصر، ثمّ صعد من هناك جنوباً نحو بيت إيل فأقام هناك.

ولوط السائر مع أبرام أيضاً كان له غنم وبقر وخيام ولم يحتملهما الأرض أن يسكنا ووقعت مخاصمة بين رعاة مواشيهما فتفرّقا فأحذرا من وقوع النزاع والتشاجر فاختار لوط دائرة الاُردن وسكن في مدن الدائرة ونقل خيامه إلى سدوم، وكان أهل سدوم أشراراً وخطاة لدى الربّ جدّاً، ونقل أبرام خيامه وأقام عند بلوطات ممرا الّتى في حبرون.

ثمّ وقعت حرب بين ملوك سدوم وعمورة وإدمة وصبوييم، وصوغر من جانب وأربعة من جيرانهم من جانب، انهزم فيها ملك سدوم ومن معه من الملوك، وأخذ العدوّ جميع أملاك سدوم وعمورة وجميع أطعمتهم، واُسر لوط فيمن اُسر وسبى جميع أمواله، وانتهى الخبر إلى أبرام فخرج فيمن معه من الغلمان، وكانوا يزيدون على ثلاث مائة فحاربهم وهزمهم، وأنجى لوطا وجميع أمواله من الأسر والسبي، وردّه إلى مكانه الّذى كان مقيما فيه ( ملخّص ما في التوراة من صدر قصّة لوط ).

قالت التوراة(١) : وظهر له - لأبرام - الربّ عند بلوطات ممرا وهو جالس في باب الخيمة وقت حرّ النهار. فرفع عينيه ونظر وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه. فلمّا نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض. وقال: يا سيّد إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك. ليؤخذ قليل ماء واغسلوا أرجلكم واتّكؤا تحت هذه الشجرة. فآخذ كسرة خبز فتسندون قلوبكم ثمّ تجتازون لأنّكم قد مررتم على عبدكم. فقالوا: هكذا نفعل كما تكلّمت.

____________________

(١) الاصحاح الثامن عشر من سفر التكوين.

٣٧٠

فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة وقال: أسرعي بثلاث كيلات دقيقاً سميداً اعجنى واصنعي خبز ملّة، ثمّ ركض إبراهيم إلى البقر وأخذ عجلاً رخصاً وجيّداً وأعطاه للغلام فأسرع ليعمله. ثمّ أخذ زبداً ولبناً والعجل الّذى عمله ووضعها قدّامهم. وإذ كان هو واقفاً لديهم تحت الشجرة أكلوا.

وقالوا له: أين سارة امرأتك، فقال: ها هي في الخيمة، فقال: إنّى أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لساره امرأتك ابن. وكانت سارة سامعة في باب الخيمة وهو وراءه. وكان إبراهيم وسارة شيخين متقدّمين في الأيّام. وقد انقطع أن يكون لسارة عادة كالنساء. فضحكت سارة في باطنها قائلة: أبعد فنائى يكون لى تنعّم وسيّدي قد شاخ؟ فقال الربّ لإبراهيم: لماذا ضحكت سارة قائلة: أفبالحقيقة ألد وأنا قد شخت؟ هل يستحيل على الربّ شئ؟ في الميعاد أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة ابن، فأنكرت سارة قائلة: لم أضحك، لأنّها خافت. فقال: لا بل ضحكت.

ثم قام الرجال من هناك وتطلّعوا نحو سدوم، وكان إبراهيم ماشياً معهم ليشيعهم. فقال الربّ: هل اُخفى عن إبراهيم ما أنا فاعله؟ وإبراهيم يكون أمّة كبيرة وقويّة ويتبارك به جميع اُمم الأرض. لأنّى عرفته لكى يوصى بنيه وبيته من بعده أن يحفظوا طريق الربّ ليعملوا برّا وعدلا لكى يأتي الربّ لإبراهيم بما تكلّم به.

فقال الربّ: إنّ صراخ سدوم وعمورة قد كثر وخطيئتهم قد عظمت جدّاً. أنزل وأرى هل فعلوا بالتمام حسب صراخها الّتى إلىّ وإلّا فأعلم. وانصرف الرجال من هناك وذهبوا نحو سدوم. وأمّا إبراهيم فكان لم يزل قائما أمام الربّ.

فتقدّم إبراهيم وقال: أفتهلك البارّ مع الأثيم؟ عسى أن يكون خمسون بارّا في المدينة. أفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين بارّا الّذين فيه؟ حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر أن تميت البارّ مع الأثيم فيكون البارّ كالأثيم،

٣٧١

حاشاك. أديّان كلّ الأرض لا يصنع عدلا؟ فقال الربّ: إن وجدت في سدوم خمسين بارّا في المدينة فإنّى أصفح عن المكان كلّه من أجلهم.

فأجاب إبراهيم وقال: إنّى قد شرعت اُكلّم المولى وأنا تراب ورماد ربّما نقص الخمسون بارّا خمسة أتهلك كلّ المدينة بالخمسة؟ فقال الربّ: لا اُهلك إن وجدت هناك خمسة وأربعين. فعاد يكلّمه أيضاً وقال: عسى أن يوجد هناك أربعون، فقال: لا أفعل من أجل الأربعين. فقال: لا يسخط المولى فأتكلّم عسى أن يوجد هناك ثلاثون. فقال: لا أفعل إن وجدت هناك ثلاثين. فقال: إنّى قد شرعت اُكلّم المولى عسى أن يوجد هناك عشرون، فقال: لا اُهلك من أجل العشرين.

فقال: لا يسخط المولى فأتكلّم هذه المرّة فقطّ عسى أن يوجد هناك عشرة، فقال: لا اُهلك من أجل العشرة. وذهب الربّ عند ما فرغ من الكلام مع إبراهيم ورجع ابرهيم إلى مكانه.

فجاء(١) الملاكان إلى سدوم مساء وكان لوط جالسا في باب سدوم فلمّا رآهما لوط قام لاستقبالهما وسجد بوجهه إلى الأرض. وقال: يا سيّديّ ميلا إلى بيت عبدكما وبيتا واغسلا أرجلكما ثمّ تبكّران وتذهبان في طريقكما، فقالا: لا بل في الساحة نبيت، فألحّ عليهما جدّاً، فمالا إليه ودخلا بيته، فصنع لهما ضيافة وخبز فطيرا فأكلا.

وقبل ما اضطجعا أحاط بالبيت رجال المدينة رجال سدوم من الحدث إلى الشيخ كلّ الشعب من أقصاها فنادوا لوطا وقالوا له: أين الرجلان اللّذان دخلا إليك الليلة؟ أخرجهما إلينا لنعرفهما. فخرج إليهم لوط إلى الباب وأغلق الباب وراءه. وقال: لا تفعلوا شرّا يا إخوتى. هو ذا لى ابنتان لم يعرفا رجلا اُخرجهما إليكم فافعلوا بهما كما يحسن في عيونكم. وأمّا هذان الرجلان فلا تفعلوا بهما شيئاً لأنّهما قد دخلا تحت ظلّ سقفي.

____________________

(١) الاصحاح التاسع عشر من سفر التكوين.

٣٧٢

فقالوا: ابعد إلى هناك. ثمّ قالوا: جاء هذا الإنسان ليتغرّب وهو يحكم حكما. الان نفعل بك شرّا أكثر منهما. فألحوا على الرجل لوط جدّاً وتقدّموا ليكسروا الباب فمدّ الرجلان أيديهما وأدخلا لوطا إليهما إلى البيت وأغلقا الباب وأمّا الرجال الّذين على باب البيت فضرباهم بالعمى من الصغير إلى الكبير فعجزوا عن أن يجدوا الباب.

وقال الرجال للوط: من لك أيضاً ههنا أصهارك وبنيك وبناتك وكلّ من لك في المدينة أخرج من المكان لأنّنا مهلكان هذا المكان إذ قد عظم صراخهم أمام الربّ فأرسلنا الربّ لنهلكهم. فخرج لوط وكلّم أصهاره الآخذين بناته وقال: قوموا اخرجوا من هذا المكان لأنّ الربّ مهلك المدينة، فكان كمازح في أعين أصهاره.

ولمّا طلع الفجر كان الملاكان يعجّلان لوطا قائلين: قم خذ امرأتك وابنتيك الموجودتين لئلّا تهلك بإثم المدينة. ولمّا توانى أمسك الرجلان بيده وبيد امرأته وبيد ابنتيه لشفقة الربّ عليه وأخرجاه وضعاه خارج المدينة.

وكان لمّا أخرجاهم إلى خارج أنّه قال: اهرب لحياتك. لا تنظر إلى ورائك ولا تقف في كلّ الدائرة. اهرب إلى الجبل لئلّا تهلك فقال لهما لوط: لا يا سيّد هو ذا عبدك قد وجد نعمة في عينيك وعظمت لطفك الّذى صنعت إلىّ باستبقاء نفسي. وأنا لا أقدر أن أهرب إلى الجبل لعلّ الشرّ يدركنى فأموت. هو ذا المدينة هذه قريبة للهرب إليها. وهى صغيرة أهرب إلى هناك أليست هي صغيره فتحيا نفسي. فقال له: إنّى قد رفعت وجهك في هذا الأمر أيضاً أن لا أقلب المدينة الّتى تكلّمت عنها. أسرع اهرب إلى هناك لأنّى لا أستطيع أن أفعل شيئاً حتّى تجيئ إلى هناك - لذلك دعى اسم المدينة صوغر.

وإذا أشرقت الشمس على الأرض دخل لوط إلى صوغر فأمطر الربّ على سدوم وعمورة كبريتا ونارا من عند الربّ من السماء. وقلب تلك المدن و

٣٧٣

كلّ الدائرة وجميع سكّان المدن ونبات الأرض. ونظرت امرأته من ورائه فصارت عمود ملح.

وبكّر إبراهيم في الغد إلى المكأنّ الّذى وقف فيه أمام الربّ وتطلّع نحو سدوم وعمورة ونحو كلّ أرض الدائرة. ونظر وإذا دخان الأرض يصعد كدخان الاُتون. وحدث لمّا أخرب الله مدن الدائرة أنّ الله ذكر إبراهيم. وأرسل لوطا من وسط الانقلاب حين قلب المدن الّتى سكن فيها لوط.

وصعد لوط من صوغر وسكن في الجبل وابنتاه معه لأنّه خاف أن يسكن في صوغر فسكن في المغارة هو وابنتاه. وقالت البكر للصغيرة: أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كلّ الأرض هلم نسقى أبانا خمرا ونضطجع معه فنحيى من أبينا نسلا. فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة. ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها وحدث في الغد أنّ البكر قالت للصغيرة إنّى قد اضطجعت البارحة مع أبى. نسقيه خمرا الليلة أيضاً فادخلي اضطجعي معه فنحيى من أبينا نسلا. فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة أيضاً. و قامت الصغيرة واضطجعت معه. ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها. فحبلت ابنتا لوط من أبيهما.

فولدت البكر إبنا ودعت اسمه موآب وهو أبو الموآبيّين إلى اليوم والصغيرة أيضاً ولدت ابنا ودعت اسمه بن عمّى وهو أبو بنى عمّون إلى اليوم. انتهى.

هذا ما قصّته التوراة في لوط وقومه نقلناه على طوله ليتّضح به ما تخالف القرآن الكريم من وجه القصّة ومن وجوه غيرها.

ففيها كون الملك المرسل للبشرى والعذاب ملكين اثنين. وقد عبّر القرآن بالرسل - بلفظ الجمع وأقلّه ثلاثة -.

وفيها أنّ أضياف إبراهيم أكلوا ممّا صنعه وقدّمه إليهم، والقرآن ينفى ذلك ويقصّ أنّ إبراهيم خاف إذ رآى أنّ أيديهم لا تصل إليه.

٣٧٤

وفيها: إثبات بنتين للوط، والقرآن يعبّر بلفظ البنات. وفيها كيفيّة إخراج الملائكة لوطا وكيفيّة تعذيب القوم وصيرورة المرأة عمودا من ملح وغير ذلك.

وفيها نسبة التجسّم صريحة إلى الله سبحانه، وما ذكرته من قصّة لوط مع بنتيه أخيرا، والقرآن ينزّه ساحة الحقّ سبحانه عن التجسّم ويبرّئ أنبياءه ورسله عن ارتكاب ما لا يليق بساحة قدسهم.

٣٧٥

( سورة هود آية ٨٤ - ٩٥)

وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ( ٨٤) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ( ٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ( ٨٦) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ( ٨٧) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ( ٨٨) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ( ٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ( ٩٠) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ( ٩١) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ( ٩٢) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ

٣٧٦

رَقِيبٌ( ٩٣) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ( ٩٤) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ( ٩٥)

( بيان)

تذكر الآيات قصّة شعيبعليه‌السلام وقومه وهم أهل مدين، وكانوا يعبدون الأصنام، وكان قد شاع التطفيف في الكيل والوزن عندهم واشتدّ الفساد فيهم فأرسل الله سبحانه شعيباعليه‌السلام إليهم فدعاهم إلى التوحيد وتوفية الميزان والمكيال بالقسط وترك الفساد في الأرض، وبشّرهم وأذرهم وبالغ في عظتهم وقد روى عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: كان شعيب خطيب الأنبياء.

فلم يجبه القوم إلّا بالردّ والعصيان، هدّدوه بالرجم والطرد من بينهم وبالغوا في إيذائه وإيذاء شرذمة من الناس آمنوا به وصدّهم عن سبيل الله وداموا على ذلك حتّى سأل الله أن يقضى بينه وبينهم فأهلكهم الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ) إلى آخر الآية عطف على ما تقدّمه من قصص الأنبياء واُممهم، ومدين اسم مدينة كان يسكنها قوم شعيب ففى نسبة إرسال شعيب إلى مدين وكان مرسلا إلى أهله نوع من المجاز في الإسناد كقولنا: جرى الميزاب، وفي عدّ شعيبعليه‌السلام أخاً لهم دلالة على أنّه كان ينتسب إليهم.

وقوله:( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) تقدّم تفسيره في نظائره.

وقوله:( وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ) المكيال والميزان اسما آلة بمعنى ما يكال به وما يوزن به، ولا يوصفان بالنقص وإنّما يوصف بالنقص كالزيادة والمساواة المكيل والموزون فنسبة النقص إلى المكيال والميزان من المجاز العقليّ.

٣٧٧

وفي تخصيص نقص المكيال والميزان من بين معاصيهم بالذكر دلالة على شيوعه بينهم وإقبالهم عليه وإفراطهم فيه بحيث ظهر فساده وبان سيّئ أثره فأوجب ذلك شدّة اهتمام به من داعى الحقّ فدعاهم إلى تركه بتخصيصه بالذكر من بين المعاصي.

وقوله:( إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ ) أي اُشاهدكم في خير، وهو ما أنعم الله تعالى عليكم من المال وسعة الرزق والرخص والخصب فلا حاجة لكم إلى نقص المكيال والميزان، واختلاس اليسير من أشياء الناس طمعا في ذلك من غير سبيله المشروع وظلما وعتوّا، وعلى هذا فقوله:( إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ ) تعليل لقوله:( وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ) .

ويمكن تعميم الخير بأن يراد به أنّكم مشمولون لعناية الله معنيّون بنعمه آتاكم عقلا ورشدا ورزقكم رزقا فلا مسوّغ لأن تعبدوا الآلهة من دونه وتشركوا به غيره، وأن تفسدوا في الأرض بنقص المكيال والميزان، وعلى هذا يكون تعليلا لما تقدّمه من الجملتين أعنى قوله:( اعبدوا الله ) الخ، وقوله:( وَلَا تَنقُصُوا ) الخ، كما أنّ قوله:( وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ ) كذلك.

فمحصّل قوله:( إِنِّي أَرَاكُم ) إلى آخر الآية أنّ هناك رادعين يجب أن يردعاكم عن معصية الله: أحدهما: أنّكم في خير ولا حاجة لكم إلى بخس أموال الناس من غير سبيل حلّها. وثانيهما: أنّ وراء مخالفة أمر الله يوماً محيطاً يخاف عذابه.

وليس من البعيد أن يراد بقوله:( إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ ) أنّى أراكم برؤية خير أي أنظر إليكم نظر الناصح المشفق الّذى لا يصاحب نظره إلّا الخير ولا يريد بكم غير السعادة، وعلى هذا يكون قوله:( وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ ) كعطف التفسير بالنسبة إليه.

وقوله:( وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ ) يشير به إلى يوم القيامة أو يوم نزول عذاب الاستئصال ومعنى كون اليوم - وهو يوم القضاء بالعذاب - محيطاً أنّه لا مخرج منه ولا مفرّ ولا ملاذ من دون الله فلا يدفع فيه ناصر ولا معين، ولا ينفع

٣٧٨

فيه توبة ولا شفاعة، ويؤل معنى الإحاطة إلى كون العذاب قطعيّاً لا مناص منه، ومعنى الآية أنّ للكفر والفسوق عذابا غير مردود أخاف أن يصيبكم ذلك.

قوله تعالى: ( وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ) الخ، الإيفاء إعطاء الحقّ بتمامه والبخس النقص كرّر القول في المكيال والميزان بالأخذ بالتفصيل بعد الإجمال مبالغة في الاهتمام بأمر لا غنى لمجتمعهم عنه، وذلك أنّه دعاهم أوّلا إلى الصلاح بالنهي عن نقص المكيال والميزان، وعاد ثانياً فأمر بايفاء المكيال والميزان ونهى عن بخس الناس أشياءهم إشارة إلى أنّ مجرّد التحرّز عن نقص المكيال والميزان لا يكفى في إعطاء هذا الأمر حقّه - وإنّما نهى عنه أوّلا لتكون معرفة إجماليّة هي كالمقدّمة لمعرفة التكليف تفصيلا - بل يجب أن يوفى الكائل والوازن مكياله وميزانه ويعطياهما حقّهما ولا يبخسا ولا ينقصا الأشياء المنسوبة إلى الناس بالمعاملة حتّى يعلما أنّهما أدّيا إلى الناس أشياءهم وردّا إليهم مالهم على ما هو عليه.

وقوله:( وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) قال الراغب: العيث والعثىّ يتقاربان نحو جذب وجبذ إلّا أنّ العيث أكثر ما يقال في الفساد الّذى يدرك حسّاً والعثىّ فيما يدرك حكماً يقال: عثى يعثى عثيّا، وعلى هذا( وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) وعثا يعثو عثوّا. انتهى.

وعلى هذا فقوله:( مُفْسِدِينَ ) حال من ضمير( َلَا تَعْثَوْا ) لإفادة التأكيد نظير ما يفيده قولنا: لا تفسدوا إفسادا.

والجملة أعني قوله:( وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) نهى مستأنف عن الفساد في الأرض من قتل أو جرح أو أيّ ظلم مالىّ أو جاهىّ أو عرضىّ لكن لا يبعد أن يستفاد من السياق كون الجملة عطفا تفسيريّا للنهى السابق فيكون نهيا تأكيديّا عن التطفيف ونقص المكيال والميزان لأنّه من الفساد في الأرض.

بيان ذلك: أنّ الاجتماع المدنىّ الدائر بين افراد النوع الإنسانيّ مبنىّ على المبادلة حقيقة فما من مواصلة ومرابطة بين فردين من أفراد النوع إلّا وفيه إعطاء و

٣٧٩

أخذ فلا يزال المجتمعون يتعاونون في شؤون حياتهم يفيد فيه الواحد غيره ليستفيد منه ما يمثّله أو يزيد عليه، ويدفع إليه نفعاً ليجذب منه إلى نفسه نفعاً وهو المعاملة والمبادلة.

ومن أظهر مصاديق هذه المبادلة المعاملات الماليّة وخاصّة في الأمتعة الّتى لها حجم أو وزن ممّا يكتال أو يوزن فإنّ ذلك من أقدم ما تنبّه الإنسان لوجوب إجراء سنّة المبادلة فيه.

فالمعاملات الماليّة وخاصّة البيع والشرى من أركان حياة الإنسان الاجتماعيّة يقدّر الواحد منهم ما يحتاج إليه في حياته الضروريّة بالكيل أو الوزن، وما يجب عليه أن يبذله في حذائه من الثمن ثمّ يسير في حياته بانياً لها على هذا التقدير والتدبير.

فإذا خانه معامله ونقص المكيال والميزان من حيث لا يشعر هو فقد أفسد تدبيره وأبطل تقديره، واختلّ بذلك نظام معيشته من الجهتين معاً من جهة ما يقتنيه من لوازم الحياة بالاشتراء ومن جهة ما يبذله من الثمن الزائد الّذى يتعب نفسه في تحصيله بالاكتساب فيسلب إصابة النظر وحسن التدبير في حياته ويتخبّط في مسيرها خبط العشواء وهو الفساد.

وإذا شاع ذلك في مجتمع فقد شاع الفساد فيما بينهم ولم يلبثوا دون أن يسلبوا الوثوق والاطمئنان واعتماد بعضهم على بعض ويرتحل ذلك الأمن العامّ من بينهم وهو النكبة الشاملة الّتى تحيط بالصالح والطالح والمطفّف والّذى يوفى المكيال والميزان على حدّ سواء، وعاد بذلك اجتماعهم اجتماعاً على المكر وإفساد الحياة لا اجتماعا على التعاون لسعادتها، قال تعالى:( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) أسرى: ٣٥.

قوله تعالى: ( بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ) البقيّة بمعنى الباقي والمراد به الربح الحاصل للبائع وهو الّذى يبقى له بعد تمام المعاملة فيضعه في سبيل حوائجه، وذلك أنّ المبادلة وإن لم يوضع بالقصد الأوّل

٣٨٠

على أساس الاسترباح، وإنّما كان الواحد منهم يقتنى شيئاً من متاع الحياة، فإذا كان يزيد على ما يحتاج إليه بدّل الزائد المستغنى عنه من متاع آخر يحتاج إليه ولا يملكه ثمّ أخذت نفس التجارة وتبديل الأمتعة من الأثمان حرفة يكتسب بها المال ويقتنى بها الثروة فأخذ الواحد منهم متاعاً من نوع واحد أو أنواع شتّى وعرضه على أرباب الحاجة للمبادلة، وأضاف إلى رأس ماله فيه شيئاً من الربح بإزاء عمله في الجمع والعرض ورضى بذلك الناس المشترون لما فيه من تسهيل أمر المبادلة عليهم فللتاجر في تجارته ربح مشروع يرتضيه المجتمع بحسب فطرتهم يقوّم معيشته ويحوّل إليه ثروة يقتنيها ويقيم بها صلب حياته.

فالمراد أنّ الربح الّذى هو بقيّه إلهيّة هداكم الله إليه من طريق فطرتكم هو خير لكم من المال الّذى تقتنونه من طريق التطفيف ونقص المكيال والميزان إن كنتم مؤمنين فإنّ المؤمن إنّما ينتفع من المال بالمشروع الّذى ساقه الله إليه من طريق حلّه، وأمّا غير ذلك ممّا لا يرتضيه الله ولا يرتضيه الناس بحسب فطرتهم فلا خير له فيه ولا حاجة له إليه.

وقيل: إنّ الاشتراط بالإيمان في قوله:( إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) للدلالة على اشتراط الإيمان للعلم بذلك لا لأصله والمعنى إن كنتم مؤمنين علمتم صحّة قولى: إنّ بقيّة الله خير لكم.

وقيل معنى الآية ثواب طاعة الله - بكون البقيّة بمعنى ثواب الطاعة الباقي - خير لكم إن كنتم مؤمنين. وقيل غير ذلك.

وقوله:( وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ) أي وما يرجع إلى قدرتي شئ ممّا عندكم من نفس أو عمل أو طاعة أو رزق ونعمة فإنّما أنا رسول ليس عليه إلّا البلاغ، لكم أن تختاروا ما فيه رشدكم وخيركم أو تسقطوا في مهبط الهلكة من غير أن أقدر على جلب خير إليكم أو دفع شرّ منكم فهو كقوله تعالى:( فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ) الأنعام: ١٠٤.

قوله تعالى: ( قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) إلى آخر

٣٨١

الآية، ردّ منهم لحجّة شعيب عليه، وهو من ألطف التركيب، ومغزى مرادهم أنّا في حرّيّة فيما نختاره لأنفسنا من دين أو نتصرّف به في أموالنا من وجوه التصرّف ولست تملكنا حتّى تأمرنا بكلّ ما أحببت أو تنهانا عن كلّ ما كرهت فإن ساءك شئ ممّا تشاهد منّا بما تصلّى وتتقرّب إلى ربّك وأردت أن تأمر وتنهى فلا تتعدّ نفسك لأنّك لا تملك إلّا إيّاها.

وقد أدّوا مرادهم هذا في صورة بديعة مشوبة بالتهكّم واللّوم معا ومسبوكة في قالب الاستفهام الانكارىّ وهو أنّ الّذى تريده منّا من ترك عباده الأصنام، وترك ما شئنا من التصرّف في أموالنا هو الّذى بعثتك إليه صلاتك وشوّهته في عينك فأمرتك به لما أنّها ملكتك لكنك أردت منّاما أرادته منك صلاتك ولست تملكنا أنت ولا صلاتك لأنّنا أحرار في شعورنا وإرادتنا لنا أن نختار أيّ دين شئنا ونتصرّف في أموالنا أيّ تصرّف أردنا من غير حجر ولا منع ولم ننتحل إلّا ديننا الّذى هو دين آبائنا ولم نتصرّف إلّا في أموالنا ولا حجر على ذى مال في ماله.

فما معنى أن تأمرك إيّاك صلاتك بشئ ونكون نحن الممتثلون لما أمرتك به؟ وبعبارة اُخرى ما معنى أن تأمرك صلاتك بفعلنا القائم بنا دونك؟ فهل هذا إلّا سفها من الرأى؟ وإنّك لأنت الحليم الرشيد والحليم لا يعجل في زجر من يراه مسيئا وانتقام من يراه مجرما حتّى ينجلى له وجه الصواب، والرشيد لا يقدم على أمر فيه غىّ وضلال فكيف أقدمت على مثل هذا الأمر السفهىّ الّذى لا صورة له إلّا الجهالة والغىّ؟

وقد ظهر بهذا البيان أوّلا: أنّهم إنّما نسبوا الأمر إلى الصلاة لما فيها من البعث والدعوة إلى معارضة القوم في عبادتهم الأصنام ونقصهم المكيال والميزان، وهذا هو السرّ في تعبيرهم عن ذلك بقولهم:( أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ ) الخ، دون أن يقولوا: أصلاتك تنهاك أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ مع أنّ التعبير عن المنع بالنهي عن الفعل أقرب إلى الطبع من التعبير بالأمر بالترك ولذلك عبّر عنه شعيب بالنهي في جوابه عن قولهم إذ قال:( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ) ولم يقل

٣٨٢

إلى ما آمركم بتركه. والمراد - على أيّ حال - منعه إيّاهم عن عبادة الأصنام والتطفيف فافهم ذلك فإنّه من لطائف هذه الآية الّتى ملئت لطافة وحسنا.

وثانياً: أنّهم إنّما قالوا:( أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) دون أن يقولوا: أن نترك آلهتنا أو أن نترك الأوثان ليشيروا بذلك إلى الحجّة في ذلك وهى أنّ هذه الأصنام دام على عبادتها آباؤنا فهى سنّة قوميّة لنا، ولا ضير في الجرى على سنّة قوميّة ورثها الخلف من السلف، ونشأ عليها الجيل بعد الجيل فإنّا نعبد آلهتنا وندوم على ديننا وهو دين آبائنا ونحفظ رسما ملّيّاً عن الضيعة.

وثالثا: أنّهم إنّما قالوا:( أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا ) فذكروا الأموال مضافة إلى أنفسهم ليكون في ذلك إيماء إلى الحجّة فإنّ الشئ إذا صار مالاً لأحد لم يشكّ ذو ريب في أنّ له أن يتصرّف فيه وليس لغيره ممّن يعترف بماليّته له أن يعارضه في ذلك، وللمرء أن يسير في مسير الحياة ويتدبّر في أمر المعيشة بما يستطيعه من الحذق والاحتيال، ويهديه إليه الذكاء والكياسة.

ورابعاً: أنّ قولهم:( أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ - إلى قوله -إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ) مبنىّ على التهكّم والاستهزاء إلّا أنّ التهكّم في تعليقهم أمر الصلاة شعيباً على تركهم ما يعبد آباؤهم، وكذا في نسبه الأمر إلى الصلاة لا غير، وأمّا نسبة الحلم والرشد إليه فليس فيها تهكّم واستهزاء، ولذلك أكّد قوله:( إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ) بإنّ واللّام وإتيان الخبر جملة اسميّة ليكون أقوى في إثبات الحلم والرشد له فيصير أبلغ في ملامته والإنكار عليه، وأنّ الّذى لا شكّ في حلمه ورشده قبيح عليه أن يقدم على مثل هذا الأمر السفهىّ، وينتهض على سلب حرّيّة الناس واستقلالهم في الشعور والإرادة.

وظهر بذلك أنّ ما ذكره كثير منهم أنّهم وصفوه بالحلم والرشد على سبيل الاستهزاء يعنون به أنّه موصوف بضدّهما وهو الجهالة والغىّ. ليس بصواب.

قوله تعالى: ( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ) إلى آخر الآية، المراد بكونه على بيّنة من ربّه كونه على آية بيّنة وهى

٣٨٣

آية النبوّة والمعجزة الدالّة على صدق النبيّ في دعوى النبوّة، والمراد بكونه رزق من الله رزقاً حسناً أنّ الله آتاه من لدنه وحى النبوّة المشتمل على اُصول المعارف والشرائع، وقد مرّ توضيح نظير هاتين الكلمتين فيما تقدّم.

والمعنى: أخبروني إن كنت رسولاً من الله إليكم وخصّنى بوحى المعارف والشرائع وأيّدني بآية بيّنة يدلّ على صدق دعواى فهل أنا سفيه في رأيى؟ وهل ما أدعوكم إليه دعوة سفهيّة؟ وهل في ذلك تحكّم منّى عليكم أو سلب منّى لحرّيّتكم؟ فإنّما هو الله المالك لكلّ شئّ ولستم بأحرار بالنسبة إليه بل أنتم عباده يأمركم بما شاء، وله الحكم وإليه ترجعون.

وقوله:( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ) تعدية المخالفة بإلى لتضمينه معنى ما يتعدّى بها كالميل ونحوه؟ والتقدير: اُخالفكم مائلا إلى ما أنهاكم عنه أو أميل إلى ما أنهاكم عنه مخالفا لكم.

والجملة جواب عن ما اتّهموه به أنّه يريد أن يسلب عنهم الحرّيّة في أعمالهم ويستعبدهم ويتحكّم عليهم، ومحصّله أنّه لو كان مريدا ذلك لخالفهم فيما ينهاهم عنه، وهو لا يريد مخالفتهم فلا يريد ما اتّهموه به و إنّما يريد الإصلاح ما استطاع.

توضيحه: أنّ الصنع الإلهىّ وإن أنشأ الإنسان مختارا في فعله حرّا في عمله له أن يميل في مظانّ العمل إلى كلّ من جانبى الفعل والترك فله بحسب هذه النشأة حرّيّة تامّة بالقياس إلى بنى نوعه الّذين هم أمثاله وأشباهه في الخلقة لهم ما له وعليهم ما عليه فليس لأحد أن يتحكّم على آخر عن هوى من نفسه.

إلّا أنّه أفطره على الاجتماع فلا تتمّ له الحياة إلّا في مجتمع من أفراد النوع يتعاون فيه الجميع على رفع حوائج الجميع ثمّ يختصّ كلّ منهم بما له من نصيب بمقدار ما له من الزنة الاجتماعيّة، ومن البديهىّ أنّ الاجتماع لا يقوم على ساق إلّا بسنن وقوانين تجرى فيها، وحكومة يتولّاها بعضهم تحفظ النظم وتجرى القوانين كلّ ذلك على حسب ما يدعو إليه مصالح المجتمع.

فلا مناص من أن يفدى المجتمعون بعض حرّيّتهم قبال القانون والسنّة

٣٨٤

الجارية بالحرمان من الانطلاق والاسترسال ليسعدوا لذلك بنيل بعض مشتهياتهم وإحياء البعض الباقي من حرّيّتهم.

فالإنسان الاجتماعيّ لا حرّيّة له قبال المسائل الحيويّة الّتى تدعو إليه مصالح المجتمع ومنافعه، والّذى يتحكّمه الحكومة في ذلك من الأمر والنهى ليس من الاستعباد والاستكبار في شئ إذ إنّها إنّما يتحكّم فيما لاحرّيّة للإنسان الاجتماعيّ فيه، وكذا الواحد من الناس المجتمعين إذا رآى من أعمال إخوانه المجتمعين ما يضرّ بحال المجتمع أو لا ينفع لإبطاله ركنا من أركان المصالح الأساسيّة فيها فبعثه ذلك إلى وعظهم بما يرشدهم إلى اتّباع سبيل الرشد فأمرهم بما يجب عليهم العمل به ونهاهم عن اقتراف ما يجب عليهم الانتهاء عنه لم يكن هذا الواحد متحكّما عن هوى النفس مستعبدا للأحرار المجتمعين من بنى نوعه فإنّه لا حرّيّة لهم قبال المصالح العالية والأحكام اللازمة المراعاة في مجتمعهم، و ليس ما يلقيه إليهم من الأمر والنهى في هذا الباب أمراً أو نهياً له في الحقيقة بل كان أمراً ونهياً ناشئين عن دعوة المصالح المذكورة قائمين بالمجتمع من حيث هو مجتمع بشخصيّته الوسيعة، وإنّما الواحد الّذى يلقى إليهم الأمر والنهى بمنزلة لسان ناطق لا يزيد على ذلك.

وأمارة ذلك أن يأتمر هو نفسه بما يأمر به وينتهى هو نفسه عمّا ينهى عنه من غير أن يخالف قوله فعله ونظره عمله، إذ الإنسان مطبوع على التحفّظ على منافعه ورعاية مصالحه فلو كان فيما يدعو إليه غيره من العمل خير وهو مشترك بينهما لم يخالفه بشخصه، ولم يترك لنفسه ما يستحسنه لغيره، ولذلك قالعليه‌السلام فيما ألقاه إليهم من الجواب:( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ) وقال أيضاً كما حكاه الله تتميماً للفائدة ودفعا لأىّ تهمة تتوجّه إليه:( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) الشعراء: ١٨٠.

فهوعليه‌السلام يشير بقوله:( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ ) الخ، إلى أنّ الّذى ينهاهم عنه من الاُمور الّتى فيها صلاح مجتمعهم الّذى هو أحد أفراده، ويجب على الجميع مراعاتها وملازمتها، وليس اقتراحاً استعباديّاً عن هوى من نفسه، ولذلك عقّبه

٣٨٥

بقوله:( إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ) .

وملخّص المقام أنّهم لمّا سمعوا من شعيبعليه‌السلام الدعوة إلى ترك عبادة الأصنام والتطفيف ردّوه بأنّ ذلك اقتراح منه مخالف لما هم عليه من الحرّيّة الإنسانيّة الّتى تسوّغ لهم أن يعبدوا من شاؤا ويفعلوا في اموالهم ما شاؤا.

فردّ عليهم شعيبعليه‌السلام بأنّ الّذى يدعوهم إليه ليس من قبل نفسه حتّى ينافى مسألتهم ذلك حرّيّتهم ويبطل به استقلالهم في الشعور والإرادة بل هو رسول من ربّهم إليهم وله على ذلك آية بيّنة، والّذى أتاهم به من عند الله الّذى يملكهم ويملك كلّ شئ وهم عباده لا حرّيّة لهم قباله، ولا خيرة لهم فيما يريده منهم.

على أنّ الّذى ألقاه إليهم من الاُمور الّتى فيها صلاح مجتمعهم وسعاده أنفسهم في الدنيا والآخرة، وأمارة ذلك أنّه لا يريد أن يخالفهم إلى ما ينهاهم عنه بل هو مثلهم في العمل به، وإنّما يريد الإصلاح ما استطاع، ولا يريد منهم على ذلك أجراً إن أجره إلّا على ربّ العالمين.

وقوله:( وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) في مقام الاستثناء من الاستطاعة فإنّهعليه‌السلام لما ذكر لهم أنّه يريد إصلاح مجتمعهم بالعلم النافع والعمل الصالح على مقدار ما له من الاستطاعة وفي ضوئها أثبت لنفسه استطاعة وقدرة وليست للعبد باستقلاله وحيال نفسه استطاعة دون الله سبحانه أتمّ ما في كلامه من النقص والقصور بقوله:( وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ ) أي إنّ الّذى يترشّح من إرادتى باستطاعة منّى من تدبير اُمور مجتمعكم وتوفيق الأسباب بعضها ببعض الناتجة لسعادته إنّما هو بالله سبحانه لا غنى عنه ولا مخرج من إحاطته ولا استقلال في أمر دونه فهو الّذى أعطاني ما هو عندي من الاستطاعة، وهو الّذى يوفّق الأسباب من طريق استطاعتي فاستطاعتى منه وتوفيقي به.

بيّنعليه‌السلام هذه الحقيقة، واعترف بأنّ توفيقه بالله، وذلك من فروع كونه تعالى هو الفاطر لكلّ نفس والحافظ عليها والقائم على كلّ نفس بما كسبت كما قال:( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) الفاطر: ١، وقال:( وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ

٣٨٦

شَيْءٍ حَفِيظٌ ) السبأ: ٢١، وقال:( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) الرعد: ٣٣، وقال:( إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ) الفاطر: ٤١ ومحصّله أنّه تعالى هو الّذى أبدع الأشياء وأعمالها والروابط الّتى بينها وأظهرها بالوجود، وهو الّذى قبض على كلّ شئ فأمسكه وأمسك آثاره والروابط الّتى بينها أن تزول وتغيب وراء ستر البطلان.

ولازم ذلك أنّه تعالى وكيل كلّ شئ في تدبير اُموره فهى منسوبة إليه تعالى في تحقّقها وتحقّق الروابط الّتى بينها لما أنّه محيط بها قاهر عليها، ولها مع ذلك نسبة إلى ذلك الشئ بإذنه تعالى.

ومن الواجب للعبد العالم بمقام ربّه العارف بهذه الحقيقة أن يمثّلها بإنشاء التوكّل على ربّه والإنابة والرجوع إليه، ولذلك لمّا ذكر شعيبعليه‌السلام أنّ توفيقه بالله عقّبه بإنشاء التوكّل والإنابة فقال:( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) .

( كلام في معنى حرّيّة الإنسان في عمله)

الإنسان بحسب الخلقة موجود ذو شعور وإرادة له أن يختار لنفسه ما يشاء من الفعل وبعبارة اُخرى له في كلّ فعل يقف عليه أن يختار جانب الفعل وله أن يختار جانب الترك فكلّ فعل من الأفعال الممكنة الإتيان إذا عرض عليه كان هو بحسب الطبع واقفا بالنسبة إليه على نقطة يلتقى فيها طريقان: الفعل والترك فهو مضطرّ في التلبّس والاتّصاف بأصل الاختيار لكنّه مختار في الأفعال المنتسبة إليه الصادرة عنه باختياره أي إنّه مطلق العنان بالنسبة إلى الفعل والترك بحسب الفطرة غير مقيّد بشئ من الجانبين ولا مغلول، وهو المراد بحرّيّة الإنسان تكوينا.

ولازم هذه الحرّيّة التكوينيّة حرّيّة اُخرى تشريعيّة يتقلّد بها في حياته الاجتماعيّة وهو أنّ له أن يختار لنفسه ما شاء من طرق الحياة ويعمل بما شاء من العمل، وليس لأحد من بنى نوعه أن يستعلى عليه فيستعبده ويتملّك إرادته وعمله

٣٨٧

فيحمل بهوى نفسه عليه ما يكرهه فإنّ أفراد النوع أمثال لكلّ منهم ما لغيره من الطبيعة الحرّة، قال تعالى:( وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ ) آل عمران: ٦٤ وقال:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ - إلى أن قال -ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ ) آل عمران: ٧٩.

هذا ما للإنسان بالقياس إلى امثاله من بنى نوعه، وأمّا بالقياس إلى العلل والأسباب الكونيّة الّتى أوجدت الطبيعة الإنسانيّة فلا حرّيّة له قبالها فإنّها تملكه وتحيط به من جميع الجهات وتقلّبه ظهرا لبطن، وهى الّتى بإنشائها ونفوذ أمرها فعلت بالإنسان ما فعلت فأظهرته على ما هو عليه من البنيان والخواصّ من غير أن يكون له الخيرة من أمره فيقبل ما يحبّه ويردّ ما يكرهه بل كان كما اُريد لا كما أراد حتّى أنّ أعمال الإنسان الاختياريّة وهى ميدان الحرّيّة الإنسانيّة إنّما تطيع الإنسان فيما أذنت فيه هذه العلل والأسباب فليس كلّ ما أحبّه الإنسان وأراده بواقع ولا هو في كلّ ما اختاره لنفسه بموفّق له، وهو ظاهر.

وهذه العلل والأسباب هي الّتى جهّزت الإنسان بجهازات تذكّره حوائجه ونواقص وجوده، وتبعثه إلى أعمال فيها سعادته وارتفاع نواقصه وحوائجه كالغاذية مثلاً الّتى تذكّره الجوع والعطش وتهديه إلى الخبز والماء لتحصيل الشبع والرىّ وهكذا سائر الجهازات الّتى في وجوده.

ثمّ إنّ هذه العلل والأسباب أوجبت إيجاباً تشريعيّاً على الإنسان الفرد أموراً ذات مصالح واقعيّة لا يسعه إنكارها ولا الاستنكاف بالاستغناء عنها كالأكل والشرب والإيواء والاتّقاء من الحرّ والبرد والدفاع تجاه كلّ ما يضادّ منافع وجوده.

ثم أفطرته بالحياة الاجتماعيّة فأذعن بوجوب تأسيس المجتمع المنزلىّ والمدنىّ والسير في مسير التعاون والتعامل، ويضطرّه ذلك إلى الحرمان عن موهبة الحرّيّة من جهتين:

إحداهما: أنّ الاجتماع لا يتمّ من الفرد إلّا بإعطائه الأفراد المتعاونين له حقوقا

٣٨٨

متقابلة محترمة عنده ليعطوه بإزائها حقوقا يحترمونها وذلك بأن يعمل للناس كما يعملون له، وينفعهم بمقدار ما ينتفع بهم، ويحرم عن الانطلاق والاسترسال في العمل على حسب ما يحرمهم فليس له أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد بل هو حرّ فيما لا يزاحم حرّيّة الآخرين، وهذا حرمان عن بعض الحرّيّة للحصول على بعضها.

وثانيتهما: أنّ المجتمع لا يقوم له صلب دون أن يجرى فيه سنن وقوانين يتسلّمها الأفراد المجتمعون أو أكثرهم تضمن تلك السنن والقوانين منافعهم العامّة بحسب ما للاجتماع من الحياة الراقية أو المنحطّة الرديّة، ويستحفظ بها مصالحهم العالية الاجتماعيّة.

ومن المعلوم أنّ احترام السنن والقوانين يسلب الحرّيّة عن المجتمعين في مواردها فالذي يستنّ سنّة أو يقنّن قانونا سواء كان هو عامّة المجتمعين أو المندوبين منهم أو السلطان أو كان هو الله ورسوله - على حسب اختلاف السنن والقوانين - يحرم الناس بعض حرّيّتهم ليحفظ به البعض الآخر منها، قال الله تعالى:( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) القصص: ٦٨، وقال تعالى:( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) الأحزاب: ٣٦.

فتلخّص أنّ الإنسان إنّما هو حرّ بالقياس إلى أبناء نوعه فيما يقترحونه لهوى من أنفسهم، وأمّا بالنسبة إلى ما تقتضيه مصالحه الملزمة وخاصّة المصالح الاجتماعيّة العامّة على ما تهديه إليها وإلى مقتضياتها العلل والأسباب فلا حرّيّة له البتّة، ولا أنّ الدعوة إلى سنّة أو أيّ عمل يوافق المصالح الإنسانيّة من ناحية القانون أو من بيده إجراؤه أو الناصح المتبرّع الّذى يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر متمسّكا بحجّة بيّنة، من التحكّم الباطل وسلب الحرّيّة المشروعة في شئ.

ثمّ إنّ العلل و الأسباب المذكورة وما تهدى إليه من المصالح مصاديق لإرادة الله سبحانه أو إذنه - على ما يهدى إليه ويبيّنه تعليم التوحيد في الإسلام - فهو سبحانه

٣٨٩

المالك على الإطلاق، وليس لغيره إلّا المملوكيّة من كلّ جهة، ولا للإنسان إلّا العبوديّة محضاً فمالكيّته المطلقة تسلب أيّ حرّيّة متوهّمة للإنسان بالنسبة إلى ربّه كما أنّها هي تعطيه الحرّيّة بالقياس إلى سائر بنى نوعه كما قال تعالى:( أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ ) آل عمران: ٦٤.

فهو سبحانه الحاكم على الإطلاق والمطاع من غير قيد وشرط كما قال:( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) وقد أعطى حقّ الأمر والنهى والطاعة لرسله ولاُولى الأمر وللمؤمنين من الاُمّة الإسلاميّة فلا حرّيّة لأحد قبال كلمة الحقّ الّتى يأتون به ويدعون إليه، قال تعالى:( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) النساء: ٥٩، وقال تعالى:( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) التوبة: ٧١.

قوله تعالى: ( وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ ) الجرم بالفتح فالسكون - على ما ذكره الراغب - قطع الثمرة عن الشجر وقد استعير لكلّ اكتساب مكروه، والشقاق المخالفة والمعاداة. والمعنى: احذروا أن يكتسب لكم مخالفتي ومعاداتى بسبب ما أدعوكم إليه إصابة مصيبة مثل مصيبة قوم نوح وهى الغرق أو قوم هود وهى الريح العقيم أو قوم صالح وهى الصيحة والرجفة.

وقوله:( وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ ) أي لا فصل كثيراً بين زمانهم وزمانكم وقد كانت الفاصلة الزمانيّة بين القومين أقلّ من ثلاثة قرون، وقد كان لوط معاصرا لإبراهيمعليهما‌السلام وشعيب معاصراً لموسىعليهما‌السلام .

وقيل: المراد به نفى البعد المكانىّ، والإشارة إلى أنّ بلادهم الخربة قريبة منكم لقرب مدين من سدوم وهو بالأرض المقدّسة، فالمعنى: وما مكان قوم لوط منكم ببعيد تشاهدون مدائنهم المخسوفة وآثارهم الباقية الظاهرة. والسياق لا يساعد عليه

٣٩٠

والتقدير خلاف الأصل لا يصار إليه إلّا بدليل.

قوله تعالى: ( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) قد تقدّم الكلام في معنى قوله:( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) أي استغفروا الله من ذنوبكم وارجعوا إليه بالإيمان به وبرسوله إنّ الله ذو رحمة ومودّة يرحم المستغفرين التائبين ويحبّهم.

وقد قال أوّلا:( َاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ) فأضاف الربّ إليهم ثمّ قال في مقام تعليله:( إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) ولعلّ الوجه فيه أنّه ذكر في مرحلة الأمر بالاستغفار و التوبة من الله سبحانه صفة ربوبيّته لأنّها الصفة الّتى ترتبط بها العبادة ومنها الاستغفار والتوبة، وأضاف ربوبيّته إليهم بقوله:( رَبَّكُمْ ) لتأكيد الارتباط و للإشعار بأنّه هو ربّهم لا ما يتّخذونها من الأرباب من دون الله.

وكان من حقّ الكلام أن يقول في تعليله: إنّ ربّكم رحيم ودود لكنّه لمّا كان مع كونه تعليلا ثناء على الله سبحانه، وقد أثبت سابقا أنّه ربّ القوم أضافه ثانياً إلى نفسه ليفيد الكلام بمجموعه معنى إنّ ربّكم وربّى رحيم ودود.

على أنّ في هذه الإضافة معنى المعرفة والخبرة فتفيد تأييداً لصحّة القول فإنّه في معنى أنّه تعالى رحيم ودود وكيف؟ لا وهو ربّى أعرفه بهذين الوصفين.

والودود من أسماء الله تعالى، وهو فعول من الود بمعنى الحبّ إلّا أنّ المستفاد من موارد استعماله أنّه نوع خاصّ من المحبّة وهو الحبّ الّذى له آثار وتبعات ظاهرة كالإلفة والمراودة والإحسان، قال تعالى:( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ) الروم: ٢١.

والله سبحانه يحبّ عباده ويظهر آثار حبّه بإفاضة نعمه عليهم( وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا ) إبراهيم: ٣٤ فهو تعالى ودود لهم.

قوله تعالى: ( قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ) إلى آخر الآية، الفقه أبلغ من الفهم وأقوى، ورهط الرجل عشيرته وقومه، وقيل: إنّه من الثلاثة إلى السبعة أو العشرة وعلى هذا ففى قولهم: رهطك، إشارة إلى قلّتهم

٣٩١

وهوان أمرهم، والرجم هو الرمى بالحجارة.

لمّا حاجّهم شعيبعليه‌السلام وأعياهم بحجّته لم يجدوا سبيلا دون أن يقطعوا عليه كلامه من غير طريق الحجّة فذكروا له:

أوّلا: أنّ كثيراً ممّا يقوله غير مفهوم لهم فيذهب كلامه لغى لا أثر له، وهذا كناية عن أنّه يتكلّم بما لا فائدة فيه.

ثمّ عقّبوه بقولهم:( وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ) أي لا نفهم ما تقول ولست قويّاً فينا حتّى تضطرّنا قوّتك على الاجتهاد في فهم كلامك والاهتمام بأخذه، والسمع والقبول له فإنّا لا نراك فينا إلّا ضعيفا لا يعبأ بأمره ولا يلتفت إلى قوله.

ثمّ هدّدوه بقولهم:( وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ) أي ولو لا هذا النفر القليل الّذين هم عشيرتك لرجمناك لكنّا نراعى جانبهم فيك، وفي تقليل العشيرة إيماء إلى أنّهم لو أرادوا قتله يوماً قتلوه من غير أن يبالوا بعشيرته، وإنّما كفّهم عن قتله نوع احترام وتكريم منهم لعشيرته.

ثمّ عقّبوه بقولهم:( وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ) تأكيداً لقولهم:( َلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ) أي لست بقوىّ منيع جانباً علينا حتّى يمنعنا ذلك من قتلك بشرّ القتل، وإنّما يمنعنا رعاية جانب رهطك. فمحصّل قولهم إهانة شعيب و أنّهم لا يعبؤن به ولا بما قال، وإنّما يراعون في ترك التعرّض له جانب رهطه.

قوله تعالى: ( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا ) الظهرىّ نسبة إلى الظهر بفتح الظاء المعجمة وإنّما غيّر بالنسب وهو الشئ الّذى وراء الظهر فيترك نسيا منسيّا يقال: اتّخذه وراءه ظهريّا أي نسيه ولم يذكره ولم يعتن به.

وهذا نقض من شعيب لقولهم:( وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ) أي كيف تعزّزون رهطي وتحترمون جانبهم، ولا تعزّزون الله سبحانه ولا تحترمون جانبه وإنّى أنا الّذى أدعوكم إليه من جانبه؟ فهل رهطي أعزّ عليكم من الله؟ وقد جعلتموه نسيا

٣٩٢

منسيّا وليس لكم ذلك وما كان لكم أن تفعلوه إنّ ربّى بما تعملون محيط بما له من الإحاطة بكلّ شئ وجوداً وعلماً وقدرة. وفي الآية طعن في رأيهم بالسفه كما طعنوا في الآية السابقة في رأيه بالهوان.

قوله تعالى: ( وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ) إلى آخر الآية. قال في المجمع: المكانة الحال الّتى يتمكّن بها صاحبها من عمل. انتهى وهو في الأصل - كما قيل - من مكن مكانة كضخم ضخامة إذا قوى على العمل كلّ القوّة ويقال: تمكّن من كذا أي أحاط به قوّة.

وهذا تهديد من شعيب لهم أشدّ التهديد فإنّه يشعر بأنّه على وثوق ممّا يقول لا يأخذه قلق ولا اضطراب من كفرهم به وتمرّدهم عن دعوته فليعملوا على ما لهم من القوّة والتمكّن فلهم عملهم وله عمله فسوف يفاجئهم عذاب مخز يعلمون عند ذلك من هو الّذى يأخذه العذاب. هم أو هو؟ ويعلمون من هو كاذب؟ فليرتقبوا وهو معهم رقيب لا يفارقهم.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا - إلى قوله -جَاثِمِينَ ) تقدّم ما يتّضح به معنى الآية.

قوله تعالى: ( كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ) غنى في المكان إذا أقام فيه. وقوله:( أَلَا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ ) الخ. فيه لعنهم كما لعنت ثمود، وقد تقدّم بعض الكلام فيه في القصص السابقة.

( بحث روائي)

في تفسير القمّىّ: قال: قال بعث الله شعيبا إلى مدين وهى قرية على طريق الشام فلم يؤمنوا به.

وفي تفسير العيّاشيّ عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن بعض أصحابه عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ ) قال: كان سعرهم رخيصا.

وفيه عن محمّد بن الفضيل عن الرضاعليه‌السلام قال: سألته عن انتظار الفرج فقال:

٣٩٣

أو ليس تعلم أنّ انتظار الفرج من الفرج؟ ثمّ قال: إنّ الله تبارك وتعالى يقول:( وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ) .

أقول: قوله: ليس تعلم بمعنى لاتعلم وهى لغة مولّدة.

وفي المعاني بإسناده عن عبدالله بن الفضل الهاشميّ عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: قلت: فقوله عزّوجلّ:( وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ ) وقوله عزّوجلّ:( إِن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ ) ؟ فقال: إذا فعل العبد ما أمر الله عزّوجلّ به من الطاعة كان فعله وفقا لأمر الله عزّوجلّ وسمّى العبد موفّقا، وإذا أراد العبد أن يدخل في شئ من معاصي الله فحال الله تبارك وتعالى بينه وبين تلك المعصية فتركها كان تركه لها بتوفيق الله تعالى ومتى خلّى بينه وبين المعصية فلم يحل بينه وبينها حتّى يتركها فقد خذله ولم ينصره ولم يوفّقه.

أقول: محصّل بيانهعليه‌السلام أنّ توفيقه تعالى وخذلانه من صفاته الفعليّة فالتوفيق هو نظمه الأسباب بحيث تؤدّى العبد إلى العمل الصالح أو عدم إيجاده بعض الأسباب الّتى يستعان بها على المعصية. والخذلان خلاف ذلك. وعلى ذلك فمتعلّق التوفيق الأسباب لأنّه إيجاد التوافق بينها وهى المتّصفة بها، وأمّا توصيف العبد به فمن قبيل الوصف بحال المتعلّق.

وفي الدرّ المنثور أخرج أبو نعيم في الحلية عن علىّ قال: قلت: يا رسول الله أوصني. قال: قل: ربّى الله ثمّ استقم. قلت: ربّى الله وما توفيقي إلّا بالله عليه توكّلت واليه اُنيب. قال: ليهنئك العلم أبا الحسن لقد شربت العلم شربا ونهلته نهلا.

أقول: وقد تقدّمت الإشارة إلى نبذة من معنى الجملة.

وفيه أخرج الواحدى وابن عساكر عن شدّاد بن أوس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بكى شعيبعليه‌السلام من حبّ الله حتّى عمى فردّ الله عليه بصره، وأوحى الله إليه: يا شعيب ما هذا البكاء؟ أشوقا إلى الجنّة أم خوفا من النار؟ فقال: لا ولكن اعتقدت حبّك بقلبي، فإذا نظرت إليك فما اُبالى ما الّذى تصنع بى؟ فأوحى الله إليه: يا شعيب إن يكن ذلك حقّا فهنيئا لك لقائي، يا شعيب لذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمى.

٣٩٤

أقول: المراد بالنظر إليه تعالى هو النظر القلبىّ دون النظر الحسّىّ المستلزم للجسميّة، تعالى عن ذلك، وقد تقدّم توضيحه في تفسير قوله تعالى:( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا ) الأعراف: ١٤٣ في الجزء الثامن من الكتاب.

وفيه أخرج أبوالشيخ عن علىّ بن أبى طالبعليه‌السلام ، أنّه خطب فتلا هذه الآية في شعيب:( وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ) قال: كان مكفوفا فنسبوه إلى الضعف.( وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ) قال علىّ: فو الله الّذى لا إله غيره ما هابوا جلال ربّهم ما هابوا إلّا العشيرة.

( كلام في قصة شعيب وقومه في القرآن في فصول)

١ - قصّته عليه‌السلام : هوعليه‌السلام ثالث الرسل من العرب الّذين ذكرت أسماؤهم في القرآن وهم هود وصالح وشعيب ومحمّدعليهم‌السلام ذكر الله تعالى طرفاً من قصصه في سور الأعراف وهود والشعراء والقصص والعنكبوت.

كانعليه‌السلام من أهل مدين - مدينة في طريق الشام من الجزيرة - وكان معاصراً لموسىعليه‌السلام ، وقد زوّجه إحدى ابنتيه على أن يأجره ثمانى حجج وإن أتمّ عشراً فمن عنده ( القصص: ٢٧ ) فخدمه موسى عشر سنين ثمّ ودّعه وسار بأهله إلى مصر.

وكان قومه من أهل مدين يعبدون الأصنام وكانوا قوماً منعمين بالأمن والرفاهية والخصب ورخص الأسعار فشاع الفساد بينهم والتطفيف بنقص المكيال والميزان ( هود: ٨٤ وغيره ) فأرسل الله إليهم شعيبا وأمره أن ينهاهم عن عبادة الأصنام وعن الفساد في الأرض ونقص المكيال والميزان فدعاهم إلى ما اُمر به ووعظهم بالإنذار والتبشير وذكّرهم ما أصاب قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط.

وبالغعليه‌السلام في الاحتجاج عليهم وعظتهم فلم يزدهم إلّا طغياناً وكفراً وفسوقاً ( الأعراف وهود وغيرهما من السور ) ولم يؤمنوا به إلّا عدّة قليلة منهم فأخذوا في إيذائهم والسخريّة بهم وتهديدهم عن اتّباع شعيبعليه‌السلام ، وكانوا يقعدون بكلّ صراط يوعدون ويصدّون عن سبيل الله من آمن به ويبغونها عوجا ( الأعراف: ٨٦ ).

٣٩٥

وأخذوا يرمونهعليه‌السلام بأنّه مسحور وأنّه كاذب ( الشعراء: ١٨٥، ١٨٦ ) وأخافوه بالرجم، وهدّدوه والّذين آمنوا به بالإخراج من قريتهم أو ليعودنّ في ملّتهم ( الأعراف: ٨٨ ) ولم يزالوا به حتّى أيأسوه من إيمانهم فتركهم وأنفسهم ( هود: ٩٣ ) ودعا الله بالفتح قال: ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين.

فأرسل الله إليهم عذاب يوم الظلّة ( الشعراء: ١٨٩ ) وقد كانوا يستهزؤن به أن أسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين وأخذتهم الصيحة ( هود: ٩٤ ) والرجفة ( الأعراف: ٩١ - العنكبوت: ٣٧ ) فأصبحوا في ديارهم جاثمين، ونجّى شعيبا ومن معه من المؤمنين ( هود: ٩٤ ) فتولّى عنهم وقال: يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربّى و نصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين ( الأعراف: ٩٣ ).

٢ - شخصيّته المعنويّة : كانعليه‌السلام من زمرة الرسل المكرمين وقد أشركه الله تعالى فيما أثناهم به من الثناء الجميل في كتابه، وقد حكى عنه فيما كلّم به قومه وخاصّة في سور الأعراف وهود والشعراء شيئاً كثيراً من حقائق المعارف والعلوم الإلهيّة والأدب البارع مع ربّه ومع الناس.

وقد سمّى نفسه الرسول الأمين ( الشعراء: ١٧٨ ) ومصلحا ( هود: ٨٨ ) وأنّه من الصالحين ( الشعراء: ٢٧ ) فحكى الله ذلك عنه حكاية إمضاء، وقد خدمه الكليم موسى بن عمرانعليه‌السلام زهاء عشر سنين سلام الله عليه.

٣ - ذكره في التوراة : لم تقصّ التوراة قصّته مع قومه وإنّما أشارت إليه في ضمن ما ذكرت قصّة قتل موسى القبطىّ وفراره من مصر إلى مديان ( القصّة ) فسمّته( رعوئيل كاهن مديان) (١) .

____________________

(١) الاصحاح الثاني من سفر الخروج من التوراة.

٣٩٦

( سورة هود آية ٩٦ - ٩٩)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ( ٩٦) إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ( ٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ( ٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ( ٩٩)

( بيان)

إشارة إلى قصّة موسى - الكليم -عليه‌السلام ، وهو أكثر الأنبياء ذكراً في القرآن ذكر بإسمه في مائة ونيّف وثلاثين موضعاً منه في بضع وثلاثين سورة وقد اعتنى بتفصيل قصّته أكثر من غيره غير أنّه تعالى أجمل القول فيها في هذه السورة فاكتفى بالإشارة الإجماليّة إليها.

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ) الباء في قوله بآياتنا للمصاحبة أي ولقد أرسلنا موسى مصحوبا لآياتنا وذلك أنّ الّذين بعثهم الله من الأنبياء والرسل وأيّدهم بالآيات المعجزة طائفتان منهم من اُوتى الآية المعجزة على حسب ما اقترحه قومه كصالحعليه‌السلام المؤيّد بآية الناقة، وطائفة اُيّدوا بآية من الآيات في بدء بعثتهم كموسى وعيسى ومحمّدعليهم‌السلام ، كما قال تعالى خطابا لموسىعليه‌السلام :( اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي ) طه: ٤٢، وقال في عيسىعليه‌السلام :( وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ) الخ، آل عمران: ٤٩، وقال في محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ ) الصفّ: ٩، والهدى القرآن بدليل قوله:( ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) البقرة ٢، وقال تعالى:( وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ) الأعراف: ١٥٧.

٣٩٧

فموسىعليه‌السلام مرسل مع آيات وسلطان مبين، وظاهر أنّ المراد بهذه الآيات الاُمور الخارقة الّتى كانت تجرى على يده، ويدلّ على ذلك سياق قصصهعليه‌السلام في القرآن الكريم.

وأمّا السلطان وهو البرهان والحجّة القاطعة الّتى يتسلّط على العقول والأفهام فيعمّ الآية المعجزة والحجّة العقليّة، وعلى تقدير كونه بهذا المعنى يكون عطفه على الآيات من قبيل عطف العامّ على الخاصّ.

و ليس من البعيد أن يكون المراد بإرساله بسلطان مبين أنّ الله سبحانه سلّطه على الأوضاع الجارية بينه وبين آل فرعون ذاك الجبّار الطاغى الّذى ما ابتلى بمثله أحد من الرسل غير موسىعليه‌السلام لكنّ الله تعالى أظهر موسى عليه حتّى أغرقه و جنوده ونجّى بنى اسرائيل بيده، ويشعر بهذا المعنى قوله:( قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَىٰ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ ) طه: ٤٦، وقوله لموسىعليه‌السلام :( لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ ) طه: ٦٨.

وفي هذه الآية ونظائرها دلالة واضحة على أنّ رسالة موسىعليه‌السلام ما كانت تختصّ بقومه من بنى اسرائيل بل كانت تعمّهم وغيرهم.

قوله تعالى: ( إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) نسبة رسالته إلى فرعون وملإه - والملأهم أشراف القوم وعظماؤهم الّذين يملؤن القلوب هيبة - دون جميع قومه لعلّها للإشارة إلى أنّ عامّتهم لم يكونوا إلّا أتباعاً لا رأى لهم إلّا ما رآه لهم عظماؤهم.

وقوله:( فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ) الخ، الظاهر أنّ المراد بالأمر ما هو الأعمّ من القول والفعل كما حكى الله عن فرعون في قوله:( قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ) المؤمن: ٢٩، فينطبق على السنّة والطريقة الّتى كان يتّخذها ويأمر بها. وكأنّ الآية محاذاة لقول فرعون هذا فكذّبه الله تعالى بقوله:( وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) .

والرشيد فعيل من الرشد خلاف الغىّ أي وما أمر فرعون بذى رشد حتّى

٣٩٨

يهدى إلى الحقّ بل كان ذا غىّ وجهالة، وقيل: الرشيد بمعنى المرشد.

وفي الجملة أعنى قوله:( وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) وضع الظاهر موضع المضمر والأصل( أمره ) ولعلّ الفائدة فيه ما يفيده اسم فرعون من الدليل على عدم رشد الأمر ولا يستفاد ذلك من الضمير البتّة.

قوله تعالى: ( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ) أي يقدم فرعون قومه فإنّهم اتّبعوا أمره فكان إماماً لهم من أئمّة الضلال، قال تعالى:( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) القصص: ٤١.

وقوله:( فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ) تفريع على سابقه أي يقدمهم فيوردهم النار، والتعبير بلفظ الماضي لتحقّق الوقوع، وربّما قيل: تفريع على قوله:( فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ) أي اتّبعوه فأوردهم الاتّباع النار وقد استدلّ لتأييد هذا المعنى بقوله:( وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) المؤمن: ٤٦ حيث تدلّ الآيات على تعذيبهم من حين الموت قبل يوم القيامة هذا، ولا يخفى أنّ الآيات ظاهرة في خلاف ما استدلّ بها عليه لتعبيرها في العذاب قبل يوم القيامة بالعرض غدوّاً وعشيّاً، وفي يوم القيامة بالدخول في أشدّ العذاب الّذى سجّل فيها أنّه النار.

وقوله:( وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ) الورد هو الماء الّذى يرده العطاش من الحيوان والإنسان للشرب، قال الراغب في المفردات: الورود أصله قصد الماء ثمّ يستعمل في غيره يقال: وردت الماء أرد ورودا فأنا وارد والماء مورود. وقد أوردت الإبل الماء قال:( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ) والورد الماء المرشّح للورود.انتهى.

وعلى هذا ففى الكلام استعارة لطيفة بتشبيه الغاية الّتى يقصدها الإنسان في الحياة لمساعيه المبذولة بالماء الّذى يقصده العطشان فعذب السعادة الّتى يقصدها الإنسان بأعماله ورد يرده، وسعادة الإنسان الأخيرة هي رضوان الله والجنّة لكنّهم لما غووا باتّباع أمر فرعون وأخطأوا سبيل السعادة الحقيقيّة تبدّلت غايتهم إلى النار فكانت النار هو الورد الّذى يردونه، وبئس الورد المورود، لأنّ الورد هو الّذى

٣٩٩

يخمد لهيب الصدر ويروى الحشا العطشان وهو عذب الماء ونعم المنهل السائغ وأمّا إذا تبدّل إلى عذاب النار فبئس الورد المورود.

قوله تعالى: ( وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ) أي هم اتّبعوا إمر فرعون فاتّبعتهم لعنة من الله في هذه الدنيا وإبعاد من رحمته وطرد من ساحة قربه، ومصداق اللعن الّذى اُتبعوه هو الغرق، أو أنّه الحكم منه تعالى بإبعادهم من الرحمة المكتوب في صحائف أعمالهم الّذى من آثاره الغرق وعذاب الآخرة.

وقوله:( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ) الرفد هو العطيّة والأصل في معناه العون، وسمّيت العطيّة رفداً ومرفوداً لأنّه عون للآخذ على حوائجه، والمعنى وبئس الرفد رفدهم يوم القيامة وهو النار الّتى يسجرون فيها، والآية نظيرة قوله في موضع آخر:( وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ ) القصص: ٤٢.

وربّما اُخذ:( يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) فى الآية ظرفاً متعلّقاً بقوله:( َأُتْبِعُوا ) أو بقوله:( لَعْنَةً ) نظير قوله:( فِي هَذِهِ ) ، والمعنى: وأتبعهم الله في الدنيا والآخرة لعنة أو فأتبعهم الله لعنة الدنيا والآخرة ثمّ استونف فقيل: بئس الرفد المرفود اللعن الّذى اُتبعوه أو الإتباع باللعن.

تمّ والحمد الله

٤٠٠

401

402

403

404

405

406